Bab 1: Pengertian al-Quburiyah (Pemuja Keburukan) di Yaman

Bab 1: Pemuju Keburukan al-Quburiyah di Yaman Quburiyyah secara bahasa adalah bentuk jamak dari Quburi, yang merupakan isim masdar yang dibentuk denga

Bab 1: Pengertian al-Quburiyah (Pemuja Keburukan) di Yaman

Judul Buku: Pemujaan Kuburan di Yaman: Asal Usul, Dampak, dan ٍSikap Ulama atasnya
Ditulis oleh Syekh Ahmed bin Hassan Al-Moallem

اسم الكتاب:  القبورية في اليمن نشأتها - آثارها - موقف العلماء منها

تأليف فضيلة الشيخ أحمد بن حسن المعلم  

 Daftar Isi

  1. Download Kitab Al-Quburiyah fi Al-Yaman
  2. Bab Pendahuluan 
  3. Kembali ke: Kitab Al-Qurburiyah fi al-Yaman

 الباب التمهيدي

وفيه ثلاثة مباحث

المبحث الأول

Bab Pendahuluan


Dan di dalamnya terdapat tiga pembahasan.

Pembahasan Pertama

Pengertian Quburiyyah

Dan di dalamnya terdapat dua matlamat:

تعريف القبورية

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تعريف القبورية لغة:

القبورية لغة جمع قبوري وهو مصدر صناعي صيغ بإضافة اسم مجموع "قبور" إلى ياء النسبة المردوفة بالتاء.

وقد سَوَّغ نسبته للجمع - مع أن له واحداً مستعملاً من لفظه- أنه صار (جارياً مجرى العلم لاختصاصه بطائفة بأعيانهم كأنصاري نسبة إلى الأنصار، وأصولي نسبة إلى علم الأصول؛ لأنه غلب علىعِلْم خاص حتى صار كالعَلَم عليه) [1].

وبذلك يكون إطلاق هذا اللفظ على مقدِّسي القبور والغلاة فيها سائغاً؛ لأنه قد صار كالعلم عليهم. وأصل القبورية مأخوذ من "القبر" وهو مدفن الإنسان إذا مات 0 وجمعها قبور 0 والمقبرة: موضع القبور 0 وجمعها مقابر. وقبرت الميت قبراً إذا دفنته، وأقبرته "بالألف" أمرت أن يقبر أو جعلت له قبراً [2].

المطلب الثاني: تعريف القبورية في الاصطلاح:

دأب العلماء - رحمهم الله تعالى - على إطلاق وصف "القبورية" على الغلاة في تعظيم القبور وتقديسها والاعتقاد فيها ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله تعالى وقصدها بأنواع العبادات والقربات ودعاء أربابها من دون الله تعالى.



 Matlamat Pertama: Pengertian Quburiyyah Secara Bahasa


Quburiyyah secara bahasa adalah bentuk jamak dari Quburi, yang merupakan isim masdar yang dibentuk dengan menambahkan isim jamak "qubur" kepada yaa nisbat yang diikuti dengan ta.

Dan penetapan nisbatnya kepada jamak—meskipun memiliki bentuk tunggal yang digunakan dari lafadznya—disahkan karena ia telah menjadi (seperti ilmu yang mengalir pada lajur ilmu karena khusus bagi suatu golongan dengan keadaan mereka secara hakiki, seperti Anshari yang dinisbatkan kepada Al-Anshar, dan Ushuli yang dinisbatkan kepada ilmu Ushul; karena ia telah mendominasi ilmu khusus sehingga menjadi seperti nama khusus padanya) [1].

Dan dengan demikian, pemberian istilah ini kepada para pemakmum kubur dan para ghali (ekstremis) di dalamnya menjadi sah; karena ia telah menjadi seperti nama khusus bagi mereka. Dan asal Quburiyyah diambil dari "al-qabr" yang berarti tempat pemakaman manusia apabila ia meninggal. Dan jamaknya adalah qubur. Sedangkan al-maqbarah: tempat qubur. Dan jamaknya adalah maqabir. Dan qabrata al-mayyita qabran apabila menguburkannya, dan aqbarta "dengan alif" memerintahkan agar dikubur atau menjadikan baginya kubur [2].

 Matlamat Kedua: Pengertian Quburiyyah Secara Istilah


Para ulama—semoga Allah merahmati mereka—biasa menggunakan istilah "Quburiyyah" untuk menggambarkan para ghali (ekstremis) dalam memuliakan kubur dan memakmumkannya, serta berkeyakinan terhadapnya apa yang tidak boleh diyakini kecuali kepada Allah Ta'ala, dan menyembahnya dengan berbagai jenis ibadah dan perbuatan mendekatkan diri, serta berdoa kepada penghuninya selain kepada Allah Ta'ala.

(1) انظر شرح التصريح على التلويح للشيخ خالد الأزهري (2/ 336) طبع دار الفكر بيروت، وهمع الهوامع للسيوطي ... (2/ 197) طبع سنة 1327 هـ بعناية محمد بدر الدين النعساني.

(2) مادة "قبر" في لسان العرب لابن منظور طبع دار الفكر الطبعة الأولى سنة (1410 هـ - 1990 م) ، والقاموس المحيط للفيروز آبادي طبع مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية (1407 هـ-1987 م) .

وسأنقل لك طائفة من عباراتهم في ذلك وأكتفي بجماعة من علماء اليمن: فمنهم العلامة البدر محمد بن إسماعيل الأمير -رحمه الله - [1] حيث قال في كتابه الشهير "تطهير الإعتقاد عن أدران الإلحاد" : (والنذر بالمال على الميت ونحوه، والنحر عل القبر، والتوسل به، وطلب الحاجات منه هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً والأسماء لا أثر لها ولا تُغيّر المعاني) . [2]

ومنهم العلامة حسين بن مهدي النعمي [3] - رحمه الله - في كتابه "معارج الألباب في مناهج الحق والصواب" ذكره بلفظ القبوريين فقال: (والمشروع فيها - زيارة القبور - إنما هو تذكر الدار الآخرة والإحسان إلى الميت المزور بالدعاء والترحم، والاستغفار، وسؤال العافية. فقلب القبوريون الأمر وعكسوا وعاكسوا مقاصد الشرع، وجعلوا المقصود بالزيارة: الشرك بالميت، والدعاء به، وسؤاله الحوائج، واستنزال البركات، والنصر على الأعداء 0 فأساءوا إلى أنفسهم وإلى الميت 0) [4] الخ.

ومنهم شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني [5] -رحمه الله- أطلق هذا اللفظ في "نيل الأوطار" حيث قال في كتاب الجنائز: (وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يُشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهتْ عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكَّأ، وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة) [6] الخ.

(1) انظر ترجمته (ص ... )

(2) تطهير الاعتقاد ص (37) ضمن مجموعة رسائل في التوحيد قام على طبعها القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني، طبع دار الفكر ببيروت الطبعة الأولى (1403 هـ- 1983 م) ، وقد كرر هذا المصطلح في الصفحات (40، 42، 43، 44، 45، 47، 50، 51) كما أطلقه في كتابه "الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف" ص (47،57) حققه مجموعة من طلاب العلم بإشراف الشيخ حسن بن علي حسين عواجي الطبعة الأولى (1417 هـ - 1996 م) .

(3) انظر ترجمته: ص ( ... )

(4) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب تحقيق محمد حامد الفقي وتخريج علي بن حسن بن عبدالحميد طبع دار المعرفة بالرياض الطبعة الرابعة (1407 هـ-1987 م) ص (140) وكرر مثل ذلك في ص (153، 218) .

(5) انظر ترجمته ص ( ... ) .

(6) 5 نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام الشوكاني (4/ 95) طبع مكتبة البابي الحلبي بالقاهرة بدون تاريخ.

وقال في كتابه "الدر النضيد" وهو يتكلم عن حكم التصوير: (فانظر إلى ما في هذه الأحاديث من الوعيد الشديد للمصورين لكونهم فعلوا فعلاً يشبه فعل الخالق، وإن لم يكن ذلك مقصوداً لهم، وهؤلاء القبوريون قد جعلوا بعض خلق الله شريكاً له ومثلاً ونداً، فاستغاثوا به فيما لا يستغاث فيه إلا بالله، وطلبوا منه ما لا يطلب إلا من الله، مع القصد والإرادة) [1].

ومنهم العلامة السلفي الشيخ محمد بن علي بافضل [2] - رحمه الله - في كتابه "دعوة الخلف إلى طريقة السلف" فقد قال: (أما استغاثة القبوريين بمن يعتقدون صلاحه من الموتى فغير جائزة شرعاً وعقلاً، بل هو شرك ينبغي التنبيه عليه وإنكاره) [3].

بعد هذه النقول التي مرَّت بنا يتضح لنا أن العلماء يطلقون لفظ القبوريين، ومثله القبورية على الغلاة في أرباب القبور الذين يعتقدون فيهم النفع والضر، ويطلبون منهم حاجاتهم، ويلوذون بهم عند خوفهم، ويقدِّمون لهم أنواعاً من العبادات والقرابين كالدعاء، والنذر، و الذبح، والحلف بهم. ويتلخص من ذلك أن القبورية عند العلماء هم: (طائفة غَلَت في أصحاب القبور واعتقدت فيهم عقائدَ ضالة حملَتها على تعظيم قبورهم وآثارهم والتقرّب إليها بأنواع من العبادات حتى صيَّرتها أنداداً لله تعالى) .

المبحث الثاني

خطورة عقائد القبورية وعلاقتها بالشرك والوثنية

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: الشرك [4] وخطورته:

إن أعظم انحراف وقع في تاريخ البشرية هو الإشراكُ بالله، وعبادةُ غيره معه، ولذلك كانت أعظم غاية من إرسال الرسل هي إزالة الشرك، وإعادة الناس إلى التوحيد: قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [5]،وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [6]، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم: (( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف

(1) الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص (63) طبع دار ابن خزيمة الطبعة الأولى عام (1414 هـ) ، وقد كرر ذلك الوصف حوالى عشر مرات في ذلك الكتاب.

(2) انظر ترجمته ص ( ... ) .

(3) دعوة الخلف إلى طريقة السلف، طبع مطابع النصر الحديثة بالرياض بدون تاريخ وكرر ذلك الوصف أيضاً (ص 237) .

(4) الشرك هو: أن يعتقد في غير الله أنه يضر أو ينفع، أويقدر على ما لايقدر عليه إلا الله تعالى ودعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه. وانظر: الدر النضيد للشوكاني ص (70) .

(5) النحل (36) .

(6) الأنبياء (25) .

أمري ومن تشبه بقومٍ فهو منهم )) [1]، فهذه النصوص صريحة في أن أعظم غاية من إرسال الرسل هي إزالة الشرك، وإعادة الناس إلى التوحيد وماذاك إلا لقبح الشرك، وعظيم خطره على العباد في دنياهم وآخرتهم.

وتظهر تلك الخطورة من أوجه عدّة:-

الوجه الأول - أنه سبب هلاك كثيرمن الأمم في الدنيا: كما قال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين} [2]، فقد ختمت الآية بقوله تعالى: {كان أكثرهم مشركين} لبيان السبب الذي أورد تلك الأمم هذه العاقبة السيئة، وذلك السبب هو شركهم بالله تعالى تعالىقال ابن جرير [3]: {كان أكثرهم مشركين} يقول: فعلنا ذلك أي الهلاك بهم لأن أكثرهم كانوا مشركين بالله مثلهم) [4].

وقال ابن الجوزي [5]: ( {كان أكثرهم مشركين} المعنى فأهلكوا بشركهم [6].

(1) رواه أحمد في المسند (7/ 121 - 122) رقم (5114 - 5115) ، بتحقيق أحمد شاكر، طبع دار المعارف المعارف بمصر، الطبعة الثانية عام (1391 هـ- 1971 م) ،وصححه أحمد شاكر كما صححه الشيخ الألباني في الإرواء (5/ 109 - 110) ... (رقم 1269) طبع المكتب الإسلامي ط الثانية (1405 هـ - 1985 م) . .

(2) الروم (42) .

(3) هو شيخ المفسرين وعمدتهم الإمام العلم المجتهد محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التصانيف البديعة والمذهب الفقهي المستقل، قال عنه الذهبي: (كان من أفراد الدهر علماً وذكاءً وكثرة تصنيف قلّ أن ترى العيون مثله) ولد سنة ... (224 هـ) و توفي سنة (310 هـ) رحمه لله، انظر تهذيب الأسماء واللغات للإمام يحي بن شرف النووي (1/ 78) طبع دار ابن تيميه بالقاهرة (1410 هـ- 1990 م) والسير للإمام شمس الدين الذهبي (14/ 267 - 282) طبع دار الرسالة بيروت (الطبعة الأولى 1409 هـ-1988 م)

(4) تفسير الطبري المسمى "جامع البيان في تأويل القرآن" (21/ 33) دار المعرفة بيروت (1406 هـ -1986 م) 0

(5) الشيخ الإمام الحافظ المفسر أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد القرني التيمي البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي، الواعظ المشهور، والمؤلف المكثر من فنون متعددة، حتى أنه وصف بكثرة الخطأ في مصنفاته، قال الذهبي: (له أوهام وألوان من ترك المراجعة وأخذ العلم من صحف، وصنف شيئاً لو عاش عمراً ثانياً لم يلحق أن يحرره ويتقنه) ولد سنة (509 أو 510 هـ) وتوفي سنة ... (597 هـ) وانظر السير (21/ 365 - 384) والبداية والنهاية للإمام ابن كثير (13/ 28 - 30) طبع دار المعرفة بيروت الطبعة السادسة (1405 هـ-1985 م)

(6) زاد المسير للإمام ابن الجوزي (6/ 154) المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة سنة (1404 هـ-1984 م) ، وانظر أسباب هلاك الأمم: ص (108 - 109) للشيخ محمد سعيد بابا سيلا وهو رسالة ماجستير مقدمة للجامعة الإسلامية ضمن إصدارت الحكمة (بريطانيا) الطبعة الأولى (1420 هـ- 2000 م) .

الوجه الثاني- أنه السبب في تردِّي الإنسان من منزلة التكريم إلى منزلة الإهانة والتحقير، وإلى الاتصاف بأخبث الأوصاف؛ وهو وصف النجس [1]: قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجدَ الحرام بعد عامهم هذا وإن خِفتم عَيلة فسوف يغنيكمُ الله من فضله إن شاء إنَّ الله عليم حكيم} [2].

قال السيد رشيد رضا [3] -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (أي ليس المشركون كما تعرفون من حالهم إلا أنجاساً فاسدي الاعتقاد، يشركون بالله ما لا ينفع ولا يضر؛ فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام ويدينون بالخرافات والأوهام ولا يتنزهون عن النجاسات ولا الأوثان، ويأكلون الميتة والدم من الأقذار الحسية، ويستحلّون القمار والزنا من الأرجاس المعنوية، ويستبيحون الأشهر الحرم.

(1) هو في الأصل "القذر" كما في معجم مقاييس اللغة لابن فارس (ص 1013) تحقيق شهاب الدين أبي عمروالطبعة الثانية دار الفكرسنة (1418 هـ-1998 م) ، وإنما وُصفوا بذلك مبالغة في تحقيرهم، قال الشوكاني-رحمه الله-: (والمشركون مبتدأ وخبره المصدر مبالغة في وصفهم بذلك حتىكأنهم عين النجاسة أو على تقدير مضاف أي ذوو نجس لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس) فتح القدير للشوكاني (2/ 349) طبع دار الفكر سنة (1403 هـ-1983 م) .

(2) التوبة (28) .

(3) هو العلامة المصلح محمد رشيد بن علي رضا البغدادي الأصل، شامي النشأة، سكن مصر إلى آخر عمره، من أشهر من دعا إلى السنة ونشر كتبها في مصر، وله تفسيرومجلة المنار الشهيران، ولد بالقلمون من أعمال طرابلس الشام عام (1282 هـ) وتوفي بمصر عام (1354 هـ) .انظر: الأعلام لخيرالدين الزركلي (6/ 126) طبع دار الملايين بيروت الطبعة الثانية عشرة (1997 م) ، وانظر الدراسة المستقلة بعنوان (السبد محمد رشيد رضا إصلاحاته الإجتماعية والدينية للدكتور محمد أحمد درنيقه.

وقدتمكّنت صفات النجس منهم حساً ومعنىً، حتى كأنهم عينه وحقيقته؛ فلا تمكنوهم بعد العام أن يقربوا المسجد الحرام) الخ [1] 0

وقال سيد قطب [2] - رحمه الله- في الظلال: (يجسِّم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم فهم بكيانهم وبحقيقتهم: نجس يستقذره الحس، ويتطهر منه المتطهرون 0 وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة فأجسامهم ليست نجسة لذاتها، إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم) [3].

الوجه الثالث- أنه يحبط الأعمال: قال تعالى: {ذلك هُدى الله يهدي به من يشاءُ من عباده ولو أشركوا لحبِطَ عنهم ما كانوا يعملون} [4]، لقد جاءت هذه الآية في سياق ذكر الأنبياء والرسل الذين اجتباهم الله واصطفاهم، فبين أن تلك الهداية وذلك الاصطفاء إنما هو بتوفيق الله تعالى، ولو لم يصاحبهم ذلك التوفيق فوقعوا في الشرك لحبطت أعمالهم.

قال ابن كثير [5] -رحمه الله-: ثم قال تعالى: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده} أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله، وهدايته لهم {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته) [6].

(1) تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا (10/ 275) . طبع دار المعرفة بيروت الطبعة الثانية بدون تاريخ.

(2) الداعية الشهير والمجاهد الكبير الذي بذل نفسه رخيصة لله تعالى بعد أن كوّن مدرسة في الدعوة لها ميزاتها، وسماتها البارزة، وصاحب تفسير (في ظلال القرآن) أشهر التفاسير المعاصرة مع أخطاء يسيرة أخذها عليه بعض العلماء سيّما في باب العقيدة، غير أنها مغمورة في بحار حسنات ذلك التفسير وحسنات مؤلفه، غفر الله له وتقبله في الشهداء، قتل مظلوماً شهيداً -إن شاء الله- سنة (1387 هـ) ،وكان مولده سنة (1324 هـ) .انظر: الأعلام للزركلي (3/ 147 - 148) .

(3) في ظلال القرآن سيد قطب (3/ 1618) طبع دار الشروق بيروت الطبعة الشرعية الثانية عشرة. (1406 هـ- 1986 م)

(4) الأنعام (88) .

(5) المفسر والمحدث والمؤرخ الشهير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي صاحب التفسير الذي قال فيه الشوكاني: (وهو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها) .ولد سنة (701 هـ) وتوفي سنة (774 هـ) ، انظر: البدر الطالع ... (1/ 153) طبع دار المعرفة -بيروت بدون تاريخ.

(6) مختصرابن كثير للشيخ محمد نسيب الرفاعي (2/ 139) طبع مكتبة المعارف بالرياض طبعة جديدة (1410 هـ-1989 م)

وقال تعالى مخاطباً نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم: {ولقد أُوحي اليك وإلى الذين من قبلك لئن اشركتَ ليحبطن عملك ولتكوننَّ من الخاسرين} [1]، قال الإمام الألوسي [2] -رحمه الله-: (وأياً ما كان فهو كلام على سبيل الفرض؛ لتهييج المخاطب المعصوم، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه، وكونه ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه) [3].

الوجه الرابع - أنه يحول دون المغفرة: قال تعالى: {إنَّ الله لا يغفرُ أن يُشركَ به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء} [4].

قال سيدقطب- رحمه الله- في كلامه على هذه الآية: (إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد 0 فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة. إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون مقطوعو الصلة بالله رب العالمين. وما تشرك النفس بالله وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا - وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل- ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية. إنما تفعله وقد فسدت فساداً لا رجعة فيه، وتَلِفَت فطرتها التي برأها الله عليها، وارتدّت أسفل سافلين وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم!) [5].

(1) الزمر (65) .

(2) مفتي بغداد في وقته وصاحب التفسير الشهير (روح المعاني) ، أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبدالله الألوسي البغدادي، ولد عام (1227 هـ) وتوفي عام (1270 هـ) - رحمه الله -. انظر ترجمته في: جلاء العينين لابنه نعمان خير الدين ... الأ لوسي طبع مطبعة المدني بالقاهرة ودار المدني بجده بدون تاريخ ص (57 - 58) والأعلام للزركلي (7/ 127) 0

(3) روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للشيخ محمود الألوسي طبع دار الفكر بيروت (1414 هـ-1994 م) ... (13/ 37) قلت: وهذه الآية والتي قبلها ردٌ صارخ على القبورية الذين يثورون ويغضبون على من حذَّر من الشرك؛ بزعم أنه لايمكن أن يحدث الشرك في هذه الأمة!.

(4) النساء آية (48) وآية (116) .

(5) الظلال (2/ 678) .

الوجه الخامس- أنه يحرم العبد من الاستفادة من شفاعة الشافعين [1] يوم القيامة؛ الشفاعة الموجبة للجنة والمنجية من النار: ففي البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت يارسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: (( لقد ظننت ياأبا هريرة ألايسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لاإله الا الله خالصاً من قبل نفسه )) [2] قال الحافظ [3]: (قوله: (( من قال لا إله الا الله )) احتراز من الشرك) [4] قال ملّا علي القاري [5] في مرقاة المفاتيح: (أي لا يشوبه شك ولا شرك ولا يخلطه نفاق وسمعة ورياء ... وقيل: أسعد هنا بمعنى أصل الفعل وقيل بل على بابه وأن كل أحد يحصل له سعادة شفاعته لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة فإنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع في إراحة الخلق من هول الموقف، ويشفع في بعض الكفار كأبي طالب في تخفيف عذاب النار) انتهى محل الغرض منه. [6] وهو يفيد ما عنونّا له من أن المشرك محروم من الشفاعة المنجية من النار والموجبة للجنة.

(1) الشفاعة: (السؤال في التجاوز عن الذنوب ممن وقع منه جناية) انظر: التوقيف على مهمات التعاريف (ص 432) للشيخ محمد عبد الرؤوف المناوي تحقيق د/ محمد رضوان الدايه طبع دار الفكر المعاصر بيروت ودار الفكر دمشق الطبعة الأولى (1410 هـ-1990 م) و (الشافعون: جمع شافع وهو صاحب الشفاعة) .انظر: المعجم الوسيط (1/ 487) مجمع اللغة العربية (1410 هـ-1990 م) طبع المكتبة الإسلامية إستانبول.

(2) البخاري مع الفتح (11/ 418) كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، مكتبة الرياض الحديثة مصورة عن طبعة المكتبة السلفية بدون تاريخ.

(3) هوخاتمة الحفاظ شيخ الإسلام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مرجع المحدثين ممن جاء بعده، وصاحب الفضل عليهم في علم الحديث، ومصطلحه، وعلم الرجال والجرح والتعديل، وصاحب فتح الباري أشهر وأفضل شروح البخاري المطبوعة على الإطلاق، ولد عام (773 هـ) وتوفي عام (852 هـ) بالقاهرة - رحمه الله -وانظر: الضوء اللامع (ج 2/ 36) للحافظ محمد عبد الرحمن السخاوي طبع دار الحياة بيروت بدون تاريخ والبدر الطالع (1/ 83 - 92) .

(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن علي بن حجر (1/ 194) 0

(5) العلامة الفقيه علي بن سلطان القارئ الحنفي، من أفاضل علماء زمانه، ولد بهراة وتوطن مكة ومات بها، وله مؤلفات كثيرة نافعة من أعظمها في الحديث مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح توفي عام (1014 هـ) . انظر: ا البدر الطالع (1/ 445) والأعلام (5/ 12, 13) 0

(6) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للشيخ مُلا علي القاري طبع دار الفكر بيروت (1414 هـ- 1994 م) (9/ 525) 0

الوجه السادس- أنه أعظم الموانع من دخول الجنة وأعظم أسباب الخلود في النار: قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله هو المسيحُ ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربَّكم إنه من يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [1]

قال السيد رشيد رضا -رحمه الله-: (أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص، وقفّى عليه بالتحذير من الشرك، والوعيد عليه ببيان أن الحال والشأن الثابت عند الله تعالى هو أن كل من يشرك بالله شيئاً مامن ملَكٍ أو بشرٍ أو كوكب أو حجر أوغير ذلك بأن يجعله نداً له أو متّحِداً به، أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضر، أو يزعم أنه يقرِّبه إلى الله زلفى فيتخذه شفيعاً زاعماً أنه يؤثر في إرادة الله تعالى أو علمه فيحمله على شئ غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته في الأزل - من يشرك هذا الشرك ونحوه- فإن الله يحرِّم عليه الجنة في الآخرة بل هو قد حرَّمها عليه في سابق علمه وبمقتضى دينه الذي أوحاه إلى جميع رسله، فلا يكون له مأوى ولا ملجأ يأوي إليه إلا النار دار العذاب والهوان، وما لهؤلاء الظالمين لأنفسهم بالشرك من نصير ينصرهم ولا شفيع ينقذهم {من ذا الذي يشفع عنده الا بإذنه} [2] {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [3] فالنافع رضاه: {ولا يرضى لعباده الكفر} [4] وشرأنواعه الشرك) [5] انتهى المقصود منه.

المطلب الثاني: الوثنية هي الوعاء الذي يحوي الشرك:

إذا عرفت الشرك وخطورته في الدنيا والآخرة، فاعلم أن الوثنية هي الوعاء الذي يحوي الشرك، والجسم الذي يتجسَّد ويسري فيه ذلك الروح الخبيث - الشرك - فالأصنام والأوثان والهياكل ما هي إلا مظاهر يتجسد فيها الشرك الذي يتعلق في الحقيقة بمخلوقات أخرى اعتقدها المشركون،

(1) المائدة (72) 0

(2) البقرة (255) 0

(3) الأنبياء (28) 0

(4) الزمر (7) 0

(5) تفسير المنار (6/ 483) 0

وتعلقت بها قلوبهم ومنحوها صفات الآلهة. يقول الفخر الرازي [1] -رحمه الله تعالى- في تفسيره عند قوله تعالى في سورة يونس: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرُّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لايعلمُ في السماوات ولا في الأرضِ سبحانه وتعالى عما يُشركون} [2]: ( ... "وأما النوع الثاني" ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الآية، وهو قولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فاعلم أن من الناس من قال: إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله سبحانه وتعالى. فقالوا: ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام، وأنها تكون شفعاء لنا عند الله. ثم اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام أنها شفعاؤنا عند الله؟ وذكروا فيه أقوالاً كثيرة: فأحدها- أنهم اعتقدوا أن المتولي لكل إقليم من أقاليم العالم روح معين من أوراح عالم الأفلاك؛ فعيّنوا لذلك الروح صنماً معيناً واشتغلوا بعبادة ذلك الصنم، ومقصودهم عبادة ذلك الروح، ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عبداً للإله الأعظم ومشتغلاً بعبوديته.

وثانيها- أنهم كانوايعبدون الكواكب وزعموا أن الكواكب هي التي لها أهلية عبودية الله تعالى، ثم لما رأوا أن الكواكب تطلع وتغرب وضعوا لها أصناماً معينة واشتغلوا بعبادتها، ومقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب.

وثالثها - أنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام والأوثان، ثم تقرَّبوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات.

ورابعها - أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله.

(1) العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي البكري الطبرستاني، الأصولي المفسر كبير الأذكياء والحكماء والمصنفين، ولد سنة (544 هـ) ،وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات.

(2) يونس (18) 0

وخامسها - أنهم اعتقدوا أن الإله نور عظيم وأن الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم الأكبر، وعلى صورة الملائكة صوراً أخرى.

وسادسها- لعل القوم حلولية، وجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة) [1].

وما ذكره الرازي أمر منطقي إذ لا يُعقَل أن الإنسان بسمعه وبصره وعقله، ينحتُ صنماً أو يصنع وثناً بيده - وهو يعلم مادته ومن أين أُخذ- ثم يزعم أن هذا الصنم أو الوثن هو الذي يخلق ويرزق، وهو الذي ينفع ويضر، هذا لا يكون أبداً. فلم يبقَ إلا ما ذكره الرازي من أنهم يرون أن هذه التماثيل والأصنام هي رموز لمخلوقات معظَّمة تستحق العبادة لقربها من الله، ومنزلتها عنده كما يفعل القبورية بقبور معظميهم. وبهذا تعلم أن هذه الظاهرة إنما هي جسد يحتضن الشرك الذي هو لها بمنزلة الروح.

المطلب الثالث: الغلو في الصالحين هو أصل الوثنية:

إذا كان منهج القبورية هو الغلو في أرباب القبور الذين يُظن أنهم أولياء لله ومقربون لديه، فإن ذلك المنهج هو نفسه أصل الوثنية وعبادة الأصنام كما جاء في البخاري في كتاب (التفسير) عند قوله تعالى: {وقالوا لا تذرُن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} [2] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان الى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت) [3]. إذاً أصنام قوم نوح كانت رموزاً لرجال صالحين حمل الغلو أتباعهم على تقديسهم وتعظيمهم وتطور الأمر حتى عبدوهم.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وقصة الصالحين كانت مبدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك) [4].

المطلب الرابع: كثرة النصوص الناهية عن تعظيم القبور والعلة في ذلك:

(1) التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي (17/ 59 - 60) طبع دار الكتب العلمية طهران الطبعة الثانية.

(2) نوح (23) .

(3) البخاري مع الفتح (8/ 667) كتاب التفسير، باب {وداً ولاسواعاً ولايغوث ويعوق ونسراً} .

(4) الفتح (8/ 669) 0

ولمّا كان أصل الشرك والوثنية هو الغلو في أصحاب القبور؛ تواترت الأحاديث تواتراً معنوياً بالنهي عن تعظيم القبور بأي نوع من أنواع التعظيم، وفَهِمَ الصحابةُ والتابعون لهم بإحسان العلة من تلك النصوص، وأشاعوا ذلك الفهم وعملوا بمقتضاه، وتبعهم على ذلك سائر علماء أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين، وإليك طائفة من تلك النصوص التي وردت بأساليب متنوعة:

الأسلوب الأول- في النهي عن زيارة القبور في أوّل الإسلام وما فهمه العلماء من ذلك: فعن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )) [1]. قال العلامة المناوي [2] -رحمه الله- في "فيض القدير شرح الجامع الصغير" : (00 (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور )) لحدثان عهدكم بالكفر. وأما الآن حيث انمحت آثار الجاهلية واستحكم الإسلام وصرتم أهل يقين وتقوى (( فزوروا القبور )) أي بشرط أن لا يقترن بذلك تمسح بالقبر، أو تقبيل، أوسجود عليه، أو نحو ذلك. فإنه كما قال السبكي [3]: "بدعة منكرة إنما يفعلها الجهال" ... ) [4].

(1) رواه مسلم في صحيحه مع شرح الإمام النووي طبع مؤسسة الكتب الثقافية بيروت بدون تاريخ (7/ 46) ، كتاب الجنائز باب زيارة في القبور والاستغفار لهم.

(2) العلامة الكبير الشيخ محمد عبدالرؤوف بن تاج العارفين المناوي القاهري، له مشاركة في فنون عديدة وله مؤلفات كثيرة ... من أشهرها فيض القدير شرح الجامع الصغير، ولد سنة (952 هـ) وتوفي سنة (1031 هـ) رحمه الله (انظر الأعلام 6/ 204) ومقدمة كتابه التوقيف على مهمات التعاريف 0

(3) القاضي العلامة علي بن عبدالكافي السبكي الشافعي، من كبار علماء عصره غير أنه ممن اصطدم بدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعته أمثال ابن القيم وابن كثير والذهبي والمزي وغيرهم، وله ردود على شيخ الإسلام ابن تيمية أشهرها (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) الذي رد عليه الرد القويم المفحم العلامة ابن عبدالهادي تلميذ مدرسة ابن تيمية -رحمهم الله جميعاً-،ورغم أنه مرجع كثير من القبوريين إلا أنه لم يبلغ مبلغهم في الانحراف بدليل كلامه السالف وهو من متعصبة الأشعرية - رحمه الله تعالى-. وانظر طبقات الشافعية لابنه تاج الدين عبدالوهاب (10/ 139 - 338) طبع دار هجر ط 2 (1413 هـ-1992 م) ، والدرر الكامنة لابن حجر (3/ 39 - 41) طبع دار الجيل - بيروت (1414 هـ -1993 هـ) ، وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين للألوسي ص (32 - 37) 0

(4) انظر فيض القدير شرح الجامع الصغيرللعلامة المناوي (5/ 55) دار الفكر بدون تاريخ 0

وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي [1] في كتابه "مجالس الأبرار ومسالك الأخيار" في شرح هذا الحديث: (هذا الحديث من صحاح المصابيح رواه بريدة، فيه تصريح بوقوع النهي في أوائل الإسلام عن زيارة القبور لكونها مبدأ عبادة الأصنام) ثم ذكر قصة عبادة الأصنام في قوم نوح، ثم قال: (فلما كان منشأ عبادة الأصنام من جهة القبور؛ نهى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في أوائل الإسلام عن زيارة القبور سداً لذريعة الشرك، لكونهم حديثي عهد بكفر، ثم لما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها) [2].

وقال الشيخ علي محفوظ [3] في كتابه (الإبداع في مضار الابتداع) : (وسر النهي أولاً عن زيارتها؛ أنه لما كان منشأ عبادة الأصنام من جهة القبور في قوم نوح، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في صدر الإسلام عن زيارتها سداً للذريعة، لكونهم حديثي عهد بكفر، ثم لما تمكن التوحيد في قلوبهم؛ أذن لهم في زيارتها وعلمهم كيفيتها 0 تارة بفعله، وتارة بقوله، كما مرّ في الأحاديث أول الفصل) [4].

الأسلوب الثاني - النهي عن اتخاذ قبره عيداً وما فهمه العلماء من ذلك:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) [5].

قال المناوي -رحمه الله-: (معناه النهي عن الاجتماع لزيارته اجتماعهم للعيد، إما لرفع المشقة أو كراهة أن يتجاوزوا حدّ التعظيم، وقيل العيد ما يعاد إليه أي لا تجعلوا قبري عيداً تعودون إليه متى

(1) العلامة الكبير الشيخ محمد عبدالرؤوف بن تاج العارفين المناوي القاهري، له مشاركة في فنون عديدة وله مؤلفات كثيرة ... من أشهرها فيض القدير شرح الجامع الصغير، ولد سنة (952 هـ) وتوفي سنة (1031 هـ) رحمه الله انظر: (الأعلام 6/ 204) ومقدمة كتابه التوقيف على مهمات التعاريف 0

(2) المجموع المفيد في نقض القبورية ونصرة التوحيد ص (385 - 386)

(3) الشيخ العلامة علي محفوظ المصري الشافعي تخرَّج بالأزهر ثم كان من أعضاء كبار العلماء وأستاذاً للوعظ والإرشاد بكلية أصول الدين توفي سنة (1361 هـ) ، انظر الأعلام (4/ 323) .

(4) الإبداع في مضار الابتداع للأستاذ الشيخ علي محفوظ ص (190) طبع دار المعرفة الطبعة الخامسة سنة (1375 هـ-1956 م) .

رواه أبو داود في سننه مع شرحه عون المعبود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، (6/ 31) طبع المكتبة السلفية بالمدينة المنورة الطبعة الثانية (1388 هـ-1968 م) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 383) ط مكتب التربية لدول الخليج العربي ط الأولى (1409 هـ-1989 م) .

أردتم أن تصلّوا عليّ، فظاهره نهي عن المعاودة، والمراد المنع عما يوجبه وهو ظنهم بأن دعاء الغائب لا يصل إليه، ويؤيده: (( وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) أي "لا تتكلفوا المعاودة إلي فقد استغنيتم بالصلاة علي" .-قال-: ويؤخذ منه أن اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء، في يوم أو شهر مخصوص من السَّنة، ويقولون هذا يوم مولد الشيخ ويأكلون ويشربون وربما يرقصون فيه، منهي عنه شرعاً وعلى ولي الشرع ردعهم على ذلك وإنكاره عليهم وإبطاله) [1] انتهى.

وقال شمس الحق العظيم أبادي [2] -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: (وأما الآن فإن الناس في المسجد الشريف إذا سلم الإمام عن الصلاة قاموا في مصلاهم مستقبلين القبرالشريف كالراكعين له [3] ومنهم من يلتصق بالسرادق [4] ويطوف حوله وكل ذلك حرام باتفاق أهل العلم وفيه ما يجر الفاعل إلى الشرك) موضع الشاهد قوله: (وفيه ما يجر الفاعل إلى الشرك) [5].

وقال الطيبي [6] -رحمه الله - في شرح نفس الحديث: (نهاهم عن الاجتماع لها اجتماعهم للعيد نزهة وزينة، وكانت اليهود والنصارى تفعل ذلك بقبور أنبيائهم فأورثهم الغفلة والقسوة، ومن عادة عَبَدة الأوثان أنهم لا يزالون يعظِّمون أمواتهم حتى اتخذوهم أصناماً، وإلى هذا الإشارة بقوله: (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) [7] فيكون المقصود من النهي كراهته أن يتجاوزوا في قبره غاية

(1) بواسطة عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق العظيم أبادي (6/ 32 - 33) .

(2) الشيخ العلامة محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر أبو الطيب الصديقي العظيم أبادي، من محدثي الهند له عدة مصنفات في الحديث من أشهرها عون المعبود على سنن أبي داود توفي بعد سنة (1310 هـ) رحمه الله، انظر الأعلام (6/ 39) .

(3) في الأصل "الراكعين له" ومعناه غير مستقيم، وبما أن تلك الطبعة كثيرة الغلط فالظاهر أن الصواب ماأثبته والله أعلم 0

(4) (السرادق كل ما أحاط بشئ من حائط أومِضْرَب) المعجم الوسيط (1/ 426) والمقصود هنا هو سرادق قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الشبك النحاسي المحيط بالحجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

(6) الإمام المشهور صاحب شرح المشكاة الحسين بن محمد بن عبدالله الطيبي، كان كريماً متواضعاً حسن المعتقد، شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة، مظهراً فضائحهم مع استيلائهم على بلاد المسلمين حينئذ، توفي سنة (743 هـ) رحمه الله تعالى، وانظر: الدرر الكامنة (2/ 68 - 69) ، والبدر الطالع (1/ 229 - 230) 0

(7) سيأتي تخريجه (ص 15) 0

التجاوز ولهذا ورد: (( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) [1] ... ) [2] انتهى موضع الشاهد.

الأسلوب الثالث - نهيه عن الصلاة على القبور وإليها: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها )) [3]، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تصلّوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر )) [4]، وعن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )) [5].

قال الإمام الشافعي -رحمه 0 الله تعالى- في كتابه "الأم" في كتاب الصلاة: (وأكره أن يُبنى على القبر مسجد وأن يسوَّى أو يصلى عليه وهو غير مسوَّى أو يصلى إليه. قال وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى دينان بأرض العرب )) . - قال: وأكره هذا لِلسنّة والآثار وأنه كره - والله أعلم - أن يعظَّم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده) [6]. تأمل قول الشافعي- رحمه الله-: (ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده) ، إذن ليست العلة أن في ذلك تضييقاً على المسلمين في مقابرهم، وإن كان ذلك لازم من اتخاذ مقابر المسلمين العامة مساجد على بعض القبور، وليست العلة الخوف من تنجس الأرض لأن الحكم عام في القبر الذي ابتدِئ حفره كما هو في القبر المنبوش؛

(1) سيأتي تخريجه (ص 15) 0

(2) بواسطة مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للقاري (3/ 14) .

(3) رواه أبو يعلى في مسنده (2/ 297) طبع دار المأمون للتراث دمشق الطبعة الأولى (1404 هـ-1984 م) تحقيق حسين سليم أسد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد (3/ 64) كتاب الجنائز، باب البناء على القبور والجلوس عليها وغير ذلك طبع مؤسسة المعارف -بيروت (1406 - 1986) ،وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) للشيخ محمد ناصر الدين الألباني طبع المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الثالثة 1398 هـ (ص 22) .

(4) رواه الطبراني في الكبير وغيره، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني، طبع مكتبة المعارف بالرياض الطبعة الأولى (1409 هـ-1989 م) (3/ 13) رقم الحديث (1016) ، وصححه الشيخ رحمه الله 0

(5) رواه مسلم (2/ 668) رقم (97) تحقيق عبدالباقي طبع دار إحياء التراث العربي بيروت الطبعة الأولى (1375 هـ -1955 م) .

(6) الأُم للإمام محمد بن أدريس الشافعي (1/ 278) طبع دار المعرفة بيروت بدون تاريخ.

وإنما العلة عند الشافعي-رحمه الله- خشية الفتنة والضلال على من يأتي بعده، وأي فتنة أو ضلال أعظم من أن يعَظَّم المخلوق حتى يُصرَف لقبره من العبادة والتقديس ما لا يليق إلا بالله عز وجل؟!.

وقال القرطبي [1] -رحمه الله- في تفسيره في تفسير سورة الكهف- بعد أن ساق كثيراً من الأحاديث التي فيها النهي عن البناء على القبور وتعظيمها-: (وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( لا تصلوا الى القبور ولا تجلسوا عليها )) لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى؛ فيؤدِّي الى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام، فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك وسد الذرائع المؤدية الى ذلك) [2] 0

الأسلوب الرابع - دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، مع إخباره بشدة غضب الله على متخذي قبور أنبيائهم مساجد، مما يؤكد العلاقة بين القبورية "اتخاذ القبور مساجد" والوثنية "صيرورة تلك القبور المعظمة أوثاناً تعبد من دون الله" :ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) [3].

(1) الشيخ الإمام أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري القرطبي المالكي أحد مشاهير المفسرين وكتابه الجامع لأحكام القرآن من أوسع كتب التفسير يميل فيه إلى تتبع الأحكام الفقهية توفي سنة (671 هـ) وانظر ترجمته في كشف الظنون لحاجي خليفة (1/ 534) والمفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات للشيخ محمد بن عبدالرحمن المغراوي (1/ 287) 0 طبع دار طيبة الرياض ط الأولى (1405 - 1985) .

(2) الجامع لأحكام القرآن المشهور بتفسير القرطبي (10/ 380) الطبعة ذات العشرين جزءٍ مصورة ليس عليها اسم دار النشر.

(3) قال الشيخ محمد بن عبدالرحمن المغراوي في تخريج كتابه فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر مع فتح المجيد في اختصار تخريج أحاديث التمهيد لنفس المؤلف طبع مجموعة التحف النفائس بالرياض، ط الأولى (1416 هـ-1996 م) (1/ 280) : (ابن سعد في "الطبقات (2/ 240 - 241) " من طريق مالك 0 وعبدالرزاق (1/ 406/1587) 0 وابن أبي شيبة (2/ 150/7544) كلهم عن زيد بن أسلم مرسلاً بسند صحيح 0 ووصله أحمد (2/ 246) والحميدي ... (1025) وأبونعيم في (الحلية) (6/ 283) (7/ 317) عن أبي هريرة بسند صحيح وصححه البزار 0 انظر (النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد (ص 115) .

قال الحافظ ابن عبد البر [1] في (التمهيد) في شرح هذا الحديث: (الوثن: الصنم 0 وهو الصورة من ذهب كان، أومن فضة، أوغيرذلك من التمثال. وكل مايعبد من دون الله فهو وثن صنماً كان، أو غيرصنم. وكانت العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها فخشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم، كانوا إذا مات لهم نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم فقال - صلى الله عليه وسلم: (( اللهم لا تجعل قبري وثناً )) يصلى إليه، ويسجد نحوه، ويعبد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صلّوا الى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجداً، كماصنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون لها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر.

فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه وأنه مما لا يرضاه خشيةً عليهم امتثال طرقهم) [2] 0

وقد عنون العلامة ابن حجر المكي الهيتمي [3] -رحمه الله -في كتابه (الزواجر) عنواناً قال فيه: (الكبيرة الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد،

(1) الإمام العلامة حافظ المغرب شيخ الإسلام أبوعمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر بن عاصم النمري الأندلسي القرطبي المالكي، صاحب التصانيف الفائقة. كان إماماً ديناً متقناً، علامة، متبحراً، صاحب سنة واتباع وكان في ابتداء أمره أثرياً ظاهرياً فيما قيل، ثم تحول مالكياً مع ميل بيِّن إلى فقه الشافعي في مسائل، ولاينكرله ذلك، فإنه ممن بلغ مرتبة الأئمة المجتهدين 0 ومن نظر في مصنفاته بان له منزلته من سعة العلم، وقوة الفهم، وسيلان الذهن، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا أخطأ إمام في اجتهاده لاينبغي لنا أن ننسى محاسنه ونغطي معارفه، بل نستغفر له ونعتذر عنه) ولد سنة (368 هـ) ومات (463 هـ) ، الترجمة ملتقطة بحروفهامن السير للذهبي (18/ 153 - 163) وانظر المقدمتين الضافيتين لكتابيه التمهيد والاستذكار 0

(2) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للإمام ابي عمر يوسف بن عبد البر القرطبي الأندلسي (5/ 45) تحقيق سعيد أحمد أعراب (1396 هـ- 1976 م)

(3) العلامة الفقيه الشيخ أحمدبن محمد بن حجر الهيتمي السعدي الشافعي من أجل وأعظم علماء الشافعية في وقته، وأحد الشيخين الذين تفردا بالاعتماد من شراح المنهاج، والآخر هو شمس الدين محمدبن أحمد الرملي، واعتماد أهل الحجاز واليمن على مارجحه ابن حجر في تحفته، وهو من جانب آخر أشعري محارب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما يتعلق ببعض مسائل التوحيد والاتباع، وخصوصاً شدّ الرحال لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -،غير أنه مع ذلك ضد القبوريين في مسائل البناء على القبور، وتعظيمها وفي مسألة الاستغاثة بغير الله، وانظر ترجمته في جلاء العينين ص (40) و النور السافر لعبد القادر بن شيخ العيدروس ص (258 - 263) طبع دار الكتب العلمية ببيروت الطبعة الأولى (1405 هـ- 1985 م) 0

وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها). ثم ساق جملة من الأحاديث الدالة على ما عنون له، ثم قال ( "تنبيه" عَدُّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية وكأنه أخذه مما ذكرته من هذه الأحاديث) ، ثم ذكر وجه الدلالة على تلك الكبائر، إلى أن قال وهو موضع الشاهد: (وأما اتخاذها أوثاناً فجاء النهي عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري وثناً يعبد بعدي" [1]، أي لا تعظِّموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له، أو نحوه، فإن أراد ذلك الإمام بقوله: (واتخاذها أوثاناً) هذا المعنى اتجه ما قاله من أن ذلك كبيرة بل كفر بشرطه، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة ففيه بُعد، نعم قال بعض الحنابلة: قصدُ الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به عين المحادة لله ورسوله وابتداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ثم إجماعاً) [2] الخ.

وقال الملّا علي القاري -رحمه الله- في "مرقاة المفاتيح" : (أي لا تجعل قبري مثل الوثن في تعظيم الناس، وعودهم للزيارة بعد بدئهم، واستقبالهم نحوه في السجود، كما نسمع ونشاهد الآن في بعض المزارات والمشاهد (( اشتد )) استئناف كأنه قيل: لِمَ تدعو بهذا الدعاء؟ فأجاب بقوله اشتد (( غضب الله )) : ترحماً على أمته وتعطفاً لهم، قاله الطيبي، وتبعه ابن حجر، والأظهر أنه إخبار عما وقع في الأمم السابقة؛ تحذيراً للأمة المرحومة من أن يفعلوا فعلهم، فيشتد غضبه عليهم) [3] انتهى محل الغرض منه.

فهذه نصوص أرباب المذاهب الأربعة: المالكية، والشافعية، والحنابلة، والأحناف، متفقة على أن الغلو في القبور وتعظيمها بالصلاة لها أو إليها يجعلها أوثاناً تعبد من دون الله.

الأسلوب الخامس: لعنهُ - صلى الله عليه وسلم - لليهود والنصارى وإخباره بلعن الله لهم كونهم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد يحذر أمته مما صنعوا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه

(1) كذا قال 0 والحديث إنما هو بلفظ الدعاء لابلفظ النهي.

(2) الزواجر عن اقتراف الكبائر للشيخ أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي المكي (1/ 148 - 149) طبع دار المعرفة ببيروت ... (1402 هـ-1982 م) 0

(3) المرقاة (2/ 458) 0

الذي لم يقم منه: (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) قالت: فلولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً )) [1].

وعنها رضي الله عنها قالت: لما كان مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاويرها، قالت: فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه فقال: (( أولئكِ إذاكان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوَّروا فيه تلك الصور، أولئكِ شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) [2].

وعن ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة جعل يلقي علىوجهه طرف خميصة [3] له فإذا اغتم بهاكشفهاعن وجهه وهو يقول: (( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) تقول عائشة رضي الله عنها: (يحذّر ما صنعوا) [4].

هذه الأحاديث الثلاثة يشدد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - النكير، ويؤكده بلعن الفاعلين لذلك، وأنهم شرار الخلق عند الله تعالى، وذلك لقبح ذلك الفعل وعظيم أثره في الانحراف عن العقيدة الصحيحة، وفتح الباب للشرك والوثنية وقد بيَّنت عائشة رضي الله عنها أن الصحابة فهموا ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - وعناه، ومن أجل ذلك لم يبرزوا قبره خشية أن يتخذ مسجداً، وأنه إنما قال ذلك محذراً لأمته أن تصنع كما صنع أولئك.

قلت: وبالفعل عمل الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائرُ العلماء في العصور المختلفة علىستر قبره وحجبه عن الناس، وبالغوا في ذلك غاية المبالغة كماسيأتي في كلام النووي [5] والسمهودي

(1) البخاري مع الفتح (3/ 200) كتاب الجنائز، باب مايكره من اتخاذ المساجدعلىلقبور، ومسلم مع النووي (5/ 12) كتاب المساجد ومواضع الصلوات، باب النهي عن بناء المسجدعلى القبور واتخاذ الصور فيها، طبع دار الكتب العلمية بيروت بدون تاريخ.

(2) البخاري مع الفتح (3/ 208) كتاب المساجد، باب بناء المسجد على القبر، ومسلم مع النووي (5/ 11) كتاب المساجد ومواضع الصلوات، باب النهي عن بناء المسجد على القبور واتخاذ الصور فيها.

(3) (الخميصة كساء أسود مربع له علمان) القاموس المحيط ص (797) .

(4) البخاري مع الفتح (6/ 494 - 495) كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم مع النووي (5/ 13) الكتاب والباب المتقدمين 0

(5) الإمام العلامة شيخ الشافعية وعمدتهم، وأحد أئمة الحديث في زمانه، محيي الدين يحيى بن شرف النووي صاحب التصانيف المفيدة المباركة، التي لاقت القبول عند سائر علماء المسلمين ببركة إخلاصه، ولد بنوى سنة (631 هـ) وتوفي بها سنة (676 هـ) ،وانظر البداية والنهاية (3/ 278 - 279) ،وطبقات الشافعية الكبرى للشيخ تاج الدين السبكي ... (8/ 395 - 400) .

[1] -رحمهما الله-،وإليك كلام بعض العلماء على هذه الأحاديث وإشارتهم وتصريحهم بأن هذه النصوص تمنع من تعظيم القبور حتى لا تعبد من دون الله، ويفتتن بها الناس، وتؤدي إلى ما أدى إليه غلوّ الأولين في قبور معظميهم، حيث صارت أوثاناً تعبد من دون الله.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في كلامه على حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما: (وكأنه علم أنه مرتحل فخاف أن يعظَّم قبره كما فعل من مضى فلعنَ اليهود والنصارى إشارة الى ذم من فعل فعلهم) [2].

ويناسب هذا المقام ما ذكره الإمامان النووي وابن حجر في شرحهما على الصحيحين في الكلام على قصة موت موسى - عليه السلام -، وسؤال ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة.

قال النووي -رحمه الله: (قال بعض العلماء: وإنما سأل الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس لأنه خاف أن يكون قبره مشهوراً عندهم فيفتتن به الناس) [3].

وقال ابن حجر: (لكن حكى ابن بطال عن غيره أن الحكمة في أنه لم يطلب دخولها ليُعمِّي موضع قبره لئلا يعبده الجهال من أمته) [4].

من هذه النقول الثلاثة يتبين ما فهمه العلماء من أحاديث النهي عن اتخاذ المساجد على القبور؛ وهو خشية التعظيم المفضي إلىعبادتها كما حصل للأمم السابقة بغلوها في أنبيائها وصالحيها إلى أن عبدتهم من دون الله، وتحولت القبورية إلى وثنية وشرك، أجار الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك.

وقال العلامة ابن دقيق العيد [5] -رحمه الله تعالى- في شرح عمدة الأحكام في حديث عائشة الثاني: (وقوله - عليه السلام: (( بنوا على قبره مسجداً )) إشارة الى المنع من ذلك وقد صرح به الحديث

(1) مؤرخ المدينة النبوية وفقيهها في وقته، علي بن عبدالله بن أحمد السمهودي القاهري الشافعي، نزيل الحرمين، صاحب أضخم كتاب مطبوع في تاريخ المدينة وهو كتاب (وفاء الوفاء في أخبار دار المصطفى) ،ولد سنة (844 هـ) وتوفي سنة (911 هـ) انظر الضوء اللامع للسخاوي (5/ 245 - 248) .

(2) الفتح (1/ 532) 0

(3) النووي على مسلم (15/ 128) 0

(4) الفتح (3/ 207) .

(5) الإمام المجتهد المحدث محمد بن علي بن وهب المصري الدار، والشافعي ثم المالكي المذهب، أحد من قيل إنهم من المجددين لهذا الدين، وصاحب المصنفات المستعذبة المفيدة، ولد في البحر قرب ينبع سنة (625 هـ) وتوفي سنة (702 هـ) انظر البداية والنهاية (14/ 27) والدرر الكامنة في إعيان المائة الثامنة للحافظ أحمد بن علي بن حجر رحمة الله تعالى (4/ 91 - 96) .

الآخر: (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) [1].

وقد علّق الصنعاني -رحمه الله- على كلامه هذا فقال: (قوله: (( إشارة الى المنع من ذلك )) . أقول: من حيث إنه جعل شرار خلق الله هم المصورون، ومعلوم أن من فعل شيئاً يكون به من شرار خلق الله أنه فعل محرماً وقد صرح به في حديث آخر، يريد الحديث الذي أخرجه الشيخان بلفظ: (( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) زاد مسلم: (( والنصارى )) وحديث عائشة بلفظ: (( الرجل الصالح )) أعم من قبور الأنبياء. والكل محرم فإنه ذريعة إلى تعظيم الميت، والطواف بقبره، والتماس أركانه، والنداء باسمه، وبالجملة أنه يصير صنماً يعبد) انتهى محل الغرض منه. ولايزال بعده كلام قوي متين في النعي على القبوريين فلينظرهناك [2] 0

ومما يناسب هذا المقام ما قرره العلامة الشيخ محمد بن سالم البيحاني [3] -رحمه الله- في كتابه (إصلاح المجتمع) إذ قال وهو يتحدث عن الشرك: (ومن الشرك تعظيم القبور الذي فتن به المسلمون في مختلف الجهات، حتى بنوا عليها القباب، واتخذوا لها الأقفاص والتوابيت، وطافوا بها وحجوا إليها، ونذروا لأصحابها بجزء معلوم من أولادهم وأقاموا لها الحفلات والمواسم، وجاءوا إليها متوسلين ومستغيثين. وهذا يطلب منهم الولد، وثانٍ يطلب منهم شفاء المريض، وثالث يريد منهم النصرة على الأعداء، وأن ينصفوا له من فلان الظالم، ونسبوا إليهم من الكرامات ما لا يصح أن يكون معجزة لنبي مرسل، وكتبوا عنهم الشطح، والكلام الذي لا يصدر إلا من ملحد في دين الله، أو مدّع أنه شريك لله) الخ كلامه رحمه الله [4] 0

الأسلوب السادس - النهي المباشر للأمة عن البناء على القبور، وتعظيمها بأي نوع من أنواع التعظيم، وإخباره - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يفعل ذلك إلا شرار الخلق عند الله تعالى: فعن جندب بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس يقول: (( إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم

(1) الإحكام للإمام ابن دقيق العيد مع حاشية الصنعاني (3/ 257 - 258) طبع المكتبة السلفية (1409 هـ) 0

(2) 5 المصدر السابق (3/ 258) .

(3) ستأتي ترجمته في الباب الثالث (ص ... ) .

(4) إصلاح المجتمع للشيخ محمد بن سالم البيحاني ص (130) طبع مؤسسة طيبة الخيرية (1419 هـ- 1998 م) 0

خليل ... )) إلى أن قال: (( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إنى أنهاكم عن ذلك )) [1].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهماقال: (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه ويبنى عليه )) [2].ولفظ أبي داود: (( نهى أن يقعد على القبر ويبنى عليه) [3].

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد )) [4].ففي هذه الأحاديث التي مرت النهي الصريح عن أي نوع من أنواع التعظيم للقبور ومن ذلك: النهي عن اتخاذها مساجد، والنهي عن مجرد البناء عليها، وعن تجصيصها، والكتابة عليها. وقد توجه النهي أول ما توجه إلى قبور الأنبياء والصالحين 0 لماذا؟ لأنها هي التي يخشى الغلو في أربابها عكس قبور سائر الناس، والفتنة بها أعظم من غيرها. وهذا هو الواقع المشاهد فإنه ما من مشهد إلا ويزعم أنه بني على ولي صالح، ذي مناقب وكرامات عظيمة يرجى نفعه ويخاف انتقامه، أو يزعم أنه على نبي من أنبياء الله كما ظهر ذلك تخميناً في أماكن كثيرة من بلاد الله، ولكثيرٍ من الأنبياء، مع تصريح العلماء أنه لا يُعلم على

(1) النووي علىمسلم (5/ 13) كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المسجد على القبور 0

(2) النووي على مسلم (7/ 37) كتاب الجنائز باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه والجلوس عليه 0

(3) رواه أبوداود (2/ 235) كتاب الجنائز، باب في البناء على القبر طبع دار الجنان ومؤسسة الكتب الثقافية بيروت دراسة وفهرسة كمال يوسف الحوت ط الأولى (1409 هـ-1988 م) ، والنسائي في سننه (4/ 86 - 88) كتاب الجنائز رقم ... (2027، 2028، 2029) طبع مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب عناية عبد الفتاح أبو غده الطبعة الأولى (1406 هـ-1986 م) ، و ابن ماجه في سننه (1/ 498) كتاب الجنائز با ب ماجاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها طبع دار إحياء الكتب العربية (1372 - 1952) تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وصححه الشيخ الألباني، ينظر صحيح أبي داود للشيخ الألباني (2/ 621) .

(4) رواه أحمد (5/ 324) تحقيق أحمد محمد شاكر، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 7) كتاب الصلاة باب الزجر عن اتخاذ القبور مساجد تحقيق محمد مصطفى الأعظمي طبع المكتب الإسلامي الطبعة الأولى (1395 هـ-1975 م) ، وقال أحمد شاكر ... في تعليقه على المسند (5/ 324) :) إسناده صحيح. وهو في "مجمع الزوائد" (2/ 27) وقال: "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن" وهو فيه أيضاً (8/ 13) وقال: "رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح" ) 0

التحقيق واليقين إلاّ قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وزاد بعضهم قبر الخليل - عليه السلام - في الموضع المشهور باسمه في فلسطين [1].

ثم لاحِظْ كيف قرَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من يتخذ المساجد على القبور بمن تقوم عليهم الساعة وقد صرَّح عليه الصلاة والسلام في أحاديث صحيحة أن أولئك الذين تقوم عليهم الساعة لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه كما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله )) [2]، فالذين تقوم عليهم الساعة لم يستحقوا أن يكونوا شرار الخلق إلا بالكفر التام والخلو التام من الإيمان، إذاً فمقارنتهم بالذين يتخذون القبور مساجد يدل على خطورة النهاية التى تصل إليها القبورية بأصحابها.

وهذا يظهر من تعليق العلماء على تلك الأحاديث: يقول الإمام النووي - رحمه الله - في شرح حديث جندب - رضي الله عنه: (قال العلماء: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثيرمن الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها، مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد؛ فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لايتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث: (( ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً )) والله أعلم بالصواب) [3].

وقال العلامة صديق حسن خان [4] في كتابه "السراج الوهاج في كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج" في شرحه لحديث جابر - رضي الله عنه: (( وأن يبنى عليه )) قال النووي: فيه كراهة البناء عليه،

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (27/ 141) . طبع مكتبة المعارف الرباط بالمغرب بدون تاريخ.

(2) النووي على مسلم (2/ 178) كتاب الإيمان باب ذهاب الإيمان في آخر الزمان 0

(3) ا لنووي على مسلم (5/ 12 - 13) 0

(4) محيي السنة وقامع البدعة، الإمام العلامة أبو الطيب صديق بن حسن بن علي الحسيني البخاري القنوجي، أحد مجددي علوم السنة في الهند، وصاحب المصنفات الذائعة والمؤلفات النافعةالتي يجنح فيها إلى الاجتهاد وينفر عن التقليد تبعاً لشيخه وأستاذه الذي تتلمذ على كتبه، ونسج على منوالها شيخ الإسلام الشوكاني رحمه الله، ولد سنة (1248 هـ) وتوفي سنة ... (1307 هـ) .انظر كتاب: السيد صديق حسن خان آراؤه الاعتقادية وموقفه من عقيدة السلف للدكتور اختر جمال لقمان 0

قال: أما البناء عليه، فإن كان في ملك الباني فمكروه. وإن كان في مقبرة (مسبلة) فحرام نص عليه الشافعي والأصحاب، قال في (الأم) : ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله: (( ولا قبراً مشرفاً إلا سويته )) انتهى.

وأقول: فإن البناء على القبر حرام لا مكروه في أي مكان ولأجل أي قبرٍكان، وهذا بالأدلة الثابتة الصحيحة في الصحيح وغيره، من طرق تُوجِب العلم اليقين:

(فمنها): الأمر بالتسوية كما تقدم.

(ومنها): النهي عن البناء كما مر هنا.

(ومنها): النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعنُ فاعلِ ذلك وغير ذلك مما هو مبين في كتب السنة.

وبالجملة فما هذه أول شريعة صحيحة محكمة، وسنة قائمة صريحة تركها الناس واستبدلوا بها غيرها 0

وقد صارت هذه البدعة وسيلة لضلال كثير من الناس، "ولا سيما العوام" فإنهم إذا رأوا القبر عليه الأبنية الرفيعة، والستور العالية، وانضم إلى ذلك إيقاد السرج عليه، سبب عن ذلك الاعتقاد في ذلك الميت ولا يزال الشيطان الرجيم وإبليس اللعين يرفعه من رتبة إلى رتبة حتى ينادى مع الله، ويطلب منه ما لا يطلب إلا من الله - عز وجل - ولا يقدر عليه سواه فيقع في الشرك 00 هذا أمر العوام.

وأما الخواص فلهم عرس [1] الموتى على قبورهم وطوافها، والمراقبة عندها وانتظار وصول الفيض من أصحابها، والاستمداد بهم في الفرج بعد الشدة وإيجاب النذور لهم ووضع الأموال في المقابر إلى غير ذلك من الكبائر، والإشراك، والبدع، وكل ذلك ضلالة على ضلالة وظلمة فوق ظلمة {وسيعلمُ الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [2].

وأما تخصيص قبور الفضلاء بهذه الداهية الدهياء، والمعصية الصماء، والفاقرة العظمى فلا وجه له) الخ [3]

(1) كذا في الأصل ولم أتبين المراد به.

(2) الشعراء (227) 0

(3) السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج للشيخ صديق حسن خان إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قطر (3/ 82 - 83 - 384) .

وقال القرطبي -رحمه الله تعالى- في تفسيره "تفسير سورة الكهف" : (وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيماً وتعظيماً فذلك يُهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبهاً بمن كان يعظم القبور ويعبدها وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي ينبغي أن يقال هو حرام) [1].

وكان -رحمه الله تعالى- قد صرح في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} [2].وهو يتكلم عن سد الذرائع بأن ما ورد من الأحاديث في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها ... الخ. إنما هو لسد الذريعة المؤدية الى ما وصلت إليه الأمم السابقة من التدرج في عبادتها من دون الله وهذا نص كلامه -رحمه الله-: (قال علماؤنا: ففعَلَ ذلك أوائلهم ليأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم إنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان: أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك وشدّد النكير والوعيد على من فعل ذلك وسدَّ الذرائع المؤدية الى ذلك فقال: (( اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد )) وقال: (( اللهم لا تجعلْ قبري وثناً يعبد )) [3].

هذه أقوال أهل العلم على هذه الأحاديث ونحوها، وكلها تؤكد أن المقصد من ذلك النهي والتشديد هو سدّ ذرائع الشرك، وألا يصل الحال بهذه الأمة كما وصل بالأمم السابقة حتى حلّت بها الوثنية والشرك وذلك يؤكّد ما عَنْوَنَّا له أول الفصل ولله الحمد.

الأسلوب السابع - الأمر بتسوية القبور المشرفة مع قرن ذلك بطمس التماثيل: فعن ثمامة بن شُفي -رحمه الله - قال: (كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس [4] فتوفي صاحب لنا فأمر

(1) الجامع لأحكام القرآن (10/ 381) 0

(2) البقرة (104) 0

(3) تفسير القرطبي (2/ 58) .

(4) (هي جزيرة من جزر البحر الأبيض المتوسط افتتحها معاوية - رضي الله عنه - ودانت بالإسلام زمناً ثم طرد منها المسلمون وعادت ... إلى النصرانية) انظر معجم البدان لياقوت بن عبد الله الحموي (3/ 78) طبع دار صادر، بيروت ط ثانية (1995 م) .

فضالة بن عبيد بقبره فسوى ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها) [1].وعن أبي الهيَّاج الأسدي-رحمه الله- قال: قال لي علي بن أبي طالب: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته) [2]. وهكذا فهم الصحابة رضوان الله عليهم الأمر، فسوّوا القبور المشرفة، وأمروا بذلك وصار هذا شعارهم وديدنهم.

فهذا فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - يطبِّق ما سمع ويأمر بتسوية القبر؛ امتثالاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتسويتها، وهذا علي - رضي الله عنه - يبعث رئيس شرطته أبالهياج الأسدي [3] لطمس القبوركما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي أنه يطبِّق ماعرفه وفهمه من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهذا عثمان - رضي الله عنه - يأمر بتسوية القبور كذلك. قال عبدالله بن شرحبيل بن حسنة -رحمه الله-: (رأيت عثمان - رضي الله عنه - يأمر بتسوية القبور فقيل له هذا قبر أم عمرو بنت عثمان! فأمر به فسوِّي) [4] وعن عمرو بن شرحبيل قال: (لا ترفعوا جدثي - يعني القبر - فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك) [5]،وسيأتي مزيد بيان لهذا في الباب الأول إن شاء الله [6].

وأما العلماء ممن جاء بعد الصحابة والتابعين وإلى عصرنا الحاضر، فستأتي نماذج من كلامهم الدال على أنهم فهموا ذلك المعنى، وعملوا بمقتضاه، وصرحوا بأنه من باب سد الذريعة المفضية إلى الوثنية والشرك بالله تعالى.

قال الإمام الشافعي-رحمه الله-: (ولم أرَ قبور المهاجرين والأنصار مجصصة قال الراوي عن طاووس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تبنى القبور أو تجصص (قال الشافعي) وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها فلم أرَ الفقهاء يعيبون ذلك) [7].

(1) مسلم كتاب الجنائز باب الأمر بتسوية القبر (7/ 35 - 36) مع النووي.

(2) المصدر السابق (7/ 36) .

(3) تحذير الساجد من اتخاد القبور مساجد ص (88) للعلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني.

(4) رواه أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف، كتاب الجنائز باب في تسوية القبر وما جاء فيه (3/ 341) طبع الدار السلفية بالهند بومبي الطبعة الثانية (1399 هـ-1979 م) ، وأبو زرعة في تاريخه بسند صحيح إلى عبدالله وانظر تحذير الساجد (88) .

(5) رواه ابن سعد في الطبقات (6/ 108) دار بيروت للطباعة والنشر (1377 هـ - 1957 م) وصحح إسناده الشيخ الألباني وانظر: تحذير الساجد ص (98) .

(6) الفصل الثاني من الباب الأول 0

(7) الأم (1/ 277) 0

وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى" في جواب سؤال يتعلق بهذا الموضوع: (المنقول المعتمد كما جزم به النووي في شرح المهذب حرمة البناء في المقبرة المسبلة، فإن بُني فيها هُدم ولا فرق في ذلك بين قبور الصالحين والعلماء وغيرهم، وما في الخادم مما يخالف ذلك ضعيف لايلتفت إليه، وكم أنكر العلماء على باني قبة الإمام الشافعي- رحمه الله - وغيرها، وكفى بتصريحهم في كتبهم إنكاراً) انتهى محل الغرض منه [1].

وقال في جواب سؤال آخر: (يحرم بناء القبر في المقبرة المسبلة؛ وهي التي اعتاد أهل البلد الدفن فيها، ومثلها الموقوفة لذلك، سواء كان مدماكاً أم مدماكين لأن الكل يسمى بناء ولوجود علة تحريم البناء في ذلك وهي تحجير الأرض على من يدفن بعد بلاء الميت، إذ الغالب أن البناء يمكث إلى ما بعد البلى، وأن الناس يهابون فتح القبر المبني، فكان في البناء تضييق للمقبرة ومنع الناس من الانتفاع بها فحرم، ووجب على ولاة الأمر هدم الأبنية التي في المقابر المسبلة، ولقد أفتى جماعة من عظماء الشافعية بهدم قبة الإمام الشافعي -رحمه الله-وإن صُرفت عليها ألوف من الدنانير لكونها المقبرة المسبلة وهذا - أعني البناء في المقابر المسبلة - مما عمّ وطم، ولم يتوقِّه كبير ولا صغير فإنا لله وإنا اليه راجعون) [2].

وقال شيخ الإسلام الشوكاني -رحمه الله- في النيل في شرح حديث علي - رضي الله عنه: (قوله: "ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" فيه أن السنة أن القبر لا يرفع رفعاً كثيراً من غير فرق بين من كان فاضلاً ومن كان غير فاضل، والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرّم، وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك، والقول بأنه غير محظور لوقوعه من السلف والخلف بلا نكير - كماقال الإمام يحيى [3] والمهدي [4] في الغيث - لا يصح لأنه غاية ما فيه أنهم

(1) الفتاوى الكبرى للإمام العلامة أحمد بن محمد الهيثمي المكي (2/ 17) طبع دار الفكر ببيروت (1403 هـ-1983 م) .

(2) المرجع السابق (2/ 25) .

(3) ستأتي ترجمته في الباب الأول (ص 102) .

(4) الإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى، من كبار أئمة الزيدية ومن عليهم المعوَّل في الفقه بل إن كتابه (الأزهار) هو عمدتهم بلا منازع. بلغ درجة الاجتهاد وهي شرط من شروط الإمامة عند الزيدية فبويع له بالإمامة سنة (793 هـ) ولم يتم له الأمر، له عدد كبير من المصنفات من أشهرها:

- ... الأزهار وشرحه الغيث المدرار.

- ... البحر الزخار الجامع لمذهب علماء الأمصار.

- ... المنية والأمل في الملل والنحل.=

=وغيرها كثير، توفي - رحمه الله - سنة (840 هـ) .انظر البدر الطالع (1/ 122 - 126) ،بلوغ المرام في شرح مسك لختام للقاضي حسين بن أحمد العرشي ص (410) ، طبع دار إحياء التراث العربي ببيروت عني بطبعة الأب أنستاس ماري الكرملي.

سكتوا عن ذلك والسكوت لا يكون دليلاً إذا كان في الأمور الظنية، وتحريم رفع القبور ظني، ومِن رفعِ القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أولياً القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضاً هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعل ذلك كما سيأتي 0 وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج وملجأً لنجاح المطالب وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدّوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا.

وبالجملة إنهم لم يدَعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه - فإنا لله وإنا إليه راجعون - ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا تجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالماً ولا متعلماً ولا أميراً ولا وزيراً ولا ملكاً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين [1] أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً، فإن قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه- تعالى- ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً:

لقد أسمعت لوناديت حياً ولكن لاحياة لمن تنادي

ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ [2]

وقال صديق حسن خان: (أقول: الأحاديث الصحيحة وردت بالنهي عن رفع القبور، وقد ثبت من حديث أبي الهياج ما تقدم فما صدق عليه أنه قبر مرفوع أو مشرف لغة فهو من منكرات

(1) في المطبوع المقبورين وهو خطأ.

(2) نيل الأوطار (4/ 95) .

الشريعة التي يجب على المسلمين إنكارها وتسويتها، من غير فرق بين نبي وغير نبي، وصالح وطالح، فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره - صلى الله عليه وسلم - ولم يرفع قبورهم، بل أمر علياً بتسوية المشرف منها، ومات - صلى الله عليه وسلم - ولم يرفع قبرَه أصحابُه، وكان من آخر قوله: (( لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ،ونهى أن يتخذ قبره وثناً، فما أحق الصلحاء والعلماء أن يكون شعارهم هو الشعار الذي أرشدهم إليه - صلى الله عليه وسلم -، وتخصيصهم بهذه البدعة المنهي عنها تخصيص لهم بما لايناسب العلم والفضل؛ فإنهم لو تكلموا لضجوا مِن اتخاذ الأبنية على قبورهم وزخرفتها لأنهم لا يرضون بأن يكون لهم شعار من مبتدعات الدين ومنهياته، فإن رضوا بذلك في الحياة كمن يوصي من بعده أن يجعل على قبره بناء، أو يزخرفه فهو غير فاضل، والعالم يزجره علمه عن أن يكون على قبره ما هو مخالف لهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم -،فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور، وتشييدها، وما أسرع ما خالفوا وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته فجعلوا قبره على الصِفة التي هو عليها الآن وقد شدَّ من عضد هذه البدعة ما وقع من بعض الفقهاء من تسويغها لأهل الفضل حتى دوّنوها في كتب الهداية والله المستعان ... ) [1].

الأسلوب الثامن - إنكاره على من طلبوا أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها:

كما في قصة ذات أنواط والحديث بذلك أخرجه الترمذي -رحمه الله- في سننه في كتاب الفتن، باب "لتركبن سنن من كان قبلكم" من حديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذاتُ أنواط، يعلِّقون عليها أسلحتهم، قالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم: (( سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم )) قال أبوعيسى هذا حديث حسن صحيح [2] 0

فانظر- رحمك الله- كيف عظَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤالهم له أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها كما يفعل المشركون وذلك بعدة أمور، منها: التسبيح الذي يقال عند سماع الأمر العظيم، ومنها:

(1) الروضة الندية شرح الدر البهية للسيد صديق حسن خان (175 - 176) طبع دار الندوة الجديدة ببيروت (1404 هـ-1984 م) .

(2) سنن الترمذي (4/ 475) طبع شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، ط الأولى (1382 هـ - 1962 م) تحقيق وتعليق إبراهيم عطوه عوض، وقال الشيخ الألباني في صحيحه (2/ 235) : (صحيح) ، طبع مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط الأولى (1408 هـ -1988 م) 0

تشبيه طلبهم ذلك بطلب قوم موسى حين قالوا له: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [1]، ومنها: الإخبار بالسُنَّة الماضية من اتِّباع هذه الأمة لغيرها من الأمم السابقة فيما وقعوا فيه من الفتن والضلال وإقسامه على ذلك 0

فهذا كله برهان واضح على خطورة تلك المظاهر الوثنية وماتجرُّه على الأمة من انحراف في عقيدتها ولهذا حذر العلماء - رحمهم الله- من وجود مثل تلك الأماكن التي يعظِّمها العوام ويتبركون بها ويعتقدون فيها شيئاً من النفع والضر، أو يقومون عندها بشعائر تعبدية مبتدعة أو شركية، قال الإمام أبوبكر الطرطوشي [2] - رحمه الله - في كتابه "الحوادث والبدع" بعد سياق هذا الحديث: (فانظروا - رحمكم الله - أينما وجدتم سدرة وشجرة يقصدها الناس، ويعظِّمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها) [3] 0

وقال الإمام أبو شامة الدمشقي الشافعي [4] -رحمه الله- في كتابه "الباعث على إنكارالبدع والحوادث" وهو يتكلم عن البدع والمحدثات المستقبحة: (ومن هذا القسم أيضاً: ماقد عمَّ به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد [5] وسرْج مواضع في كل بلد يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع

(1) الأعراف (138) .

(2) الإمام العلامة محمد بن الوليد بن محمد الفهري المعروف بالطرطوشي، ولد بطرطوشه ببلاد الأندلس، ثم رحل إلى أهل بلده في طلب العلم ثم إلى المشرق العربي، واستقر به المقام بالإسكندرية حتى توفي بها رحمه الله، ولد سنة (451 هـ) وتوفي سنة ... (520 هـ) انظر الأعلام (7/ 133 - 134) ومقدمة كتابه الحوادث والبدع تحقيق عبدالمجيد تركي، طبع دار الغرب الإسلامي ط الأولى (1410 هـ-1990 م) .

(3) الحوادث والبدع للإمام محمد بن الوليد الطرطوشي (ص 105) 0

(4) الإمام الحافظ المجتهد شهاب الدين أبو القاسم عبدالرحمن بن إسماعيل الدمشقي الشافعي المعروف بأبي شامة، قال عنه السخاوي (كان عالماً راسخاً في العلم، مقرئاً محدثاً نحوياً، يكتب الخط المليح المتقن مع التواضع والانطراح والتصانيف العدة) ولد سنة (599 هـ) وتوفي - رحمه الله - سنة (665 هـ) . انظر: البداية والنهاية (13/ 250 - 251) ، والإعلان بالتوبيخ ... (ص 60) طبع دار الكتاب العربي طبعة مصورة عن نسختي الأستاذ المحقق أحمد باشا تيمور (1403 هـ- 01983 م) .

(5) التخليق: أي طليها بالخلوق (والخلوق: طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصفرة) لسان العرب (10/ 91) ، و (العُمُد: جمع عمود) وانظر المعجم الوسيط (2/ 626) .

تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها؛ وهي ما بين عُيونٍ وشجرٍ وحائطٍ وحجر. وفي مدينة دمشق - صانها الله تعالى من ذلك- مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق - سهَّل الله قطعها واجتثاثها من أصلها- فما أشبهها بذات أنواط الوارد في الحديث ... ) [1] وذكر الحديث السابق 0

فانظر كيف فهم العلماء- رحمهم الله تعالى - من هذا الحديث النهي عن هذه المظاهر الوثنية القبورية وأنها تؤدي إلى الشرك بالله تعالى وعبادة غيره كما قال ابن القيم [2] -رحمه الله تعالى-: (فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت 0 ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر 0 أي تقبل العبادة من دون الله تعالى فإن النذر عبادة وقربة، يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه، ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى كما ذكر الأزرقي [3] في كتاب "تاريخ مكة" عن قتادة في قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [4] قال: (إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من

(1) الباعث على إنكار البدع والحوادث للشيخ عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة الدمشقي ص (101) 0 طبع دار الراية للنشر والتوزيع الرياض الطبعة الأولى (1410 هـ- 1990 م)

(2) العلامة المحقق الأصولي الفقيه النحوي شمس الدين أبوعبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية، صحب الإمام ابن تيمية ووافقه في كثير من آرائه دون تقليد وأُوذي وحبس معه حتى مات شيخه فأفرج عنه، تعتبر كتبه شجىً في حلوق المبتدعة وقرة عين لأهل السنة، لاسيما زاد المعاد الذي لاتكاد تخلو منه مكتبة عالم موافق له أو مخالف رحمه الله، ولد سنة (691 هـ) وتوفي سنة (751 هـ) . انظر ترجمته: في البداية والنهاية (14/ 234 - 235) والدرر الكامنة ... (3/ 400 - 403) 0

(3) الإمام الشيخ محمد بن عبدالله بن أحمد الأزرقي المكي صاحب أول تاريخ موجود لمكة المكرمة، مات سنة (250 هـ) ... انظر: مقدمة كتابه أخبار مكة طبع مطابع دار الثقافة بمكة تحقيق رشدي الصالح ملحس الطبعة الثامنة (1416 هـ -1996 م) ، الأعلام (6/ 222) .

(4) البقرة (125) .

رأى أثره وأصابعه فمازالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق) [1]. وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب فتنة القبور وهي أصل فتنة عبادة الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين وقد تقدَّم) [2] 0

وعلى ذلك فإن تنبيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، هو تنبيه للأمة كلها ألا يتبعوا الأمم الضالة فيما سلكوه من سبل الضلال، ومن أهمها وسائل الشرك 0

الأسلوب التاسع - نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يذبح لله في مواضع الشرك وأعياد الجاهلية:

فقد روى أبوداود من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال: (نذر رجل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلاً ببوانة [3] فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم، قالوا: لا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك فإنه لانذر في معصية الله ولافيما لا يملك ابن آدم )) [4] 0

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استوضح السائل عن سر تخصيصه لذلك المكان بالذبح فيه، لأنه ربما كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يذبح له من دون الله، أو كان فيه عيد من أعيادهم، وخشي أن يكون ذلك السائل أراد التشبه بهم في ذلك، أو أنه بقي لديه شيء من آثار تعظيم ذلك المكان، فلما أجاب السائلُ بالنفي أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - نذره وأمره بالوفاء به، معلناً له وللأمة كلها أنه لاوفاء لنذر في معصية الله، ومن ذلك يفهم أنه لوكان في ذلك المكان وثن يعبد، أو عيد من أعياد الجاهلية، لكان ذلك النذر بتخصيص ذلك المكان معصية ولما جاز الوفاء به، وماذاك إلا لاستئصال كل مايؤدي إلى تعظيم الأماكن التي يؤدي تعظيمها إلى إفساد العقيدة، وإيجاد نوع من التعظيم القلبي الذي يوجب الشرك بالله في ذلك 0

(1) أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار لأبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي (2/ 29 - 30) 0

(2) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (1/ 212) طبع دار المعرفة ببيروت بتحقيق محمد حامد الفقي 0

(3) بضم الموحدة وبعد الألف نون وقيل بفتح الباء: هضبة من وراء ينبع 0 انظر: عون المعبود (9/ 140)

(4) رواه أبوداود (9/ 140) مع عون المعبود وقال الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول: (وإسناده صحيح) (11/ 140) جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - طبع دار الفكر بيروت ط الثانية (1403 هـ - 1983 م) ، وكذلك صححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (2/ 636) 0

قال شيخ الإسلام ابن تيمية [1] - رحمه الله- في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" : (وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله من وجوه:

أحدها - أن قوله (( فأوفِ بنذرك )) تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف هو سبب الحكم فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خالياً من هذين الوصفين فيكون الوصفان مانعين من الوفاء ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به 0

الثاني - أنه عقب ذلك بقوله: (( لاوفاء لنذر في معصية الله )) ولولا اندراج الصورة المسؤول عنها في هذا اللفظ العام، وإلا لم يكن في الكلام ارتباط والمنذور في نفسه - وإن لم يكن معصية - لكن لما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصورتين قال له: (( فأوفِ بنذرك )) حيث ليس هناك مايوجب

(1) شيخ الإسلام وعلم الأعلام ومجدد القرن الثامن أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، لايفي بالتعريف به أسطر قليلة، كيف وقد أفردت لترجمته مؤلفات جليلة، كان رحمه الله أمة في عصره وبعد عصره، جمع الله له من أبواب الخير مالم يجمعه لسواه منذ القرون الأولى للإسلام؛ جاهد في الله حق جهاده بسنانه ولسانه وبنانه حتى أتاه اليقين، وهو مجدد منهج السلف الصالح وليس مبتدعا فيه كما ير يد أن يلبسه ذلك أعداء السنة الذين يحاربونها بالطعن في ذاته الشريفة، ورافع لواء التوحيد وليس مخترعاً سبيله، توفي رحمه الله مسجوناً في ذات الله من أجل إعلان كلمة الحق في زمن يضيق بها أهله، وتصغر عن فهمها عقولهم، وتتضرر به مصالحهم فنشر بذلك ذكره وعلا قدره ومات واندرس ذكرُ وقدرُ مناوئيه فلايكاد يذكرهم أحد بخير 0 ولد سنة (661 هـ) وتوفي رحمه الله سنة (728 هـ) انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ للإمام للذهبي (4/ 1496 - 1497) طبع دار الكتب العلمية بيروت بدون تاريخ، والبداية والنهاية ... (14/ 135 - 140) ، والتذكرة والإعتبار والانتصار للأبرار في الثناء على شيخ الإسلام والوصاية به لعماد الدين الواسطي طبع دار العاصمة بالرياض ط الثانية (1415 هـ -1994 م) تحقيق د. عبد الرحمن الفريوائي، والأعلام العلية في مناقب ابن تيمية لعمر بن علي البزّار طبع المكتب الإسلامي بيروت ط الثانية (1396 هـ) تحقيق زهير الشاويش، والجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون لمحمد عزيز شمس وعلي العمران طبع دار عالم الفوائد مكة ط الأولى (1420 هـ) .

1 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق الدكتور ناصر العقل (1/ 440 - 443) ... ط الأولى (1404 هـ) ليس عليه اسم الدار، مع شيء من الاختصار.

تحريم الذبح هناك، فكان جوابه - صلى الله عليه وسلم - فيه أمراً بالوفاء عند الخلو من هذا، ونهى عنه عند وجود هذا، وأصل الوفاء بالنذر معلوم، فبين ما لا وفاء فيه.

الثالث - أنه لوكان الذبح في موضع العيد جائزاً لسوغ - صلى الله عليه وسلم - للناذر الوفاء به كما سوّغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به بل لأوجب الوفاء به إذ كان الذبح بالمكان المنذور واجباً 0 وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهياً عنه فكيف بالموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم ... ) ثم أخذ يتكلم عن العيد واشتقاقاته ثم قال: ( ... ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها، بالتعييد فيها، أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك 0 إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه 0

فإن كان من أجل تخصيص البقعة - وهو الظاهر - فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم، ولهذا لما خلت من ذلك أذن في الذبح، وقصد التخصيص باق، فعلم أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم.

وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً، فكيف نفس عيدهم؟. هذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان كان ذلك أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان ... فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أن يذبح في مكان كان الكفار يعملون فيه عيداً - وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد، والسائل لايتخذ المكان عيدا ً، بل يذبح فيه فقط - فقد ظهر أن ذلك سداً

للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم؛ خشية أن يكون الذبح هناك سبباً لإحياء أمر تلك البقعة؛ وذريعة لاتخاذها عيداً) [1] 0

وقال الملا علي القاري - رحمه الله - في شرح المشكاة: (وهذا كله احتراز من التشبه بالكفار في أفعالهم) [2] 0

(2) المرقاة (6/ 609) 0

المبحث الثالث

هدي الإسلام في التعامل مع القبور وزيارتها

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: موازنة الإسلام بين مصالح الأحياء والأموات بالحفاظ على كرامة الأموات وعقيدة الأحياء:

من مزايا الإسلام شموله وكماله، ووسطيته واعتداله، وموازنته بين المصالح والمفاسد؛ بحيث لا يحث على جلب منفعة يترتب عليها حدوث مفسدة، أو تفويت مصلحة أعظم منها، ومن هذا المنطلق جاءت نظرته إلى مقابر المسلمين، فحفظت للأموات كرامتهم وشرعت ما فيه مصلحتهم، ونهت عن تقديس القبور تقديساً يؤدِّي إلى تعظيمها في نظر الأحياء وافتتانهم بها والاعتقاد في أصحابها ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله.

فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن امتهان المقابر بجعلها مواطن لقضاء الحاجة [1]، وعن وطء القبور [2]، والجلوس عليها [3]،وعن كسر عظام الميت [4]، وحذر علماءُ المسلمين وفقهاؤهم من نبش القبور لغير مصلحة تعود على الميت أو ضرورة تلجئ إلى ذلك [5]، وأرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الماشي بين القبور أن يخلع نعليه [6]، وهذه الأمور فيها غاية الحفاظ على قبور المسلمين، وغاية التكريم لأمواتهم.

وحتى لا يؤدِّي تكريم أموات المسلمين، والحفاظ عليهم إلى تقديسهم والغلوّ فيهم، فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يؤدي إلى ذلك. فنهى عن الصلاة على القبور وإليها [7]، ونهى أن تتخذ مساجد [8]،

(1) لما رواه ابن ماجه من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي على جمرة أوسيف أو أخصف نعلي برجلي، أحب إليَّ من ان أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق) ،كتاب الجنائز باب ما جاء في النهي عن المشي على القبور والجلوس عليها (1/ 499) ،وصححه الشيخ الألباني في صحيحه ... (1/ 261) ، طبع مكتب التربية العربي لدول الخليج ط الثالثة (1408 هـ -1988 م) .

(2) للحديث السابق.

(3) لحديث أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر مسلم )) .رواه مسلم كتاب الجنائز باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه والجلوس عليه ... (7/ 37 - 38) مع النووي.

(4) لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً )) رواه أحمد (6/ 58) وأبو داود في كتاب الجنائز باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان؟ (2/ 231) ، وابن ماجه كتاب الجنائز باب في النهي عن كسر عظم الميت (1/ 516) ،وصححه شيخنا الألباني في صحيح أبي داود (2/ 618) .

(5) انظر المجموع للإمام النووي تحقيق الشيخ محمد نجيب المطيعي (5/ 246، 266 - 277) طبع مكتبة الإرشاد جده بدون تاريخ.

(6) لحديث بشر مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يمشي بين القبور عليه نعلان فقال: (( ياصاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك )) . فنظر فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلعهما فرمى بهما) رواه أبو داود في كتاب الجنائز = ... = باب المشي في النعل بين القبور (2/ 236) وحسنه الشيخ الألباني في صحيحه (2/ 622) ، وكذا روى نحوه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ماجاء في خلع النعلين في المقابر (1/ 499) وحسنه الشيخ الألباني في صحيحه (1/ 261) .

ورد ذلك من حديث ابن عباس وأبي مرثد الغنوي وقد سبقا مع تخريجهما ص (13) .

(7) 4 صح بذلك الأحاديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم انظر طائفة منها ص (16 - 17) .

(8) 5 كما في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما وقد سبق (ص 19)

وعن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها [1]، وأمر بتسوية القبور المشرفة التي ترفع فوق الحد الذي يسمح به الشرع [2]، وقد عقل الصحابة والتابعون لهم بإحسان، والأئمة المقتدى بهم ذلك، وحافظوا على ذلك الهدي الصالح، والطريقة الرشيدة حتى نهاية القرون المفضلة، عندما آلت ولاية المسلمين إلى الروافض والباطنية فغيّروا وبدّلوا وأماتوا سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ونشروا سنة اليهود والنصارى في بلاد المسلمين، وتبعهم على ذلك جهلة الحكام، ومنحرفو المتصوفة، حتى شاع ذلك في بلاد المسلمين، وصار هو الغالب على كثير منها رغم تحذير العلماء وتقرير الفقهاء، وصيحات الغيورين على سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -) [3].

المطلب الثاني: تعامل الصحابة مع ما عرف من قبور الأنبياء:

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى - تعاملهم مع قبر النبي - صلى الله عليه وسلم:

لقد مرت بنا أحاديث لعنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود والنصارى؛ حيث اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد [4]، وأن ذلك كان في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم - [5]، بل كان آخر ذلك في حال نزول الموت به - صلى الله عليه وسلم - [6]، وقدصرحت عائشة رضي الله عنها أنه كان (( يحذرماصنعوا )) ،وصرحت أن الصحابة لم يبرزوا قبره لتلك العلة.

وهذا الذي فهمته عائشة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي لعن فيها اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد- هو الفقه الصحيح والفهم الثاقب اللائق بها رضي الله عنها، وليس هو فهمها وحدها رضي الله عنها، وإنما فَهْمُ الصحابة جميعا ً، والدليل على ذلك أنهم دفنوه كما يدفن

(1) 6 صح ذلك من حديث فضالة بن عبيد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقد سبقا مع تخريجهما ص (23) 0

(2) 7 الكشف المبين عن حقيقة القبوريين زيارة هود وما فيها من ضلالات ومنكرات للباحث ص (39 - 40) ط الأولى ... (1420 هـ - 1999 م) 0

(4) من ذلك حديثان عن عائشة وحديث عنها وعن ابن عباس رضي الله عنهما انظر فيما تقدم ص (16 - 17) وحديث جندب بن عبدالله وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما (ص 19) 0

(5) كما في حديث جندب السابق في الهامش 1 0

(6) كما في حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما السابقين في الهامش 1 0

سائرالمسلمين لم يميّزوه بشيء عن سائر الموتى إلاوضع قطيفة في لحده [1] حيث لا يخشى من ذلك أي تأثير علىعقائدالناس إذ لم تكن ظاهرة لهم ولا يمكن أن يفتتن بها أحد. وأما هيئة القبر فإنه كسائر القبور، فقد روى البخاري - رحمه الله - عن سفيان التمار أنه (رأىقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً) [2]. قال الحافظ: (أي مرتفعاً) [3].

قلت: الارتفاع المشروع فقط، يفسره مارواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: ياأماه اكشفي لي قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لامشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء) [4] وزاد الأمر وضوحاً مارواه الآجُرّي في كتاب صفة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق إسحاق بن عيسى بن بنت داود بن أبي هند عن غنيم بن بسطام المدني قال: رأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في إمارة عمر بن عبدالعزيز فرأيته مرتفعاً نحواً من أربع أصابع ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه) [5].

فهذه الروايات تبين ما كان عليه قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه، وأنها ليس عليها أي أثر من آثار التعظيم والتقديس، وإنما هي قبور عادية كسائر القبور، لا مجصصة، ولا مرتفعة، وليس عليها توابيت، ولا سرج، ولا ثياب، ولا أي شيء مما ابتدعته القبورية فيما بعد، وهذا كله يحقق لنا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في القبور، وأنَّ ما خالفه إنما هو هدي اليهود والنصارى الذين استحقوا اللعن على ذلك.

وكمافهم الصحابة - رضي الله عنهم - من تلك الأحاديث أنه لا يجوز إضفاء ملامح العظمة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور المسلمين، كذلك فهموا أنه لو أبرز قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لربما أدَّى الى ان يفتتن الناس به، وأن

(1) مسلم مع النووي (7/ 34) كتاب الجنائز باب جعل القطيفة في القبر 0

(2) البخاري مع الفتح (3/ 255) كتاب الجنائز باب ماجاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما 0

(3) المرجع السابق (3/ 257) 0

(4) رواه أبوداود (2/ 234) كتاب الجنائز باب تسوية القبور، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 3) كتاب الجنائز باب تسوية القبور وتسطيحها طبع دار المعرفة بيروت بدون تاريخ، ورواه الحاكم أيضاً (1/ 700 - 701) طبع دار المعرفة بيروت ط الأولى (1418 هـ -1998 م) ، وقال الأرناؤوط في نخريج جامع الأصول (11/ 82) "إسناده حسن" 0

(5) الفتح (3/ 255) كتاب الجنائز باب ماجاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

يعملوا عنده مالا يجوز، وذلك جَعَلَه يدعو ربه أن يجنبه إياه، ولقد استجاب الله دعاءه، وحماه بما فعله الصحابة رضوان الله عليهم، ثم التابعون رحمهم الله كماقال الإمام ابن القيم-رحمه الله-:

فأجاب ربُّ العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدرانِ

حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عِزّة ٍوحمايةٍ وصيانِ

ففي عهد الصحابة - رضي الله عنهم - كان في بيت عائشة -رضي الله عنها- وكان لا يدخل عليه ولا يصل إليه أحد إلا بإذنها، ولم يُنقَل أن الناس كانوا يستأذنونها لزيارته، وإنما يسلمون من المسجد ثم ينصرفون، ثم دفن معه أبو بكر ثم عمر ولم يدفن عمر - رضي الله عنه - إلا بإذنها -رضي الله عنها- وقد روى قصة دفنه مع صاحبيه البخاري -رحمه الله- في صحيحه [1]، ومما يؤيد أن القبر كان بعيداً عن أنظار الناس وعن وصولهم إليه؛ قصة القاسم بن محمد المتقدمة قريباً في هذا البحث، وأنه عندما رغب في رؤية القبر استأذن عائشة في ذلك فكشفت له عن القبور، أي أنها فتحت الباب وكشفت الستارة التي على الباب الذي في الجدار الذي بنته عندما دفن عمر - رضي الله عنه - مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ليكون حائلاً بينها وبين القبور [2]، وهذا دليل قوي على أن القبور كانت في غاية الصيانة والبعد عن وصول الناس، حتى أقرب الناس إلى عائشة لا يرونها إلا بإذن منها رضي الله عنها،

ومما يؤكد ذلك أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه عن هشام بن عروة عن أبيه: (لما سقط عليهم الحائط [3] في زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فما وجدوا أحداً يعلم ذلك حتى قال لهم عروة، لا والله ما هي قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما هي إلا قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) [4]، فانظر كيف كان ذلك الجمع الحاضر لتلك الحادثة غير مميز لمواقع القبور بعضها من بعض مما يؤكد أنها كانت محجوبة عنهم لا يعرفون عنها شيئاً.

ومما يؤكد أن القبر الشريف كان محجوباً عن الناس، لا يصلون اليه إلا بطريقة غير مأذون فيها، ولا مقرة من أهل العلم وأولي الأمر، حديث علي بن الحسين زين العابدين -رحمه الله- أنه رأى

(1) البخاري مع الفتح (3/ 256) كتاب الجنائز باب ماجاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

(2) انظر وفاء الوفاء (2/ 544) طبع دار إحياء التراث العربي بيروت ط الرابعة (1404 هـ -1984 م) تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد 0

(3) أي حائط بيت عائشة رضي الله عنها وذلك عندما أراد عمر بن عبدالعزيز رفع الحائط حول الحجرة الشريفة حيث رأى بعض الناس يصلون إلى القبر فلما حفر حول الحائط القديم انهدم فبدت تلك القدم، انظر الفتح (3/ 257) 0

(4) البخاري مع الفتح (3/ 255) كتاب الجنائز باب ماجاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما 0

رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فنهاه، وقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي فإن تسليمكم ليبلغني أين كنتم )) [1]. فأنت ترى أن الرجل كان يدخل من فرجة، إذاً هناك جدار محيط بالقبر مغلق عليه غير أن فرجة فتحت بأيّ سبب من الأسباب استغلَّها ذلك الرجل، فصار يدخل إلى عند القبر فيسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاه ذلك الإمام العظيم علي بن الحسين زين العابدين -رحمه الله-، والجدار الذي أشرتُ اليه هو جدار حجرة عائشة رضي الله عنها التي سبقَ أن أشرتُ إليها فيما مضى وهذا -رواية سقوط جدار عائشة- من أوضح الأدلة على ما ذكرت من حجب القبر عن الناس وكذلك -رواية زين العابدين- على موقف علماء السلف ممن يحاول أن يصل إلى القبر ظاناً أن في ذلك قُرْبى وفضيلة، والله أعلم.

المسألة الثانية - تعاملهم مع قبر النبي دانيال عليه السلام [2]:

لقد تعلَّم الصحابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن سبب حدوث الشرك في العالم هو الغلوّ في الصالحين، وفهموا من نهيه المكثف آخر حياته، وفي مرض موته، أن قبور الأنبياء والصالحين لا يجوز تعظيمها، وأن اليهود والنصارى استحقوا اللعن حينما بنوا المساجد على قبورهم، وصوَّروا فيها صورهم، لذلك تعاملوا مع قبره بالشكل الذي سبق في المسألة الأولى من هذا المطلب.

وعندما انسابت جيوش المسلمين في أرجاء الأرض فاتحةً -تقتلع الشرك من النفوس، وتقتلع وسائله ومظاهره من على وجه الأرض، ووصل جيش أبي موسى الأشعري مدينة تَستُر [3] -وجدوا رجلاً يعظِّمه أهل البلد، ويستنزلون به الغيث، ويتوسلون به إلى ربهم، ويذكرون أنه النبي دانيال أحد أنبياء بني إسرائيل الذين أُتيَ بهم إلى هذه الجهة أيام بختنصر، فخشي أن يبقى بين الناس فيفتتنون به، ويغلُون فيه، فعمل على إخفائه، وإبعاده عن متناول الناس، وطمس قبره؛ حتى لا يعرفه أحد أبداً، ولم يشفع كونه نبياً أو صالحاً أن يبرزه أو يميِّز قبره.

(1) رواه أحمد في المسند (2/ 367) ،وأبو داودفي كتاب المناسك باب زيارة القبور (1/ 622) برقم (2042) ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده (1/ 361) رقم (469) ، وقال المحقق عبدالقادر الأرناؤوط في تخريج كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب طبع دار السلام الرياض 1413 هـ (ص 90) : وهوحديث صحيح بشواهده وطرقه حسنة 0

(2) يقال إنه أحد أنبياء بني إسرائيل الذين أسرهم بختنصر وسار بهم إلى بابل وأنه مات ببلد السوس، انظر البداية والنهاية ... (2/ 325) وانظر خبره (2/ 40 - 42) 0

(3) تَستُر: هي أعظم مدينة بخوزستان من بلاد العجم. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي (2/ 29) .

قال الإمام ابن كثير-رحمه الله تعالى- في تاريخه: (وقال يونس بن بكيرعن محمدبن إسحاق عن خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال: لما افتتحنا تَستُر وجدنا في بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه الى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، قال: فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا، فقلت: لأبي العالية ما كان فيه؟ قال: سيركم وأمركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه وسوَّينا القبور كلها، لتعميته على الناس فلا ينبشونه قلت: فما يرجون منه؟ قال: كانت السماء اذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون، قلت: مَن كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، قلت: منذ كم وجدتموه قد مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت ما تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية) [1].

قلت: قد يطعن البعض في هذه الرواية لقوله فيها: (منذ ثلاثمائة سنة) إذ من المعلوم أن آخر رسل وأنبياء بني إسرائيل هو عيسى عليه السلام، وأنه لا نبي بينه وبين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -،وأنه من المتفق عليه أن ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام أكثر من ثلاثمائة سنة بكثي ر، وكان ابن كثير قد أجاب عن هذا الإشكال فقال: (ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظاً من ثلاثمائة سنة فليس بنبي بل هو رجل صالح لأن عيسى بن مريم ليس بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي بنص الحديث الذي في البخاري [2] والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة، وقيل ستمائة، وقيل ستمائة وعشرون سنة، وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة، وهو قريب من وقت دانيال، إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الأمر، فإنه قد يكون رجلاً آخر، إما من الأنبياء، أو الصالحين، ولكن قربت الظنون أنه دانيال؛ لأن دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجوناً كما تقدم) [3]. قلت: كيفما كان الأمر فموضع الشاهد محفوظ لنا وهو أن الصحابة منهجهم الذي تلقَّوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - هو طمس القبور، وإخفاؤها سواء كانت لأنبياء أو صالحين أو غيرهم، بل كلما كان العبد ذا منزلة أعظم كانت عنايتهم بإخفاء قبره أكبر لأن خوف الفتنة حينئذ أشد.

(1) البداية والنهاية (2/ 40) 0

(2) البخاري مع الفتح (6/ 477 - 478) كتاب الأنبياء باب قول الله: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} ولفظه: (أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(3) البداية والنهاية (2/ 40 - 41) 0

المطلب الثالث: كيف تصرَّف التابعون حين اضطروا إلى توسعة المسجد ليشمل الحجرة النبوية موضع القبر الشريف في خلافة الوليد بن عبدالملك؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍!

كان الوليد بن عبد الملك [1] من أشهر خلفاء بني أُميَّة، وهو أكثرهم عنايةً بالبناء والعمران حتى لقب مهندس بني أميَّة [2]، وكان بين بني أمية وآل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عداء تاريخي كما هو معلوم، فلا يرضى خلفاء بني أمية أن يتميز عنهم آل علي - رضي الله عنه - بأي فضيلة، وكان بيت فاطمة رضي الله عنها ضمن أبيات النبي - صلى الله عليه وسلم - الواقعة على الحد الشرقي للمسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، فتوافقت رغبة الوليد في بناء المسجد، وتشييده بما يليق به وبعظمة الخلافة في عهده مع الرغبة في إلغاء تلك الميزة التي يتميز بها بنو علي - رضي الله عنه - بسكناهم في بيت فاطمة رضي الله عنها جوار المسجد، وبين أبيات النبي - صلى الله عليه وسلم -،فصمم على تنفيذ ذلك المشروع وهو توسعة المسجد من جوانبه الأربعة، وإدخال حجر أمهات المؤمنين وحجرة فاطمة وحجرة عائشة رضي الله عنهن جميعاً في المسجد إضافة إلى أن بعض المؤرخين قد ذكروا أن بعض جدران الحجرة قد بدأ فيه الخلل نتيجة القِدَم [3]، وعندما وصل خطابه بذلك إلى واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء العشرة [4] ووجوه الناس، وأخبرهم بما أمر به الوليد فأنكروا ذلك، وكرهوه، ورأوا أن بقاء

(1) ولي الخلافة سنة (86 هـ) وتوفي سنة (96 هـ) 0

(2) الشامل في تاريخ المدينة (1/ 396) للدكتور عبد الباسط بدر الطبعة الأولى (1414 هـ -1993 م) .

(3) انظر لهذه المبررات كلها المرجع السابق (1/ 395 - 396) .

(4) 5 وهم: سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود (ت 94 هـ) وعروة بن الزبيربن العوام ... (ت 94 هـ) ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (ت 106 هـ) ، وأبوبكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي (ت 94 هـ) ، وسليمان بن يسار مولى ميمونة رضي الله عنها (ت 100 هـ) ، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري ... (ت 100 هـ) . هؤلاء هم الفقهاء السبعة يجمعهم هذان البيتان:=

إذا قيل من في العلم سبعة أبحرٍ ... روايتهم ليست عن العلم خارجة

فقل هم عبيدالله عروة قاسم ... سعيد أبوبكر سليمان خارجة ...

ولعل تكملة العشرة هم: سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب (ت 106 هـ) ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف ... (ت 104 هـ) ، وأبان بن عثمان (ت 105 هـ) .وانظر: سير أعلام النبلاء (4/ 354) ، و الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/ 291 - 294) .للشيخ محمد الحسين الحجوي الثعلبي الفاسي طبع المكتبة العلمية بالمدينة المنورة (1397 هـ- 1997 م) 0

بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - على حالها أدعى للعبرة، والاتعاظ، فكتب عمر بن عبد العزيز للوليد فرد بإنفاذ الأمر وعزم على عمر بذلك فنفذ ما أمر به [1]، وعارض في ذلك سعيد بن المسيب، قال ابن كثير-رحمه الله-: (كأنه خشيَ أن يُتَّخذَ القبر مسجداً والله أعلم) [2].

وأصرحُ من ذلك ما نقله السمهودي عن عروة بن الزبير أنه قال: (نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة فأبى وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه، قال قلت: فإن كان ولا بد فاجعلوا له حوجواً - قال السمهودي: (أي وهو الموضع المزور خلف الحجرة) [3].

قلت: وهذا العمل الذي أشار به عروة - رحمه الله- هو الذي ذكره الإمام النووي -رحمه الله - حيث قال: (ولما احتاجت الصحابة [4] رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر. ولهذا قال في الحديث: (( ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً )) [5] والله أعلم بالصواب) [6].

(1) البداية والنهاية (9/ 74) 0

(2) 5 المرجع السابق (9/ 75) 0

(3) وفاء الوفاء (2/ 548) .

(4) الصحيح أن ذلك في عهد كبار التابعين أما الصحابة فلم يبق بالمدينة أحد منهم آنذاك إلا على قول في كل من السائب ابن يزيد وسهل بن سعد ولكن ابن عبدالهادي جزم أنه لم يوجد حينذاك أحد بها من الصحابة. انظر: الصارم المنكي في الرد على السبكي للشيخ محمد أحمد بن عبد الهادي تحقيق الشيخ عقيل بن محمد المقطري طبع مؤسسة الرياض بيروت الطبعة الأولى ... (1414 هـ- 1992 م) ص (303) ، وفتح المغيث شرح ألفية الحديث (3/ 116) للشيخ محمد بن عبد الرحمن السخاوي تخريج وتعليق الشيخ صلاح محمد عويضة طبع دار الكتب العلمية ببيروت الطبعة الأولى (1414 هـ- 1993 م) .

(5) تقدّم تخريجة ص (17)

(6) شرح مسلم (5/ 12 - 13) .

هذا ما فعله أهل العلم وأولو الأمر عندما اضطروا إلى ذلك سترًا للقبر ستراً كاملاً، فلا يُنظر، ولا يتمكن أحد من الصلاة إليه، وما ذاك إلا أنهم فهموا الأحاديث الناهية عن الصلاة على القبور وإليها، وعن اتخاذ القبور مساجد، وفهموا العلة في ذلك النهي، فعملوا على إزالة تلك العلة وفي هذا أبلغ رد على شبهة القبوريين الذين يحتجون بأن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده [1].
المطلب الرابع هدْيُ الإسلام في زيارة القبور

كما هو الشأن في سائر شرائع الإسلام أنها تكون في غاية من الاعتدال والسماحة، وصادرة عن حكمة بالغة تضمن لمن عمل بها على بصيرة: الفوز، والنجاح، والسعادة، دون أن يتعرض بسببها لأي نوع من أنواع الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة.

كذلك كانت شرعية زيارة القبور في الإسلام حينما كان الناس حدثاء عهد بالكفر والشرك وعبادة غير الله نهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الزيارة، حتى يكون هناك برزخ فاصل بين العهدين عهد الشرك وعهد التوحيد، وعهد الجاهلية وعهد الإسلام حتى يذهب ما في النفوس من الالتفات إلى الأرض وما عليها مما يقدِّسه الناس، وعهد السموّ الروحي والصفاء القلبي والذهني الذي لا يبقى معه التفات إلى غير الله - عز وجل -.

وفعلاً حينما حصل ذلك؛ خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته قائلاً: (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )) [2] (( فإنها تذكر الموت )) ،وفي رواية: (( فإن في زيارتها تذكرة )) ، وفي أخرى: (( فإنها

(1) انظر ذلك وأضف إليه ما سبق نقله عن النووي وابن حجر من شرحهما لحديث موسى عليه السلام حيث صرحا بأنه قصد إخفاء قبره خشية الفتنة على قومه، ثم انظر إلى معاكسة القبورية لذلك حيث يقول أحد مؤلفيهم المعاصرين: ( ... ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثة الإسراء والمعراج قد عرفهم ووصف لهم قبر موسى - عليه السلام - وقال: (( لو كنت هناك لأريتكم إياه )) .هو بنفسة عليه الصلاة والسلام يتولى تعريفهم بهذا الموطن المبارك من أجل ماذا؟!! من أجل إقامة الصلات والروابط بين المؤمنين وأنبيائهم وصلحائهم وأوليائهم بالتأدب معهم وسلوك طريقتهم وزيارتهم في حياتهم وبعد مماتهم، وهومقصد سامي سعت إليه شريعتنا له أثر بيِّن على القلوب، فالمرء يوم القيامة مع من أحب، ولاينبغي أن يصرف ولاؤنا إلى غير هؤلاء القوم الذين اصطفاهم بارئهم، ومن بين خلقه اجتباهم).انظر الدر المنضود في أخبار قبر وزيارة النبي هود، لفهمي بن علي بن عبيدون التريمي الحضرمي، دار الفقيه للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1419 هـ.

(2) رواه مسلم في كتاب الجنائز باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في زيارة قبر أمه من حديث أبي هريرة وانظرلشرح النووي (7/ 46) .

تذكر الآخرة )) [1]، وفي ثالثة: (( فزوروها ولتزدكم زيارتها خيراً )) [2]،وفي رواية رابعة: (( فإن فيها عبرة )) [3]، ومن حديث أنس - رضي الله عنه: (( ثم بدا لي أنها تُرقّ القلب وتُدمع العين وتُذكر الآخرة فزوروها ولا تقولوا هُجراً )) [4].

وبهذا يشرع لنا الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيارة القبور مع بيان العلة فيها وهي تذكرة الموت، والدار الآخرة، وتزهِّد في الدنيا، وترق القلب وتدمع العين، وينبغي أن يحرص الزائر أن تزيده زيارته للمقابر خيراً، وهذا كله فيما يخص الزائر.

أما الأموات فإن لهم فيها نصيباً أيضاً حيث كان - صلى الله عليه وسلم - إذا زارهم يدعو ويستغفر لهم، كما روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجَّلون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ) ) [5]،وعنها رضي الله عنها أنها سألته إذا هي زارت القبور ما تقول: قال: (( قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )) [6].

ففي هذه الأحاديث بيان أن من مقاصد الزيارة وعللها السلام على الأموات والدعاء والاستغفار لهم، قال الإمام الصنعاني -رحمه الله- في "سبل السلام" بعدما شرح أحاديث الإذن بالزيارة:

(1) انظر تخريجها في المرجع السابق (7/ 46) .

(2) رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب ماجاء في الرخصة في زيارة القبور من حديث بريدة وقال: وفي الباب عن أبي سعيد وابن مسعود وأنس وأبي هريرة وأم سلمة (3/ 361) ، وصححه الشيخ الألباني في صحيحه (1/ 307 - 308) ،والنسائي في كتاب الضحايا باب الإذن في أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام من حديث بريدة واللفظ له (7/ 234) وصححه الشيخ الألباني في صحيحه (3/ 923) طبع مكتب التربية العربي لدول الخليج الرياض ط الأولى (1409 - 1988) ،ورواه ابن ماجه كتاب الجنائز باب ماجاء في زيارة القبور من حديث أبي هريرة (1/ 500) ، وصححه الشيخ الألباني في صحيحه (1/ 262) .

(3) رواه أحمد (3/ 38) من حديث أبي سعيد الخدري وقال الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (17/ 429) : حديث صحيح، طبع مؤسسة الرسالة بيروت ط الأولى (1419 هـ -1998 م) .

(4) رواه أحمد من حديث أنس (3/ 237،250) ،وصححه بطرقه وشواهده الأرناؤوط في تحقيقه (21/ 223) ، وكذا روى نحوه الحاكم (1/ 376) والبيهقي في السنن (4/ 77) .

(5) مسلم مع النووي (7/ 40 - 41) كتاب الجنائز باب مايقال عند زيارة القبور والدعاء لأهلها.

(6) المصدر السابق (7/ 44) .

(والكل دالّ على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار ... فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً) [1].

فهذه هي زيارة القبور عند أهل السنة كما علّمهم إيّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن أتى بها على هذا الوجه ولهذه الغاية ظفر بالأجر والفائدة المترتبة عليها، ومن زارها لغير ذلك فهي ردٌّ عليه 0 ثم إنها إما أن تكون بدعية، وإما أن تكون شركية بحسب ما يحصل فيها من أعمال ويقارنها من اعتقاد وقصد.

ذلك هو هدي الإسلام في زيارة القبور، وتلك هي أهداف وغايات الزيارة واضحة ناصعة بعيدة عن كل ذريعة تؤدي إلى الشرك بأربابها والغلوّ في أصحابها، وقد جاءت بعض القيود التي تسد الثغرات الموصلة إلى ذلك:

القيد الأول: ألا تتخذ أعياداً: قال - صلى الله عليه وسلم: (لاتجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) [2]،وقد سبق كلام العلماء عليه ونص المناوي على أن من ذلك: (اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو أشهر مخصوص من السنة) ودعا ولاة الأمر إلى إنكار ذلك عليهم [3].

ونفهم من هذا أنه ليس من هدي الإسلام تعيين يوم معين من سنة، أو شهر، أو أسبوع، يخصص لزيارة القبور كما هو شأن القبورية.

القيد الثاني: ألا تُشَدّ إليها الرحال، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي )) [4]، وروى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى - في مسنده عن عبدالرحمن بن هشام بن الحارث أنه قال: (لقي أبو

(1) سبل السلام شرح بلوغ المرام للإمام محمد بن اسماعيل الأمير الصنعاني (2/ 230 - 231) طبع دار الكتاب العربي ط الثانية (1406 هـ -1986) .

(2) تقدم تخريجه (ص 13) .

(3) انظر كلامه رحمه الله (ص 13) .

(4) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وانظر الفتح (3/ 70) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة باب مسجد بيت المقدس واللفظ له، ومسلم نحوه في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (9/ 104 - 106) مع النووي.

بصرة الغفاري أبا هريرة وهو جاءٍ من الطور فقال: من أين أقبلت؟ فقال: من الطور صليت فيه، قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل ما رحلت إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى )) [1].

فهذا النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة مقصود به أن يشد رحله مسافراً إلى مكان بعينه لعبادة الله تعالى فيه، هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن وهو الذي فهمه ذلك الصحابي أبو بصرة الغفاري، واحتج به على أبي هريرة - رضي الله عنه -،وسكت أبو هريرة - رضي الله عنه - فلم يرد عليه وهذا دليل التسليم لما رُوي ولِمَا أُخذ واستُنبط من تلك الرواية؛ فإن قال قائل: إن أبا هريرة - رضي الله عنه - قد روى ذلك الحديث كما في الصحيحين [2]، قيل له: إن هذا مما يؤكد قبول أبي هريرة لِمَا أتاه به أبو بصرة رضي الله عنهما، ومن المعلوم أن أبا هريرة لم يقل أنه سمع ذلك الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فالغالب أنه يرويه عن أبي بصرة، ولم يثبت عن أبي هريرة أي رد لما جاء به أبو بصرة لا في الصحيحين ولا في مسند أحمد؛ حيث جاءت القصة كاملة، وهذا يؤكد ذلك القبول والرجوع من أبي هريرة لما جاء به أبوبصرة، كما فهم ذلك أيضاً أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - راوي الحديث، فقد روى أحمد في مسنده أن شهر ابن حوشب قال: لقينا أبا سعيد ونحن نريد الطور، فقال سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( لا تُعمَل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ... )) الحديث [3].

(1) رواه مالك في الموطأ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي طبع دار إحياء التراث العربي بدون تاريخ (1/ 108 - 109) في كتاب الجمعة باب ماجاء في الساعة التي في يوم الجمعة، وأحمد في المسند (6/ 7) وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل في سياق تخريجه لحديث أبي هريرة برقم (970) وانظر (4/ 141 - 143) من الإرواء وأبو بصرة هو حُمَيْل (مثل حُمَيْدلكن آخره لام وقيل بالجيم) بن بصرة ابن وقاص الغفاري، صحابي سكن مصر ومات بها.

(2) البخاري مع الفتح (3/ 63) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ومسلم كتاب الحج باب فضل المساجد الثلاثة ... (9/ 167 - 168) مع النووي.

(3) رواه أحمد في المسند (3/ 93) وقال الإرناؤوط في تحقيقه: صحيح وقدرواه أحمد من غير طريق شهر مما يدل على أن شهر حفظ هذا الحديث وانظر (17/ 91) من تحقيق المسند (وشهر هو بن حوشب الأشعري الشامي مولى أسماء بنت يزيد بن = ... = السكن) قال عنه الحافظ في تقريب التهذيب تحقيق أبي الأشبال ص (441) : صدوق، كثير الإرسال والأوهام، من الثالثة (ت 112 هـ) طبع دار العاصمة بالرياض ط الأولى (1416 هـ) .

وكذلك فهمه عبدالله بن عمر - رضي الله عنه -؛ فعن قزعة - رضي الله عنه - قال: سألت ابن عمر - رضي الله عنه - آتي الطور؟ فقال: (دع الطور ولا تأتها وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) [1]،وعلى ذلك درج الصحابة والتابعون وتابعوهم لم يثبت أن أحداً منهم سافر إلى قبر، أو مشهد لمجرد الزيارة، ولم يصرح أحد منهم باستحباب ذلك العمل.

وأما الفقهاء المتأخرون فقد اختلفوا في ذلك ونقل خلافهم الإمام النووي [2]، وشيخ الإسلام ابن تيمية [3]،والحافظ ابن حجر [4] - رحمهم الله-،وقد بحث هذه المسألة بحثاً مستفيضاً العلامة صديق حسن خان -رحمه الله- في شرحه لمختصر مسلم المسمى (السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم ابن الحجاج) وقد استغرق بحثه أربعاً وثلاثين صفحة من الحجم الكبير (من ص 84 - 117) من الجزء الخامس من طبعة قطر؛ وبعد إيراد مختلف الأقوال ومناقشتها قال: (وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة ووقع في عصره - صلى الله عليه وسلم - وقرره النبي عليه السلام فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه، ولم يقر أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره ولم يشرعه لأحد من أمته لا قولاً ولا فعلاً ... ) إلى أن قال: (وحاصل الكلام وجملة المرام في هذا المقام أن مسألة السفر لزيارة قبر من القبور "أي قبر كان" أقل درجاتها أن تكون من المشتبهات والمؤمنون وقّافون عند الشبهات) [5].

(1) 1 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 374 - 375) في كتاب الصلوات باب في الصلاة في بيت المقدس ومسجد الكوفة، وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (226) طبع المكتب الإسلامي بيروت ط الرابعة (1406 هـ-1986 م) وقال: رواه ابن أبي شيبة والأزرقي في أخبار مكة ص (304) ،وقزعة هو ابن يحيى البصري قال عنه الحافظ في التقريب: ص (801) ثقة من الثالثة.

(2) صحيح مسلم (9/ 105 - 106) .

(3) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 665 - 666) .

(4) الفتح (3/ 64) .

(5) السراج الوهاج (5/ 116) .

بين يدي هذا الفصل

إننا عندما نبحث عن القبورية في العالم لسنا مجرد مؤرخين، يطيب لهم أن يتعرفوا على أحداث ويصوروا مجتمعات، ويصفوا ما وصلوا إليه من أحوال العالم لمجرد السرد التاريخي، وإنما نبحث ذلك منطلقين من سنة كونية ثابتة أخبرنا عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي أن هذه الأمة ستأخذ مأخذ الأمم السابقة، وستسلك سبيلها في كل جوانب حياتها بما في ذلك الجوانب الاعتقادية والتعبدية والأخلاقية.

فإذا ثبت أن تلك الأمم عظَّمت القبور وآثار الصالحين وتدرجت في ذلك حتى عبدت أولئك الصالحين-في نظرها- فإن من هذه الأمة من سيفعل ذلك، وهذا ما أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يشاهد على أرض الواقع.

فأما ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيما رواه البخاري من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال ومَنْ الناس إلا أولئك )) [1].

وروى البخاري أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمَنْ؟ )) [2].

(1) البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتبعن سنن من كان قبلكم الفتح (13/ 300) .

(2) المصدر السابق (13/ 300) .

وقد وقع ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - كاملاً 0 والذي يهمنا إثباته هو مشابهة هذه الأمة للأمم قبلها في قبوريتهم، وتعظيمهم للأنبياء والصالحين، وانتشار عقائدهم الباطلة لدى كثير منهم، وهذا ما سوف نبيّنه في هذا الفصل إن شاء الله.

الفصل الأول

نشأة القبورية في العالم

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول

نشأة القبورية في العالم بأسره

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: إثبات أن البشرية كانت على التوحيد قبل طروء الشرك.

من المعلوم المتفق عليه أن الله تعالى خلق الخلق جميعاً على فطرة التوحيد، فآدم عليه السلام هو الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته، وجرى له في الجنة ما جرى، ولم يكن من ذلك شيء يخالف التوحيد أو يقدح فيه، ثم أهبطه إلى الأرض نبياً كريماً ورسولاً مرشداً إلى ذريته، و هو قول جمع من العلماء.

وعلى تعاليم رسالة آدم نشأ بنوه وعلى نهجه ساروا، حتى لقد صرح عكرمة - رضي الله عنه - بأنهم داموا على ذلك عشرة قرون، [1] وهذا الذي ذكرناه من نشأة البشرية على التوحيد هو ما قرره القرآن وشهدت به السنة المطهرة.

أما القرآن ففي قول الله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [2].

ففي الآية الكريمة أن الدين الذي أمر الله رسوله أن يقيم وجهه عليه هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ثم أكّد ذلك بقوله {ذلك الدين القيم} فالدين الحنيف والدين القيم هو التوحيد وهو الذي فطر الله الناس عليه.

قال ابن كثير - رحمه الله: (فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره) [3].

(1) تفسير الطبري (29/ 62) .

(2) الروم (( 30).

(3) تفسير ابن كثير، طبعة دار الشعب (6/ 320) .

وقد أكدت ذلك السنة وفصَّلته وذلك فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترون فيها من جدعاء؟ [1] [2] ثم يقول أبو هريرة: (واقرأوا إن شئتم {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [3].

قال ابن حجر - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: (وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة - رضي الله عنه - وبحديث عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: (( وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم )) [4] الحديث وقد رواه غيره فزاد فيه (( حنفاء مسلمين )) ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى: {فطرت الله} لأنها إضافة مدح وقد أمر نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام) [5].

ونكتفي بهذه النصوص الواضحة الصريحة التي لاخلاف على معناها، لإثبات أن البشرية كانت على التوحيد قبل طروء الشرك عليها.

المطلب الثاني: إثبات أن أول شرك حصل في العالم كان بسبب الغلو في الصالحين:

كانت عداوة إبليس لآدم قديمة منذ أن أمره الله بالسجود له، فأبى فلعنه الله وطرده بسبب ذلك، ومنذ ذلك الحين أخذ على نفسه: أن يعمل على كل ما فيه الإساءة إليه وإلى جلب سخط الله عليه،

(1) أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الشفة القاموس المحيط ص (914) 0

(2) البخاري كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين الفتح (3/ 245 - 246) ، ومسلم كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (4/ 2047) .0

(3) الروم (30) 0

(4) سيأتي تخريجه في الصفحة القادمة 0

(5) فتح الباري (3/ 248) .

وكان أول عمل عمله إغراؤه بالأكل من الشجرة، ذلك العمل الذي كان سبباً لإخراجه من الجنة وإهباطه إلى الأرض هو وإبليس معاً، ولم يكتفِ إبليس بعداوة آدم وحده بل ضمّ إلى ذلك عداوة ذريته وأعلنها صريحة بأنه لن يدخر جهداً لإغوائهم وصدّهم عن السبيل، والعمل على جعل مصيرهم مقترناً بمصيره هو إلى نار جهنم {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} [1]، {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلاّ عبادك منهم المخلصين، قال فالحق والحق أقول، لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [2].

وقد حذر الله عباده المؤمنين وجميع بني آدم من تلك العداوة وخطورتها، وخطورة الهدف الذي يسعى إبليس لتحقيقه من خلال عداوته لهم، فقال سبحانه وتعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [3] وقال: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون} [4].

ولكن لأمرٍ أراده الله نسي بنو آدم تلك العداوة، وجهلوا ذلك التحذير الذي حذرهم الله إياه ولم ينسَ هو ذلك، بل عمل على جلب الأنصار والجنود من الإنس والجن، فسلطهم على بني آدم حين غفلوا عما أوصاهم به الله، فأجلب عليهم هو وجنوده فاجتالوهم عن دينهم وأوقعوهم في الشرك، وهو ما

(1) الأعراف (16 - 18) 0

(2) سورة ص (82 - 85) 0

(3) فاطر (6) .

(4) يس (60 - 62) .

رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته (( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كلّ مال نحلته [1] عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم [2] عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب )) [3]

ولم يكن ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما من فجر التاريخ قبل أن يبعث نوح عليه السلام، بل إن مبعث نوح إنما كان لإرجاع الناس إلى الجادة بعد ذلك الانحراف الخطير، وكان الباب الذي دخل منه الشيطان إلى إغواء أولئك الناس: باب الغلو في الصالحين، فكانت أول أصنام عبدت على وجه الأرض هي صور وتماثيل لرجال صالحين أحبهم قومهم وغلَوا فيهم فصوّروهم، ثم تدرج بهم الحال حتى عبدوهم من دون الله تعالى! ولما جاءهم نوح ينعى عليهم ذلك المسلك الخاطئ، ويدعوهم إلى العودة إلى الصراط المستقيم أبوا وعاندوا وتواصوا بالصبر على تلك الآلهة والاستمرار على الإشراك بالله المتمثل في عبادتها من دون الله {وقالوا لاتذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولاسواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} [4].

(1) نحلته أعطيته النووي على مسلم (17/ 197) .

(2) اجتالتهم (أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطن) نفس المصدر (17/ 197)

(3) مسلم مع الشرح، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار) (17/ 197)

(4) نوح (23) .

وهذه كما هو واضح أسماء بشر كانوا صالحين محبوبين لدى قومهم، حملهم ذلك على الغلو فيهم وإنزالهم فوق منزلتهم، وتطور الأمر حتى عبدوهم، كما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير هذه الآية أنه قال: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسِخ العلم عبدت) [1]

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: (وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك) [2] وقد تواطأ المفسرون عند تفسير هذه الآية على ذكر هذا الأثر وأثاراً أخرى كلها تؤدي نفس المعنى. [3]

وقد صرح القرطبي - رحمه الله تعالى:بأنه من أجل أن عبادة الأوثان ابتدأت بسبب الغلو في الصالحين حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك، قال: (قلت: وبهذا المعنى فسِّر ماجاء في صحيح مسلم من حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمه ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة-

(1) البخاري والفتح (2/ 667) 0

(2) الفتح (8/ 669) .

(3) انظر: تفسير الطبري (29/ 62) للإمام الطبري، معالم التنزيل (8/ 232 - 233) للإمام الحسين بن مسعود البغوي تحقيق وتخريج محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش طبع دار طيبة بالرياض الطبعة الرابعة (1417 هـ-1997 م) ، زاد المسير (8/ 373) لأبي الفرج ابن الجوزي طبع المكتب الإسلامي بيروت الطبعة الثالثة (1404 هـ-1984 م) والكشاف (4/ 414) للشيخ محمود بن عمر الزمخشري طبع دار الكتاب العربي ببيروت (1407 هـ- 1987 م) ،والمحرر الوجيز (15/ 122) لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي تحقيق الرحالي الفاروق وآخرين، الطبعة الأولى قطر سنة (1401 هـ-1981 م) . وتفسير القرطبي (18/ 307 - 310) وتفسير القرآن العظيم (8/ 262) لابن كثير. الدر المنثور (8/ 293 - 295) لعبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي (دار الفكر - بيروت ط الأولى سنه 1403 هـ- 1983 م) . وفتح القدير (5/ 300) للشوكاني 0

تسمى مارية فيها تصاوير- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول - صلى الله عليه وسلم: (( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) [1].

وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى: (وقال غير واحد من السلف: "كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح - عليه السلام -، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: عن عائشة - رضي الله عنها - ثم ذكر الحديث السابق في كلام القرطبي - ثم قال: "فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور" وهذا كان سبب عبادة اللات، فقد روى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أفرأيتم اللات والعزى} [2] قال: (كان يلت السويق فمات فعكفوا على قبره) [3]،وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (كان يلت السويق للحاج) [4] فقد رأيت أن سبب عبادة ودّ، ويغوث، ويعوق، ونسر، واللات، إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها، كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال شيخنا [5]: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبةٍ أو حجر، ولهذا نجد أهل الشرك كثيراً يتضرعون عندها، ويخشعون

(1) الجامع لأحكام القرآن (18/ 308) ، والحديث تقدم تخريجه (ص 18) .

(2) سورة النجم آية (19) .

(3) سيأتي تخريج الأثرين لاحقاً.

(4) سيأتي تخريجه (ص 64) .

(5) هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء مالا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وألا يقصد المصلي ما قصده المشركون سداً للذريعة) [1].

وبهذه الآيات المحكمة والأحاديث الصحيحة الصريحة، وما علق به عليها أهل العلم؛ تعلم أن القبورية هي أساس الوثنية، وأن الوثنية هي الوعاء الذي أحتوى على الشرك بالله عز وجل وجسَّدَه.

(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 184) لابن القيم.

المبحث الثاني

القبورية عند اليهود والنصارى:

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: القبورية عند اليهود:

لست بحاجة إلى الإطالة في إثبات قبورية اليهود، فقد أغنتننا الأحاديث المصرحة بذلك عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - والمخرجة في الصحيحين وغيرهما، ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) [1] وحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في مرضه الذي مات فيه (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) [2].

فهذان الحديثان في الصحيحين - وسيأتي غيرهما في المطلب الثاني- قاطعان على قبورية اليهود، وأزيد أن اليهود ليسوا قبوريين فقط ولكنهم أيضاً ميالون إلى عبادة غير الله بشكل أوضح وأصرح، كما نقل ذلك عنهم القرآن وذلك في موضعين من قصة موسى - عليه السلام -.

الموضع الأول: بعد نجاتهم من ملاحقة فرعون وخروجهم من البحر وإهلاك الله لعدوهم وهي نعم عظيمة تستوجب شكر مسديها وإفراده بالعبادة وعدم الالتفات إلى غيره، لكن النفوس الدنيئة لا تكون نظرتها إلا إلى الأسفل دائماً، لذلك عندما مروا على القوم المشركين العاكفين على أصنامهم مالت نفوسهم إلى تقليدهم ومحاكاتهم في ذلك، قال تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين} [3]

(1) أخرجه البخاري (1/ 532) مع الفتح كتاب الصلاة باب "حدثنا أبو اليمان" ، ومسلم (5/ 12) مع النووي كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور 0

(2) تقدم تخريجه (ص 17) 0

(3) 3 الأعراف (138 - 140) 0

وهذا في غاية الصراحة فهم طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً آخر كما أن أولئك لهم آلهة فهو طلب الشرك والاستعداد النفسي له.

الموضع الثاني: حينما ذهب موسى لميقات ربه وتركهم مع هارون فصنع لهم السامري العجل ودعاهم إلى عبادته، فبادروا إلى ذلك ولما يأبهوا لتحذير هارون من ذلك بل واجهوه بالتمرد وكادوا يقتلونه حينما وقف في طريقهم قال تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربِّ لترضى. قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري. فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي. قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري. فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي. أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [1].

وبهذا العرض اليسير تتضح قبورية اليهود وشركهم واتخاذهم الآلهة من دون الله.

المطلب الثاني: القبورية عند النصارى:

الأمة النصرانية أمة غالية فيمن تعظمه من الأنبياء والصالحين ولقد حملهم ذلك على تأليه المسيح وأمه وغيرهما من الأحبار والرهبان، وهذا صريحُ نصِّ القرآن، حيث يقول الله تعالى فيهم: اتخذوا

(1) طه من (83 - 91) .

أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [1].

وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم عليهم الحجة ببطلان ما هم عليه من عبادة غير الله فقال: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم} [2]، ثم أمره أن ينهاهم عن الغلو في الدين وتقليد سلفهم الغالين فيه؛ لأن الغلو هو سبب عبادتهم لغير الله فقال: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل} [3]، فمن غلوِّهم أنهم اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دونه وتلك العلة- التي هي الغلو -هي العلة المشتركة بين جميع المشركين.

ومن الغلو كذلك اتخاذهم قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمه ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، فأولئكِ شرار الخلق عند الله يوم القيامه )) [4]

وهذه الكنيسة التي رأتها أم حبيبة وأم سلمه هي قطعاً كنيسة نصارى فهذا إثبات قاطع لقبوريتهم وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاقتداء بهم في ذلك كما في حديث عائشة وعبدالله بن عباس - رضي الله عنهم - قالا: (لما

(1) التوبة (31) .

(2) المائدة (76) .

(3) المائدة (77) .

(4) تقدم تخريجه (18) .

نُزِل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) يحذر ما صنعوا) [1].

وقد بيّن ابن كثير رحمه الله في تاريخه: أن تلك القبورية عند النصارى 0 إنما حدثت فيهم بعد أن حرفوا دينهم، وقالوا بالتثليث، قال رحمه الله تعالى: (ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة؛ حدثت فيهم الطامة العظمى، والبليّة الكبرى، واختلف البتاركة [2] الأربعة وجميع الاساقفة [3] والقساوسة [4] والشماسة [5] والرَهَابين [6] في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط، واجتمعوا وتحاكموا إلى الملك قسطنطين باني القسطنطينية، وهو المجمع الأول فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات فسموا "الملائكة" ، ودحَضَ من عداهم وأبعدهم، وتفردتْ الفرقة التابعة لعبدالله بن أديوس الذي اثبت أن عيسى عبد من عباد الله، ورسول من رسله، فسكنوا البراري، والبوادي، وبنوا الصوامع [7]،والديارات [8]،

والقلايات [9]،وقنعوا بالعيش الزهيد، ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل، وبنت الملائكة [10] الكنائس الهائلة، عمدوا إلى ماكان من بناء اليونان فحولوا محاريبها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الجدي [11] [12].

(1) تقدم تخريجه (18) .

(2) ويقال البطارقة جمع بطريق وهو رئيس رؤساء الأساقفة انظر: المعجم الوسيط (1/ 61) .

(3) جمع أسقف وهو رئيس من رؤساء النصارى فوق القسيس ودون المطران، المصدر السابق (1/ 436) .

(4) جمع قس وهو رئيس من رؤساء النصارى بين الأسقف والشماس، المصدر السابق (2/ 734) .

(5) جمع شماس من يقوم بالخدمة الكنيسة ومرتبته دون القسيس، المصدر السابق (1/ 494) .

(6) جمع راهب المتعبد في صومعة من النصارى يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذها زاهداً فيها معتزلاً أهلها.، المصدر السابق ... (1/ 376) .

(7) جمع صومعة و صومع وهو بيت العبادة عند النصارى، المصدر السابق (1/ 523) .

(8) جمع دير وهو دار الرهبان، المعجم الوسيط (1/ 307) .

(9) القلايات جمع قلاية وهي الصومعة. المصدر السابق (2/ 757)

(10) أي الفرقة التي سميت الملائكة.

(11) الجدي نجم قريب من القطب تعرف به القبلة، المصدر السابق (1/ 112) .

(12) البداية والنهاية (2/ 101) .

ثم قال: رحمه الله تحت عنوان "بناء بيت لحم والقمامة [1]" (وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح وبنت أمه هيلانة القمامة يعني على قبر المصلوب وهم يسلّمون لليهود أنه المسيح) . [2]

وبما مر من نصوص قرآنية ونبوية وتاريخية تتضح قبورية النصارى وغلوّهم في أنبيائهم وصالحيهم حتى عبدوهم من دون الله تعالى.

(1) وهي التي يطلق عليها الناس اليوم كنيسة القيامة 0

(2) المصدر السابق (2/ 101) .

المبحث الثالث

قبورية اليونان

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: قبورية الأمة اليونانية:

الأمة اليونانية أمة عظيمة سادت وظهرت على مسرح التاريخ القديم قروناً من الزمن، وقد أنشأت حضارة متميزة وظهر فيها علوم ومعارف وفلسفة وصلت إلى الأمم الأخرى، وتناقلتها الأجيال إلى العصر الحاضر، وهذا لا مراء فيه، ولكن مع كل ذلك فقد كانت هذه الأمة أمة وثنية قبورية تُألِّه كل ما أعجبت به من مظاهر الكون، وعباقرة وأبطال البشر، بل وجميلات النساء! فهناك (آلهة السماء) و (آلهة الأرض) و (آلهة الخصب) و (الآلهة الحيوانية) و (آلهة ما تحت الأرض) إلى آخر القائمة، وقد ذكر المؤرخون كيف تنشأ تلك الآلهة وكيف تعبد [1] وكانت كذلك أمة قبورية تقدس قبور موتاها، فقد كان الموتى في العصور المبكرة من تاريخ اليونان يُعْتَبرون أرواحاً قادرة على أن تفعل للناس الخير والشر وتسترضى بالقرابين والصلاة [2]. وكان اليونان في عصرهم الزاهر يرهبون هذه الأشباح الغامضة أكثر مما يحبونها، وكانوا يسترضونها بطقوس ومراسم يقصد بها إبعادها واتقاء شرها [3]، وكان الإله في

(1) انظر: الفكر الإغريقي تأليف محمد الخطيب (دمشق، الطبعة الأولى عام (1999 م) ، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة ص (28 - 52) .

(2) المصدر السابق ص (35 - 36) .

(3) المصدر السابق ص (35 - 36) .

أول الأمر من الأسلاف والأبطال الموتى، كما كان المعبد في الأصل قبراً، ولا تزال الكنيسة حتى الآن في معظم البلاد مكاناً تحفظ فيه آثار الموتى القديسين [1].

هذه هي أمة اليونان وتلك آلهتها كانت في بدايتها أمواتاً من ذوي التميز في جوانب مختلفة من الحياة، تدرج بهم الشيطان حتى صيروهم آلهة من دون الله، وقبور أولئك الموتى هي الأصل في المعابد التي تتربع فيها تلك الآلهة.

المطلب الثاني: قبورية فلاسفة اليونان:

في تلك الأمة وذلك الجو نشأ فلاسفة اليونان على الوثنية والقبورية، وبقي ذلك هو اعتقادهم وتفكيرهم ولم يغنِهم ما وصلوا إليه في مختلف العلوم- التي أصبحوا فيها أساتذة العالم- لم تغنهم تلك العلوم، ولم ترتفع بتفكيرهم في الجانب الإلهي من حياتهم، بل ظلوا يتخبطون في ظلمات الجهل ومسالك الضلال، ذلك أن هذا الجانب ليس بمقدور العقول تصوّره التصوّر الصحيح، والوصول إلى حقيقته، وإنما مصدره هو الوحي الذي ينزله الله على رسله، فيبلغونه للناس ويقودونهم به إلى معرفة ربهم وما يجب عليهم، وما يلتحق بذلك من أركان الإيمان ومقوماته، وحيث إن أولئك الفلاسفة مصدرهم في بحثهم عن الحقيقة هو العقل، والعقل قاصر عن إدراكها فقد تاهوا في أودية الضلال وما وصلوا إلا إلى نظريات متناقضة، وقضايا فجّة غير ناضجة، وبقي ما تربَّوا عليه من الوثنية والقبورية؛ هو الذي يوجه تفكيرهم ويستحوذ على أعمالهم وطقوسهم، وقد شهد المتلقفون لفلسفة اليونان من علماء المسلمين على قدواتهم من فلاسفة اليونان بالقبورية وأبانوا كيف يتصور أولئك الفلاسفة إمداد أرواح الموتى لمن دعاهم وتشفع بهم.

(1) المصدر السابق ص (36) 0

يقول الفخر الرازي في كتابه المطالب العالية: (إن فلاسفة اليونان كانوا يستمدون الفيوض من القبور وأهلها، إذا اعترتهم مشكلة من المشكلات، وكان الفلاسفة من تلاميذ أرسطو إذا دهمتهم نازلة ذهبوا إلى قبره للحصول على المدد والفيض) [1].

وبما أن القوم فلاسفة وليسوا مقلدين لما كان عليه الآباء والأجداد فقد خرَّجوا تعلقهم بالقبور تخريجاً علمياً مبنياً على نظريتهم العامة في الإلهيات، حيث يؤمنون بنظرية الفيض أي أن "العقل الفعال" الذي هو موازٍ للإله يفيض على من دونه من المخلوقات.

وبما أن أرواح الموتى القديسين هي كذلك آلهة صغيرة حسب العقيدة اليونانية العامة فإن تلك الأرواح تفيض على من زارها طالباً منها الشفاعة، وذلك بحسب يقين الزائر وفنائه في المزور واستعداد نفسه لتقبل ذلك الفيض، وهي بدورها تتلقى الفيض من الإله الأعظم، وقد مثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة وانعكس شعاعها على حائط أو غيره حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة، قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لابدّ فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة [2].

(1) المطالب العالية (7 - 228) بواسطة جهود الحنفية في إبطال عقائد القبورية (1 - 416) للدكتور شمس الدين السلفي الأفغاني، دار الصميعي الرياض، الطبعة الأولى (1416 هـ - 1996 م) .

(2) انظر الاستغاثة في الرد على البكر ي (2/ 410 - 411) لأبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق عبد الله بن دجين السهيلي، دار الوطن، الطبعة الأولى (1417 هـ - 1997 م)

المطلب الثالث: اِتَّباع قبورية المسلمين لفلاسفة اليونان في علة زيارة القبور:

إن معظم ما يأتيه القبورية وما يعتقدونه تجاه القبور وأهلها وإنما هو اتباع للأمم السابقة، تصديقاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذات أنواط حيث طلب بعض أصحابه أن يجعل لهم ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط فقال لهم: (( الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلهاً كما لهم ءالهه قال: إنكم قوم تجهلون} [1] لتركبن سنن من كان قبلكم )) [2]، وجاء من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ: (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن؟ )) [3]، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه (( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: مَنْ الناس إلا أولئك )) [4].

ويظهر من سبب ورود الحديث الأول أن بعضاً من هذه الأمة ستتبع اليهود فيما انحرفوا فيه من التفاتهم إلى التعلق بالمخلوقين، وهذا هو أساس القبورية.

(1) ا لأعراف (138) .

(2) الترمذي في الفتن باب ماجاء لتركبن سنن من كان قبلكم (4/ 475) . وأحمد (5/ 218) .

(3) تقدم تخريجه ص (47)

(4) تقدم تخريجه ص (47) .

كما يظهر من الحديث الثالث أن اتباع الأمم السابقة لا يقتصر على اليهود والنصارى وإنما يتعداه إلى سائر فارس والروم، ومن الروم اليونان الذين نُقِلت فلسفتهم إلى الأمة الإسلامية فأفسدت عقائد قوم من المسلمين.

وممن تلقى عقائد الفلاسفة وألبسها رداء الإسلام ونشرها في الأمة المحمدية قبورية المسلمين من فلاسفة وباطنية شيعية وصوفية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو يتكلم عن الوسائل المشروعة وغيرها: "الوجه الثاني أن يدعو له الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذه أيضاً مما يتوسل به إلى الله تعالى، فإن دعاءه وشفاعته عند الله من أعظم الوسائل فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب، ولا مستحب، ولا الرسول دعا له، فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه، ولكن بعض الناس الذين دخلوا في دين الصابئة والمشركين، ظنوا شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته لا تحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تفيض على المستشفع من غير شعور من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا دعاء منه، ومثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة، وانعكس شعاعها على حائط أو غيره؛ حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة، قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لابد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة وجعل هؤلاء الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه."

وقالوا أن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة ومن أخذ عنهم كابن سيناء وأبي حامد وغيرهم) [1].

(1) الاستغاثة (2/ 411 - 412) .

قلت: هذا فرع من فروع نظرية الفيض التي يعتقدها الفلاسفة، وطبيعي على هذا الاعتقاد أن يكون هناك توجه إلى النفوس الفاضلة لتكون واسطة بين المستشفع والخالق المعطي سبحانه، تلك الواسطة هي "الشافع" وقد قرر ذلك من أتباع الفلاسفة قوم كما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - منهم أبو حامد الغزالي وذلك في كتابه "المظنون به على غير أهله" والفخر الرازي في كتابه "المطالب العلية" ونقل عن الاثنين أحد قبورية حضرموت وهو عبد الرحمن بن محمد العيدروس في كتابه "بذل المجهود في خدمة ضريح نبي الله هود" وجعل ذلك هو علة زيارة القبور، وسيأتي نص كلام الغزالي منقولاً من كتابه، وكلام الرازي عن العيدروس في مطلب علة الزيارة عند القبورية [1]، وبهذا يتضح أن زيارات القبورية لم تكن هي الزيارات الشرعية التي علتها الاعتبار والاتعاض بحال الموتى ورقة القلب وتذكر الآخرة والدعاء للأموات والسلام، عليهم وإنما لاستمداد من الأموات على طريقة الفلاسفة.

وأما تشبههم باليهود والنصارى في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها فظاهر، وحتى لا يقول قائل إن ذلك من أتباع الفلاسفة في علة الزيارة إنما هو مذهب مهجور لدى قبورية اليوم لا وجود له عندهم 0

أقول له ولكل من يدافع عنهم: انظر إلى محمد علوي مالكي -باعث القبورية في مكة من جديد ووارث أحمد زيني دحلان ويوسف النبهاني- انظر إليه وهو يحكي أحوال الزائرين للنبي - صلى الله عليه وسلم: (تختلف أحوال الزائرين في استفادتهم من زيارتهم واستمدادهم من الله بواسطة نبيهم المصطفى وحبيبهم

(1) 2 انظر ص (324)

المجتبى - صلى الله عليه وسلم - وبحسب استعدادهم في تلقي الفيوضات الإلهية والواردات الربانية بواسطة الحضرة المحمدية،) [1] 0

ويقول في موطن آخر: (اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد أول متلق لفيضك الأول. صلاة نشهدك بها من مرآته، ونصل بها إلى حضرتك من حضرة ذاته، قائمين لك وله بالأدب الوافر، مغمورين منك ومنه بالمدد الباطن والظاهر) [2] 0

وأما تشبههم باليهود والنصارى في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها فظاهر ليس به خفاء.

(1) شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد (124) السيد محمد بن السيد علوي بن السيد عباس المالكي الحسني، ط الأولى (1411 هـ-1991 م) .

(2) المصدر السابق (117) .

المبحث الرابع

القبورية عند العرب قبل الإسلام وصلتها بالوثنية

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: إثبات أن العرب كانوا على ملة إبراهيم - عليه السلام - الحنيفية السمحة:

كانت العرب وبالأخص عرب الحجاز على ملة أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، ملة التوحيد الحنيفية السمحة، برآء من الشرك وأهله، كما حكى الله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - مثنياً عليه وعلى أتباعه بذلك: إن

إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين [1] وقال تعالى مبرِئاً إبراهيم والذين معه من الشرك، ومقدِّمَهم لنا قدوةً، وجاعلاً لنا الأسوة فيهم {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إناَّ برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [2] ..

وقد ذكّر الله العرب بهذا الإرث العظيم الذي ورثوه من أبيهم إبراهيم - عليه السلام - فقال: {ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [3]

وقد بقي العرب على تلك الملة قروناً، حتى ظهر عمرو بن لحي الخزاعي فغيرها، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( وعرضت عليَّ النار فلما وجدت سفعتها تأخرت عنها، وأكثر من رأيت فيها النساء إنِ ائتمن أفشين، وإن سألن ألحفن، وإذا سئلن بخلن، وإذا أعطين لم يشكرن، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قُصبه في النار وأشبه من رأيت به معبد بن أكثم الخزاعي، فقال معبد: يا رسول أتخشى عليَّ من شَبَهِه فإنه والدي، فقال: لا، أنت مؤمن وهو كافر، وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام )) [4]،وهناك ألفاظ أخرى بنفس المعنى في الصحيحين وغيرهما [5].

(1) النحل (120 - 123) .

(2) الممتحنة (4) .

(3) الحج (78) .

(4) الحاكم في المستدرك (4/ 605) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، طبع دار المعرفةبيروت بإشراف د. يوسف المرعشلي.

(5) انظر: السلسة الصحيحة للشيخ الألباني (4/ 242 - 244) .

وكان سبب انحرافهم ووقوعهم في الشرك هو الغلو في الصالحين كما سيأتي في قصة عبادتهم للَّات أو للأماكن المقدسة كما في قصة نقلهم حجارة الحرم والطواف بها حيثما حلّوا.

المطلب الثاني: القبورية هي أصل الوثنية عند العرب:

كما هو الشأن -بعد كل رسالة من الرسالات السابقة- تأتي بعدها فترة ينقص العلم ويثبت الجهل، ويجد الشيطان سبيلاً إلى نفوس الناس وعقولهم، فينحرف بهم عن الصراط المستقيم، وقد مرّ معنا أن دين إبراهيم ظل قائماً حتى ظهور عمرو بن لحي الخزاعي الذي كان أول من غيّره وحرَف العرب عنه إلى عبادة الأصنام، وكان سبب وقوعهم في الوثنية هو الغلو في الصالحين منهم وتعظيم قبورهم حتى اتخذوها أصناماً، قال ابن عباس في قوله تعالى {اللات والعزى} [1]: (كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج) [2].

والذي أمرهم بذلك هو عمرو بن لحي.

قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث -راداً على من زعم أن اللات هو عمرو بن لحي: (والصحيح أن اللات غير عمرو بن لحي، فقد أخرج الفاكهي من وجه آخر عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً، وتقدم في مناقب قريش أن عمرو بن لحي هو الذي حمل العرب على عبادة الأصنام، وهو يؤيد هذه الرواية) [3].

فهذا وجه من أوجه القبورية المؤدية إلى الوثنية عند العرب، وهناك وجه آخر وهو تعظيم آثار الصالحين ومنازلهم وبيوت عباداتهم تعظيماً زائداً على الحد المشروع.

(1) النجم (19) 0

(2) البخاري كتاب التفسير باب (أفرأيتم اللات والعزى) (8/ 611) مع الفتح.

(3) الفتح (8/ 612) .

قال ابن هشام في سيرته: قال: ابن إسحاق: (ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم -حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد- إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم، حتى خلف الخلوف ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات) [1]

فهذا السبب كما ترى كان ناتجاً عن تعظيم آثار إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فالحرم شرَّفه الله تعالى بهما حيث بَنَيَا فيه بيت الله الحرام والكعبة المشرفة، فكان تعظيم المكان ناتج عن تعظيم من اشتهر به وهو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ذلك الغلو فيهما وفي البيت الذي ينسب إليهما كان سبباً في ضلال طوائف من العرب والزج بهم في الوثنية والشرك.

المطلب الثالث: انتشار الأصنام في جزيرة العرب:

بعد تلك البدايات البسيطة والبدائية أخذ إبليس يرقّي العرب في سلّم الوثنية حتى أصبحت ديناً تدين به، له شعائره [2] ومشاعره [3] وطقوسه [4] وعقائده وتنوعت العبادات من طواف وتمسح ودعاء واستشفاع واستقسام [5] بالأزلام بين يدي تلك الأصنام إلى نذر الأموال ونحر النعم وغير ذلك، كما

(1) سيرة ابن هشام (1/ 77) طبع مؤسسة علوم القرآن بدون تاريخ تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبدالحفيظ شلبي

(2) جمع شعيرة مناسك العبادة ومعالمها انظر القاموس المحيط ص (535) .

(3) جمع مشعر موطن العبادة. المصدر السابق ص (535)

(4) جمع طقس وهو نظام الخدمة الدينية عند النصارى. انظر: المعجم الوسيط (2/ 561) .

(5) قال ابن جرير (6/ 49) : (وأن تستقسموا بالأزلام "وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم بالأزلام وهو استفعلت من القسم، قسم الرزق والحاجات وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو نحو ذلك أجال القداح وهي الأزلام وكانت قداحاً مكتوباً على بعضها" نهاني ربي "وعلى بعضها" أمرني ربي "فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه أمرني ربي مضى لذلك لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك وإن خرج الذي عليه" نهاني ربي "كف عن المعنى لذلك وأمسك، وأما الأزلام فإن واحدها زلم ويقال زلم وهي القداح التي وصفنا أمرها) ."

انتشرت الأصنام في الجزيرة العربية انتشار النار في الهشيم بدءاً ببيت الله الذي أنشئ على التوحيد ولأجل التوحيد، حيث يقول الله تعالى عنه: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [1].

هذا البيت كان فيه أكبر تجمع للأصنام في جزيرة العرب حيث كان عدد الأصنام -التي كسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة في جوف الكعبة وحولها- ثلاثمائة وستين صنماً [2]،كما كان في جوف الكعبة أشهر أصنام قريش على الإطلاق (هبل) [3]،ولم تبق قبيلة من قبائل العرب إلا ولها صنمها الذي يعرف بها وتعرف به وتعبّد له أبناءها [4]،بل تجاوز الأمر إلى أن أصبح لكل بيت صنمه الخاص به، [5] وحتى المسافر لا يقيم أثناء سفره في بقعة إلا تخيّر من أحجارها ما يعجبه فينصبه إلهاً له. [6]

(1) الحج (26) .

(2) البخاري كتاب التفسير سورة الإسراء باب (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (8/ 400) ... من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

(3) الأصنام لابن الكلبي ص (27) .

(4) انظر: الأصنام ص (13) و (16) و (18) الدار القومية بالقاهرة نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب سنة (1343 هـ-1924 م) .

(5) المصدر السابق ص (33) .

(6) االمصدر السابق ص (33) .

ولم يكتف الشيطان بذلك بل دلّهم على أصنام قوم نوح التي كانت مطمورة في رمال ساحل جدّة فاستخرجها مؤسس الوثنية في الجزيرة العربية عمرو بن لحي الخزاعي وفرقها على العرب فعظمت وعبدت فيهم [1].

وبذلك انطمست ملة إبراهيم وغاب التوحيد وحل الشرك محله، حتى صارت الدعوة إلى إخلاص العبادة لله تعالى من العجائب لديهم حينما صدع بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا -كما حكاه القرآن: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق} [2].

المطلب الرابع: الحنفاء من العرب:

ذلك هو الجوّ المظلم الذي وصلت إليه الأمة العربية قبل البعثة وهو الغالب عليها، ولكن بقي بصيص ضئيل من النور الخافت الذي نجا من أطباق الظلمة، ولكنه لم يهدِ أصحابه صراطاً مستقيماً، ولم يسلك بهم سبيلاً قويماً [3]، وقد تمثّل ذلك في بقاء مجموعة صغيرة جداً متفرقة في أنحاء الجزيرة العربية، وربما كان بمكة منهم نصيب أوفر، أولئك هم من سُمّوا بالحنفاء نسبة إلى الحنيفية ملة إبراهيم، وتمثل تمسكهم بالحنيفية في رفضهم للوثنية من حيث عبادة الأوثان وتقريب القرابين لها، واعتقاد نفعها وضرّها وشفاعتها كما هو شأن الوثنيين، هداهم إلى ذلك فطرتهم التي مَنَّ الله عليهم ببقائها صافية نقية من كَدُورات الوثنية، غير أنهم لم يهتدوا إلى مراد الله تعالى وما يجب له من العبادة، حتى لقد نقل أهل السير عن زيد بن عمرو بن نقيل قوله: (اللهم إني لو أعلم أيّ الوجوه إليك أحب عبدتك به

(1) أصله في البخاري كتاب التفسير سورة نوح باب "ود اً ولا سواعاً ولايغوث ويعوق" وانظر: ابن هشام (1/ 78 - 80) .

(2) سورة ص (5 - 7) .

(3) لأن الهداية التامة لا تكون إلا بالوحي لا غير.

ولكني لا أعلمه) [1] ولذلك تفرقوا في البلاد يبحثون عن دين إبراهيم، فمنهم من دخل النصرانية كورقة بن نوفل، ومنهم من لم يدخل أيّ دين وبقي على ما هو عليه كزيد بن عمرو بن نفيل.

(1) ابن هشام (1/ 225) عن ابن إسحاق قال حدثني: هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء، وهذا حديث حسن لمكان ابن إسحاق وأما بقية أصحاب السند فمن أصح الأسانيد.

وقد ذكرت أسماء بعض هؤلاء فمنهم: قس بن ساعدة الأيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت، وأبو قيس بن أبى أنس، وخالد بن سنان، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سُلمى، وكعب بن لؤي بن غالب أحد أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - [1] وقد ذكر غيرهم أيضاً [2]، غير أن من هؤلاء الذين ذكروا من تنصر، وكل هؤلاء لم يدركوا الإسلام إلا ورقة بن نوفل حيث أدرك الفترة الأولى من الوحي ففرح واستبشر وتمنى أن يعيش ليرى دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصره ولكنه مات في فترة الوحي. [3]

(1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (دراسة وتحليل) ص (72) للدكتور مهدي رزق الله أحمد الأستاذ المشارك بكلية التربية جامعة الملك سعود الطبعة الأولى، (1412 هـ - 1992 م) نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الرياض.

(2) نفس المصدر (77) .

(3) انظر خبره في البخاري كتاب بدء الوحي (1/ 22) مع الفتح.

الفصل الثاني

القضاء على الوثنية والقبورية على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين

إلى نهاية القرون الثلاثة المفضلة

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول

حال جزيرة العرب حين مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف قضى على الوثنية فيها

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: حال جزيرة العرب عند مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم:

عرفنا في مطلب القبورية عند العرب كيف فشت عبادة الأصنام، وشملت جميع أطراف جزيرة العرب، وأنه لم يبقَ على أصل التوحيد إلاّ أفراد يعدون بالأصابع، منبوذون من قومهم يلقون منهم السخرية والاستهزاء والمقت، وكيف سيطرت الجاهلية على جميع أوجه الحياة حتى أظلم الكون، واستوجب أهله مقت الله وغضبه، إلاّ أولئك الحنفاء القلائل وبقايا من أهل الكتاب مشردين في الصحاري والقفار متوارين في صوامعهم وأديرتهم، وقد صوَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك

الحالة، وذلك فيما رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه - قال: (( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب )) [1]، هكذا كانت الدنيا بما فيها جزيرة العرب عند مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف انجابت تلك الظلمة، وزالت تلك الجاهلية؟ هذا ما سنعرفه في المطلب الثاني.

المطلب الثاني: قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوثنية في جزيرة العرب:

لقد بعث الله - سبحانه وتعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما بعث به إخوانه المرسلين من قبله؛ لإزالة الشرك، ونشر التوحيد، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه، كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [2]، فشمرّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله سراً وجهراً وليلاً ونهاراً، وكان أول ما أعلنه من دعوته حين أمره الله تعالى أن يصدع بها أن قال: (( يا أيها الناس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا )) [3]،فاستجاب له السابقون الأولون، وحاربه بقية قومه واستهجنوا ما جاء به واستنكروه، وقالوا ما حكاه الله عنهم: {وعجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاّب 0 أجعل الآلهة إلهًا واحداً إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في المِلَّةِ الآخرة إن هذا إلا اختلاق} [4].

لكن الله أبى إلاّ أن يتم نوره ويعليَ كلمته ولوكره الكافرون، ومضى - صلى الله عليه وسلم - في دعوته وتربى على ذلك أصحابه، وانطلقوا دعاةً إلى ذلك، فاتسعت دائرة الحق وانتشر نور الإسلام بعد جهد كبير وزمن غير قصير؛ حمل عليه العناية الفائقة

(1) صحيح مسلم (4/ 2197) ،كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة و أهل النار.

(2) النحل (36) .

(3) المسند (3/ 492، 4/ 341) ، و الطبراني في الكبير (4582) من طريق عبدالرحمن بن أبي الزناد، وله شاهد من طريق طارق ... ابن عبدالله المحاربي أخرجه ا بن حبان (6562) كتاب التاريخ، باب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر مقاساة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما كان يقاسي من قومه في إظهار الإسلام صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان طبع مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية (1314 هـ-1993 م) بتحقيق شعيب الأرناؤوط. وصححه الحاكم (2/ 612) كتاب التاريخ، ذكر أخبار سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، ووافقه الذهبي.

(4) 2 سورة ص (4 - 7) .

التي أولاها رسول - صلى الله عليه وسلم - للتربية وغرس العقيدة في النفوس حتى تمكنت منها، ثم توالت المحن وصب العذاب على أصحابه ليشتدّ عودهم وتصقل نفوسهم، حتى إذا تهيئوا لإقامة دولة التوحيد؛ هيأ لهم الملاذ الآمن والقاعدة الصلبة التي تبنى عليها تلك الدولة، وذلك بإسلام الأوس والخزرج ومبايعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم هجرته إليهم، وحينما استقر في المدينة وثبّت دعائم الدولة انكفأ يدعو إلى الله بأسلوب آخر، بالقوة والجهاد لمن يعترض سبيل تلك الدعوة كما أمره الله تعالى بذلك حيث قال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتةٌ ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإنَّ الله بما يعملون بصير} [1]، وكما صرَّح هو - صلى الله عليه وسلم - عن حقيقة دعوته ووسيلته لتحقيقها حيث قال: (( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجُعلَ رزقي تحت ظل رمحي وجُعلَت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبَّه بقوم فهو منهم )) [2].

وتوالت الحروب بينه وبين الكافرين مع استمراره في الدعوة والتربية، حتى أذن الله بالفتح ففتحت مكة، وعلى أثر ذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً كما قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبِّح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} [3].

وعند ذلك علت راية التوحيد خفاقة على ربوع الجزيرة العربية، وكانت الدولة والكلمة للإسلام، وزال الشرك وقضي عليه، حتى بعَث النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة التاسعة من الهجرة علياً - رضي الله عنه - بهذا الإعلان النهائي المشعر بأنه لا مكان للشرك في هذه الجزيرة، ولاحق لمشرك أن يمارس شركه فيها، فكان هذا الإعلان في موسم الحج ليسمعه كل من شهد الموسم ويعود لإبلاغه إلى قومه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غيرُ معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين

(1) الأنفال (39)

(2) تقدَّم تخريجه في الباب التمهيدي ص (4) .

(3) سورة النصر.

كفروا بعذاب أليم [1]، وكان عليّ يتبع ذلك بقوله: (ألا لا يحجنَّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان) [2].

وبالفعل لم يعد ذلك الموسم من السنة العاشرة إلَّا وقد طهِّرت الجزيرة من الشرك والمشركين, وأُجلِب أهلها للاستجابة لدعوة الله، وحققوا توحيده، وصاروا من حزبه بعد أن كانوا من حزب الشيطان، فما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجته الوحيدة الشهيرة بحجة الوداع إلّا وكل من حضر الموسم - وهم عدد كبير لم تشهد الجزيرة تجمعاً مثله من قبل - كلهم مسلمون موحدون وبذلك أكمل الله الدين وأتم النعمة على عباده المؤمنين وانتهت مهمة خاتم المرسلين، ونزلت في يوم عرفة من ذلك العام آخر آية من كتاب الله معلنة ذلك: {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [3].

وحين رأى الشيطان تلك الفتوح وذلك الإقبال على دين الله وتلك النهاية للشرك والمشركين في جزيرة العرب، أصابه اليأس وغلب عليه القنوط من عودة الشرك إليها وقيام دولة له فيها كتلك التي هوت وتلاشت بقيام دولة الإسلام، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيأسه ذلك فقال: (( إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم )) [4]، وقال - صلى الله عليه وسلم: (( وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها )) [5]، وقال: (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )) [6].

(1) التوبة (1 - 3) .

(2) البخاري مع الفتح (8/ 317 - 318) ، كتاب التفسير، باب (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، وباب (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) .

(3) المائدة (3) .

(4) صحيح مسلم (4/ 2166) ،كتاب صفة المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه السرايا لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قريناً.

(5) رواه البخاري مع الفتح (3/ 209) ،في الجنائز باب الصلاة على الشهيد، ومسلم (4/ 1795) في الفضائل، باب إثبات حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، تحقيق عبد الباقي.

(6) مسلم (3/ 1523) ،كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) .

وليس معنى ذلك أن لا يتطرق أي نوع من الشرك على أي حال من الأحوال، وإنما المقصود نوع خاص من عبادة الشيطان، كما سيأتي إيضاحه في المبحث الثاني إن شاء الله.

المبحث الثاني

إنذار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعودة الشرك إلى جزيرة العرب

والرد على من زعم المنع من عودة الشرك إليها مطلقاً

و فيه مطلبان:

المطلب الأول: الإنذار بعودة الشرك إلى جزيرة العرب:

رغم البشارات العظيمة التي رأيناها في المبحث السابق، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنذر كذلك بعودة الشرك والوثنية إلى هذه الجزيرة المباركة في أحاديث كثيرة صرَّح فيها بعبادة الأوثان مطلقاً، أو عبادة أوثان مخصوصة من أوثان العرب في جاهليتها، أو بلحوق أقوام من أمته بالمشركين، وهذا كله يدل على أن الأحاديث التي يُفهم منها امتناع عودة الشرك إلى جزيرة العرب ليس على إطلاقها، وإنما هي محمولة على معانٍ أو أحوال مخصوصة، والداعي إلى حملها على تلك الأحوال والمعاني المخصوصة هو وجوب الجمع بين النصوص الصحيحة؛ حتى نتمكن من إعمال جميع النصوص ولا نلجأ إلى التحكم بإبطال بعضها مع صحة أسانيدها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صرّح بذلك علماء الأصول والمصطلح [1]

ومن هذه الأحاديث حديث ثوبان - رضي الله عنه - الطويل الذي أخبر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ببلوغ الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها وفيه: (( لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان )) [2].

ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة )) [3].

(1) انظر: الموافقات (4/ 299) للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي، طبع دار المعرفة بيروت بدون تاريخ، والاعتبار في الناسخ ... و المنسوخ من الآثار (54) للإمام أبي بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني، تحقيق الدكتور عبد لمعطي قلعجي، نشر جامعة الدراسات الإسلامية بكراتشي، الطبعة الأولى (1403 هـ-1982 م) .

(2) أبو داود (2/ 499) كتاب الفتن ودلائلها، باب ما ذكر الفتن ودلائلها، وابن ماجه (2/ 1304) ، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن. وصححه شيخنا الألباني في صحيح ابن ماجه (2/ 352) .

(3) البخاري مع الفتح (13/ 76) ،كتاب الفتن، باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، ومسلم مع النووي (18/ 32) ، كتاب الفتن.

ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقالت عائشة: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [1] أن ذلك تام قال: (( إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة، فَتَوَفَّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم )) [2].

فهذه الأحاديث الثلاثة صحيحة أسانيدها، صريحة متونها، في أن الأوثان ستعبد في جزيرة العرب، وأن أقواماً من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سيلتحقون بالمشركين، ومن باب الإنصاف فإنه يفهم من حديث عائشة رضي الله عنها أن ذلك كائن بعد أن يبعث الله الريح التي تقبض أرواح المؤمنين، ومع تسليمنا بذلك إلا أننا نقول: إنه ليس في الحديث ما يمنع وقوع الشرك وعبادة الأوثان قبل ذلك الريح، وهذا ما سننثبته في المطلب الثاني إن شاء الله.

المطلب الثاني: الرد على من زعم المنع من عودة الشرك إلى جزيرة العرب:

إن الأحاديث التي أوردنا بعضها في المطلب الأول لَتَردُّ على مَنْ منع عودة الشرك في هذه الأمة، وذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى أن هذه الأحاديث دالة قطعاً على أن الحديث الذي يستدلون به (( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب )) [3] ليس على عمومه بل هو مخصوص، ومعلوم عند أهل الأصول أن العام الذي قد دخل عليه التخصيص تضعف دلالته بذلك، ولا يكون كالسالم من ذلك الذي لم يتطرق إليه تخصيص، وعلى هذا فإننا نقول إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر يأس الشيطان مقِراً له فإن

(1) الصف (9) .

(2) مسلم مع النووي (18/ 33) كتاب الفتن و أشراط الساعة.

(3) تقدم تخريجه ص (72) .

ذلك محمول على حال مخصوص وهو أن تجتمع الأمة على عبادة الأوثان أو نحو ذلك من المعاني والأحوال.

وإن كان مجرد إخبار عن حال الشيطان حين بُهِر بانتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجاً فهذا ليس بدليل أصلاً؛ لأن يأْس الشيطان ليس بحجة على أحد، وهو لا شك مخلوق كسائر الخلق معرض لسوء التقدير وخلف الظن، وطروء سائر ما يطرأ على المخلوقين من أمل وقنوط ويأس واستبشار، ولا يلزم أن يتحقق كل ما يطرأ عليه، وما يأسُه هنا إلا من هذا القبيل، أيِسَ في ذلك الوقت الذي رأى فيه إقبال الخير واندحار الشر، ثم عاد إليه الأمل والرجاء منذ أن أوشك الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الرحيل، وتحقق له شيء مما أمَّلَهُ على يد مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي وأتباعهما من المرتدين في نواحي الجزيرة العربية، وإن كان هذا الحال لم يدمْ طويلاً حيث قضى أبوبكر ومعه سائر الصحابة على تلك الردة، وأعادوا المرتدين إلى حظيرة الإسلام، إلا أن ما حصل كان دليلاً على أن يأس الشيطان لم يكن قاطعاً ولا ثابتاً، بل كان قابلاً للتحول إلى الأمل والرجاء.

الناحية الثانية إن مما يدل على أن ذلك الحديث ليس دالاً على عدم وقوع الشرك في جزيرة العرب هو وقوعه بالفعل وإليك نماذج من ذلك الوقوع:

النموذج الأول الردة الواقعة عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي معلومة لدى الجميع امتلأت بها كتب السير والتواريخ وكتب السنة والحديث [1]، ومجرد الردة يعتبر عبادةً للشيطان على أي صورة كانت، فمجرد الكفر بالله يعتبر عبادة للشيطان، لأنه استجابة وطاعة للشيطان وتلك هي العبادة بعينها.

ومع ذلك فقد صرح العلماء برجوع طوائف من العرب إلى عبادة الأوثان.

(1) وقد أورد ابن كثير أخبار الردة وقتال المرتدين بإسهاب في تاريخه (6/ 311 - 332) .

فقد نقل الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض [1] وغيره أنهم قالوا: (كان أهل الردة على ثلاثة أصناف، صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكان كل منهما، ادعى النبوة قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة غيرهم، وصدق الأسود أهل صنعاء وجماعة غيرهم - إلى أن قال - وصنف ثالث استمروا على الإسلام، ولكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين ناظر عمر أبا بكر في قتالهم كما وقع في حديث الباب، ثم نقل عن ابن حزم أن العرب انقسمت إلى أربعة أقسام "00 والثالثة أعلنت بالكفر والردة 00" ) [2].

وقد أقر الحافظ هذه الأقوال، كما أقرها غيره من العلماء والمؤرخين، وممن نقل ذلك عن القاضي عياض -مقراًًً له -أحد مؤرخي حضرموت المعتمدين لدى القبوريين وهو صالح بن علي الحامد في كتابه "تاريخ حضرموت" [3]، فهذه الحادثة تنقض الاستدلال بحديث: (( يأس الشيطان )) وحديث: (( ما الشرك أخشى عليكم )) على استحالة عودة الشرك إلى جزيرة العرب نقضاً صريحاً.

النموذج الثاني - التصريح بألوهية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من قبل عبدالله بن سبأ اليهودي وأتباعه أيام خلافته بالعراق.

(1) هو القاضي عياض بن موسى اليحصبي توفي سنة (544 هـ) انظر ترجمته في السير (20/ 212) والبداية والنهاية (12/ 225) 0

(2) الفتح (12/ 276) .

(3) تاريخ حضرموت (ص 146) لصالح بن علي الحامد، طبع مكتب الإرشاد بجدة بدون تاريخ.

روى البخاري - رحمه الله - في صحيحه عن عكرمة - رحمه الله - قال: (أتى علي - رضي الله عنه - بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تعذبوا بعذاب الله" ولَقَتَلْتُهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينه فاقتلوه" ) [1].

قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: (وزعم أبو المظفر الإسفرايني في "الملل والنحل" أن الذين أحرقهم عليٌّ - رضي الله عنه - طائفة من الروافض ادعَوا فيه الألوهية وهم السبأية، وكان كبيرهم عبدالله بن سبأ يهودياً، ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة، وهذا يمكن أن يكون أصله: ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبدالله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي - رضي الله عنه: إن هنا قوم على باب المسجد يدّعون أنك ربهم فدعاهم فقال لهم ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبَوا إلا ذلك، فقال: ياقنبر ائتني بفَعَلَةٍ [2] معهم مَرورهم [3]، فخُدَّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فأبعِدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا فلما كان الغد غدَوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى احترقوا وقال:

(1) البخاري مع الفتح (12/ 267) .

(2) ، 2 الفَعَلَة: جمعُ فاعلٍ، أي عامل 0 والمرور: جمعُ مَرٍّ وهو "المسحاة" القاموس المحيط ص (610) 0

إني إذا رأيت الأمر أمراً منكراً أوقدت ناري ودعوت قنبراً

وهذا سند حسن) [1].

وقد اعترف الرافضة أنفسهم بهذه الحادثة، فقد أورد الدكتور عبد الرسول الغفار في كتابه "شبهة الغلو عند الشيعة" عدد من الروايات عن أئمة الشيعة تؤيد ما ذكره الحافظ. [2].

وهذا شرك لا ريب فيه وعبادة للشيطان على جميع وجوه التفسير لذلك الحديث، فإن قال قائل: إن هذا ليس في جزيرة العرب، قلت: هل الشرك ممتنع في خصوص الجزيرة أم في عموم الأمة؟ الذي أعرفه من كلام القوم هو أن الشرك ممتنع في عموم الأمة 0 وعلى ذلك فهذه الحادثة ردٌّ صريح عليهم.

النموذج الثالث القرامطة الذين أعلنوا عن كفرهم بأقوالهم وأفعالهم، وأجمع العلماء والمؤرخون على كفرهم وقد خرجوا في هذه الأمة وفي جزيرة العرب، وكان مقر ملكهم البحرين، ووصل من كفرهم أنهم أغاروا على مكة فقتلوا الحجيج، وانتهكوا حرمة البيت، واقتلعوا الحجر الأسود من موضعه واحتملوه معهم إلى مقر ملكهم، ومكث عندهم بضعاً وعشرين سنة ثم أعادوه، وعندما فعل قائدهم الخبيث فعلته رفع عقيرته متبجحاً بما فعل معلناً كفره وإلحاده قائلاً:

فلو كان هذا البيت لله ربنا لصبَّ علينا النار من فوقنا صبا

لأنا حججنا حجة جاهلية مجللة لم تبقِ شرقًا ولا غربا [3]

(1) الفتح (12/ 270) .

(2) انظر: شبهة الغلو عند الشيعة (56 - 60) للدكتور عبدالرسول الغفار، الطبعة الأولى (.1415 هـ - 1995 م) دار المحجة البيضاء، بيروت لبنان.

(3) مرآة الجنان وعبرة اليقظان (2/ 272) لأبي محمد عبدالله بن أسعد اليافعي، الطبعة الثانية (1413 هـ- 1993 م) دار الكتاب الإسلامي القاهرة.

وهذا النموذج رد آخر صريح على من يزعم أن الشرك لن يعود إلى جزيرة العرب، إلا إن كان يفهم من الحديث أن عبادة الشيطان لا تكون إلا بعبادة الأصنام خاصة فإن صاحب هذا الفهم ربما سلم له ذلك ولكن ما الدليل على تخصيص عبادة الشيطان بذلك دون سواه من أنواع الكفر والإلحاد؟

الواقع أنه لا دليل على ذلك، وأن جميع أنواع الكفر- من شرك وإلحاد وغيرها من أنواع الكفر -هي من عبادة الشيطان، بل جميع المعاصي من عبادة الشيطان.

قال الإمام الرازي - رحمه الله: "المسألة الرابعة" قوله: {لا تعبدوا الشيطان} معناه لا تطيعوه بدليل أن المنهي عنه ليس هو السجود له فحسب، بل الانقياد لأمره والطاعة له فالطاعة عبادة) [1]، وهذا يشمل جميع أنواع المعاصي.

وقد عدَّ الشنقيطي -رحمه الله - الحكم بغير ما أنزل الله من عبادة الشيطان فقال: (واتباع الشرائع المخالفة لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [2] وقوله تعالى على لسان إبراهيم: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً} [3] [4].

النموذج الرابع -علي بن الفضل الجدني الذي ظهر في اليمن عام (278 هـ) وقتل بعاصمة مملكته المذيخرة عام (304 هـ) هذا الرجل أجمع -كذلك- على كفره وإلحاده العلماء والمؤرخون ونقلوا عنه الإلحاد الصريح والكفر البواح، فهل يقول القبوريون أنه ليس بكافر؛ لأن جزيرة العرب لن يعود إليها الشرك إلى قيام الساعة أم بماذا يجيبون عنه؟

(1) تفسير الرازي (26/ 96) .

(2) يس (60) .

(3) مريم (44) .

(4) أضواء البيان تفسير القرآن بالقرآن (4/ 83) محمد الأمين الشنقيطي طبع عالم الكتب بيروت بدون تاريخ.

النموذج الخامس رؤساء وقادة الحزب الاشتراكي اليمني الذين أعلنوا الإلحاد وحاربوا الله ورسوله والمؤمنين، وأحلوا المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، واستهزأوا بالله ورسوله، اتفقت كلمة العلماء المعتبرين- المعاصرين لهم- على كفرهم وإلحادهم في الجملة، وهو دليل قاطع على أن الشرك قابل أن يعود إلى جزيرة العرب وإلى سواها من بلاد العالم الإسلامي، ولا يمكن للقبوريين أن يردوا هذا الدليل بأي حجة مقنعة، فلم يبق بعد هذه النماذج شبهة للقبوريين إلا: الهوى والإصرار على التمسك بالقول وإن ظهر خطؤه.

ومما يدل على إمكان وقوع الشرك في هذه الأمة تواطؤ جميع المؤلفين في الفقه، وكذا كتب أحاديث الأحكام على تخصيص باب أو كتاب في كل مؤلفاتهم الشاملة باسم باب الردة، ولو كان الأمر مستحيلاً لما أضاعوا الجهد والوقت في الكلام على أمر مستحيل الوقوع، إنهم ما فعلوا ذلك إلا وهم يعلمون يقيناً أن ذلك ممكن، وأن ما يستدل به القبوريون لايدل على شيء من ذلك.

المبحث الثالث

خلو الثلاثة القرون المفضلة من مظاهر القبورية وآثارها

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: تصريح العلماء بخلوّ القرون المفضلة عن وجود المشاهد والمساجد على القبور:

سبق في الباب التمهيدي الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد والأمر بتسوية القبور، وعرفنا كيف طبّق الصحابة والتابعون تلك الأحاديث، وكيف فعلوا بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته، ثم كيف فعلوا عندما اضطروا إلى إدخال موضع قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر، وكيف تصرف الصحابة إزاء قبر دانيال حين وجدوه أيام الفتوح، وعرفنا مما سبق حذرهم الشديد من ظهور تعظيم القبور وتقديسها خشية الافتتان بها، وعلى ذلك فلا غروَ أن يسير التابعون لهم بإحسان على طريقهم، وكذلك تابعوهم رضي الله عن الجميع ورحمهم رحمة واسعة، وهذا ما صرح به العلماء رحمهم الله تعالى.

قال شيخ الإسلام ا بن تيمية -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى وهو يتكلَّم عن مشهد رأس الحسين - رضي الله عنه: ( ... دَعْ خلافة بني العباس في أوائلها وفي حال

استقامتها فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون المشاهد سواء منها ما كان صدقاً أو كذباً كما حدث فيما بعد؛ لأن الإسلام كان حينئذ في قوته وعنفوانه ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا العراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب ولم يكن قد أحْدِث مشهد لا على قبر نبي ولا صاحب ولا من أهل البيت ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدثه بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة والملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر وقريباً من ذلك ظهر بنو بويه وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية، وفي دولتهم قويَ بنو القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي - رضي الله عنه - بناحية النجف، وإلاّ فقبل ذلك لم يكن أحد يقول إن قبر علي هناك وإنما دفن علي - رضي الله عنه - بقصر الإمارة بالكوفة. وإنما ذكروا أن بعضهم حكى عن الرشيد أنه جاء إلى بقعة هناك وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا إنه علي، وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا هذا قبر علي، وقد قال قوم إنه قبر المغيرة بن شعبة والكلام عليه مبسوط في غير هذا الموضع) [1].

ويؤيد ماقرره شيخ الإسلام مقاتله الإمامان الذهبي وابن كثير، يقول الذهبي في آخر ترجمة عضد الدولة البويهي الذي قال عنه قبل ذلك: (وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي وبنى عليه المشهد وأقام شعار الرفض ومأتَم عاشوراء والاعتزال) ثم قال: وبه ختم ترجمة عضد الدولة: (قلت: فنحمد الله على العافية فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق وبالأعراب القرامطة فالأمر لله تعالى) . [2].

وقال ابن كثير في حوادث سنة (347 هـ) : (وقد امتلأت البلاد رفضاً وسباً للصحابة من بني بوية وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصراً وشاماً وعراقاً وخرا سان وغير ذلك من البلاد كانوا رفضاً وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، وكثر السب والتكفير منهم للصحابة) [3].

ويؤيده كذلك ما ذكره السمهودي -رحمه الله -في كتابه (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) وهو يتحدث عن قبر فاطمة رضي الله عنها قال: (وإنما أوجب عدم

(1) مجموع الفتاوى (27/ 465 - 467) .

(2) السير (16/ 250 - 252) .

(3) البداية والنهاية (11/ 233) .

العلم بعين قبر فاطمة رضي الله عنها وغيرها من السلف ما كانوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها) [1].

ثم قال تحت عنوان: "بيان المشاهد المعروفة اليوم بالبقيع وغيره من المدينة المشرفة" : (اعلم أن أكثر الصحابة - رضي الله عنهم - كما قال المطري ممن توفي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته- مدفونون بالبقيع وكذلك سادات أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وسادات التابعين - رضي الله عنهم -.

وفي مدارك عياض عن مالك أنه مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف وباقيهم تفرقوا في البلدان.

وقال المجد: "لاشك أن مقبرة البقيع محشوة بالجماء الغفير من سادات الأمة غير أن اجتناب السلف الصالح المبالغة في تعظيم القبور وتجصيصها أفضى إلى انطماس آثار أكثرهم فلذلك لا يعرف قبر معين منهم إلاّ أفراداً معدودة" ) [2].

ويؤيده أيضاً ما ذكره الشافعي- رحمه الله تعالى - في كتابه الأم قال: (ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة) ، قال الراوي عن طاووس: (إن رسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تبنى القبور أو تجصص - قال الشافعي: (وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها فلم أرَ الفقهاء يعيبون ذلك) [3].

وحتى قبورية اليمن يعترفون بذلك، فهذا الشلي [4] يقول وهو يتحدث عن مقابر تريم: (إن كثيرا منهم لايعرف عين قبره، بل ولا جهته لأن المتقدمين كانوا يجتنبون البناء والكتابة على القبور وإنما استحسنه

المتأخرون) [5] 0

المطلب الثاني: ما يستدل به القبورية على وجود مشاهد ومبان على القبور في تلك القرون:

(1) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى (3/ 906) لنور الدين محمد السمهودي توفي (911 هـ) 0

(2) المصدر السابق (3/ 916) .

(3) الأم (11/ 277) للإمام محمد بن إدريس الشافعي.

(4) محمد بن أبي بكر الشلي باعلوي من كبار صوفية حضرموت عاش بمكة وله عدد من المؤلفات أشهرها "المشرع الروي" يعد من أكثر كتب التراجم سخافة وخرافة شحنه بما لا يقبله عقل ولا يقره نقل ومع ذلك فهو عمدة من عمد تاريخ حضرموت قال علوي ابن طاهر الحداد في جني الشماريخ ص (31) : (ولا يحتاج الآخذ من المشرع أن يتطلب حجة في كل شي ء رآه فيه 0 فإن صاحب المشرع من العلم والاطلاع والاستقراء بالمحل العالي وقد شهد له الحبيب الإمام القطب الحداد بالثقة والصدق كما جاء في مجموع كلامه ولا يحضرني الآن نقله بالحرف وناهيك بذلك ناهيك) توفي سنة (1093 هـ) انظر ترجمته: في المشرع وقد ترجم لنفسه (2/ 17) 0

(5) المشرع (1/ 147) 0

القبورية فرقة مبتدعة كسائر الفرق المبتدعة الضالة، يجمعها جميعاً تتبع المتشابه من القول والإعراض عن المحكم الصريح، فبرغم الأدلة القطعية على النهي عن البناء على القبور وتجصيصها واتخاذها مساجد والكتابة عليها وغير ذلك من الأدلة المحكمة، إلا أنهم تركوا ذلك كله واحتجوا بأمور لا يجوز الاحتجاج بها، إما لعدم ثبوتها أو لعدم دلالتها على المطلوب، وسأذكر هنا ما استدلوا به من وجود مبان على القبور في القرون المفضلة وهي:

(1) أن الصحابة - رضي الله عنهم - بنوا مسجداً على القبر في حياته - صلى الله عليه وسلم - فأقرهم على ذلك، ولم يأمرهم بهدمه.

(2) أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضرب خيمة على قبر زينب بنت جحش رضي الله عنها.

(3) أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ضرب الفسطاط على قبر الحكم بن أبي العاص.

(4) أن محمد بن الحنفية ضرب فسطاطاً على قبر عبدالله بن العباس - رضي الله عنه -.

(5) أن فاطمة بنت الحسين امرأة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ضربت على قبره القبة سنة ثم رُفعت.

(6) أن عائشة رضي الله عنها أمرت بفسطاط فضرب على قبر أخيها عبدالرحمن حين مات بذي طوى.

(7) أن خارجة بن زيد قال: (رأيتني ونحن شبان في زمان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وإن أشدَّنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مضعون حتى يجاوزه) .

قلت: هذه سبعة آثار استدل بها القبوريون على وجود أصلٍ لما دَرَجوا عليه من البناء على القبور في عهد

السلف الصالح - رضي الله عنهم - [1]،وسأرد - بحول الله- على ذلك مبيناً أنه لا أساس لما تمسكوا به إلا ما يفعله من قال الله فيهم: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا ّالله} [2].

(1) تجد هذه الشبهات في رسالة (الجواب المشكور) ، وهي عبارة عن فتوى أجاب فيها المفتي عن أسئلة تتعلق بالقبور والبناء عليها ووقع عليها عدد من علماء الهند وأرسلت إلى الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود فقام هو بإحالتها إلى دار الإفتاء التي أجابت عليها بكتاب شفاء الصدور في الرد على الجواب المشكور انظر مقدمة شفاء الصدور (ص 5 - 6) وقد طبع في دار العصمة بالرياض ... (1409 هـ) تحقيق عبد السلام آل عبد الكريم 0 ورسالة (إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور) لأحمد عبد الله الصديق الغماري الطبعة الثانية، نشر مكتبة القاهرة بمصر.

(2) آل عمران (7) .

المطلب الثالث: الرد على ما استدلوا به من الشبهات على وجود مبان على القبور في تلك القرون:

الشبهة الأولى - قولهم بأن الصحابة بنوا مسجداً على القبر في حياته - صلى الله عليه وسلم - فأقرهم على ذلك، وهم يريدون بذلك ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أبي بصير - رضي الله عنه -،حيث ذكر قصة مجيئه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية، وإرسال المشركين يطلبون إرجاعه إليهم وكيف سلَّمه إليهم، ثم قتل أبو بصير - رضي الله عنه - أحد الرسولين ثم خرج إلى سيف البحر ومكث هناك، ولحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وجماعة من المسلمين، وأنهم شكَّلوا عصابة لقطع الطريق على المشركين والاستيلاء على قوافلهم، حتى أرسل المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - يرجونه قبولهم لديه فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم كتاباً بذلك، فجاء الكتاب وأبو بصير - رضي الله عنه - في حال الموت، فمات وكتاب رسول - صلى الله عليه وسلم - على صدره فصلى عليه أبو جندل.

والقصة إلى هنا- في البخاري وغيره-مُسنَدة، غير أن فيما ساقه ابن عبد البر زيادة (( وبنى على قبره مسجداً )) [1]،وهذا موضع الشاهد الذي احتجَّ به القبوريون كما فعل الغماري في رسالته إحياء المقبور حيث قال: (الدليل الثامن: أن الصحابة بنوا مسجداً على القبر في حياته - صلى الله عليه وسلم -) [2] ثم ساق القصة عن الاستيعاب وفيها تلك الزيادة.

قلت: نعم ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستيعاب ولكنه ساق القصة من طريق عبد الرزاق عن معمر -قال الزهري في حديثه: غير أن عبد الرزاق لم يذكر موضع الشاهد وإنما وقف عند قوله: (فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم، إلاّ أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم) [3]، وإلى هنا ساق القصة ابن عبد البر ثم قال: (وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظٍ وأكمل سياقه) ، ثم ذكر القصة وفيها موضع الشاهد (فقدم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً) [4].

فأنت ترى أن ابن عبد البر فرَّق بين رواية عبد الرزاق الموصولة الصحيحة وبين هذه الرواية التي نقلها عن موسى بن عقبة، وقد دمجها الغماري تدليساً

(1) الاستيعاب في أسماء الأصحاب (4/ 21 - 23) ، للحافظ ابن عبد البر، بهامش الإصابة لابن حجر طبع (دار الكتاب العربي) ، بدون تاريخ.

(2) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد على القبور (38) 0

(3) عبد الرزاق في مصنفه (5/ 337 - 342) 0

(4) الاستيعاب (4/ 22 - 23) .

على القارئ ليتوهم أن القصة كلها بذلك الطريق الصحيح المسند والواقع خلاف ذلك.

وبعد أن عرفنا أن قصة المسجد إنما هي من رواية موسى بن عقبة نعود لنقول: هناك اعتراض على الاستشهاد والاستدلال بالقصة من ناحيتين:

الناحية الأولى من جهة السند: فموسى بن عقبة رواها عن الزهري مرسلة، وقد رواها من طريق موسى بن عقبة البيهقي في دلائل النبوة من طريقين عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب مرسلة [1]، كما رواها ابن عساكر في تاريخه، ذكره الشيخ الألباني وقال: (رواية موسى بن عقبة في تاريخ ابن عساكر (8/ 334/1) رواه بإسنادين عنه عن ابن شهاب مرسلا ً أو معضلاً بلفظ: (وجعل عند قبره مسجدا) [2].

وبناء على ما تقدم فإن هذا المرسل لا يحتج به كما هو مقرر عند علماء الحديث، هذا لوكان سالماً من المعارضة، فكيف وهو مخالف لما في البخاري، حيث لم يذكر تلك الزيادة هو ولا أحد ممن خرَّج تلك القصة سوى موسى بن عقبة، ثم هو مخالف للأحاديث التي تبلغ مبلغ التواتر المعنوي في المنع من بناء المساجد على القبور ولعنِ فاعلِ ذلك، مع تأخّر تلك الأحاديث أو بعضها عن هذه الحادثة؛ إذ كان لعن أولئك في مرض موت الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

الناحية الثانية من جهة المتن: في اللفظ الذي ذكره ابن عبد البر (وبنى على قبره مسجداً) ،هذا اللفظ قد خالفه ثلاثة من الحفاظ، روَوه بلفظ: (وجعل عند قبره مسجداً) ، وهم: البيهقي في دلائل النبوة، وابن عساكر في تاريخه وتقدم العزْو إليهما، والثالث الحافظ ابن حجر في الفتح حيث قال في شرح الحديث الذي ساقه البخاري في كتاب الشروط من صحيحه: (وفي رواية موسى بن عقبة عن الزهري فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بصير فقدم كتابه وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجداً) [3]،

وظاهر أن (عند قبره) يختلف قطعاً عن (على قبره) ، فبناء المسجد على القبر هو الذي فيه النزاع، والذي قد وردت الأحاديث بتحريمه ولعن فاعله، وأما البناء عند القبر فيختلف باختلاف قصد الباني وليس فيه نهي لذاته فلو فرضنا أن هذا اللفظ صحيح فإنه لا دليل فيه على مطلوب القبورية.

وهناك ناحية ثالثة وهي على افتراض أن السند صحيح وأن اللفظ هو كما أورده الغماري: (على قبره مسجداً) ، فإن التعارض قائم لا شك ولا إمكان

(1) دلائل النبوة (4/ 172 - 175) ، للإمام البيهقي، تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي، طبع دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى سنة (1405 هـ - 1985 م)

(2) تحذير الساجد ص (118)

(3) فتح الباري (5/ 351)

للجمع، والتاريخ معروف، فقصة أبي بصير قبل السنةِ الثامنة سنةِ الفتح، والأحاديث الناهية عن اتخاذ المساجد على القبور في آخر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -،بعضها قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أيام [1] وبعضها وهو محتضر [2] فهي ناسخة لتلك القصة وبهذا لا يبقى للقبورية أي استدلال بهذه القصة.

الشبهة الثانية من شبهات القوم: أن عمر بن الخطاب ضرب خيمة على قبر زينب بنت جحش رضي الله عنها.

قلت: قصة ضرب عمر - رضي الله عنه - الخيمة على قبر زينب بنت جحش رضي الله عنها رواها ابن سعد من طريق محمد بن المنكدر، وعن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه، فلفظ محمد بن المنكدر عن عمر: (أنه مرَّ على حفارين يحفرون قبر زينب في يوم صائف فقال: (لو أني ضربت عليهم فسطاطاً، فكان أول فسطاط ضرب على قبر) [3]، ولفظ موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه (أمر بفسطاط فضرب على قبرها لشدة الحر يومئذ فكان أول فسطاط ضرب على قبر بالبقيع) [4]، وهناك لفظ ثالث عن عبدالله بن ربيعة قال: (رأيت عمر بن الخطاب صلى على قبر زينب بنت جحش سنة عشرين في يوم صائف ورأيت ثوباً مد على قبرها وعمر جالس على شفير القبر) [5].

وهذه الألفاظ جميعها مبينة أن الفسطاط الذي ضرب أو الثوب الذي مد كما في الرواية الثالثة؛ إنما مُدَّ لإظلال الحفارين ووقايتهم من حر الشمس في ذلك اليوم الصائف، فأي دليل فيه على بناء المساجد والمشاهد على القبور؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!،‍هذا إن صح، ولم أكلِّف نفسي البحث في أسانيدها لأنها حتى لو صحت لم تدل على قصد المستدل، وهذا واضح فبطل الاستدلال بهذه القصة.

الشبهة الثالثة من شبهات القوم: قصة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين ضرب الفسطاط على قبر الحكم بن أبي العاص، ولفظها عند ابن سعد من طريق الواقدي سنده إلى ثعلبة بن أبي مالك قال: (رأيت يوم مات الحكم بن أبي العاص في خلافة عثمان بن عفان ضرب على قبره فسطاطاً في يوم صائف، فتكلم الناس فأكثروا في الفسطاط فقال عثمان: (ما أسرع الناس إلى الشر وأشبه بعضهم إلى بعض، أنشدكم الله من حضر نشدتي: هل علمتم عمر بن الخطاب ضرب على قبر زينب

(1) هو حديث جندب بن عبدالله - رضي الله عنه - تقدم تخريجه ص (19) 0

(2) هو حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما وكلا الحديثين تقدم تخريجهما (17) .

(3) ،2، 3 والثلاثة الآثار رواها ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 112 - 113) ، طبع دار صادر بيروت، وطريق موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث وهو التميمي رواه الحاكم في المستدرك (4/ 24) ، كتاب معرفة الصحابة (ذكر زينب بنت جحش) .

بنت جحش فسطاطاً؟ قالوا: نعم، قال: فهل سمعتم عائباً؟ قالوا: لا) [1]،قلت: الحديث في سنده الواقدي ومع ذلك فهو من حيث الدلالة كالذي قبله لادليل فيه على ما يريدون.

الشبهة الرابعة من شبهاتهم: أن محمداً بن الحنفية ضرب فسطاطاً على قبر عبدالله بن عباس - رضي الله عنه -،قلت: الأثر رواه ابن أبي شيبة من طريق هشيم عن عمران بن أبي عطاء قال: (شهدت وفاة ابن عباس فوليه ابن الحنفية فبنى عليه بناءً ثلاثة أيام) [2] وكذلك أخرجه الحاكم من طريق هشيم إلا أنه قال: (حدثنا أبو حمزة، ثنا عمران بن أبي عطاء، فجعلها اثنين أبا حمزة وعمران مع أن الصحيح أن أبا حمزة هو عمران نفسه فلا أدري أهي غلطة مطبعية أم أنه وهم من الحاكم -رحمه الله-،ولم يعلق الذهبي على ذلك، ولا محقق الكتاب في طبعته الجديدة [3]، وكذلك رواه الخطيب في "مُوضِح أوهام الجمع والتفريق" من طريقين: أحدهما عن سفيان عن عمران بن أبي عطاء، وأخرى عن هشيم عن أبي حمزة الأسدي يريد بذلك إثبات أن عمران بن أبي عطاء هو أبو حمزة الأسدي) [4]، وعمران الذي يدور عليه الأثر من رجال مسلم وقال عنه الحافظ في التقريب: (صدوق له أوهام) [5]، فالأثر ثابت رغم ذلك؛ لأنه يحكي مشاهدة ورؤية فلا يضر ما قيل عنه من أوهام، غير أن الأثر لا يفيد القوم شيئاً إذ أنه لا يخرج عما سبق من الآثار، إذ بقاء الفسطاط -الذي جاء مصرحاً به في رواية الجميع كان لمدة ثلاثة أيام فقط- دالّ أنه كان لغرض آخر غير ما تَرمِي إليه القبورية؛ فإما أن يكون بُنِي على الحفارين ثم ظلَّ كذلك وهذا الأقرب وإما لأمر آخر، ولكن أن يحتج به على بناء المشاهد والمساجد على القبور فهذا لا يقوله عاقل منصف.

الشبهة الخامسة: قصة فاطمة بنت الحسين وضربها القبة على قبر زوجها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

قلت: هذا الأثر قد علَّقه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، في باب "ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور" قال: (ولما مات الحسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم -

(1) رواه ابن سعد في الطبقات (8/ 113) من طريق محمد بن عمر الواقدي وهو متهم بالكذب.

(2) ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الجنائز (في الفسطاط يضرب على قبر) (3/ 335 - 336) 0

(3) الحاكم في المستدرك (4/ 702) ، كتاب معرفة الصحابة (ذكر وفاة عبدالله بن عباس - رضي الله عنه -) .

(4) موضع أوهام الجمع والتفريق (2/ 332) ، للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي، طبعة دار المعرفة بيروت الطبعة الأولى سنة (1407 هـ - 1987 م) .

(5) تقريب التهذيب (751) ،للحافظ ابن حجر 0

ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رُفعت فسمعوا صائحاً يقول: (ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا) [1]

وهذا الأثر قد حمَلَ نقدَه وتفنيدَه معَه؛ لأمور:

الأمر الأول - إيراد البخاري له في هذا الباب دال على استنكاره له، قال الحافظ -رحمه الله-: (ومناسبة هذا الأثر لحديث الباب أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة هناك فيلزم اتخاذ المسجد عند القبر وقد يكون في جهة القبلة فتزداد الكراهة) [2].

والأمر الثاني ذكرُ الهاتف فإنه مُشْعِر بقبح ما صنعت تلك المرأة.

قال ابن المنير _كما نقل عنه الحافظ _: (إنما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه تعليلاً للنفس، وتخيلاً باستصحاب المألوف من الأنس ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ومخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة أومن مؤمني الجن، وإنما ذكره البخاري لموافقته للأدلة الشرعية لا لأنه دليل برأسه) [3]، إذاً فعلى رأي ابن المنير إنما أورد البخاري ذلك للاستئناس به لما ذهب إليه من كراهة اتخاذ المساجد على القبور وليس لتأييد ذلك.

قال القسطلاني -رحمه الله - في شرحه على البخاري: (ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة فيه فيسلتزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهية وإذا أنكر الصائح بناءً زائلاً وهو الخيمة فالبناء الثابت أجدر، ولكن لا يُؤخَذ من كلام الصائح حكم لأن مسالك الأحكام الكتاب والسنة والقياس والإجماع ولا وحي بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا وأمثاله تنبيه على انتزاع الأدلة من مواضعها واستنباطها من مظانها) [4]. وبهذا يظهر أن الدليل هو لنا وليس للقبورية.

الشبهة السادسة من شبهات القوم: أن عائشة رضي الله عنها أدركت أخاها عبد الرحمن بعد موته -حين رفعوا أيديهم عن دفنه بذي طوى -فأمرت بفسطاط فضرب على قبره.

(1) البخاري مع الفتح (3/ 200) .

(2) المصدر السابق (3/ 200)

(3) المصدر السابق (3/ 200) .

(4) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (2/ 430) ، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني، دار إحياء التراث بيروت بدون تاريخ.

قلت: هذا الأثر علقه البخاري -رحمه الله تعالى- قال: (رأى ابن عمر - رضي الله عنه - فسطاطاً على قبر عبدالرحمن فقال: انزعه يا غلام فإنما يظلّه عمله) [1].

وقال الحافظ في شرحه: (وعبد الرحمن هو ابن أبي بكر الصديق بَيَّنَه ابن سعد في روايته له موصولاً من طريق أيوب بن عبدالله بن يسار قال: (مرَّ عبدالله بن عمر على قبر عبدالرحمن بن أبي بكر أخي عائشة وعليه فسطاط مضروب فقال: يا غلام انزعه فإنما يظله عمله، قال الغلام تضربني مولاتي. قال: كلا فنزعه) ،ومن طريق ابن عون عن رجل قال: (قدمت عائشة ذا طوى حين رفعوا أيديهم عن عبدالرحمن بن أبي بكر فأمرت بفسطاط فضرب على قبره ووكلت به إنساناً وارتحلت فقدم ابن عمر ... ) فذكر نحوه، وقد تقدَّم توجيه إدخال هذا الأثر في هذه الترجمة)، قلت: يعني ما ذكره في الأثر السابق أثر فاطمة بنت الحسين وهو أن البخاري قاس الفسطاط على المسجد في الكراهة.

وهذا الأثر كذلك يجب أن يستدل به على محاربة الصحابة لتلك المظاهر لا على إثباتها وتأصيلها، فعائشة رضي الله عنها نصبت تلك الخيمة ولم يتبين لنا ما هو السبب في ذلك، ولا لأي غرض كان نصبها، ثم ذهبت فلما جاء ابن عمر - رضي الله عنه - استنكر ذلك وعبّر عن استنكاره بالأمر بنزع ذلك الفسطاط، رغم إخبار الغلام له بأن من أمر به هو عائشة رضي الله عنها، ورغم ما يكنّه الصحابة جميعاً لعائشة رضي الله عنها من التقدير والاحترام، إلا أن ذلك لم يمنع ابن عمر من تغيير ما رأى أنها أخطأت فيه.

ولم يذكر بعد ذلك لنا محدث ولامؤرخ أن عائشة اعترضت على ما فعله ابن عمر، وهذا دليل على أنها رجعت إلى ما رآه ابن عمر، خصوصاً وأن عائشة رضي الله عنها ليست ممن يسكت على ما يرى خلافه، ومن أجل ذلك كثرت استدراكاتها على الصحابة حتى جمعها الزركشي - رحمه الله - في كتاب مستقل سماه (الإجابة لما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة) ولم يذكر هو ولا غيره أن عائشة رضي الله عنها استدركت على ابن عمر ما فعل، فسقط هذا الدليل والحمد لله.

الشبهة السابعة: أثر خارجة بن زيد -رحمه الله- أحد الفقهاء السبعة أنه قال: (رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان - رضي الله عنه - وإن أشدنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه) .

قلت: الأثر علقه البخاري [2] بنفس اللفظ، وقد تعرض له العلامة عبدالرحمن المعلمي اليماني [3] - رحمه الله- في كتاب البناء على القبور وردّه من أحد عشر

(1) صحيح البخاري كتاب الجنائز باب (الجريدة على القبر) (2/ 457) .

(2) في الصحيح كتاب الجنائز (الجريدة على القبر) (2/ 465) .

(3) هو العلامة المحدث المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، رحل في طلب العلم والمعاش، فمكث مدة في الهند ثم استقر في مكة المكرمة أمينا لمكتبة الحرم المكي، حقق عدداً كثيراً من كتب الحديث والرجال، وألف في الرد على أهل البدع والباطل من أشهر كتبه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" وله كتاب بعنوان "البناء على القبور" لم يكمله، وفي الموجود منه ما يدل على تحقيق بالغ وعلم غزير كما أن له كتابا بعنوان "القائد إلى تصحيح العقائد" توفي رحمه الله بمكة سنة (1386 هـ) انظر ترجمته بقلم عبد الله ابن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعلمي في مقدمة التنكيل ص (9) طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء = = والدعوة والإرشاد بالرياض (1403 هـ -1983 م) وهجر العلم (3/ 1266) طبع دار الفكر المعاصر بيروت، ودار الفكر سورية الطبعة الأولى (1416 هـ - 1996 م) .

وجهاً، وأكتفي بوجهين اثنين فقط أراهما مزيلين للإشكال، قال رحمه الله: (ثانياً في تهذيب التهذيب في ترجمة خارجة: "قال ابن نمير وعمرو بن علي: مات سنة (99 هـ) وقال ابن المديني وغير واحد: مات سنة مائة" ، فظاهر هذا أن الأكثر على أن موته كان سنة مائة والجمع أولى بأنه مات أواخر سنة (99 هـ) ، وفي تاريخ ابن عساكر أنه توفي وعمره سبعون سنة، وذكر لذلك قصة أن خارجة قال: "رأيت كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها هويت وهذا السنة لي سبعون سنة وقد أكملتها، قال فمات فيها" .

ونقل مثله ابن خلكان عن طبقات ابن سعد، فإذا أنقصنا سني عمره من سني الهجرة لموته بقي تسع وعشرون، فيكون مولده آخر سنة تسع وعشرين، وعثمان قتل سابع ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فيكون سن خارجة يوم قتل عثمان ست سنين تقريباً، فكيف يكون شاباً في زمن عثمان؟.

وقد راجعت طبقات ابن سعد، "طبع أورُبَّا" فظهر أنه روى هذه القصة عن الواقدي) - قلت: والمعلمي -رحمه الله- يشير بذلك إلى ضعف القصة حيث ظهر تناقضها- ثم قال (ثالثاً: إذا سلم إسناده ولم نعتبر هذه علة قادحة فيه، فإنه ينبغي الجمع بأن يتأول الأثر بأن قوله: (شبّان) مجاز، أراد أننا غلمان أقوياء أصحاء كأننا شبان، ويؤيد هذا كلمة (غلمان) الثابتة في التاريخ وإن حذفت في التعليق، ويؤيده أيضاً أنه لو كانوا أبناء تسع سنين ونحوها لما ذهبوا يتواثبون على قبر رجل من أفاضل السابقين، ولاسيما وبجواره قبر ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ممنوع في الشرع اتفاقاً لأن من روى عنه إباحة الجلوس على القبر لا يبيح التوثب عليه. وقوله: (إن أشدنا وثبة ... الخ) .يدل أن أكثرهم يقصر فيقع على القبر والذي يجاوزه يقع على القبور المجاورة، وأبناء الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا يبلغون التمييز إلاّ وهم عارفون آداب الدين ملتزمون لها مثل خارجة بن زيد، وعلى هذا فلا دلالة في الأثر لأن الغلام الذي عمرُه ست سنين -وإن كان قوياً - يشق عليه أن

يثب أكثر من ذراعين ونصف على وجه الأرض وهذا هو عرض القبر عادة تقريباً.

ويشبه أن يكون قبر عثمان بن مظعون أعرض قليلاً من القبور المعتادة، ويكون خارجة أراد بذلك القول: الإخبار عن عرض القبر ليخبرهم أن السنة توسعة القبر) [1].

وبهذا تنقطع حجة القبوريين في جميع ما استدلوا به من وجود مظاهر القبورية في عهد السلف الصالح وسأثبت - إن شاء الله - إضافة لما سبق خلاف ذلك: وهو إنكار السلف لكل ما هو من هذا القبيل والتنصيص على منع إقامة الفساطيط وما هو أعلى منها في المطلب الرابع.

المطلب الرابع: التصريح بتسوية الصحابة لما ارتفع من القبور وإزالة ما استجد في المقابر من فساطيط ونحوها:

تقدم في الباب التمهيدي في الأسلوب السابع: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية القبور المشرفة، وذلك عن فضالة بن عبيد، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -،وكذلك تطبيقهما لذلك، فأمر فضالة بتسوية قبر [2] صاحبهم الذي مات برودس، كما بعث علي - رضي الله عنه - أبا الهياج الأسدي لذلك الغرض [3]،وكذلك عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان يأمر بتسوية القبور بما في ذلك قبر ابنته أم عمرو بنت عثمان [4]، ومن ذلك تعامل أبي موسى وأصحابه مع قبر دانيال وقد مر [5] وأما قضية الفساطيط فقد مرَّ معنا قصة عائشة في وضع فسطاط على قبر أخيها عبد الرحمن وكيف أزاله ابن عمر ولم تعترض على ذلك [6]، وكذلك ما فعلته فاطمة بنت الحسين ومانبه به على خطئها من الهاتفين، وكيف أدخل البخاري ذلك في باب كراهية اتخاذ المساجد على القبور [7].

(1) البناء على القبور ص (33 - 34) ، للعلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي، تحقيق حاكم بن عبيسان المطيري، الطبعة الأولى ... (1417 هـ -1996 م) ، دار أطلس الرياض، وقد رد في هذا الكتاب وبأسلوب قوي وحجج رصينة ساطعة شبهة اتخاذ المسجد على أصحاب الكهف فليرجع إليها من أراد معرفة الحقيقة.

(2) انظر: ص (24) .

(3) انظر: ص (24) .

(4) الباب التمهيدي ص (24) .

(5) انظر: ص (37 - 38)

(6) انظر: ص (87)

(7) انظر: ص (87) .

وقد أوصى بعض الصحابة والتابعين بالمنع من إقامة الفسطاط على قبورهم أو رفعها، فأوصى أبو هريرة - رضي الله عنه - (ألا يضربوا على قبره فسطاطاً) [1]، وأوصى بمثل ذلك أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - [2]، وكذلك أوصى بمثل ذلك سعيد بن المسيب [3]، وقال محمد بن كعب القرظي (هذه الفساطيط التي على القبور

محدثة) [4]، وقال عمر بن شرحبيل: (لا ترفعوا جدثي [5] فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك [6].

فهذه الآثار كافية لإثبات منهج الصحابة والتابعين في وضع القبور وتسويتها والمنع من عمل أي شيء يؤدي إلى تعظيمها والغلو في أصحابها.

المطلب الخامس: محاولات الشيعة المبكرة لإنشاء المشاهد وتصدي الخلفاء لذلك:

لقد نشأت الشيعة -يوم نشأت- غالية في حبها غالية في بغضها، وكانت الرافضة من أكثر فرق الشيعة غلواً، ولا عجب فإن مُنْشِئها ومؤسسها الأول كان يهودياً غالياً، يحمل أسوأ ما عند اليهود من عقائد، وينطوي على أبشع ما لديهم من حقد على الإسلام والمسلمين، ذلك هو أحد أهم رؤوس أهل الرفض عبدالله بن سبأ

(1) رواه عبد الرزاق (3/ 418) كتاب الجنائز باب لا يتبع بالجمرة، وابن أبي شيبة في كتاب الجنائز: في الفسطاط يضرب على القبر (2/ 335) ، وزاد الشيخ الألباني -رحمه الله -عزوه إلى الربعي في وصايا العلماء (2/ 141) ، وابن سعد (4/ 338) قال: وإسناده صحيح تحذير الساجد ص (143) .

(2) ابن أبي شيبة في نفس الباب السابق (2/ 335 - 336) ، وعمر بن شبَّه في أخبار المدينة الطبعة التي علّق عليها الشيخ عبدالله الدويش (ص 96 - 97) دار العليان بريدة الطبعة الأولى (1411 هـ-1990 م) ،وعزاه الشيخ الألباني إلى ابن عساكر (7/ 96) وقال: إسناده ضعيف، لكن له طرق أخرى عند ابن عساكر فهو بها صحيح. انظر: تحذير الساجد ص (143) . وقال الشيخ الدويّش معلقاً على سند ابن شبَّه: رجاله رجال الصحيح إلا عبد الرحمن بن الرجال قال في التقريب: (صدوق ربما أخطأ) . قلت: ومن كان هذا حاله فحديثه حسن عند ابن حجر -رحمه الله -.

(3) رواه ابن سعد في الطبقات (5/ 142) .

(4) ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 336) ، قال الشيخ الألباني في تحذير الساجد ص (143) : ورجاله ثقات غير ثعلبة وهو ابن الفرات، قال أبو حاتم وأبو زرعة: (لا أعرفه) كما في "الجرح والتعديل" (2/ 464 - 465) طبع دار الفكر طبعة مصورة من طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الهند سنة (1371 هـ-1952 م) .

(5) الجدث: القبر، انظر: القاموس المحيط ص (213) .

(6) رواه ابن سعد (6/ 108) وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد (ص 134) .

اليهودي [1]، فلا غرابة أن تحمل تلك الفرقة بذور القبورية والوثنية في طياتها منذ نشأتها الأولى، ففي الوقت الذي كانت الأمة -كل الأمة- تحارب القبورية وتطمس آثارها، كان هؤلاء الغلاة يحاولون إنشاء المشاهد والقباب على قبر الحسين - رضي الله عنه - في كربلاء، ولكن يقظة الخلفاء والأمراء وما يجري في عروق الأمة من مقاومة لتلك القبورية كان يقف حائلاً قوياً وسداً منيعاً دون تمكين الرافضة من تلك الغاية.

وبنظرة عابرة إلى تاريخ كربلاء يتبين ذلك، فقد زعم مؤرخو الرافضة أن أول بناء أقيم على قبر الحسين - رضي الله عنه - كان بعد دفنه مباشرة [2]،ولم أرَ في تواريخ أهل السنة ما يؤيد ذلك، وقد اختلفوا فيمن أقام تلك المباني فقيل: بنوأسد الذين تولَّوا دفنه، وقيل المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكلا الاحتمالين لم يقيموا عليه دليلاً معتبراً، وعندي أنه إن كان ذلك ثابتاً فالمختار أحرى به؛ لأنه كان شيعياً متعصباً نذر نفسه للقضاء على قتلة الحسين مع ما عنده من انحرافات وكذب على الله حتى زعم أنه يُوحى إليه [3].

(1) هو عبدالله بن سبأ الهمداني وقيل الحميري، اليماني النسب والدار، اليهودي الديانة، أسلم زمن عثمان وهاجر إلى الحجاز ثم إلى الشام ومصر، وهناك تحرك في تحريض الثوار على عثمان - رضي الله عنه - حتى قتلوه، ثم عاد فاندس في أصحاب علي - رضي الله عنه - وغرس فيهم العقيدة الضالة عقيدة ألوهية علي - رضي الله عنه -، فما كان من علي - رضي الله عنه - إلا أن زجرهم عن ذلك فلما لم ينزجروا أحرقهم بالنار 0 وهل أُحرق معهم؟ ربما الأصح أنه هرب ولم يحرق، ثم كوَّن فرقة هي من أخبث فرق الشيعة وتسمى السبئية، أخرجها جمهور السنة والشيعة من فرق المسلمين، وقد أثبت وجود هذه الشخصية الخبيثة مؤرخو السنة والشيعة على السواء، غير أن بعض المعاصرين من آيات الشيعة وجد أن ترقيع ذلك الثوب المهلهل لا يجدي، فقرر عدم وجود شخص اسمه عبدالله بن سبأ، واتهم سيف بن عمر الضبي الإخباري المشهور باختراع هذه الشخصية، غير أن باحثي أهل السنة فندوا تلك الدعوى، ورد على ذلك المؤلف الشيعي عدد من باحثي أهل السنة في مواضع مختلفة ومناسبات مختلفة، وأجمَعُ ذلك -حسب علمي- هي رسالة الشيخ سليمان بن حمد العودة التي تقدم بها لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قسم التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية بالرياض عام (1402 هـ) بعنوان (عبدالله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام) ، ونشرتها دار طيبة للنشر والتوزيع بالرياض، فليرجِع إليها من أراد الوقوف على حقيقة هذا الرجل.

(2) تاريخ كربلاء (حائر الحسين - رضي الله عنه -) ،للدكتور عبد الجواد الكليدار، طبع مدبولي الصغير بالقاهرة بدون تاريخ ص (151) .

(3) هو كذاب ثقيف المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، أظهر التشيع أيام معاوية فنفي إلى الطائف، فلما قام عبدالله بن الزبير وفد إليه فأرسله إلى العراق، وهناك اتصل بالشيعة وزين لهم أمر إمامة محمد بن الحنفية بدون أمره، وأظهر المخاريق وزعم أن جبريل بأتيه بالوحي، وتتبع قتلة الحسين ثم قامت الحرب بينه وبين مصعب بن الزبير أمير العراق من قبل أخيه عبدالله وبعد جولات هزمه مصعب وقتله وقتل جمعاً من أصحابه، وفيه تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها للحجاج: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن في ثقيف كذاباً ومبيراً) أما الكذاب فرأيناه - تعني المختار - وأما المبير فما أخالك إلا إياه) رواه مسلم.

وفيه يقول سراقة البارقي:

كفرت بوحيكم وجعلت نذراً ... عليَّ جهادكم حتى الممات

أُرِي عينيَّ ما لم تَرَياه ... كلانا عالم بالترهات

ترجمه الذهبي في السير (3/ 538) وما بعدها، وابن كثير في البداية والنهاية (8/ 289) وما بعدها.

ولكن كيف تم له ذلك؟ وإن تم فكيف يُقرّ ويُترك في ظل دولة ابن الزبير، ثم في ظل دولة بني أمية؟، وهم كما يقول مؤرخ كربلاء: (أقاموا المخافر والمسالح [1] المدججة بالعتاد والسلاح والرجال على أطراف كربلاء لمطاردة الزوار ومعاقبتهم بأقسى العقوبات من القتل والصلب والتمثيل بهم) [2].

إن أولئك الزوار المزعومين - الذين وضعت دولة بني أمية العتاد والسلاح والرجال لمنعهم من الزيارة -إنما كانوا يزورون ذلك المكان المقدس المعلّم بالبناء المزعوم، فكيف يُعقل أن يترك البناء طيلة تلك الفترة دون أن يتعرضوا له، مع وجود ما قيل من المنع من الزيارة والمعاقبة لمن ظُفر به من الزوار.

وقد زعم مؤرخ كربلاء أن أول من تعرَّض لهدم ما على القبر من بناء هو أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين، ولم يرجع ذلك إلى مصدر معتمد، وإنما عزاه إلى منظومة بعنوان "مجالي اللطف" للشيخ محمد السماوي [3].

قلت: إن صح هذا فإنه قد يكون هناك مبانٍ يسيرة بُنيتْ خلسة في حال غفلة من الرقباء، فلما عرف بها المنصور بادر إلى هدمها ..

ثم زعم مؤرخ كربلاء أنه في عهد هارون الرشيد وفي آخر أيامه بالذات: (هدَم الحائر وكَرَبَ موضَع [4]

القبر المطهر وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده ليمحو بعد ذلك كل أثر له) [5]، وهذا إن صح فهو شبيه بما فعله أبو جعفر المنصور، وقد أورد بعد ذلك قصة توحي بأنه كان للحائر نظام معين وله خدم وسدنة موظفون للقيام بواجب الخدمة

(1) المخافر: جمع مخفر وهو مكان الخفارة والحراسة، والمسالح: جمع مسلحة وهم القوم ذوو السلاح. القاموس ص (287) ، والمعجم الوسيط (1/ 246) .

(2) تاريخ كربلاء ص (183 - 184) .

(3) المصدر السابق ص (184) .

(4) الحائر: موضع قبر الحسين - رضي الله عنه -، وكرَبَه: أثاره للزرع. انظر: القاموس ص (166)

(5) المصدر السابق (ص 186)

وأوقاف هي تلك الأموال التي أجرتها أم موسى وهي أم المهدي ابنة يزيد بن منصور وقد عزى تلك القصة إلى الطبري في تاريخه في حوادث عام (193 هـ) [1].

وعلى كل حال فاحتمال أن يكون الشيعة - في الفترة ما بين عصر المنصور والرشيد - قد تمكنوا من عمل شيء ما من البدع وأحدثوا شيئاً ما من المعالم على قبر الحسين - غير بعيد، ولكن حينما فطن لها الرشيد فعل ما يجب عليه من إزالة لما أوجب الشرع إزالته، وأما كون القبر قد صار له نظام معين وإدارة وسدنة .... الخ فهذه مزاعم لادليل عليها، ولا تتماشى مع واقع ذلك العصر.

ثم ذكر أن القبر وما عليه من بناء وما حوله من دور قد هدمت في أيام الخليفة المتوكل أربع مرات خلال خمسة عشرة سنة، وأطال في ذلك جداً وكانت مراجعه في ذلك في الغالب كتب الشيعة وبعض كتب مؤرخي أهل السنة، والذي يظهر أن بناءً بشكل ما قد أقيم على القبر، وذلك بعد عهد الرشيد وفي أيام الخلفاء الذين تبنوا مذهب الشيعة وهم المأمون والمعتصم والواثق، إما برضى منهم أو بانصرافهم عن مراقبة تلك البقعة وما يدور فيها، لعدم الحساسية التي كانت لدى أسلافهم، من ذلك؛ فتمكن المتربصون من الرافضة مما يريدون، حتى إذا كانت خلافة المتوكل ورجع عن التشيع والاعتزال وأحاط به أهل السنة قام بما يجب عليه من طمس تلك المعالم المخالفة للشرع تنفيذاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه عنه على بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

هذا الذي يمكن أن يكون قد حصل وأما ما كثَّر به الدكتور عبد الجواد الكلام وسوَّد به الصفحات فهو مما لا تطمئن إليه النفس، إذ يبعد أن يحصل ذلك أربع مرات في خلال خمس عشرة سنة مع إصرار المتوكل على منع أي إحداث في ذلك الموضع، وقد ذكر بعد ذلك أن المنتصر بن المتوكل كان قد أعاد البناء على قبر الحسين ووضع عليه ميلاً عالياً يرشد الناس إليه، واعتمد في ذلك على مراجع شيعية فقط.

غير أن مؤرخي السنة قد ذكروا ميل المنتصر إلى آل أبي طالب ومحبته لهم وإرجاع بعض ما كان لهم من الأوقاف وغيرها [2]، ومن هنا فلا يستبعد أن يجيبهم إلى شيء من ذلك، غير أن كل ما يمكن أن يقال: أنه فعله، إنما هو وضع علامة على قبر الحسين - رضي الله عنه - فقط، ليعرف موضع القبر، والشيعة عندما يستميتون في إثبات ذلك إنما يريدون الاستدلال على عراقة ما هم عليه من القبورية المعاصرة وأن جذورها ممتدة إلى القرون المفضلة.

(1) المصدر السابق ص (186) .

(2) تاريخ الخلفاء (356) لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة دار السعادة مصر، الطبعة الأولى ... (1371 هـ 1952 م)

وبهذا تعرف أن القرون الثلاثة المفضلة مضت وليس هناك قبور معظمة، ولا مشاهد أو قباب ولا غيرها من مظاهر القبورية، ولا شيء من طقوس ومراسيم العبادات القبورية، وما حاول فعله الرافضة من ذلك فقد جُوبِهَ بردع قوي من خلفاء المسلمين وأمرائهم.

ولا يقدح فيما قرره العلماء من خلو القرون المفضلة من مظاهر القبورية، وجود بعض قبور للخلفاء قد أبرزت وبنيَ عليها، إذ أن ذلك لم يدخل فيما قصدوه بالنفي، حيث إن الكلام هو في مشاهد من يعتقد فيهم الصلاح ويُقْصدون للتبرك، وذلك غير موجود في قبور الأمراء والسلاطين، على أن هذه القبور التي بُني عليها إنما كانت في القرن الثالث بعد الجولة التي ظهر فيها الرفض والتجهم أيام المأمون والمعتصم والواثق، وقد نص المؤرخون على أن أول خليفة أبرز قبره هو الخليفة محمد المنتصر بن المتوكل العباسي المتوفى سنة (248 هـ) بطلب من أمّه الرومية الأصل [1].

ثم بنيت عليه قبّة عرفت فيما بعد باسم القبّة الصليبية ودفن مع المنتصر فيها الخليفتان المعتز (ت 255 هـ) والمهتدي (256 هـ) ،وقد قرر المستشرق (هرستفيلد) أنها أول قبّة في الإسلام، وأقره على ذلك عدد من المؤرخين المعاصرين [2]،وهذا تأكيد ثان على ما سبق تقريره من أن القرون المفضلة مرت وليس فيها مشاهد ولا قباب على قبور الأئمة والأولياء ومن يُرى فيهم الصلاح.

(1) ذكر ذلك الطبري في حوادث سنة (248 هـ) . وعنه ابن كثير في البداية والنهاية نفس السنة (10/ 354) ونص كلام ابن كثير في ترجمة المنتصر ابن المتوكل: (وهو أول خليفة من بني العباس أبرز قبره بإشارة من أمّه حبشية الرومية) ،قلت: اسمها حبشية وأصلها رومية فهي نصرانية قبورية.

(2) مساجد مصر وأوليائها الصالحون (1/ 46) للدكتورة سعادة ماهر محمد طبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية مصر بدون تاريخ، وموسوعة العتبات المقدسة (12/ 229) لجعفر الخليلي الطبعة الثانية (1407 هـ-1987 م) مؤسسة الأعلمي بيروت، ومعالم الحضارة العربية الإسلامية ص (34) للدكتور قصي الحسين الطبعة الأولى (1414 هـ-1993 م) المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت، والعمارة الإسلامية ص (43) للدكتور كامل حيدر دار الفكر اللبناني بيروت.

بين يدي هذا الفصل

إننا عندما نبحث عن القبورية في العالم لسنا مجرد مؤرخين، يطيب لهم أن يتعرفوا على أحداث ويصوروا مجتمعات، ويصفوا ما وصلوا إليه من أحوال العالم لمجرد السرد التاريخي، وإنما نبحث ذلك منطلقين من سنة كونية ثابتة أخبرنا عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي أن هذه الأمة ستأخذ مأخذ الأمم السابقة، وستسلك سبيلها في كل جوانب حياتها بما في ذلك الجوانب الاعتقادية والتعبدية والأخلاقية.

فإذا ثبت أن تلك الأمم عظَّمت القبور وآثار الصالحين وتدرجت في ذلك حتى عبدت أولئك الصالحين-في نظرها- فإن من هذه الأمة من سيفعل ذلك، وهذا ما أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يشاهد على أرض الواقع.

فأما ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيما رواه البخاري من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال ومَنْ الناس إلا أولئك )) [1].

وروى البخاري أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمَنْ؟ )) [2].

(1) البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتبعن سنن من كان قبلكم الفتح (13/ 300) .

(2) المصدر السابق (13/ 300) .

وقد وقع ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - كاملاً 0 والذي يهمنا إثباته هو مشابهة هذه الأمة للأمم قبلها في قبوريتهم، وتعظيمهم للأنبياء والصالحين، وانتشار عقائدهم الباطلة لدى كثير منهم، وهذا ما سوف نبيّنه في هذا الفصل إن شاء الله.

الفصل الثالث

نشأة القبورية في العالم

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول

نشأة القبورية في العالم بأسره

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: إثبات أن البشرية كانت على التوحيد قبل طروء الشرك.

من المعلوم المتفق عليه أن الله تعالى خلق الخلق جميعاً على فطرة التوحيد، فآدم عليه السلام هو الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته، وجرى له في الجنة ما جرى، ولم يكن من ذلك شيء يخالف التوحيد أو يقدح فيه، ثم أهبطه إلى الأرض نبياً كريماً ورسولاً مرشداً إلى ذريته، و هو قول جمع من العلماء.

وعلى تعاليم رسالة آدم نشأ بنوه وعلى نهجه ساروا، حتى لقد صرح عكرمة - رضي الله عنه - بأنهم داموا على ذلك عشرة قرون، [1] وهذا الذي ذكرناه من نشأة البشرية على التوحيد هو ما قرره القرآن وشهدت به السنة المطهرة.

أما القرآن ففي قول الله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [2].

ففي الآية الكريمة أن الدين الذي أمر الله رسوله أن يقيم وجهه عليه هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ثم أكّد ذلك بقوله {ذلك الدين القيم} فالدين الحنيف والدين القيم هو التوحيد وهو الذي فطر الله الناس عليه.

قال ابن كثير - رحمه الله: (فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره) [3].

(1) تفسير الطبري (29/ 62) .

(2) الروم (( 30).

(3) تفسير ابن كثير، طبعة دار الشعب (6/ 320) .

وقد أكدت ذلك السنة وفصَّلته وذلك فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترون فيها من جدعاء؟ [1] [2] ثم يقول أبو هريرة: (واقرأوا إن شئتم {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [3].

قال ابن حجر - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: (وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة - رضي الله عنه - وبحديث عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: (( وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم )) [4] الحديث وقد رواه غيره فزاد فيه (( حنفاء مسلمين )) ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى: {فطرت الله} لأنها إضافة مدح وقد أمر نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام) [5].

ونكتفي بهذه النصوص الواضحة الصريحة التي لاخلاف على معناها، لإثبات أن البشرية كانت على التوحيد قبل طروء الشرك عليها.

المطلب الثاني: إثبات أن أول شرك حصل في العالم كان بسبب الغلو في الصالحين:

كانت عداوة إبليس لآدم قديمة منذ أن أمره الله بالسجود له، فأبى فلعنه الله وطرده بسبب ذلك، ومنذ ذلك الحين أخذ على نفسه: أن يعمل على كل ما فيه الإساءة إليه وإلى جلب سخط الله عليه،

(1) أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الشفة القاموس المحيط ص (914) 0

(2) البخاري كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين الفتح (3/ 245 - 246) ، ومسلم كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (4/ 2047) .0

(3) الروم (30) 0

(4) سيأتي تخريجه في الصفحة القادمة 0

(5) فتح الباري (3/ 248) .

وكان أول عمل عمله إغراؤه بالأكل من الشجرة، ذلك العمل الذي كان سبباً لإخراجه من الجنة وإهباطه إلى الأرض هو وإبليس معاً، ولم يكتفِ إبليس بعداوة آدم وحده بل ضمّ إلى ذلك عداوة ذريته وأعلنها صريحة بأنه لن يدخر جهداً لإغوائهم وصدّهم عن السبيل، والعمل على جعل مصيرهم مقترناً بمصيره هو إلى نار جهنم {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} [1]، {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلاّ عبادك منهم المخلصين، قال فالحق والحق أقول، لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [2].

وقد حذر الله عباده المؤمنين وجميع بني آدم من تلك العداوة وخطورتها، وخطورة الهدف الذي يسعى إبليس لتحقيقه من خلال عداوته لهم، فقال سبحانه وتعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [3] وقال: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون} [4].

ولكن لأمرٍ أراده الله نسي بنو آدم تلك العداوة، وجهلوا ذلك التحذير الذي حذرهم الله إياه ولم ينسَ هو ذلك، بل عمل على جلب الأنصار والجنود من الإنس والجن، فسلطهم على بني آدم حين غفلوا عما أوصاهم به الله، فأجلب عليهم هو وجنوده فاجتالوهم عن دينهم وأوقعوهم في الشرك، وهو ما

(1) الأعراف (16 - 18) 0

(2) سورة ص (82 - 85) 0

(3) فاطر (6) .

(4) يس (60 - 62) .

رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته (( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كلّ مال نحلته [1] عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم [2] عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب )) [3]

ولم يكن ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما من فجر التاريخ قبل أن يبعث نوح عليه السلام، بل إن مبعث نوح إنما كان لإرجاع الناس إلى الجادة بعد ذلك الانحراف الخطير، وكان الباب الذي دخل منه الشيطان إلى إغواء أولئك الناس: باب الغلو في الصالحين، فكانت أول أصنام عبدت على وجه الأرض هي صور وتماثيل لرجال صالحين أحبهم قومهم وغلَوا فيهم فصوّروهم، ثم تدرج بهم الحال حتى عبدوهم من دون الله تعالى! ولما جاءهم نوح ينعى عليهم ذلك المسلك الخاطئ، ويدعوهم إلى العودة إلى الصراط المستقيم أبوا وعاندوا وتواصوا بالصبر على تلك الآلهة والاستمرار على الإشراك بالله المتمثل في عبادتها من دون الله {وقالوا لاتذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولاسواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} [4].

(1) نحلته أعطيته النووي على مسلم (17/ 197) .

(2) اجتالتهم (أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطن) نفس المصدر (17/ 197)

(3) مسلم مع الشرح، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار) (17/ 197)

(4) نوح (23) .

وهذه كما هو واضح أسماء بشر كانوا صالحين محبوبين لدى قومهم، حملهم ذلك على الغلو فيهم وإنزالهم فوق منزلتهم، وتطور الأمر حتى عبدوهم، كما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير هذه الآية أنه قال: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسِخ العلم عبدت) [1]

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: (وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك) [2] وقد تواطأ المفسرون عند تفسير هذه الآية على ذكر هذا الأثر وأثاراً أخرى كلها تؤدي نفس المعنى. [3]

وقد صرح القرطبي - رحمه الله تعالى:بأنه من أجل أن عبادة الأوثان ابتدأت بسبب الغلو في الصالحين حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك، قال: (قلت: وبهذا المعنى فسِّر ماجاء في صحيح مسلم من حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمه ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة-

(1) البخاري والفتح (2/ 667) 0

(2) الفتح (8/ 669) .

(3) انظر: تفسير الطبري (29/ 62) للإمام الطبري، معالم التنزيل (8/ 232 - 233) للإمام الحسين بن مسعود البغوي تحقيق وتخريج محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش طبع دار طيبة بالرياض الطبعة الرابعة (1417 هـ-1997 م) ، زاد المسير (8/ 373) لأبي الفرج ابن الجوزي طبع المكتب الإسلامي بيروت الطبعة الثالثة (1404 هـ-1984 م) والكشاف (4/ 414) للشيخ محمود بن عمر الزمخشري طبع دار الكتاب العربي ببيروت (1407 هـ- 1987 م) ،والمحرر الوجيز (15/ 122) لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي تحقيق الرحالي الفاروق وآخرين، الطبعة الأولى قطر سنة (1401 هـ-1981 م) . وتفسير القرطبي (18/ 307 - 310) وتفسير القرآن العظيم (8/ 262) لابن كثير. الدر المنثور (8/ 293 - 295) لعبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي (دار الفكر - بيروت ط الأولى سنه 1403 هـ- 1983 م) . وفتح القدير (5/ 300) للشوكاني 0

تسمى مارية فيها تصاوير- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول - صلى الله عليه وسلم: (( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) [1].

وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى: (وقال غير واحد من السلف: "كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح - عليه السلام -، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: عن عائشة - رضي الله عنها - ثم ذكر الحديث السابق في كلام القرطبي - ثم قال: "فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور" وهذا كان سبب عبادة اللات، فقد روى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أفرأيتم اللات والعزى} [2] قال: (كان يلت السويق فمات فعكفوا على قبره) [3]،وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (كان يلت السويق للحاج) [4] فقد رأيت أن سبب عبادة ودّ، ويغوث، ويعوق، ونسر، واللات، إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها، كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال شيخنا [5]: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبةٍ أو حجر، ولهذا نجد أهل الشرك كثيراً يتضرعون عندها، ويخشعون

(1) الجامع لأحكام القرآن (18/ 308) ، والحديث تقدم تخريجه (ص 18) .

(2) سورة النجم آية (19) .

(3) سيأتي تخريج الأثرين لاحقاً.

(4) سيأتي تخريجه (ص 64) .

(5) هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء مالا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وألا يقصد المصلي ما قصده المشركون سداً للذريعة) [1].

وبهذه الآيات المحكمة والأحاديث الصحيحة الصريحة، وما علق به عليها أهل العلم؛ تعلم أن القبورية هي أساس الوثنية، وأن الوثنية هي الوعاء الذي أحتوى على الشرك بالله عز وجل وجسَّدَه.

(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 184) لابن القيم.

المبحث الثاني

القبورية عند اليهود والنصارى:

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: القبورية عند اليهود:

لست بحاجة إلى الإطالة في إثبات قبورية اليهود، فقد أغنتننا الأحاديث المصرحة بذلك عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - والمخرجة في الصحيحين وغيرهما، ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) [1] وحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في مرضه الذي مات فيه (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) [2].

فهذان الحديثان في الصحيحين - وسيأتي غيرهما في المطلب الثاني- قاطعان على قبورية اليهود، وأزيد أن اليهود ليسوا قبوريين فقط ولكنهم أيضاً ميالون إلى عبادة غير الله بشكل أوضح وأصرح، كما نقل ذلك عنهم القرآن وذلك في موضعين من قصة موسى - عليه السلام -.

الموضع الأول: بعد نجاتهم من ملاحقة فرعون وخروجهم من البحر وإهلاك الله لعدوهم وهي نعم عظيمة تستوجب شكر مسديها وإفراده بالعبادة وعدم الالتفات إلى غيره، لكن النفوس الدنيئة لا تكون نظرتها إلا إلى الأسفل دائماً، لذلك عندما مروا على القوم المشركين العاكفين على أصنامهم مالت نفوسهم إلى تقليدهم ومحاكاتهم في ذلك، قال تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين} [3]

(1) أخرجه البخاري (1/ 532) مع الفتح كتاب الصلاة باب "حدثنا أبو اليمان" ، ومسلم (5/ 12) مع النووي كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور 0

(2) تقدم تخريجه (ص 17) 0

(3) 3 الأعراف (138 - 140) 0

وهذا في غاية الصراحة فهم طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً آخر كما أن أولئك لهم آلهة فهو طلب الشرك والاستعداد النفسي له.

الموضع الثاني: حينما ذهب موسى لميقات ربه وتركهم مع هارون فصنع لهم السامري العجل ودعاهم إلى عبادته، فبادروا إلى ذلك ولما يأبهوا لتحذير هارون من ذلك بل واجهوه بالتمرد وكادوا يقتلونه حينما وقف في طريقهم قال تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربِّ لترضى. قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري. فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي. قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري. فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي. أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [1].

وبهذا العرض اليسير تتضح قبورية اليهود وشركهم واتخاذهم الآلهة من دون الله.

المطلب الثاني: القبورية عند النصارى:

الأمة النصرانية أمة غالية فيمن تعظمه من الأنبياء والصالحين ولقد حملهم ذلك على تأليه المسيح وأمه وغيرهما من الأحبار والرهبان، وهذا صريحُ نصِّ القرآن، حيث يقول الله تعالى فيهم: اتخذوا

(1) طه من (83 - 91) .

أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [1].

وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم عليهم الحجة ببطلان ما هم عليه من عبادة غير الله فقال: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم} [2]، ثم أمره أن ينهاهم عن الغلو في الدين وتقليد سلفهم الغالين فيه؛ لأن الغلو هو سبب عبادتهم لغير الله فقال: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل} [3]، فمن غلوِّهم أنهم اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دونه وتلك العلة- التي هي الغلو -هي العلة المشتركة بين جميع المشركين.

ومن الغلو كذلك اتخاذهم قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمه ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، فأولئكِ شرار الخلق عند الله يوم القيامه )) [4]

وهذه الكنيسة التي رأتها أم حبيبة وأم سلمه هي قطعاً كنيسة نصارى فهذا إثبات قاطع لقبوريتهم وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاقتداء بهم في ذلك كما في حديث عائشة وعبدالله بن عباس - رضي الله عنهم - قالا: (لما

(1) التوبة (31) .

(2) المائدة (76) .

(3) المائدة (77) .

(4) تقدم تخريجه (18) .

نُزِل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) يحذر ما صنعوا) [1].

وقد بيّن ابن كثير رحمه الله في تاريخه: أن تلك القبورية عند النصارى 0 إنما حدثت فيهم بعد أن حرفوا دينهم، وقالوا بالتثليث، قال رحمه الله تعالى: (ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة؛ حدثت فيهم الطامة العظمى، والبليّة الكبرى، واختلف البتاركة [2] الأربعة وجميع الاساقفة [3] والقساوسة [4] والشماسة [5] والرَهَابين [6] في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط، واجتمعوا وتحاكموا إلى الملك قسطنطين باني القسطنطينية، وهو المجمع الأول فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات فسموا "الملائكة" ، ودحَضَ من عداهم وأبعدهم، وتفردتْ الفرقة التابعة لعبدالله بن أديوس الذي اثبت أن عيسى عبد من عباد الله، ورسول من رسله، فسكنوا البراري، والبوادي، وبنوا الصوامع [7]،والديارات [8]،

والقلايات [9]،وقنعوا بالعيش الزهيد، ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل، وبنت الملائكة [10] الكنائس الهائلة، عمدوا إلى ماكان من بناء اليونان فحولوا محاريبها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الجدي [11] [12].

(1) تقدم تخريجه (18) .

(2) ويقال البطارقة جمع بطريق وهو رئيس رؤساء الأساقفة انظر: المعجم الوسيط (1/ 61) .

(3) جمع أسقف وهو رئيس من رؤساء النصارى فوق القسيس ودون المطران، المصدر السابق (1/ 436) .

(4) جمع قس وهو رئيس من رؤساء النصارى بين الأسقف والشماس، المصدر السابق (2/ 734) .

(5) جمع شماس من يقوم بالخدمة الكنيسة ومرتبته دون القسيس، المصدر السابق (1/ 494) .

(6) جمع راهب المتعبد في صومعة من النصارى يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذها زاهداً فيها معتزلاً أهلها.، المصدر السابق ... (1/ 376) .

(7) جمع صومعة و صومع وهو بيت العبادة عند النصارى، المصدر السابق (1/ 523) .

(8) جمع دير وهو دار الرهبان، المعجم الوسيط (1/ 307) .

(9) القلايات جمع قلاية وهي الصومعة. المصدر السابق (2/ 757)

(10) أي الفرقة التي سميت الملائكة.

(11) الجدي نجم قريب من القطب تعرف به القبلة، المصدر السابق (1/ 112) .

(12) البداية والنهاية (2/ 101) .

ثم قال: رحمه الله تحت عنوان "بناء بيت لحم والقمامة [1]" (وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح وبنت أمه هيلانة القمامة يعني على قبر المصلوب وهم يسلّمون لليهود أنه المسيح) . [2]

وبما مر من نصوص قرآنية ونبوية وتاريخية تتضح قبورية النصارى وغلوّهم في أنبيائهم وصالحيهم حتى عبدوهم من دون الله تعالى.

(1) وهي التي يطلق عليها الناس اليوم كنيسة القيامة 0

(2) المصدر السابق (2/ 101) .

المبحث الثالث

قبورية اليونان

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: قبورية الأمة اليونانية:

الأمة اليونانية أمة عظيمة سادت وظهرت على مسرح التاريخ القديم قروناً من الزمن، وقد أنشأت حضارة متميزة وظهر فيها علوم ومعارف وفلسفة وصلت إلى الأمم الأخرى، وتناقلتها الأجيال إلى العصر الحاضر، وهذا لا مراء فيه، ولكن مع كل ذلك فقد كانت هذه الأمة أمة وثنية قبورية تُألِّه كل ما أعجبت به من مظاهر الكون، وعباقرة وأبطال البشر، بل وجميلات النساء! فهناك (آلهة السماء) و (آلهة الأرض) و (آلهة الخصب) و (الآلهة الحيوانية) و (آلهة ما تحت الأرض) إلى آخر القائمة، وقد ذكر المؤرخون كيف تنشأ تلك الآلهة وكيف تعبد [1] وكانت كذلك أمة قبورية تقدس قبور موتاها، فقد كان الموتى في العصور المبكرة من تاريخ اليونان يُعْتَبرون أرواحاً قادرة على أن تفعل للناس الخير والشر وتسترضى بالقرابين والصلاة [2]. وكان اليونان في عصرهم الزاهر يرهبون هذه الأشباح الغامضة أكثر مما يحبونها، وكانوا يسترضونها بطقوس ومراسم يقصد بها إبعادها واتقاء شرها [3]، وكان الإله في

(1) انظر: الفكر الإغريقي تأليف محمد الخطيب (دمشق، الطبعة الأولى عام (1999 م) ، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة ص (28 - 52) .

(2) المصدر السابق ص (35 - 36) .

(3) المصدر السابق ص (35 - 36) .

أول الأمر من الأسلاف والأبطال الموتى، كما كان المعبد في الأصل قبراً، ولا تزال الكنيسة حتى الآن في معظم البلاد مكاناً تحفظ فيه آثار الموتى القديسين [1].

هذه هي أمة اليونان وتلك آلهتها كانت في بدايتها أمواتاً من ذوي التميز في جوانب مختلفة من الحياة، تدرج بهم الشيطان حتى صيروهم آلهة من دون الله، وقبور أولئك الموتى هي الأصل في المعابد التي تتربع فيها تلك الآلهة.

المطلب الثاني: قبورية فلاسفة اليونان:

في تلك الأمة وذلك الجو نشأ فلاسفة اليونان على الوثنية والقبورية، وبقي ذلك هو اعتقادهم وتفكيرهم ولم يغنِهم ما وصلوا إليه في مختلف العلوم- التي أصبحوا فيها أساتذة العالم- لم تغنهم تلك العلوم، ولم ترتفع بتفكيرهم في الجانب الإلهي من حياتهم، بل ظلوا يتخبطون في ظلمات الجهل ومسالك الضلال، ذلك أن هذا الجانب ليس بمقدور العقول تصوّره التصوّر الصحيح، والوصول إلى حقيقته، وإنما مصدره هو الوحي الذي ينزله الله على رسله، فيبلغونه للناس ويقودونهم به إلى معرفة ربهم وما يجب عليهم، وما يلتحق بذلك من أركان الإيمان ومقوماته، وحيث إن أولئك الفلاسفة مصدرهم في بحثهم عن الحقيقة هو العقل، والعقل قاصر عن إدراكها فقد تاهوا في أودية الضلال وما وصلوا إلا إلى نظريات متناقضة، وقضايا فجّة غير ناضجة، وبقي ما تربَّوا عليه من الوثنية والقبورية؛ هو الذي يوجه تفكيرهم ويستحوذ على أعمالهم وطقوسهم، وقد شهد المتلقفون لفلسفة اليونان من علماء المسلمين على قدواتهم من فلاسفة اليونان بالقبورية وأبانوا كيف يتصور أولئك الفلاسفة إمداد أرواح الموتى لمن دعاهم وتشفع بهم.

(1) المصدر السابق ص (36) 0

يقول الفخر الرازي في كتابه المطالب العالية: (إن فلاسفة اليونان كانوا يستمدون الفيوض من القبور وأهلها، إذا اعترتهم مشكلة من المشكلات، وكان الفلاسفة من تلاميذ أرسطو إذا دهمتهم نازلة ذهبوا إلى قبره للحصول على المدد والفيض) [1].

وبما أن القوم فلاسفة وليسوا مقلدين لما كان عليه الآباء والأجداد فقد خرَّجوا تعلقهم بالقبور تخريجاً علمياً مبنياً على نظريتهم العامة في الإلهيات، حيث يؤمنون بنظرية الفيض أي أن "العقل الفعال" الذي هو موازٍ للإله يفيض على من دونه من المخلوقات.

وبما أن أرواح الموتى القديسين هي كذلك آلهة صغيرة حسب العقيدة اليونانية العامة فإن تلك الأرواح تفيض على من زارها طالباً منها الشفاعة، وذلك بحسب يقين الزائر وفنائه في المزور واستعداد نفسه لتقبل ذلك الفيض، وهي بدورها تتلقى الفيض من الإله الأعظم، وقد مثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة وانعكس شعاعها على حائط أو غيره حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة، قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لابدّ فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة [2].

(1) المطالب العالية (7 - 228) بواسطة جهود الحنفية في إبطال عقائد القبورية (1 - 416) للدكتور شمس الدين السلفي الأفغاني، دار الصميعي الرياض، الطبعة الأولى (1416 هـ - 1996 م) .

(2) انظر الاستغاثة في الرد على البكر ي (2/ 410 - 411) لأبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق عبد الله بن دجين السهيلي، دار الوطن، الطبعة الأولى (1417 هـ - 1997 م)

المطلب الثالث: اِتَّباع قبورية المسلمين لفلاسفة اليونان في علة زيارة القبور:

إن معظم ما يأتيه القبورية وما يعتقدونه تجاه القبور وأهلها وإنما هو اتباع للأمم السابقة، تصديقاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذات أنواط حيث طلب بعض أصحابه أن يجعل لهم ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط فقال لهم: (( الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلهاً كما لهم ءالهه قال: إنكم قوم تجهلون} [1] لتركبن سنن من كان قبلكم )) [2]، وجاء من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ: (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن؟ )) [3]، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه (( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: مَنْ الناس إلا أولئك )) [4].

ويظهر من سبب ورود الحديث الأول أن بعضاً من هذه الأمة ستتبع اليهود فيما انحرفوا فيه من التفاتهم إلى التعلق بالمخلوقين، وهذا هو أساس القبورية.

(1) ا لأعراف (138) .

(2) الترمذي في الفتن باب ماجاء لتركبن سنن من كان قبلكم (4/ 475) . وأحمد (5/ 218) .

(3) تقدم تخريجه ص (47)

(4) تقدم تخريجه ص (47) .

كما يظهر من الحديث الثالث أن اتباع الأمم السابقة لا يقتصر على اليهود والنصارى وإنما يتعداه إلى سائر فارس والروم، ومن الروم اليونان الذين نُقِلت فلسفتهم إلى الأمة الإسلامية فأفسدت عقائد قوم من المسلمين.

وممن تلقى عقائد الفلاسفة وألبسها رداء الإسلام ونشرها في الأمة المحمدية قبورية المسلمين من فلاسفة وباطنية شيعية وصوفية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو يتكلم عن الوسائل المشروعة وغيرها: "الوجه الثاني أن يدعو له الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذه أيضاً مما يتوسل به إلى الله تعالى، فإن دعاءه وشفاعته عند الله من أعظم الوسائل فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب، ولا مستحب، ولا الرسول دعا له، فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه، ولكن بعض الناس الذين دخلوا في دين الصابئة والمشركين، ظنوا شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته لا تحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تفيض على المستشفع من غير شعور من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا دعاء منه، ومثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة، وانعكس شعاعها على حائط أو غيره؛ حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة، قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لابد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة وجعل هؤلاء الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه."

وقالوا أن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة ومن أخذ عنهم كابن سيناء وأبي حامد وغيرهم) [1].

(1) الاستغاثة (2/ 411 - 412) .

قلت: هذا فرع من فروع نظرية الفيض التي يعتقدها الفلاسفة، وطبيعي على هذا الاعتقاد أن يكون هناك توجه إلى النفوس الفاضلة لتكون واسطة بين المستشفع والخالق المعطي سبحانه، تلك الواسطة هي "الشافع" وقد قرر ذلك من أتباع الفلاسفة قوم كما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - منهم أبو حامد الغزالي وذلك في كتابه "المظنون به على غير أهله" والفخر الرازي في كتابه "المطالب العلية" ونقل عن الاثنين أحد قبورية حضرموت وهو عبد الرحمن بن محمد العيدروس في كتابه "بذل المجهود في خدمة ضريح نبي الله هود" وجعل ذلك هو علة زيارة القبور، وسيأتي نص كلام الغزالي منقولاً من كتابه، وكلام الرازي عن العيدروس في مطلب علة الزيارة عند القبورية [1]، وبهذا يتضح أن زيارات القبورية لم تكن هي الزيارات الشرعية التي علتها الاعتبار والاتعاض بحال الموتى ورقة القلب وتذكر الآخرة والدعاء للأموات والسلام، عليهم وإنما لاستمداد من الأموات على طريقة الفلاسفة.

وأما تشبههم باليهود والنصارى في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها فظاهر، وحتى لا يقول قائل إن ذلك من أتباع الفلاسفة في علة الزيارة إنما هو مذهب مهجور لدى قبورية اليوم لا وجود له عندهم 0

أقول له ولكل من يدافع عنهم: انظر إلى محمد علوي مالكي -باعث القبورية في مكة من جديد ووارث أحمد زيني دحلان ويوسف النبهاني- انظر إليه وهو يحكي أحوال الزائرين للنبي - صلى الله عليه وسلم: (تختلف أحوال الزائرين في استفادتهم من زيارتهم واستمدادهم من الله بواسطة نبيهم المصطفى وحبيبهم

(1) 2 انظر ص (324)

المجتبى - صلى الله عليه وسلم - وبحسب استعدادهم في تلقي الفيوضات الإلهية والواردات الربانية بواسطة الحضرة المحمدية،) [1] 0

ويقول في موطن آخر: (اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد أول متلق لفيضك الأول. صلاة نشهدك بها من مرآته، ونصل بها إلى حضرتك من حضرة ذاته، قائمين لك وله بالأدب الوافر، مغمورين منك ومنه بالمدد الباطن والظاهر) [2] 0

وأما تشبههم باليهود والنصارى في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها فظاهر ليس به خفاء.

(1) شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد (124) السيد محمد بن السيد علوي بن السيد عباس المالكي الحسني، ط الأولى (1411 هـ-1991 م) .

(2) المصدر السابق (117) .

المبحث الرابع

القبورية عند العرب قبل الإسلام وصلتها بالوثنية

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: إثبات أن العرب كانوا على ملة إبراهيم - عليه السلام - الحنيفية السمحة:

كانت العرب وبالأخص عرب الحجاز على ملة أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، ملة التوحيد الحنيفية السمحة، برآء من الشرك وأهله، كما حكى الله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - مثنياً عليه وعلى أتباعه بذلك: إن

إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين [1] وقال تعالى مبرِئاً إبراهيم والذين معه من الشرك، ومقدِّمَهم لنا قدوةً، وجاعلاً لنا الأسوة فيهم {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إناَّ برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [2] ..

وقد ذكّر الله العرب بهذا الإرث العظيم الذي ورثوه من أبيهم إبراهيم - عليه السلام - فقال: {ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [3]

وقد بقي العرب على تلك الملة قروناً، حتى ظهر عمرو بن لحي الخزاعي فغيرها، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (( وعرضت عليَّ النار فلما وجدت سفعتها تأخرت عنها، وأكثر من رأيت فيها النساء إنِ ائتمن أفشين، وإن سألن ألحفن، وإذا سئلن بخلن، وإذا أعطين لم يشكرن، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قُصبه في النار وأشبه من رأيت به معبد بن أكثم الخزاعي، فقال معبد: يا رسول أتخشى عليَّ من شَبَهِه فإنه والدي، فقال: لا، أنت مؤمن وهو كافر، وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام )) [4]،وهناك ألفاظ أخرى بنفس المعنى في الصحيحين وغيرهما [5].

(1) النحل (120 - 123) .

(2) الممتحنة (4) .

(3) الحج (78) .

(4) الحاكم في المستدرك (4/ 605) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، طبع دار المعرفةبيروت بإشراف د. يوسف المرعشلي.

(5) انظر: السلسة الصحيحة للشيخ الألباني (4/ 242 - 244) .

وكان سبب انحرافهم ووقوعهم في الشرك هو الغلو في الصالحين كما سيأتي في قصة عبادتهم للَّات أو للأماكن المقدسة كما في قصة نقلهم حجارة الحرم والطواف بها حيثما حلّوا.

المطلب الثاني: القبورية هي أصل الوثنية عند العرب:

كما هو الشأن -بعد كل رسالة من الرسالات السابقة- تأتي بعدها فترة ينقص العلم ويثبت الجهل، ويجد الشيطان سبيلاً إلى نفوس الناس وعقولهم، فينحرف بهم عن الصراط المستقيم، وقد مرّ معنا أن دين إبراهيم ظل قائماً حتى ظهور عمرو بن لحي الخزاعي الذي كان أول من غيّره وحرَف العرب عنه إلى عبادة الأصنام، وكان سبب وقوعهم في الوثنية هو الغلو في الصالحين منهم وتعظيم قبورهم حتى اتخذوها أصناماً، قال ابن عباس في قوله تعالى {اللات والعزى} [1]: (كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج) [2].

والذي أمرهم بذلك هو عمرو بن لحي.

قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث -راداً على من زعم أن اللات هو عمرو بن لحي: (والصحيح أن اللات غير عمرو بن لحي، فقد أخرج الفاكهي من وجه آخر عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً، وتقدم في مناقب قريش أن عمرو بن لحي هو الذي حمل العرب على عبادة الأصنام، وهو يؤيد هذه الرواية) [3].

فهذا وجه من أوجه القبورية المؤدية إلى الوثنية عند العرب، وهناك وجه آخر وهو تعظيم آثار الصالحين ومنازلهم وبيوت عباداتهم تعظيماً زائداً على الحد المشروع.

(1) النجم (19) 0

(2) البخاري كتاب التفسير باب (أفرأيتم اللات والعزى) (8/ 611) مع الفتح.

(3) الفتح (8/ 612) .

قال ابن هشام في سيرته: قال: ابن إسحاق: (ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم -حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد- إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم، حتى خلف الخلوف ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات) [1]

فهذا السبب كما ترى كان ناتجاً عن تعظيم آثار إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فالحرم شرَّفه الله تعالى بهما حيث بَنَيَا فيه بيت الله الحرام والكعبة المشرفة، فكان تعظيم المكان ناتج عن تعظيم من اشتهر به وهو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ذلك الغلو فيهما وفي البيت الذي ينسب إليهما كان سبباً في ضلال طوائف من العرب والزج بهم في الوثنية والشرك.

المطلب الثالث: انتشار الأصنام في جزيرة العرب:

بعد تلك البدايات البسيطة والبدائية أخذ إبليس يرقّي العرب في سلّم الوثنية حتى أصبحت ديناً تدين به، له شعائره [2] ومشاعره [3] وطقوسه [4] وعقائده وتنوعت العبادات من طواف وتمسح ودعاء واستشفاع واستقسام [5] بالأزلام بين يدي تلك الأصنام إلى نذر الأموال ونحر النعم وغير ذلك، كما

(1) سيرة ابن هشام (1/ 77) طبع مؤسسة علوم القرآن بدون تاريخ تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبدالحفيظ شلبي

(2) جمع شعيرة مناسك العبادة ومعالمها انظر القاموس المحيط ص (535) .

(3) جمع مشعر موطن العبادة. المصدر السابق ص (535)

(4) جمع طقس وهو نظام الخدمة الدينية عند النصارى. انظر: المعجم الوسيط (2/ 561) .

(5) قال ابن جرير (6/ 49) : (وأن تستقسموا بالأزلام "وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم بالأزلام وهو استفعلت من القسم، قسم الرزق والحاجات وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو نحو ذلك أجال القداح وهي الأزلام وكانت قداحاً مكتوباً على بعضها" نهاني ربي "وعلى بعضها" أمرني ربي "فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه أمرني ربي مضى لذلك لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك وإن خرج الذي عليه" نهاني ربي "كف عن المعنى لذلك وأمسك، وأما الأزلام فإن واحدها زلم ويقال زلم وهي القداح التي وصفنا أمرها) ."

انتشرت الأصنام في الجزيرة العربية انتشار النار في الهشيم بدءاً ببيت الله الذي أنشئ على التوحيد ولأجل التوحيد، حيث يقول الله تعالى عنه: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [1].

هذا البيت كان فيه أكبر تجمع للأصنام في جزيرة العرب حيث كان عدد الأصنام -التي كسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة في جوف الكعبة وحولها- ثلاثمائة وستين صنماً [2]،كما كان في جوف الكعبة أشهر أصنام قريش على الإطلاق (هبل) [3]،ولم تبق قبيلة من قبائل العرب إلا ولها صنمها الذي يعرف بها وتعرف به وتعبّد له أبناءها [4]،بل تجاوز الأمر إلى أن أصبح لكل بيت صنمه الخاص به، [5] وحتى المسافر لا يقيم أثناء سفره في بقعة إلا تخيّر من أحجارها ما يعجبه فينصبه إلهاً له. [6]

(1) الحج (26) .

(2) البخاري كتاب التفسير سورة الإسراء باب (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (8/ 400) ... من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

(3) الأصنام لابن الكلبي ص (27) .

(4) انظر: الأصنام ص (13) و (16) و (18) الدار القومية بالقاهرة نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب سنة (1343 هـ-1924 م) .

(5) المصدر السابق ص (33) .

(6) االمصدر السابق ص (33) .

ولم يكتف الشيطان بذلك بل دلّهم على أصنام قوم نوح التي كانت مطمورة في رمال ساحل جدّة فاستخرجها مؤسس الوثنية في الجزيرة العربية عمرو بن لحي الخزاعي وفرقها على العرب فعظمت وعبدت فيهم [1].

وبذلك انطمست ملة إبراهيم وغاب التوحيد وحل الشرك محله، حتى صارت الدعوة إلى إخلاص العبادة لله تعالى من العجائب لديهم حينما صدع بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا -كما حكاه القرآن: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق} [2].

المطلب الرابع: الحنفاء من العرب:

ذلك هو الجوّ المظلم الذي وصلت إليه الأمة العربية قبل البعثة وهو الغالب عليها، ولكن بقي بصيص ضئيل من النور الخافت الذي نجا من أطباق الظلمة، ولكنه لم يهدِ أصحابه صراطاً مستقيماً، ولم يسلك بهم سبيلاً قويماً [3]، وقد تمثّل ذلك في بقاء مجموعة صغيرة جداً متفرقة في أنحاء الجزيرة العربية، وربما كان بمكة منهم نصيب أوفر، أولئك هم من سُمّوا بالحنفاء نسبة إلى الحنيفية ملة إبراهيم، وتمثل تمسكهم بالحنيفية في رفضهم للوثنية من حيث عبادة الأوثان وتقريب القرابين لها، واعتقاد نفعها وضرّها وشفاعتها كما هو شأن الوثنيين، هداهم إلى ذلك فطرتهم التي مَنَّ الله عليهم ببقائها صافية نقية من كَدُورات الوثنية، غير أنهم لم يهتدوا إلى مراد الله تعالى وما يجب له من العبادة، حتى لقد نقل أهل السير عن زيد بن عمرو بن نقيل قوله: (اللهم إني لو أعلم أيّ الوجوه إليك أحب عبدتك به

(1) أصله في البخاري كتاب التفسير سورة نوح باب "ود اً ولا سواعاً ولايغوث ويعوق" وانظر: ابن هشام (1/ 78 - 80) .

(2) سورة ص (5 - 7) .

(3) لأن الهداية التامة لا تكون إلا بالوحي لا غير.

ولكني لا أعلمه) [1] ولذلك تفرقوا في البلاد يبحثون عن دين إبراهيم، فمنهم من دخل النصرانية كورقة بن نوفل، ومنهم من لم يدخل أيّ دين وبقي على ما هو عليه كزيد بن عمرو بن نفيل.

(1) ابن هشام (1/ 225) عن ابن إسحاق قال حدثني: هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء، وهذا حديث حسن لمكان ابن إسحاق وأما بقية أصحاب السند فمن أصح الأسانيد.

وقد ذكرت أسماء بعض هؤلاء فمنهم: قس بن ساعدة الأيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت، وأبو قيس بن أبى أنس، وخالد بن سنان، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سُلمى، وكعب بن لؤي بن غالب أحد أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - [1] وقد ذكر غيرهم أيضاً [2]، غير أن من هؤلاء الذين ذكروا من تنصر، وكل هؤلاء لم يدركوا الإسلام إلا ورقة بن نوفل حيث أدرك الفترة الأولى من الوحي ففرح واستبشر وتمنى أن يعيش ليرى دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصره ولكنه مات في فترة الوحي. [3]

(1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (دراسة وتحليل) ص (72) للدكتور مهدي رزق الله أحمد الأستاذ المشارك بكلية التربية جامعة الملك سعود الطبعة الأولى، (1412 هـ - 1992 م) نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الرياض.

(2) نفس المصدر (77) .

(3) انظر خبره في البخاري كتاب بدء الوحي (1/ 22) مع الفتح.

الفصل الرابع

نشأة القبورية في اليمن

وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول:

حال اليمن قبل نشوء القبورية

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: إسلام أهل اليمن:

من مناقب اليمنيين التي سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور مبادرتهم إلى اعتناق الإسلام بشكل لم يشابههم فيه أحد من قبائل وأقطار الجزيرة العربية الأخرى، وقد تعددت التأويلات لسبب تلك المسارعة لاعتناق الإسلام من قبل اليمنيين، وأقوى تأويل - والله أعلم - هو ما جعل الله في نفوسهم من الإيمان، وفي قلوبهم من الرقة ومحبة الخير، وما ادَّخره الله لهم بمحض فضله من إنعام وفضل.

ودليل ذلك الأحاديث المستفيضة في فضائل أهل اليمن [1]، كما كان لقرب اليمن من مكة مهبط الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وموضع بعثته علاقة بذلك، وإن كان هذا لم ينفع بعض القبائل التي كانت أقرب إلى مكة من اليمن، وبحسب طبيعة البشر في الاختلاط والتعايش والتفاعل كان وصول أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وتأثر أهلها به في وقت مبكر من حياة الدعوة الإسلامية، وقد كان الوافدون من اليمنيين إلى مكة لأغراض مختلفة هم الرواد الذين رجعوا إلى قومهم مبشرين بهذا الدين ودعاة إليه، بعد أن أسلموا وعرفوا شيئاً من الإسلام على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن أشهر أولئك:

1) ضماد بن ثعلبة الأزدي - رضي الله عنه - [2]

2) الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه - [3].

(1) منها حديث عقبة بن عمرو أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: (أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده نحو اليمن فقال: (الإيمان يمان هاهنا، ألا إن القسوة وغلو القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه. وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتاكم أهل اليمن أضعف قلوباً وأرق أفئدة الفقه يمان والحكمة يمانية) رواه البخاري في كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن. ومسلم في كتاب الإيمان، باب فضائل أهل اليمن، وغيرها كثير.

(2) الحديث والمحدثون في اليمن في عصر الصحابة (3/ 1751) تأليف الدكتور عبدالله الحميري، طبع مكتبة الرشد الرياض، الطبعة الأولى (1421 هـ - 2000 م)

(3) المصدر السابق (3/ 1752)

3) عمرو بن أمية الدوسي - رضي الله عنه - [1].

4) قيس بن نمط بن قيس بن مالك الهمداني - رضي الله عنه - [2].

5) عبد الله بن قيس بن أم غزال الأرحبي - رضي الله عنه - [3].

6) ذباب بن الحارث بن عمرو السعدي - رضي الله عنه - [4].

وكان في إسلام هؤلاء ورجوعهم أثر في انتشار الإسلام في قومهم، وتهيئتهم لقبوله.

وممن وفد عليه - صلى الله عليه وسلم - وتوطَّن المدينة مهاجراً أبو موسى الأشعري ورفقته الأشعريون [5] وأبو هريرة - رضي الله عنهم - [6] وغيرهم.

وفي عام الوفود بشَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقدوم وفود اليمن، وبالفعل توالت تلك الوفود وكانت من أفضل الوفود العربية، فسُرَّ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا لها، وعادت مؤمنة صادقة، فنشرت الإيمان والإسلام في ربوع اليمن.
المطلب الثاني رسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن

ولما ظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يتمتع به اليمنيون من نفوس طيبة قابلة للإيمان والإسلام، وتأكد لديه صدق توجه اليمنيين نحو دين الله، وأن الإسلام قد أصبح منتشراً فيهم، أحب - صلى الله عليه وسلم - أن يعمق مفاهيم الإسلام في نفوسهم، وينشر تعاليمه بينهم، ويضع لهم من يعلمهم ويرشدهم ويحكم بينهم بشرع الله

(1) المصدر السابق (3/ 1753)

(2) المصدر السابق (3/ 1754)

(3) المصدر السابق (3/ 1754)

(4) المصدر السابق (3/ 1756)

(5) المصدر السابق (3/ 1768 - 1771) .

(6) المصدر السابق (3/ 1763) .

ويسوسهم بنظامه الخالد، فأرسل رسله معلمين ودعاة وحكاما ً، فأحسن اليمنيون وفادتهم، وأكرموا نزلهم، وأخذوا عنهم دين الله، وعملوا به، وتحاكموا إليه.

وكان من أشهر من أرسلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، اليمن الأعلى بما في ذلك الجند [1]،وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - وكان عاملاً على زبيد وعدن

وساحل اليمن كله [2].

ومهَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ طريقه، وكشف له حقيقة الجهة التي وجهه إليها، وزوّده بأروع التوجيهات والوصايا فقال: (( إنَّك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذ عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوقَّ كرائم أموال الناس )) [3].

ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - خص معاذاً بهذا دون أبي موسى؛ لأن أبا موسى من أهل البلد، ويعرف طبيعتها وطبيعة أهلها، ثم وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً وأبا موسى معاً فقال: (( بشِّرا، ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا،

(1) فتح الباري (8/ 61) .

(2) الحديث والمحدثون (1/ 385 - 386) .

(3) البخاري (6/ 96 - 97) كتاب التوحيد باب ما جاء في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله، ومسلم (1/ 196 - 197) مع شرح النووي باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.

وتطاوعا ولا تختلفا )) [1]، فخرجا مستلهمَين هذه الوصايا، ناصحين مخلصين لمن أُرسِلا إليهم، واتجه كل منهما إلى عمله، وكانا يتزاوران ويتعهد أحدهما الآخر.

فدخل في الإسلام على أيديهما من لم يكن قد أسلم من قبل، وتعلم العلم منهما من كان مسلماً مؤمناً، وعمَّ الإيمان والعلم أرض الفقه والإيمان.

كما أرسل رسلاً آخرين لأغراض مختلفة منهم: علي بن أبي طالب [2]، وخالد بن الوليد [3]، وجرير بن عبدالله البجلي [4]، وخالد بن سعيد بن العاص [5]، وطاهر بن أبي هالة [6]، ويعلى بن أمية [7]، وعمرو بن حزم [8]، وزياد بن لبيد البياضي [9]، وعكاشة بن ثور [10] - رضي الله عنهم - أجمعين، وكان لهم أعظم الأثر على اليمنيين، وقد لقوا منهم المحبة والوفاء والتعاون الذي يعزّ مثاله.

المطلب الثالث: مذاهب اليمنيين منذ فجر الإسلام حتى قيام الدولة الصليحية:

وصل الإسلام إلى اليمن نقياً صافياً لم تشُبْه أي شائبة، فلم يدخل على يد مذهب فقهي أو فرقة عقائدية أو طريقة صوفية كما حصل في بعض البلاد الإسلامية، وإنما دخل على أيدي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سادات أهل السنة وقدوتهم الذين أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجوع إلى ما كانوا عليه عند

(1) البخاري (3/ 1104) كتاب الجهاد باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه، ومسلم (3/ 1359) كتاب الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير.

(2) الحديث والمحدثون (3/ 1724) .

(3) المصدر السابق (3/ 1722) .

(4) ا المصدر السابق (3/ 1729) .

(5) المصدر السابق (3/ 1729)

(6) المصدر السابق (3/ 1729)

(7) المصدر السابق (3/ 1735)

(8) المصدر السابق (3/ 1733)

(9) تاريخ حضرموت للحامد (1/ 135)

(10) الحديث والمحدثون (3/ 1732)

الاختلاف [1]، وبقي منهجهم وسبيلهم محفوظاً بحفظ الله في هذا البلد المبارك إلى اليوم، وإن زاحمه غيره من المذاهب والمناهج في بعض الفترات، وإن حاولت السلطات المتنفذة في كثير من الأحيان طمسه وإحلال مذاهبها محله إلا أنها لم تفلح في ذلك.

التشيع:

ومن المذاهب التي وصلت إلى اليمن في وقت مبكر التشيع؛ وذلك أن أهل اليمن قد كان موقفهم مع أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - واضحاً ومعروفاً، فهم أقوى القبائل التي كانت معه وأكثرها عدداً [2]، ولاشك أن ذلك سوف يعكس نفسه على قبائلهم وأهاليهم الباقين في اليمن؛ ولذلك تحدثت مصادر التاريخ اليمنية عن تعسف بسر بن أرطأة [3] والي معاوية على اليمن، وشدته في معاملة بعض القبائل اليمنية، وبالخصوص قبيلة همدان التي كانت من أكثر القبائل مناصرة لأمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - حتى نسبوا إليه ذلك البيت الذائع:

فلو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام [4]

فالتشيع في اليمن لا يستطيع أحد إنكاره، ولكن أي فرق الشيعة كانت في اليمن في ذلك الوقت؟ يتضح مما مرّ في بحث نشأة الشيعة أن الفرق الشيعية لم تتميز عن بعضها إلا في وقت متأخر، ولذا

(1) وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم: (( وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) رواه أبو داود (2/ 611) ،و الترمذي (5/ 44) ،وابن ماجه (1/ 15) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه ... الشيخ الألباني في صحيح الترمذي (2/ 241) .

(2) 2 الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن ص (17) .

(3) بسر بن أرطأة (ت 86) ، انظر ترجمته: تاريخ بغداد (1/ 210) ، والسير (3/ 409) .

(4) الصليحيون في اليمن ص (18) .

فإنني أرجح أن التشيع الذي كان موجوداً في اليمن قبل وفود الزيدية والإسماعيلية إنما كان التشيع السالم من الغلو كما سبق وصفه.

نعم هناك إشارة إلى وجود شيعة اثني عشرية في اليمن في حوالي النصف الثاني من القرن الثالث، وذلك عندما ذكر المؤرخون علي بن الفضل الجدني، والذي أصبح زعيم القرامطة في اليمن، فقد ذكروا أنه كان شيعياً اثني عشرياً، وأنه حجّ ثم زار قبر الحسين بعد الحج، وهناك التقى بميمون القداح [1]، كما قيل: إن ابن الفضل أخذ ذلك المذهب في عدن من قوم من الاثني عشرية، لقيهم هناك [2].

قلت: إن صح هذا فالاحتمال بوجود فئة صغيرة في عدن وارد ولم تشتهر، أو يعطها المؤرخون اهتماماً، كما أن هناك احتمالاً آخرَ، وهو أن أولئك القوم كانوا من التجار الذين ينزلون عدن لفترة ثم يغادرونها، وماعدا ذلك فإنه لم يرد تفصيل عن أي فرقة شيعية واضحة في اليمن في تلك الفترة.

الدعوة الإسماعيلية:

أ- القرامطة:

كان المذهب الإسماعيلي هو أول مذهب واضح متميز من مذاهب الشيعة وصل إلى اليمن، حيث وصل الداعيان: علي بن الفضل الجدني، والحسن بن فرج بن حوشب [3] إلى ميناء غلافقة سنة

(1) 1 كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة ص (81) ، وقرة العيون في أخبار اليمن الميمون، لابن الديبع الشيباني تحقيق القاضي الأكوع الطبعة الثانية (1409 هـ) .

(2) انظر: لترجمة علي بن الفضل وتفصيل فتنته: كشف أسرار الباطنية (81 - 82 و 94 - 114) ، وقرة العيون ... ص (131 - 151) ، وقد تحدث عن هذه الفتنة كل مؤرخي اليمن الذين أرّخوا لهذه الفترة.

(3) أبو القاسم الحسن بن حوشب، المشهور بمنصور اليمن توفي سنة (302 هـ) انظر أخباره: افتتاح الدعوة ص (16 - 37) للقاضي النعمان بن محمد بن حيون المغربي دار الأضواء بيروت الطبعة الأولى (1416 هـ -1996 م) ، العسجد المسبوك فيمن ولي اليمن من الملوك ص (37) تأليف شمس الدين علي بن الحسين الخزرجي الأنصاري دار الفكر دمشق ط الثانية مصورة (1401 هـ -1981 م) .

(268 هـ) مبعوثَين من قبل داعية الإسماعيلية ميمون القداح، غير أنهما لم يعلنا الدعوة إلاّ سنة (270 هـ) ، وكانت دعوتهما في غاية السرية والحيطة والحذر، ثم أعلن الثورة علي بن الفضل وكشف عن وجهه الحقيقي، وفعل ما هو مشهور في تاريخ اليمن مما ليس هنا محل تفصيله إذ لا يتعلق بموضوعنا، غير أن المهم أن علي بن الفضل قد سلك طريق القرامطة أصحاب البحرين، وكشف عما يعتقده وفعل ما أمْلته عليه نزواته وأحبه هواه، وبذلك كان أمَدُ دعوته قصيراً، وإن كان شرها مستطيراً، ولم يقم أحد بدعوته بعد موته والقضاء على دولته [1].

ب _ العبيديون (الفاطميون) :

أما الحسن بن حوشب المشهور بـ "بمنصور اليمن" فقد بقي محافظاً على تعليمات ميمون القداح، ملتزماً بالانتماء إليه وإلى ذريته التي ملكت المغرب العربي، وأنشأت هناك الدولة الإسماعيلية الباطنية، وكان على اتصال مستمر معهم [2]، إلا أن دولته لم تدم طويلاًً إذ قُضي عليها ككيان سياسي في حياة علي بن الفضل، واضطر منصور إلى التخفِّي والبعد عن المعترك السياسي حتى مات سنة (302 هـ) [3]، ثم عادت الدعوة الإسماعيلية إلى دور السِّتر والسرية، وقد رتب لها الدعاة الذين يقومون بها، ويبثون تعاليمها، ويحافظون على أتباعها، ويواصلون العلاقة مع أصلهم في المغرب ثم في

(1) الصليحيون في اليمن ص (48) .

(2) الصليحيون ص (43) .

(3) المصدر السابق ص (47) .

مصر بطرقهم الذكية المعروفة وذلك من سنة (303 - 439 هـ) ، حتى عادوا إلى الظهور حين أمكنتهم الظروف، وتهيأت لهم الأسباب على يد علي بن محمد الصليحي كما سيأتي [1].

هذه هي الفترة الأولى للدعوة الإسماعيلية العلنية في اليمن، وهي لم يكن لها تأثير ظاهر في مسألة القبورية حيث لم تتمكن من التفرغ لذلك، ولم يكن لها من النفوذ والقبول ما يمكِّنها من ذلك، بل عاش قادتها محارَبين ودعاتها مضطهدين، فلم يستطيعوا عمل شيء مما يتعلق القبورية، كما أن هذه الفرقة لم يكن لها مذهب ظاهر وشائع بين الناس كأي مذهب من المذاهب الأخرى، إلا أنها كانت أخطر من تلك المذاهب من حيث تماسك أصحابها والحفاظ على كيانهم رغم المحاربة الشاملة لهم من كافة فئات الشعب والحكام على حد سواء، مما كان له الأثر البالغ في تمكنهم من إعلان دولتهم مرة أخرى في أيام الصليحي، ثم العودة مرة أخرى إلى الستر منذ زوال دولة الصليحي إلى يوم الناس هذا.

الزيدية:

الفرقة الشيعية الثانية التي دخلت اليمن في هذه الفترة هي الزيدية، وقد سبق التعريف بها في المبحث الأول من الفصل الثالث [2]،وكان وصول الزيدية واستقرارها في اليمن سنة أربع وثمانين ومائتين

(1) المصدر السابق ص (49 - 58) .

(2) انظر ص (101) .

هجرية [1]، وذلك بوصول الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين إلى صعدة للمرة الثانية وإقامة دولته هناك، ثم العمل على نشرها ومواصلة أبنائه وأحفاده وبعض الأئمة من أهل البيت المعتنقين للمذهب الزيدي، حيث استقرت دولة الأئمة الزيدية من ذلك التاريخ إلى أن أطيح بآخر إمام من أئمتها محمد البدر سنة (1382 هـ- 1962 م) وذلك بقيام الثورة وتأسيس الجمهورية العربية اليمنية.

وهذه الفرقة قد سخَّرت دولتها وسلطانها لدعم عقائدها ومذاهبها، كما أنها قد طوَّعت فِقهها وأصولها لمآربها السياسية [2]، ولكنها برغم قِدَم دخولها وامتداد فترة حكمها بما لم تبلغه أي دولة أو فرقة أخرى، ظلَّت منزوية في مواطن نفوذها السياسي يمتد وجودها بامتداد سلطانها ظاهراً ورسمياً، وأما في الباطن فإن الناس يكرهون ما تفرضه عليهم، ويهللون فرحاً عندما ينزاح عنهم كابوس حكمهم؛ ليعلنوا ما في نفوسهم من عقائد ومبادئ، ويزيلون ما فرض من شعارات خاصة بالزيدية، فرضتها السلطة [3].

(1) سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عليه السلام -، وقيام الدولة الزيدية في اليمن ص (58) د. حسن خضيري أحمد، طبع مكتبة مدبولي بالقاهرة الطبعة الأولى (1996 م) .

(2) انظر: الإمامة وخطرها على وحدة اليمن (16 - 23) ، للأستاذ. محمد محمود الزبيري -رحمه الله - طبع دار الكلمة صنعاء بدون تاريخ، وتيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري (168 - 172) ، للدكتور علي محمد زيد، طبع المركز الفرنسي للدراسات اليمنية صنعاء، الطبعة الأولى (1997 م) .

(3) والأمثلة في ذلك كثيرة وفي نواحي متعددة وانظر: مؤلفات الإمام عبدالله حمزة ستجد منها ما يؤكد ما نقول، ... وانظر: كذلك هجر العلم للأكوع (2/ 1075 - 1078) .

يقول القاضي محمد بن علي الأكوع [1] -رحمه الله تعالى: (وكان مذهب الهادي قابعاً في صعدة، ومنكمشاً عليها وعلى بلادها وبعض ظاهر همدان، ولم يغزُ سنام نجد اليمن وبلاد حجة ومغارب حمير إلا في القرن الحادي عشر الهجري، عندما تمت سيطرة القواسم على اليمن، وتغلبت الأسرة الزيدية على ناصية الأمور، وخلت البلاد من التيارات السياسية التي تجابهها، كما قحط اليمن من قادته ورؤسائه، وأصبحوا قانعين بالتبعية؛ إذ فقدوا كل مقوِّمات الطموح والشعور بأنهم سادة البلاد) [2].

قلت: وذلك في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم الذي وحَّد اليمن الطبيعي، وفرض المذهب الزيدي على كل من دخل تحت حكمه حتى في حضرموت التي تعد من أشد البلاد منافرة لمذهبه؛ وذلك لسيطرة العلويين الذين يتبعون المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية والمشرب الصوفي، والذين يتعصبون لذلك غاية التعصب، ولست بحاجة إلى مزيد بسط وتفصيل عن الزيدية؛ لما سبق من شرح لها في الفصل الثالث من هذا الباب.

وأما قبورية الزيدية فالحق أن زيدية اليمن لم تكن لديهم قبورية ظاهرة في هذه الفترة، ولذلك فسوف أرجئ الحديث عن قبور يتهم إلى المطلب التالي إن شاء الله.

(1) أشهر مؤرخي اليمن في العصر الحاضر، ألّف وحقق الكثير من كتب التاريخ وغيرها من نفائس علوم اليمنيين، كان ... من جملة الثوار الذي زَجّ بهم الإمام في سجن قاهرة حجة، وبعد الثورة تقلب في عدد من الوظائف الوزارية وغيرها، ... وقد عرفته و استفدت منه و أجازني إجازة أعتز بها، حثَّ فيها على التمسك بالسنة قولاً وعملاً، والاعتماد على الدليل ونبذ التقليد مما يبين استقامة منهجه رحمه الله رحمة واسعة وقد توفي عام (1419 هـ) انظر: ترجمته: في موسوعة (هجر العلم) لأخيه القاضي إسماعيل (2/ 870 - 83) و كتاب "القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي" مؤرخ اليمن الذي صدر بعد وفاته مباشرة وطبع في مؤسسة الثورة للطباعة والنشر عام (2000) .

(2) اليمن الخضراء مهد الحضارة ص (106) للقاضي محمد بن علي الأكوع، طبع مطبعة السعادة بالقاهرة الطبعة الأولى ... (1391 هـ 1971 م)

الخوارج:

سبق تعريف الخوارج وهم فرق كثيرة، والفرقة التي اشتهرت في اليمن من فرق الخوارج هي فرقة الإباضية أصحاب عبدالله بن إباض [1]،وهم أخف فرق الخوارج انحرافاً وأقربها إلى السنة [2].

ومعلوم أن نشأة الخوارج كانت على أثر حادثة التحكيم، وأن علياً - رضي الله عنه - قاتلهم في النهروان عام (37) أو (38 هـ) ،وقتل معظمهم، ولكن الفئة الباقية انتشرت في البلاد بشكل خفي، ثم أصبح كل من حل بأرض يدعو أبناءها إلى رأيه، ولذلك كثرت الخوارج مرة أخرى، وأصبحت قوة لا يستهان بها، وشكلت مصدر قلق كبير للدولة الأموية إلى نهايتها، ومطلع الدولة العباسية. فهل وصل إلى اليمن أحدٌ منهم في بداية أمرهم؟ وهل انتشرت الدعوة الخارجية بين اليمنيين بشكل أو بآخر قبل العقد الثالث من القرن الثاني؟.

هذا مالا يمكن الجزم به، ولكن هناك إشارات إلى شيء من ذلك، منه ما حكاه الخزرجي من أن الخوارج هاجموا صنعاء فحاول وهب بن منبه قتالهم بأهل صنعاء، فلم يستطع، فصالحهم أهل صنعاء على مائة ألف دينار، فأخذوها، ورجعوا، واستعان أهل صنعاء لسدادها بأهل المخاليف، فأعانوهم [3].

ومنها أن عبدالله بن يحيى الكندي [4] زعيم الخوارج الأول عندما أقام دولته في حضرموت، كاتب إخوانه الإباضية في صنعاء، فانضموا إليه [5]، هاتان الإشارتان توحيان بوجود ما للخوارج قبل

(1) هو عبدالله بن إباض المقاعسي التميمي، عاصر معاوية بن أبي سفيان وعاش إلى خلافة عبدالملك بن مروان، وهو رأس الفرقة الإباضية من الخوارج. انظر: الملل والنحل (1/ 98) ، و الأعلام (4/ 61 - 62)

(2) انظر: لتفاصيل أقوالهم: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 98 - 99) ، والفرق بين الفِرق ص) 103 - 109).

(3) العسجد المسبوك ص (22) .

(4) عبدالله بن يحيى بن عمر الكندي الحضرمي، الملقب بطالب الحق، مؤسس الدولة الإباضية في حضرموت، توفي سنة ... (130 هـ) انظر ترجمته: في تاريخ حضرموت للحامد ص (262) ، وصفحات من التاريخ الحضرمي لسعيد عوض باوزير، طبع مكتبة الثقافة عدن بدون تاريخ.

(5) تاريخ حضرموت للحامد ص (207)

إعلان دولتهم في شبام حضرموت سنة (128 هـ) ، وأما البداية الحقيقية المتفق عليها فهي في هذه السنة.

وملخص قصة الخوارج في اليمن أن عبدالله بن يحيى الكندي - وكان رجلاً من أعيان حضرموت - حج سنة (127 هـ) ، وفي مكة التقى ببعض دعاة الخوارج الذين كانوا يحضرون المواسم لبث دعوتهم، فكلموه في الأمر، وذكروا له مظالم بني أمية وانحرافهم، وأن الواجب هو الخروج عليهم وإزالة دولتهم وإقامة دولة الحق التي تحكم بالعدل وتعيد الأمور إلى نصابها إلى آخر ما ذكر، فقال له عبدالله بن يحيى: (إنني رجل مطاع في قومي، ولو دعوتهم إلى ذلك أجابوني إليه) . فعاهده أبو حمزة على ذلك، فعاد عبدالله بن يحيى ومعه أبو حمزة الأزدي إلى حضرموت، وكتب إلى إخوانه أباضية البصرة يشاورهم في الخروج على الخليفة الأموي، فكتبوا إليه: (إن استطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل، فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل ولست تدري متى يأتي عليك أجلك ... ) ، فأعلن عبدالله نفسه أميراً وبايعه أبو حمزة وتبعه الناس في حضرموت من سائر القبائل، وقبَضَ على والي بني أمية، وحبسه ثم أطلق سراحه، وما إن استقرت له الأمور في حضرموت حتى اتجه صوب مكة، فقدم ومعه زهاء تسعمائة وقيل ألف ومائة من أصحابه يوم عرفة إلى صعيد عرفة، والناس بها يوم الوقوف فما شعروا إلا بخيل الخوارج وعليها الرجال معممين رافعين ألويتهم، فما كان من أمير مكة إلا أن سلّم لهم الأمر دون قتال، وفي يوم النحر دخلوا مكة كذلك، وبذلك صفت لهم مكة دون أي مقاومة، ولكن أخبارهم انتشرت، واستعد لهم أهل المدينة، وبعد استقرار الوضع في مكة خلَّفوا عليها والياً من قبلهم، ثم توجهوا إلى المدينة، وكان أهل المدينة قد جهزوا جيشاً لمقاومتهم، وكان أكثر الجيش من عامة الناس وليسوا من الجنود المدربين أو ذوي الخبرة بالحرب، والتقى الجيشان في منطقة قديد، وهُزِم جيش المدينة هزيمة منكرة وقتل منه ألفان ومئتان وثلاثون رجلاً [1]

وعلى إثر ذلك دخل جيش الخوارج المدينة، واحتلوها ورتبوا الأمر فيها، وطارت الأخبار إلى دمشق، فجهز الخليفة جيشاً كبيراً وحشد فيه مقاتلين أقوياء مدربين، فسار الجيش الأموي صوب المدينة، وتقدم جيش الخوارج باتجاه الشام، فالتقى الجيشان في وادي القرى، فانهزم جيش الخوارج

(1) تاريخ حضرموت ص (209) ، وصفحات من التاريخ الحضرمي ص (50) .

وقتل قائده أبو حمزة، ثم واصل الجيش الأموي طريقه إلى المدينة ثم إلى مكة، ولم يقم له واليها، ثم إلى صنعاء وقد خرج عبدالله بن يحيى ومن معه لملاقاة الجيش الأموي في الطريق، وفعلاً التقيا، وهُزم الجيش الخارجي، وقُتل عبدالله بن يحيى، وهكذا واصل الجيش الأموي الطريق إلى عاصمة دولة الخوارج (شبام) ، والتقى بأميرها ومن معه وهزم الخوارج، وقتل واليهم وفتك قائد الجيش بالحضارم فتكاً ذريعاً، وقتل الرجال والنساء وفعل الأفاعيل، وبهذا انتهى كيان دولة الخوارج ولم يبق لهم نفوذ، غير أن فكرهم وعقائدهم ظلت موجودة ويدين بها كثير من أبناء حضرموت حتى نهاية القرن السادس تقريباً، ونشأ لهم كيان غير محدد المعالم أواخر القرن الخامس، قضى عليه الصليحي عندما مد نفوذه إلى حضرموت، ولم يكن للخوارج أي دور في انتشار القبورية في اليمن حسب علمي [1].

التصوُّف:

حتى لا تختلط علينا المفاهيم، يجب أن نفرِّق بين الزهد الذي دعا إليه الإسلام، وحث عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحمده أئمة المسلمين، ولم يذمه أحد ممن يعتد بقوله، وبين التصوف المُحدَث المجلوب من خارج حدود الإسلام، والمضبوط بضوابطه المعروفة، والمحدّد بحدوده الواضحة، والمبني على فلسفة خاصة، فهذا لون والزهد الذي جاءت به شريعة الإسلام لون آخر، وإن الخلط بين الأمرين قد أوقع لبساً كبيراً على عوام الناس، واستغلَّه دعاة التصوف وتزينوا به، بل اتخذوه درعاً واقياً من سهام الطاعنين عليهم وعلى فلسفته الضالة وبدعهم المحدثة الخارجة عما جاء به الإسلام، فإذا تكلَّم متكلم عن مخازي التصوف ومثالبه، عارضه المتصوفة بإبراز الشخصيات النظيفة الطاهرة على أنها أئمته ومؤسسوه، فيذكرون أباذر - رضي الله عنه - وأبا الدرداء - رضي الله عنه -، ومن التابعين أويس القرني، والحسن البصري ومن شابههما، ثم يذكرون مالك بن دينار، والفضيل بن عياض، ومن أهل اليمن: عمرو بن ميمون الأودي، وطاووس بن كيسان اليماني، ووهب بن منبه،

(1) انظر: لأخبار الخوارج وقيام دولتهم وانتهائها كلاً من: تاريخ حضرموت (1/ 206 - 213) لصالح بن علي الحامد، ... و صفحات من التاريخ الحضرمي ص (47 - 55) ، و تاريخ حضرموت السياسي (1/ 64/72) لصلاح عبد القادر البكري، طبع دار الآفاق العربية بالقاهرة، الطبعة الأولى (1421 هـ - 2001 م) ، و أدوار التاريخ الحضرمي ص ... (127 - 140) ، وانظر خبر دولتهم الأخيرة في: صفحات من التاريخ الحضرمي ص (66 - 79) .

ونحوهم، وهؤلاء لا علاقة لهم ألبتة بما أحدث بعد من تصوف مبتدَع فلسفي محتوٍ على إلحاد أصحاب الحلول والاتحاد، ومكائد المتاجرين بالولاية والكرامات.

فإذا بينا هذه الحقيقة، وعرفنا الفرق الواسع بين الزهد بمفهومه الصحيح، وبين التصوف المنحرف، استطعنا أن نجزم بلا أي تردد أن هذه الفترة التي نتحدث عنها لم يكن فيها باليمن شيء مما يصح أن يطلق عليه تصوف بالمعنى الصحيح الدقيق، وبالتالي فليس للتصوف في هذه الفترة أي دور في نشر القبورية.

المذاهب الفقهية:

(كان المذهب السائد في اليمن إلى انتهاء القرن الثالث الهجري هو العمل بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولم يتقيد أهل اليمن حينئذ بكلام واحد من الأعلام، واعتمدوا في دراسة الفقه النبوي على مثل مسند الإمام الحافظ عبدالرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة (210 هـ) ، وعلى مسند أبي قرة موسى بن طارق الجندي، ومسند عبدالملك بن عبدالرحمن الذماري، ومسند الحافظ محمد ابن يحيى بن أبي عمر العدني، ثم غزت المذاهب العقائدية والفقهية) [1].

ويؤكد ذلك الإمام المؤرخ ابن سمرة الجعدي [2] في "طبقات فقهاء اليمن" حيث يقول: (وكان الغالب في اليمن مذهب مالك وأبي حنيفة، ولم يكن علم السنة مأخوذاً في هذا المخلاف إلا من جامع معمر بن راشد البصري، وهو مصنف في صنعاء، وجامع سفيان بن عيينة، وجامع أبي قرة موسى ابن طارق اللحجي الجندي، ومن المرويات عن مالك في الموطأ وغيره مثل كتاب أبي مصعب، أو عما يُروى عن طاووس وابنه وقدماء فقهاء اليمن الذين ذكرت أطرافاً من فضلهم وشيوخاً من جلهم) [3].

ومن هذين النصين يتبين أن الأصل في أهل اليمن اتباع الكتاب والسنة على مذهب المحدثين، وبعد انتشار المذاهب الإسلامية وصلت تلك المذاهب المالكية والحنفية والشافعية، وأما المذهب

(1) اليمن الخضراء ص (106) .

(2) عمر بن علي بن سمرة الجعدي، رائد مؤرخي علماء الشافعية باليمن، صاحب طبقات فقهاء اليمن الذي خصصه لعلماء الشافعية، ثم صار من بعده من المؤرخين يبنون على ما أسس ويفرعون على ما أصل، لم تذكر سنة وفاته. انظر: ترجمته لنفسه في مطلع الطبقات ص (13) وما بعدها.

(3) طبقات فقهاء اليمن ص (34) تأليف عمر بن علي بن سمرة الجعدي تحقيق فؤاد سيد نشر دار القلم بيروت بدون تاريخ.

الحنبلي في الفروع فلم يسجّل له وجود في اليمن تلك الفترة، وكان المذهب المالكي هو أول تلك المذاهب انتشاراً ثم الحنفي ثم الشافعي، وليس للمذهب المالكي وجود في اليمن الآن، وبقي المذهب الحنفي في زبيد بشكل محدود، بينما انتشر المذهب الشافعي في عموم اليمن بما في ذلك صنعاء وذمار وما والاهما حتى القرن الحادي عشر، حينما فرض المذهب الهادوي الذي يتبناه الأئمة الزيدية على تلك النواحي، وانقسمت اليمن بعد ذلك انقساماً ظاهراً، حيث ساد المذهب الشافعي اليمن الأسفل وتهامة وما والاها من البلاد الجبلية، والجند وماحو لها بما في ذلك معظم مخا ليف، إب والحجرية كاملة، والبيضاء وما يلتحق بها، ومأرب والجوف، هذا فيما كان يعرف باليمن الشمالي، وأما ما كان يعرف باليمن الجنوبي فكله شافعي ولاوجود للمذهب الهادوي فيه، وماعدا ذلك فالسائد فيه المذهب الهادوي، وهو يمتد من صعدة شمالاً إلى يريم وما جاورها جنوباً مقتصراً على المنطقة الجبلية إلى مشارف تهامة غرباً.

هذه صورة مختصرة للمذاهب الفقهية التي سادت اليمن، ولكن يجب ألا نغفل حقيقة مهمة، هي أن اتباع الكتاب والسنة والتجرد لهما، ونبذ التعصب المذهبي بل نبذ التمذهب بشكل تام بقي مستمراً في اليمن، ولم يلغه وجود المذاهب الفقهية وانتشارها، بل ظل حياً حاضراً وإن ضعف في بعض الأحيان وخفَتَ صوته إلا أنه مازال موجوداً خصوصاً في المناطق الزيدية، وقد اشتهر جماعة من المجتهدين النابذين للتقليد الذين كان لهم الأثر الطيب على العلم والعلماء، وكانوا نبراساً مضيئاً في حوالك الظلم التي لبَّدت سماء الأمة الإسلامية قروناً عديدة، وأصبحوا أساتذة الاجتهاد، والتجديد، وحرية الرأي، ورمز الاقتداء بالسلف الصالح ليس في اليمن فقط ولكن في العالم كله، حيث تتداول كتبهم بل وتصبح من المقررات الأساسية في أشهر الجامعات الشرعية والمعاهد الدينية في العالم الإسلامي، من أشهر أولئك:

1) محمد بن إبراهيم الوزير [1].

(1) هو إمام أهل السنة في زمانه، بل مجدد الإسلام في اليمن في القرن الثامن محمد بن إبراهيم الوزير مولده سنة (775 هـ) وقد نشأ على طريقة قومه الزيدية المعتزلة، ثم رغب عنها وتحول إلى الطريقة السلفية، فبرع في علوم الكتاب والسنة، واستكمل أدوات الاجتهاد، واضطهد لذلك، فصبر، وصابر، وألف، وناظر، ولو لم يكن له إلا كتابه العظيم العواصم و القواصم لكفى، كيف وله مؤلفات فائقة كثيرة سواه، وهو رأس المدرسة السلفية التي مازالت - والحمد لله - قائمة ... إلى اليوم، لا يكاد مؤرخ من مؤرخي اليمن إلا وهو يشيد بفضله، وقد ترجم له من يصعب حصرهم، وأثنى عليه حتى من يخالفه من الزيدية وغيرهم، وألفت رسالة علمية بعنوان "ابن الوزير وآراؤه الاعتقادية وجهوده في الدفاع عن السنة النبوية" ، قدمت لجامعة أم القرى بمكة للشيخ علي بن علي جابر الحربي توزيع عالم الكتب ط الأولى (1417) . وانظر ترجمته كذلك: البدر الطالع (1/ 81 - 93) ، وهجر العلم للقاضي إسماعيل الأكوع (3/ 1367 - 1376) ، والبحث الضافي الذي بعنوان الإمام محمد بن إبراهيم الوزير وكتابه العواصم و القواصم في مقدمة العواصم والقواصم (1/ 7 - 100) ، طبع مؤسسة الرسالة بيروت (1418 هـ-1992 م) للقاضي إسماعيل الأكوع.

2) صالح بن مهدي المقبلي [1].

3) الحسن بن أحمد الجلال [2].

4) محمد بن إسماعيل الصنعاني.

5) محمد بن علي الشوكاني.

وغيرهم الكثير، وإن كانوا أقل شهرة منهم؛ تضمنهم "البدر الطالع" لشيخ الإسلام الشوكاني، "ونشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف" ،وغيرهما من كتب التواريخ والتراجم، وما تزال هذه المدرسة قائمة إلى اليوم، وعميدها وأشهر علمائها في هذا العصر القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني -حفظه الله - وهو في اليمن أشهر من نار على علم.

هذا وأما الاجتهاد الفقهي في المناطق الشافعية فقليل إن لم يكن معدوماً، ولعلّ السبب في كثرة المجتهدين في الجهات الزيدية طبيعة المذهب الهادوي الذي أبقى باب الاجتهاد مفتوحاً، بل حرَّم

(1) صالح بن مهدي بن علي المقبلي، أحد أعلام علماء اليمن والمجتهدين فيه، تجرد عن التقليد والتزم الأخذ بالكتاب والسنة، وله مواقف عظيمة مع مقلدي وقته، اشتد عليه بسببها الأذى فهاجر إلى مكة، وهناك ألف بعض مؤلفاته ومنها العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشائخ، وذيله الأرواح النوافح توفي سنة (1108 هـ) . انظر: البدر الطالع (1/ 288) ، ومقدمة العلم الشامخ للقاضي عبدالرحمن الإرياني (ص أ - د) طبع مكتبة دار البيان دمشق بدون تاريخ.

(2) الحسن بن أحمد الجلال من الأئمة المجتهدين في اليمن، كبير القدر كثير الإنتاج العلمي، أثنى عليه الشوكاني -رحمه الله - ثناءً كثيراً وهو في الفقه من الأئمة، وإن كان لم يتخلص مما كان عليه مجتمعه في الجوانب الأخرى من منهجه، توفي سنة ... (1084 هـ) . انظر: البدر الطالع 0 (1/ 191) ، وهجر العلم (1/ 342) .

التقليد في بعض المواضع من أصله، بعكس أتباع المذاهب الأخرى الذين أغلقوا باب الاجتهاد من بعد القرن الرابع، وصاحوا بكل من ادعاه بأنه جاهل متعالم، أو مارق منحرف.

هذا وقد أطلتُ في هذا الموضع لأنني رأيت جمع كل ما يتعلق بالمذاهب الفقهية فيه ولن أعود إلى شيء من ذلك فيما بعد لعدم اقتضاء الموضوع له.

الفرق العقائدية غير ما تقدم:

لقد ذكرنا فيما تقدم فرق الشيعة الإسماعيلية والزيدية وفرقة الخوارج الإباضية، وإكمالاً للبحث ينبغي أن نلمَّ ببقية الفرق التي طرأت على اليمن وعلى أهله الذين مازالوا متمسكين بمنهج السلف الصالح في عقيدتهم إلى اليوم، نعم إن منهج السلف الصالح منهج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هو الأصل في اليمن، والمناهج الأخرى إنما هي طارئة عليه، وكان هذا المنهج هو منهج الأمة بكاملها حينما كانت الأمة هي الصحابة الكرام وتابعوهم بإحسان، ثم بدأت الفرق الضالة تخرج عن هذا السبيل، وتفارق ذلك المنهج؛ فخرجت الخوارج ثم الروافض ثم القدرية في عهد الصحابة أنفسهم، ثم توالت تلك الفرق في الانحراف ومفارقة المنهج القويم والصراط المستقيم، وقد تفرقت تلك الفرق نفسها إلى فرق فرعية كثيرة جداً، وظهرت فرق جديدة ذات أثر في الساحة الإسلامية؛ منها الجهمية ثم المعتزلة ثم الكلّابية والماتريدية والأشاعرة، وهذه الثلاث الفرق الأخيرة في الواقع قد تبيّن لها ضلال الفرق السابقة عليها وخصوصاً الجهمية والمعتزلة اللتين تشتركان في الانتساب إلى علم الكلام.

وقد حاول أئمة تلك الفرق الثلاث العودة إلى النبع الصافي والمنهل العذب، ولكن آثار علم الكلام لم تمكن الإمامين ابن كلاب [1]، والماتريدي [2] من ذلك، فتخلصا من كثير من بدع وعقائد الجهمية والمعتزلة، وبقي لديهما بعضها وأخذا ببعض أصول السلف أهل السنة، وقصّرا في بعضها،

(1) هو عبدالله بن سعيد بن كُلّاب القطان البصري رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه وإمام الطائفة المعروفة بالكلابية، توفي سنة (245) . انظر: السير (11/ 174) ، وطبقات الشافعية (2/ 245) ، ولسان الميزان (3/ 360) لابن حجر طبع دار الفكر بيروت ط الأولى (1407 هـ - 1987 م) .

(2) 2 هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود السمرقندي، يلقب بإمام الهدى وإمام المتكلمين، توفي سنة (333 هـ) ، وهو مؤسس المدرسة المشهورة بالماتريدية نسبة إليه، وله عند أتباعه منزلة عظيمة. انظر: مقدمة كتاب الماتريدية ص ... (93 - 99) للشيخ أحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي، طبع دار العاصمة بالرياض، والأعلام (7/ 19) .

والله تعالى يتولاهما، وهو أعلم بما في نفوسهما سبحانه، أما نحن فندعوه سبحانه أن يغفر لهما وللمخلصين من أتباعهما، وأن يتجاوز عمَّا أخطآ فيه، ما دام الحامل لهما عليه حب التنزيه والخشية من التشبيه، ولكن حبنا لهما ورغبتنا الصادقة في أن يتجاوز الله عنهما لا يجعلنا نصحح مذهبهما ونسكت عن خطئهما.

وأما أبو الحسن الأشعري -رحمه الله - فله ثلاثة أطوار:

الطور الأول: الاعتزال المحض على طريقة أبي علي الجبّائي الذي كان متزوجاً بأمه وكافلاً له.

الطور الثاني: تقرير ما كان عليه ابن كُلّاب وأصحابه.

الطور الثالث: رجوعه الكامل إلى ما كان عليه السلف الصالح وذلك في كتبه: "الإبانة عن أصول الديانة" ، "ومقالات الإسلاميين" ، "ورسالتي إلى أهل الثغر" ، وهناك من يخالف في ترتيب الطوْرَين الأخيرين، أو يجعلهما طوراً واحداً [1].

لكن عامة من ينتسبون إليه إنما ينتسبون إلى ما كان عليه في الطور الوسط، فهم في حقيقتهم كُلّابية أو قريباً منها، وليسوا على السنة المحضة التي كان عليها السلف الصالح، والتي عرفت فيما بعد خصوصاً بعد محنة القول بخلق القرآن عرفت (بمذهب أحمد بن حنبل) أو (بالحنابلة) ، ولم يكن الإمام أحمد -رحمه الله- متفرداً بها، بل هي عقيدة سائر أئمة أهل السنة وأصحاب الحديث، وعلى رأسهم الإمامان مالك والشافعي وكذلك الإمام أبو حنيفة، إلا ما يذكر عنه في مسألة الإيمان، هذا وإن كثيراً من علماء الحديث وأئمة الفقه والمفسرين وغيرهم هم في الأصل من أهل السنة وأتباع السلف الصالح، ولكنهم قد تأثروا ببعض أقوال الأشاعرة أو الماتريدية خصوصاً في تأويل بعض الصفات، وهذا لا يجعلهم أشاعرة ولا ماتريدية، لأنهم من أهل الحديث والآخذين به والمقدمين له على كل الأصول، بخلاف الأشاعرة المتكلمين وكذلك الماتريدية المتكلمين فإنهم يقدِّمون العقل، ويتحاكمون إلى قواعد المنطق وعلم الكلام مقدمين ذلك على الكتاب والسنة، وهذا فارق كبير بينهم وبين المتمسكين بالآثار، والمقدمين للأخبار، والتابعين للسلف الأخيار، الذين وقعوا في تقليد أولئك في بعض المسائل [2].

(1) 3 انظر لتحقيق تلك الأقوال والترجيح فيها: كتاب موقف ابن تيميه من الأشاعرة، للدكتور عبدالرحمن بن صالح ... ابن المحمود، طبع مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة الأولى (1415 هـ-1995 هـ)

(2) انظر: منهج الأشاعرة في العقيدة ص (15 - 17) ، للدكتورسفر بن عبد الرحمن الحوالي، طبع مكتبة العلم بالقاهرة ... (1415 هـ-1995 م) .

بعد هذه المقدمة المهمة في نظري أعود فأقول: إنه لم يثبت بشكل جلي وجود للماتريدية أو الأشعرية في اليمن في هذه الفترة.

وأما المعتزلة فالصحيح أن الذي أتى بها إلى اليمن هو الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين سنة (285 هـ) ، فالزيدية في العقيدة معتزلة، وإن خالفوا المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، فجعلوا مكانها الإمامة، ويقول بعض الباحثين: إن اعتزال زيدية اليمن في بداية أمرهم كان على طريقتهم الخاصة بهم، وليس هو الاعتزال المعروف المنسوب إلى واصل بن عطاء وأتباعه.

وقد ظلت الزيدية على ذلك إلى أن ظهرت المطرفيَّة [1]، وانتشرت، وفشت بين الناس، وأصبحت تشكل قوة علمية وبشرية يحسب لها ألف حساب، وخصوصاً أنهم قد خالفوا السائد من عقائد الاعتزال وعقائد الزيدية في أمور أهمها: مسألة الإمامة وأنهم لا يحصرونها في أبناء علي - رضي الله عنه -، وإنما من جمع صفاتها من المسلمين، فهو أهل لها، وكذلك التفضيل بمجرد النسب لا يقرونه، فتدخلت الغيرة على العقيدة مع الغيرة على الميزة التي اكتسبها بعض الناس في مسألتي الإمامة والنسب، وعند ذلك رغب القائمون على المذهب الزيدي وعقيدته الموروثة في التصدي لهذه الفرقة، وهزيمتها فكرياً عن طريق المناظرة، ولما كان رجال المطرفية أكثر علماً وأنضج فكراً؛ وشعر الطرف الثاني بذلك؛ رغب في تسليح فريقه برجال على نفس المستوى، بل أقوى ليحملوا فكره، ويدافعوا عن أصوله ومبادئه بالطريقة التي يريدها هو، وعندما علم الإمام المتوكل أحمد بن سليمان أن أحد علماء المعتزلة وصل إلى مكة لأداء الحج عام (540 هـ) سارع باستدعائه إلى اليمن، فأجاب إلى ذلك، ووافى الإمام في محل إقامته حينها هجرة محنكة من خولان صعدة في مطلع عام (541 هـ) ، ومعه كتب الاعتزال، وبقي في اليمن سنتين ونصف لنشر الاعتزال على طريقة معتزلة البصرة، وهي تخالف الاعتزال الذي كان في اليمن من قبل والذي كان أقرب إلى معتزلة بغداد،

(1) المُطَرِّفِيَّة: هي فرقة من فرق الزيدية منسوبة إلى مطرف بن شهاب من أعلام أواخر المائة الرابعة وأوائل المائة الخامسة، وكانوا على جانب عظيم من الإقبال على العلم والاشتغال به والإخلاص في الطاعة والعبادة، حصل بينهم وبين الإمام عبدالله بن حمزة شقاق فقضى عليهم قضاء مبرماً. انظر: الزيدية للأكوع ص (76 - 77) وتيارات معتزلة اليمن ص ... (187، 192) .

وقد التقى في هذه الفترة القاضي جعفر بن عبد السلام الأبناوي بالبيهقي [1]، وأخذ عنه علوم الاعتزال وأسلوب المحاجة والمناظرة استعداداً لمناظرة المطرفية، ثم لما عزم البيهقي على العودة إلى العراق عزم معه جعفر بن عبد السلام ليتزود من المنبع الأصلي للاعتزال، غير أن البيهقي مات في تهامة في طريق العودة، فلم يثنِ ذلك عزيمة ابن عبد السلام، بل واصل المسير إلى العراق وفارس، وأخذ في كل بلد حلّه عن علماء المعتزلة فيه [2]، ثم عاد يحمل كتب المعتزلة معه، وبهذا تكامل وجود المعتزلة في اليمن، بل إن من الباحثين من يرى أن المعتزلة لم تدخل اليمن إلا من ذلك التاريخ.

ولكن الحق أن الذي دخل في ذلك التاريخ هو فكر وعقيدة معتزلة البصرة التي تخالف الاعتزال الذي ظل قائماً في المجتمع منذ دخل الهادي إلى أن ظهر جعفر بن عبدالسلام في أيام المتوكل على الله أحمد ابن سليمان المتوفى سنة (566 هـ) [3].

المطلب الرابع: استمرار منهج السلف الصالح رغم مزاحمة المناهج المختلفة له:

لقد تكفل الله بحفظ دينه وكتابه الكريم، فقال جلّ من قائل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [4]، ومقتضى حفظه أن يبقى ظاهراً قائماً، وأن تقوم به طائفة تمثله بحق، وتعمل به بصدق، وتدعو إليه بإخلاص، على وفق ما نزل الكتاب وما بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووفق ما فهمه الصحابة الكرام من الكتاب والسنة دون زيادة أو نقصان أو انحراف، وقد أكد هذا المعنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )) [5].

(1) هو زيد بن علي بن الحسن البيهقي المعتزلي، حج سنة (540 هـ) فاستدعاه الإمام أحمد بن سليمان إلى اليمن فوصل صعدة سنة (541 هـ) ومكث يدرس كيب الاعتزال في مسجد الهادي بصعدة سنتين ونصف ثم رحل إلى بلاده فمات في تهامة. انظر: تيارات معتزلة اليمن ص (132 - 134) .

(2) ملخص من تيارات معتزلة اليمن ص (132 - 135) .

(3) انظر الصلة بين الزيدية والمعتزلة ص (71) ، للدكتور أحمد عبدالله عارف، طبع المكتبة اليمنية صنعاء ودار أزال بيروت، الطبعة الأولى (1407 هـ -1987 م) .

(4) سورة الحجر آية (9) .

(5) تقدم تخريجه ص (73)

وإذا كان هذا الوعد يشمل جميع بلاد الله التي يظللها الإسلام، فإنَّ يمن الإيمان والحكمة من أحق البلاد بتحقيق هذا الوعد، وبالفعل فإن تاريخ اليمن لمليء بالأدلة على هذه الدعوى، فلم يخلُ جانب من جوانب منهج أهل السنة والجماعة ممن يقوم به، ويدافع عنه طوال التاريخ اليمني، أو على سبيل الاحتياط في معظم مراحل التاريخ.

وإذا كان قد مرَّ بنا أن غالب القرون الثلاثة كان الظاهر فيه مذهب أهل السنة والجماعة في اليمن، فإن الفترات اللاحقة لم تشهد غياباً كاملاً لهذا المذهب، وإنما قد يضعف، ويضايق، ويضطهد دعاته في بعض الأحيان، ثم لا يلبث أن يظهر، وما إن تُرفع الحجب، وتزال العقبات من أمامه حتى يهرع الناسُ إليه، يتسابقون عليه، ويسيرون تحت لوائه، وذلك أنه الوحيد المنسجم مع الفطرة والذي تميل إليه الأنفس والقلوب التي لم تعمَ بظلمات البدع، ولم يعكر عليها غبار الشبهات، ومن الأدلة الناصعة على أن منهج السلف الصالح هو المنهج المنسجم مع الفطرة السليمة أن جميع المذاهب الوافدة على اليمن لم تظهر، وتنتشر بين الناس إلا في ظل دول قوية وسلطات قاهرة، ماعدا منهج أهل السنة والجماعة فإنه يقوم بنفسه، وينتشر بما جعل الله فيه من عوامل البقاء والخلود والانتشار، وسيظهر ذلك مما سنورده في المباحث القادمة عند الكلام على تلك المناهج.

وإذا علمنا أن الأصل الذي كان عليه أهل اليمن هو مذهب أهل السنة والجماعة وأن المذاهب الأخرى إنما طرأت عليه، فإن المعروف المقرر هو بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت خلافه، ولم يثبت أن مذهباً من تلك المذاهب الوافدة قد طبق اليمن قاطبة، ولم يدّعِ أحد من أهل تلك المذاهب ذلك، وهذا وحده يكفي دليلاً على استمرار مذهب السلف الصالح وعدم انقطاعه إلى يومنا هذا.

وهذا ما نلمحه جلياً في كلام المؤرخين، والشهادة الأولى لمؤرخ زيدي هو يحيى بن الحسين ابن القاسم في طبقات الزيدية حيث يقول: (قلت: وكان اليمن في هذا التاريخ - وهو سنة أربعمائة إلى خمسمائة - فيه اختلاف شديد في المذاهب، واضطراب وفتن وشبه يوردها كل فريق، فكان فيه الزيدية فريقين: مخترعة ومطرفية، وفي اليمن الأسفل حنبلية وشافعية، ولما كان رأس خمسمائة فما بعدها غلب على اليمن الأسفل مذهب الأشعري لما خرج من الشام مع بني أيوب، فإنهم أخرجوا معهم "المقالة القدسية" أول إحياء علوم الدين في عقيدة الأشعري فمال إليه أكثر الشافعية في ذلك الوقت؛ لأن الأشعري في ثلاثمائة سنة وكانت وفاته أربع وعشرين وثلاثمائة ...

ثم اختلفت الشافعية باليمن فمنهم من قال بمقالة أحمد بن حنبل بأن المتشابهات تمر من غير تأويل مع اعتقاد أن الله ليس كمثله شيء، واحتجوا بقراءة الوقف على قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} [1]، ومنهم من تأول ذلك كما يقول الأشعري، وجرت بينهم مناظرات في ذلك الزمن لاسيما العمراني الشافعي صاحب "البيان" على مذهب الشافعي فإنه بنى على أصول أحمد) انتهى محل الغرض منه [2]، وقد عقَّب القاضي الأكوع على هذا الكلام بقوله: (ورغم هذه التيارات المتعاكسة المتضاربة فقد ظل اليمن صامداً أمامهم لم تتزعزع عقائده أو يهدم بنيانه المتراص إلا بعد فترة متراخية، ثم ذكر نحواً مما ذكره في كتابه اليمن الخضراء ونقلناه سابقاً [3]،ثم قال: (هذا هو العمل السائد في العقائد والمقامات في عموم اليمن ماعدا حضرموت فالغالب عليها مذهب الخوارج.

ولما تغلغلت هذه المذاهب في النفوس بطبيعة التفاعل والامتزاج انبثق عنها في القرن الرابع الهجري مذاهب متشعبة فمن حنفية إلى مالكية إلى شافعية إلى هادوية في صعدة، والمذهب السائد هو مذهب السلف الذين لا ينتمون إلى أي إمام من أئمة المذاهب) [4].

ويقول شيخ الإسلام الشوكاني -رحمه الله تعالى-: (ولا ريب أن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهم في الزيدية مالا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال، فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عدداً يجاوز الوصف، يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية، وما يلحق بها من دواوين الإسلام المشتملة على سنة خير الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأساً، ولا يشوبون دينهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها، بل هم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتاب الله وما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كثرة انشغالهم بالعلوم التي هي آلات علم الكتاب والسنة من نحو وصرف وبيان وأصول ولغة مع عدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية، ولو لم يكن لهم من المزية إلا التقيَّد بنصوص الكتاب والسنة وطرح التقليد، فإن هذه

(1) آل عمران (7) .

(2) طبقات الزيدية مخطوطة، بواسطة مقدمة السلوك في طبقات العلماء والملوك ص (34) للقاضي بهاء الدين الجندي، الطبعة الثانية (1416 هـ -1995 م) مكتبة الإرشاد صنعاء، والمقدمة للقاضي الأكوع.

(3) انظر: ص (183)

(4) المصدر السابق (1/ 33) .

خصيصة خص الله بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا توجد في غيرهم إلا نادراً) [1] ..

وفي القرن الرابع نرى من يحمل منهج أهل السنة والجماعة ومذهبهم، ويرد على من خالفهم، فهذا الحسين بن عبدالله المراغي له كتاب يردّ به على المعتزلة باسم "الحروف السبعة في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الضلال والبدعة" وقد عاش آخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع حيث توفي سن (324 هـ) [2]، وهو وافد على اليمن وليس من أهلها، ولكنه استقر بها، وصار له أتباع أخذوا عنه ذلك المذهب الذي كان في الأصل موجوداً قبل وروده [3].

وفي القرن الخامس يمر بنا الفقيه عبدالله بن يزيد اللَعفي، قال الجندي: (له تصانيف على معتقد السلف) ، وكان يعيش في القرن الخامس ووفاته (بعد خمسمائة بيسير) [4].

وفي القرن الخامس أيضاً كانت مدرسة الإمام زيد بن عبدالله اليفاعي [5]، وهي مدرسة عظيمة جليلة، يدرس فيها فنون مختلفة، ومن أعظمها علوم العقيدة على مذهب السلف الصالح والفقه على مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله-، وكان أصحابه فوق ثلاثمائة متفقه في غالب الأيام، حتى لقد خشي منه ومن أتباعه وأتباع شيخه أبي بكر بن جعفر المحابي أمير الجند من قبل الصليحي، فعمل الحيلة للإيقاع بين الشيخين وأتباعهما؛ مما اضطر الشيخ زيد للرحيل إلى مكة تجنباً للفتنة [6].

وعاصره وكان على نفس المنهج الإمام زيد بن الحسن الفايشي [7]، غير أن الأول كان بالجند والثاني بالجعامي من أعمال إب، وتوفي سنة (528 هـ) وقيل (527 هـ) [8] -رحمه الله- وفي

(1) البدر الطالع (2/ 83) .

(2) طبقات فقهاء اليمن ص (83) .

(3) انظر: السلوك (1/ 232) .

(4) المصدر السابق (1/ 251) .

(5) زيد بن عبدالله اليفاعي، من فقهاء الجند السائرين على منهج السلف الصالح في الأسماء والصفات، صاحب مدرسة متميزة في الفقه وله أتباع وتلاميذ كثيرون توفي (514 هـ) ،طبقات فقهاء اليمن ص (119) ، هجر العلم (4/ 2377) .

(6) انظر: طبقات الفقهاء ص (120) ، والسلوك (1/ 263) .

(7) هو زيد بن الحسن الفايشي، من فقهاء الشافعية المنتمين لمذهب السلف الصالح في الأسماء والصفات، كبير القدر عظيم الأثر في منطقة الجعامي بإب توفي سنة (528 هـ) انظر ترجمته: طبقات فقهاء اليمن ص (155) ،وهجر العلم ... (1/ 389) .

(8) انظر: السلوك (1/ 285 - 287) وهجر العلم (1/ 391 - 392) .

مدرستيهما كان يدرس علم التوحيد على مذهب السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وعنهما وعن غيرهما من العلماء أخذ الإمام يحيى بن أبي الخير [1] ذلك المذهب [2]، والإمام ابن أبي الخير هو رأس أهل السنة في اليمن في القرن السادس، فقد تبناه ودافع عنه وكافح وألّف وناظر وخرّج الطلاب عليه، وقد عني بالرد على المعتزلة حين وفودهم إلى اليمن يمثلهم القاضي جعفر بن عبد السلام المعتزلي فألّف كتابه "الانتصار في الرد على القدرية الأشرار" ، ثم ظهرت الأشاعرة فأضاف - رحمه الله - إلى ما ذكره في الانتصار من مسائل القدرية مذهب الأشعرية والرد عليهم، قال ابن سَمُرة: (فأجحف فيه على الأشعرية وقطع حلوقهم وأفحمهم خصوصاً بذلك من يقول {: ما أنزل الله على بشر من شيء} [3].

ففرح الفقهاء بكتابه "الانتصار" وانتسخوه ودانوا به واعتقدوه) [4].

وقال ابن سمرة قبل ذلك: (وكان الإمام يحيى قد سمع في مدرستي الشيخين الإمامين زيد بن حسن الفايشي وزيد اليفاعي "كتاب التبصرة" في علم الكلام وأصول الدين تصنيف أبي الفتوح [5] على مذهب السلف الصالح، وهما ينقلانه جميعاً عن الشيخ أبي نصر البندنيجي مصنف "المعتمد" في الخلاف، فإنهما صحباه جميعاً في مكة، وعن الإمام يحيى أخذ مشايخنا "التبصرة" في أصول الدين ورويناها عنهم وكان -رحمه الله - يُسمعها في مدرسته، ويعلمها من طلبها، فناظر الشريف العثماني وهو أشعري، ونصر مذهب الحنابلة أهل السنة) [6].

(1) هو يحيى بن أبي الخير العمراني، إمام شهير من أئمة علماء اليمن، إمام في الفقه وهو صاحب كتاب "البيان" الشهيرالذي اعتنى بطبعه قاسم محمد النوري وطبع الطبعة الأولى بدار المنهاج بيروت سنة (1421 هـ -2000 م) ، وإمام في السنة على منهج السلف الصالح، رأس علماء الحنابلة في اليمن وصاحب كتاب "الإنتصار في الرد على القدرية الأشرار" الذي حققه سعود بن عبد العزيز الخلف وطبع بدار أضواء السلف بالرياض الطبعة الأولى سنة (1419 هـ -1999 م) .

(2) انظر: طبقات الفقهاء ص (175 - 177) .

(3) الأنعام (91) .

(4) طبقات الفقهاء ص (181) وقد أخرج كتاب الانتصار وطبع بعد أن حقق وقدم رسالة جامعية للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

(5) انظر ترجمته: طبقات الفقهاء ص (91) والسلوك (1/ 230)

(6) طبقات الفقهاء ص (177) .

وقد ملأ أطراف اليمن أصحاب وتلاميذ الإمام يحيى بن أبي الخير، ونشروا ما أخذوا عنه في كل مكان حلّوا فيه، ومن أشهر من خلفه في ذلك الطريق الفقيه مسعود بن علي بن مسعود العنسي [1]،وقد كان شديد الغيرة على ذلك المذهب، حتى أنه عندما أظهر طاهر بن يحيى بن أبي الخير القول بمذهب الأشاعرة بعد موت أبيه، غضب لذلك، وقام فيه قياماً حسناً، وألّف في الرد عليه، قال الجندي وهو يتكلم على انحراف طاهر ونقض توبته التي أعلنها في حياة أبيه أثناء ترجمته لسيف السنة البر يهي: (ولذلك أجمع الفقهاء على هجره والإنكار عليه مشافهةً ومراسلة ومكاتبةً، وكان من أعظمهم في ذلك القاضي مسعود، ولهذا في الرد عليه كتاب كبير وأخباره يطول ذكرها) [2]، وبهذا تعرف غيرة هذا الفقيه على مذهب أهل السنة، وليس وحده ولكن أجمع جميع الفقهاء الحضارين في ذلك الوقت على ما أبدى على طاهر بن يحيى بن أبي الخير من الإنكار والهجر، ثم تسلمت الراية مدرسة أخرى هي مدرسة الإمام سيف السنة أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبدالله البر يهي السكسكي.

قال الجندي: (وله كتب عدة في الأصول، يرد بها على المعتزلة والأشعرية، وكان كبير القدر، شهير الذكر، صاحب كرامات عديدة، وكتب مفيدة) [3]، وقد حذا طلابه حذوه في الرد على الأشاعرة وغيرهم [4]، وبأصحاب الإمام البر يهي نقطع أن مذهب أهل السنة كان ظاهراً قوياً إلى ما بعد منتصف القرن السابع، أي إلى بعد دخول الأيوبيين إلى اليمن بنحو مائة سنة حيث كان دخولهم سنة (569 هـ) [5].

وبعد منتصف القرن السابع بدأت تقل المعلومات عن وجود قائمين بمذهب السلف، ولكن مذهب السلف الصالح ما كاد ينحسر عن المناطق الشافعية حتى لمع نجمه زاهراً مضيئاً في المناطق الزيدية على يد مفخرة اليمن الإمام العظيم محمد بن إبراهيم الوزير الذي عاش في أواخر القرن

(1) مسعود بن علي العنسي أحد كبار أصحاب الإمام يحيى بن أبي الخير والسائرين على منهاجه منهاج أهل السنة، وله ... في ذلك مواقف مشهورة ومؤلفات في الرد على من خالف مذهب السلف الصالح في الأسماء والصفات، توفي سنة ... (604 هـ) .انظر ترجمته: طبقات فقهاء اليمن ص (216) ، وهجر العلم (2/ 731) .

(2) السلوك (1/ 322) .

(3) انظر ترجمته: طبقات فقهاء اليمن ص (190) والسلوك (1/ 318) .

(4) انظر: ترجمة صاحبه وتلميذه محمد بن مضمون بن عمر بن أبي عمران في هجر العلم (3/ 2134) ،وقد توفي سنة (663)

(5) انظر: قرة العيون ص (265) .

الثامن وأوائل القرن التاسع، فقد جدد هذا الإمام العظيم مذهب السلف الصالح في تلك المناطق، وأشاد أركانه، وأوضح معالمه؛ مما جعل كتبه مرجعاً لأهل السنة وعلماء السلفية في مختلف بلاد العالم الإسلامي، رغم ما لاقى في سبيل ذلك من محن وأذى، قابلها بالصبر والاحتساب وسعة الصدر والإصرار على التمسك بالحق الذي آمن به.

وقد كتب الله له النجاح في دعوته، وأثمرت جهوده بإنشاء مدرسة علمية سلفية، راسخة القواعد طيبة الثمار، مازال سبيلها معموراً إلى الآن، وقد سقنا الحديث عنها في هذا المبحث، والغرض هو تقرير أن منهج السلف الصالح في العقيدة مازال موجوداً حاضراً فاعلاً في اليمن منذ أن دخلها على يد معاذ وأبي موسى - رضي الله عنهما - إلى اليوم، وذلك تصديقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )) [1] 0

المبحث الثاني

الإسماعيلية ودورها في نشر القبورية في ال

وفيه أربعة مطالب:

(1) تقدم تخريجه ص (73) .

المطلب الأول: طوائف الإسماعيلية التي دخلت اليمن:

سبق في المبحث الأول أن الإسماعيلية التي دخلت اليمن فصيلان: أما الفصيل الأول فهم القرامطة، ويمثلهم علي بن الفضل الجدني، وقد انتهى هذا الفصيل بانتها ء دولة علي بن الفضل وابنه الفأفاء سنة (304 هـ) كما سبق على يد آل يعفر الحواليين السُنيين.

وأما الفصيل الثاني فهو المنتمي إلى العبيديين أصحاب الدولة الفاطمية بمصر، وكان يمثل هذا الفصيل منصور اليمن.

وحينما قضى أهل السنة على الدولة الإسماعيلية ككيان سياسي، وانتهى بذلك أثر علي بن الفضل، لم ينتهِ أثر ابن حوشب أو منصور اليمن، بل إنه عهِدَ بالدعوة من بعده إلى من يقوم بها كما سيأتي في المطلب الثالث، ولكن الذي يهمنا هنا أن الإسماعيلية في مصر في آخر عهد الدولة العبيدية انقسمت إلى قسمين: مستعلية، ونزارية، تبعاً للإمام الذي تبعته كل فرقة منها، وذلك أنه بعد موت الخليفة "المستنصر" اختلف على من يخلفه في الإمامة، فبايع قوم ابنه الأكبر "نزار" وهم النزارية، وبايع قوم آخرون ابنه الأصغر "أحمد" وسموه "المستعلي" وهم المستعلية، والذي يهمنا أن الذين في اليمن من الإسماعيلية ومنهم الصليحيون هم من فرقة "المستعلية" [1].

ثم انقسمت المستعلية باليمن إلى قسمين هما: "الداودية" أتباع الداعي "داهود قطب شاه" والسليمانية أتباع "سليمان بن حسن" ، فالداودية هم البُهرة، والذين ولاؤهم للزعامة الإسماعيلية بالهند، وهم الظاهرون والذين ينصبُّ الكلام عنهم كلما ذكرت الحركة الإسماعيلية المعاصرة، وهم أشد تطرفاً وأكثر قبورية، وأما السليمانية فهم الذين يطلق عليهم المكارمة وولاؤهم لزعيمهم المتواجد بنجران، وهم أقل عدداً وأثراً من البهرة [2].

المطلب الثاني: لمحة عن الدولة الصليحية مؤسسة القبورية في اليمن:

(1) الإسماعيلية لإحسان الهي ظهير ص (735 - 736) .

(2) الفرقة الباطنية الإسماعيلية (رؤية من الداخل) قراءة جديدة وحقائق معاصرة وهذا الكتاب مصفوف بالكمبيوتر ولم يطبع بعد، وفيه حقائق عظيمة جديرة بالاطلاع و الاعتبار بما فيها قبل أن تفوت الفرصة ويقع الفأس في الرأس، ومؤلفه يبدو أنه انتحل اسماً مستعاراً هو (علوي طه الجبل) ويحق له ذلك؛ لما يخشى عليه من شر وكيد تلك الطائفة، وكان من المفيد أن يعجل بنشره بين الناس.

بعد موت ابن حوشب أو منصور اليمن، ظل التواصل جارياً بين خليفته في اليمن عبد الله ابن عباس الشاوري وبين المهدي "المزعوم" القائم بالمغرب، وكان قد وصل تكليف رسمي من المهدي للشاوري بالقيام بأمر الدعوة، وفعلاً قام بها، ولكن الحسن بن منصور اليمن لم يسلِّم له، وأحب أن يكون هو قائماً مقام أبيه، وتربص بالشاوري حتى أمكنته الفرصة فوثب عليه فقتله، ثم أعلن نفسه قائماً مقام أبيه، وتتبع من كان مع الشاوري فقضى عليهم.

ثم أعلن تخليه عن مذهب أبيه ورجوعه إلى مذهب أهل السنة، وكان قد قضى على معظم الرجال البارزين من أعوان أبيه، ولم يبق إلا من أمكنه الاستتار، وكان من هؤلاء: يوسف بن موسى ابن أبي الطفيل فقام بأمر الدعوة، ثم قام بعده جعفر بن أحمد بن عباس ثم عبدالله بن محمد بن بشر ثم محمد بن أحمد الشاوري ثم هارون بن محمد بن رحيم ثم يوسف بن أحمد بن الأشج ثم سليمان ابن عبدالله بن عامر الزواحي، وكان هذا الرجل عظيم الجاه كثير المال، فكلما همَّ به أحد من الناس رد عليه قائلاً: (أنا رجل مسلم، أقول: لاإله إلا الله محمد رسول الله، فكيف يحل لكم دمي ومالي؟ فيمسكون عنه) ،وهو الذي سلم الأمر إلى الصليحي. [1].

وكان أبو الصليحي محمد بن علي الصليحي قاضياً سنياً فاضلاً ذا مكانة في قومه، وكان الشاوري يزور هذا القاضي الفاضل، فلحظ ابنه وما عليه من مخايل النجابة والذكاء والشجاعة وغيرها من مؤهلات القيام بالدعوة بل بالإمارة، فكان يجالسه، ويفضي إليه بالدعوة، ويرغبه فيها حتى أقنعه.

ولم يتعجل الشاب علي بن محمد الصليحي الأمر، ولكنه بدأ يمهد لنفسه بخطوات وئيدة ثابتة، فأخذ يحج بالناس عن طريق السراة والطائف لمدة خمسة عشر عاماً حتى شاع ذكره، وظهرت شخصيته، وعرف مكانه، وكان قد تردد على ألسنة الناس أن ذلك الشاب سوف يملك اليمن، فكان يسمعه من كثير من الناس ولكن يجيب باستبعاد ذلك، وإن كان في قرارة نفسه يتوْقُ إليه ويزيد تصميماً على بلوغه، وعندما حضرت الوفاة سليمان الزواحي أوصى بكتبه وأمواله، وكانت كثيرة لعلي ابن محمد الصليحي، فانكب على تلك الكتب، فقرأها، وفهمها، وصار من العلماء بما

(1) الصليحيون ص (49 - 58)

فيها، وبعد أن بث دعوته، واستجاب له أعداد كبيرة من الناس، أعلن ثورته وتبعيته للخليفة الفاطمي "المستنصر بالله" ، وذلك من جبل مسار سنة (439 هـ) [1].

وهكذا تأسست الدولة الصليحية، وما زال الصليحي يتوسع حتى ملك اليمن كله، ولم يكتف بذلك، بل أدخل الحجاز ضمن دولته، وملك مكة وما والاها باسم الفاطميين، وبعد مكاتبات مع خليفته في مصر ولّى العهد لابنه محمد، ولكنه ما لبث أن مات مبكراً في حياة أبيه، فأُخبر الخليفة بذلك وطلب أن يقوم بولاية العهد ابنه الآخر المكرم أحمد، فوافق الخليفة على ذلك [2].

وفي سنة (459 هـ) عزم على الحج، وأخذ معه من الأموال والنفائس مالا يقدّر بثمن، كما حمل معه جميع الملوك والأمراء الذين أجلاهم عن الملك، وحبسهم لديه؛ خوفاً من تمردهم، أخذهم جميعاً معه إلى الحج، وعددهم خمسون ملكاً، وترك ابنه ولي العهد بصنعاء، وسار من طريق تهامة في مرافقين آخرين، وكان في موكبه ألفا فارس، غير أن أولئك الفرسان لم يكونوا مرافقين له، وإنما كان قد قدّمهم أمامه، وسار هو في مجموعة صغيرة من آل الصليحي وبعض المقربين [3].

وكان من جملة الموتورين منه آل نجاح حكام زبيد الذين أزالهم عنها، وسلبهم دولتهم؛ فكانوا يتربصون به الدوائر، فلما علموا بسفره رصدوه، ثم تجهزوا في جهاز غير طائل، ولكنّ توفيق الله صحبهم، ونصره تنزل عليهم ففاجأوه بمنطقة يقال لها "المهجم" من تهامة، فأعملوا في معسكره سلاحهم البسيط، فقتلوه، وقتلوا أخاه، وغنموا جميع ما في المخيم من أموال ومجوهرات ونفائس وسلاح وخيل وغير ذلك، ثم احتزوا رأسه ورأس أخيه، وحملوهما مع النساء اللاتي أسروهن، ومنهن أسماء بنت شهاب زوجة الملك علي بن محمد الصليحي وأم أولاده، وقد نصبوا رأس الصليحي وأخيه على رمحين، ووضعوهما أمام أسماء على الراحلة، ثم بعد ذلك نصبوهما أمام الطاق الذي تسكنه بحيث كلما نظرت من الطاقة رأتهما أمامها، وتم لسعيد الأحول النجاحي وإخوانه الاستيلاء على زبيد وإقامة الدولة النجاحية السنية هناك، وكان قتله يوم السبت الحادي عشر من ذي القعدة سنة (459 هـ) [4] ودام الأمر لبني نجاح سنة واحدة، وقيل أقل من ذلك [5].

(1) المفيد من أخبار صنعاء وزبيد ص (95 - 100) تأليف عمارة بن علي اليمني، طبع دار السعادة بالقاهرة، الطبعة الثانية ... (1396 هـ - 1976 م) ... .

(2) الصليحيون ص (95 - 98) .

(3) المصدر السابق ص (99) .

(4) المفيد من أخبار صنعاء وزبيد ص (126 - 127) .

(5) المصدر السابق ص (128) ، وانظر: التعليق رقم (1) على نفس الصفحة

في أثناء ذلك كانت أم الملك المكرم قد هرَّبت إليه رسالة، تحثه فيها على العمل على فك أسارها، وبالغت في ذلك حتى قالت في الرسالة: (أنها حبلى من العبد سعيد الأحول) ، ولم يكن شيء من ذلك، وإنما قصدها حثه على الإسراع حيث قالت: إن تأخرت عن إطلاقي تمت الفضيحة حين ألد بولد لذلك العبد، واستغلَّ المكرم تلك الرسالة أحسن استغلال، فكان يقرأها على الناس في المساجد والمجامع، ويثير بها نخوتهم، فألّب الناس، وجهز لاستعادة زبيد، وفك أسر أمه، وسار في عشرة آلاف شخص حتى داهموا زبيد، واقتحموها، وهزموا بني نجاح ومن معهم، ويمم المكرم تحت الطاق الذي فيه أمه، فأطلقها، وأنزل الرأسين المنصوبين أمام ذلك الطاق، فغسلهما، ودفنهما في زبيد، وبنى عليهما مشهداً، هو ثاني مشهد يثبته التاريخ في اليمن [1]، وعند عودته مرّ بالمكان الذي قتل فيه أبوه وعمه، فأخذ جثتيهما معه إلى صنعاء [2]،وبنى عليهما مشهداً في صنعاء، ثم حاول استعادة ملك أبيه، فأفلح في البعض، وأخفق في البعض الآخر.

وكان قد أصابه الريح حين كشف عن وجهه أمام أمه [3] في زبيد، وبقي مريضاً بذلك، ولكنه بقي ماسكاً بزمام الملك حتى ماتت أمه أسماء سنة (479 هـ) ، بعد ذلك فوّض الأمر إلى الملكة السيدة بنت أحمد الصليحية، وهي التي يسميها العامة وأشباههم "الملكة أروى" ، ثم انتقلا إلى ذي جبلة من مخلاف جعفر، وهو الذي يسمى اليوم "إب" .

وفي عام (484 هـ) مات المكرم، فأسند أمر الدعوة إلى الأمير أبي حمير سبأ بن أحمد بن المظفر الصليحي، وبقي الملك بيد السيدة بنت أحمد حتى ماتت سنة (532 هـ) ، ودفنت في جامع جبلة يسار القبلة، وقيل أن قبرها كان في موضع خاص قد استثنته من الوقف حين أوقفت أرض المسجد على العموم، فهو يعتبر ضمن المسجد.

(1) المصدر السابق ص (134) .

(2) االصليحيون ص (134) . وانظر: الأضرحة في اليمن من القرن الرابع الهجري "العاشر الميلادي" وحتى نهاية القرن العاشر العاشر الهجري "السادس عشر الميلادي" "دراسة أثرية معمارية" ص (39) ، وهي رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراة في الآثار الإسلامية من قسم الآثار كلية الآداب جامعة صنعاء د. علي سعيد سيف، كتاب مصفوف بالكمبيوتر (1419 هـ -1998 م) .

(3) المفيد ص (133)

وبعد موت الملكة بدأ التحلل في الدولة الصليحية وبدأت النواحي تستقل، فبعد استقلال النجاحيين بتهامة وعاصمتها زبيد في حياة الملكة استقل بعد موتها الزريعيون بعدن والجند وما بينهما والياميون بصنعاء ومخا ليفها ومعظم اليمن الأعلى، وهكذا تساقطت مدنهم وحصونهم حتى كانت نهايتهم سنة (532 هـ) .

سياسة الدولة الصليحية في تبني ونشر الإسماعيلية:

مرَّ بنا أن الدعاة الإسماعيليين توارثوا الدعوة بعد منصور اليمن على نفس المنهج، وكان آخرهم سليمان الزواحي، الذي سلَّم الراية لعلي بن محمد الصليحي، ودرّس علي بن محمد الصليحي الإرث الإسماعيلي، وفهمه حتى صار من دعاته، ولكنه بعد أن أقام دولته انشغل بالسياسة عن الدعوة، وهكذا خلفاؤه: ابنه المكرم وسبأ بن أحمد لم يعرف عنهما الانشغال بالدعوة بأنفسهما، ولكن هناك دعاة عاصروهما، قاموا بما يجب نحوها، ومع ذلك لم يظهر من الصليحيين إجبار لأهل السنة أو الزيدية الذين دخلوا تحت حكمهم على اتباع مذهبهم، والذي يبدو أن الشعار الظاهر هو ترك أهل كل مذهب يعملون بمذهبهم في خاصة أنفسهم، ولكن ولاتهم ودعاتهم كانوا يعملون في الخفاء؛ للإيقاع بخصومهم الذين يعلمون بغضهم لهم وتكفيرهم إياهم، ويعملون المكائد لتفريقهم وإشغال بعضهم ببعض، ومن الأمثلة الناصعة على ذلك ما ذكره الجندي في ترجمة الفقيه زيد بن عبدالله اليفاعي بعد أن ذكر فضل الشيخ وسعة علمه وكثرة طلابه حتى لقد أصبح طلابه أكثر عدداً من طلاب شيخه أبي بكر ابن جعفر بن عبدالرحيم المحابي، وقد كانا يدرّسان في مسجد الجند جنباً إلى جنب، ولم يكن بينهما شيء من المنافسة، قال: (ولم يزل ذلك من شأنهم حتى تمت الحيلة من المفضل في التفريق بينهم، وذلك أنه مات ميت من أهل الجند، فخرج الإمام زيد والإمام أبو بكر بن جعفر في أصحابهما، يقبرون وعليهم الثياب البيض لبس الحواريين، والمفضل يومئذ بقصر الجند، فحانت منه نظرة إلى المقبرة، فرأى فيها جمعاً عظيماً مبيضين، فسأل عن ذلك فقيل: قبر ميت غالب من حضره من الفقهاء، فعرَض بذهنه ما فعله ابن المصوع مع أخيه حيث قتله، وقال: "هؤلاء يكفروننا ولا نأمن خروجهم علينا مع القلة، فكيف مع الكثرة؟ ثم قال لحاضري مجلسه: انظروا كيف تفرقون بينهم، وتدخلون البغضاء عليهم بالوجه اللطيف" ، فجعلوا يولّون القضاء بعض أصحاب الإمام زيد أياماً، ويعزلونه، ويولون مكانه من أصحاب الإمام أبي بكر بن جعفر، ثم يولون إمامة الجامع كذلك، ثم النظر في أمر المسجد كذلك،

حتى ظهر السباب بين الحزبَين، وكادَ يكون بين الإمامين، فعلم الإمام زيد ذلك فارتحل مهاجراً إلى مكة) [1]، فالكيد والدس ثابت عليهم، ولعلّ الجو لم يساعدهم بشكل كبير وواضح على دعوة عامة الناس إلى مذهبهم، أما الدعوة السرية والفردية فهي قائمة لاشك، وقد كسبوا لهم أتباعاً مازالوا يسيرون على منهجهم إلى اليوم.

ما ينسب إلى الصليحيين من إباحة المحرمات وحط الواجبات:

ذكر الحمادي اليماني -رحمه الله- أنه كان يسمع ما يقوله الناس عن هذه الفئة "الصليحية الباطنية" ، وأنه كلما سأل أحداً ممن أشاع تلك الأخبار: أتشهد بذلك؟ قال: لا، إنما سمعت الناس يقولون ذلك فقلته، قال: (فرأيت أن أدخل في مذهبه؛ لأتيقن صدق ما قيل من كذبه؛ ولأطلع على سرائره وكتبه) [2]، ثم بدأ بذكر كيفية الدعوة إلى أن ذكر كيف يحطون عنه الصلاة ثم الصوم، وكيف يحلون له الخمر، وهم في كل ذلك يستدلون بالآيات بعد أن يحرفونها عن مواضعها، ثم بعد اجتياز تلك المراحل، يترقون به إلى ذلك الفعل الشنيع الذي أشيع عنهم، فقال: (فإذا صح عندك حاله، فاذهب به إلى زوجتك، فاجمع بينه وبينها، فيقول: سمعاً وطاعة لله ولمولانا، فيمضي به إلى بيته، ويبيت مع زوجته حتى إذا كان الصباح قرع عليهما الباب، وقال: "قوما قبل أن يعلم بنا هذا الخلق المنكوس، فيشكر ذلك المخدوع له فيقول:" ليس هذا من فضلي. هذا فضل مولانا "، فإذا خرج من عنده تسمع به أهل هذه الدعوة الملعونة، فلا يبقى منهم أحد إلا بات مع زوجته كما فعل ذلك الداعي الملعون، ثم يقول:" لابد لك أن تشهد المشهد الأعظم عند مولانا، فادفع قربانك "، فيدفع اثني عشر ديناراً، ويصل به ويقول: يا مولانا إن عبدك فلان يريد أن يشهد المشهد الأعظم وهذا قربانه حتى إذا جن الليل ودارت الكؤوس وحميت الرؤوس، وطابت النفوس أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم، فيدخلن عليهم من كل باب، وأطفئت السرج والشموع، وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه يده، ثم أمر المقتدي زوجته أن تفعل كفعل الداعي الملعون وجميع المستجيبين، فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل له، فيقول له:" ليس هذا من فضلي، هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين فاشكره ولا تكفره على ما أطلق من

(1) السلوك (1/ 263) ، ملاحظة: على العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله الاعتبار بهذه الحادثة و الانتباه لمكائد الخصوم الذين يعملون على تفريق الكلمة وتشتيت صف أهل العلم والدعوة إلى الله.

(2) كشف أسرار الباطنية (63) .

وثاقكم، ووضع عنكم أوزاركم، وحط عنكم آصاركم، ووضع عنكم أثقالكم، وأحل لكم بعض الذي حرم عليكم جهالكم: {وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم} ") [1]."

قال محمد بن مالك -رحمه الله تعالى-: (هذا ما اطلعت عليه من كفرهم وضلالتهم، والله تعالى لهم بالمرصاد، والله تعالى عليَّ شهيد بجميع ما ذكرته مما اطلعت عليه من فعلهم وكفرهم وجهلهم، والله يشهد عليّ بجميع ما ذكرته عالم به، ومن تكلم عليهم بباطل فعليه لعنة الله تعالى ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، وأخزى الله من كذب عليهم، وأعد له جهنم، وساءت مصيراً، ومن حكى عنهم بغير ما هم عليه فهو يخرج من حول الله وقوته إلى حول الشيطان وقوته) [2]

هذا ما ذكره الحمادي عن علم وخبرة، فهل يسلّم له ذلك ويتابع عليه؟

أقول: أما الحمادي فلم تُروَ له ترجمة مفصلة في أي كتاب من كتب تواريخ اليمن التي يتداولها الناس، حتى إن القاضي محمد بن علي الأكوع عند تحقيق كتابه ذلك لم يعثر له على ذكر إلا في طبقات فقهاء اليمن للجعدي، حيث قال: (وفي رسالة محمد بن مالك الحمادي) ، وكذلك في كتاب السلوك للجندي، قال في سياق كلامه عن علي بن الفضل: (على ما ذكره الفقيه أبو عبدالله محمد بن مالك ابن أبي القبائل أحد فقهاء اليمن وعلماء السنة، وكان ممن دخل في مذهبهما "منصور و" ابن الفضل "أيام الصليحي وتحقق أصل مذهبهما، فلما تحقق فساد ذلك، رجع عنه، وعمل رسالة مشهورة يخبر بأصل مذهبهم، ويبيْن عوارهم ويحذر من الاغترار بهم) [3]، ولذلك فإن الجزم بصدق ما يقول لا يليق بالباحث المنصف، غير أن بعض ما ذكره قد توبع عليه ممن لا يظن أنه نقل عنه، فترتيب الدعوة عند الفاطمية الإسماعيلية بمصر تشبه إلى حد بعيد ما ذكره الحمادي، وقد ذكر ذلك المقريزي، وهو غير متهم عليهم؛ لأن نقله عنهم وحكايته لتاريخهم لا يفهم منه إلا احترامهم واعتبارهم من خيار الخلفاء، كما أن له كتاباً خاصاً بتاريخهم"

(1) فصلت الآية (35) .

(2) كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة ص (63 - 70)

(3) مقدمة كشف أسرار الباطنية ص (45 - 46) .

أسماه "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" [1]، وهو من بين العلماء القلائل الذين أثبتوا انتساب الفاطميين إلى علي - رضي الله عنه -، فأرى أن شهادته عليهم مقبولة قطعاً.

وقد وصف المقريزي في خططه ترتيب الدعوة، وقد جعلها تسع مراتب، وفي المرتبة التاسعة قال: (هي النتيجة التي يحاول الداعي بتقرير جميع ما تقدم رسوخها في نفس من يدعوه، فإذا تيقن أن المدعو تأهل لكشف السر والإفصاح عن الرموز أحاله على ما تقرر في كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات وما بعد الطبيعة، والعلم الإلهي وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية، حتى إذا تمكن المدعو من معرفة ذلك كشف الداعي قناعه، وقال: ما ذكر من الحدوث والأصول رموز إلى معاني المبادئ وتقلب الجواهر، وأن الوحي إنما هو صفاء النفس؛ فيجد النبي في فهمه ما يلقى إليه، ويتنزل عليه؛ فيبرزه إلى الناس، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل إلا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء، بخلاف العارف فإنه لا يلزمه العمل بها، ويكفيه معرفته؛ فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه، وماعدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة، لمعرفة الأعراض والأسباب، ومن جملة المعرفة عندهم أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة، وأن الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتبهم، وهذا حاصل علم الداعي، ولهم في ذلك مصنفات كثيرة منها، اختصرت ما تقدم ذكره) [2].

وفيما أورده المقريزي شاهد لمراتب الدعوة، وإن كان الحمادي قصر بها عن عدد تلك المراتب، كما فيها شاهد على إسقاط الواجبات والتكاليف، كما ذكر الباحثان إحسان إلهي ظهير في "الإسماعيلية" والدكتور سليمان عبدالله السلومي في "أصول الإسماعيلية" أن للإسماعيلية كتباً في تأويل أركان الإسلام وعباداته من أشهرها كتاب "دعائم الإسلام" و "تأويل دعائم الإسلام" للقاضي النعمان بن حيون المغربي،، ونقلا عنهما وعن غيرهما من التأويل لتلك الأركان والعبادات ما يلغيها فعلاً، وأن بعض من وصل إلى درجة المعرفة لديهم معفوون عنها [3].

(1) طبع في القاهرة سنة (1387 هـ) .

(2) الخطط المقريزية (2/ 133) .

(3) الإسماعيلية تاريخ وعقائد من ص (499 - 522) ، وأصول الإسماعيلية (2/ 649 - 662) .

كما اعترف بأصل ذلك أحد باحثيهم المعاصرين وهو الدكتور مصطفى غالب في "تاريخ الإسماعيلية" ، حيث قال: (وما ظهر من أمور الدين من العبادة العملية وما جاء في القرآن هي معانٍ يعرفها العامة، ولكن لكل فريضة من فرائض الدين تأويلاً باطناً لا يعلمه إلا الأئمة وكبار حججهم ودعاتهم وحدودهم) [1].

وتبقى قضية إباحة الفاحشة سواءً إحلال النساء بالانفراد أو في المشهد الأعظم- كما عبر عنه الحمادي - فهذا الجزء من التهمة لم أجد له من كتبهم ما يشهد له، وإن كان مبدأ التأويل ونسخ الشريعة يسعه ويتضمنه، ولكنهم أنفسهم ينكرون ذلك غاية الإنكار، كما صرَّح بذلك الغزالي في رده عليهم [2]، ولذا فأنا عاجز عن نفيه أو إثباته على سبيل القطع، ولا أحب أن أقذف أحداً بما لم يثبت لديّ بيقين، خصوصاً في مثل هذه التهم القبيحة التي تنكرها الفطر السليمة، والشيم الأصيلة، فضلاً عن الدين القويم.

المطلب الثالث: دور الدولة الصليحية في نشر القبورية في اليمن:

لم يثبت في تاريخ اليمن وجود قبر معظّم عليه مشهد أو مسجد قبل العقد الثاني من القرن الخامس إلا ما ذكر مما يسمى مسجد الشهيدين بصنعاء الذي قيل أنه على قبَري قثم وعبدالرحمن ابني عبيدالله بن العباس - رضي الله عنهم -، والذَين قتلهما بسر بن أرطأة والي معاوية - رضي الله عنه - على اليمن الذي أرسله أثناء الفتنة بينه وبين علي - رضي الله عنه -، فقد قيل: إنه بُنى على قبريهما مسجد، وهذا الذي قيل ذكره المتأخرون من مؤرخي اليمن مثل الجندي حيث قال: (وقبر الطفلين مشهور بصنعاء في مسجد يعرف بمسجد الشهيدين) [3] والخزرجي حيث قال: (فدفن الولدان حيث قتلا وبني عليهما مسجد هو معروف [4]، وقال مثله ابن الديبع [5]، وقال العرشي: فقبرا بصنعاء بالشهيدين، وبهما سمي [6]،

(1) تاريخ الإسماعيلية ص (42) .

(2) فضائح الباطنية ص (30) لأبي حامد الغزالي طبع دار البشير عمان ط الأولى (1413 هـ -1993 م) .

(3) السلوك (1/ 173)

(4) العسجد المسبوك فيمن ولي اليمن من الملوك - مخطوط مصور صورته وزارة الإعلام والثقافة ضمن مشروع الكتاب ... 6/ 1 (70) الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد ص (39) تحقيق الدكتور يوسف شلحد، طبع مركز الدراسات والبحوث اليمني سنة (1983 م) .وفي قرة العيون مصدر سابق (70) .

(5) عبدالرحمن بن علي الشيباني المعروف بابن الديبع عالم محدث مؤرخ، من علماء زبيد، و إليه ينسب المولد المشهور بمولد ... "الديبعي" ، لديه تناقض كبير، فبينما هو من أهل الحديث والفقه إذ به يأتي في ذلك المولد بالطامات، وهذا شأن من سلم لأهل التصوف، فإنه لا يكاد ينفعه ما لديه من العلم، وخير مثال على ما أقول هذا الرجل والشرجي الزبيدي صاحب التجريد الصريح في الحديث وطبقات الخواص المليء بالدجل والخرافة. توفي (944 هـ) . انظر ترجمته: النور السافر ص ... (191) ، والبدر الطالع (1/ 335) .

(6) بلوغ المرام ص. (9)

فهذه المراجع كلها كما ترى تثبت وجود المسجد على القبر، ولكن متى بني ذلك المسجد؟ ومن الذي بناه؟.

عبارتهم بلفظ المبني للمجهول وهي لا تفيد تحديد من بنى أو متى بُني، كما أن العرشي يثبت أن القبر بذلك المسجد، وهو أيضاً لم يحدد تاريخ بناء المسجد، فالذي نفهم من هذه العبارات أنه في أيام أولئك المؤرخين يوجد مسجد، يقال: إنه على قبر ذينك الطفلين، لم يحدد أحد منهم ولا من غيرهم متى بني، ومما يؤكد أنه لم يكن موجوداً في الزمن الأول أن المؤرخ إسحاق بن يحيى بن جرير الطبري الصنعاني المتوفى سنة (450 هـ) ذكر الحادثة وقتل الطفلين في باب المصرع، ولم يذكر بناء المسجد عليهما [1]، وكذلك الرازي المتوفى سنة (560 هـ) ذكر المصرع، وصرح بقوله: (الموضع الذي يباع فيه السليط وموضع الحدادين إذا أردت أن تنزل سوق العراقيين موضع مسجد ابن زيد، وكانت مقبرة غمدان حيث يحدد الحدادون اليوم بصنعاء، والله سبحانه وتعالى أعلم) [2]، فلو كان هناك مسجد أو مشهد على القبرين لذكرَه، وبهذا نعلم أن المسجد أو المشهد المشار إليه إنما بني بعد ذلك على عادة القبورية الذين يتتبعون المناسبات، وعلى أثرها يبنون على البقعة التي يتوهمون أنها موضع القبر، فتصبح بذلك مزاراً، ولهذا فإن الدكتور "علي سعيد سيف" في رسالته الأضرحة في اليمن لم يثبت هذا المسجد ضمن الأضرحة التي تناولها بالدراسة، وإنما ذكرها في التمهيد فقط، وقال: (ولكن يستشف من بعض الروايات) [3].

وقد اجتهدت في توضيح هذه المسألة حتى لا يقال أن هناك مشهداً من أيام الصحابة؛ فيتخذ حجة للقبوريين، ومثل ذلك يقال في المسجد المبني على قبر الشريف العراقي، وهو الطبيب العراقي الذي كان يعمل في اليمن في صنعاء، فلما سمع بما يفعله علي بن الفضل بالإسلام والمسلمين نذر على نفسه أن يقتله، فذهب إلى عاصمة ابن الفضل "المذيخرة" وعمل فيها وأظهر براعة في الطب

(1) تاريخ صنعاء للطبري المذكور ص (25) تحقيق عبدالله الحبشي، وطبع مكتبة السنحاني بصنعاء بدون تاريخ.

(2) تاريخ مدينة صنعاء للرازي ص (85) تحقيق حسين عبدالله العمري، طبع مكتبة الفكر المعاصر ببيروت، ودار الفكر دمشق، الطبعة الثالثة (1409 هـ -1989 هـ) .

(3) الأضرحة في اليمن ص (28) .

فطلبه علي بن الفضل ليكون طبيباً له ثم احتاج ابن الفضل إلى الفصد ففصده بمبضع مسموم فمات ابن الفضل وهرب الطبيب إلى موضع يسمى "قينان" بوادي السحول فقتل هناك، قال الجندي: (وقبره هنالك، وهو مسجد جامع له منارة يزار ويتبرك، به دخلته في المحرم أول سنة ست وتسعين وستمائة) [1].

وقد علق على ذلك القاضي الأكوع فقال: (والقبر لايزال موجوداً وهذه القصة ظاهرة عليها الصنعة والوضع ومحتاجة إلى مناقشة) [2].

أما ابن الديبع فقال: (فأُدرك في السحول عند المسجد المعروف بقينان، فأرادوا إمساكه، فامتنع وقاتلهم حتى قتل، وقبره هناك رحمه الله) [3].وهذا - كما ترى - ليس فيه ذكر المسجد الذي على القبر وعلى كل حال فليس في النقلين ولا في غيرهما ذكر لتاريخ بناء المسجد الذي على القبر ولا من بناه، فليس فيه أي حجة على وجود مسجد على القبر قبل التاريخ الذي ذكرته سابقاً، وهو العقد الثاني من القرن الخامس؛ لأن هذا المسجد لو صح أنه بني عند مقتل ذلك الرجل لكان في القرن الرابع، حيث أنه قتل بعد مقتل علي بن الفضل بأيام، ولكن ذلك لم يصح، وبهذا يثبت أن المشاهد الثابت بناؤها هي التي أسستها الدولة الصليحية الإسماعيلية، غير أنه - ومن باب الأمانة ومعرفة الحقيقة - قد ثبت أن هناك مشهداً واحداً، سبق الدولة الصليحية بسنوات، وهو لا يمت للقبورية بصلة؛ لأنه من مشاهد السلاطين لا من مشاهد الأولياء والصالحين، ذلك المشهد هو مشهد آخر أمير من أمراء بني زياد وعمته، إذ إن وزير ذلك الأمير الطفل - ويسمى نفيساً - كان قد قتل الطفل وعمته بتهمة أن المرأة كانت تكاتب خصمه ومنافسه "نجاحاً" ، وكان وقتها فاراً من زبيد بسبب تسلط "نفيس" ، فقتلها، وقتل الطفل، ثم بنى عليهما جداراً، فلما علم نجاح بذلك اتخذه ذريعة للانقضاض على خصمه، وجمع الجموع، ثم هجم بهم على زبيد في عدة وقائع، آخرها سنة (412 هـ) حيث قتل نفيس، فلما دخل نجاح زبيد سأل مولاه "مرجان" : (ما فعل مواليك وموالينا؟ قال: في ذلك الجدار، فأخرجهما نجاح، وصلى عليهما، وبنى لهما مشهداً، وأعاد مرجاناً في موضعهما، فبنى عليه حياً وعلى جثة نفيس) [4].

(1) السلوك (1/ 212)

(2) المصدر السابق الموضع نفسه.

(3) فرة العيون ص (150) .

(4) المفيد ص (85 - 86) .

وقد ذكر مثل ذلك ابن الديبع في الفضل المزيد [1]، وقريباً منه الخزرجي في العسجد المسبوك [2]، وهذا أول مشهد بني على قبر في اليمن حسبما اطلعت عليه في كتب التاريخ اليمني، وليس هو مما يخشى منه؛ لأنه ليس له فضل من جهة دينية، وإن كان هو من الأمور المحرمة، ومن نتائج الجهل وتوسيد الأمور إلى غير أهلها، مع أن النجاحيين من السُنة، وليسوا من الشيعة رواد القبورية في العالم، ولكنّ السببَ - والله أعلم - هو النزعة السلطانية والكسب السياسي بإظهار وتعظيم ذلك الوزير لأسياده ووفائه لهم بعد أن أصبح هو الوريث لدولتهم، وما أظن أن هذا سوف يحصل لولا أن ظاهرة تقديس القبور وتعظيمها قد فشت في البلاد الإسلامية المجاورة من جهة الدولة الفاطمية الإسماعيلية.

(2) مشاهد آل الصليحي:

الدولة الصليحية إسماعيلية العقيدة، فاطمية الولاء، متأثرة كل التأثر بأسيادها العبيديين في مصر، وقد مر بنا دور العبيديين في نشر القبورية، فلا غرابة أن يكون الصليحيون على منوالهم، وأن يسيروا على طريقهم، ولامانع أن نجزم بأنهم مؤسسو القبورية في اليمن.

(3) مشهد الرأسين:

مر بنا أن بني نجاح عندما قتلوا على بن محمد الصليحي وأخاه أخذوا رأسيهما، فنصبوهما بزبيد أمام طاق زوجة الصليحي "أسماء بنت شهاب" ، وعندما هاجم الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي زبيد لاستنقاذ أمه من الأسر، واسترجاع ملك أبيه، أنزل الرأسين، ودفنهما في زبيد، وبنى عليهما مشهداً. قال عمارة: (وأنا أدركت مشهد الرأسين) [3]، وكان ذلك سنة (460 هـ) .

(1) مشهد الصليحي بصنعاء:

وعند عودة الملك المكرم إلى صنعاء نبش قبري أبيه وعمه، ثم حمل جثتيهما في تابوتين، ودفنهما في صنعاء وأمر ببناء مشهد جامع لهما [4]، وهو بذلك أخذ بسُنّة المعز الفاطمي الذي أحضر معه

(1) الفضل المزيد ص (55) .

(2) المسجد المسبوك ص (104) .

(3) المفيد ص (134) .

(4) الصليحيون ص (134) وفي الهامش يقول: (نقل صاحب العيون "7/ 116" ومشهد الصليحي اليوم قد عفى المتغلبون الظالمون آثاره، وهدموا مناره، فإن عنايتهم في ذلك كثيرة، وفي هدم القبور أفعال نكيرة، وذلك شيء يتحاماه الكفار والمسلمون ويأنفون عنه وهؤلاء يقدمون) ، قلت: وهذه هي حجج القبورية في كل زمان ومكان، يتباكون على هدم المشاهد وتسوية القبور المشرفة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسويتها. انظر للمزيد عن مشهد الصليحي بصنعاء: الأضرحة ... في اليمن (39) .

رفات آبائه عندما انتقل من المغرب إلى مصر، وبنى عليهما التربة الشهيرة التي تسمى "تربة الزعفران" وقد سبق الحديث عنها.

قبر السيدة بنت أحمد في جامع ذي جبلة:

قال الهمداني: (وفي غرة شهر شعبان من سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة توفيت الملكة الحرة عن اثنتين وتسعين سنة من العمر، ودفنت في جامع ذي جبلة أيسر القبلة في منزل متصل بالجامع، وكانت هي التي تولت عمارة هذا الجامع، وهيأت موضع قبرها فيه. وذكر إدريس: "أن بعض ملوك اليمن أراد أن يخرج جثتها من قبرها حين ظن بعض الفقهاء كونها في الجامع، ففتحوا عن قبرها حتى انتهوا إلى تابوت، فوجدوا فيه قفصاً مقفلاً، ففتحوه، فأصابوا فيه كتباً وأحكاماً، تشهد أنها استثنت فيه ذلك المنزل الذي دفنت فيه عن المسجد لقبرها فيه، ووجدوا بذلك علامات القضاة وشهادة الشهود الثابتة عند الحكام، فردوا قبرها على ما كان عليه، وردوا تربته وحجارته إليه" ، ويقول إدريس: "وقبرها إلى اليوم، يزوره جميع فرق الإسلام، ويعترف بفضلها الخاص والعام، ويأتي إلى قبرها من أصيب بظلم، أو حاجة، أو علة في بدنه، أو بليَّة، فيتشفعون بها إلى الله تعالى في كشف ما انتابهم بفضلها" ) [1].

وفيها وفي قبرها يقول القاضي حسين بن أبي عمران بن الفضل اليامي:

وقفت على قبر الوحيدة وقفة وقد زِين منها مسجدٌ وستورُ

فقبلته واستفتُ رَيَّاً ترابه وعاود قلبي رنة وزفير

و سالت دموع العين مني كأنها بشطِّ مجاري المقلتين سطور

ولله منها روحُ قُدْس تميزت فصارت بأعلى الدائرات تطير [2]

(1) الصليحيون ص (207 - 208) وانظر: الأضرحة ص (240) وما بعدها.

(2) الصليحيون ص (208) ،وهذا القاضي هو من الإسماعيلية فلا غرابة أن يقبل قبر الملكة، و أن يستف ترابه فهذه ديانتهم.

مشهد العباس:

هذا المشهد كما يقول - الدكتور علي سعيد سيف - يقع في منطقة أسناف خولان إلى الشرق من مدينة صنعاء على يمين الطريق المار بين صنعاء وخولان الطيال، ويبعد عن صنعاء بحوالي (20) كم، ويحتل المسجد الضريح ربوة مرتفعة تقع جنوب قرية أسناف، وتتبع إدارياً مديرية خولان التابعة لمحافظة صنعاء، [1]، وذكر الدكتور أن العباس صاحب الضريح غير معروف، ولكن بناء الضريح كان بتاريخ (شهر ذي الحجة سنة تسع عشرة وخمسمائة) [2]، وهذا التاريخ يأتي أثناء حكم الملكة السيدة بنت أحمد الصليحية غير أن الدكتور يرجح أن يكون باني الضريح واسمه "موسى بن محمد القطبي" [3] كان من السلاطين السُنيين الذين عاشوا في تلك الفترة، وربما يكون أميراً أو شيخ قبيلة، أطلق عليه لقب سلطان، ولست أوافق الدكتور على ذلك الاستنباط، فما دام العصر عصر الصليحيين، وهم في عصر قوتهم فلن يكون هناك مجال لسلاطين سنّيين، فلم لا يكون ذلك الرجل والٍ من ولاة الصليحيين؟ خصوصاً والدكتور يقول فيما بعد: (ومن المحتمل أن معمار هذا الضريح قد نهَج نهْج معمار الدولة الصليحية في جامع جبلة والذي يتشابه في كثير من الأوجه مع عمائر الدولة الفاطمية بمصر؛ لما كانت بينهما علاقات) [4]، أليس نسبة هذا الضريح إلى الصليحيين أحق من أن ينسب إلى أهل السنة؟ بلى، والدلائل قائمة، فهم الحاكمون، وهم الذين ابتدأوا بإنشاء المشاهد في اليمن، وطريقة بناء الضريح كطريقتهم، وعليه فالمرجح أن هذا الضريح من عمل الصليحين والله أعلم.

المطلب الرابع: استمرار قبورية الإسماعيلية:

بانتهاء الدولة الصليحية انتهى دور الظهور الثاني للإسماعيلية في اليمن، ودخلوا دور السِّتر الثاني، ولكن دهاتهم ودعاتهم قد أحسوا بذلك قبيل انتهاء الدولة وبالتحديد في أيام الملكة السيدة بنت أحمد، ولذلك فقد كلف (القاضي لمك بن مالك الجمادي عند عودته إلى اليمن من قبل الإمام

(1) الأضرحة ص (49) .

(2) المصدر السابق نفس الموضع.

(3) المصدر السابق ص (49 - 58) .

(4) المصدر السابق ص (51) .

الخليفة المستنصر وباب أبوابه المؤيد بتنفيذ سياسة معينة بالنسبة إلى إقامة الدعوة ونقل آدابها وعلومها إلى اليمن، وأنه لُقِّب بلقب داعي القلم في عهد الملك المكرم أحمد الصليحي، ولقب داعي البلاغ في عهد الملكة الحرة، وقد اختار هذا الداعي نخبة من التلامذة الأفذاذ البعيدين عن الملك أمثال ابنه يحيى بن لمك والذؤيب ابن موسى الوادعي وإبراهيم بن الحسين الحامدي، وسلم إليهم كل ما كان أخذه من علوم الدعوة أيام إقامته بمصر) [1]، وبهذا كوّنوا الأساس المتين لصرح دعوتهم الذي يعول عليه في بقائها واستمرارها حتى إن ذهبت الدولة، بقيت الدعوة محافظة على كيانها، بل ازدهر علمها في تلك الفترة أكثر فأكثر.

يقول الهمداني: (نرى أن دعوة اليمن مضت من يوم وفاة السيدة الحرة الملكة الصليحية إلى انتهاء الدولة الأيوبية في اليمن في مرحلة تمتاز بنشاط علمي، وجمع شتات التراث الفكري، وتسجيلها في كتب ومؤلفات وحفظ ما تركه المؤلفون الدعاة في عهد الخلفاء الفاطميين، وقد بدأت هذه الحركة العلمية في حياة الملك المكرم والملكة الحرة بعد عودة قاضي قضاة اليمن لمك بن مالك الحمادي من الديار المصرية إلى مقر الدولة الصليحية، وقد سبق أن ذكرنا أن داعي الدعاة المؤيد في الدين الشيرازي قرر في أواخر عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي خطوط برنامج الدعوة العلمي، وكلف القاضي لمك تنفيذ هذا البرنامج، ونقل القاضي كتب الدعوة وما احتوته من العلوم إلى اليمن. ثم قررت السيدة الملكة الحرة بعد وصول القاضي إلى اليمن فصل الدعوة عن شؤون الملك، وعينت الملكة يحيى بن لمك والداعي الذؤيب بن موسى الوادعي للإشراف على تنفيذ هذا المشروع العلمي البعيد عن التيارات السياسية، فابتدأت الدعوة تعمل لهذا الغرض في عهد الداعي الذؤيب بن موسى الوادعي، ومأذونه السلطان الخطاب بن الحسن الحجوري، ثم أظهر الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي، ومأذونه الشيخ علي بن الحسين بن جعفر بن الوليد القرشي، والشيخ محمد بن طاهر الحارثي نشاطاً بليغاً في هذا الصدد، وبلغ الداعي حاتم بن إبراهيم الحامدي، والداعي علي بن محمد بن الوليد من إنتاجهما الأدبي مبلغاً لا يستهان به. وأثبت الداعي علي بن حنظلة خلاصة بعض علوم الدعوة في رسالته وأرجوزته. وقد واصل علماء اليمن هذا النشاط العلمي في القرون التالية إلى عهد الداعي إدريس عماد الدين الأنف القرشي المتوفى سنة اثنتين وسبعين وثمان مائة، بل إلى أيامنا هذه. ومن هذا العرض السريع نأخذ فكرةعما

(1) الصليحيون ص (268) .

يوجد من الثروة الأدبية والعلمية في خزائن كتب الدعوة اليمنية) [1]. وكانت هذه الجهود في أكثر الأحيان محاطة بالسرية التامة؛ وذلك لمحاربة اليمنيين لها سواء في ذلك أئمة الزيدية أو سلاطين الشافعية، ولكن كل ذلك لم يفتَّ في أعضادهم، أو يوهن عزائمهم، فاستمروا، وعندما جاءت التعددية الحزبية وحرية الرأي التي تجاوزت الحدود لإعطاء الحرية لأصحاب العقائد الضالة والمبادئ الهدامة والدعوات المشبوهة، عندما جاء هذا العهد، استغلت الإسماعيلية الفرصة، وبدأت تزاول نشاطها بجرأة عجيبة وجهود جبارة وتركيز ينذر بالخطر على البلاد اليمنية، وتداعوا إلى اليمن من كل حدب وصوب، وصار اليمن من أماكن حج البهرة الإسماعيلية، بحيث يحج إلى اليمن حسب تعبيرهم عشرات الآلاف كل عام، والعمل الظاهر الذي يمارسونه هو تتبع الأضرحة والقبور المنسوبة إلى أئمتهم ودعاتهم، وإليك قائمة بأهم المشاهد والقبور والمزارات التي يقصدونها:

1) قبر الداعي إبراهيم بن حاتم الحامدي الهمداني الحاشدي اليامي في قرية "الحطيب" عزلة شرقي حراز - قضاء حراز - ويعتبر أهم مزار للإسماعيلية الداودية البهرة، ومتوسط من يزوره سنوياً من غير باطنية اليمن خمسة عشر ألف نسمة، خاصة من الهند وباكستان، والداعي المذكور مؤلف كتاب "كنز الولد" .

2) قبر الملكة السيدة بنت أحمد الصليحي في الجامع الكبير بمدينة جبلة محافظة إب.

3) قبر إدريس عماد الدين صاحب كتاب "زهر المعاني" المقبور تحت قمة جبل شبام حراز (2920 متر فوق سطح البحر) ، وتجري الآن محاولة حثيثة من قبل الإسماعيلية لإقامة مسجد على قبره؛ رغم عدم وجود سكان في هذا الجبل الإستراتيجي، والذي يعد من أهم المواقع العسكرية في المنطقة متحكم في طريق صنعاء الحديدة، ويطل على كل قضاء حراز.

4) قبر في جبل الصميع في عزلة هوزان قضاء حراز محافظة صنعاء، لم يُعرف اسم صاحبه

5) قبر الداعي لمك بن مالك في حصن زبارة قسم الملاحي عزلة لهاب قضاء حراز محافظة صنعاء.

6) قبرا الحسين والحسن ابني إدريس عماد الدين في قمة جبل مسار، من عزلة مسار، قضاء حراز، ونشك في أصل وجود هذين القبرين المندثرين بعد أن كُشف عنهما بزعم الباطنية،

(1) المصدر السابق ص (298) .

وهذا الجبل المركز الأول لانطلاق الدولة الصليحية في اليمن، وهو موقع هام واستراتيجي مرتفع عن سطح البحر (2760) متراً، ولازال أهله صامدين أمام هذه الطائفة رغم كثرة الإغراءات والضغوط.

7) قبر الملا محمد في مدينة زبيد من بلاد تهامة محافظة الحديدة.

8) قبرٌ في غيل بني حامد عزلة بني مونس، قضاء همدان محافظة صنعاء.

9) قبرٌ في حصن طيبة المطل على وادي ظهر من قضاء همدان محافظة صنعاء.

10) قبر أويس القرني من قرية الحمى من ضواحي زبيد.

وهناك مساجد يخصونها بالزيارة وليس هناك سبب ظاهر لزيارتها:

1) الجامع لكبير بصنعاء [1].

2) مسجد معاذ بن جبل بالجند.

3) مسجد في حرف سفيان.

4) حصن ذمرمر من بلاد حضور، وهذا الحصن قد كان يوماً مقراً لآل حاتم الياميين، وقد قيل: إنهم كانوا إسماعيلية باطنية، وممن ذكر من أهلها "محمد بن أحمد اليامي" ، ووصف بأنه عالم الإسماعيلية وشاعرها [2].

(1) قال زبارة في نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف طبع مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء ط الثانية (1405 هـ-1985 م) (3/ 312) : (قال صاحب مطلع الأقمار , ونقلت من خطه أن القبر الذي غربي الصومعة الشرقية بجامع صنعاء هو قبر الحسن بن عبدالله بن الحسن بن جعفر بن محمد بن عبدالله بن العباس بن عبدالله بن العباس بن علي بن أبى طالب انتهى) . قلت: فلعلهم يزورون هذا القبر المزعوم.

(2) انظر هجر العلم (2/ 796 - 797)

المبحث الثالث

السلاطين ودورهم في نشر القبورية في اليمن

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: السلاطين هم وراء مظاهر القبورية في اليمن قبل الصوفية:

لعل أعظم نزعة لدى السلاطين دفعت بهم إلى إنشاء المشاهد ومظاهر العظمة على القبور: هي أبهة الملك، ومحبة استمرار ناموس الملك بعد الوفاة كما كان حال الحياة، كما صرح به المقريزي وهو يتحدث عن تربة أسرة آل قلاوون بالقاهرة [1]،مع بواعث أخرى تقدم الحديث عنها في الفصل الثالث، [2].

ومن أجل الباعث الأول المشار إليه أصبح السلاطين وراء معظم مظاهر القبورية في اليمن، فأول مشهد عرف وثبت وجوده في اليمن على الإطلاق هو مشهد الزياديَيْن، الذي بناه مولاهما نجاح على جثتيهما عندما أنزلهما عن الجدار، وقد تقدم [3]،كما أن السلطان أسعد بن وائل من أوائل من دفُنوا في المساجد في الديار الشافعية إن لم يكن أولهم [4].

وأول قبة بنيت في حضرموت على الإطلاق هي قبة السلطان مسعود بن يماني المتوفىَّ سنة (هـ 648) [5]، وهذه المشاهد كلها قبل رسوخ التصوف في اليمن، وحتى أول مشاهد الدولة الصليحية التي سبق الكلام عنها والتي هي أول المشاهد المنظمة والمتوالية- والتي بقي أثرها إلى

(1) الخطط المقريزية (3/ 480) .

(2) انظر ص (163) .

(3) انظر المفيد في أخبار صنعاء وزبيد ص (86) .

(4) السلوك (2/ 485)

(5) الفرائد في قيد الأوابد للعلامة المؤرخ عبد الله بن حسن بلفقية، مخطوط بمكتبة الأحقاف بتريم، لديَّ صورة منه.

اليوم- هي كذلك في بدايتها كان لدافع عظمة السلطان دخل كبير فيها، ثم جاءت الدولة الأيوبية وكان معظم سلاطينها يدفنون إما في قباب خاصة، كما دفن المعز إسماعيل بن طغتكين في قبة خاصة به في زبيد تعرف بقبة الخليفة [1]، أو في مدارس أو نحوها، ولإعطاء صورة لما علية سلاطين اليمن من اهتمام بالمشاهد والقباب لأهداف مختلفة أضرب مثالين، أحدهما لإئمة الزيدية، والآخر لسلاطين الدولة الرسولية، وذلك في المطلبين التاليين.

المطلب الثاني: أئمة الزيدية ودورهم في نشر القبورية في اليمن:

رغم أن الغلو لدى الزيدية الأولى لم يكن خارجاً عن الحدّ، ورغم أن اتجاهها هو اتجاه المعتزلة المعتمدين على العقل النافين للخوارق والكرامات كما هو معلوم، إلا أننا نجد أئمة الزيدية في اليمن - وبعد قرون من إنشاء دولتهم وتتابع العشرات من أئمتهم- نجدهم ينحرفون انحرافاً شديداً في هذه المسألة، والذي يظهر - والله اعلم- أن باعث الأئمة لذلك كان باعثاً سياسياً أكثر منه باعثاً عقديا، ً ولكن وجود المشاهد والقباب ووجود سدنةٍ يتأكلون منها ويبنون بها مجداً وجاهاً على أنقاض عقائد الأمة حوّلها إلى مزارات مقدسة يعتقد فيها العوام وأشباههم مالا يجوز اعتقاده إلا في الله تعالى، ومن أجل السياسة أيضاً يتغاضى الأئمة عن ذلك ويتركون العامة يغرقون في بحر الخرافة والشرك وهم ينظرون.

وأئمة الزيدية يبنون المشاهد للسياسة ويهدمونها للسياسة كذلك؛ فالدليل على أنهم يبنونها للسياسة ما بدر من الإمام عبدالله بن حمزة وذلك أنه عاش في آخر القرن السادس وبداية القرن السابع [2]، وهو

(1) العسجد المسبوك ص (74) .

(2) تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن تأليف العلامة عبد الواسع بن يحيى الواسعي، طبع مكتبة اليمن الكبرى صنعاء الطبعة الثانية سنة (1990 م) ص (197) .

أول من سن لأئمة الزيدية سنة البناء على المشاهد حيث لم يُسجَّل لأحد من الأئمة قبل عصره شئ من ذلك.

والذي يظهر لي- والله أعلم- أنه إنما فعل ذلك مضاهاة لمعاصريه من الأيوبيين الذين عُرِف عنهم أنهم يبنون على قبور سلاطينهم البنايات الضخمة في مصر والشام [1] وفي اليمن كذلك [2]،فلعله أراد أن يُظْهِر بذلك شيئاً من أبهة الملك للأئمة وهم أموات كما هي لهم وهم أحياء، وقد لاحظ ذلك الأستاذ محمد محمود الزييري في كتيِّبه "الإمامة وخطرها على وحدة اليمن" حيث قال: (بهذه النفسية يمارس الإمام أعباء منصبه، وتكاد هذه الأعباء تنحصر في استصفاء ثروة الشعب باسم الزكاة وقمع الانتفاضات الشعبية باسم الجهاد وقتال البغاة، ثم بناء مسجد باسم الأمام تضاف إلى جواره غالباً قبة الضريح لهذا الإمام تمدّ نفوذه الروحي حتى وهو في القبر) [3].

وهذا الذي نسبه الزبيري إلى الإئمة يجب أن يحدَّد بأئمة القرن السابع فَمَنْ بعدهم، وأن أولئك الأئمة قد عمَّروا على معظم قبور الأئمة السابقين مشاهد وقباباً.

وقد خَطَا هذا الإمام بالقبورية في الديار الزيدية خطوات كبيرة جداً، إذ لم يكتف بأن يبني لنفسه مشهداً في حياته أو يوصِي أن يبُنى له ذلك بعد وفاته، وإنما سن ذلك عملياً في حياته بأمر إمامي وتهديد شديد اللهجة لأهل قرية "لصف" حيث قتِل عندهم أخوه إبراهيم بن حمزة وهو يقاتل

(1) سبق الحديث عن مساهمة الأيوبيين في نشر القبورية في الفصل الثالث.

(2) انظر تراجم سلاطينهم في اليمن في الفضل المزيد من تاريخ زبيد وغيره من تواريخ اليمن، وفيها يذكرون كيف يُقْبر سلاطين الأيوبيين.

(3) الإمامة وخطرها على وحدة اليمن ص (13 - 14) للأستاذ محمد محمود الزبيري طبع دار الكلمة صنعاء بدون تاريخ.

الأيوبيين، فلما حصل ذلك كتب لهم الأمام عبدالله بن حمزة هذه الرسالة يهدِّدهم فيها إذا لم يبنوا عليه مشهداً أنه سينقل جثمانه عنهم، وهذا نص الرسالة:

(بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله المنصور بالله أمير المؤمنين إلى كافة الساكنين بلصف من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنا نحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، ونسأله لنا ولكم التوفيق لما يحب ويرضى 0

أما بعد: فقد بلغنا جفوتكم للشهيد الذي توفي بين أظهركم، وحطَّ رحله بين أفنيتكم، وجاد بنفسه دون بلادكم، واستقبل بوجهه العدوّ صبراً واحتساباً حين زاغت الأبصار فشلاً، وبلغت القلوب الحناجر وجلاً، وظن قوم بالله الظنونا جزعاً، وابتلي المؤمنون بالهزيمة امتحاناً، وزلزلوا بالحادثة اختباراً، فرخص عنده من الموت ما غلا عند غيره، وغلا عنده من الفرار ما رخص عند سواه, وعلم القصد فتم العزم، ومضى على البصيرة على مناهج السلف الصالح مستقبلاً لكثرة العدو وعزمه، ومستصغراً لعظيمة نجده، فبلغنا أنكم هاجرون لقبره، قالون لمصرعه، قد صغّرتم منه ما عظّم الله سبحانه جهلاً، وجهلتم ما علم الصالحون حيرة وشكاً، كأنكم لم تسمعوا أقوال محمد صلى الله عليه وآله فينا - أهل البيت خاصة - (( أقرب الناس مني موقفاً يوم القيامة بعد حمزة وجعفر رجلٌ منا أهل البيت خرج بسيفه فقاتل إماماً ظالماً فقُتِل )) ، فهلا - رحمكم الله - استشفيتم بتراب مصرعه من الأدواء، وسألتم بتربة مضجعه رفع الأسواء، واستمطرتم ببركة قبره من رحمة ربكم طوالع الأنواء, وعظَّمتم حاله كما يُعَظَّم حال الشهداء، وأوجبتم من حقه ما ضّيع الأعداء، وعمَّرتم على قبره مشهداً، وجعلتموه للاستغفار مثابة ومقصداً، ونذرتم له النذر تقرباً، وزرتموه تودداً إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وإلينا تحبُّباً، فقد رُوِّينا عن أبينا صلى الله عليه في حديث

فيه بعض الطول أنه نظر إلى الحسن والحسين عليهما السلام وهما يلعبان بين يديه فبكى فهابه أهل المنزل أن يسألوه، فوثب عليه الحسين عليه السلام فقال: ما يبكيك ياأبتي؟ فقال: إني سررت بكما اليوم سروراً لم أسرّ به قبله مثله، فجاءني جبريل فأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى، قال: يا أبتي فمن يزورنا على تباين قبورنا؟ قال: (( قوم من أمتي يريدون بذلك برّي وصلتي إذا كان يوم القيامة أتيت حتى آخذ بأعضادهم فأنجيهم من أهوالها وشدائدها )) .

ألا فاعلموا بعد الذي بلغنا عنكم أنا قد قَلَيْنا له جواركم، ورغبنا به عن داركم، وعزمنا بعد الخيرة لله سبحانه وتعالى على نقله من أوطانكم إلى من يعرف حقه، ويتيقن فضله وسبقه، فلو رعيتم له حرمه القرابة وفضل وراثة النبوة) تأمل (! لعلمتم حرمة ذلك الدم الزكي، وكثر عليه منكم الباكون، والبواكي، فإن كان ذلك من غرضكم فإنا نفعله إن شاء الله تعالى، وإن لم يكن من إرادتكم فلسنا بتاركيه بتوفيق الله سبحانه، والسلام) [1].

والرسالة لم تقتصر على بناء المشهد عليه بل تعدت إلى طلب الاستشفاء بتراب مصرعه، والسؤال بتربته، والاستمطار بقبره، فهل كان الإمام فعلاً- وهو من هو في العلم والعقل والدهاء - هل كان يعتقد ذلك؟! أظنه لم يكن كذلك وإنما كما قلت سابقاً يريد إسباغ الهيبة وإضفاء المكانة على مشهد وقبر أخيه، ولذلك فإنه حينما لم يتم الإصغاء إليه فأنه نقل جثمانه إلى قرية الزاهر بالجوف حيث قُبِر هناك [2].

والإمام الثاني الذي كرر نفس الأسلوب هو الإمام يحيى بن محمد حميد الدين الذي أمر في رسالة أخرى قبيلة أرحب ببناء تابوت وقبة على قبر الإمام أحمد بن هاشم الويسي المتوفي سنة

(1) هجر العلم (1/ 223 - 225)

(2) المصدر السابق (1/ 224) .

(1269 هـ) والمدفون في "دار أعلا" من أرحب للتبرك به، وهدَّدهم إن لم يفعلوا ذلك بأنه سينقل رفاته إلى مكان آخر، فما كان من أهل أرحب إلا أن بنوا له قبة ووضعوا على قبره تابوتاً [1]، والذي جعلني أدَّعي أن الباعث على ذلك هو السياسة أن الإمام يحيى كذلك كان عالماً وعاقلاً ولم يكن من السذاجة بحيث يعتقد أن ذلك مما يحبه الله ويرضاه، ثم إنه في نفس الوقت أو بعده بقليل كان ابنه وولي عهده الإمام أحمد بن يحيى يهدم قبور أولياء الصوفية في الديار الشافعية كما سيأتي بعد قليل.

تلك هي الحوادث والتصرفات التي تدل على أن أئمة الزيدية يبنون المشاهد لأجل السياسة وإن كان قد ترتب على ذلك خلل كبير في عقيدة الكثير من العوام وأشباههم، كما صور ذلك الإمام الشوكاني رحمه الله حين ذكر ما يجري عند مشهد الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذيبين [2]، وبعد أن ألِفَ علماءُ تلك البلاد هذه المشاهد -وكان القائمون وراءها أئمة مجتهدين - ركنوا إلى ذلك الواقع، وأحسنوا الظن بمن سن تلك السنة وتابعوهم عليها، ليس بالفعل فقط ولكن بالإفتاء أيضاً، وهذه نقلة خطيرة جداً، وتحول كبير في هذا المسار عند الزيدية، والذي أفتى بذلك هو الإمام الجليل يحيى بن حمزة الذي أثنى عليه الإمام الشوكاني رحمه الله في البدر الطالع ثناءً عاطراً [3]، رغم رده عليه في هذه الفتوى، والفتوى المقصودة هي مانقلها عنه الإمام المهدي في البحر الزخار حيث قال: (مسألة (ي) ولابأس بالقباب والمشاهد على الفضلاء لاستعمال المسلمين ولم ينكر) [4].

(1) المصدر السابق (1/ 255) .

(2) 4 انظر: الدر النضيد ص (48) 0

(3) البدر الطالع (2/ 332 - 332)

(4) البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار تأليف الإمام أحمد بن يحيى المرتضى (2/ 132) ، طبع دار الحكمة اليمانية صنعاء تصوير عام (1409 هـ-1988 م) عن الطبعة الأولى (1366 هـ-1947 م) (2/ 132) 0

ثم تبع الإمام المهدي على ذلك الإمام يحيى فقال في الأزهار وهو يتكلم عما يندب في القبر ومنه رفعه قدر شبر (وكره ضد ذلك والإنافة بقبر غير فاضل) [1]

ومن المعلوم أن الإمام الشوكاني قد ردّ على هذه الفتوى بكتابه المشهور "شرح الصدور في تحريم رفع القبور" .

هذا ما يتعلق ببناء المشاهد والقباب وأما هدم تلك المشاهد وكونه للسياسة كذلك فهو أظهر، وإليك هاتين الواقعتين:

أما الواقعة الأولى فهي ما حدث من هدم للقبور المشرفة والمشاهد المقامة عليها أيام الإمام المتوكل على الله المعاصر للشوكاني، حيث إنه أجاب أئمة الدعوة النجدية إلى هدم بعض المشاهد في صنعاء وما حولها، وكتب بذلك إلى سائر الجهات، ذكر ذلك الإمام الشوكاني في "البدر الطالع" وصاحب كتاب "حوليات يمانية" وسيأتي نص كلامهما في الباب الثالث إن شاء الله [2]، وقد جزْمتٌ بأن الأمر كان سياسة لا تديناً؛ لأن ذلك الإمام بينما كان يرضخ للنجديين ويداهنهم كما عبر بذلك صاحب الحوليات كان في نفس الوقت يكاتب الأتراك والمصريين للقدوم إلى الجزيرة والقضاء على الدولة النجدية [3].

(1) الأزهار في فقه الأئمة الأطهار (1/ 361) للإمام المهدي صاحب البحر الزخار مع شرحه السيل الجرار تحقيق محمد إبراهيم زايد طبع دار الكتب العلمية ببيروت الطبعة الأولى الكاملة (1405 هـ-1985 م) .

(2) الباب الثالث (ص 547) .

(3) انظر ذكريات الشوكاني ص (113 - إلى آخر الكتاب) تحقيق د. صالح رمضان محمود طبع دار العودة (1983 م) وحوليات يمانية ص (22 - 23) تحقيق عبدالله محمد الحبشي لم يسم المؤلف طبع دار الحكمة اليمانية صنعاء ط الأولى (1411 هـ-1991 م)

والواقعة الثانية التي تدل على أن من أئمة الزيدية من يهدم القبور لأجل السياسة هي حادثة هدم بعض القبور في الديار الشافعية من اليمن، والتي قام بها الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين حيث أزال القبة التي على قبر الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل عام (1348 هـ) ، حينما كان والياً للعهد بعد أن تغلب على معارضة قبيلة الزرانيق - التي كانت تعرف من قبل بالمعازبة- لامتداد نفوذ الإمام يحيى إلى بلادها ودخولها تحت حكمه، كما أزال الإمام أحمد كذلك التابوت من على قبر أحمد بن علوان في يفرس من ناحية جبل حبشى عام (1362 هـ) [1]،قد يقول قائل لم لا تحمل هذا العمل على المحمل الحسن وتجريه على أفضل تقدير وتجعله من باب إزالة المنكر؟

فأقول: إن الذي يمنع من حمله على ذلك هو عدم إقدام الإمام أحمد عندما كان ولياً للعهد، أو بعد أن أصبح إماماً على إزالة شئ من مشاهد البلاد الزيدية، فلو كان الأمر لوجه الله لما فعله في ناحية وتركه في ناحية أخرى، قد يكون بعض مشاهدها أشد من تلك التي هدمها، كما قال القاضي إسماعيل الأكوع حفظه الله [2]، ومما يؤكد صلة المشاهد الزيدية بالسياسة أن معظم المشاهد المعظمة في الديار الزيدية هي للأئمة وحواشيهم، وقلّ أن تجد مشهداً لرجل فقير أوضعيف، وإليك قائمة بأهم المشاهد الزيدية وستكون إن شاء الله على حسب التسلسل الزمني لإنشائها:

1) مشهد الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة من منطقة ظفار ذيبين.

2) مشهد الأمير عماد الدين يحي بن حمزة (أخو عبدالله بن حمزة) بمدينة كحلان.

(1) هجر العلم (1/ 222 - 223) .

(2) نفس المصدر نفس الموضع.

3) مشهد الإمام أحمد بن الحسين المعروف بأبي طير في مدينة ذيبين.

4) مشهد الإمام يحيى بن حمزة (وليس أخا عبدالله بن حمزة بل هو من ذرية الحسين وليس من ذرية الحسن [1] ومشهده بمدينة ذمار.

5) مشهد الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بصعدة [2] ومعه عدد من أبنائه وأحفاده ومشهد الإمام المهدي باني تلك المشاهد.

6) مشهد الإمام صلاح الدين بصنعاء.

7) مشهد الإمام المهدي لدين الله أحمد بن المرتضى حصن الظفير حجة.

8) مشهد الإمام المهدي صلاح بن علي بن محمد بن أبي القاسم بصعدة.

9) مشهد الإمام الناصر محمد بن يوسف بن صلاح بن المرتضى بمدينة ثلا.

10) مشهد الإمام شرف الدين يحيى بن شمس الدين أحمد بن يحيى المرتضى بظفير حجة.

11) مشهد مدرسة الإمام شرف الدين بثلا، وفيه عدد من أبنائه وبناته وذويه.

12) مشهد الأمير صلاح الدين بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين بمدينة ثلا.

هذه بعض المشاهد وقد تركت الكثير سواها وهي كلها موجودة مشاهدة للعيان، وقد كتب عنها كتابة تاريخية أثرية الدكتور علي سعيد سيف في رسالته المقدمة للدكتوراه من جامعة صنعاء باسم

(1) انظر البدر الطابع (2/ 332 - 333) .

(2) وهو مؤسس الدولة الزيدية باليمن توفي سنة (298 هـ) ولكن المشهد لم يعمر إلا مابين سنة (733) و (750 هـ) وهي فترة حكم الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد الذي كان أول من بنى مشاهد مقبرة صعدة على قبور الإمام الهادي وبنيه، انظر: الأضرحة ص (161)

"الأضرحة في اليمن من القرن الرابع إلى القرن العاشر" ، فيمكن لمن أراد معرفتها بدقة أن يرجع إلى هناك.

مع العلم أن أكثر هذه المشاهد تضم إلى جوار من هي باسمه عدداً من أبنائه وأحفاده وزوجاته، وهذا يثبت أن أئمة الزيدية قد ساهموا في نشر مظاهر القبورية في جهاتهم كسائر حكام اليمن.

المطلب الثالث: الدولة الرسولية ودورها في نشر القبورية في اليمن:

لمحة عن الدولة الرسولية:

الدولة الرسولية منسوبة إلى مؤسسها "نور الدين عمر بن علي بن رسول" (ت 647 هـ) ، وقد قامت على أنقاض الدولة الأيوبية، حيث كان عمر بن علي من قواد هذه الدولة أيام آخر ملوكها الملك المسعود، وحين عزم الملك المسعود على السفر إلى مكة حيث مات بها، استبد بالأمر ودعا إلى نفسه وخطب له بذلك، ثم توالى أبناؤه وأحفاده في الملك والسلطنة، وامتدت دولتهم من حضرموت إلى مكة بل في بعض الأحيان من ظفار إلى مكة، وعاشوا في صراع مع أئمة الزيديه حيناً يأخذون صنعاء وذمار وحجة، وحيناً يصل أئمة الزيدية إلى زبيد أو إلى تعز أو إب وهكذا، وامتدَّ حكمهم من سنة (625 هـ) إلى سنة (958 هـ) وهي مدة طويلة زادت على ثلاثة قرون وقد تميزت هذه الدولة بالقوة والعظمة والإنجازات الضخمة في شتى الميادين.

ففي العمران فعلت ما لم تفعله دولة أخرى في اليمن، وكان أكثر ملوكها مشاركين في العلم والأدب فبنوا المدارس وجلبوا العلماء والمدرسين ووقفوا الأوقاف العظيمة عليها، كما جمعوا نفائس الكتب بل ألفوا الكثير منها في فنون مختلفة، وفي عصرهم ازدهر التصوف وشجع بعضهم أتباع ابن عربي أصحاب وحدة الوجود.

وبالجملة فقد كانت هذه الدولة مفخرة من مفاخر اليمن في جوانب كثيرة، كما كانت فاتحة شر كبير في جوانب أخرى، ومن أهمها فتح الباب أمام التصوف المنحرف الفلسفي تصوف أصحاب وحدة الوجود الذي ما تزال آثاره ظاهرة إلى هذا التاريخ وإن أفل نجمه وذهبت دولته، كما أنهم رسخوا القبورية في اليمن من خلال قبور سلاطينهم وتبنيهم لبناء بعض المشاهد على قبور بعض من يعتقدون فيه الصلاح، هذه هي الدولة الرسولية.

وإليك لمحة عن بعض قبور الدولة الرسولية:

قبور الدولة الرسولية:

1) الملك نور الدين عمر بن علي بن رسول المتوفى (647 هـ) [1] دفن في المدرسة الأتابكية في ذي هزيم في مدينة تعز بعد أن نقلوه إليها من الجند [2].

2) الملك الأشرف عمر بن المظفر المتوفى (696 هـ) [3] ودفن في المدرسة الأشرفية بمدينة تعز [4].

3) الناصر بن الأشرف المتوفى (725 هـ) [5] ودفن في المدرسة الأشرفية مدرسة والده [6].

4) الملك المجاهد المتوفى (764 هـ) [7] ودفن في مدرسته المجاهدية بتعز [8].

5) الملك الأفضل بن المجاهد المتوفى (778 هـ) [9] وحمل من زبيد إلى تعز ودفن في مدرسته الأفضلية [10].

6) الملك الأشرف بن الأفضل المتوفى (783 هـ) [11] ودفن بمدرسته الأشرفية بتعز [12].

7) الملك الناصر بن الأشرف المتوفى (878 هـ) [13] ودفن في مدرسة والده الأشرفية [14].

(1) ا نظر ترجمته في العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية (1/ 51) تأليف علي بن الحسن الخزرجي تحقيق محمد بن علي الأكوع طبع مركز الدراسات والبحوث اليمني الطبعة الثانية (1403 هـ-1983 م) وقرة العيون ص (299) .

(2) 2 العقود اللؤلؤية (1/ 82) .

(3) انظر ترجمته في: العقود اللؤلؤية (1/ 239) وقرة العيون ص (337) .

(4) المفضل المزيد ص (94)

(5) انظر ترجمته في: العقود اللؤلؤية (2/ 13) وقرة العيون ص (349) .

(6) الفضل المزيد ص (96) .

(7) 7

(9) انظر ترجمته في: العقود اللؤلؤية (2/ 111) وقرة العيون ص (368) . .

(10) الفضل المزيد ص (102) .

(11) انظر ترجمته في العقود اللؤلؤية (2/ 141) وقرة العيون ص (376) .

(12) الفضل المزيد ص (104) .

(13) المصدر السابق ص (104) .

(14) المصدر السابق ص (108) .

8) الملك المنصور بن الناصر بن الأشرف المتوفى (830 هـ) [1] ودفن بمدرسة جده الأشرفية، وقد كان موته بمدينة زبيد فُحمل إلى تعز [2].

9) الملك الظاهر يحيى بن إسماعيل المتوفى (842 هـ) [3] ودفن في مدرسته الظاهرية [4] بمدينة تعز.

10) الملك الأشرف إسماعيل بن الظاهر يحيى المتوفى (845 هـ) [5] ودفن عند والده بالمدرسة الظاهرية بمدينة تعز [6].

هؤلاء الملوك الذين وقفت على التصريح بدفنهم في المدارس التي بنوها، ولا يبعد أن يكون غيرهم من الأمراء ومن الملوك الذين ولّوا ولايات قصيرة أو خرجوا على الملوك الرسميين أن يكونوا كذلك قد دفنوا في مدارس أو مشاهد، بل لا يبعد أن تكون نساؤهم كذلك وقد وقفت على تصريح بواحدة منهن.

11) قال ابن الديبع: وفي السنة المذكورة (836 هـ) توفيت أم السلطان الحرة الطاهرة، أم الملوك جهة الطواشي، جمال الدين فرحان بمدينة زبيد في الثاني عشر من صفر، ودفنت قريباً من تربة الشيخ طلحة بن عيسى الهتار، وأمر ولدها السلطان الملك الظاهر بإنشاء مدرسة عظيمة على ضريحها ورتب فيها إماماً وخطيباً وأيتاماً ومعلماً لهم وعشرين قارئاً يقرؤون القرآن عند ضريحها عقب كل صلاة، ورتب لهم ما يقوم بكفايتهم. [7]

(1) المصدر السابق ص (108) .

(2) المصدر السابق ص (109) .

(3) الفضل المزيد ص (109) 0

(4) 2 المصدر السابق ص (113) 0

(5) المصدر السابق ص (113 - 114) 0

(6) المصدر السابق ص (115) 0

(7) المصدر السابق ص (111) .

12) كما أشار الجندي إلى أن هناك تربية خاصة بخواص وأقارب بني رسول حيث قال في ترجمة محمد بن القاضي عمر الهزاز: (وكان المظفر يجله ويعتقد صلاحه وربما زاره سراً إلى منزله - إلى أن قال- وحين بلغت وفاته الملك المظفر كتب إلى أولاده سألهم أن يدفنوه في التربة التي هي قبلي جامع عدينه، ففعلوا ذلك إذ خواص بني رسول من القرابة والسراري مقبورون فيها) [1].

وهذه التربة ربما كانت على غرار ترب الفاطميين والمماليك التي سبق ذكرها.

مساهمة سلاطين الدولة الرسولية في بناء المشاهد على قبور من يعتقدون فيهم الصلاح:

بنى سلاطين الدولة الرسولية المشاهد والقباب على قبور من يعتقدون صلاحهم، ولكن للأسف لم نجد النص الصريح على شئ من ذلك إلا على قبر الشيخ أحمد بن علوان، ومشهد أحمد بن علوان يوجد بمنطقة يفرُس محافظة تعز، وهو معاصر للملكَيْن عمر بن علي بن رسول وابنه المظفر، ويعد من أكابر أقطاب الصوفية في اليمن، عُمّر مشهده وأول من عمّره الملك المظفر ذكر ذلك صاحب الأضرحة، ولم يحدد التاريخ الذي جرى فيه البناء، كما أن المشهد والمسجد المجاور له قد شهد توسعة وترميماً كثيراً في فترات مختلفة، أهمها على يد السلطان عامر بن عبدالوهاب الطاهري كما هو مكتوب هناك [2]،وآخرها على يد بعض ولاة الأتراك.

(1) السلوك (2/ 117) .

(2) الأضرحة ص (123) وما بعدها.

المبحث الرابع

نشأة الصوفية ودورها في نشر القبورية في اليمن

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: نشأة الصوفية في اليمن:

سبق تعريف الصوفية والتفريق بين الزهد الذي دعا إليه الإسلام وبين التصوف المنحرف، والإيضاح بأن كلامنا إنما هو منصب على التصوف الفلسفي المنحرف، سواء شَعَرَ المتصوفة القائمون به بأصل ذلك التصوف وعرفوا مصادره أم أخذوه تقليداً وثقة بمن قبلهم، فالانحراف هو الانحراف إن أتى على يد خبيث ماكر أو على يد صالح مغفل، وأما الأشخاص أنفسهم وما هي مقاصدهم ونواياهم فذاك شيء مرده إلى الله تبارك وتعالى وليس إلينا، إذا عرفنا هذا التذكير حق لنا أن نشرع في رصد مبدأ هذا التصوف المنحرف ونشأته.

روّاد التصوف في اليمن:

لعل حضرموت كانت هي الرائدة في جلب واستيراد التصوف، فقد ذكر مؤرخو حضرموت أن أول من عرف بالتصوف فيها هو "عبدالله بن أحمد بن عيسى المهاجر إلى الله" حيث ذكر الشاطري في "أدوار التاريخ الحضرمي" أن من شيوخه أبا طالب المكي، فقد تلقى عنه علم التصوف، وقرأ عليه كتابه "قوت القلوب" ذلك الكتاب الشهير في فن التصوف. وذلك لما حج سنة (377 هـ) [1] غير أن هذا الرجل لم يكن له أثر يذكر في نشر التصوف في حضرموت، كما سيأتي عند حديثنا عن الفقيه المقدم، وهذا كما نرى من رجال القرن الرابع.

وفي القرن الخامس: يطالعنا اسم الصوفي "سود بن الكميت" المتوفى (436 هـ) حيث ترجمه الشرجي في "طبقات الخواص" ،وذكر قصة تحوله إلى التصوف، وأنه كان له أصحاب ومريدون،

(1) أدوار التاريخ الحضرمي ص (162 - 163) .

وأنه كان يجلس معهم في المسجد ويأكل وينام معهم فيه [1]،وهو أشهر من عرف بالتصوف أو من أشهرهم في هذا القرن، مع وجود آخرين أشار إليهم السيد عبدالله الحبشي ولم يبين أسماءهم وذكر أنهم من المناطق المحاذية لتهامة ومن مدينة تعز [2].

وفي القرن السادس: اشتهر الصوفي أحمد بن أبي الخير الصياد المتوفى سنة (579 هـ) وقد كان رجلاً عادياً من عوام مدينة زبيد، وعلى أثر رؤيا رآها تحول إلى التصوف، وصحب الشيخ إبراهيم الفشلي الآتي ذكره في القرن السابع، قال الشرجي بعد ذكر الرؤيا: (ومنذ ذلك الوقت أخذ يترقى في درجات التصوف) [3].

قلت: ثم اشتهر أمره، وتجمع حوله المريدون وسجلت له الكرامات، ونقلت عنه أقوال ذات قيمة عند أهل التصوف [4]. والملاحظ أنه في هذا القرن بدأت تتكون جماعات التصوف ويلتفّ المريدون حول شيوخهم لا لطلب العلم ولكن لأخذ الفيوضات والبركات وسلوك ذلك الطريق المبتدع، وليس هذا خاصاً بالصياد وحده بل قبله كان لشيخه إبراهيم الفشلي، الذي سيأتي الحديث عنه في القرن السابع.

القرن السابع: هذا القرن هو في الحقيقة قرن التصوف ففيه نبتت وترعرعت البذور التي بذرت في القرون الماضية وشهد تحولات كبيرة منها:

1) دخول مدرسة ابن عربي - مدرسة وحدة الوجود - إلى اليمن وكان ذلك على يد رجل غامض مشبوه يقال له "المقدسي" ، لا يعرف اسمه الحقيقي ولا شيء من ترجمته [5]؛ وذلك لشدة حنق الفقهاء وأهل العلم عليه وهجره، بل ومحاولة قتله في قصة طويلة عجيبة تدخّل على إثرها

(1) طبقات الخواص ص (150 - 151) .

(2) الصوفية والفقهاء في اليمن ص (12) تأليف عبدالله بن محمد الحبشي توزيع مكتبة الجيل الجديد صنعاء (1396 - 1976) .

(3) طبقات الخواص ص (64 - 69) .

(4) المصدر السابق.

(5) قال القاضي إسماعيل الأكوع في كتابه المدارس الإسلامية في اليمن طبع مؤسسة الرسالة بيروت مكتبة الجيل الجديد صنعاء ط الثانية (1406 هـ-1986 م) ص (83 - 84) : (لم نعرف اسم المقدسي كاملاً ولا تاريخ قدومه إلى اليمن ولا تاريخ ولادته ووفاته ومكانهما فيما بين أيدينا من المراجع، ولعل ذلك الإهمال كان مقصوداً من المؤرخين نكاية به وتجاهلاً لعلمه ومعرفته لعلم المنطق) ،قلت: ليس علمه علم منطق ولكنه الفلسفة الإلحادية.

السلطان وزجر الفقهاء وتوعدهم أشد الوعيد إن هم تعرضوا له ولأصحابه [1]، ولكن هذا الرجل لم يمت إلا وقد غرس تلك النبتة الخبيثة في اليمن، وقد قرر العلامة الأهدل أنه أول من قدم بكتب ابن عربي إلى اليمن. [2]

كما ظهر هذا القول كذلك في هذا القرن لدى أبي الغيث بن جميل الملقب شمس الشموس المتوفى سنة (651 هـ) وألَّف في ذلك كتاباً [3]، ولدى معاصره أحمد بن علوان وله في ذلك عدة كتب منها: "البحر المشكل الغريب" و "الفتوح المصونة والأسرار المخزونة" و "التوحيد الأعظم [4]" .

وقد ذكر مترجمو الرجلين أن لهما مكاتبة تشهد بمدى ما وصلا إليه من التبجح والدعوى التي عرف بها أهل تلك النحلة، قال الشرحبي في ترجمة أبي الغيث: (وكتب إليه الشيخ أحمد المذكور "ابن علوان" مرة من بلده كتاباً يقول فيه: أما بعد. فإني أخبرك أني:

جزت الصفوف إلى الحروف إلى الهجا حتى انتهيت مراتب الإبداع

لا باسم ليلى أستعين على السرى كلا ولا لبُنى تقل شراعي

فأجابه الشيخ أبو الغيث بكتاب يقول فيه: من الفقير إلى الله تعالى أبي الغيث بن جميل غَذِيِّ نعمة الله تعالى في محل الحضرة، أما بعد فإني أخبرك أني:

(3) تجلَّى ليَ الاسم القديم باسمه فاشتُقَّتِ الأسماء من أسمائي

وحبانيَ الملك المهيمن وارتضى فالأرض أرضي والسماء سمائي. [5]

(1) السلوك (2/ 111 - 113) .

(2) كشف الغطاء عن حقائق التوحيد وعقائد الموحدين وذكر الأئمة الأشعريين ومن خالفهم من المبتدعة وبيان حال ابن عربي وأتباعه المارقين ص (217) للعلامة الحسين بن عبدالرحمن الأهدل طبع تونس. (1964 م) .

(3) أنكر العلامة الأهدل أن يكون هذا الكتاب للشيخ أبي الغيث وذلك لأنه أمي، ولكن السيد عبدالله الحبشي رد عليه في ذلك وأثبت أن الكتاب تأليف ابن جميل. انظر: الصوفية والفقهاء (ص 71 - 72) .

(4) الصوفية والفقهاء ص (72) .

(5) طبقات الخواص ص (409 _ 410) .

قال الحبشي: (وبهذين الرجلين - أبي الغيث وابن علوان - قامت مدرسة الفلسفة الصوفية في اليمن، إلا أن قربهما المباشر من عصر ابن عربي لم يجعلهما يستفيدان من كتاباته الخاصة، وإنما كان ذلك من خلال المشرب الذوقي الذي عُرِفتْ به تعاليم هذه المدرسة، وهم ينهلون جميعاً من الاتجاه الذي سار عليه أسلافهم من دعواهم في الحب والقرب وغيره من إشارات الصوفية) [1].

2) في هذا القرن دخلت الطرق الصوفية من الخارج، ونشأت الطرق الصوفية المحلية، وإليك لمحة عن أهم الطرق الصوفية التي عرفتها اليمن في هذا القرن في المطلب التالي.

المطلب الثاني: أهم الطرق الصوفية التي عرفتها اليمن:

الطرق الوافدة:

1) الطريقة القادرية: وهي أول وأشهر الطرق الصوفية في اليمن، وقد أعاد الحبشي أول لقاء لليمنيين بهذه الطريقة وشيخها إلى سنة (561 هـ) ، وهي سنة وفاة الشيخ الجيلاني - رحمه الله - حيث لقيه اثنان من اليمنيين في موسم الحج، وهما الشيخ "علي بن عبدالرحمن الحداد" والشيخ "عبدالله الأسدي" ، أما الأول فالتقى به صدفة عند الكعبة، وأما الثاني فقد سافر خصيصاً للقاء الشيخ عبدالقادر عندما علم بأنه ناوٍٍ على الحج تلك السنة، فالتقى به في عرفات. ولم يوضّح ما هو دور الرجلين في نشر الطريقة القادرية في اليمن؟ ولكن من بين من ذكر أنهم أخذوا الطريقة القادرية من صوفية اليمن "أحمد بن أبي الجعد" ووفاته ببضع وسبعين وسبعمائة [2]، (وأبو بكر بن محمد بن أبي حربه) وفاته (794 هـ) [3] وبهذا نقطع أن هذه الطريقة دخلت اليمن في القرن السابع وربما قبله بقليل.

2) الطريقة المَدْيَنِيَّة: المنسوبة إلى الصوفي المغربي الشهير "شعيب أبي مدين التلمساني" ، وهذا الصوفي قد صدّر طريقته إلى اليمن عن طريق مكة عبر تلميذه عبدالرحمن المقعد، ولكن المقعد مات في الطريق فوكل إيصالها إلى رجلٍ آخر هو "عبدالله الصالح المغربي" الذي وصل إلى تريم، وإلى من سماه أبو مدين ووصفه الفقيه المقدم- محمد بن علي باعلوي- المتوفى سنة (653 هـ) ، فدخل خلسة إليه وهو في حلقة شيخه الفقيه "علي بن محمد بامروان" فغمزه وأخذه من بين يدي شيخه فأبلغه الرسالة وحكّمه وألبسه لباس

(1) الصوفية والفقهاء ص (73)

(2) طبقات الخواص ص (72 - 74) .

(3) الطبقات الخواص ص (380 - 381) .

الصوفية، فعاد إلى شيخه وهو كذلك فغضب عليه شيخه وزجره وظل مقاطعاً له حتى مات "رحمه الله" ، ثم ذهب إلى قيدون فلقي الشيخ "سعيد بن عيسى العمودي" المتوفى سنة (671 هـ) فحكّمه كذلك وأدخله في عداد الصوفية، ولقي في دوعن كذلك "باعمر" صاحب عُورَة وألحقه بالجماعة، ثم توجه إلى ميفعة ولقي الشيخ عبدالله باحمران فحكّمه كذلك وألحقه بهم، واستقر في ميفعة حتى مات، وعند موته قسم تركته بين تلاميذه وأشار إليهم بأن هناك علامة على من يكون شيخهم وهو أن يقع من نصيبه السبحة فوقعت من نصيب الفقيه المقدم، وبذلك أصبح شيخ صوفية حضرموت وشيخ الطريقة المدينية بها، وعند وفاته نصّب زوجته أم المساكين في منصب شيخ الصوفية بحضرموت [1].

(1) انظر: قصة إرسال أبي مدين إلى حضرموت في (الجوهر الشفاف في ذكر فضائل ومناقب وكرامات السادة الأشراف) تأليف عبد الرحمن الخطيب الأنصاري وهو مخطوط، ولدي نسخة مصورة منه (1/ 81 - 82) في الحكاية السابعة والعشرين وفي المشرع الروي (2/ 4 - 5) ،وحتى لا يظن أحدٌ أنني بالغت في تعبيري أو طعنت في (عبد الله الصالح المغربي - ومرسله أبي مدين - أو في الفقيه المقدم) ، أسوق قصتهم بحروفها من الجوهر الشفاف لعبدالرحمن الخطيب حيث قال: (الحكاية السابعة والعشرون: روى المشايخ - رضي الله عنهم - أنه قيل لشيخ شيوخنا الشيخ الفقيه محمد بن علي - رضي الله عنهم:إنه لا يفك قفل قلبك إلا الشيخ عبدالرحمن المقعد، وكان الشيخ عبدالرحمن المقعد - رضي الله عنهم - إذ ذاك بمكة -حرسها الله تعالى- فسار الفقيه شيخ شيوخنا = ... = قاصداً نحوه، فلما بلغ أثناء الطريق أخبر بوفاته فرجع إلى بلده، وكان الشيخ عبدالرحمن المذكور - رضي الله عنه - من كبار تلامذة الشيخ الكبير خاص الخواص أبي مدين - رضي الله عنهم -، وكان شيخه أبو مدين - رضي الله عنهم - قد أمره بالسفر إلى حضرموت، وقال له: إن لنا فيها أصحاب سر إليهم وخذ عليهم عقد الحكم ولبس الخرقة أو كما قال، و قال له: ولكنك لاتصل إليهم بل تموت في أثناء الطريق ونرسل إليهم من يأخذ عليهم ذاك، فسار الشيخ عبدالرحمن طالباً حضرموت، فلما بلغ في أثناء الطريق حضرته الوفاة فأحضر تلميذه الشيخ الكبير العارف بالله تعالى عبدالله الصالح المغربي - و كان من أولاد ملوك المغرب فآثر سلوك هذه الطريقة ففتح له وكان من كبار تلامذته ولهما الكرامات الخارقة والإشارات المفيدة الفائقة - وأمره بالمسير إلى حضرموت وقال له ما قال له الشيخ أبو مدين - رضي الله عنهم -، وفي رواية أنه قال له أيضاً: اذهب إلى حضرموت تجد فيها الفقيه محمد بن علي أبو علوي عند الفقيه علي بن أحمد أبي مروان يستقي يعني يأخذ منه العلم، طارح سلاحه فوق رجليه، فاغمزْه من عند الفقيه وحكّمْه، واذهبْ إلى قيدون تجدْ فيها الشيخ سعيد بن عيسى فحكّمْه، قال الشيخ عبدالله: فلما وصلت إلى تريم وجدت الفقيه محمد بن علي كما قال الشيخ عبدالرحمن فغمزته وحكّمته - و ما شاور أبا مروان - فلما رجع إليه وفي رأسه الخرقة اغتاظ عليه وقال له: رجوناك إماماً مثل ابن فورك فتركت صحبتنا ورجعت إلى زي الصوفية أو كما قال، فقال له الفقيه محمد بن علي - رضي الله عنه:: = الفقر خير 0 وهجره أبو مروان إلى أن توفي وستأتي حكايتهما في ذلك إن شاء الله تعالى، فسار الشيخ عبدالله فلما وصل إلى حضرموت اجتمع بشيخ شيوخنا الفقيه محمد بن علي - رضي الله عنهم - وقال له الشيخ عبدالله: أي لؤلؤة عجماء لو ثقبت، فقال الشيخ محمد، وما الثقب قال: التحكيم، فانخلع الشيخ محمد عما هو عليه من زي الفقهاء وترك صحبتهم، وتحكم للشيخ عبدالله ولبس منه الخرقة، وأقبل على الله تعالى في السر والعلانية ورغب في صحبة الصوفية، قالوا ودعا لذريته عند ذلك بثلاث دعوات (الأولى) بذل النفوس ولا يعودون إلى العمومية أي لا يزالون على زي الفقراء ... (الثانية) أن لا يسلط الله تعالى عليهم ظالماً يؤذيهم (الثالثة) أن لا يموت أحد منهم إلا وهو مستور في دنياه - أي لا تكون به حاجة تضر بدينه - قالوا: فقبلهن الله تعالى، فما يموت أحد منهم إلا وهو بتلك الصفة، ولم يسلط الله تعالى عليهم بعد ذلك ظالماً أبداً ببركة دعوة الشيخ لهم - رضي الله عنه -). الجوهر الشفاف (1/ 81 - 83) .

وكذلك قال الشلي في المشرع: (فلما رآه شيخه علي بامروان تغير عما كان قال له: أذهبْتَ نورك وقد رجونا أن تكون كابن فورك واخترتَ طريق التصوف والفقر وقد كنت على المقدار والقدر، فقال الأستاذ: الفقر فخري وبه أفتخر، وبه على النفس والشيطان أنتصر، ولا أتباعد عنكم إعراضاً، ولا تبدلت بكم معتاضاً 0 وهجره الفقيه وظن أن يفيد فيه الهجر، ورأى أنه أعظم من الزجر، واستمر مهاجراً له إلى أن مات 0) المشرع الروي (1/ 2 - 5) ، وفي هجر الإمام بامروان للفقيه المقدم دليل على أن أهل حضرموت كانوا على منهج الكتاب والسنة، وأنهم لم يعرفوا ذلك الانحراف الصوفي إلى أن قدم ذلك المغربي بالتصوف وأخذه عنه الفقيه المقدم، ولكن منذ ذلك التاريخ استفحل الشر وانحرف الأكثر بتأثير ذلك الفقيه وأتباعه من أبنائه وفقرائه واللائذين بهم ممن ينسبون إلى الفقه والعلم، بعد أن ضعف الفقه وقل العلم، ومازال التصوف يفشو والعلم ينقص حتى أظلم الكون، وعم الانحراف، وظهرت الدعاوى والرسوم، وزالت الحقائق، وأصبح من النادر وجود فقيه متضلع مدرك للأدلة ومذاهب العلماء قادر على الترجيح والاختيار، أما علم التفسير والحديث فلم يبق لهما أثر، وسيأتي في الباب الثاني مزيد بيان لهذه القضية.

3) الطريقة الرفاعية: المنسوبة إلى أحمد بن علي الرفاعي المتوفى (578 هـ) ، وقد دخلت اليمن على يد عمر بن عبدالرحمن بن حسان القدسي المتوفى سنة (688 هـ) وكان الشيخ قد أدرك أحد أحفاد الشيخ أحمد الرفاعي وهو نجم الدين الأخضر، فأخذ عنه الخرقة الرفاعية، وتربى بين يديه تربية صوفية، فلما استكمل الشيخ تعليمه أمره أن يدخل اليمن وينشر الخرقة الرفاعية هنالك، وفي اليمن اجتمع القدسي ببعض من صوفيتها أمثال الشيخ عمر بن سعيد الهمداني وغيره، ويقول الشرجي: أنه (تنقل بعد ذلك إلى عدة أماكن في اليمن وابتنى عدة ربط بعد أن شهر الخرقة الرفاعية، وانتشرت عنه انتشاراً كلياً لاسيما في مخلاف جعفر) [1].

(1) طبقات الخواص ص (245) والصوفية والفقهاء ص (36) 0

4) الطريقة الشاذلية: نسبة إلى الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الله الشاذلي المتوفى سنة (656 هـ) ، وقد انتقلتْ هذه الطريقة إلى اليمن على يد الشيخ علي بن عمر بن دعسين الشاذلي الذي كان من أوائل المؤسسين في اليمن [1].

5) الطريقة السهروردية: نسبة إلى الشيخ عمر بن محمد السهروردي المتوفى سنة (631 هـ) ذكرها العيدروس في الجزء اللطيف وذكر أن من أتباعها في اليمن إسماعيل الجبرتي والعلوي [2].

الطرق المحلية: أهم الطرق المحلية التي نشأت في هذا القرن:

1) الطريقة العلوية: المنسوبة إلى الفقيه محمد بن علي باعلوي المشهور بالفقيه المقدم الذي سبق ذكره آنفاً في الطريقة المدينية.

2) الطريقة الأهدلية: نسبة إلى الشيخ علي بن عمر الأهدل المتوفى سنة نيف وستمائة، وهو أخذها في الأصل عن رجل من أصحاب الشيخ عبدالقادر الجيلاني يسمى الأحوري وقد (كثر أصحابه وأتباعه وتخرج به جماعة ممن شهر، وذكر منهم الشيخ أبو الغيث بن جميل وأحمد بن أبي الجعد) [3].

3) الطريقة العلوانية: نسبة إلى الشيخ أحمد بن علوان صاحب يَفْرس [4].

السماع الصوفي:

وفي هذا القرن "السابع" فشى وانتشر السماع الصوفي، وهو إنشاد الأشعار في المساجد ومواطن العبادة بقصد التقرب إلى الله تعالى، واعتبار ذلك من ضمن الوسائل التي تقرب إليه وتزكِّي النفس وتسمو بالروح، سواء حصل معها عزف بالمعازف المعروفة كالدفّ والشبَّابة ونحوها أو لم يحصل، وفي كثير من الأحيان يصحب ذلك رقص وتمايل وطرب زائد، وربما وصل إلى السكر والإغماء وفقدان الشعور، وكل ذلك تُعطى له المسوّغات، ويُؤصل له بما يظهره وكأنه من أعظم القرب وأفضل الشعائر في العرف الصوفي، وكان من روّاده في هذا القرن، الشيخ أبو الغيث بن جميل،

(1) انظر الصوفية والفقهاء ص (35)

(2) انظر الجزء اللطيف ص (23) ضمن المجموعة العيدروسية.

(3) طبقات الخواص ص (195 - 198) .

(4) مقدمة كتاب الفتوح للشيخ أحمد بن علوان تحقيق عبد العزيز سلطان طاهر المنصوب طبع دار الفكر المعاصر ط الأولى ... (1416 هـ - 1995 م) بيروت لبنان.

والشيخ أحمد ابن علوان، والشيخ محمد بن أبي بكر العواجي، والشيخ محمد بن عيسى الزيلعي [1]، والشيخ سفيان الأبيني وغيرهم [2] وسيأتي مزيد من الحديث عن السماع في الباب الثاني إن شاء الله.

الشطح الصوفي:

تعريف الشطح:

عرَّفه المناوي بقوله: (كلام يعبِّر عنه اللسان مقرون بالدعوى، ولا يرتضيه أهل الطريق من قائله وإن كان محقاً) [3]، وفي قوله لا يرتضيه أهل الطريق نظر؛ لأن الواقع أن أعظم من يعتبرهم الصوفية أهل الطريقة أو أهل الحقيقة هم أهل الشطح بل المبالغون فيه، بل في كثير من الأحيان نجد أعظمهم شطحاً أرفعهم رتبة، ثم كيف لا يرتضونه وهم ينقلونه عن أولئك الشاطحين باعتباره من جواهر كلامهم ودرر ألفاظهم وخوارق كراماتهم، بل ربما أثبتوا به بعض ما يقررون من القضايا 0

لاشكَّ أنهم يرتضونه وإنما يتظاهرون أمام الآخرين بعدم ارتضائه أو بتأويله.

وكذلك قوله (وإن كان محقاً) الغالب في الدعاوى والشطح ألا يكون محقاً، ومن تتبع تلك الشطحات عرف ذلك، والحق في هذه القضية أن أقصى ما يمكن فعله هو التماس العذر للشاطح بأنه قال ذلك في حال سُكْر وغيبوبة، ومن كان هذا شأنه فإنه جدير أن يدرج في طبقات المجانين لا في طبقات الأولياء.

وقد نُقِل شطح كثير عن صوفية هذا القرن كان كالمدخل لأصحاب الدعاوى والباحثين عن الشهرة والمنزلة عند عوام الناس، يتوسعون فيه ما شاء لهم هواهم واستخفافهم بحدود الشرع وعظمة الحق وعقول الخلق.

(1) الصوفية والفقهاء ص (32) .

(2) طبقات الخواص ص (147) .

(3) التوقيف على مهمات التعاريف ص (429 _ 430)

ومن الصوفية الذين سجّلوا السبق في الشطح من أهل هذا القرن أحمد بن علوان، وأبو الغيث بن جميل في قصتهما الشهيرة ومفاخرتهما التي ساقها معظم من ترجمَ لهما وقد سبق ذكرها. [1] والفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي وهو من أعظمهم في ذلك [2]. والشيخ أحمد بن أبي الجعد الأبيني. [3]

انتشار التصوف في عموم اليمن:

وفي هذا القرن انتشر التصوف في عموم مناطق اليمن، وظهر في كل منطقة قطب من أقطابهم الذين لا يزال تأثيرهم وتعلق الناس بهم قائماً إلى اليوم، وأكثر المناطق قبولاً للتصوف في هذه الفترة تهامة، فقد ظهر في شمالها صاحبا عواجه محمد بن حسين البجلي (621 هـ) [4]، ومحمد بن أبي بكر الحكمي (617 هـ) [5] وفي المراوعة ظهر علي بن عمر الأهدل (نيف وستمائة) [6] وفي بيت عطاء أبو الغيث بن جميل (651 هـ) [7]، وفي بيت الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل (696) [8]، وفي التريبة قرب زبيد عيسى بن إقبال الهتار (606 هـ) [9]، فهؤلاء ستة من كبار الصوفية كلهم من تهامة، وفي محافظة تعز أحمد بن علوان (655 هـ) [10]، وفي لحج سفيان بن عبدالله الأبيني (وفاته القرن السابع) [11]، وفي أبين أحمد بن أبي الجعد الأبيني (690 هـ) [12]، وفي عدن جوهر بن عبدالله

(1) انظر (ص 222) .

(2) انظر بعضاً من شطحه في: الجوهر الشفاف (1/ 35) وما بعدها والغرر ص (147) والمشرع (2/ 9) .

(3) مرآة الجنان (4/ 349 - 350) .

(4) انظر ترجمته في طبقات الخواص ص (267) .

(5) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (264) .

(6) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (195) .

(7) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (406) .

(8) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (75) ، ومرآة الجنان (4/ 395) .

(9) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (249) ، و ومرآة الجنان (4/ 458)

(10) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (69) ، ومرآة الجنان (4/ 357)

(11) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (146) ، ومرآة الجنان (4/ 348) .

(12) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (72) ، ومرآة الجنان (4/ 371) .

الصوفي سنة (616 هـ) [1]، وفي محافظة شبوة محمد بن عبدالله بامعبد كان حياً سنة (680 هـ) [2]، وفي حضرموت -دوعن- سعيد بن عيسى العمودي (671) [3] وفي تريم الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي (653 هـ) [4]، ورغم عدم الاستقصاء فإنك ترى أن معظم ديار الشافعية في اليمن قد عمَّها التصوف في هذا القرن.

أثر الدولة الرسوليَّة في ترسيخ التصوف وتقويته في اليمن:

في هذا القرن كانت الدولة الرسولية في أوج قوتها وعنفوان شبابها، وكان سلاطينها يدينون بالولاء التام للصوفية؛ لأن الصوفية قد اتخذوا عندهم أيادي جليلة، من أهمها بشاراتهم بالملك واستمراره في أعقابهم، فجدهم عمر بن علي بن رسول بشَّرَه جماعة من الصوفية بالملك وقوَّوا عزمه عليه [5]. وكذلك بشَّرَ إبراهيمُ الفشلي الملكَ المظفر باستمرار الملك في ذريته حينما نازعه إخوانه على ذلك [6]. وبهذا حصل الاعتقاد التام في الصوفية لدى ملوك وأمراء بل وساء قصور بني رسول، وبذلك مكَّنَتْ الدولة الرسولية للصوفية تمكيناً تاما ً، فما من اعتراض من الفقهاء على الصوفية إلاَّ ويقمعه ملوك بني رسول، وما من انحراف يحدثه الصوفية إلا ويتأوّلونه لهم، وانظر على سبيل المثال قصة النزاع بين الفقهاء وبين أصحاب وحدة الوجود، والتي شرحَها وبيَّنَ مراحلها وأحداثها الأستاذ عبدالله الحبشي في كتابه "الصوفية والفقهاء في اليمن" [7].

هكذا تكامل نشر الصوفية ورسخت جذورها بل وبسقتْ وتمتْ فروعهاوآتتْ ثمارها في هذا القرن، وواصلت التطور والتوسع في القرون اللاحقة [8].

(1) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (120) ومرآة الجنان (4/ 347) .

(2) إدام القوت أو معجم بلدان حضرموت للسيد عبدا لرحمن بن عبيد الله السقاف منشور في مجلة العرب العدد (15) .

(3) القول المختار فيما لآل العمودي من الأخبار جمعَه عبدالله أحمد الناخبي مخطوط مصور لديَّ.

(4) الغرر ص (145) وما بعدها والمشرع (2/ 2) وما بعدها.

(5) انظر العقود اللؤلؤية (1/ 52) .

(6) الصوفية والفقهاء ص (47) .

(7) المصدر السابق من ص (85) إلى آخر الكتاب.

(8) انظر الفصل الرابع عشر من كتاب "التصوف في تهامة" ص (117) وما بعدها تأليف محمد بن أحمد العقيلي، الطبعة الثانية بدون تاريخ ولا دار طبع.

قبورية الصوفية:

سبق الحديث عن نشأة المشاهد وبناء المساجد على القبور في اليمن، وأنها كانت على يد الدولة الصليحية الباطنية، وعلى أيدي السلاطين وبالأخص الأيوبيين والرسوليين ومن جاء بعدهم ومن عاصرهم من أئمة الزيدية، ولم يسجل في ذلك الوقت مشاهد خاصة بالصوفية، ومما يؤكد أنه لم يكن للصوفية مشاهد وقبور شهيرة - يقصدها الناس للتبرك بها وعَمَلِ ما يعمله الصوفية المتأخرون عند قبور أوليائهم - خلوُّ طبقاتِ فقهاء اليمن للجعدي من ذلك تقريباً، وقد كان فراغه منه في آخر القرن السادس في عام (586 هـ) [1]، بينما نجد البهاء الجندي قد شحن كتابه السلوك بذلك، وأكثَرَ من ذكر القبور التي تزار ويتبرك بها [2]، وإن لم يذكر أن عليها مشاهد إلا نادراً [3]، حتى أن القاضي الأكوع في مقدمته للسلوك تبرَّم من ذلك، وأنكرَه وسجَّل كلمة قيمة وملاحظة طيبة عليه.

بداية الزيارات الحولية:

وفي تراجم رجال هذا القرن تُطالِعُك الزيارات الحولية وغير الحولية للقبور وبعض الأماكن الأخرى، ففي ترجمة محمد بن ظفر الشميري قال الجندي: (وبلغتُ تربته قاصداً زيارته، وأقمت عندها أياماً، وهو بمسجد وإلى جنبه امرأته، وببركته مازالت قريته محترمة ما قصدها أحد بسوء إلا خذله الله، ولم أجد بتلك الناحية مزاراً أكثر من تربته قصداً للزيارة وقضاء الحوائج التي تطلب من الله، وكثرة النذور لها، وفي ليلة الرغائب من رجب يجتمع عندها خلق ناشر) [4].

(1) مقدمة الكتاب ص (ل) .

(2) انظر الجزء الأول الصفحات (356) و (392 و 393) و (423) و (455) و (462) ، والجزء الثاني ... (60 و 61) و (62) , (65) و (82) و (117) , (182) و (183) و (188) و (230) و (234) و (242) و (261) و (447) و (457) و (458) .

(3) انظر: أمثلة ممن أقيم عليه مشهد أو فيه تابوت أو بني على قبره مسجد أو دفن في مسجد في الجزء الثاني ص (263) ... و (426) و (485) .

(4) السلوك (2/ 263) و الرغائب: هي الصلاة المبتدعة التي تُصلى في ليلة أول خميس من شهر رجب، وقوله "خلق ناشر" أي كثير.

كما يطالعك في هذا القرن بدايةُ اتخاذ اجتماعٍ موسميٍّ لزيارة قبر نبي الله هود على يد الشيخ عبد الله باعباد المعروف بـ "القديم" وذلك بعد جذاذ النخل وتعبئة التمر، وليس على الأشهر القمرية [1] 0

وذكر اليافعي قصة زيارة الشيخ أحمد بن أبي الجعد وأصحابه والشيخ سعيد بن عيسى العمودي وأصحابه لقبر نبي الله هود - عليه السلام - وما جرى بينهما مما سيأتي في الباب الثاني [2]، كما ذكر زيارة الكثيب الأبيض بأبين، ويقال في ذلك المكان قبور بعض الصالحين، وهو كثيب يزوره أهل تلك البلاد وما حولها من البلدان في كل سنة في وقت معلوم في رجب [3]، وفيه ذكر مؤرخو حضرموت أن الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي كان يزور قبر نبي الله هود - عليه السلام - [4].

وهكذا في هذا القرن تكاملت فصول الصوفية وظهر معظم مقوماتها وعرف أبرز رجالها ثم فشت وترسخت أكثر وأكثر حتى يومنا هذا.

(1) انظر: تاريخ حضرموت (1/ 69) 0

(2) انظر ص (237) .

(3) مرآة الجنان (4/ 352 - 354) .

(4) انظر: الفرائد في قيد الأوابد للعلامة عبد الله بن حسن بلفقيه ص (25) .

LihatTutupKomentar