Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (1)
Buku: As-Sulūk fī Ṭabaqāt al-‘Ulamā’ wa al-Mulūk Penulis: Muḥammad ibn Yūsuf ibn Ya‘qūb, Abū ‘Abd Allāh, Bahā’ al-Dīn al-Jundī, Al-Janadi al-Yamanī (meninggal 732 H)
Penerbit: Maktabat al-Irshād – Ṣan‘ā’ – 1995 M
Edisi: Kedua
Penyunting:
Muḥammad ibn ‘Alī ibn al-Ḥusayn al-Akwā‘ al-Ḥawālī
Jumlah Jilid: 2
[Penomoran
buku sesuai dengan edisi cetak]
Halaman Penulis: [al-Jundī, al-Janadi, Bahā’ al-Dīn]
Book: As-Sulūk fī Ṭabaqāt al-‘Ulamā’ wa al-Mulūk
Author: Muḥammad
ibn Yūsuf ibn Ya‘qūb, Abū ‘Abd Allāh, Bahā’ al-Dīn al-Jundī al-Yamanī (d. 732
AH)
Publisher: Maktabat al-Irshād – Ṣan‘ā’ – 1995 CE
Edition:
Second
Editor: Muḥammad ibn ‘Alī ibn al-Ḥusayn al-Akwā‘ al-Ḥawālī
Number
of Volumes: 2
[Book numbering corresponds to the printed edition]
Author's
Page: [al-Jundī, Al-Janadi Bahā’ al-Dīn]
Daftar Isi Al-Suluk Juz 1
- Juz 1
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (1)
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (2)
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (3)
- Juz 2
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (4)
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (5)
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (6)
- Artikel Sejarah yang Lain
الكتاب: السلوك في طبقات العلماء والملوك
المؤلف: محمد بن يوسف بن
يعقوب، أبو عبد الله، بهاء الدين الجُنْدي الجَنَدِي اليمني (ت ٧٣٢هـ)
دار النشر:
مكتبة الإرشاد - صنعاء - ١٩٩٥م
الطبعة: الثانية
تحقيق: محمد بن علي بن
الحسين الأكوع الحوالي
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة
المؤلف: [الجندي، بهاء الدين]
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيموَبِه نستعينالْحَمد لله الْملك الْعَظِيم الأول الآخر الْقَدِيم باعث نبيه مُحَمَّد مبرهنا طَرِيق التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وداعيا إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فَبلغ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرسَالَة على التَّعْمِيم ونهج لمن تبعه الدّين القويم فَوَجَبَ على الكافة تَصْدِيقه وَالْقِيَام بِوَاجِب الصَّلَاة عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيم فَلهُ الْحَمد حمدا يخرج عَن دَرك الإحصاء ويرغم بِهِ أنف من جحد وَعصى وَصلى الله على نبيه الْمُصْطَفى صَلَاة أستأنس بهَا حِين وَحْشَة الْقُبُور وأتميز بهَا فِي الدَّاريْنِ عَن أهل الويل وَالثُّبُور وعَلى جَمِيع إخوانه من النبييين وَالْمُرْسلِينَ وَآل كل والصحب أَجْمَعِينَأما بعد لما كَانَ علم التَّارِيخ من الْعُلُوم المفيدة والقلائد الفريدة موصلا علم السّلف إِلَى من خلف مُمَيّزا لِذَوي الْهِدَايَة عَن أهل الصلف يُعِيد ذكر الْأَعْصَار بعد ذهابها وينبه على خطئها من صوابها ويجدد أَخْبَارهَا وآثارها ويميز أخيارها من أشرارها وحالها عَن أحارها فبه يَسْتَفِيد الآخر عقول الأول وَبِه يتَمَيَّز أهل الاسْتقَامَة عَن أهل الزلل ثمَّ يحمد بِهِ النَّاظر اللبيب قَصده وَبِه يعرف أَبَانَا آدم وَمن بعده وَإِن تَأَخّر عَنْهُم وَطَالَ عَهده ثمَّ لولاه لجهلت الْأَنْسَاب واندرست الأحساب وَلم تفرق بَين الجهلة وَذَوي الْأَلْبَاب وَلما عرف من الْمُتَقَدِّمين فضل فَاضل على مفضول وَلَا ميز بَين سَائل ومسؤول ولولاه حَقًا مَاتَت الدول وَلم يصل إِلَيْنَا من أَخْبَار الماضين غير الْأَقَل وَفِي ذكر أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين من الإفادة مَا شهد بِهِ نطق الْقُرْآن
وَفِي قَوْله تَعَالَى وكل نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك ثمَّ قد ذكر بعض أَئِمَّة التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى {وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين} أَن مَعْنَاهُ اجْعَل لي جاها وَحسن صيت فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة يبْقى أَثَره إِلَى يَوْم الدّين وَطَرِيق دوَام ذَلِك إِنَّمَا يكون من قبل التَّارِيخوَذكر بعض الْعلمَاء الْمُحَقِّقين أَن الله أنزل فِي التَّوْرَاة سفرا من أسفارها مُفردا متضمنا أَحْوَال الْأُمَم السالفة ومدد أعمارها وَبَيَان أنسابها فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك وَثَبت فِي ذهني ذَلِك ووقفت على مَا أوردهُ أَعْيَان الْأَئِمَّة وعلماء الْأمة مِمَّا رَوَوْهُ عَن الْمُخْتَار وقدوة الْأَطْهَار من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِيمَان يمَان وَالْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية أوردهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْنده وَالْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه يَقُول أَتَاكُم أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة الْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِيةوَذكر مُسلم فِي صَحِيحه أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ أهل الْيمن هم أرق أَفْئِدَة الْإِيمَان يمَان وَالْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِيةذكر بعض الْعلمَاء أَن الْغَرَض بالْخبر الْمَذْكُور الثَّنَاء على أهل الْيمن لإسراعهم إِلَى الْإِيمَان وَحسن قبولهم لَهُ من غير حَاجَة إِلَى عَسْكَر وَلَا قتالوَذكر ابْن أبي الصَّيف فِي كِتَابه الميمون المتضمن لبَعض فضل أهل الْيمن أَن القَاضِي أَبَا عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ الصَّيْمَرِيّ ذكر فِي أَخْبَار الإِمَام أَبى حنيفَة وفضائله بِسَنَد إِلَى ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاكُم أهل الْيمن هم أرق قلوبا وألين أَفْئِدَة يُرِيد أَقوام أَن يضعوهم ويأبى الله إِلَّا أَن يرفعهموَذكر الرَّازِيّ الْآتِي ذكره بكتابه عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه أدْرك من عشيرته من لَقِي سطحيا وَخَبره أعقاب من لَقِي شقا أَنَّهُمَا سئلا عَن كثير من أَخْبَار الْيمن فأخبرا بأحداث تكون فِيهَامِنْهَا أَنَّهُمَا قَالَا بِالْيمن ثَمَانِي بقاع مِنْهَا أَربع مقدسات أَو قَالَا مرحومات وَأَرْبع محرومات أَو قَالَا مشئومات وَثَمَانِية كنوز فالبقاع المرحومات مرامعين وَبِه الْكَثِيب الْأَبْيَض وَهُوَ رِبَاط يخرج إِلَيْهِ النَّاس إِلَى عصرنا هَذَا والجند ومأرب وزبيدوَالْبِقَاع المحرومات أَو المشئومات ختا الْجَبَل الْأَشْهب سيد جبال النَّار قطب الْيمن إِذا سكن سكنت الْيمن يكون فِيهِ زلازل وَفِي جوَار فوهته دارت سِتّ عشرَة وقْعَة وَتظهر فِيهِ النَّار والخراب وتعوي فِيهِ الذئاب ثمَّ تعمر فِيهِ الدّور وتشيد فِيهِ الْقُصُور ويؤهل فَيكون مصرا من أَمْصَار الْمَنْصُور ويسير بَين يَدَيْهِ رجل من أَهله كَأَن بِهِ رَاجِلا بَين يَدَيْهِ حافيا متذللا لَهُ مسارعا إِلَى طَاعَته نَافِذا فِي أمره وتذل بِهِ الْجبَال من السهول وَيكون أشهر مَا بِالْيمنوَالثَّانيَِة من المحرومات أَزَال وَالثَّالِثَة تهَامَة وَالرَّابِعَة المعافر قَالَ وَقَالَ ابْن يَعْقُوب وَأما الَّذِي كنت أسمعهُ من شُيُوخ الصنعانيين وعلمائهم ان الملعونات نَجْرَان وصعده وأثافت وضهر ويكلا وَذكر عجائب كَثِيرَة لَيست من ملازم الْكتاب فَمن أرادها نظرها
وَكنت بِحَمْد الله امْرَءًا مِنْهُم مولدا ومنشأ وانضاف إِلَى ذَلِك مَا
هُوَ مَعْلُوم من حب الوطن عِنْد الملا ومتعارف بَين الفضلا وَله يَقُول ابْن
الرُّومِي شعرًا ... وَمَا الشوق للأوطان من أجل طيبها ... وَلَا شرف فِيهَا
وَفضل مقَام
وَلكنه فِي النَّفس طبع لأَجله ... يُجَادِل فِي تفضيلها
ويحامي
وَمن ثمَّ يهوى الطِّفْل فِي النَّفس أمه ... ويأبى سواهَا
وَهِي ذَات وشام
وَمن غربَة يبكي الْجَنِين إِذا بدا ... وَقد كَانَ
فِي ضيق وفرط ظلام ... فَأَحْبَبْت حِينَئِذٍ وضع كتاب أجمع فِيهِ غَالب علمائه
وأذكر مَعَ ذكر كل مَا ثَبت من حَاله مولدا ونعتا ووفاة بعد أَن أضم إِلَى ذَلِك
إِشَارَة من اعْتقد أَن إِشَارَته حكم وطاعته غنم فاعتمدت ذَلِك متقربا
بِالْإِشَارَةِ وراجيا من الله الْإِعَانَة
ثمَّ عرض لي أَن مَتى عرض
مَعَ ذكر أحد من الْعلمَاء ذكر أحد من الْأَعْيَان ذكرت من حَاله مَا لَاق ثمَّ
أضفت إِلَى ذَلِك طرفا من أَخْبَار الْمُلُوك وَجَعَلته مُخْتَصرا أُرِيد بذلك
جعل الْكتاب جَامعا لذكر الْفَرِيقَيْنِ ورؤساء الدَّاريْنِ
وبدأت
بالعلماء لقَوْله تَعَالَى {وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم} وَثَبت عَنهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وأحببت أَن
أقدم نبذة من الْأَخْبَار دَالَّة على فضل الْعلمَاء والملوك
فَمن
الدَّلِيل على فضل الْعلمَاء مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِسَنَدِهِ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سلك طَرِيقا يلْتَمس فِيهِ علما
سلك الله عز وَجل بِهِ طَرِيقا إِلَى الْجنَّة وَأَن الْمَلَائِكَة لتَضَع
أَجْنِحَتهَا رضَا لطَالب الْعلم وَأَن الْعَالم يسْتَغْفر لَهُ من فِي
السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض حَتَّى الْحيتَان فِي جَوف المَاء
ولفضل
الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على الْكَوَاكِب وَأَن الْعلمَاء وَرَثَة
الْأَنْبِيَاء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذ
بِهِ أَخذ بحظ وافر
قَالَ الْخطابِيّ فِي معالمه فِي معنى وضع
الْمَلَائِكَة أَجْنِحَتهَا لأهل الْعلم ثَلَاثَة
أَقْوَال أَحدهَا
التَّوَاضُع والخشوع تَعْظِيمًا لَهُ وتوقيرا لعلمه كَمَا قَالَ تَعَالَى {واخفض
لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة} وَقيل وضع الْجنَاح مَعْنَاهُ الْكَفّ عَن
الطيران وَألْحق بالعالم جليسه لاستماع الذّكر مِنْهُ كَمَا جَاءَ فِي خبر آخر
مَا من قوم يَجْلِسُونَ مجْلِس ذكر إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة وَحَفَّتْهُمْ
الْمَلَائِكَة
قيل لعطاء بن أبي رَبَاح مَا مجَالِس الذّكر فَقَالَ
هِيَ الَّتِي تعرف بهَا كَيفَ تَأْكُل وَكَيف تشرب وَكَيف تنْكح وَكَيف تبيع
وَكَيف تبْتَاع وَكَيف تقيم فَرَائض الله عَلَيْك وَسنَن نبيه وَمَتى جَوَازهَا
ووجوبها أَلا ترى أَن الله تَعَالَى يَقُول {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا
تعلمُونَ} إِذْ لَا يسْأَل الْجَاهِل عَن أمره الَّذِي لَا يُعلمهُ غير من
يُعلمهُ فَنزلت هَذِه الْآيَة على أَن أهل الذّكر هم الْعلمَاء
وَالْقَوْل
الثَّالِث أَن معنى فرش الْجنَاح ليحمل الطَّالِب عَلَيْهِ ليبلغه وطره وَيقرب
عَلَيْهِ الْبعيد من مقْصده كَمَا شَاهد ذَلِك جمع من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين
وَنقل لنا نقلا متواترا كَمَا سنذكر ذَلِك فِي ذكر الْحَافِظ العرشاني إِن شَاءَ
الله تَعَالَى
وَقَوله وَإِن الْعَالم يسْتَغْفر لَهُ من فِي
السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض حَتَّى الْحيتَان فِي جَوف المَاء فَكَانَ
اسْتِغْفَار أهل السَّمَاء لما لَهُم على ألسن الْعلمَاء من الذّكر بجميل
الْأَفْعَال واعتقاد التَّفْضِيل لَهُم والتبجيل وتمييز مقربهم عَن غَيرهم وأمد
الأَرْض لما لَهُم على ألسن الْعلمَاء من التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم
وَالْمُسْتَحب وَالْمَكْرُوه فِي الْآدَمِيّين وَمن طَرِيق ذَلِك أمره لَهُم
بِحُقُوق من ولوا أمره بِملك أَو اسْتِحْقَاق وَكَيف صفة ذَلِك وَأما الثَّوَاب
لفَاعِله وَالْعِقَاب لتاركه ثمَّ تعريفهم للمستباح مِنْهَا أكولا وحمولا وحلوبا
وركوبا وَمَا الَّذِي يجمع ذَلِك كَالْإِبِلِ وَمَا لَا يجمعه ثمَّ تعريفهم بِمَا
يحل وَبِمَا لَا يحل وَكَيف بَيَان تَحْلِيله من تَحْرِيمه وَمن قبيل هَذِه
الْحيتَان وَذكر الشَّارِع ذَلِك مُبَالغَة واستقصاء واستغراقا إِذْ هم المرشدون
إِلَى الْمصلحَة فِي بَابهَا والموصون بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَأَن لَا تعَارض
عَبَثا وَلذَلِك ألهمت محبتهم وَالِاسْتِغْفَار لَهُم كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر
وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة على فضل الْعلم وَأَهله يطول ذكرهَا
وَيذكر
الْعلمَاء عَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ الْعلم ثَلَاثَة أحرف الْعين من
عليين وَاللَّام من اللطف وَالْمِيم من الْملك فَيبلغ بِصَاحِبِهِ أَعلَى
الدَّرَجَات من العليين والزلفى بهَا إِلَى اللطف فِي الدَّاريْنِ وَالْملك
فيهمَا
وَعَن بعض الْعلمَاء الْعلم نزهة الْقُلُوب وَالْأَدب تحفة
الْأَلْبَاب وَأحسن مَا وعى الْمَرْء فِي عمره علم يلْبسهُ للزِّينَة فِي العاجل
وينتج عَنهُ سَعَادَة الآجل
وانقضى ذكر مَا أسلفته من الْآثَار فِي
فضل الْعلم وَأَهله
وَأُرِيد اتِّبَاع ذَلِك بِمثلِهِ فِي فضل
الْمُلُوك وَهُوَ آثَار مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السُّلْطَان ظلّ
الله فِي أرضه يأوي إِلَيْهِ كل ملهوف
قَالَ الحريري فِي درة الغواص
مَعْنَاهُ ظله السابغ على عباده المسبل على بِلَاده وَقَالَ بعض الْعلمَاء الدّين
بِالْملكِ يقوى وَالْملك بِالدّينِ يبْقى وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ عُثْمَان بقوله
أَن الله ليزع بالسلطان مَا لَا يَزع بِالْقُرْآنِ وَمن قبيل ذَلِك قَول ابْن
الْمُبَارك الْجَمَاعَة حَبل الله فَاعْتَصمُوا مِنْهُ بعروته الوثقى ... الله
يدْفع بالسلطان معضلة ... عَن ديننَا رَحْمَة مِنْهُ ودنيانا
لَوْلَا
الشَّرِيعَة لم تأمن لنا سبل ... وَكَانَ أضعفنا نهبا لأقوانا ... ثمَّ قد ذكر
الْعلمَاء لذَلِك أَعنِي فضل الْعلمَاء من الْمُلُوك آثارا يطول سردها ويسمج
شرحها يعرفهَا الْعَارِف وَلَيْسَ غرضي بِوَضْع مَا وضعت من ذَلِك إِلَّا
التَّنْبِيه والإذكار لِذَوي الْأَبْصَار ثمَّ تَعْرِيف النَّاظر أَن لَيْسَ غرضي
بِذكر الْعلمَاء أخص الْمُحَقِّقين مِنْهُم والمتسمين من أهل الْفَهم فيهم إِذْ
ذَاك ينْدر فِي كل جيل لَكِن مرادي غَالِبا ذكر الْفُقَهَاء وَمن رَأس مِنْهُم
ودرس وبالصواب أفتى وَهدى إِذْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الْعلم مَدِينَة
لَهَا
بَابَانِ أَحدهمَا للدراية وَالْآخر للرواية فغرضي أَن أذكر أهل الْبَابَيْنِ
الدِّرَايَة وَالرِّوَايَة لَا من حقق الْعلم وأكمل شُرُوطه وتميز أهل زَمَانه
وأوانه بل كَمَا فعل ذَلِك من سبقني من المصنفين لذَلِك المطيلين مِنْهُم
والمقصرين وَلَو أَرَادَ أحد حصر تصنيفه بِذكر من أكمل الْعلم معرفَة لعجز
فَإِن
ذَلِك أَمر لَا يَنْتَهِي وَالله يَقُول {وَفَوق كل ذِي علم عليم}
قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ فَوق كل عَالم أعلم مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى
الله مفيض مَا يَشَاء من علمه على من اخْتصَّ من خلقه وَمن ذَلِك مَا رُوِيَ عَن
عَليّ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ الْعلم أَكثر من أَن يحفظ فَخُذُوا عَن كل عَالم
محاسنه
وَمَا رُوِيَ عَن جَعْفَر بن الْأَشَج أَنه قَالَ الْعلم
كَالْمَالِ مَتى كَانَ بيد الْإِنْسَان مِنْهُ شَيْء سمي مُوسِرًا وَكَذَا من حوى
شَيْئا من الْعلم سمي عَالما وَكَذَلِكَ يحوي الْإِنْسَان مَالا كثيرا فَلَا
يُزَاد على اسْم الْيَسَار كَمَا أَن الْعَالم وَإِن كثر علمه لَا يُزَاد على
الْعَالم لَكِن يتميزان بالأفضلية فَيُقَال أغْنى من فلَان كَمَا يُقَال أعلم
مِنْهُ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَشَارَ الْقَائِل بقوله ... من النَّاس من يدعى
الإِمَام حَقِيقَة ... ويدعى كثير بِالْإِمَامِ مجَازًا
وَلَكِن مَتى
يخفى الصَّباح إِذا بدا ... وَحل عَن اللَّيْل البهيم طرازا ... ثمَّ قد يَقُول
جَاهِل أَو متجاهل مَا الْفَائِدَة الْحَاصِلَة فِي ذكر من أوردته وقص قصَص من
توخيته فأجبت الأول بِالسَّلَامِ وَالْآخر أَن فِي ذَلِك فائدتين إِحْدَاهمَا مَا
ذكرت أَولا من ذكر الْقُرْآن للأنبياء وأممهم والقرون الْمَاضِيَة وَمن
تَبِعَهُمْ وَالْأُخْرَى أَن الْمُتَأَخر مَتى وقف على خبر من تقدمه من
الْفُضَلَاء أَو سمع كَيفَ تشميرهم وإقبالهم على الْعلم وَطَلَبه تاقت نَفسه
إِلَى الِاقْتِدَاء بهم والانسلاك فِي سلكهم وَالتَّحْقِيق
لتفضيلهم
وتجميلهم وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ إِمَام الطريقتين أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد
يَقُول الْأَرْوَاح جنود مجندة من جنود الله يخفى بهَا من قُلُوب العارفين ويصفو
بهَا أسرار المريدين فقد يحث الصَّالح الجبان إِلَى المعركة فرسَان الطعان ويهيج
الْحَادِي أشواق القوافل وَإِن كَانَ عَن معنى مَا يَأْتِي بِهِ غافل
وَذكر
فِي صفة الصفوة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ جَلَست يَوْمًا أحدث فِي
حَلقَة فِيهَا سعيد بن السَّائِب الطَّائِفِي فَجعل يبكي حَتَّى رَحمته ثمَّ قلت
مَا يبكيك فَقَالَ يَا سُفْيَان إِذا سَمِعت ذكر أهل الْخَيْر وَذكر فعالهم وجدت
نَفسِي عَنْهُم بمعزل وَسُئِلَ الْجُنَيْد هَل على كَلَامه الأول دَلِيل قَالَ
نعم قَول الله تَعَالَى وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ
فُؤَادك فَإِذا كَانَ تثبيت فُؤَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأخبار الرُّسُل
فَكيف بِمن عداهُ وَمَتى ذكرت الْفُقَهَاء وَالْأَئِمَّة المتبصرين أوردت مَعَ كل
مَا صَحَّ لدي لَهُ من منقبة أَو نعت يحسن إِيرَاده وَإِن لم يكن أَهلا لذَلِك
كَانَ إعراضي عَنهُ كَافِيا وَإِلَيْهِ يَقُول ... ولربما كَانَ السُّكُوت عَن
الْجَواب جَوَابا
مَعَ أَن المؤرخين قد شحنوا كتبهمْ بِذكر الْعلمَاء
وتاريخهم حَتَّى قَالَ المَسْعُودِيّ عَن جمَاعَة مِنْهُم ذكرتهم لنقلهم السّنَن
وحاجة أهل الْعلم وَأَصْحَاب الْآثَار إِلَى تَحْقِيق أَحْوَالهم لأخذهم الْعلم
عَنْهُم والاستعانة بهم فِي دينهم ودنياهم
وَأَرْجُو أَن الله قد
عصمني عَن أَن أرتكب فِي كتابي هَذَا هَوَاء وأميز أحد مِمَّن ذكرته إتباع هَوَاء
وأعده من جملَة الملاء وَلَيْسَ لذَلِك أَهلا بل أذكر الْفَقِيه بِمَا ثَبت لَهُ
من تَارِيخ أبدأ فِي أول ذكره بميلاده وأختم ذَلِك بوفاته ثمَّ فِي أثْنَاء ذَلِك
مَا صَحَّ لي من نعوت ثمَّ مَتى ولي أحد مِنْهُم قَضَاء وَسَار السِّيرَة المرضية
قلت محن هَذَا بِالْقضَاءِ وَإِن لم أقل ولي الْقَضَاء سنة كَذَا من قبل فلَان
وَاعْلَم
أَنِّي أخذت أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين غَالِبا من أحد كتب ثَلَاثَة أكملها فِي
ذكر الْعلمَاء وتواريخهم كتاب الْفَقِيه أبي حَفْص عمر بن عَليّ بن سَمُرَة إِذْ
ذكر غَالب الْفُقَهَاء بِالْيمن مُنْذُ ظهر بِهِ الْإِسْلَام إِلَى بضع
وَثَمَانِينَ وخمسمئة ثمَّ يُقَارِبه كتاب أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن
مُحَمَّد الرَّازِيّ أصلا والصنانعي بَلَدا وَهُوَ كتاب يُوجد كثيرا بأيدي
النَّاس يَقُول فِي تَرْجَمَة كل نُسْخَة الْجُزْء الثَّالِث من تَارِيخ
الرَّازِيّ ثمَّ يذكر فِي غَالب نُسْخَة مَا لَا يُوجد فِي النّسخ الْأُخْرَى
وَبحث جمع كثير من أَعْيَان الْيمن عَن تَحْصِيل النُّسْخَة بكمالها فَلم يَجدوا
غير الْجُزْء الْمَذْكُور وَبلغ فِيهِ إِلَى سِتِّينَ وأربعمئة تَقْرِيبًا وحقق
فِيهِ جمَاعَة من أهل الْيمن غالبهم من صنعاء والجند وَأورد لَهُم من الْآثَار
كثيرا وحقق من أَحْوَالهم
بِخِلَاف مَا ذكره ابْن سَمُرَة ثمَّ إِنِّي
تتبعت كِتَابه فَرَأَيْت مَا يدل على كَمَال مُصَنفه ونزاهته عَمَّا ينْسب
إِلَيْهِ أهل ناحيته من الاعتزال وَالْقَوْل بِخِلَاف مَا صَحَّ عِنْد أهل الطول
فقد طالعت كِتَابه الْمَذْكُور مرَارًا ونقلت مِنْهُ إِلَى كتابي هَذَا
أَخْبَارًا وأخبارا
ثمَّ يُقَارِبه تَارِيخ صنعاء لِابْنِ جرير
الصَّنْعَانِيّ الزُّهْرِيّ واسْمه إِسْحَاق بن يحيى بن جرير ينتسب إِلَى الْأسود
بن عَوْف أخي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهُوَ كتاب لطيف الحجم بِهِ فَوَائِد جمة
ثمَّ يُقَارِبه تَارِيخ عمَارَة الموسوم بالمفيد فِي أَخْبَار صنعاء وزبيد ثمَّ
تَدْعُو الْحَاجة إِلَى ذكر أحد لَيْسَ من الْيمن فَأَخذه فِي الْغَالِب عَن
كتاب
القَاضِي أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خلكان الْمَعْرُوف بوفيات
الْأَعْيَان إِذْ لم يذكر من الْيمن غيراليسير وَكَانَ قَاضِي قُضَاة الشَّام
مُعظما عِنْد الْعَزِيز ثمَّ عزل فِي أَيَّام قلاوون الصَّالِحِي لحَدث كَانَ
مِنْهُ وَكتابه على الِانْقِطَاع نَحْو ثَمَانِينَ سنه وستمئة ثمَّ من بضع
ثَمَانِينَ وستمئة إِلَى وقتي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة إِنَّمَا أخذت
الْغَالِب عَن أهل بَيت مِمَّن أَدْرَكته أَو أدْركْت من أدْركهُ مَعَ أَنِّي لم
أقصد فِي ذكر أحد رِيَاء وَلَا أطريته مِمَّا يسْتَحق من ثَنَاء وَالله عَليّ فِي
ذَلِك من أكبر الشُّهَدَاء وَلم أحبر على جمع ذَلِك إِلَى رَجَاء حُصُول أجر من
الله وثواب وَمن أهل الْإِسْلَام دُعَاء مستجاب أَو ثَنَاء مستطاب ثمَّ تبركا
باقتداء أكَابِر من سلك من هَذَا المسلك وَذكروا فِي فضلاء زمانهم وَمن تقدمهم
أَقْوَامًا يغلب على الظَّن أَن فِي من تَأَخّر جمَاعَة يفضلون عَلَيْهِم أَو على
كثير مِنْهُم بِالْعلمِ وَرُبمَا تحقق ذَلِك فِي كثير ثمَّ قبولا لإشارة شَيْخي
أبي الْحسن الأصبحي وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَولا أَن إِشَارَته فِي حَقي حكم وطاعته
غنم مَعَ تعويلي على أَن مطالع كتابي هَذَا يكون معي عِنْد تَحْقِيقه لزلل كَمَا
قَالَ تَعَالَى {وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم} وَليكن كَمَا
قَالَ الأول ... ويغضي عَن الْأَشْيَاء يعلم كنهها ... إِلَى أَن يَقُول النَّاس
لَيْسَ بعالم
وَمَا ذَاك من جهل بِهِ غير أَنه ... يجر على الزلات ذيل
المكارم ... ثمَّ مَتى تحقق خللا فليصلحه بعد تحوط فَإِنِّي قد أخذت مَا أوردت من
مظان جَيِّدَة ورحلت من الْجند فِي طلب ذَلِك إِلَى نواح بعيدَة ثمَّ يعرض مَعَ
ذكر أحد من الْعلمَاء ذكر أحد من الْأَعْيَان فأورد من ذكره مَا يشفي النَّفس
ويزيل اللّبْس على حسب الطَّاقَة وَمَعَ ذَلِك فالأغراض فِي ذَلِك تبلغ أغراضا
مُخْتَلفَة فقد من يُرِيد تَارِيخ
الْعلمَاء وَقد يُرِيد الْمُلُوك
وَقد يُرِيد الْأَعْيَان والميل إِلَى الِاخْتِصَار بِقدر الِاسْتِطَاعَة
ثمَّ
استفتح ذَلِك بِحَمْد الله جَاعل لُحُوم الْعلمَاء مُحرمَة لأهل السَّفه والشقاء
فأعوذ بِهِ من حسد الحاسدين وَاعْتِرَاض المعاندين ثمَّ الصَّلَاة على خير
الْأَنْبِيَاء وَجَمِيع أخوانه مِنْهُم وَآل كل والصحب على الِاسْتِقْصَاء
وَرَأَيْت
أَن أولى مَا استفتح بِهِ الْكتاب ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ هُوَ
الْموصل عَن الله الْعلم بِمَا أخبر فابتدأت حِينَئِذٍ بنسبه ثمَّ مولده ثمَّ مَا
تحققته من أَحْوَاله بداية وَنِهَايَة على شَرط الإيجاز والاختصار فِيهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذْ بِهِ سلكنا الطَّرِيق وَحصل لكل مُسلم التَّوْفِيق ولولاه لم
يكن فِي الْأمة عَالم اسْتحْسنَ وَلَا جرى ذكره فِي كتاب وَلَا بعده من
الصَّوَاب
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم كنيته بِولد لَهُ من خَدِيجَة رَضِي
الله عَنْهَا جَاءَهُ قبل الْإِسْلَام مُحَمَّد بن عبد الله
مُحَمَّد
اسْم عَرَبِيّ يَسْتَعْمِلهُ الْعَرَب فِي الْمُسْتَغْرق للمحامد وَسمي بذلك
لِأَن أمه رَأَتْ فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول لَهَا إِنَّك حملت بِسَيِّد هَذِه
الْأمة يكون مُسْتَغْرقا لجَمِيع المحامد فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا وَأما أَبوهُ
فَقيل كَانَ اسْمه عبد الدَّار وَقيل عبد قصي فَلَمَّا فدي من الذّبْح سَمَّاهُ
أَبُو عبد الله وَهُوَ أحد الذبيحين الَّذِي جَاءَ فِي بعض الْأَخْبَار عَنهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا ابْن الذبيحين عَنى أَبَاهُ وجده إِسْمَاعِيل وَهُوَ
ابْن عبد الْمطلب وَيُقَال لَهُ شيبَة الْحَمد أَي شيبَة الثَّنَاء إِذْ ولد
وبرأسه شيبَة ابْن هَاشم واسْمه عَمْرو وَسمي هاشما لِكَثْرَة مَا كَانَ يطعم
قومه قَالَ ... عَمْرو الَّذِي هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ ... وَرِجَال مَكَّة
مسنتون عجاف ... وَهُوَ ابْن عبد منَاف واسْمه الْمُغيرَة بن قصي سمي قصيا لِأَن
أمه تزوجت فِي غير أَهله فَخرجت بِهِ مَعهَا صَغِيرا فَلَمَّا كبر عَاد بَلَده
فرأس بهَا وَجمع بيُوت قُرَيْش وَلذَلِك كَانَ يُسمى مجمع بن كلاب بن مرّة بن
كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة وَهَذَا النَّضر
هُوَ قُرَيْش فَمن كَانَ من وَلَده فَهُوَ قرشي وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا
غَلَبَة وقهر من القرش حَيَوَان فِي الْبَحْر لِأَن لَهُ قهرا على غَيره وَقيل
لتجارته ويساره وتصغيره محبَّة وَسميت قُرَيْش الحمس أَيْضا قيل لتشددها فِي
الدّين خَاصَّة وَقيل لتشددها فِيهِ وَفِي غَيره وَقيل من الحمسة وَهِي
الْحُرْمَة فَكَانَ يُقَال لَهُم أهل
الحمسة أَي أهل الْحُرْمَة
وَقَالَ
الْخطابِيّ سُئِلَ بعض الْعلمَاء لم كَانَت قُرَيْش أفضل الْعَرَب وَهِي قَبيلَة
من مُضر فَقَالَ لِأَن دارها لم يزل منسكا لحج النَّاس وموسما لَهُم وموردا
لقَضَاء نسكهم وَكَانُوا لَا يزالون يتأملون أَحْوَال الواردين ويراعونها يختارون
أحسن مَا يشاهدونه ويتكلمون بِأَحْسَن مَا يسمعونه من لغتهم ويتخلقون بِأَحْسَن
مَا يرَوْنَ من شمائلهم فبذلك وَهُوَ حسن الِاخْتِيَار الَّذِي هُوَ ثَمَرَة
الْعقل صَارُوا أفضل الْعَرَب ثمَّ قَالَ لما بعث الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنْهُم تمت لَهُم بِهِ الْفَضِيلَة وكملت بِهِ السِّيَادَة وَإِنَّمَا
صَار دَارهم حرما لِأَن الله تَعَالَى لما قَالَ للسماوات وَالْأَرْض {ائتيا
طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} كَانَ الْمُجيب لَهُ بذلك من
الأَرْض مَوضِع الْكَعْبَة وَمن السَّمَاء مَا قابله فَلذَلِك جعل فِيهِ الْبَيْت
الْمَعْمُور وَهَذَا كَلَام دخيل والْحَدِيث شجون
نعود إِلَى بَقِيَّة
النّسَب وكنانة هُوَ ابْن خُزَيْمَة بن مدركة واسْمه عَامر بن الْيَأْس بِفَتْح
الْهمزَة ضد الرَّجَاء وَقيل بخفضها مُوَافقَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ابْن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان النّسَب إِلَى هُنَا لَا يمتري فِيهِ أحد
وَمَا جَاوز ذَلِك من النسابين من قَالَ بِهِ وهم جمَاعَة ابتدأت مِنْهُم
بِالْإِمَامِ السُّهيْلي لجلالة قدره وشهرة مَعْرفَته فَقَالَ عدنان بن مقوم
بِفَتْح الْوَاو وخفضها بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نبت بن إِسْمَاعِيل
الذَّبِيح الثَّانِي على رَأْي جمَاعَة كثيرين وَاخْتَارَ السُّهيْلي أَن
الْعَرَب كلهَا من ولد إِسْمَاعِيل الذَّبِيح قَالَ إِذْ هم بَنو نبت وَبَنُو
أَيمن ابْني إِسْمَاعِيل فالعدنانية بَنو نبت والقحطانية بَنو أَيمن
وَقيل
قيدر بن نبت بن إِسْمَاعِيل وَلَوْلَا الْميل إِلَى الِاخْتِصَار لشرحت مَا شَرحه
السُّهيْلي فِي هَذَا الْمَكَان وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم وَمَعْنَاهُ أَب
رَحِيم ولتحقق ذَلِك فِيهِ جعله وَامْرَأَته سارة كافلي أَطْفَال الْمُؤمنِينَ
الَّذين يموتون صغَارًا ابْن تارخ وَهُوَ أزر بن ناحور بن ساروح بن راغوا بن فالخ
وَقيل فالغ وَمَعْنَاهُ القسام لِأَنَّهُ قسم الأَرْض بَين أَهلهَا ابْن عَابِر
وَقيل عبير بياء مثناة من تَحت بدل
الْألف بن سالخ وَمَعْنَاهُ
الْوَكِيل بن أرفخشد وَمَعْنَاهُ مِصْبَاح مضيء ابْن سَام بن نوح واسْمه عبد
الْغفار وَسُميَّة نوحًا لِكَثْرَة نواحه على نَفسه لتَقْصِيره فِي طاعه ربه
وَهُوَ ابْن لامك بِفَتْح الْمِيم وَقيل بِكَسْرِهَا ابْن متوشلخ بالشين
الْمُعْجَمَة وَقيل بِالْمُهْمَلَةِ وَاللَّام مَفْتُوحَة وَقيل بخفضها والخا
مُعْجمَة وَتَفْسِيره مَاتَ الرَّسُول إِذْ مَاتَ أَبوهُ وَهُوَ فِي بطن أمه بن
أَخْنُوخ وَقيل خنوخ بِحَذْف الْألف وخاءين معجمتين بَينهمَا نون مَضْمُومَة ثمَّ
وَاو وَهُوَ إِدْرِيس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول نَبِي خطّ بالقلم
وَأعْطِي النُّبُوَّة بن يرد بن مهليل وَقيل مهلايل وَمَعْنَاهُ الممدوح وَفِي
أَيَّامه ظَهرت عبَادَة الْأَصْنَام ابْن قينان بِأَلف بَين النونين وَقيل بحذفه
وَمَعْنَاهُ المستوى ابْن نائش وَقيل أنوش وَمَعْنَاهُ الصَّادِق بن شِيث
وَمَعْنَاهُ عَطِيَّة الله بن آدم سمي بِهِ لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض
وكنيته عبد المليك أَبُو الْبشر وَقيل أَبُو مُحَمَّد يعنون بِهِ نَبينَا صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ السُّهيْلي وَذكر الطَّبَرِيّ بَين عَابِر
وشالخ أَبَا سَمَّاهُ قينان وَأَن الله لم يذكرهُ فِي التَّوْرَاة لِأَنَّهُ
كَانَ ساحرا وانقضى ذكر مَا أردناه من النّسَب وَلم يبْق غير ذكر الْأَحْوَال
والنعوت بِأَلْفَاظ موجزة فولد يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت
من ربيع الأول وَقيل غير ذَلِك وَكَانَ بعد هَلَاك أَصْحَاب الْفِيل بِخَمْسِينَ
لَيْلَة ولد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مختونا مَسْرُورا فأعجب جده عبد الْمطلب
ذَلِك وَقَالَ ليَكُون لِابْني هَذَا شَأْن عَظِيم وَاخْتلف هَل كَانَ أَبوهُ
إِذْ ذَاك بَاقِيا أم لَا فَقيل لَا وَقيل نعم عَاشَ شَهْرَيْن بعد وِلَادَته صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل سنة وَأجْمع المؤرخون أَنه لم يبلغ الثَّلَاث إِلَّا
وَقد عدم وَكَانَت أمه تَقول أتيت حِين حملت بِهِ فَقيل لي إِنَّك حملت بِسَيِّد
هَذِه الْأمة فَمَتَى وَقع على الأَرْض فَقولِي أُعِيذهُ بِالْوَاحِدِ من شَرّ كل
حَاسِد ثمَّ سميه مُحَمَّدًا قَالَت فوَاللَّه مَا رَأَيْت حملا قطّ كَانَ أخف
وأيسر ولادَة مِنْهُ
وَلَقَد وَقع وَاضِعا يَدَيْهِ على الأَرْض
رَافعا رَأسه إِلَى السَّمَاء فَظهر بميلاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من العلامات
والبشارات مَا يفوق الْعد كَثْرَة وتبادرت الْكُهَّان إِلَى مَكَّة وَاتَّفَقُوا
مَعَ عُلَمَاء الْيَهُود على إعدامه فَأَعْجَزَهُمْ الله ثمَّ أول مُرْضِعَة
أَرْضَعَتْه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمة ثويبة مولاة لِعَمِّهِ أبي لَهب
وَكَانَت قد أرضعت قبله عَمه حَمْزَة ثمَّ أم أَيمن الحبشية
وَهِي أم
أُسَامَة بن زيد وَكَانَت مولاة لِأَبِيهِ عبد الْمطلب أعْتقهَا صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَزوجهَا زيد بن حَارِثَة ثمَّ حليمة وَقيل إِن حليمة أَرْضَعَتْه
قبل أم أَيمن ثمَّ لما صَار ابْن سِتّ سِنِين ذهبت بِهِ أمه إِلَى يثرب تزيره
أخوال جده عبد الْمطلب من بني النجار ثمَّ لما صَارَت بالأبواء عَائِدَة توفيت
هُنَالك وَقد زارها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الْفَتْح هُنَالك
وَالْخَبَر مَذْكُور فِي الْمُهَذّب وَغَيره
فَلَمَّا بلغ الْخَبَر
جده عبد الْمطلب أَمر أم أَيمن الْمُرضعَة لَهُ أَن تذْهب من مَكَّة فِي طلبه
فَخرجت وَجَاءَت بِهِ فَكَانَ يبره ويكرمه حَتَّى أَن كَانَ أَعْمَامه ليحسدونه
على ذَلِك فَيَقُول لَيَكُونن لَهُ شَأْن عَظِيم
فَلَمَّا صَار ابْن
ثَمَانِي سِنِين توفّي جده وَقد أوصى بِهِ إِلَى عَمه أبي طَالب لكَونه شَقِيق
أَبِيه عبد الله
ثمَّ خرج بِهِ عَمه وَهُوَ ابْن تسع نَحْو الشَّام
فَمروا ببحيرى الراهب وَهُوَ بباءين موحدتين مخفوضة ثمَّ مَفْتُوحَة ثمَّ حاء
مُهْملَة بعْدهَا يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ رَاء ضَبطنَا ذَلِك على
سَمَاعنَا وَسمعت جمَاعَة يصحفونه فأضافهم وَلم يكن قبل ذَلِك يضيفهم وَأوصى
أَبَا طَالب بحفظه وحذره عَلَيْهِ من الْيَهُود فَدخل ذَلِك فِي نفس أبي طَالب
حَتَّى أَنه لم يكد يكمل سَفَره وَعَاد بِهِ مسرعا إِلَى مَكَّة وَلم يزل بهَا
حَتَّى بلغ خمْسا وَعشْرين سنة فَتزَوج خَدِيجَة بنت خويلد من أَبِيهَا وَقيل من
عَمها وَأصْدقهَا عشْرين بكرَة فَولدت قبل الْإِسْلَام الْقَاسِم وَبِه كَانَ
يكنى وَزَيْنَب ورقية وَأم كُلْثُوم ورقية الْكُبْرَى وَبعد الْإِسْلَام عبد الله
والطاهر وَالطّيب وَفَاطِمَة فَهَلَك البنون صغَارًا وَأدْركت الْبَنَات
الْإِسْلَام فَحسن فِيهِنَّ وَلم يَأْتِ لَهُ من غَيرهَا ولد غير إِبْرَاهِيم
فَإِنَّهُ من جَارِيَة تسمى مَارِيَة بنت شَمْعُون أهداها لَهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْمُقَوْقس واسْمه جريج بن مينا كَذَا ذكره
السُّهيْلي وَلم
يَعش إِبْرَاهِيم غير سنة وَعشرَة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام
ثمَّ
نرْجِع إِلَى ذكر أَحْوَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما بلغ خمْسا
وَثَلَاثِينَ سنة من عمره بنت قُرَيْش الْكَعْبَة وحكمته أَن يرفع الرُّكْن إِلَى
مَوْضِعه فَلَمَّا كملت لَهُ أَرْبَعُونَ سنة ابتدئ بِالْوَحْي مناما لِاثْنَتَيْ
عشرَة لَيْلَة وَقيل لعشر خلون من ربيع الأول وَاسْتمرّ الْوَحْي مناما سِتَّة
أشهر وَلما كَانَ فِي رَمَضَان أَتَاهُ جِبْرِيل بِالْوَحْي يقظة وَلذَلِك قَالَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيَا الصادقة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا
من النُّبُوَّة وَأَرَادَ أَن أَعْوَام نبوته إِذا قسمت على سِتَّة أشهر كَانَت
سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا إِذْ هِيَ على الصَّحِيح ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة
فَلَمَّا أَتَاهُ جِبْرِيل يقظة أخبر بذلك خَدِيجَة فآمنت وصدقت وَهِي أول
النِّسَاء إسلاما وَكَانَت امْرَأَة صدق وصاحبة حق وَكَانَ إِذا جاءها مُكَذبا
صدقته أَو مؤذى هونت عَلَيْهِ وَأسلم أَبُو بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب وَزيد
بن حَارِثَة هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أول من آمن من هَذِه الْأمة بِاتِّفَاق مَعَ
اخْتِلَاف فِي السَّابِق مِنْهُم وَوجه بعض الْعلمَاء لذَلِك بِأَن خَدِيجَة أول
النِّسَاء إسلاما وَأَبُو بكر أول الرِّجَال وَعلي أول الفتيان وَزيد أول
الموَالِي وَلما أسلم أَبُو بكر خبر بِإِسْلَامِهِ ودعا إِلَيْهِ فَأسلم
بِإِسْلَامِهِ سِتَّة نفر خَمْسَة من الْعشْرَة وهم عُثْمَان وَالزُّبَيْر وَعبد
الرَّحْمَن وَسعد وَطَلْحَة وَالسَّادِس خباب بن الْأَرَت وَأقَام صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه مخفون الْإِسْلَام مترددون فِي إِظْهَاره ثَلَاث
سِنِين حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} الْآيَة فنابذ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قومه وجانبهم فعادوه وَقَامَ بنصرته عَمه أَبُو طَالب وذب
عَنهُ وَجعل الْمُشْركُونَ يُؤْذونَ أَصْحَابه ويعذبون من قدرُوا عَلَيْهِ
مِنْهُم ويفتنونه عَن دينه
وَلما بلغُوا ثَمَانِينَ رجلا وَرَأى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هم فِيهِ من أذية الْمُشْركين أَمرهم
بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَة فَهَاجَرَ مِنْهُم اثْنَان وَثَمَانُونَ رجلا
اخْتلف هَل كَانَ عمار بن يَاسر فيهم ثمَّ بعد ذَلِك أسلم حَمْزَة وَعمر بن
الْخطاب فَامْتنعَ بهما من بَقِي بِمَكَّة من الْمُسلمين ثمَّ فِي سنة سِتّ كتبت
الصَّحِيفَة على بني هَاشم وَمن دخل مَعَهم من بني الْمطلب وَخرج مِنْهُم أَبُو
لَهب ثمَّ سلط الله عَلَيْهَا الأرضة فأتلفتها ثمَّ فِي سنة عشر توفيت خَدِيجَة
بنت خويلد وعمرها سِتّ وَخَمْسُونَ سنة برمضان ثمَّ أَبُو طَالب بعْدهَا بِثَلَاث
وَهُوَ ابْن سِتّ وَثَمَانِينَ وَقيل تسعين فكثرت أذية الْمُشْركين لرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يجد من يصد عَنهُ كَأبي طَالب وَلَا يهون عَلَيْهِ
ويسكنه كخديجة رَضِي الله عَنْهَا
فَخرج فِي سنة إِحْدَى عشرَة من
النُّبُوَّة إِلَى الطَّائِف يلْتَمس النَّصْر من ثَقِيف فَلم يلق بهم خيرا
فَعَاد مَكَّة وَبَات بوادي نَخْلَة ثمَّ قَامَ أثْنَاء اللَّيْل يُصَلِّي جهارا
بِالْقُرْآنِ فَمر بِهِ النَّفر الَّذِي قصّ الله خبرهم فِي سُورَة {قل
أُوحِي}
قَالَ الرَّازِيّ وَكَانُوا من قَرْيَة بِالْيمن تعرف بنصيبين
وَفِي رَجَب من سنة اثْنَتَيْ عشرَة كَانَ الأسرى فِيهِ هدى من هدى وطرد من
طرد
وَكَانَ يعرض نَفسه فِي المواسم وَيَقُول من يؤويني من ينصرني
حَتَّى أبلغ كَلَام رَبِّي فَإِن قُريْشًا منعتني من تبليغه
ثمَّ
هَاجر أَبُو بكر إِلَى الْيمن فَدخل صنعاء فلقي بهَا ابْن الدغنة وَهُوَ
يَوْمئِذٍ سيد القارة فَقَالَ أَيْن تُرِيدُ يَا أَبَا بكر قَالَ أخرجني قومِي
فَأُرِيد أسيح فِي الأَرْض وأعبد رَبِّي فَقَالَ لَهُ إِن مثلك لَا يخرج وَلَا
يخرج بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم الرَّاء فِي الأولى وبضم الْيَاء
وَفتح الرَّاء مَا لم يسم فَاعله فِي الثَّانِيَة لِأَنَّك تكسب الْمَعْدُوم
وَتصل الرَّحِم وَتحمل الْكل وتقري الضَّيْف وَتعين على النوائب فَارْجِع واعبد
رَبك ببلدك وَأَنا جَار لَك فَعَاد وَأقَام معززا مكرما ثمَّ تقدم سِتَّة نفر من
الْأَنْصَار يُرِيدُونَ حلف قُرَيْش على قَومهمْ فَبلغ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قدومهم فوصلهم وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام وتلا الْقُرْآن
فأسلموا وسألوه أَن يبْعَث مَعَهم معلما فَبعث مُصعب بن عُمَيْر بن هَاشم بن عبد
منَاف فَكَانَ أول من قدم الْمَدِينَة من الْمُسلمين من مَكَّة ويعد أول
الْمُهَاجِرين ثمَّ إِنَّه جَاءَ الْمَوْسِم وَقد فَشَا الْإِسْلَام فيهم وَأسلم
جمَاعَة فلقي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعقبَةِ مِنْهُم
اثْنَي
عشر رجلا فأسلموا وَبَايَعُوهُ بيعَة النِّسَاء وعادوا فَيُقَال إِنَّمَا رَاح
مُصعب مَعَ هَؤُلَاءِ وَالله أعلم وَلما قدم مُصعب صَار يجمعهُمْ على الصَّلَاة
وَقِرَاءَة الْقُرْآن فَأسلم على يَده خلق كثير مِنْهُم أسيد بن حضير وَسعد بن
معَاذ وَفَشَا الْإِسْلَام بِيَثْرِب
وَلما كَانَ الْمَوْسِم سنة
اثْنَتَيْ عشرَة حج مِنْهُم جمع كثير وواجهوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي الْعقبَة فِي أواسط أَيَّام التَّشْرِيق وهم إِذْ ذَاك ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ
رجلا وَامْرَأَتَانِ فَبَايعُوهُ مبايعة الْحَرْب ثمَّ لما عَادوا أَمر النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَقِي مَعَه بِمَكَّة من أَصْحَابه بِالْهِجْرَةِ
إِلَيْهِم فَهَاجرُوا وَلم يبْق بِمَكَّة غير أبي بكر وَعلي فَإِن الله حماهما
بِمَا حمى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ هَاجر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ أَبُو بكر وعامر بن فهَيْرَة مَوْلَاهُ بِالْفَاءِ
وَابْن أريقط دليلهما فَقدما قبَاء ظهيرة يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة
لَيْلَة خلت من ربيع الأول من ثَلَاث عشرَة من النُّبُوَّة وَمن ذَلِك جعل
التَّارِيخ بسنته عمر فِي خِلَافَته وَكَانَ التَّارِيخ قبله بِمَوْت الْفِيل
وهلاك أَصْحَابه ثمَّ قبله بِمَوْت قصي بن كلاب وَلما ولي عمر الْخلَافَة أَمر
النَّاس بالتاريخ من الْهِجْرَة فَكَانَت من أوامره الْمُبَارَكَة
ولبث
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقباء ثَلَاثَة أَيَّام وَخرج فِي الرَّابِع
يَوْم الْجُمُعَة إِلَى الْمَدِينَة بعد أَن أسس مَسْجِد قبَاء وَقدم عَلَيْهِ
فِيهَا عبد الله بن سَلام وَأسلم وَحسن إِسْلَامه وَهُوَ أحد بني قينقاع بِضَم
النُّون وَفتحهَا مَعَ فتح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح
الْقَاف بعد النُّون الْمُخْتَلف فِيهَا ثمَّ ألف ثمَّ عين مُهْملَة وأدركته صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْجُمُعَة فِي بني سَالم بن عَوْف فصلى مَعَهم وَذَلِكَ
بالموضع الَّذِي اتخذ مَسْجِدا بوادي رانونا ثمَّ ركب نَاقَته حَتَّى أَتَى دَار
بني النجار
أخوال جده فبركت نَاقَته بِموضع بِالْقربِ من بَيت أبي
أَيُّوب فَترك رَحْله فِي بَيته بَيْنَمَا بنى مَسْجِدا حَيْثُ بَركت نَاقَته
ثمَّ بنيت مساكنه وَدخل بعائشة وأرئي عبد الله بن زيد مَعَ جمَاعَة الْأَذَان
وَهَذَا نِسْبَة حَاله من ميلاده إِلَى سنته الَّتِي هَاجر فِيهَا وَبَقِيَّة
أَحْوَاله فِي الْمَدِينَة مَعْرُوفَة متحققة يُؤْخَذ كثيرا نقلا وسطرا وَلما
كَانَ فِي سنة تسع حج حجَّته الْمَشْهُورَة بِحجَّة الْوَدَاع وَحجَّة الْبَلَاغ
لم يشْهد لَهُ غَيرهَا بعد الْهِجْرَة وَلَا يعلم كم حج قبلهَا
ثمَّ
فِي مستهل ربيع الأول من سنة عشر بعث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَيْشًا إِلَى
الشَّام وَأمر عَلَيْهِم أُسَامَة بن زيد فَأخذُوا بالتجهيز وَمرض صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ والجيش إِذْ ذَاك لم يخرج
قَالَ
الرَّازِيّ المؤرخ بِإِسْنَاد أوردهُ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه قَالَ
نصرت بِالرُّعْبِ وَأعْطيت جَوَامِع الْكَلَام وخيرت بَين الْبَقَاء وَأبْصر مَا
يفتح الله على أمتِي وَبَين التَّعْجِيل فاخترت التَّعْجِيل وَنزل عقب ذَلِك
سُورَة الضُّحَى وَإِذا جَاءَ نصر الله بكمالهما
وَتُوفِّي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر ربيع الأول على تَمام عشر من
الْهِجْرَة لَيْسَ لَهُ فِي رَأسه عشرُون شَعْرَة بَيْضَاء إِذا مَشى تقلع
كَأَنَّمَا ينحط من صبب أَي يمشي بِقُوَّة والصبب الحدور ثمَّ بَايع بعض النَّاس
وَقيل كلهم فِي ذَلِك الْيَوْم لأبي بكر وَلم يتَأَخَّر أحد عَن الْيَوْم
الثَّانِي
وَكَانَ لَهُ يَوْم توفّي تسع نسْوَة عَائِشَة وَحَفْصَة
وَأم حَبِيبَة وَأم سَلمَة وَسَوْدَة وَزَيْنَب ومَيْمُونَة وَجُوَيْرِية
وَصفِيَّة بنت حييّ
وَجُمْلَة من تزوج بِهن ثَلَاث عشرَة أولهنَّ
خَدِيجَة ثمَّ الْمَذْكُورَات والحادية عشرَة زَيْنَب بنت خُزَيْمَة مَاتَت فِي
حَيَاته وَكَانَت تسمى أم الْمَسَاكِين لشفقتها عَلَيْهِم وَعقد بِاثْنَتَيْنِ
وَلم يدْخل بهما
وَقد ذكر فِي سَبَب ذَلِك وَهل كن أَكثر من ثَلَاث
عشرَة أم لَا فِيهِ خلاف يطول شَرحه وغالب أصدقهن أربعمئة
دِرْهَم
إِلَّا خَدِيجَة وَأم زَيْنَب أصدق خَدِيجَة مَا ذَكرْنَاهُ عِنْد عقدهَا وَأم
زَيْنَب وَهِي الواهبة نَفسهَا عِنْد بعض المؤرخين وَقيل هِيَ غَيرهَا أصدقهَا
فراشا حشْوَة لِيف وَقَدحًا وصفحة ومجشة وَهِي الرَّحَى وانقضى ذكر مَا استحسنته
من أَحْوَاله
وَأحب تعقيبه بِطرف من شمائله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَكَانَ دَائِم الْبشر حسن الْخلق لين الْجَانِب لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا
صخاب وَلَا فحاش وَلَا غياب وَلَا مزاح يتغافل عَمَّا لَا يَشْتَهِي قد ترك نَفسه
من ثَلَاث المراء والإكثار وَمَا لَا يعنيه
وَترك النَّاس من ثَلَاث
لَا يذم أحدا وَلَا يغيبه وَلَا يطْلب عَوْرَته
وَلَا يتَكَلَّم
إِلَّا بِمَا يَرْجُو ثَوَابه
وَكَانَ إِذا تكلم أطرق جُلَسَاؤُهُ
وَإِذا سكت تكلمُوا لَا يتنازعون عِنْده يضْحك مِمَّا يَضْحَكُونَ ويتعجب مِمَّا
يتعجبون مِنْهُ
يصبر على الْغَرِيب فِي مَنْطِقه ومساءلته جمع لَهُ
الْعلم والحلم وَالصَّبْر
أَخذ بِأَرْبَع الْحق ليقتدى بِهِ وَترك
الْقَبِيح لينهى عَنهُ واجتهاد الرَّأْي فِيمَا يصلح أمته وَالْقِيَام بِمَا يجمع
لَهُ خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَكَانَ يَبْتَدِئ من لقِيه
بِالسَّلَامِ وَيعود أَصْحَابه كَمَا يعودونه ويشيعهم كَمَا يشيعونه ويعتنقهم
كَمَا يعتنقونه وَيقبل وُجُوههم كَمَا يقبلُونَ وَجهه ويفديهم بِأَبِيهِ وَأمه
كَمَا يفدونه وَرُبمَا زار عمَّة وَخَالَة إفضالا مِنْهُ عَلَيْهِمَا فِي كل
شَيْء وَيسْعَى إِلَى كل مكرمَة وَكَانَ يتفقد أَصْحَابه وَيسْأل عَن غائبهم
فَإِن
كَانَ مَرِيضا عَاده ودعا لَهُ
وَمن مَاتَ اسْترْجع فِي حَقه وترحم
عَلَيْهِ ودعا لَهُ
وَمن تخوف مِنْهُ قَالَ لَعَلَّ أَبَا فلَان أَخذ
علينا فِي شَيْء أَو رأى منا تقصيرا انْطَلقُوا بِنَا إِلَيْهِ
ثمَّ
يَأْتِيهِ منزله ويستطيب قلبه
وَمَتى دَعَاهُ مُسلم
قَالَ
لبيْك حرا كَانَ أَو عبدا صَغِيرا أَو كَبِيرا ذكر كَانَ أَو أُنْثَى
وَإِن
دَعَاهُ مُشْرك قَالَ لَهُ مَا تشَاء نعْمَة الله كَمَا قَالَ {وَمَا
أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين}
قيل لَهُ وَهُوَ نَازل على
قوم يُرِيد حربهم وَقد أجهدوه هلا لعنتهم فَقَالَ إِنَّمَا بعثت رَحْمَة
للْعَالمين
لم أبْعث لعانا
وَنَحْو ذَلِك مَا رُوِيَ عَن
خباب بن الْأَرَت أَنه قَالَ لما اشْتَدَّ بِنَا أَذَى الْمُشْركين بِمَكَّة
وَكَانَ كثير منا بَين مفتون وَبَين معذب ومؤذي أتيت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُتَوَسِّد إزَاره فِي ظلّ الْكَعْبَة فشكوت عَلَيْهِ مَا
نَحن فِيهِ وَقلت يَا رَسُول الله أَلا تَدْعُو الله لنا فَقعدَ وَهُوَ محمر
الْوَجْه وَقَالَ إِن من كَانَ قبلكُمْ يمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد حَتَّى يذهب
مَا دون عِظَامه من لحم وَعصب ليرْجع عَن دينه فَلَا يرجع وَيُوضَع الْمِنْشَار
على مفرق رَأسه فينشق نِصْفَيْنِ مَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه وليتمن الله هَذَا
الْأَمر حَتَّى يسير الرَّاكِب من صنعاء إِلَى حضر موت لَا يخَاف إِلَّا الله
تَعَالَى أَو الذِّئْب على غنمه
أورد هَذَا الْخَبَر الرَّازِيّ فِي
تَارِيخه فِي بَاب مَا ذكر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صنعاء
وَكَانَت
غَزَوَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبعا وَعشْرين غَزْوَة حصل الْقِتَال فِي تسع
مِنْهُنَّ بدر وَأحد وَالْخَنْدَق وَقُرَيْظَة والمصطلق وخيبر وَالْفَتْح وحنين
والطائف
وسراياه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان وَثَلَاثُونَ
سَرِيَّة وَقيل تسع وَثَلَاثُونَ
وَلما اتّفق الْمُسلمُونَ على
خلَافَة أبي بكر وبيعته كَانَ أول شَيْء اشْتغل بِهِ النَّاس تجهيز رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فغسلوه بِقَمِيصِهِ يصبون عَلَيْهِ المَاء ثمَّ
اخْتلفُوا فِي أَيْن يدْفن فَقَالَ الصّديق إِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول مَا
قبض نَبِي إِلَّا دفن حَيْثُ قبض ثمَّ استدعى أَبَا طَلْحَة رجل من أهل
الْمَدِينَة وطوى لَهُ الْفراش الَّذِي توفّي عَلَيْهِ رَسُول
الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمره أَن يحْفر مَكَانَهُ كَمَا يحْفر لأهل
الْمَدِينَة قبرا ملحودا وَذَلِكَ فِي الزاوية الْقَرِيبَة من بَيت عَائِشَة
رَضِي الله عَنْهَا وَكَانَت قد قَالَت لأَبِيهَا قبل ذَلِك بِمدَّة إِنِّي
رَأَيْت ثَلَاثَة أقمار سقطوا فِي حُجْرَتي وغابوا فِي أرْضهَا فَمَا تَأْوِيل
ذَلِك قَالَ يدْفن فِي حجرتك ثَلَاث أفطاب خير أهل الأَرْض فَلَمَّا دفن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا أَبُو بكر هَذَا أحد أقمارك وَهُوَ خَيرهمْ
وَهَذَا آخر مَا أسلفته من أخباره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متبركا وموجزا
ثمَّ
لم يبْق غير الشُّرُوع بِذكر الْعلمَاء بِالْيمن فَأَحْبَبْت تصدير ذَلِك بِمن
دخله من فُقَهَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم الَّذين شهد لَهُم بالفقه
وَأثْنى عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم أَبُو بكر الصّديق
وَعبد الله بن عُثْمَان بن عَامر بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن
غَالب يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مرّة بن كَعْب
قَالَ
الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق أَجمعت الْأمة على تَقْدِيمه للخلافة بعد النَّبِي وَلَا
يقدم إِلَّا إِمَام عَالم وَكَانَ يُفْتِي بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَلَا يقدم على الْفتيا بِحَضْرَتِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عظم
الْقدر وجلالة الْمحل إِلَّا الموثوق بِعِلْمِهِ والمتحقق لفضله
وَقد
ذكرت فِيمَا تقدم دُخُوله صنعاء ورجوعه بجوار ابْن الدغنة كَمَا مضى توفّي على
الْحَالة المرضية سنة ثَلَاث عشرَة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة خِلَافَته
سنتَانِ وَأشهر
ثمَّ عَليّ بن أبي طَالب وَاسم أبي طَالب عبد منَاف بن
عبد الْمطلب وَبَقِيَّة النّسَب مُحَقّق فِي ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم دخل حَاكما ومفقها كَانَ يَقُول لما بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْيمن قلت يَا رَسُول الله أتبعثني الْيمن وَأَنا شَاب وهم كهول وَلَا علم
لي بِالْقضَاءِ قَالَ انْطلق فَإِن الله سيهدي قَلْبك وَيثبت لسَانك وَقيل قَالَ
اللَّهُمَّ اهد قلبه فَلَمَّا صرت بِالْيمن وحكمت بَين أَهله لم أتعايا فِي حكم
قطّ ببركة دُعَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ نُزُوله على أم سعيد بنت
بزرج امْرَأَة داذوية أَمِير الْفرس بعد باذان لِأَنَّهُ كَانَ ابْن أَخِيه
فاستخلفه
حِين نزل بِهِ الْمَوْت وَقد كَانَ أسلم وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله من ذكره فِي
الْمُلُوك مَا يَلِيق وَكَانَ من وصل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِنَّمَا يصل إِلَى داذويه فينزله عِنْد هَذِه الْمَرْأَة فَذكر المؤرخون
لأخبار الْيمن أَنَّهَا أول من أسلم من أهل صنعاء وَقَرَأَ الْقُرْآن فَيُقَال
إِن عليا كرم الله وَجهه لبث بِصَنْعَاء أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَدخل أَمَاكِن من
الْيمن مِنْهَا عدن أبين وعدن لاعة من بِلَاد حجَّة قد خربَتْ مُنْذُ زمن طَوِيل
وَمِنْهَا ظهر مَنْصُور الْيمن بالدعوة للعبيديين وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن
شَاءَ الله فِي مَوْضِعه وَدخل عَليّ مرّة أُخْرَى فِي أَيَّام أبي بكر وتأمره
وَكَانَ من أجلاء فُقَهَاء الصَّحَابَة وَكفى شَاهدا لَهُ قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنا مَدِينَة الْعلم وَعلي بَابهَا
وَكَانَ ابْن
عَبَّاس يَقُول أعطي عَليّ تِسْعَة أعشار الْعلم وَأَنه لأعْلم بالعشر
الْبَاقِي
وَكَانَت وَفَاته جريحا من جِرَاحَة جرحه بهَا ابْن ملجم
لَيْلَة الْجُمُعَة سحرًا لسبع عشرَة لَيْلَة مَضَت من شهر رَمَضَان الْكَائِن
فِي سنة أَرْبَعِينَ وَقد بلغ عمره ثَمَانِي وَخمسين سنة وَقيل ثَلَاثًا
وَسِتِّينَ سنة
وَاخْتلف فِي مَوضِع دَفنه فَذهب كثير إِلَى أَنه دفن
بقصر الْإِمَارَة بِالْكُوفَةِ وغيب قَبره وَقيل بِموضع يُقَال لَهُ الغريين
وَقيل إِن ابْنه الْحسن حمله يُرِيد بِهِ الْمَدِينَة ليدفنه هُنَالك فَلَمَّا
صَار خَارج الْكُوفَة لَيْلًا وَأَرَادَ نَقله سرا أَقبلت ريح وظلمة مَعَ رذاذ
أذهل النَّاقة فَلم يعلم أَيْن تَوَجَّهت وَظهر فِي أثْنَاء المئة السَّادِسَة من
الْهِجْرَة قبر بِموضع بِالْقربِ من الْكُوفَة على مَا قيل وَاسم الْموضع النجف
فشهر أَنه قَبره كرم الله وَجهه وَتحقّق ذَلِك أَنه مَا أَتَاهُ مبتلى إِلَّا
عوفي سَوَاء كَانَ بِهِ عاهة أَو لَهُ حَاجَة فتزول وتقضى
ثمَّ أَبُو
عُبَيْدَة عَامر بن الْجراح بن هِلَال بن أهيب بن ضبة بن الْحَارِث بن فهر
يجْتَمع
مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ بَعثه إِلَى نَجْرَان إِذْ
سَأَلَهُ أهل نَجْرَان وهم إِذْ ذَاك نَصَارَى أَن يبْعَث مَعَهم بعض أَصْحَابه
ليحكم بَينهم فِي أَشْيَاء اشتجروا عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُم صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَأَبْعَثَن مَعكُمْ أَمينا مَأْمُونا فَاسْتَبْشَرَ بذلك أكَابِر
الصَّحَابَة حَتَّى قَالَ عمر مَا أَحْبَبْت الْإِمَارَة إِلَّا يَوْمئِذٍ ثمَّ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُم يَا أَبَا عُبَيْدَة فَلَمَّا قَامَ قَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل أمة أَمِين وَهَذَا أَمِين هَذِه الْأمة
ثمَّ أمره بِالْمَسِيرِ مَعَهم وَالْحكم بَينهم فَفعل وَخرج فِي جند الشَّام
فَتوفي بوادي الْأُرْدُن فِي طاعون عمواس سنة ثَمَانِي عشرَة وَدفن هُوَ ومعاذ بن
جبل بِموضع وَاحِد
وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة من خَواص أَصْحَاب رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأخيارهم من الْعشْرَة الَّذين شهد لَهُم
بِالْجنَّةِ وَقد دخل مَعَهم جمَاعَة مَعَ عَليّ وَبَعْضهمْ مَعَ معَاذ أَيْضا
وَمُتَفَرِّقِينَ لَكِن المُرَاد ذكر الْعلمَاء مِنْهُم ثمَّ بعث صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من الْأَنْصَار أَبَا عبد الرَّحْمَن معَاذ بن جبل بن عَمْرو بن
أَوْس بن عَابِد بن عدي بن كَعْب الْأنْصَارِيّ الخزرجي كَانَ جميل الْوَجْه براق
الثنايا وَجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رببيع الأول من سنة تسع وَقيل غير
ذَلِك ثمَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى مُلُوك حمير
وَإِلَى السكاسك وهم أهل مخلاف الْجند وَكَانَت رياستهم إِذْ ذَاك لقوم مِنْهُم
يُقَال لَهُم بَنو الْأسود ووصاهم بإعانته على بِنَاء مَسْجِد الْجند ووعد من
أَعَانَهُ على ذَلِك خيرا كثيرا
هَكَذَا نَقله المعنيون بذلك وَكَانَ
معَاذ يَقُول لما خرجت من الْمَدِينَة شيعني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثمَّ قَالَ يَا معَاذ إِذا قدمت عَلَيْهِم الْيمن فاحتكموا إِلَيْك فَبِمَ تحكم
بَينهم قلت بِكِتَاب الله قَالَ فَإِن لم تَجِد
قلت بِسنة رَسُول الله
فَإِن لم تَجِد قلت أجتهد رَأْيِي فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول
رَسُول الله ثمَّ قَالَ يَا معَاذ إِذا قدمت عَلَيْهِم فزين الْإِسْلَام بعدلك
وحلمك وصفحك وعفوك وَحسن خلقك فَإِن النَّاس ناظرون إِلَيْك وقائلون خيرة رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يرى لَك سقطة يستريب بهَا أحد فِي حلمك وعدلك
وعلمك فَإِن الرُّسُل من الْمُرْسلين وَيَا معَاذ أوصيك بتقوى الله عز وَجل وَصدق
الحَدِيث ووفاء الْعَهْد وَأَدَاء الْأَمَانَة وَترك الْخِيَانَة وَرَحْمَة
الْيَتِيم وَحفظ الْجَار وكظم الغيظ ولين الْكَلَام وبذل السَّلَام وَلُزُوم
الإِمَام والتفقه بِالْقُرْآنِ وَحب الْآخِرَة والجزع من الْحساب وَقصر الأمل
وَحسن الْعَمَل وأنهاك أَن تَشْتُم مُسلما أَو تصدق كَاذِبًا أَو تكذب صَادِقا
أَو تَعْصِي إِمَامًا عادلا وَأَن تفْسد فِي الأَرْض يَا معَاذ اذكر الله عِنْد
كل شجر وَحجر وأحدث لكل ذَنْب تَوْبَة السِّرّ بالسر وَالْعَلَانِيَة بالعلانية
وَيسر وَلَا تعسر وَبشر وَلَا تنفر وستقدم على قوم أهل كتاب يَسْأَلُونَك عَن
مَفَاتِيح الْجنَّة فَقل شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك
لَهُ
ثمَّ لما وَدعنِي بَكَيْت فَقَالَ مَا يبكيك فَقلت أبْكِي لفراقك
بِأبي وَأمي أَنْت فَقَالَ لَا تبك فَإِن الْبكاء فتْنَة
فَذكرُوا أَن
معَاذًا قدم الْجند فِي جُمَادَى الْآخِرَة وأوصل كتاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بني الْأسود وَقد كَانُوا أَسْلمُوا ثمَّ إِنَّهُم
اجْتَمعُوا فِي أول جُمُعَة من رَجَب وخطبهم وَفِيهِمْ جمع من الْيَهُود
فَسَأَلُوهُ عَن مَفَاتِيح الْجنَّة فَقَالَ صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مفاتيحها شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ
فَقَالُوا عجبنا من إصابتك الْجَواب وقولك صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ لَهُم إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخْبرنِي بسؤالكم
هَذَا وَكَانَ قَوْله لَهُم سَببا لإسلام من تَأَخّر من الْيَهُود وَكَانَ ذَلِك
فِي محفل عَظِيم قد اجْتمع فِيهِ النَّاس من أَمَاكِن شَتَّى وَمن ثمَّ ألف
النَّاس إتْيَان الْجند فِي أول جُمُعَة من رَجَب يصلونَ بهَا الصَّلَاة
الْمَشْهُورَة ويشاهد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بَرَكَات وَلَا تكَاد تَخْلُو
لَيْلَة الْجُمُعَة الأولى من رَجَب أَو يَوْم خميسها من مطر هَذَا غَالب
الزَّمن
وَكَانَ معَاذ يتَرَدَّد بَين مخلافي الْجند وحضرموت وَعنهُ
أَخذ جمَاعَة من أَهلهَا وصحبوه وتفقهوا بِهِ وَخَرجُوا مَعَه الْحجاز ثمَّ
الشَّام وَكَانَ عَمْرو بن مَيْمُون الأودي من خَواص أَصْحَابه فروى عَنهُ أَنه
قدم علينا معَاذ من عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَرِيق الشحر
رَافعا
صَوته بالتهليل وَالتَّكْبِير وَكَانَ حسن الصَّوْت فألقيت عَلَيْهِ محبتي فصحبته
وَلم أفارقه حَتَّى حثوت عَلَيْهِ التُّرَاب بِالشَّام وَقَالَ صلى معَاذ
بِالنَّاسِ صَلَاة الصُّبْح وَذَلِكَ بِالْيمن وَقَرَأَ سُورَة النِّسَاء
فَلَمَّا تَلا قَوْله تَعَالَى {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} قَالَ رجل من
خَلفه قرت عين أم إِبْرَاهِيم وَهُوَ مَعْدُود من أكابرالصحابة وَقَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي حَقه معَاذ أعلم أمتِي بالحلال وَالْحرَام
وَلما
خطب عمر بالجابية قَالَ من أَرَادَ الْفِقْه فليأت معَاذًا وَكَانَ الصَّحَابَة
مَتى تحدثُوا وَهُوَ فيهم نظرُوا إِلَيْهِ هَيْبَة لَهُ
وَلما حضرت
عمر الْوَفَاة قَالَ لَو كَانَ معَاذ حَيا لَاسْتَخْلَفْته فَإِن سَأَلَني الله
تَعَالَى عَن ذَلِك قلت سَمِعت نبيك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله
يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة لَهُ رتوة بَين أَيدي الْعلمَاء وَلَو لم يكن من
فقهه إِلَّا مَا رَوَاهُ الرَّازِيّ عَنهُ وَهُوَ أَنه كَانَ بِمَجْلِس عمر بن
الْخطاب من جملَة جمَاعَة كثيرين إِذْ رفع رجل امْرَأَته وَقَالَ يَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ غبت عَن هَذِه زَوْجَتي سنتَيْن ثمَّ جِئْت وَهِي حَامِل
فَاسْتَشَارَ عمر برجمها فَقَالَ لَهُ معَاذ إِن كَانَ لَك عَلَيْهَا سَبِيل
فَمَا لَك على مَا فِي بَطنهَا من سَبِيل دعها حَتَّى تضع فَلَمَّا وضعت بعد
أَيَّام عرف زَوجهَا شبهه بِالْوَلَدِ وَقَالَ ابْني وَرب الْكَعْبَة إِذْ وَلدته
جفرا لَهُ سنتَانِ فَقَالَ عمر حِينَئِذٍ عجز النِّسَاء أَن يلدن كمعاذ لَوْلَا
معَاذ لهلك عمر
وَقَالَ لأهل الْيمن يُوشك أَن تعرفوا فِيكُم أهل
الْجنَّة من أهل النَّار وَيَمُوت فِيكُم الْمَيِّت فيثنى عَلَيْهِ بِخَير فَهُوَ
من أهل الْجنَّة وَيَمُوت الْمَيِّت فيثنى عَلَيْهِ بشر فَهُوَ من أهل النَّار
وَكَانَ يَقُول السُّلْطَان ذِئْب ابْن آدم كذئب الْغنم يَأْخُذ الشاردة والناخبة
والقاصية فَعَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة والمساجد
شهد معَاذ بيعَة
الْعقبَة الْكُبْرَى وبدرا وَهُوَ ابْن عشْرين سنة وَتُوفِّي فِي طاعون عمواس سنة
ثَمَانِي عشرَة وَقد بلغ عمره ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة
وَيُقَال إِن
عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع إِلَى السَّمَاء وَهُوَ بِهَذِهِ السن
وَأخْبر الثِّقَة أَنه وجد بوادي الْأُرْدُن من أَرض الشَّام قبَّة فِيهَا قبران
لَهُ وَلأبي عُبَيْدَة مَكْتُوب على كل قبر اسْم صَاحبه وَنسبه وتاريخه وَكَانَ
أَصْحَابه لما توفّي دخلُوا الْعرَاق وصحبوا ابْن مَسْعُود لمؤاخاة كَانَت
بَينهمَا وَكَانُوا هم المقدمين بِالْكُوفَةِ على فَتْوَى الْحَلَال وَالْحرَام
وتنفيذ الْأَحْكَام وَكَانَ معظمهم من النخع حَتَّى كَانَ بعض أكَابِر
التَّابِعين يَقُول إِنِّي لأعرف سمت معَاذ فِي أذواء النخع
فَمِمَّنْ
صَحبه من أهل الْيمن واشتهر بِالْعلمِ وَالْعَمَل جمَاعَة مِنْهُم عَمْرو بن
مَيْمُون الأودي الْمُقدم ذكره فأصله من حضر موت وَقيل من الدثينة كَانَ معدودا
من الْأَوْلِيَاء والعباد ذكره أَبُو نعيم فِي الْحِلْية وَابْن الْجَوْزِيّ فِي
صفة الصفوة وَقَالَ إِنَّه حج مئة حجَّة مَا بَين عمْرَة وَحجَّة وَكَانَ يَقُول
مَا سرني أَن أَمْرِي يَوْم الْقِيَامَة إِلَى أَبَوي أسْند عَن معَاذ وَعمر
وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي أَيُّوب وَأبي مَسْعُود وَعقبَة بن عَمْرو وَعبد
الله بن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس فِي آخَرين وَكَانَت وَفَاته غَالِبا
فِي الْكُوفَة سنة أَربع وَقيل سنة خمس وَسبعين وَمِنْهُم الْأسود بن يزِيد بن
قيس بن عبد الله وَكَانَ يكنى أَبَا عَمْرو وَقَالَ فِي صفة الصفوة كَانَ يخْتم
الْقُرْآن فِي كل لَيْلَتَيْنِ
من رَمَضَان ويختمه فِي كل سِتّ من
غَيره وَحج ثَمَانِينَ حجَّة مَا بَين عمْرَة وَحجَّة وَكَانَ يجْهد نَفسه
بِالصَّوْمِ حَتَّى يخضر جسده ويصفر فَيَقُول لَهُ عَمه عَلْقَمَة بن قيس لم تعذب
هَذَا الْجَسَد فَيَقُول إِن الْأَمر جد إِن الْأَمر جد
وَكَانَ
يُقَال انْتهى الزّهْد إِلَى ثَمَانِيَة فيعد هَذَا مِنْهُم فَلَمَّا احْتضرَ
بَكَى فَقيل لَهُ مِم تجزع فَقَالَ وَمن أَحَق بذلك مني وَالله لَو أتيت بالمغفرة
من الله عز وَجل لأهمني الْحيَاء مِنْهُ مِمَّا قد صنعت إِن الرجل ليَكُون بَينه
وَبَين الرجل الذَّنب الصَّغِير فيعفو عَنهُ فَلَا يزَال مستحيا مِنْهُ هَذَا فعل
من ذهبت إِحْدَى عَيْنَيْهِ من الصَّوْم وَمَا كَانَ إِلَّا رَاهِبًا من الرهبان
وَكَانَ لَا يزَال صَائِما
أسْند عَن معَاذ وَأبي بكر وَعمر وَعلي
وَابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى وسلمان الْفَارِسِي وَعَائِشَة وَلم يرو عَن
عُثْمَان شَيْئا وَفَاته كَانَت بِالْكُوفَةِ سنة خَمْسَة وَسبعين
وَمِنْهُم
عَمْرو بن شُرَحْبِيل كنيته أَبُو ميسرَة وَنسبه فِي هَمدَان قَالَ بعض السّلف
مَا رَأَيْت همدانيا أحب إِلَيّ أَن أكون فِي مسلاخه من أبي ميسرَة قيل وَلَا
مَسْرُوق قَالَ وَلَا مَسْرُوق وَكَانَ يَقُول لَيْت أَنِّي لم أكن شَيْئا قطّ
أسْند
عَن معَاذ وَعمر وَابْن مَسْعُود وخباب بن الْأَرَت وَغَيرهم وَلم أجد لَهُ
تَارِيخا وَمِنْهُم شُرَيْح بن الْحَارِث بن قيس القَاضِي كنيته أَبُو أُميَّة
وَهُوَ بالشين الْمُعْجَمَة مَضْمُومَة وَالرَّاء مَفْتُوحَة ثمَّ الْيَاء
الْمُثَنَّاة من تَحت سَاكِنة ثمَّ حاء مُهْملَة كَانَ كَبِير الْقدر معدودا فِي
عُلَمَاء التَّابِعين ولاه عمر قَضَاء الْكُوفَة فَلم يزل على ذَلِك إِلَى زمن
زِيَاد بن أَبِيه ثمَّ استقاله عَنهُ فأقاله بعد أَن استشاره بِمن يحل مَكَانَهُ
فَأَشَارَ بِأبي
بردة بن أبي مُوسَى وَكَانَ يَقُول سَيعْلَمُ
الظَّالِمُونَ حَظّ من يعصوا إِن الظَّالِم يتنظر الْعقَاب والمظلوم ينْتَظر
النَّصْر
قَالَ ابْن سِيرِين سَمِعت شريحا يحلف بِاللَّه مَا ترك
عِنْده شَيْئا لله فَوجدَ فَقده ثمَّ قَالَ وَلَا أرَاهُ حلف إِلَّا على علم
وَقضى على رجل بِإِقْرَارِهِ فَقَالَ قضيت عَليّ بِغَيْر بَيِّنَة فَقَالَ
أَخْبرنِي بذلك ابْن أُخْت خَالك وَقَالَ لَهُ ابْن لَهُ إِن بيني وَبَين قوم
خُصُومَة فَانْظُر فِي قصتي فَإِن كَانَ الْحق لي خاصمتهم وَإِلَّا تَركتهم
ثمَّ
قصّ عَلَيْهِ الْقِصَّة فَقَالَ لَهُ انْطلق فخاصمهم فَانْطَلق وخاصمهم ورافعهم
إِلَى أَبِيه فَقضى عَلَيْهِ فَلَمَّا صَار بِالْبَيْتِ عاتبه ابْنه وَقَالَ لَو
لم أتقدم إِلَيْك لم ألمك لقد فضحتني
فَقَالَ لَهُ وَالله يَا بني
لأَنْت أحب إِلَيّ من ملك الأَرْض وَمِنْهُم وَالله أعز عَليّ مِنْك إِنَّنِي
خشيت إِن أَخْبَرتك أَن الْقَضَاء عَلَيْك فتذهب فتصالحهم وَيذْهب بعض حَقهم
وَقَالَ
الشّعبِيّ شهِدت شريحا وَقد أَتَتْهُ امْرَأَة تخاصم رجلا فَأرْسلت عينيها
بالبكاء فَقلت يَا أَبَا أُميَّة مَا أظنها إِلَّا مظلومة فَقَالَ يَا شعبي إِن
أخوة يُوسُف جَاءُوا أباهم عشَاء يَبْكُونَ وافتقد يَوْمًا ابْنا لَهُ فَبعث فِي
طلبه فجيء بِهِ فَقَالَ لموصله أَيْن أصبته فَقَالَ يهارش الْكلاب فَقَالَ
لِابْنِهِ صليت فَقَالَ فَأرْسلهُ إِلَى الْمُؤَدب وَقَالَ لرَسُوله قل للمؤدب
شعرًا ... ترك الصَّلَاة لأكلب يسْعَى لَهَا ... طلب الهراش مَعَ الغواة النحس
فَإِذا
أَتَاك فعرضنه بملامة ... وعظه موعظة الصَّبِي الْكيس ...
. . وَإِذا
هَمَمْت بضربه فبدرة ... وَإِذا ضربت بهَا ثَلَاثًا فاحبس
وَاعْلَم
بأنك مَا أتيت فنفسه ... مَعَ مَا تجرعني أعز الْأَنْفس ... وَحكى أَنه خرج
يَوْمًا من عِنْد زِيَاد بن أبي فَلَقِيَهُ رجل وَقَالَ لَهُ كبر سنك ودق عظمك
وارتشى ابْنك فَرجع إِلَى زِيَاد فَأخْبرهُ فَسَأَلَهُ عَن قَائِل ذَلِك قَالَ
لَا أعرفهُ فاعفني قَالَ لَا أعفيك حَتَّى تُشِير عَليّ بِرَجُل أجعله مَكَانك
فَقَالَ عَلَيْك بِأبي بردة فاستدعاه زِيَاد وولاه الْقَضَاء وَتُوفِّي سنة سِتّ
وَقيل ثَمَان وَسبعين بعد أَن بلغ عمره مئة سنة وثماني سِنِين
أسْند
عَن معَاذ وَعلي وَعمر وَغَيرهم
وَمِنْهُم مَسْرُوق بن الأجدع بن
مَالك يكنى أَبَا عَائِشَة همداني سرق وَهُوَ صَغِير ثمَّ وجد فَسُمي مسروقا أسلم
أَبوهُ وَلَقي مَسْرُوق عمر بن الْخطاب فَقَالَ لَهُ مَا اسْمك قَالَ مَسْرُوق بن
الأجدع
وَوَجَدته مضبوطا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بِخَط من يعْتَمد
ضَبطه فَقَالَ لَهُ عمر إِن الأجدع شَيْطَان أَنْت عبد الرَّحْمَن فَثَبت
عَلَيْهِ وَكَانَ مَسْرُوق من أكَابِر التَّابِعين وأفراد الزاهدين كَانَ يَقُول
بِحَسب الْمَرْء من الْجَهْل أَن يعجب بِعَمَلِهِ وَحسب الْمُؤمن من الْعلم أَن
يخْشَى الله وَقَالَ إِذا بلغ أحدكُم أَرْبَعِينَ سنة فليأخذ حذره من الله عز
وَجل وَحج فَلم ينم إِلَّا سَاجِدا حَتَّى رَجَعَ قلت فَإِن قَالَ قَائِل بِأخذ
قَول الشَّافِعِي إِنَّه لم ينم لم يكن بِهِ بَأْس فَإِن على قَول الشَّافِعِي
الْقَدِيم من نَام فِي شَيْء من أَحْوَال الصَّلَاة كَانَ بِمَنْزِلَة من لم ينم
فَلَا ينْتَقض وضوؤه وَلما وجد مِنْهُ شدَّة الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة قيل
لَهُ لَو أَنَّك قصرت عَن الْكَلَام على بعض مَا تصنع فَقَالَ وَالله لَو
أَتَانِي آتٍ فَأَخْبرنِي أَن الله لَا يُعَذِّبنِي لاجتهدت فِي الْعِبَادَة قيل
لَهُ فَكيف ذَلِك قَالَ حَتَّى
تعذرني نَفسِي إِن دخلت جَهَنَّم لَا
ألومها أما بلغك قَوْله تَعَالَى فَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة إِنَّمَا لاموا
أنفسهم حِين صَارُوا إِلَى جَهَنَّم واعتنقتهم الزَّبَانِيَة وحيل بَينهم وَبَين
مَا يشتهون وانقطعت عَنْهُم الْأَمَانِي وَرفعت عَنْهُم الرَّحْمَة وَأَقْبل كل
امْرِئ مِنْهُم يلوم نَفسه قَالَ إِنِّي أحسن مَا أكون ظنا حِين يَقُول الْخَادِم
لَيْسَ فِي قلب الْبَيْت قفيز وَلَا دِرْهَم وَقَالَ إِن الْمَرْء لحقيق أَن يكون
لَهُ مجَالِس يَخْلُو فِيهَا ويتذكر ذنُوبه ويستغفر مِنْهَا مَاتَ بِالْكُوفَةِ
سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ إِسْنَاده عَن معَاذ وَعمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وخباب
وَأبي وَزيد بن ثَابت والمغيرة وَعبد الله بن عمر وَعَائِشَة
وَقد صحب
معَاذًا غير هَؤُلَاءِ من أهل الْيمن غير أَن هَؤُلَاءِ جماهيرهم والمفتون
مِنْهُم وَصَحبه مُنَبّه بن كَامِل وَالِد وهب وَقد أطلت الْكَلَام فِي ذكر معَاذ
وَأَصْحَابه اليمنيين وَحِينَئِذٍ أشرع بِذكر أهل طبقته أَيْضا فهم جمَاعَة
مِنْهُم أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ معدودا فِي فُقَهَاء
الصَّحَابَة أَصله من الْيمن من وَادي زبيد وَفِي الْوَادي أَرض تعرف بِهِ إِلَى
الْآن
وَهُوَ أحد من بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مفقها
لأهل الْيمن وَلما خدعه عَمْرو بن الْعَاصِ نزل شعبًا بِمَكَّة فِيهِ شَيْء من
الْقُبُور يعرف بشعب أبي الدّرّ وَقَالَ أجاور قوما لَا يغدرون وَلم يزل حَتَّى
توفّي فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَقيل سنة خمسين وَقيل توفّي بِالْكُوفَةِ
وانقضى
ذكر الْفُقَهَاء من الصَّحَابَة الَّذين دخلُوا الْيمن وَمن طبقتهم جمَاعَة
أدركوا زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يجتمعوا بِهِ وَأَسْلمُوا
وصاروا عُلَمَاء بأخذهم عَن الصَّحَابَة وعاملين مِنْهُم أويس بن عَامر بن جُزْء
بن مَالك بن عَمْرو بن سعد بن عَمْرو بن حوران بن عصوان بن قرن بن ردمان بن
وَائِل بن الْغَوْث بن جيدان بن قطن بن عريب بن زُهَيْر بن أَيمن بن الهميسع بن
حمير وَفِي اسْم أَبِيه وَنسبه اخْتِلَاف هَذَا أَصَحه عِنْد أهل الْيمن وجده قرن
بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء بطن من مُرَاد وَهُوَ قرن بن ردمان بن نَاجِية
وَيُقَال
إِن مُرَاد اسْمه زيد بن مَالك بن أدد بن يشجب بن يعرب بن زيد بن كهلان بن سبأ
هَكَذَا ذكره النواوي فِي شرح مُسلم وَهَذَا وَإِن لم يكن من أصل شرطنا مِمَّن
رَأس ودرس فَهُوَ مِمَّن رَأس بِمَعْرِِفَة الله وَقدس وَكَانَ يَقْصِدهُ
الصَّحَابَة لكنه يكره الشُّهْرَة وَلم يمنعهُ من الْوُصُول إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَيَاة غير أَنه كَانَت لَهُ وَالِدَة هُوَ بر
بهَا وَكَانَ يكره فراقها خشيَة أَن يعقها
ثَبت بأسانيد متواترة فِي
الْكتب الصِّحَاح أَن عمر بن الْخطاب كَانَ إِذا أَتَت عَلَيْهِ أَمْدَاد أهل
الْيمن قَالَ لَهُم هَل فِيكُم أويس بن عَامر حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ
قَالَ
أَنْت أويس قَالَ نعم
قَالَ هَل لَك وَالِدَة قَالَ نعم
قَالَ
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يَأْتِي إِلَيْكُم أويس بن
عَامر مَعَ أَمْدَاد أهل الْيمن من مُرَاد ثمَّ من قرن كَانَ بِهِ برص فبرئ
مِنْهُ إِلَّا مَوضِع دِرْهَم لَهُ وَالِدَة هُوَ بهَا بر لَو أقسم على الله عز
وَجل لَأَبَره فَإِن اسْتَطَعْت يَا عمر أَن يسْتَغْفر لَك فافعل فَاسْتَغْفر لي
فَاسْتَغْفر لَهُ ثمَّ قَالَ لَهُ أَيْن تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَة
قَالَ
أَلا أكتب لَك إِلَى عاملها أستوصيه بك قَالَ لِأَن أكون فِي غبر النَّاس أحب
إِلَيّ ثمَّ سَافر فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل حج رجل من أَشْرَافهم
فوافقه عمر فَسَأَلَهُ عَن أويس كَيفَ تَركه قَالَ رث الثِّيَاب قَلِيل الْمَتَاع
فَقَالَ عمر سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يَأْتِي
عَلَيْكُم أويس بن عَامر مَعَ أَمْدَاد أهل الْيمن من مُرَاد ثمَّ من قرن كَانَ
بِهِ برص فبرئ مِنْهُ إِلَّا مَوضِع دِرْهَم لَهُ وَالِدَة هُوَ بهَا بر لَو أقسم
على الله لَأَبَره فَإِن اسْتَطَعْت أَن يسْتَغْفر لَك فافعل فَلَمَّا قدم الرجل
الْكُوفَة أَتَى أويسا وَقَالَ اسْتغْفر لي فَقَالَ لَهُ أَنْت أحدث عهد بسفر
صَالح فَاسْتَغْفر لي ألقيت عمر نعم
فَاسْتَغْفر لَهُ ثمَّ فطن لَهُ
النَّاس فَصَارَ يكثر التواري مِنْهُم والتغيب وكساه بَعضهم كسَاء فَكَانَ إِذا
رَآهُ إِنْسَان قَالَ من أَيْن لأويس هَذَا الكساء قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي
صفة الصفوة انْفَرد بِإِخْرَاج هَذَا الحَدِيث مُسلم وَأورد ابْن
الْجَوْزِيّ
فِيهَا من مناقبه كثيرا من ذَلِك قصَّته مَعَ هرم بن حَيَّان وَهِي طَوِيلَة غير
أَن مِنْهَا أَن هرم لما بلغه قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل
الْجنَّة بشفاعة أويس مثل ربيعَة وَمُضر قَالَ قدمت الْكُوفَة فِي طلبه فَوَجَدته
جَالِسا على شاطئ الْفُرَات نصف النَّهَار يتَوَضَّأ فعرفته بالنعت الَّذِي نعت
لي وَإِذا بِهِ رجل نحيل آدم شَدِيد الأدمة محلوق الرَّأْس مهيب المنظر فَسلمت
عَلَيْهِ فَرد وَنظر إِلَيّ فمددت يَدي لأصافحه فَأبى فَقلت رَحِمك الله يَا أويس
وَغفر لَك كَيفَ أَنْت ثمَّ خنقتني الْعبْرَة من حبي لَهُ ورقتي لما رَأَيْت من
حَاله حَتَّى بَكَيْت وَبكى
ثمَّ قَالَ وَأَنت حياك الله يَا هرم بن
حَيَّان كَيفَ أَنْت يَا أخي من دلك عَليّ قلت الله
قَالَ لَا إِلَه
إِلَّا الله سُبْحَانَ الله رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا فَقلت من أَيْن
عرفت اسْمِي وَاسم أبي وَمَا رَأَيْتُك قبل الْيَوْم وَلَا رَأَيْتنِي قَالَ
أنبأني الْعَلِيم الْخَبِير عرف روحي روحك حِين كلمت نَفسِي نَفسك إِن
الْمُؤمنِينَ يعرف بَعضهم بَعْضًا ويتحابون بِروح الله وَإِن لم يلتقوا وَإِن
ناءت بهم الدَّار وَتَفَرَّقَتْ بهم الْمنَازل فَقلت لم لم تُحَدِّثنِي رَحِمك
الله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنِّي لم أدْرك رَسُول الله
وَلم يكن لي مَعَه صُحْبَة بِأبي هُوَ وَأمي وَلَكِنِّي قد رَأَيْت رجَالًا
رَأَوْهُ وَلست أحب أَن أفتح على نَفسِي هَذَا الْبَاب لَا أكون مُحدثا وَلَا
مفتيا وَلَا قَاصا فِي نَفسِي شغل عَن النَّاس ثمَّ كَانَ بَينهمَا حَدِيث يطول
شَرحه من جملَته أَنه أخبر هرم بِمَوْت عمر قَالَ لَهُ هرم إِن عمر لم يمت قَالَ
بلَى نعاه إِلَيّ رَبِّي عز وَجل ونعى إِلَيّ نَفسِي ثمَّ دَعَاني وأوصاني أَن
لَا أُفَارِق الْجَمَاعَة وَقَالَ إِن فَارَقْتهمْ فَارَقت دينك وَأَنت لَا تعلم
وَدخلت النَّار ثمَّ قَالَ لَا أَرَاك بعد الْيَوْم فَإِنِّي أكره الشُّهْرَة
والوحدة أحب إِلَيّ لِأَنِّي كثير الْغم مَا دمت مَعَ هَؤُلَاءِ النَّاس حَتَّى
لَا يسْأَل عني وَلَا يطلبني أحد وَأعلم أَنَّك مني على بَال وَإِن لم أرك وترني
واذكرني وادع لي فَإِنِّي سأدعو لَك وأذكرك إِن شَاءَ الله فَانْطَلق أَنْت
هَاهُنَا حَتَّى آخذ أَنا هَاهُنَا فحرصت على أَن أَمْشِي مَعَه سَاعَة فَأبى
عَليّ ففارقته أبْكِي ويبكي وَجعلت أنظر إِلَيْهِ حَتَّى دخل بعض السكَك ثمَّ كنت
أسأَل عَنهُ بعد ذَلِك فَلم أجد مخبرا وَمَا أَتَت عَليّ جُمُعَة إِلَّا ورأيته
فِي مَنَامِي مرّة أَو مرَّتَيْنِ وَأسْندَ ابْن الْجَوْزِيّ بِكِتَاب الصفوة
إِلَى أَسِير بن جَابر أَنه قَالَ كَانَ أويس إِذا حدث
يَقع حَدِيثه
فِي قُلُوبنَا موقعا مَا يَقع حَدِيث غَيره مثله وَأسْندَ أَيْضا عَن الشّعبِيّ
أَنه قَالَ مر رجل من مُرَاد على أويس الْقَرنِي فَقَالَ لَهُ كَيفَ أَصبَحت
قَالَ أَحْمد الله عز وَجل قَالَ كَيفَ الزَّمَان عَلَيْك قَالَ كَيفَ هُوَ على
رجل إِن أصبح ظن أَنه لَا يُمْسِي وَإِن أَمْسَى ظن أَنه لَا يصبح فمبشر
بِالْجنَّةِ أَو بالنَّار يَا أَخا مُرَاد إِن الْمَوْت وَذكره لم يتْرك لمُؤْمِن
فَرحا وَإِن علمه بِحُقُوق الله لم يتْرك لَهُ فضَّة وَلَا ذَهَبا وَإِن قِيَامه
لله بِالْحَقِّ لم يتْرك لَهُ صديقا
وَأسْندَ أَيْضا إِلَى عمر بن
الْأَصْبَغ أَنه قَالَ لم يمْنَع أويسا عَن الْقدوم إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مَا كَانَ من بره بِأُمِّهِ فقد بَان لَك بِمَا ذَكرْنَاهُ
هُنَا صِحَة مَا تقدم من أَنه لم يتَأَخَّر عَن الالتقاء بِالنَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مَا كَانَ من بره بِأُمِّهِ
ثمَّ إِنَّه كَانَ
عَالما غير أَنه كَانَ كَمَا قَالَ لهرم لَا أحب أَن أكون قَاصا وَلَا مُحدثا
وَلَا مفتيا رَغْبَة فِي الخمول وميلا عَن الشُّهْرَة
وَأسْندَ ابْن
الْجَوْزِيّ أَيْضا عَن النَّضر بن إِسْمَاعِيل أَنه قَالَ كَانَ أويس يلتقط
الْكسر من الْمَزَابِل فيغسلها وَيَأْكُل بَعْضهَا وَيتَصَدَّق بِبَعْضِهَا
وَيَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أبرئ إِلَيْك من كل كبد جَائِع وَلما هم بالفراق لهرم
قَالَ لَهُ أوصني قَالَ يَا هرم توسد الْمَوْت إِذا نمت واجعله نصب عَيْنك مَتى
قُمْت وادع الله أَن يصلح قَلْبك ونيتك وَلنْ تعالج شَيْئا أَشد عَلَيْك
مِنْهُمَا بَينا قَلْبك مقبل إِذْ هُوَ مُدبر وَبينا هُوَ مُدبر إِذْ هُوَ مقبل
وَلَا تنظر فِي صغر الْمعْصِيَة وَلَكِن انْظُر إِلَى عَظمَة غضب الله
وَقَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ كَانَ أويس مَشْغُولًا بِالْعبَادَة عَن الرِّوَايَة غير أَنه
قد أرسل الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْفَظُونِي فِي
أَصْحَابِي فَإِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يلعن آخر هَذِه الْأمة أَولهَا وَعند
ذَلِك يَقع المقت على الأَرْض وَأَهْلهَا فَمن أدْرك ذَلِك فليضع سَيْفه على
عَاتِقه ثمَّ ليلق ربه عز وَجل شَهِيدا فَإِن لم يفعل فَلَا يَلُومن إِلَّا
نَفسه
وَكَانَت وَفَاته على الشَّهَادَة يَوْم صفّين فِي أَصْحَاب
عَليّ كرم الله وَجهه فِي
شهور سبع وَثَلَاثِينَ وَقَالَ الْحَافِظ
عبد الْحق فِي مشتبه النِّسْبَة إِنَّه أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قبل وجوده وَشهد مَعَ عَليّ صفّين وَكَانَ من خِيَار النَّاس وَقيل إِنَّه توفّي
فِي زمن عمر وَالْأول أصح بِدَلِيل يَوْم هرم أَنه نعى إِلَيّ رَبِّي عمر
وَمِنْهُم
كَعْب بن ماتع عرف بكعب الْأَحْبَار من حمير نسبا وَفِي الدّين يَهُودِيّا قَالَ
نشوان فِي شمس الْعُلُوم كَانَ من عُلَمَاء التَّابِعين من حمير ثمَّ من آل ذِي
رعين وَهُوَ من المخضرمين بخاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة وضاد مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ
رَاء مخفوضة ثمَّ مِيم بعْدهَا يَاء وَنون قَالَ ابْن خلكان وَقد سمع بِالْحَاء
الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وأصل ذَلِك يُطلق على من أدْرك الْجَاهِلِيَّة
وَالْإِسْلَام ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله فِيمَن أدْرك دولتين خرج كَعْب من الْيمن
يُرِيد الْمَدِينَة ويتحقق أَحْوَال الْإِسْلَام فَقَدمهَا زمن عمر فَعلم صِحَة
الْإِسْلَام بعلامات يعرفهَا وَأسلم ثمَّ خرج إِلَى الشَّام فِي إِسْلَامه خلاف
مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ وهم مِنْهُ إِذْ حدث مَا ذكرته هُنَا من كتب الْحَافِظ
المقبول نقلهم كَأبي نعيم صَاحب الْحِلْية وَابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة
والواقدي مطعون فِي رِوَايَته
وَمِنْهُم مُنَبّه بن كَامِل وَالِد وهب
الْآتِي ذكره صحب معَاذًا وَقد عددته من أَصْحَابه
وَمِنْهُم عبد
الرَّحْمَن بن بزرج كَانَ كَبِير الْقدر شهير الذّكر كَانَ من توفيقه أَيَّام
الْجَاهِلِيَّة أَنه كَانَ يدْخل فِي جمَاعَة من فتيَان صنعاء على ابْنة باذام
رَئِيس الْفرس وَكلهمْ يسْجد لَهَا دونه فَكَانَت تضربه لذَلِك ثمَّ لما جَاءَ
الْإِسْلَام كَانَ من أحْسنهم لَهُ تعرفا وأقرئهم لكتاب الله وأقومهم بحقوقه
وَلَقَد كَانَ أهل صنعاء يعْجبُونَ مِنْهُ وَمن اجْتِهَاده وَأُخْته أم سعيد
ابْنة بزرج الَّتِي كَانَ ينزل عِنْدهَا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَهُوَ
جد قوم بِصَنْعَاء يعْرفُونَ ببني الشيعي قَالَه
الرَّازِيّ مِنْهُم صَاحب الدعْوَة للفاطميين بالمغرب وَأَخُوهُ النُّعْمَان أسلم
وَهُوَ ابْن ثَلَاثِينَ سنة وَعمر طَويلا تسعين سنة فِي الْإِسْلَام سَأَلَهُ عبد
الْملك قَالَ أَيْن كنت يَوْم قتل الْكذَّاب قَالَ احتملت أُمِّي على عنقِي
حَتَّى أدخلتها قصر غمدان مَعَ المتفرجين فَقَالَ عبد الْملك حِينَئِذٍ لرجل
ثمَّ
صَار الْعلم إِلَى طبقَة ثَانِيَة من عُلَمَاء الْيمن
مِنْهُم أَبُو
عبد الرَّحْمَن طَاوُوس بن أبي حنيفَة كيسَان وَقيل ذكْوَان ولقب بطاووس
لِأَنَّهُ كَانَ طَاوُوس قراء وفتيا من أَصْحَاب عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأجْمع
الْحفاظ كَابْن الْجَوْزِيّ والحافظ أبي نعيم والرازي وَغَيرهم أَنه كَانَ
مَسْكَنه الْجند حَتَّى قَالَ بَعضهم الْجند بِفَتْح الْجِيم وَالنُّون من مخاليف
الْيمن مولده فِي خلَافَة أبي بكر
قَالَ الرَّازِيّ سُئِلَ ابْنه عبد
الله مِمَّن أَنْتُم فَإِنَّهُ بلغنَا أَنكُمْ إِلَى هَمدَان فَقَالَ لَا وَلَكِن
إِلَى خولان وَإِنَّمَا تزوج جد طَاوُوس مولاة لآل هَوْذَة الحميريين فسموا
موَالِي لَهُم وَلَيْسوا بموال وَقد أورد جمَاعَة من الْفُضَلَاء من أَخْبَار
طَاوُوس نبذا وَلَكِن عولت من ذَلِك على مَا رَوَاهُ الرَّازِيّ فَإِنَّهُ أخبر
بِأَهْل الْيمن إِذْ هُوَ مِنْهُم مولدا ومنشأ وَقد تقدم ذكره
قَالَ
كَانَ طَاوُوس فَقِيها زاهدا ورعا مُحدثا عابدا ناسكا أدْرك خمسين من أَصْحَاب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَيْثُ صحبهم وَأخذ عَنْهُم مِنْهُم عَليّ
وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر ومعاذ بن جبل وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح وَزيد بن
ثَابت وَأَبُو هرير ومعظم أَخذه عَن الْأَوَّلين قيل لِعبيد الله بن أبي زيد مَعَ
من كنت تدخل على ابْن عَبَّاس فَقَالَ مَعَ عطا والعامة قيل لَهُ فطاووس قَالَ
أيهات كَانَ ذَلِك يدْخل مَعَ الْخَواص وَكَانَ عَمْرو بن دِينَار الْآتِي ذكره
إِذا ذكر عِنْده طَاوُوس يَقُول مَا رَأَيْت مثله
وروى عَنهُ جمَاعَة
من التَّابِعين كمجاهد وَعَطَاء وَعَمْرو بن دِينَار وَابْن الزبير وَابْن
الْمُنْكَدر وَابْن مُنَبّه وَالزهْرِيّ مَعَ جمع غَيرهم لَا يُحصونَ كَثْرَة
وَمن
رِوَايَته المستحسنة مَا قَالَه الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنهُ أَنه كَانَ
يَقُول سَمِعت جَابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل وَأَبا عُبَيْدَة بن الْجراح
يَقُولُونَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن يخرج الرجل من بَيته
صَلَاة الْغَدَاة فيجلس فِي مَجْلِسه يعلم الغلمان السكينَة وَالْوَقار وَحسن
الْأَدَب أحب إِلَى الله من أَن يعبده مئتي خريف لَا يسْخط الله عَلَيْهِ وَعرضت
هَذَا الْخَبَر على بعض الْفُقَهَاء فَقَالَ لي انْظُر إِلَى أدب النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْخَبَر كَيفَ لم ينْسب إِلَى الْمعلم غير
تَعْلِيم السكينَة وَالْوَقار وَحسن الْأَدَب تأدبا مَعَ الله إِذْ قَالَ الله
{الرَّحْمَن علم الْقُرْآن} قَامَ طَاوُوس بِقَضَاء مخلافي الْجند وَصَنْعَاء
وَكَانَ يخْتَلف بَينهمَا وَله فِي صنعاء مَسْجِد يعرف بِهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ
يُقيم بِهِ أَيَّام لبثه بِصَنْعَاء وَلذَلِك يتَوَهَّم جمَاعَة أَن بَلَده صنعاء
وَكَانَ ابْن عَبَّاس إِذا سُئِلَ عَنهُ قَالَ ذَلِك عَالم الْيمن
وَكَانَ
وُلَاة الْيمن يعولون فِي أُمُورهم الدِّينِيَّة على قَوْله وَذَلِكَ عَن وصاة من
مواليهم غَالِبا فَإِنَّهُ قد كَانَ شهرفي الْبَلَد أَنه إِمَام وقته وفقيه مصره
وَكَانَ مَتى قيل لَهُ
أمؤمن أَنْت يَقُول آمَنت بِاللَّه
وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا يزِيد وَكَانَ يَقُول اجتنبوا القَوْل فِي
الْقدر فَإِن الْمُتَكَلِّمين فِيهِ لَا بُد من بَيَان مَا يَقُولَانِ بِمَا
يتكلمان بِغَيْر علم
خرج ذَات يَوْم من مَدِينَة الْجند يُرِيد أَرضًا
لَهُ فَمشى مَعَه رجل يُرِيد الْبركَة فنعق غراب فَقَالَ الرجل على طَرِيق
الْعَادة والزجر خير خير فَغَضب طَاوُوس وَقَالَ أَي خير عِنْد هَذَا أَو شَرّ
يَا جَاهِل لَا تصحبني وَلَا تسر معي
وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة
الصفوة أَنه صلى الْغَدَاة بِوضُوء الْعشَاء أَرْبَعِينَ سنة وَقَالَ لَقِي
عِيسَى ابْن مَرْيَم إِبْلِيس فَقَالَ يَا عِيسَى أما تعلم أَنه لن يصيبك إِلَّا
مَا قد قدر عَلَيْك قَالَ نعم قَالَ ارق ذرْوَة هَذَا الْجَبَل فَترد مِنْهُ ثمَّ
انْظُر هَل تعيش أم لَا فَقَالَ عِيسَى أوما علمت أَن الله تَعَالَى يَقُول لَا
يجربني عَبدِي فَإِنِّي أفعل مَا أَشَاء وَكَانَ يَقُول من السّنة أَن يوقر
أَرْبَعَة الْوَالِد والعالم وَذُو شيبَة وَالسُّلْطَان
وَكَانَ يكره
الْبَقَاء على الْقُبُور والتغوط عِنْدهَا وَيَقُول لَا تَتَّخِذُوا قُبُور
إخْوَانكُمْ حشانا قلت الحشان جمع حش كحش وحشان وَقَالَ معنى قَوْله تَعَالَى
{يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَة} التثبيت فِي الدُّنْيَا لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي الْآخِرَة عِنْد
المساءلة فِي الْقَبْر وَقَالَ أهل الْجنَّة ينْكحُونَ وَلَا يمنون لَيْسَ بهَا
مني
وَقَالَ أعطي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجِمَاع
قُوَّة خَمْسَة وَأَرْبَعين وَقَالَ لعطاء بن أبي رَبَاح يَا عَطاء لَا تتركن
حَاجَتك لمن يغلق دُونك أبوابه وَيجْعَل عَلَيْهَا حجابه وَلَكِن أنزلهَا بِمن
بَابه لَك مَفْتُوح إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَمرك أَن تَدْعُو لَهُ بدعوة ضمن
لَك أَن يستجيب لَك
وَذكر ابْنه عبد الله وَهُوَ أحد أَئِمَّة الْيمن
أَيْضا أَن أَبَاهُ تصدق بأرضه أَو بِبَعْضِهَا على فُقَرَاء أَهله وَإِن لم يكن
فيهم فَقير فعلى الْمَسَاكِين من غَيرهم ثمَّ شكّ فِي حسن ذَلِك فَاجْتمع بِحجر
المدري وَكَانَ عَالما من أَصْحَاب عَليّ كرم الله وَجهه وَسَيَأْتِي ذكره
وَسَأَلَهُ فَقَالَ فعلت حسنا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن
تصرف صدقته على فُقَرَاء أَهله وَقَالَ كَانَ أبي إِذا سُئِلَ عَن صَحَابِيّ أورد
من فَضله حَتَّى يَقُول سامعه هَذَا لَا يعرف إِلَّا هَذَا
وَله
مسانيد ومراسيل فَمن مراسيله قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ
وَالْخُرُوج بعد هدأة اللَّيْل فَإِن لله دوابا يبثها فِي الأَرْض تفعل مَا تُؤمر
فَإِذا سمع أحدكُم نهاق الْحمير أَو نباح الْكلاب فليستعذ بِاللَّه من
الشَّيْطَان الرَّجِيم فَإِنَّهُم يرَوْنَ مَا لَا ترَوْنَ
وَمِنْهَا
إِذا ذكر
أَصْحَابِي فأمسكوا وَإِذا ذكر الْقدر فأمسكوا وَإِذا ذكر
النُّجُوم فأمسكوا وَمِنْهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ لدي مثل
أحد ذَهَبا لأحببت أَن لَا تمر بِي ثَلَاث وَعِنْدِي مِنْهُ إِلَّا مَا أرصده
لدين
وَمِنْهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّحِم شُعْبَة من
الرحمان تَجِيء يَوْم الْقِيَامَة تَتَكَلَّم بِلِسَان طلق فَمن أشارت إِلَيْهِ
بوصل وَصله الله وَمن أشارت إِلَيْهِ بِقطع قطعه الله
وَقَالَ كَانَ
ابْن عَبَّاس مَتى سُئِلَ عَن رجل طلق امْرَأَته ثَلَاثًا يَقُول لَو اتَّقى
فَاعل ذَلِك لَكَانَ جعل الله لَهُ مخرجا
قَالَ وَسُئِلَ أَيْضا عَن
إتْيَان الْمَرْأَة من الدبر فَقَالَ هَذَا سُؤال عَن الْكفْر وَكَانَ مُعظما فِي
أهل زَمَانه
حكى أَنه اجْتمع بِمَكَّة بِجَمَاعَة من الْعلمَاء كالحسن
الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن دِينَار وَمَكْحُول الشَّامي وَسليمَان بن مُحَمَّد
الضَّحَّاك وَكَانُوا حِينَئِذٍ بِمَسْجِد الْخيف بمنى فتذاكروا الْقدر حَتَّى
ارْتَفَعت أَصْوَاتهم وَكثر لغطهم فَقَالَ طَاوُوس وَكَانَ فيهم رَضِيا وَقَالَ
أَنْصتُوا أخْبركُم مَا سَمِعت فأنصتوا فَقَالَ سَمِعت أَبَا الدَّرْدَاء يخبر
عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله افْترض عَلَيْكُم
فَرَائض فَلَا تضيعوها وحد لكم حدودا فَلَا تعتدوها ونهاكم عَن أَشْيَاء فَلَا
تنتهكوها وَسكت عَن أَشْيَاء من غير نِسْيَان فَلَا تتكلفوها رَحْمَة بكم من
ربكُم فاقبلوها تَقول مَا قَالَ رَبنَا عز وَجل وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْأُمُور كلهَا بيد الله وَمن عِنْد الله مصدرها وَإِلَيْهِ مرجعها لَيْسَ
للْعَبد فِيهَا تَفْوِيض وَلَا مَشِيئَة فَقَامَ الْقَوْم وهم راضون
بِكَلَامِهِ
وَقعد إِلَيْهِ أَيُّوب بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك
وَأَبوهُ إِذْ ذَاك خَليفَة فَلم يحتفل بِهِ بل قَامَ نافرا فَقيل لَهُ جلس
إِلَيْك ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلم تلْتَفت إِلَيْهِ فَقَالَ أردْت أَن
أعلمهُ أَن لله عبادا يزهدون بِهِ وبأبيه وَبِمَا فِي أَيْديهم
وَكَانَ
من أَشد النَّاس ورعا وتنزها عَن مَا فِي أَيدي الْمُلُوك وَغَيرهم
وَكَانَ
يكره الْأُمَرَاء ويحذر صحبتهم وَلَا يرى بِجَوَاز الصَّلَاة خَلفهم وَلَا يقبل
لَهُم عَطاء وَلَا
يشرب من الْمِيَاه الَّتِي أحدثتها الْمُلُوك
بِمَكَّة وطرقاتها حَتَّى أَن بغلته هوت للشُّرْب من بَعْضهَا فَمنعهَا وكبحها
باللجام
وَقد أورد الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء والرازي قصَّة
عَجِيبَة لَهُ مَعَ هِشَام بن عبد الْملك شهرتها تغني عَن ذكرهَا وَقَالَ فِي صفة
الصفوة دخل طَاوُوس ووهب على مُحَمَّد بن يُوسُف أخي الْحجَّاج وَهُوَ إِذْ ذَاك
أَمِير أَمِير الْمُؤمنِينَ فأجل طاووسا وبجله وَأَقْعَدَهُ على كرْسِي ثمَّ
قَالَ يَا غُلَام هَلُمَّ بالطيلسان فألقه على أبي عبد الرَّحْمَن فجَاء بِهِ
فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ فَجعل يُحَرك كَتفيهِ حَتَّى أَلْقَاهُ فَتبين الْغَضَب فِي
وَجه الْأَمِير ثمَّ لما خرجا قَالَ لَهُ وهب وَالله إِن كنت لغنيا أَن تغضبه
علينا لَو أخذت الطليسان فَبِعْته وَأعْطيت ثمنه الْمَسَاكِين فَقَالَ نعم
لَوْلَا أَخَاف أَن يُقَال من بعدِي أَخذه طَاوُوس فَلَا يصنع فِيهِ مَا أصنع
لفَعَلت
وَأمر لَهُ مُحَمَّد أَيْضا بِشَيْء من المَال وَقَالَ للرسول
إِن أَخذه مِنْك فلك مني كَذَا فَلَمَّا وصل الرَّسُول إِلَيْهِ قَالَ يَا أَبَا
عبد الرَّحْمَن إِن الْأَمِير قد وصلك بِمَال وخصك بجعلة من وَجه حَلَال فَقَالَ
لَا حَاجَة لي بِهِ أعده إِلَيْهِ
فغافله الرجل ثمَّ تَركه بكوة فِي
الْبَيْت من غير علم مِنْهُ وَلَا من غَيره ثمَّ عَاد الرَّسُول فَأخْبر
الْأَمِير أَن المَال صَار إِلَى طَاوُوس فَأعْطَاهُ مَا شَرط
ثمَّ
بعد ذَلِك بِمدَّة بلغ الْأَمِير أَن طَاوُوس تكلم فِي حَقه كلَاما غير مرضِي
فَغَاظَهُ ذَلِك فَطلب الرَّسُول الَّذِي بَعثه بِالْمَالِ وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى
طَاوُوس واطلب مِنْهُ المَال الَّذِي بَعَثْتُك بِهِ إِلَيْهِ فوصل إِلَيْهِ
وَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا علم لي أَيْن تركته قَالَ بِهَذِهِ الكوة
قَالَ
انْظُر بهَا فَنظر وَإِذا بالعنكبوت قد بنت عَلَيْهِ
لم يشْعر بِهِ
أحد فَأَخذه وَأَعَادَهُ للأمير
وَكَانَ إِذا صلى الْعَصْر مَعَ
أَصْحَابه استقبلوا جَمِيعًا الْقبْلَة وابتهلوا بِالدُّعَاءِ وَالذكر وَلم
يكلموا أحدا
وَدخل يَوْمًا على مَرِيض يعودهُ فَقَالَ لَهُ الْمَرِيض
ادْع لي قَالَ ادْع أَنْت لنَفسك فَإِنَّهُ يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ
وَقَالَ
إِن الْمَوْتَى يلبثُونَ فِي قُبُورهم سبعا وَلذَلِك كَانُوا يستحبون أَن يطعم
عَن الْمَيِّت تِلْكَ الْأَيَّام وَكَانَ كثير الْحَج حَتَّى كَانَ يُقَال إِنَّه
حج أَرْبَعِينَ سنة
وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة يَوْم التَّرويَة عقب
خُرُوجه من عِنْد هِشَام سنة سِتّ ومئة وَحضر هِشَام جنَازَته وَالصَّلَاة
عَلَيْهِ وَلما حَضرته الْوَفَاة أوصى إِلَى ابْنه فَقَالَ مَتى وَضَعتنِي فِي
اللَّحْد ونصبت عَليّ اللَّبن وَلم يبْق غير يسير انظرني فَإِن وجدتني فَإنَّا
لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَإِن لم تجدني فاحمد الله
فَفعل
ابْنه ذَلِك فَلم يعرف الْحَال إِلَّا بتهلل وَجهه وَبلغ عمره بضعا وَتِسْعين
سنة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله وهب بن مُنَبّه بن كَامِل بن سنسخ
بسينين مهملتين مفتوحتين بَينهمَا نون سَاكِنة ثمَّ خاء مُعْجمَة بعد السِّين
الْآخِرَة وَمَعْنَاهُ بلغَة الْفرس الأسوارى أَي الْأَمِير كالبطريق عِنْد
الرّوم والقيل عِنْد الْعَرَب وَقد ذكر الرَّازِيّ نسبه إِلَى مُلُوك الْفرس
الْمُتَقَدِّمين
ثمَّ قَالَ هُوَ أحد أَبنَاء الْفرس الَّذين قدمُوا
مَعَ سيف بن ذِي يزن وَكَانَ جده أحد الأكاسرة وَأما أَبوهُ فَهُوَ من أَصْحَاب
معَاذ وَقد ذكرته وَكَانَت أمه من ذِي الْخَلِيل الْحِمْيَرِي وَكَانَت تَقول
كلَاما بالحميرية مَعْنَاهُ رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي ولدت ابْنا من ذهب
فأوله أَبوهُ وعبره أَنَّهَا تَلد ولدا عَظِيم الشَّأْن ومولده ومنشأه صنعاء وَقد
نسب إِلَى ذمار وَهُوَ خطأ وميلاده سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَقيل سنة ثَلَاثِينَ
وَأورد الرَّازِيّ فِي كِتَابه بِسَنَدِهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اضْطجع ذَات يَوْم بحجرة عَائِشَة فمرت بِهِ سَحَابَة فَقَالَ يَا عَائِشَة
أَتَدْرِينَ أَيْن تُرِيدُ هَذِه السحابة فَقَالَ الله وَرَسُوله أعلم
قَالَ
موضعا بِالْيمن يُقَال لَهُ صنعاء يكون فِيهِ وهب يهب الله لَهُ الْحِكْمَة
وَفِي
رِوَايَة يؤتيه الله
الْحِكْمَة وَفِي أُخْرَى ثلث الْحِكْمَة
قَالَ
الرَّازِيّ وروى عبَادَة بن الصَّامِت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ
يكون فِي أمتِي رجلَانِ يُقَال لأَحَدهمَا وهب يهب الله لَهُ الْحِكْمَة وَالْآخر
غيلَان فتْنَة على أمتِي أَشد من فتْنَة الشَّيْطَان فَكَانَ غيلَان أول من تكلم
بِالْقدرِ
وَكَانَ وهب فَقِيها فصيحا مصقعا بليغا فِي الخطابة
والفصاحة وَالْمَوْعِظَة لَا يُبَارى وَلَا يجارى لَقِي عشرَة من أَصْحَاب رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأخذ عَن جَابر
والنعمان الأنصاريين وَأبي هُرَيْرَة وَأخذ عَن طَاوُوس وَمُحَمّد بن
الْحَنَفِيَّة وَعبد الله بن الزبير وغالب أَخذه عَن ابْن عَبَّاس وَكَانَ يَقُول
صَحِبت ابْن عَبَّاس قبل أَن يصاب ببصره ثَلَاث عشرَة سنة وَبعد أَن أُصِيب بِهِ
وَإِنِّي مَعَه ذَات يَوْم بِمَكَّة إِذْ قَالَ لي يَا ابْن مُنَبّه قدني إِلَى
مجْلِس المراء كَانَ قوم يَجْلِسُونَ بَين بَاب بني جمح إِلَى الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ يَتَكَلَّمُونَ بالجبر وَالْقدر فقدته إِلَيْهِم فَلَمَّا وقف عَلَيْهِم
سلم فَردُّوا عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ قَالُوا أَلا تجْلِس رَحِمك الله فَقَالَ
وَالله مَا أَنا بجالس إِلَيْكُم أما تعلمُونَ أَن لله عبادا أسكتتهم خشيَة الله
من غير عي وَأَنَّهُمْ لَهُم الفصحاء واللطفاء والنجباء الْأَوْلِيَاء إِذا
ذكرُوا عَظمَة الله طاشت عُقُولهمْ وَإِذا أشفقوا بِمَا دروا إِلَى الله
الْأَعْمَال الزاكية ثمَّ سكت فَقلت لَهُم إِنِّي قَرَأت شَيْئا من السّنة لعد
كتب من كتب الله الَّتِي أنزلهَا الله على أنبيائه من السَّمَاء اثْنَيْنِ
وَتِسْعين كتابا مِنْهَا اثْنَان وَسَبْعُونَ من الْكَنَائِس وَعِشْرُونَ فِي
أَيدي النَّاس لَا يعلمهَا إِلَّا الْقَلِيل وَوجدت فِي جَمِيعهَا أَن من أضَاف
إِلَى نَفسه شَيْئا من الْمَشِيئَة
فقد كفر وَلَقَد شاركت النَّاس فِي
علمهمْ وَعلمت كثيرا مِمَّا لم يعلمُوا وَوجدت أعلم النَّاس بِهَذَا الْأَمر
الَّذِي تمترون بِهِ أسكتهم عَنهُ وَرَأَيْت أجهلهم بِهِ أنطقهم وَوجدت النَّاظر
فِيهِ كالناظر فِي شُعَاع الشَّمْس كلما ازْدَادَ فِيهَا تأملا ازْدَادَ فِيهَا
تحيرا وَكَانَ النَّاس إِذْ ذَاك قد أفاضوا فِي ذكر الْقدر وَقد قَرَأت كتب عبد
الله بن سَلام وَكتب كَعْب الْأَحْبَار وقرأت التَّوْرَاة فَوجدت فِيهَا أَنا
الله خَالق الْخَيْر ومقدره وطوبى لمن قدرته على يَدَيْهِ وَأَنا خَالق الشَّرّ
ومقدره فويل لمن قدرته على يَدَيْهِ من خلقي وقرأت الْإِنْجِيل فَوَجَدته كَذَلِك
حج سنة مئة وَحج فِيهَا جمع من الْعلمَاء فيهم الْحسن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء بن
أبي رَبَاح وَغَيرهمَا فَاجْتمعُوا جَمِيعًا إِلَى مَوضِع بِالْحرم وتذاكروا
الْعلم ثمَّ أَرَادوا ذكر الْقدر فَقطع عَلَيْهِم وهب الْكَلَام واستفتح فِي ذكر
الْحَمد وَالثنَاء وَلم يزل متكلما بذلك حَتَّى طلع الْفجْر وافترقوا وَلم يخوضوا
فِي شَيْء
وَحج مرّة فَلَمَّا صَار بِمَكَّة وَقد اجْتمع فِي الحجيج
جمَاعَة من الْعلمَاء فَصنعَ لَهُم عَطاء بن أبي رَبَاح طَعَاما فِي منزله ودعاهم
إِلَيْهِ فَلَمَّا أَمْسوا وَكَانَ فيهم الْحسن أَيْضا وَعِكْرِمَة مولى ابْن
عَبَّاس فَتكلم الْحسن وَغَيره فِي وصف الله وعظمته وجلاله ثمَّ قَالَ لوهب تكلم
فَأخذ يتَكَلَّم فِي تَعْظِيم الرب وتنزيهه ثمَّ لم يزل كَذَلِك حَتَّى قَامُوا
لصَلَاة الصُّبْح وَلم يحل وهب حبوته فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَة يَا أَبَا عبد الله
كَانَ لنا فِي أَنْفُسنَا قدر فصغرته عندنَا وَجَاء رجل فَقَالَ إِنِّي سَمِعت
فلَانا يشتمك فَغَضب وَقَالَ مَا وجد الشَّيْطَان إِلَيّ رَسُولا غَيْرك
ثمَّ
إِن الرجل الْمَنْقُول عَنهُ أَتَى عقب ذَلِك وَسلم عَلَيْهِ وأكرمه وَمد يَده
وَصَافحهُ وَأَجْلسهُ إِلَى جنبه وَقَالَ الْإِيمَان عُرْيَان لِبَاسه التَّقْوَى
وزينته الحيا وجماله الْفِقْه
وَكَانَ يؤم النَّاس بِقِيَام رَمَضَان
ويوتر بهم فَإِذا رفع رَأسه قنت فَيَقُول اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد
الدَّائِم السرمد حمدا لَا يُحْصِيه الْعدَد وَلَا يقطعهُ الْأَبَد كَمَا
يَنْبَغِي لَك أَن تحمد وكما أَنْت لَهُ أهل وكما هُوَ لَك علينا ثمَّ يرفع
النَّاس أَصْوَاتهم بِالدُّعَاءِ فَلَا يسمع مَا يَقُول وَكَانَ يرفع يَدَيْهِ
حِين التَّكْبِير للرُّكُوع وَحين الرّفْع مِنْهُ وَلَا يفعل ذَلِك فِي
السُّجُود
وَكَانَ الْقُرَّاء من أهل صنعاء إِنَّمَا يقرأون عَلَيْهِ وَكَانُوا حِين
يَنْصَرِفُونَ عَن الْجَامِع بعد عصر الْجُمُعَة يقصدونه إِلَى دَاره وَهِي
بِالْقربِ من الْجَامِع وَكَانَ الْخُشُوع عَلَيْهِم ظَاهرا وَأثر السُّجُود فِي
وُجُوههم فَإِذا أَتَوا دَاره وجدوه قَاعِدا فيسلمون عَلَيْهِ ويقعدون إِلَى
جنبه
وَلما وصل كتاب الْحجَّاج إِلَى أَخِيه يَأْمُرهُ فِيهِ أَن
يقْرَأ الْعلم على أعلم من يجده فِي صنعاء سَأَلَ عَن ذَلِك فَقيل لَهُ وهب
فَأرْسل إِلَيْهِ فَلَمَّا أَتَاهُ أعلمهُ بِكِتَاب أَخِيه ثمَّ شرع يقْرَأ
عَلَيْهِ وَقَالَ افْتقدَ النَّاس بِالْمَوْعِظَةِ وخوفهم سطوة الله ونقمته
فَكَانَ يفعل ذَلِك ثمَّ إِن مُحَمَّد بن يُوسُف أشرك مَعَه عبد الرَّحْمَن بن
يزِيد فَكَانَا يتعاقبان ذَلِك من وعظ صباحا أعقبه الآخر عشَاء ثمَّ إِن وهب
استعفى من ذَلِك فأعفي
وَكَانَ مَعَ علمه عابدا يُقَال أَقَامَ
أَرْبَعِينَ سنة أَو عشْرين يُصَلِّي الصُّبْح بِوضُوء الْعشَاء وَلَقي عَطاء
الْخُرَاسَانِي فَقَالَ يَا عَطاء أخْبرت عَنْك أَنَّك تحمل علمك إِلَى أَبْوَاب
الْمُلُوك وَأَبْنَاء الدُّنْيَا وَيحك يَا عَطاء تَأتي بَاب من يغلق عَنْك بَابه
وَيظْهر لَك فقره ويواري عَنْك غناهُ وَتَدَع من يفتح لَك بَابه وَيظْهر لَك
غناهُ وَيَقُول ادعني استجب لَك وَيحك يَا عَطاء أَرض بالدون من الدُّنْيَا مَعَ
الْحِكْمَة وَلَا ترض بالدون من الْحِكْمَة مَعَ الدُّنْيَا وَيحك يَا عَطاء إِن
كَانَ يُغْنِيك مَا يَكْفِيك فَإِن أدنى مَا فِي الدُّنْيَا يَكْفِيك وَيحك يَا
عَطاء إِنَّمَا بَطْنك بَحر من البحور وواد من الأودية وَلَيْسَ يملأه إِلَّا
التُّرَاب
وَقَالَ إِن فِي الألواح الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى
وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شَيْء يَا مُوسَى اعبدني وَلَا تشرك معي شَيْئا من
أهل السَّمَاء وَلَا من أهل الأَرْض فَإِنَّهُم خلقي كلهم وَإِنِّي إِذا أشركت
بِي غضِبت وَإِذا غضِبت لعنت واللعنة مني تدْرك الْوَلَد الرَّابِع وَإِذا
أَطَعْت رضيت وَإِذا رضيت باركت وَالْبركَة تدْرك الْأمة بعد الْأمة وَقَالَ
الصَّدَقَة تدفع ميتَة السوء وتزيد فِي الْعُمر وتزيد فِي المَال وَذكر أهل
النُّجُوم يَوْمًا وَقَالَ إِن
ضلالتهم لقديمة أوحى الله إِلَى نَبِي
اسْمه شُعَيْب كَانَ قومه يتعاطون معرفَة النُّجُوم وَإِدْرَاك المغيبات مر
قَوْمك فيسألوا كهانهم وَأهل النُّجُوم فيهم عَن أَمر أُرِيد إحداثه فليخبروني
مَا هُوَ فَسَأَلَهُمْ شُعَيْب عَن ذَلِك فَلم يأتوه بِعلم فَقَالَ يَا رب أَنْت
أعلم أَنهم لم يهتدوا إِلَى مَا أَمرتنِي بِهِ فَتصدق عَليّ بتعريفه فَقَالَ
إِنِّي أُرِيد أَن أَحول الْملك فِي الأذلاء وَالْحكمَة فِي أهل الْجفَاء وأحول
الأحلام فِي الْفَدادِين وأبعث أعمى فِي عُمْيَان وَأُمِّيًّا فِي أُمِّيين
وَأنزل عَلَيْهِ السكينَة وأؤيده بالحكمة بِحَيْثُ لَو يمر سراج لم يطفئه أَو على
قصب الرعراع لم يسمع لَهُ صَوت وَقَالَ الْإِيمَان قَائِد وَالْعَمَل سائق
وَالنَّفس بَينهمَا حرون فَإِذا قاد الْقَائِد وَلم يسق السَّائِق اتبعته النَّفس
طَوْعًا وَكرها وطاب الْعَمَل وَسُئِلَ عَمَّا يَقُول بعد الطَّعَام فَقَالَ
الْحَمد لله الَّذِي أكرمنا وحملنا فِي الْبر وَالْبَحْر ورزقنا من الطَّيِّبَات
وفضلنا على كثير مِمَّن خلق تَفْضِيلًا وَقَالَ مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة من لم
يدار عيشه مَاتَ قبل أَجله وَقَالَ فِي التَّوْرَاة الْأَعْمَى ميت وَالْفَقِير
ميت واستشاره رجل فِي رجلَيْنِ خطبا ابْنَته وَقَالَ إِن أَحدهمَا من الموَالِي
وَهُوَ ذُو مَال وَالْآخر من هَمدَان لكنه فَقير فَقَالَ لَهُ وهب زوج
الْهَمدَانِي فَإِن الْأَمْوَال عوار تذْهب وتجيء والأحساب لَا تذْهب فَانْطَلق
الرجل وأزوج الْهَمدَانِي وَكَانَ يَقُول فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا قَلِيل
مِنْهُم} مَا كَانَ أقل من الْعشْرَة فَهُوَ قَلِيل وَكَانَ إِذا دخل مَكَّة
أَيَّام ابْن الزبير يُكرمهُ ويبجله ويجله وَإِذا دخل عَلَيْهِ فِي مَجْلِسه
قَامَ لَهُ وَأَجْلسهُ مَعَه على سَرِيره لَا يفعل ذَلِك لأحد غَيره حَتَّى كَانَ
رُؤَسَاء قُرَيْش وَمن يحضرهُ يحسدونه على ذَلِك ثمَّ إِن بعض أَعْيَان قُرَيْش
طمح بتخجيل وهب بِأَن يكلمهُ بِشَيْء فِي مجْلِس ابْن الزبير لَا يُطيق الْجَواب
عَنهُ فَقَالَ لَهُ أَيْن أمكُم وَكَانَ وهب لَا لحية لَهُ وَمعنى السُّؤَال
إِنَّمَا أَنْت شَبيه بِالنسَاء فتساءل عَمَّا يسْأَل عَنهُ النِّسَاء
فَأَجَابَهُ وهب مسرعا أمنا هَاجَرت وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين
وَلَكِن أخبرنَا أَيْن أمكُم فَسكت الْقرشِي فَقَالَ قل فِي جيدها حَبل من مسد
فَقَالَ ابْن الزبير للقرشي هَذَا وهب بن مُنَبّه سيد
قومه مَا كَانَ
لَك بِكَلَامِهِ من حَاجَة
وامتحن وهب بِالْقضَاءِ فَكَانَ أَصْحَابه
يَقُولُونَ لَهُ كنت تخبرنا أَبَا عبد الله بالرؤيا ترَاهَا فَلَا تلبث أَن تكون
كَمَا أخبرتنا وَلم نجدك الْيَوْم كَذَلِك فَقَالَ وهب ذهب عني ذَلِك مُنْذُ وليت
الْقَضَاء وَكَانَ نقش خَاتمه أصمت تسلم وَأحسن تغنم
وَأما حكاياته
فكثيرة لَا تكَاد تحصى وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء سنة عشر وَقيل أَربع عشرَة
ومئة وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة وَله ولدان ذكرهمَا الرَّازِيّ يرويان عَنهُ
وَعَن غَيره وهما عبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَقَالَ الرَّازِيّ وجدت بِخَط
القَاضِي هِشَام بن يُوسُف حَدثنَا عبد الرحمن بن وهب بن مُنَبّه عَن ابيه قَالَ
كتب عمر بن عبد الْعَزِيز فِي رجل من أهل صنعاء بلغه أَنه انْتَفَى من وَلَده أَن
يلْحق بِهِ وَأَن يسجن حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يُخرجهُ يَعْنِي الْوَلَد وَأَن
يذكر بِهِ فِي الاشتهار وَكتب أَيْضا فِي رجل قتل عبدا أَن يغرم ثمنه ويسجن فَلَا
يُرْسل حَتَّى يَأْمر بِإِطْلَاقِهِ وَأَن يذكر بِهِ قلت كَأَنَّهُ يُشِير فِي
الأولى أَن يكنى بِالْوَلَدِ الَّذِي انْتَفَى مِنْهُ وَالثَّانيَِة يُسمى
بِقَاتِل العَبْد وَنَحْوه وَالله أعلم قَالَ وَكتب أَيْضا فِي رجل أغار مَعَ قوم
فَقتلُوا رجلا وعقروا دوابا أَن يضمن الْحَدِيد حَتَّى يحكم الله فِيهِ وَأَن
يقْضِي مِنْهُ أَمْوَالهم أَثمَان مَا أَصَابُوا من عقر تِلْكَ الدَّوَابّ
وَأما
رِوَايَة عبد الله فَإِنَّهُ قَالَ سَافَرت إِلَى مَكَّة أول حجَّة حججتها
فَأمرنِي أبي بِالْمُتْعَةِ فَلَمَّا قدمت مَكَّة اجْتمعت بعطاء بن أبي رَبَاح
فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ أصَاب أَبوك وَرِوَايَته عَن أبي خَليفَة وَمَعْقِل
أغزرهم حَدِيثا سَيَأْتِي مَعَ ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ لَهُ
ثَلَاثَة إخْوَة هم همام ثمَّ معقل ثمَّ غيلَان الْمَعْدُودين فِي رُوَاة
الصَّحِيحَيْنِ
همام كنيته أَبُو قدامَة وَكَانَ يُقَال إِنَّه أكبر
من وهب صحب الزُّهْرِيّ وَله عَنهُ رِوَايَات جمة مِنْهَا قَالَ سَمِعت أَبَا
هُرَيْرَة يَقُول لَيْسَ أحد أَكثر حَدِيثا مني عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم غير ابْن عمر لِأَنَّهُ كَانَ يكْتب وَأَنا لَا أكتب وَذكر عَنهُ القَاضِي
هِشَام بن يُوسُف الْآتِي ذكره قَالَ حَدثنَا معقل بن همام بن مُنَبّه قَالَ
كَانَت حجرات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مطلات على مَسْجده فَبينا عمر
أَيَّام خِلَافَته فِي الْمَسْجِد إِذْ دخل أَعْرَابِي وَالنَّاس حول عمر
وَحَفْصَة أم الْمُؤمنِينَ تنظر من حُجْرَتهَا من وَرَاء ستر فرأت الْأَعرَابِي
قد عمد إِلَى الْحلقَة وَسلم على عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بإمرة الْمُؤمنِينَ
وَذَلِكَ لما رأى من تميزه بالبزة على سَائِر من حضر فَقَالَ لَهُ ابْن عَوْف
هَذَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَشَارَ إِلَى عمر ثمَّ كَانَ من الْعَادة أَن عمر
إِذا صلى الْعشَاء وَأَرَادَ الِانْصِرَاف إِلَى بَيته يمر بِأَبْوَاب أُمَّهَات
الْمُؤمنِينَ وَيسلم عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا مر تِلْكَ اللَّيْلَة بِبَاب حَفْصَة
ابْنَته وَسلم قَالَت يَا أَبَت رَأَيْت أَن أذكر لَك شَيْئا فَلَا تضعه إِلَّا
على النصح قَالَ وَمَا ذَاك يَا بنية قَالَت رَأَيْت أَعْرَابِيًا دخل الْمَسْجِد
وَشهر ابْن عَوْف بِالسَّلَامِ وَإِنِّي رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يلبس أحسن مَا يقدر عَلَيْهِ وَإِن الله قد فتح عَلَيْك فَإِن
رَأَيْت أَن تلبس لباسا حسنا فَإِنَّهُ أبهى لَك فَقَالَ يَا بنية مَا فِي قَوْلك
بَأْس وَلَكِن كنت أَنا وصاحباي على طَرِيق ووعدتهما الْمنزل وأخشى إِن سلكت غير
طريقهما أَن لَا أوافي منزلهما
وَكَانَ قوم من أهل صنعاء لَهُم أَرض
فِي الْبَادِيَة يزدرعونها ثمَّ إِنَّهُم انتقلوا عَن صنعاء ميلًا إِلَى خفَّة
المؤونة فِي الْبَادِيَة فَبلغ معقلا ذَلِك فكرهه ثمَّ إِنَّهُم مروا بِهِ
يَوْمًا وَهُوَ على بَاب دَاره قَاعِدا فناداهم فَأتوهُ فَقَالَ سكنتم
الْبَادِيَة فَقَالُوا نعم يَا أَبَا قدامَة قَالَ قُلْتُمْ لبيتنا وماشيتنا
وحطبنا وَمَا نحتاج عَلَيْهِ سهلا قَالُوا نعم قَالَ لَا تَفعلُوا لَا تدعوا
الْقَرار فَإِنِّي سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يخبر عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سكن الْقَرار سَاق الله إِلَيْهِ رزق الْقَرار وَمن
سكن الْبَادِيَة سَاق الله إِلَيْهِ رزق الْبَادِيَة
وَقَالَ لقِيت
ابْن عمر فَسَأَلته عَن النَّبِيذ قلت يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن هَذَا الشَّرَاب
مَا تَقول فِيهِ قَالَ كل مُسكر حرَام قلت فَإِن شربت الْخمر فَلم أسكر قَالَ
أُفٍّ أُفٍّ مَا بَال الْخمر وَغَضب فتركته حَتَّى انبسط وأسفر وَجهه وَحدث من
كَانَ حوله ثمَّ قلت لَهُ يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن إِنَّك بَقِيَّة من قد عرفت
وَقد يَأْتِي الرَّاكِب فيسألك عَن الشَّيْء وَيَأْخُذ من
قبلك
بِتِلْكَ الْكَلِمَة يضْرب بهَا فِي الْآفَاق يَقُول قَالَ ابْن عمر كَذَا
وَكَذَا فَقَالَ أعراقي أَنْت قلت لَا قَالَ فَمِمَّنْ قلت من الْيمن قَالَ أما
الْخمر فَحَرَام لَا سَبِيل إِلَيْهَا وَأما مَا سواهَا من الْأَشْرِبَة فَكل
مُسكر حرَام
وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء أَيْضا سنة اثْنَتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ ومئة وَهُوَ آخر إخْوَته موتا إِذْ أَوَّلهمْ وهب ثمَّ معقل ثمَّ
غيلَان
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَطاء بن أبي رَبَاح ضَبطه بِفَتْح
الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف وحاء مُهْملَة واسْمه طَاهِر من موَالِي
بني جمح مولده بالجند سنة سبع وَعشْرين وَنَشَأ بِمَكَّة وتفقه بهَا قَالَ ابْن
جريج كَانَ الْمَسْجِد لعطاء فراشا عشْرين سنة وتفقه بِجَمَاعَة من الصَّحَابَة
أشهرهم ابْن عَبَّاس وَقد ذكرت قَوْله كنت أَدخل على ابْن عَبَّاس مَعَ
الْعَامَّة وَكَانَ لمعقل ولد اسْمه عبد الصَّمد كثير الرِّوَايَة عَن عَمه وهب
من ذَلِك أَنه قَالَ سَمِعت عمي وهبا يَقُول قَالَ الله فِي بعض كتبه إِن مني
الْخَيْر وأقدره لخير عبَادي فطوبى لمن قدرته لَهُ وَإِن مني الشَّرّ وَأَنا
أقدره لشر عبَادي فويل لمن قدرته لَهُ وَقد جمعت وهبا وَأَهله فِي مَكَان
وَاحِد
وَقدمه الرَّازِيّ على وهب وَكَانَ بِهِ شلل وعرج ثمَّ عمى
وَكَانَ من أعلم النَّاس بالمناسك وَكَانَ جليل الْقدر شهير الذّكر حج سُلَيْمَان
بن عبد الْملك وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ فَلَمَّا قدما مَكَّة أَتَوْهُ فِي بعض
الْأَيَّام فوجدوه قَائِما يُصَلِّي فقعدوا فِي انْتِظَاره حَتَّى فرغ من صلَاته
ثمَّ جعلُوا يسألونه عَن الْمَنَاسِك وَهُوَ يُجِيبهُمْ غير مُخْتَلف وَلَا هائب
فَلَمَّا فرغ سُؤَالهمْ حول وَجهه عَنْهُم فَقَامَ سُلَيْمَان وَأمر ابنيه
بِالْقيامِ فَلَمَّا ولوا عَنهُ قَالَ لابْنَيْهِ يَا ابْني لَا تنيا فِي طلب
الْعلم فَإِنِّي لَا أنسى ذلنا بَين يَدي هَذَا العَبْد الْأسود
وَإِلَيْهِ
انْتَهَت الْفتيا فِي مَكَّة بعد ابْن عَبَّاس بِحَيْثُ كَانَ فِي زمن بني
أُميَّة يأمرون
فِي الحجيج أَلا يُفْتِي النَّاس إِلَّا عَطاء فَإِن
لم فعبد الله بن أبي نجيح وَلما بلغه قَول الشَّاعِر ... سل الْمُفْتِي
الْمَكِّيّ هَل فِي تزاور ... وضمة مشتاق الْفُؤَاد جنَاح
فَقَالَ
معَاذ الله أَن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بِهن جراح ... قَالَ وَالله مَا قلت
ذَلِك وَكَانَ يحب الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة على كل حَال وَيَقُول بَلغنِي عَن
ابْن مَسْعُود قَالَ سَيكون عُمَّال لَا يصلونَ الصَّلَاة لمواقيتها فَإِذا فعلوا
ذَلِك فصلوها لمواقيتها فَقيل لَهُ هَل لَا تَنْتَهِي إِلَى قَول ابْن مَسْعُود
قَالَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيّ مَا لم يفت الْوَقْت وَكَانَ بَعْدَمَا كبر إِذا
قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَرَأَ فِيهَا بِقدر مئتي آيَة وَمَا تَزُول قدماه عَن
موضعهما بحركة وَلَا غَيرهَا
وَسُئِلَ عَن قوم يشْهدُونَ على النَّاس
بالشرك وَالْكفْر فَأنْكر ذَلِك وَقَالَ للسَّائِل أَنا أَقرَأ عَلَيْك نعت
الْمُؤمنِينَ ثمَّ نعت الْكَافرين ثمَّ نعت الْمُنَافِقين ثمَّ قَرَأَ بِسم الله
الرَّحْمَن الرَّحِيم {الم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ هدى لِلْمُتقين} حَتَّى
بلغ قَوْله {عَذَاب أَلِيم}
وَقَالَ إِن من كَانَ قبلكُمْ كَانَ يكره
فضول الْكَلَام وَمَتى تكلم بِغَيْر كتاب الله أَو أَمر بِمَعْرُوف أَو نهى عَن
مُنكر أَو حَاجَة فِي إصْلَاح دينه ودنياه مِمَّا لَا بُد لَهُ مِنْهَا عد ذَلِك
فضولا أتنكرون {إِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} وَإِن عَن الْيَمين وَعَن
الشمَال قعيد مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد أما يستحي أحدكُم
وَقد نشرت عَلَيْهِ صَحِيفَته الَّتِي قد أمْلى صدر نَهَاره أَكثر مَا فِيهَا
لَيْسَ من أَمر دينه وَلَا دُنْيَاهُ
وَذكر الرَّازِيّ بِسَنَد
مُتَّصِل إِلَى مُحَمَّد بن الْمُحْتَرَم أَنه قَالَ سَمِعت الْحسن الْبَصْرِيّ
يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث من كن فِيهِ فَهُوَ
مُنَافِق وَإِن صَامَ وَصلى وَزعم أَنه مُسلم من إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف
وَإِذا أؤتمن خَان قَالَ ابْن الْمُحْتَرَم فَقلت لِلْحسنِ يَا أَبَا سعيد لَو
كَانَ عَليّ لرجل دين وَسَأَلته وَخفت أَن يحبسني بِهِ فَأهْلك فوعدته بِهِ إِلَى
أجل وَلم أقضه بِهِ أفأكون بذلك منافقا أم لَا قَالَ هَكَذَا جَاءَ الحَدِيث أَن
ابْن عمر ذكر أَن أَبَاهُ لما حَضرته الْوَفَاة قَالَ زوجوا فلَانا فَإِنِّي
وعدته أَن أزَوجهُ لَا ألْقى الله بِثلث النِّفَاق قلت يَا أَبَا سعيد وَيكون ثلث
الرجل منافقا وثلثاه مُؤمنا قَالَ هَكَذَا جَاءَ الحَدِيث قَالَ ابْن
الْمُحْتَرَم فَلَمَّا حججْت لقِيت عَطاء بن أبي رَبَاح فَأَخْبَرته بِمَا سَمِعت
من الْحسن وَمَا راجعته بِهِ فَقَالَ لي عَطاء أعجزت أَن تَقول لَهُ أَخْبرنِي
عَن أخوة يُوسُف ألم يعدوا أباهم فخلفوه وحدثوه فكذبوا وءأتمنهم فخانوه أفمنافقون
هم ألم يَكُونُوا أَنْبيَاء وأبوهم نَبِي وجدهم نَبِي قلت لَهُ يَا أَبَا
مُحَمَّد حَدثنِي بِأَصْل هَذَا الْخَبَر خَاصَّة الَّذين حدثوه فَكَذبُوهُ
وءأتمنهم فخانوه ووعدوه أَن يخرجُوا مَعَه فِي الْغَزْو فأخلفوه
خرج
أَبُو سُفْيَان من مَكَّة فَنزل جِبْرِيل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ إِن أَبَا سُفْيَان قد جَاءَ من مَوضِع كَذَا فاخرجوا إِلَيْهِ واكتموا
فَسمع ذَلِك بعض الْمُنَافِقين فَبعث إِلَى أبي سُفْيَان يُخبرهُ ويحذره فَإِذا
أتيت الْحسن فأقرئه
مني السَّلَام وَأخْبرهُ بِأَصْل الحَدِيث وَبِمَا
قلت لَك قَالَ ابْن الْمُحْتَرَم فَلَمَّا قدمت على الْحسن أخْبرته الْخَبَر
وَقلت لَهُ إِن أَخَاك عَطاء يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول لَك كَذَا وَكَذَا
فَأخذ بيَدي وشالها وَقَالَ يَا أهل الْعرَاق أعجزتم أَن تَكُونُوا مثل هَذَا سمع
مني حَدِيثا فَلم يقبله حَتَّى استنبط أَصله
صدق عَطاء هَكَذَا
الحَدِيث هُوَ فِي الْمُنَافِقين خَاصَّة قلت وَفِي قَول الْحسن صدق عَطاء
هَكَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الْحسن كَانَ عَالما ان الْخَبَر كَمَا قَالَ
عَطاء فِي الْمُنَافِقين خَاصَّة
وَيحمل كَلَام الْحسن فِي الأولى على
أَنه أَرَادَ التنفير عَن الْخِصَال وَقد فعل ذَلِك جمَاعَة من الْعلمَاء فِي
الصَّحَابَة وَغَيرهم
وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك أَيْضا مَا ذكره
الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره بِسَنَدِهِ إِلَى مقَاتل أَنه قَالَ كنت بسمرقند
فَقَرَأت حَدِيث الْمُقْرِئ يَعْنِي هَذَا الْخَبَر الْمَذْكُور فنازعني عزمي
فِيهِ وَخفت على نَفسِي وعَلى جَمِيع النَّاس فَأتيت بُخَارى وَسَأَلت جَمِيع
علمائها فَلم أجد فرجا فَأتيت مرو فَسَأَلت كَذَلِك فَلم أجد فرجا فَأتيت نيسابور
وَسَأَلت فَلم أجد فرجا ثمَّ بَلغنِي أَن شهر بن حَوْشَب بجرجان فَأَتَيْته
وَعرضت عَلَيْهِ قصتي فَقَالَ لي أَنا مُنْذُ سَمِعت هَذَا الْخَبَر كالحبة على
المقلى فَعَلَيْك بِابْن جُبَير فَإِنَّهُ بِالريِّ فَأتيت الرّيّ وَعرضت على
سعيد الْخَبَر فَقَالَ أَنا كَذَلِك مُنْذُ سَمِعت هَذَا الْخَبَر كالحبة على
المقلى
فَعَلَيْك بالْحسنِ الْبَصْرِيّ فارتحلت الْبَصْرَة وأتيت الْحسن وقصصت عَلَيْهِ
الْخَبَر وَمَا جرى لي مَعَ من تقدم من الْعلمَاء فَقَالَ رحم الله شهرا وسعيدا
بلغهما نصف الْخَبَر وَلم يبلغهما النّصْف الآخر وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ هَذَا الْخَبَر شغل قُلُوب النَّاس أَصْحَابه
وهابوا أَن يسألوه فَأتوا فَاطِمَة ابْنَته وَذكروا لَهَا شغل قُلُوبهم بالْخبر
فَأَتَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأخبرته
بذلك فَأمر سلمَان فَنَادَى الصَّلَاة جَامِعَة وَصعد الْمِنْبَر ثمَّ قَالَ
أَيهَا النَّاس إِنِّي كنت قلت لكم ثَلَاث من كن فِيهِ فَهُوَ مُنَافِق الْخَبَر
وَلم أعنكم لَهُ إِنَّمَا عنيت بهَا الْمُنَافِقين أما قولي إِذا حدث كذب فَإِن
الْمُنَافِقين أَتَوْنِي وَقَالُوا وَالله إِن إيمَاننَا كإيمانك وتصديق
قُلُوبنَا كتصديق قَلْبك فَأنْزل الله فِي ذَلِك {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ}
إِلَى {الْكَاذِبُونَ} وَأما قولي إِذا أؤتمن خَان فَإِن الْأَمَانَة الصَّلَاة
وَالدّين كُله أَمَانَة قَالَ الله إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله وَهُوَ خادعهم
وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى يراءون النَّاس وَلَا يذكرُونَ
الله إِلَّا قَلِيلا وَفِيهِمْ قَالَ الله تَعَالَى {فويل للمصلين} وَأما قولي
إِذا وعد أخلف فَإِن ثَعْلَبَة بن حَاطِب أَتَانِي وَقَالَ إِنِّي مولع بالسائمة
ولي غنيمات فَادع الله أَن يُبَارك لي فِيهِنَّ فعلي عهد الله لَئِن بَارك لي
فِيهِنَّ لأصدقن ولأكونن من الصَّالِحين فدعوت الله فَنمت وزادت حَتَّى ضَاقَتْ
عَنْهَا الفجاج فَسَأَلته الصَّدَقَة فَأبى عَليّ وبخل بهَا فَأنْزل الله فِيهِ
{وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله} الْآيَة إِلَى قَوْله {بِمَا أخْلفُوا الله مَا
وعدوه وَبِمَا كَانُوا يكذبُون} فَسرِّي عَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وتصدقوا بِمَال عَظِيم وَهَذَا الْخَبَر فِي الْكتاب من قبيل كَون
الحَدِيث شجون وَفِيه فرج لمن كَانَ وقف على الْخَبَر أَو سَمعه وَلم يعرف
السَّبَب
وَقَالَ عَطاء سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول فِي قَوْله
تَعَالَى {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} دخل فِي ذَلِك الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ
وَكَانَ لعطاء مصحف لطيف إِذا قَرَأَ بِهِ حمله على يَدَيْهِ وَلَا يَضَعهُ على
فَخذيهِ وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة سنة أَربع عشرَة وَقيل خمس عشرَة ومئة وَقد
بلغ عمره ثمانيا وَثَمَانِينَ سنة
وَمِنْهُم حجر بن قيس المدري
نِسْبَة إِلَى قَرْيَة مدرات وَهِي على نصف مرحلة من الْجند من جِهَة قبليها
وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة وَالرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ تَاء مثناة
من فَوق صحب حجر هَذَا عليا كرم الله وَجهه وَعرف بِصُحْبَتِهِ وَله عَنهُ
رِوَايَات وَلَا يعرف إِلَّا بِصُحْبَة عَليّ إِذْ تفقه بِهِ وَصَحبه غَالب
زَمَانه وَكَانَ طَاوُوس يُرَاجِعهُ فِي الْمسَائِل الَّتِي يتشكك بهَا
وَقد
ذكرت قَول ابْنه فِي الْوَقْف الَّذِي وَقفه وَأَنه لم يطب نفسا بِهِ حَتَّى
أفتاه بحبسه
وَذكر الْحَافِظ أَبُو نعيم بِسَنَد إِلَيْهِ أَن عليا
قَالَ لَهُ يَوْمًا كنت بك يَا حجر إِذا أمرت بلعني فَقَالَ أَو كَائِن ذَلِك
قَالَ نعم قلت فَكيف أصنع قَالَ العني وَلَا تَبرأ مني فَلَمَّا كَانَت ولَايَة
مُحَمَّد بن يُوسُف لمخلافي الْجند وَصَنْعَاء وَحجر إِذْ ذَاك خطيب بِإِحْدَى
البلدين صعد فِي بعض الْجمع الْمِنْبَر ثمَّ خطب فَلَمَّا فرغ من الْخطْبَة
وَمُحَمّد بن يُوسُف إِذْ ذَاك حَاضر ناداه لَا تنزل حَتَّى تلعن عليا
فَتَلَكَّأَ لَحْظَة وَذكر قَول عَليّ فَرفع صَوته وَقَالَ إِن الْأَمِير
مُحَمَّد بن يُوسُف أَمرنِي أَن ألعن عليا فالعنوه لَعنه الله وتفرق أهل
الْمَسْجِد وَتَفَرَّقُوا شغر بغر كَرَاهِيَة لذَلِك إِلَّا مَا كَانَ من شيخ
فَإِنَّهُ فهمها وَقَالَ لَعنه الله وَكَانَ ذَلِك على مِنْبَر صنعاء وَقيل على
مِنْبَر الْجند وَهُوَ الَّذِي
حَقَّقَهُ الْحَافِظ العرشاني رَحمَه
الله
وَالْقَوْل الأول أحب إِلَيّ لكَرَاهَة أَن يكون الْجند شهر بهَا
أحد من السّلف مَعَ أَن الْيمن أجمع لم يشهر بهَا ذَلِك مُنْذُ أول الْإِسْلَام
إِلَى عصرنا سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة إِذْ برأَ الله الْيمن ونزهها عَن
أَمر غلب على كثير من بِلَاد الْإِسْلَام وَهُوَ الرِّدَّة
لما توفّي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْتَدَّت الْعَرَب إِلَّا مَا كَانَ من أهل
مَكَّة وَالْمَدينَة وَصَنْعَاء والجند وغالب الْيمن وارتد قوم من أهل السوَاد
حوالي الْمَدِينَة وهم الَّذين قَاتلهم الصّديق وَبَعض طغام نواحي صنعاء وعادوا
من غير قتال وَلم يذكر عَن أحد مِنْهُم أَنه أحْوج إِلَى قتال وَلَا كلف وَالِي
مصره شَيْئا مِمَّا كلفه عرب الْحجاز بل إِنَّه قد ذكر أَن قوما من كِنْدَة فِي
طرف حَضرمَوْت ارْتَدُّوا وتحصنوا بحصن يُقَال لَهُ النُّجَيْر وَكَانَ واليهم
لبيد بن زِيَاد البياضي ثمَّ الْأنْصَارِيّ من عِنْد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَحصل بَينه وَبينهمْ شقَاق وَخَرجُوا بِهِ عَن حد طَاعَته فَكتب
إِلَى أبي بكر ينتصره فأمده بِجَمَاعَة مِنْهُم عِكْرِمَة بن أبي جهل وَأَبُو
سُفْيَان بن حَرْب وَجَمَاعَة غَيرهم
وَأما الْيمن فَكَانَ بهَا معَاذ
بن جبل توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يحك عَنهُ خلاف بَينه
وَبَين أَهلهَا وَلَا جَمِيع مخاليفها وَلَو كَانَ لظهر كَمَا فِي غَيرهَا
وَأما
صنعاء فَكَانَ بهَا يعلى بن أُميَّة فَحصل بَينه وَبَين عرب السوَاد تنَازع ثمَّ
عَادوا إِلَى طَاعَته كَمَا هُوَ مَشْهُور فِي كتب التَّارِيخ وَلَيْسَ هَذَا
مَوْضِعه بل أردْت تَنْزِيه هذَيْن المخلافين صنعاء والجند عَن الرِّدَّة واحتياج
الْوُلَاة فِيهَا إِلَى حروب
وعساكر وَلم يحك حُدُوث شَيْء فِي هذَيْن
المخلافين من ذَلِك إِلَّا مَا كَانَ فِي بعض نواحي صنعاء كَمَا قدمنَا ذكره
وَأما
سبّ السّلف فَلم يعرف إِلَّا مَا كَانَ فِي بعض نواحي صنعاء على زمن الصليحيين
فِي مَوضِع اختطوه كجبلة ومواضع حراز لَا صنعاء والجند وَمَا يشابههما كزبيد وعدن
إِذْ تغلب على أَهلهَا عدم السب والمبتدع يضيع بَينهم وَلَا يُطيق إِظْهَار
بدعته
وَكَانَ السب على عهد بني أُميَّة لعَلي وَآله وَقد اسْتعْمل
على مَنَابِر الشَّام وَالْعراق ومصر عدَّة سِنِين حَتَّى كَانَت خلَافَة عمر بن
عبد الْعَزِيز فأسقطه وَجعل مَكَانَهُ {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى} فَلم يزل مُسْتَعْملا إِلَى عصرنا وَنعم
السّنة سنّ فَهَذَا مَا كَانَ من حَال الْيمن فِي ذكر السّلف الصَّالح نفع الله
بهم وَهَذَا الْكَلَام كُله دخيل لَيْسَ من غرضنا بل هُوَ ذكر فَضِيلَة أهل
الْيمن وتنزيه لَهُم مِمَّا هُوَ قدح فِي من فعل ذَلِك
وَنَرْجِع
إِلَى تَتِمَّة ذكر حجر
ذكر الْمُزنِيّ فِي مُخْتَصره أَن الشَّافِعِي
قَالَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس عَن حجر
المدري يَعْنِي هَذَا عَن زيد بن ثَابت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه جعل الْعمريّ للْوَارِث فَسَأَلت شَيْخي أَبَا الْحسن الأصبحي عَن حجر
فَأَخْبرنِي أَنه الْمَذْكُور أَولا وَأَنه مِمَّن صحب عليا وَلم أتحقق لَهُ
تَارِيخا وَلَا وقفت عَلَيْهِ بل أوردت مَا ذكرته من أَحْوَاله من كتب شَتَّى
فَيعلم أَنه كَانَ مَوْجُودا زمن مُحَمَّد بن يُوسُف الثَّقَفِيّ
وَمِنْهُم
الْمُغيرَة بن حَكِيم الصَّنْعَانِيّ الأبناوي مَعْدُود فِي فضلاء صنعاء أَخذ عَن
جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر وَأَبُو هُرَيْرَة وَغَيرهمَا وَذكره ابْن
الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة
وَقَالَ سَافر الْمُغيرَة من صنعاء إِلَى
مَكَّة خمسين سفرا حافيا محرما صَائِما لَا يتْرك التَّهَجُّد وَقت السحر بل
كَانَ إِذا هُوَ سَائِر فِي الْقَافِلَة فَارقهَا وَأَقْبل يُصَلِّي حَتَّى يطلع
الْفجْر ثمَّ يُصَلِّي الصُّبْح ثمَّ يلْحق بالقافلة حَيْثُ كَانَت وَكَانَ يخْتم
فِي كل يَوْم الْقُرْآن يقْرَأ بعد صَلَاة الصُّبْح من الْبَقَرَة إِلَى هود ثمَّ
من قبل الزَّوَال إِلَى الْعَصْر يقْرَأ من هود إِلَى الْحَج ثمَّ يتم الختمة من
الْمغرب إِلَى الْعشَاء
وَمِنْهُم أَبُو رشدين حَنش بن عبد الله
الصَّنْعَانِيّ بَلَدا يُقَال أَصله من بكر وَائِل وَأمه من الْأَبْنَاء وَلذَلِك
يظنّ أَنه أبناوي وَلَيْسَ كَذَلِك عده مُسلم فِي تَابِعِيّ الْجند وعده
البُخَارِيّ فِي أهل صنعاء وَكَذَلِكَ عبد الْغَنِيّ نسبه إِلَى صنعاء فَقَالَ
الصَّنْعَانِيّ الْمصْرِيّ لِأَنَّهُ صَار إِلَى مصر فِي آخر عمره لِأَنَّهُ
كَانَ نَائِبا لِابْنِ الزبير على صنعاء فَأسر فِيهَا وَأتي بِهِ الْحجَّاج إِلَى
مَكَّة مُقَيّدا فَوجه بِهِ إِلَى عبد الْملك فَلَمَّا وَصله أطلقهُ فانتجع مصر
وَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي
قَالَ الْوَاقِدِيّ وَقيل إِنَّه انْتقل
من مصر إِلَى الأندلس فَنزل مِنْهَا مَدِينَة سرقسطة وَأسسَ جَامعهَا وَمَات
فِيهَا فَقِيرا عِنْد بَابهَا الغربي الْمَعْرُوف بِبَاب الْيَهُود صحب عليا
وَابْن عَبَّاس وَأقَام مَعَ عَليّ فِي الْكُوفَة ثمَّ ولاه ابْن الزبير مخلاف
صنعاء فَأَقَامَ واليا أَرْبَعَة أشهر وَقتل ابْن الزبير وَوصل نواب الْحجَّاج
فَكَانَ مِنْهُم إِلَيْهِ مَا قدمنَا
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَمْرو
بن دِينَار مولى باذان الْفَارِسِي أَمِير الْفرس وَقد ذكرت طرفا من حَاله
وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي الْمُلُوك إِن شَاءَ الله مولده صنعاء لبضع وَأَرْبَعين
من الْهِجْرَة ثمَّ نَشأ بِمَكَّة وتفقه بهَا على ابْن عمر وَابْن عَبَّاس
وَجَابِر بن عبد الله وَجَابِر بن زيد وَمن التَّابِعين بطاووس وَالزهْرِيّ
وَابْن جُبَير وَعنهُ أَخذ ابْن عُيَيْنَة وَابْن جريج وَغَيرهمَا قيل لعطاء بن
أبي رَبَاح بِمن تَأْمُرنَا بعْدك قَالَ بِعَمْرو بن دِينَار وَقَالَ طَاوُوس
لِابْنِهِ إِذا قدمت مَكَّة فجالس عَمْرو بن دِينَار فَإِن أُذُنه قمع
للْعُلَمَاء وَقيل
لإياس بن مُعَاوِيَة أَي أهل مَكَّة رَأَيْت أفقه
قَالَ أسوأهم خلقا عَمْرو بن دِينَار
توفّي غَالِبا بِمَكَّة سنة سِتّ
وَعشْرين وَقيل سنة سبع وَقيل سنة أَربع وَعشْرين ومئة بلغ عمره ثَمَانِينَ
سنة
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى
مِنْهُم عبد
الرَّحْمَن بن يزِيد الصَّنْعَانِيّ وَيُقَال لَهُ الأبناوي لِأَنَّهُ كَانَ من
أهل فَارس القادمين مَعَ سيف بن ذِي يزن ذكره الرَّازِيّ وَأثْنى عَلَيْهِ
فَقَالَ كَانَ فَاضلا زاهدا وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَولا أَن مُحَمَّد بن يُوسُف
جعله مَعَ وهب واعظا وَكَانَ إِذا غَابَ إِمَام الْجَامِع خَلفه على الصَّلَاة
بِالنَّاسِ
أسْند عَن ابْن عمر وَأورد التِّرْمِذِيّ عَنهُ فِي سنَنه
عدَّة أَحَادِيث مِنْهَا مَا رَوَاهُ الرَّازِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى التِّرْمِذِيّ
وَبِسَنَد التِّرْمِذِيّ إِلَى هَذَا عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عمر عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سره أَن ينظر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
فليقرأ {إِذا الشَّمْس كورت} و {إِذا السَّمَاء انشقت} و {إِذا السَّمَاء انفطرت}
وَقَالَ أَيْضا قَالَ لي ابْن عمر يَا أَخا الأنباء إِن سُورَة الْجُمُعَة نزلت
فِينَا وَفِيكُمْ فِي قتلكم الْكذَّاب ثمَّ قَرَأَ مِنْهَا إِلَى قَوْله وَآخَرين
مِنْهُم لم يلْحقُوا بهم وَأخذ عَنهُ القَاضِي هِشَام الْآتِي ذكره وَغَيره من
أهل صنعاء وَغَيرهم
وَمِنْهُم عُثْمَان بن يزدويه أدْرك أنس بن مَالك
وَكَانَ يَقُول قدمت الْمَدِينَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز واليها فَصليت الصُّبْح
خَلفه ومعنا أنس بن مَالك فِيمَن صلى خَلفه فَلَمَّا انْقَضتْ الصَّلَاة قَالَ
أنس مَا رَأَيْت أحد أشبه بِصَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذَا
الْفَتى وَأَشَارَ إِلَى عمر قَالَ وَرَأَيْت أنسا عَلَيْهِ ثَوْبَان ممشقان
وَبِه وضح وَكَانَ القَاضِي هِشَام يَقُول حَدثنِي عُثْمَان بن يزدويه قَالَ قدمت
الْمَدِينَة وَعمر واليها وَذكر الحَدِيث الأول برمتِهِ فَقيل للْقَاضِي هِشَام
كَيفَ كَانَت صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَحْو
من
صَلَاتي فحزرنا رُكُوعه وَسُجُوده فَوجدَ من فعل القَاضِي وَأحد بِقدر عشر
تسبيحات
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن ماجان حج مَعَ أَبِيه وَهُوَ غُلَام
فَرَأى ابْن عمر وَجَابِر بن عبد الله وَأنس بن مَالك وَقَالَ حجت أم سَلمَة زوج
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الهودج وَكُنَّا معاشر الصغار ندور
حوله وَهِي فِيهِ
وَمِنْهُم مرْثَد بن شُرَحْبِيل أدْرك ابْن عمر
وَابْن الزبير وَحضر عمَارَة بن الزبير الْكَعْبَة فَقيل لَهُ مَا حمل ابْن
الزبير على خراب الْكَعْبَة وعمارتها فَقَالَ لما جَاءَ الْحصين بن نمير من
وقْعَة الْحرَّة بِالْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّة وَبهَا ابْن الزبير عائذا وَقَالَ
أصانع فَرمى الْحصين مَكَّة بالمنجنيق وَكَانَت تقع بِالْكَعْبَةِ حَتَّى أضعفت
الْبناء وَجَاء خبر يزِيد وَمَوته فارتفع الْحصين بعسكره وَقد أثر المنجنيق
بِالْكَعْبَةِ تَأْثِيرا ظَاهرا ثمَّ خلت مَكَّة لِابْنِ الزبير عَن الْمُعَارضَة
فعزم على عمارتها عمَارَة مقتنة وَقَالَ أَدخل الْحجر فِيهَا حِين أبنيها ثمَّ
لما جد عزمه أحضر سبعين مكبرا من قُرَيْش واستشهدهم فَشَهِدُوا أَنهم سمعُوا
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تحدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
لَوْلَا حَدَاثَة عهد قَوْمك بالشرك لأعدت هَذَا الْبَيْت على قَوَاعِد
إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل هَل تدرين لم قصروا عَنْهَا قلت لَا قَالَ قصرت علهيم
النَّفَقَة قلت وَسبب قصرهَا عدم الْحَلَال إِذْ لما عزموا على بنائها قبل مبعث
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخمْس سِنِين وَقد صَار ابْن خمس وَثَلَاثِينَ
سنة كَمَا قدمنَا فِي ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعَاهَدُوا أَن لَا يدخلُوا
فِي عمارتها مهر بغي وَلَا
زنى فَلذَلِك عدموا مَا يتممونها بِهِ
وَلَوْلَا خشيَة الإطالة لذكرت من ذَلِك الْحَقِيقَة وَأَصله وَلَيْسَ هُوَ
أَيْضا من ملازم الْكتاب فنورده وَلَكِن الحَدِيث شجون
ثمَّ أَخذ ابْن
الزبير فِي إخرابها والكشف عَن أساسها حَتَّى وَقع على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم
وأظهرها للنَّاس فَكَانَت عجبا من الْعجب مشتبكة بَعْضهَا فِي بعض وَتركهَا ابْن
الزبير أَيَّامًا مكشوفة ليشهدها النَّاس ويتعجبوا مِنْهَا وَكَانَ الرجل إِذا
حرك من نَاحيَة ركنا اهتزت نَاحيَة الرُّكْن الآخر ثمَّ قَالَ اطْلُبُوا من
الْعَرَب من يبنيه فَلم يُوجد ثمَّ قَالَ اسْتَعِينُوا بِأَهْل فَارس فَإِنَّهُم
ولد إِبْرَاهِيم وَلنْ يرفعهُ إِلَّا وَلَده ثمَّ بنى الْكَعْبَة على الْقَوَاعِد
وَجعل لَهَا بَابَيْنِ لاصقين بِالْأَرْضِ شرقيا وغربيا فَكَانَت كَذَلِك حَتَّى
غَزَاهَا الْحجَّاج وأخربها وَقتل ابْن الزبير ثمَّ أَعَادَهَا على مَا كَانَت
قُرَيْش بنتهَا أَولا
وَمِنْهُم كثير بن أبي الزفاف أدْرك ابْن عمر
كَانَ عبد الرَّزَّاق الْفَقِيه الْآتِي ذكره يَقُول سَمِعت حَمَّاد بن سعيد يحدث
عَن كثير أَنه قَالَ كنت وصاحبا لي بمنى يَوْم النَّفر فجاءنا رجل وَقَالَ
رَأَيْت الْآن ابْن عمر يَرْمِي الْجَمْرَة فَقلت لصاحبي اذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ
نَسْأَلهُ فَانْطَلَقْنَا فوجدناه قد فرغ من رمي الْجَمْرَة وأنيخت لَهُ
رَاحِلَته وَقد وضع رجله بالغرز وَأخذ بوسط الرحل ليركب فَقَالَ لَهُ صَاحِبي
واسْمه قيس إِنَّا أخبرنَا عَنْك فَجِئْنَا لنَنْظُر إِلَيْك ونسألك فَإنَّك قد
رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجونا بركتك وَلَو كنت على غير هَذَا
الْحَال لسألناك فَنزع رجله من الغرز وَيَده من الرحل وَقَالَ سل عَمَّا شِئْت
قَالَ مَا تَقول فِي رجل اخْتلف إِلَى هَذَا الْبَيْت نَحوا من أَرْبَعِينَ سنة
وَإِذا قدم على أَهله وجدهم قد صَنَعُوا لَهُ من هَذَا النَّبِيذ شَيْئا فَإِن
شرب مِنْهُ سكرو إِن مزجه بِالْمَاءِ لم يضرّهُ فَقَالَ لَهُ ابْن عمر أدن مني
فَلَمَّا دنا مِنْهُ دفع فِي صَدره حَتَّى وَقع فِي الأَرْض وَقَالَ أَنْت مِمَّن
لَا حج لَك وَلَا كَرَامَة فَقَالَ مَا سَأَلتك إِلَّا عَن نَفسِي وَالله لَا
أَذُوق مِنْهُ قَطْرَة أبدا
وَاعْلَم أَن من ذكر حجر المدري إِلَى
هَذَا أَخَذته من كتاب الرَّازِيّ خَاصَّة وَمن هُنَا إِلَى آخر الْكتاب من المئة
الْخَامِسَة إِنَّمَا أَخَذته عَن الْجَمِيع أهل الْكتب الْمَذْكُورين أَولا
وَمِنْهُم
أَبُو خَليفَة القارىء أَخذ الْقُرْآن عَن عَليّ كرم الله وَجهه وَأسْندَ عَنهُ
أَخْبَارًا مِنْهَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله
رَفِيق يحب الرِّفْق وَيُعْطِي على الرِّفْق مَا لَا يُعْطي على العنف وَعَن
هَذَا أَخذ جمَاعَة بِصَنْعَاء الْقُرْآن
وَمِنْهُم عبد الله بن وهب
الْمُقدم ذكره مَعَ أَبِيه
وَمِنْهُم هاني الدويري مولى عُثْمَان بن
عَفَّان وَله عَنهُ رِوَايَة
وَمِنْهُم الضَّحَّاك بن فَيْرُوز
الديلمي أول من ولي لمعاوية الْيمن وَكَانَ مُجْتَهدا قَالَ مؤذنه رَاشد بن أبي
الْحَرِيش مَا أتيت الضَّحَّاك أؤذنه الصَّلَاة فِي النَّاس إِلَّا وجدته
مستعدا
أسْند عَن أبي هُرَيْرَة وَغَيره وَأَبوهُ قدم على النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسلم وَحسن إِسْلَامه
وَمِنْهُم صَفْوَان
بن يعلى بن أبي عبيد يعرف أَبوهُ بيعلى بن أُميَّة أحد وُلَاة صنعاء صدر
الْإِسْلَام وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله فِي الْوُلَاة وَله ولأبيه
رِوَايَات دخلت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا
أسْند عَن أَبِيه
وَغَيره وَقد أَخذ عَنهُ أَيْضا عَطاء بن أبي رَبَاح
وَمِنْهُم سعيد
بن عبد الله بن عَاقل عرف بالأعرج كَانَ معينا ليعلى بِإِشَارَة عمر
وَحكي
أَنه قدم على عمر فَلَمَّا سلم سَأَلَهُ عمر أَيْن تُرِيدُ قَالَ الْعرَاق
قَالَ
ارْجع إِلَى صَاحبك يعلى فَإِن عملا صَالحا بِحَق جِهَاد وَإِذا صَدقْتُمْ
الْمَاشِيَة فَلَا تعينُوا الْحَسَنَة وَلَا ترزأوا بهَا صَاحبهَا وأقسموها
أَثلَاثًا ويختار صَاحب الْغنم ثلثا واختاروا الصَّدَقَة من الثُّلثَيْنِ
الباقيين قَالَ فَقبلت من عمر وعدت إِلَى صنعاء وَبعثت إِلَى مَعُونَة يعلى
واعتمدنا مَا قَالَ عمر وَمَتى اجْتمع مَعنا شَيْء فرقناه فِي مَوْضِعه على
فقرائه ثمَّ نرْجِع وَلَيْسَ مَعنا إِلَّا أسواطنا
وَمِنْهُم
الْوَلِيد بن السوري أدْرك أنس بن مَالك وَقَالَ قدمت الْمَدِينَة وَصليت خلف عمر
بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ إِذْ ذَاك واليها فصلى صَلَاة خَفِيفَة فَلَمَّا فرغ
قَالَ لي رجل إِلَى جَنْبي مَا أشبه صَلَاة هَذَا بِصَلَاة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَأخذت بِثَوْبِهِ وَقلت من أَنْت الَّذِي أدْركْت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أنس بن مَالك قَالَ فحزرت لبث عمر فِي الرُّكُوع
وَالسُّجُود فَوَجَدته بِقدر مَا يسبح كل وَاحِد منا عشر تسبيحات قلت وَهَذَا
مُوَافق لما رَوَاهُ عُثْمَان بن يزدويه لِأَن مخرجهما وَاحِد ونهايتهما متفقة
وَمِنْهُم
زِيَاد بن جيل أدْرك ابْن الزبير وَقَالَ سمعته يَقُول سَمِعت خَالَتِي عَائِشَة
تَقول قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلَا حَدِيث عهد قَوْمك
بالشرك لرددت الْكَعْبَة على أساس إِبْرَاهِيم فَإِن للحجر من الْكَعْبَة أذرعا
فَلَمَّا كَانَ الْعَام الَّذِي أخربها فِيهِ الْحصين وجند الشَّام ثمَّ لما
عَادوا وجد ابْن الزبير إِلَى بنائها سَبِيلا ظَاهرا فَأمر بكشف الْقَوَاعِد
فَوجدَ ربض الْكَعْبَة صخرا مثل البخت فحركوا صَخْرَة فبرقت بارقة فَقَالَ
دَعُوهَا كَمَا هِيَ ثمَّ وجد لوح مَكْتُوب بالعبراني فَاسْتَحْضر لَهُ جمَاعَة
من أَحْبَار الْيَهُود وأحلفهم بِاللَّه ليصدقنه وَلَا يكتمونه مِمَّا فِيهِ
شَيْئا ثمَّ ناولهم إِيَّاه فَقَالُوا إِن فِيهِ مَكْتُوبًا أَنا الله ذُو بكة
صنعتها بيَدي يَوْم صنعت الشَّمْس وَالْقَمَر حففتها بسبعة أَمْلَاك حَقًا وَجعلت
رزقها يَأْتِيهَا من طرق شَتَّى باركت لَهُم فِي المَاء وَاللَّحم أَنا الله ذُو
بكة خلقت الرَّحِم وَجعلت فِيهَا سَبْعَة من اسْمِي من وَصلهَا وصلته وَمن قطعهَا
أبنته خلقت الْخَيْر وَالشَّر فطوبى لمن خلقت الْخَيْر على يَدَيْهِ وويل لمن
خلقت الشَّرّ على يَدَيْهِ
وَقَالَ زِيَاد سَمِعت ابْن الزبير قَرَأَ
فَاتِحَة الْكتاب فَقَالَ اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط من أَنْعَمت
عَلَيْهِم
وَزِيَاد هَذَا هُوَ الَّذِي ذكر أصيل الْقَتِيل فِي
خلَافَة عمر بِصَنْعَاء على مَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي ذكر الْخُلَفَاء وَمَا
لَاق من الْحَوَادِث فِي أيامهم إِن شَاءَ الله
وَمِنْهُم فنج بن دحرج
بِضَم الْفَاء وَفتح النُّون وَسُكُون الْجِيم ثمَّ فتح الدَّال وَسُكُون الْحَاء
الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء ثمَّ جِيم الْفَارِسِي من الْأَبْنَاء ذكره الْحَافِظ
عبد الْغَنِيّ فِي المؤتلف والمختلف قَالَ وَلَا نَظِير لَهُ فِي الْأَسْمَاء
أسْند
الْحَافِظ فِي كِتَابه إِلَى عبد الله بن وهب بن مُنَبّه مقدم الذّكر أَنه أخبر
عَن أَبِيه عَن فنج هَذَا أَنه قَالَ كنت أعمل بالدينباذ وأعالج فِيهَا فَلَمَّا
قدم يعلى بن مُنَبّه أَمِيرا على صنعاء جَاءَ مَعَه رجال فَجَاءَنِي ذَات يَوْم
رجل مِنْهُم وَأَنا أصرف المَاء فِي الزَّرْع وَكَانَ فِي كمه جوز فَجَلَسَ على
ساقية من المَاء وَهُوَ يكسر من ذَلِك الْجَوْز وَجعل يخرج الْجَوْز من كمه
ويأكله حَبَّة فحبة بعد كسرهَا ثمَّ ناداني يَا فَارسي هَلُمَّ فدنوت مِنْهُ
فَقَالَ يَا فنج أتأذن لي أَن أغرس من هَذَا الْجَوْز على هَذَا المَاء فَقلت
وَمَا نفعي بذلك قَالَ إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
من نصب شَجَرَة وصبر على حفظهَا وَالْقِيَام عَلَيْهَا حَتَّى تثمر كَانَ لَهُ
بِكُل مَا يصاب من ثَمَرهَا صَدَقَة عِنْد الله فَقلت لَهُ أَنْت سَمِعت ذَلِك
عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نعم يَا فنج أَنا أضمنها لله عز
وَجل ثمَّ غرس جوزة وَسَار
وَقَالَ الرَّاوِي لما أورد الْخَبَر أَن
الغارس الْمخبر هُوَ وبر بن يحنس قَالَ فنج أول من غرس الْجَوْز بِصَنْعَاء
قَالَ
الْحَافِظ وَأَخْبرنِي الرَّاوِي أَنَّهَا تُؤْكَل إِلَى الْآن بِصَنْعَاء وَقد
أخرت هَذَا وَهُوَ من أَعْيَان الطَّبَقَة الأولى وَلكنه غير ذِي شهرة بِالْعلمِ
والإسناد إِنَّمَا يعرف لَهُ هَذَا الْخَبَر
ثمَّ صَار الْعلم فِي
طبقَة غير من تقدم ذكره
مِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه طَاوُوس
الْمُقدم ذكره أول طبقَة التَّابِعين كَانَ إِمَامًا كَبِيرا وقصده النَّاس
للْعلم
قَالَ معمر الْآتِي ذكره لما عزمت على دُخُول الْيمن متجردا
لطلب الْعلم قَالَ لي أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ إِن كنت راحلا فَإلَى عبد الله بن
طَاوُوس أَو فَالْزَمْ تجارتك وَكَانَ مَعَ فقهه عالي الهمة كَبِير الْقدر لما
توفى أَبوهُ وَعَلِيهِ دين فبادر إِلَى بيع تركته بِثمن وَغير ثمن على غَرَض
الْقَضَاء عَن أَبِيه بعجل فَقيل لَهُ لَو انتظرت الْغُرَمَاء حَتَّى تبيع
الْأَشْيَاء بأثمانها وَرُبمَا حصلت الزِّيَادَة فَقَالَ لَا أفعل وَأَبُو عبد
الله مَحْبُوس عَن منزله فِي الْجنَّة
قَالَ الرَّازِيّ وَلم أر
فَقِيها كَابْن طَاوُوس قيل وَلَا هِشَام بن عُرْوَة قَالَ لم يكن مثله وَتُوفِّي
سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ ومئة
وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ فقيهان هما طَاوُوس
وَمُحَمّد لم أَقف على شئ من أحوالهما غير أَنَّهُمَا كَانَا يذكران بالفقه وَقد
عرض مَعَ ذكر أَبِيهِمَا ذكر رجلَيْنِ من الْفُضَلَاء هما معمر وَأَيوب فمعمر
يَأْتِي ذكره وَأَيوب هُوَ أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ لقبه أَبُو
بكر من موَالِي قضاعة كَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول فِي حَقه أَيُّوب سيد شباب
الْبَصْرَة وَقَالَ هِشَام بن عُرْوَة مَا رَأَيْت فِي الْبَصْرَة مثل
السّخْتِيَانِيّ وَقَالَ شُعْبَة أَيُّوب سيد الْفُقَهَاء أَخذ عَنهُ مَالك
وَالثَّوْري توفى سنة 131 هـ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ ومئة
وَمِنْهُم
حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان تفقه بطاووس وَمِنْهُم عبد الله بن عِيسَى عده
الْحَافِظ فِي أهل الْجند وَمن الْجند عمر بن مُسلم الجندي
وَمِنْهُم
سماك بن الْفضل الْخَولَانِيّ وَقيل الشهابي وَهُوَ الَّذِي تصدى لجواب فتيا
الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك حِين وَردت الْيمن وَهُوَ أَن الْوَلِيد لما
كَانَ ولي
عهد أَبِيه بعد عَمه هِشَام قَالَ لامْرَأَته وَكَانَت
ابْنة خَالِد بن أسيد مَا رَأَيْت أحسن مِنْك قَالَت لَو رَأَيْت أُخْتِي لرأيت
أحسن مني فَقَالَ أرينيها قَالَت أَخَاف تتركني وتتزوجها فَقَالَ إِن
تَزَوَّجتهَا فَهِيَ طَالِق فظنت أَنَّهَا تحرم بذلك وأرته إِيَّاهَا فَلَمَّا
رَآهَا شغف بهَا فَخَطَبَهَا من أَبِيهَا بعد أَن طلق أُخْتهَا فَقَالَ أَتُرِيدُ
أَن تكون فحلا لبناتي فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَى الْوَلِيد رغب خَالِد فِي
زواجته وَاسْتعْمل من فاتحه فِي ذَلِك فَكتب الْوَلِيد إِلَى عَامله فِي الْيمن
وَهُوَ إِذْ ذَاك خَاله مَرْوَان بن مُحَمَّد بن يُوسُف ابْن أخي الْحجَّاج
يُخبرهُ بِيَمِينِهِ ويأمره باستفتاء الْفُقَهَاء بِالْيمن فحين وصل الْكتاب جمع
الْمُفْتِينَ من أهل الْيمن مِنْهُم هَذَا سماك وَعبد الله بن طَاوُوس
وَإِسْمَاعِيل بن سروس الصَّنْعَانِيّ وخلاد بن عبد الرَّحْمَن وَعبد الله بن
سعيد ثمَّ أخْبرهُم بِكِتَاب الْوَلِيد وسؤاله فابتدر سماك وَقَالَ أَيهَا
الْأَمِير إِنَّمَا النِّكَاح عقد يعْقد ثمَّ يحل بِالطَّلَاق وَإِن هَذَا حلف
قبل أَن يعْقد فَلَا يتَعَلَّق بذلك تَحْرِيم وَأجْمع مَعَه الْفُقَهَاء
الْبَاقُونَ على ذَلِك فأعجب مَرْوَان ذَلِك وَقَالَ لسماك قد وليتك الْقَضَاء
ثمَّ كتب إِلَى الْوَلِيد يُخبرهُ أَن القَاضِي قبلي قَالَ كَذَا وَكَذَا فحين
وصل كِتَابه إِلَى الْوَلِيد استدعى خَالِد بن أسيد وَأَوْقفهُ عَلَيْهِ
فَأَجَابَهُ وأزوجه وَلم أتحقق لَهُ وَلَا لفقهاء الْملَّة الْمَذْكُورين
تَارِيخا وَأما ابْن طَاوُوس فقد ذكرته أَولا بل تعرف نهايتهم بِزَمَان الْوَلِيد
بن يزِيد إِذا كَانَ فِي بعض سنة خمس وَعشْرين إِلَى بعض سنة سِتّ وَعشْرين ومئة
إِذْ كَانَت ولَايَته سنة وشهرين
وَمِنْهُم عَمْرو بن عبيد حيرد
إِمَام أهل صنعاء أدْرك ابْن الزبير وَصلى خَلفه وَلما قدم ابْن جريج صنعاء أَخذ
عَنهُ وَكَانَ من أَصْحَابه إِبْرَاهِيم بن خَالِد
أحد عباد صنعاء
ومؤذنها
حُكيَ أَنه صلى الْعشَاء وَأخذ فِي الْعِبَادَة حَتَّى طلع
الْفجْر وَصلى الصُّبْح بِوضُوء الْعشَاء وَرجل يرمقه من أول اللَّيْل فَلَمَّا
طلعت الشَّمْس جَاءَ الرجل الَّذِي بَات يرمقه فَسلم عَلَيْهِ وَقَالَ لم لَا نمت
البارحة قَالَ وجعلتني بَالا قَالَ نعم قَالَ فَإِنِّي رمقت ابْن دريه صلى
الْعَتَمَة ثمَّ أوتر فَرفع يَدَيْهِ نَحْو السَّمَاء وشخص ببصره فَلم يزل
كَذَلِك حَتَّى طلع الصُّبْح بِوضُوء الْعَتَمَة وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه عَليّ
يَأْتِي ذكره فِي أَصْحَاب معمر وَمِنْهُم مُحَمَّد بن سميع عده الإِمَام أَحْمد
فِي تَابِعِيّ الْيمن وَلم ينْسبهُ إِلَى مخلاف مِنْهَا
وَمِنْهُم
سُلَيْمَان بن دَاوُود بن قيس أَخذ الْعلم عَن الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد
الْمَكِّيّ وَطَلْحَة بن عَمْرو وَهُوَ أحد أَشْيَاخ الْفَقِيه عبد الرَّزَّاق
الْآتِي ذكره
وَكَانَ يفضل بِمَعْرِِفَة الْكتب على وهب وَهُوَ عِنْد
أهل صنعاء بِمَنْزِلَة وهب وَهَمَّام بن نَافِع
وَمِنْهُم عريف بن
إِبْرَاهِيم الصَّنْعَانِيّ وَالنضْر بن كثير يروي عَن طَاوُوس وَسماك بن
الْوَلِيد الجيشاني قَالَ ابْن سَمُرَة وَمِمَّنْ عده الدَّارَقُطْنِيّ من أهل
الْيمن طَاوُوس وَزَمعَة بن صَالح وَعبد الله بن عِيسَى مقدم الذّكر وَعبيد بن
بحير بن ريسان الْآتِي ذكره بِأَبِيهِ فِي الْوُلَاة وَسَلام ابْن وهب وتلميذه
زيد بن الْمُبَارك الصَّنْعَانِيّ وعَلى بن عبد الحميد أَخذ عَن طَاوُوس وَأخذ
عَنهُ ابْن جريج وَقَالَ مِمَّن
نقل عَنهُ الْفِقْه والْحَدِيث قبل
ظُهُور مَذْهَب الشَّافِعِي مُحَمَّد بن يُوسُف الجذامي روى عَنهُ أَبُو سعيد
الجندي مَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عمرَان الْبَصْرِيّ مَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد
بن الْحسن من فقه أبي حنيفَة
وانقضى ذكر من حَقَّقَهُ الرَّازِيّ
وَابْن سَمُرَة من فُقَهَاء الْيمن فِي الطَّبَقَة الأولى ثمَّ الثَّانِيَة ثمَّ
الثَّالِثَة ثمَّ صَار الْعلم فِي دَرَجَة رَابِعَة إِمَام أَهلهَا أَبُو عُرْوَة
معمر بن رَاشد مولده الْبَصْرَة سنة ثَلَاث وَتِسْعين وبتاريخه ولد مَالك
وَالثَّوْري وَكَانَ تَاجِرًا وَهُوَ يرى النَّاس يعظمون الْحسن الْبَصْرِيّ
وَلما
توفّي الْحسن عظم أَسف النَّاس عَلَيْهِ فغبطه معمر على ذَلِك وَسَأَلَ عَن سَببه
فَقيل كَونه عَالما فَانْتدبَ لطلب الْعلم وجد فِيهِ وَترك التِّجَارَة وَكَانَ
الْعلم فِي الْيمن أشهر من سواهُ وَقد ذكرت قَول أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ لَهُ
فِي ذكر ابْن طَاوُوس
فَلَمَّا قدم الْيمن أَخذ عَن ابْن طَاوُوس
وَغَيره كهشام بن عُرْوَة وَقَتَادَة وَإِلَيْهِ قدم السُّفْيانَانِ الثَّوْريّ
وَابْن عُيَيْنَة وَابْن الْمُبَارك وَغَيرهم وَعنهُ أَخذ جمَاعَة من الْعلمَاء
مِنْهُم عبد الرَّزَّاق وَالْقَاضِي هِشَام وَله كتاب فِي السّنَن مُفِيد يقرب
مأخذه وَوَضعه من الْمُوَطَّأ وَمن سنَن أبي قُرَّة وَهُوَ أقدم مِنْهُمَا
وَكَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول فُقَهَاء الْعَرَب سِتَّة أفقه السِّتَّة
ثَلَاثَة أفقه الثَّلَاثَة معمر
وَكَانَ معمر لُزُوما للسّنة نفورا
عَن الْبِدْعَة لَا يرى السَّيْف على أهل الْقبْلَة وَذكر الرَّازِيّ
بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن يُوسُف بن زِيَاد أَنه قَالَ لعبد الرَّزَّاق من
الْقَائِل لمعمر وَأَنْتُم فِي صرح الْمَسْجِد يَا أَبَا عُرْوَة إِن النَّاس
يَقُولُونَ إِنَّك تصلي خلف هَذَا الظَّالِم يعنون ابْن زَائِدَة وَلَا تَعْتَد
بهَا فَقَالَ أَنْت رجل صنعاني يَنْبَغِي لَك أَولا أَن تعرف مذهبي
إِنِّي
مَا أحب أَن لي ملْء هَذَا الْمَسْجِد ذَهَبا يخرج من شرفاته وتفوتني صَلَاة
الْجَمَاعَة قَالَ مُؤَلفه غفر الله لَهُ قَوْله أَنْت رجل صنعاني خرج من معمر
على طَرِيق الْإِنْكَار كَمَا قَالَت أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة لامْرَأَة
سَأَلتهَا مَا بَال الْحَائِض تُؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا تُؤمر بِقَضَاء
الصَّلَاة أحرورية إنت نسبتها إِلَى بلد ظهر مِنْهَا الْخَوَارِج وَمن عاداتهم
الصدْق فِي السُّؤَال والإيغال فِي الْمقَال وَكَذَلِكَ صنعاء أول بلد فِي الْيمن
أنكر أَهلهَا الصَّلَاة خلف الظلمَة وَأَن من صلى خلف أحد مِنْهُم أعَاد ثَانِيَة
وَذَلِكَ الْغَالِب فِيهَا وَفِي نَوَاحِيهَا مُنْذُ أول الْإِسْلَام إِلَى عصرنا
سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة وَذَلِكَ أَنهم فِي الْغَالِب لَا يحْضرُون
للصَّلَاة وَلَا يأتمون إِلَّا بِمن يتحققون نزاهته عَن الْمعاصِي والنجاسات
وَالْمذهب
الْحق الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْإِسْلَام أَن الْمُسلم لَهُ معرفَة
الْأَحْكَام فِي جَوَاز الصَّلَاة خلف من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَّا مَا
حُكيَ عَن طَاوُوس وَقد مضى وَوَافَقَهُ على ذَلِك أَئِمَّة الزيدية وَمن قَالَ
بقَوْلهمْ وَهُوَ قَول غَالب أهل صنعاء ونواحيها وَقد يخرج من الْبَلَد قَلِيل
أما الشَّافِعِيَّة وهم الَّذين يَجْتَمعُونَ للصَّلَاة بالجامع وإسماعيلية
وَكَانُوا يَقُولُونَ لكل عَالم هفوة وهفوة طَاوُوس عدم استجازة الصَّلَاة خلف
الظلمَة
وَكَانَت مُدَّة إِقَامَة معمر بِصَنْعَاء عشْرين سنة
وَتُوفِّي فِيهَا برمضان سنة ثَلَاث وَخمسين ومئة بذلك أخبر إِبْرَاهِيم بن
خَالِد الْمُؤَذّن بِجَامِع صنعاء وَقَالَ صليت عَلَيْهِ وَله ثَمَان وَخَمْسُونَ
سنة
قَالَ الكاشغري قَالَ مُحَمَّد بن بسطَام وَكَانَ من أفاضل
النَّاس
رَأَيْت معمرا وَشهِدت جنَازَته وَأعرف قَبره فِي الحقل بخزيمة مَقْبرَة صنعاء
وَهُوَ أول من قبر هُنَاكَ فَسَأَلته أَن يذهب معي ليرينيه فَذهب وَأَنا مَعَه
وأوقفني بمَكَان دارس على قرب من مَسْجِد عَليّ بن أبي بكر الَّذِي يصلى فِيهِ
على الْمَوْتَى المقبورين فِي الْمقْبرَة
وَأهل الْعرَاق يَزْعمُونَ
أَن معمرا مَفْقُود وَلَيْسَ كَذَلِك وَقد عرض ذكر الْحسن الْبَصْرِيّ
والسفيانان
وَالْحسن هُوَ أَبُو سعيد الْحسن بن أبي الْحسن بن يسَار
الْبَصْرِيّ بِالْوَلَاءِ ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من خلَافَة عمر وَكَانَت أمه
خادمة لأم سَلمَة زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا ولد عِنْدهَا
أخرجته إِلَى عمر فَدَعَا لَهُ وَقَالَ اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وحببه إِلَى
النَّاس وَكَانَت أمه مَتى راحت تقضي لسيدتها حَاجَة وَبكى جعلت ثديها فِي فَمه
تشغله بذلك حَتَّى تَأتي أمه وَرُبمَا درت عَلَيْهِ وَكَانَ النَّاس يرَوْنَ أَن
سَبَب بركته من ذَلِك وَكَانَ أنس كثيرا مَا يسْأَل عَن أَمر فَيَقُول اسألوا
مَوْلَانَا الْحسن فَإِنَّهُ سمع وَسَمعنَا وَحفظ ونسينا وَكَانَ قَتَادَة
الْعَدوي يَقُول الزموا هَذَا الشَّيْخ وَيُشِير إِلَيْهِ فَمَا رَأَيْت أحد أشبه
رَأيا بعمر مِنْهُ وَقَالَ أَبُو بردة الْأَشْعَرِيّ وَقد ذكرت أَصْحَاب عمر
فَمَا رَأَيْت أحدا أشبههم كَهَذا الشَّيْخ يَعْنِي الْحسن وَقَالَ عَليّ بن زيد
أدْركْت عُرْوَة بن الزبير وَسَعِيد بن الْمسيب وَيحيى بن جعدة وَالقَاسِم بن
مُحَمَّد وسالما وَآخَرين فَلم أر مثله فيهم وَلَو أَن الْحسن أدْرك أَصْحَاب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ رجل لاحتاجوا إِلَى رَأْيه رأى ابْن
سِيرِين كَأَن الجوزاء تقدّمت الثريا فَقَالَ يَمُوت الْحسن وأموت بعده وَهُوَ
أشرف مني فَكَانَ كَمَا قَالَ وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ سنة عشر ومئة
وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَمَانِينَ سنة وَسَيَأْتِي ذكر السُّفْيانَانِ وَمِنْهُم
أَبُو خُلَيْد مُحَمَّد بن ماجان وَيعرف
بِصَاحِب معمر وصهره إِذْ
تزوج معمر أُخْته أَخذ الْقِرَاءَة عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء حِين قدم صنعاء
فَارًّا من الْحجَّاج وَأحب إِيرَاد نبذه من أَحْوَال أبي عَمْرو فَهُوَ أَبُو
عَمْرو أختلف فِي اسْمه فَقيل زبان وَقيل الْعُرْيَان وَقيل يحيى وَقيل كنيته
أَبُو عمار بن عبد الله بن الْحصين بن الْحَارِث بن جلهم بن خزاعى التَّمِيمِي
نسبا كَانَ عَمه عَاملا للحجاج فصادره فهرب وَدخل صنعاء وعدن وَقَالَ كنت لَيْلَة
مفكرا فِي حَالي مَعَ الْحجَّاج إِذْ سَمِعت منشدا ... رُبمَا تجزع النُّفُوس من
الْأَمر لَهُ فُرْجَة كحل العقال
ثمَّ توفّي عقيب ذَلِك بِالْكُوفَةِ
سنة أَربع وَخمسين ومئة
وَمِنْهُم عبد الله بن كثير الْمقري مولى عبد
الله بن السَّائِب المَخْزُومِي وَكَانَت قِرَاءَته على مُجَاهِد بن جُبَير أبي
الْحجَّاج بِأَخْذِهِ عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ أقدم الْقُرَّاء السَّبْعَة
وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة بعد أَن قَامَ بهَا دهرا وقراءته الْغَالِبَة على
أَهلهَا وَذَلِكَ سنة سِتّ وَعشرَة وَقيل بعد عشْرين ومئة
وَمِنْهُم
رَبَاح بن زيد كَانَ ذَا فضل وَدين وَمَعْرِفَة للْقِرَاءَة سجن بَصَره آخر عمره
فَكَانَ لَا يزَال وَاضِعا رَأسه على رُكْبَتَيْهِ فَإِذا دخل عَلَيْهِ أحد وَسلم
رفع رَأسه إِلَيْهِ وَفتح عَيْنَيْهِ ورد عَلَيْهِ ثمَّ أعَاد رَأسه إِلَى
رُكْبَتَيْهِ
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر بن مقسم أدْرك أَصْحَاب وهب
وَأخذ عَنْهُم وَكَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَة
وَمِنْهُم أَبُو
الْأَشْعَث شرَاحِيل بن شُرَحْبِيل بن كُلَيْب بن أزدشير من الْأَبْنَاء نزل
أخيرا دمشق وَمَات بهَا وعده الْحَاكِم فِي تَابِعِيّ الْيمن من نَقله
الْآثَار
وَمِنْهُم عَطاء بن مركيوذ وَضبط مركيوذ بِفَتْح الْمِيم
وَقيل بخفضها وَسُكُون الرَّاء وَضم الْكَاف وَالْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت
وَسُكُون الْوَاو ثمَّ ذال مُعْجمَة أَيْضا
قَالَ الشَّيْخ أَبُو
إِسْحَاق فِي طبقاته هُوَ أول من جمع الْقُرْآن يَعْنِي من أهل الْيمن وَأما
الرَّازِيّ فَقَالَ أول من جمع الْقُرْآن بِصَنْعَاء أَبُو شرِيف العابد واسْمه
عبد الله بن بريد كَانَ عابدا محققا وَكَانَ معاصرا لوهب بن مُنَبّه روى
الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنهُ أَنه قَالَ رَأَيْت لَيْلَة الْقدر مرَّتَيْنِ
مرّة بِمَسْجِد صنعاء وَأُخْرَى بِمَكَّة
فَقيل لَهُ أَي لَيْلَة
رَأَيْتهَا فَقَالَ لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين من الْعَام الأول وَفِي الثَّانِي
لَيْلَة أَربع وَعشْرين فَقيل أَي سَاعَة من اللَّيْل فَقَالَ فِي الثُّلُث
الْأَوْسَط قيل كَيفَ رَأَيْتهَا قَالَ رَأَيْت السَّمَاء منفرجة وَدخل عَلَيْهِ
سامك وَلم يكن بِدُونِهِ فِي الْعِبَادَة فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ
لَهُ أَبُو شرِيف أحَدثك بِشَيْء إِن قُمْت من مرضِي هَذَا فَلَا أحب أَن تذكره
وَإِن مت فافعل مَا شِئْت خطر ببالي ذكر الْحور الْعين وَسَأَلت الله أَن يزوجني
مِنْهُنَّ وَكنت مغطيا رَأْسِي فَكشفت عَنهُ فَإِذا عِنْد وِسَادَتِي مِنْهُنَّ
وَاحِدَة فكلمتني وكلمتها
قَالَ الرَّازِيّ وَرَأى رجل من أهل صنعاء
ملكَيْنِ قد نزلا من السَّمَاء على صنعاء خَاصَّة فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر أُرِيد
أخسف بِهَذِهِ الْبَلدة فَقَالَ وَكَيف تخسف بهَا وَبهَا أَبُو شرِيف ووهب بن
مُنَبّه
وَمِنْهُم زِيَاد سميركوش أَي قصير الْأذن عده مُسلم فِي
تَابِعِيّ الْيمن
وَمِنْهُم إِسْمَاعِيل بن شروس لَقِي أَصْحَاب ابْن
عَبَّاس كوهب وَعَطَاء وَعِكْرِمَة ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة خَامِسَة
يَنْبَغِي أَن نبدأ من أَهلهَا بِالْإِمَامِ المرحول إِلَيْهِ من الْآفَاق وَهُوَ
أَبُو بكر عبد الرَّزَّاق بن همام بن نَافِع الْحِمْيَرِي بِالْوَلَاءِ قَالَ
الرَّازِيّ هُوَ مولى المغيثيين وهم قوم يسكنون بَلَدا يُقَال لَهَا دروان من
مخلاف ذمار ينسبون إِلَى ذِي مغيث بن ذِي الثوجم الْأَوْزَاعِيّ ثمَّ
الْهَمدَانِي مولده سنة سِتّ وَعشْرين ومئة تفقه بِمَعْمَر وَأخذ عَن همام بن
مُنَبّه وَعَن عبد الله بن عِيسَى الجندي مقدم الذّكر وسُفْيَان الثَّوْريّ
وَابْن جريج وَأدْركَ ابْن طَاوُوس وَهُوَ ابْن عشر سِنِين فَيُقَال إِنَّه أَخذ
عَنهُ وَإِلَيْهِ قدم ابْن رَاهَوَيْه وَأحمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ
وَيحيى بن معِين قَالَ الْحَافِظ فِي حَقه لم يرحل إِلَى أحد بعد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طلب الْعلم كَمَا رَحل إِلَى عبد الرَّزَّاق وَله تصنيف
أَخذه عَنهُ الإِمَام أَيْضا وَأحمد وَهُوَ مَوْجُود بِبَغْدَاد من
الْحَنَابِلَة
وَله تارخ أَيْضا أَخذه عَنهُ الإِمَام أَيْضا وَأَخذه غَيره عدَّة مفرقات وَهُوَ
أحد أَئِمَّة الْأَمْصَار الْمَعْدُودين توفّي بِصَنْعَاء غَالِبا سنة اثْنَتَيْ
عشرَة ومئتين
وَقد عرض مَعَ ذكره جمَاعَة من أَعْيَان النَّاس
الْعلمَاء فأذكر من أَحْوَالهم بعض مَا صَحَّ مَعَ ذكر تواريخهم فَمنهمْ همام
وسُفْيَان وَابْن جريج أحد من أَخذ عَنْهُم
فسفيان هُوَ أَبُو عبد
الله سُفْيَان بن شُعْبَة بن مَسْرُوق بن حبيب بن رَافع بن عبد الله بن موهبة بن
منقذ بن نصر بن الحكم بن الْحُوَيْرِث بن مَالك بن ملكان بن ثَوْر بن عبد مَنَاة
الثَّوْريّ نِسْبَة إِلَى جده هَذَا ثَوْر
مولده سنة خمس وَقيل سبع
وَسِتِّينَ من الْهِجْرَة مَعْدُود من أكَابِر الْأَئِمَّة من أهل الْأَمْصَار
على الْعُمُوم وَمن أهل الْكُوفَة على الْخُصُوص وَيُقَال لَهُ الْكُوفِي أَيْضا
لِأَنَّهَا بِلَاده ومنشأه أجمع النَّاس على دينه وورعه وزهده وثقته وَهُوَ أحد
الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين
قَالَ ابْن عُيَيْنَة مَا رَأَيْت رجلا
أعلم بالحلال وَالْحرَام من سُفْيَان وَيُقَال إِن الشَّيْخ الْجُنَيْد كَانَ على
مذْهبه وَالأَصَح أَنه كَانَ على مَذْهَب أبي ثَوْر وَقَالَ ابْن الْمُبَارك لَا
نعلم على وَجه الأَرْض أعلم من سُفْيَان الثَّوْريّ وَكَانَ رَأس النَّاس فِي
زَمَانه وَقَبله الشّعبِيّ وَقَبله ابْن عَبَّاس وَقَبله عمر
وَمُسْنَده
عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي وَالْأَعْمَش وَمن فِي طبقتهما وَسمع مِنْهُ
الْأَوْزَاعِيّ وَابْن جريج وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَمَالك
وَتلك
الطَّبَقَة وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ متواريا عَن السُّلْطَان وَذَلِكَ سنة
إِحْدَى
وَسِتِّينَ ومئة فِي خلَافَة الْمهْدي دخل فِي أَيَّام تواريه
على جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق فَقَالَ لَهُ يَا سُفْيَان أَيْن تدخل
وَالسُّلْطَان يطلبك وَنحن نتوقاه قَالَ حَدثنِي حَتَّى أخرج عَنْك قَالَ حَدثنِي
أبي عَن جدي قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أنعم الله عَلَيْهِ
فليشكر الله وَمن استبطأ الرزق فليستغفر الله وَمن أحزنه أَمر فليكثر من لَا حول
وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَدفن عشَاء رَحمَه الله وَلم
يعقب وَالثَّوْري بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَبعدهَا وَاو سَاكِنة ثمَّ رَاء
ثمَّ يَاء نِسْبَة إِلَى بطن من تَمِيم وَثمّ ثوري آخر إِلَى بطن من بطُون
هَمدَان
وَأما ابْن جريج فَهُوَ أَبُو الْوَلِيد عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز بن جريج الْقرشِي بِالْوَلَاءِ الْمَكِّيّ وجريج بِضَم الْجِيم وَفتح
الرَّاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ جِيم أَيْضا وَكَانَ عبدا
لآل أم حبيب بنت جُبَير
مولده سنة ثَمَانِينَ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ
معدودا فِي أَعْيَان عُلَمَاء مَكَّة وَيُقَال إِنَّه أول من صنف الْكتب فِي
الْإِسْلَام قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق ابْن جريج مَا دون هَذَا الْعلم
تدويني أحد جالست عَمْرو بن دِينَار بَعْدَمَا فرغت من عَطاء سبع سِنِين وَقَالَ
لم يغلبني أحد على يسَار عَطاء عشْرين سنة قيل فَمَا مَنعك من يَمِينه قَالَ
كَانَت قُرَيْش تغلبني عَلَيْهِ وَدخل أَيْضا الْيمن كسفيان ووفد على ابْن
زَائِدَة فَأكْرمه وَأحسن إِلَيْهِ وَكَانَت وَفَاته سنة خمس وَخمسين ومئة
وَأما
همام فقد سبق ذكره فِي أول طبقته
وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ وقصده إِلَى
صنعاء جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عبد الله أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل بن هِلَال
بن أَسد بن إِدْرِيس بن عبد الله بن حَيَّان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَالْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت مشدودة ثمَّ ألف ثمَّ نون بن عبد الله بن سِنَان
الشَّيْبَانِيّ نِسْبَة إِلَى جده هَذَا الْمَرْوِيّ الأَصْل خرجت بِهِ أمه
حَامِلا بِهِ من مرو فولدته بِبَغْدَاد فِي أحد الربيعين من سنة أَربع وَسِتِّينَ
ومئة وبلغه عَن إِبْرَاهِيم بن أبان الْآتِي ذكره فِي عدن فضل فقصده فَلم يجده
كَمَا قيل فَقَالَ فِي سَبِيل الله الدريهمات الَّتِي أنفقناها فِي السّفر إِلَى
إِبْرَاهِيم ثمَّ قدم إِلَى عبد الرَّزَّاق فِي صنعاء فَأخذ عَنهُ وَأقَام عِنْده
مُدَّة وَسُئِلَ عَنهُ عبد الرَّزَّاق فَقَالَ مَا رَأَيْت أفقه مِنْهُ وَلَا
أورع مِنْهُ بَلغنِي أَن نَفَقَته نفدت وَأَنه أكرى نَفسه من الحمالين حَتَّى قدم
صنعاء فَأخذت عشرَة دَنَانِير وخلوت بِهِ وَقلت لَهُ إِنَّه لَا يجْتَمع عندنَا
الدَّنَانِير وَقد وجدت مَعَ النِّسَاء عشرَة دَنَانِير فَخذهَا أنفقها فَإِنِّي
أَرْجُو أَن لَا تنفد حَتَّى قد تهَيَّأ غَيرهَا فَتَبَسَّمَ وَقَالَ يَا أَبَا
بكر لَو قبلت شَيْئا من النَّاس قبلت مِنْك
وَأخذ عَن عبد الْملك
الذمارِي وَقَالَ سَأَلته أَيْن بلد طَاوُوس فَقَالَ هُوَ من أهل الْجند وَكَانَ
ذَا علم شهير وَفقه كثير أحد أَعْيَان الْإِسْلَام وفضلاء الْأَنَام وَكتابه
الْمسند وَمَا جمع فِيهِ من الْأَحَادِيث الَّتِي لم تتفق لغيره يدلان على تميزه
على سَائِر الْفُقَهَاء والمحدثين وَذكروا أَنه يحفظ ألف ألف حَدِيث
وَلما
قدم الشَّافِعِي بَغْدَاد صَحبه واختص بِهِ وَلما خرج من بَغْدَاد سُئِلَ عَن من
خَلفه فِيهَا فَقَالَ مَا خلفت بهَا أتقى وَلَا أفقه من ابْن حَنْبَل
ودعي
إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن فَامْتنعَ وَحبس وَضرب لَا يزِيدهُ ذَلِك إِلَى
ثبوتا على نفي الْخلق عَنهُ وَكَانَ حسن الْوَجْه ربعَة يختضب بِالْحِنَّاءِ
خضابا لَيْسَ بالقاني فِي لحيته شَعرَات سود
أَخذ عَنهُ جمَاعَة من
أَمْثَال مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يكن لَهُ فِي آخر
عمره نَظِير فِي سَعَة الْعلم ودقة الْعَمَل إِلَى أَن توفّي نَهَار الْجُمُعَة
لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين ومئتين
وَلما
قبض صَاح النَّاس وعلت أَصْوَاتهم بالبكاء حَتَّى كَأَن الدُّنْيَا ارتجت وَلم
يبْق أحد فِي جَانِبي بَغْدَاد إِلَّا حضر قبرانه غير أهل مَسْجِد الْحَارِث بن
أَسد المحاسبي فهجروه على ذَلِك دهرا وحزر من حضر جنَازَته للصَّلَاة من
الرِّجَال فَكَانُوا ثمانمئة ألف من النِّسَاء سِتِّينَ ألفا وَأسلم إِذْ ذَاك
عشرُون ألفا من يَهُودِيّ وَنَصْرَانِي ومجوسي وَرَآهُ بعد ذَلِك من كَانَ
يَصْحَبهُ وَعَلِيهِ حلتان خضراوان وعَلى رَأسه تَاج من نور وَهُوَ يتبختر فِي
مشيته فَقَالَ يَا سَيِّدي مَا هَذِه المشية الَّتِي لم أكن أعرفهَا فِيك فَقَالَ
الإِمَام مشْيَة الخدام فِي دَار السَّلَام إِن رَبِّي حاسبني يَسِيرا وحباني
وقربني وأبلغني النّظر وتوجني بِهَذَا التَّاج وَقَالَ يَا أَحْمد هَذَا تَاج
الْوَقار توجتك بِهِ لِقَوْلِك بِالْقُرْآنِ كَلَامي غير مَخْلُوق
وَمِنْهُم
ابْن رَاهَوَيْه أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن أبي الْحسن إِبْرَاهِيم بن مخلد بن
إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي الْمروزِي مولده أحد شهور سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَقيل
سنة سِتّ وَسِتِّينَ ومئة
وراهويه لقب لِأَبِيهِ إِذْ ولد بطرِيق
مَكَّة وَالطَّرِيق بِالْفَارِسِيَّةِ رَاه وويه بِمَعْنى وجد بِالطَّرِيقِ
وَضَبطه بِفَتْح الرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ هَاء سَاكِنة وواو مَفْتُوحَة ثمَّ يَاء
مثناة من تَحت ثمَّ هَاء سَاكِنة وَقيل غَيره وَهَذَا أشهر ومخلد بِفَتْح الْمِيم
وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام وَبعدهَا دَال مُهْملَة والحنظلي
نِسْبَة إِلَى حَنْظَلَة بن مَالك إِلَى فَخذ من تَمِيم والمروزي نِسْبَة إِلَى
مَدِينَة عَظِيمَة بخراسان تعرف بمرو الشاهجان إِذْ هُنَاكَ مَدِينَة أُخْرَى
تسمى مروروذ إِذْ بنيت على نهر فَإِن النَّهر بلغَة الْفرس الروذ والشاهجان زوج
الْملك لِأَن الْملك الَّذِي بناها كَانَ مغرما بهَا فسميت بِهِ خرج من هَاتين
المدينتين جمَاعَة من أَعْيَان الْعلمَاء فَلذَلِك أَحْبَبْت بيانهما وَقدر
الْمسَافَة
بَينهمَا أَرْبَعُونَ فرسخا فالنسبة إِلَى مرو الشاهجان مروزي وَإِلَى مرو الروذ
مروروذي لغَرَض الْفرق فَإِذا اجتمعتا قيل المروان وَذكر فِي الشّعْر كثيرا من
ذَلِك قَول الأخطل حِين دخل على يزِيد بن الْمُهلب وَهُوَ فِي أسر الْحجَّاج ...
أَبَا خَالِد ضَاقَتْ خُرَاسَان بعدكم ... وَقَالَ ذَوُو الْحَاجَات أَيْن
يزِيد
فَلَا قطرت بالمرو بعْدك قَطْرَة ... وَلَا أَخْضَر بالمروين
بعْدك عود
فَمَا لسرير بعد ملكك بهجة ... وَلَا لجواد بعد جودك جود
...
قَالَ ابْن خلكان كَانَ ابْن رَاهَوَيْه أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام
عده الدَّارَقُطْنِيّ فِيمَن روى عَن الشَّافِعِي وعده الْبَيْهَقِيّ فِي
أَصْحَابه وَكَانَ قد نَاظر الشَّافِعِي ثمَّ اعْترف بفضله فنسخ كتبه وَجمع
مصنفاته بِمصْر وَكَانَ من أعرف النَّاس بِالْحَدِيثِ حَتَّى قيل كَانَ يحفظ
سبعين ألف حَدِيث وَمَا سمع شَيْئا قطّ إِلَّا حفظه وَلَا حفظ شَيْئا قطّ
فنسيه
سكن بنيسابور فِي آخر عمره فَتوفي بهَا لَيْلَة النّصْف من
شعْبَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ ومئتين
وَمِنْهُم عَليّ بن عبد الله
بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ وَهُوَ مَعْدُود فِي أَصْحَاب الإِمَام الشَّافِعِي كتب
عَن الشَّافِعِي كتاب الرسَالَة وَحمله إِلَى عبد الرَّحْمَن بن الْمهْدي فأعجب
بِهِ
نرْجِع حِينَئِذٍ إِلَى ذكر عُلَمَاء الْيمن الْمَوْجُودين فِي
طبقَة عبد الرَّزَّاق فَمن أهل الْجند مُحَمَّد بن خَالِد وَهُوَ أحد شُيُوخ
الشَّافِعِي وروى عَنهُ مَا رَوَاهُ عَن أبان بن صَالح عَن الْحسن عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يزْدَاد الْأَمر إِلَّا شدَّة وَلَا الدُّنْيَا
إِلَّا إدبارا وَلَا النَّاس إِلَّا شحا وَلَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار
النَّاس وَلَا مهْدي إِلَّا عِيسَى بن مَرْيَم
قَالَ ابْن سَمُرَة روى
هَذَا الْخَبَر عَن الشَّافِعِي يُونُس بن عبد الْأَعْلَى أحد أَصْحَابه
وَلِهَذَا خرجه الْقُضَاعِي فِي كتاب الشهَاب وَكَانَ بعض الْفُقَهَاء يسْتَدلّ
على أَن الشَّافِعِي دخل الْجند كَمَا دخل صنعاء بروايته عَن هَذَا مُحَمَّد بن
خَالِد
وَمِنْهُم يحيى بن وثاب الجندي أدْرك طَاوُوس وحَنْظَلَة
وَغَيرهمَا وَمن صنعاء
عبد الله بن صَالح بن أبي غَسَّان الْكُوفِي
سكن صنعاء إِلَى أَن توفّي بهَا وعد من فضلائها وَكَانَ مجيدا للْقِرَاءَة بِحرف
حَمْزَة لَيْسَ بَينه وَبَينه غير رجلَيْنِ وَكَانَ يقْرَأ أَيْضا بِحرف عَاصِم
وَكَانَ نَسِيج وَحده عبَادَة وفضلا وتعليما للخير
خرج من صنعاء إِلَى
سعوان لبَعض حَوَائِجه فرصده راصد فَإِذا بِهِ لم يتَوَضَّأ فِي الْيَوْم
وَاللَّيْلَة غير مرّة وَقت الظّهْر وَكَانَ يقرىء النَّاس سنة أَربع ومئتين وروى
عَن عبد الحميد بن مَرْوَان بن سَالم عَن عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء
عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أول مَا يجازى
بِهِ العَبْد الْمُؤمن بعد مَوته أَن يغْفر لجَمِيع من شيع جنَازَته وَكَانَ يجيد
الْقِرَاءَة بالطريقين الْمَذْكُورين
وَمن أهل عدن جمَاعَة مِنْهُم
أَبُو مَرْوَان الحكم بن أبان بن عَفَّان بن الحكم بن عُثْمَان الْعَدنِي أدْرك
ابْن طَاوُوس بالجند فَأخذ عَنهُ وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي صفة الصفوة وَقَالَ
كَانَ مشيخة يعْتَبر قَوْلهم يَقُولُونَ كَانَ الحكم بن أبان سيد أهل الْيمن
وَكَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذا غَلبه النّوم ألْقى بِنَفسِهِ فِي الْبَحْر
وَقَالَ أسبح لله عز وَجل مَعَ الْحيتَان وَأسْندَ عَن عِكْرِمَة وَغَيره وامتحن
بِقَضَاء عدن وَكَانَ مَشْهُورا بِالْكَرمِ
ومسجده الَّذِي كَانَ يقف
فِيهِ من عدن هُوَ مَسْجِد أَبِيه الَّذِي يعرف عِنْد أهل عدن بِمَسْجِد أبان
وَهُوَ أحد مَسَاجِد عدن الْمَشْهُورَة بِالْبركَةِ واستجابة الدُّعَاء فِي نجاح
الْحَوَائِج وَبِه أَقَامَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل حِين قدم للأخذ عَن ولد
هَذَا الْآتِي ذكره
وَمِنْهُم أَخُوهُ المكبر بن أبان وَكَانَ حَال
قدوم الإِمَام أَحْمد إِلَى عدن مَوْجُودا فَلَمَّا لم يجد إِبْرَاهِيم ابْن
أَخِيه كَمَا بلغه قَالَ لهَذَا فِي سَبِيل الله الدريهمات الَّتِي أنفقناها
إِلَى ابْن أَخِيك
وَمِنْهُم ابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه
الحكم مقدم الذّكر وَهُوَ الَّذِي قدم إِلَيْهِ
الإِمَام أَحْمد على
السماع فَلم يجده كَمَا قيل وَقد ذكرت ذَلِك فِيمَا مضى وَكَانَ قدومه إِلَيْهِ
لبضع وَتِسْعين ومئة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنِي
كَانَ إِمَامًا فَاضلا كثير الْحَج حج سِتِّينَ حجَّة مَاشِيا على قَدَمَيْهِ
أَخذ
عَنهُ مُسلم بن الْحجَّاج وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَخرج عَنهُ مُسلم
عدَّة أَحَادِيث فِي صَحِيحه وَهُوَ أجل شُيُوخ الْمفضل الجندي الْآتِي ذكره مَعَ
جمع من الْيمن وَغَيرهم
وَهَذَا ذكر من عرض ذكره مَعَ هَذَا الْفَقِيه
أَوَّلهمْ مُسلم فَهُوَ مُسلم بن الْحجَّاج الْقشيرِي كَانَ إِمَامًا فِي
الحَدِيث شَيْخه البُخَارِيّ وَلم يثبت مَعَه فِي المحنة غَيره توفّي يَوْم
الْإِثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ ومئتين وَقد بلغ عمره
خمْسا وَخمسين سنة
وَأما التِّرْمِذِيّ فَكَانَت وَفَاته برجب سنة سبع
وَسبعين ومئتين وَقيل سنة خمس وَسبعين ومئتين وَلم يذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق
غَيره وَالدَّارَقُطْنِيّ بِبَغْدَاد توفّي بهَا فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس
وَثَمَانِينَ ومئتين ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَمِنْهُم
أَيمن بن نابل عده الْحَاكِم فِي أهل الْيمن سكن مَكَّة وَأدْركَ الْقَاسِم بن
مُحَمَّد أحد فُقَهَاء الْإِسْلَام السَّبْعَة الَّذين يَقُول فيهم
.
. أَلا كل من لَا يَقْتَدِي بأئمة ... فقسمته ضيزى عَن الْحق خَارجه
فخذهم
عبيد الله عُرْوَة قاسما ... سعيدا سليمانا أَبَا بكر خَارجه ... وَقد تطلع نفس
الْمطَالع إِلَى مَا شرطناه فِي غَالب الْكتاب من ذكر من عرض ذكره من الْأَعْيَان
فأذكرهم على تَرْتِيب الْبَيْت الأول فأولهم عبيد الله كنيته أَبُو عبد الله
واسْمه عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود الْهُذلِيّ عبد الله بن
مَسْعُود الصَّحَابِيّ عَم أَبِيه عبد الله كَانَ إِمَامًا كَبِيرا ذَا فنون
كَثِيرَة قَالَ بَعضهم أعلم من رَأَيْت سعيد بن الْمسيب وأغزرهم عُرْوَة وَلَا
تعجز من عبيد الله بحرا إِلَّا وجدته كَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ ومئة وَقيل
غير ذَلِك
وَأما عُرْوَة فَهُوَ أَبُو عبد الله عُرْوَة بن الزبير بن
الْعَوام مولده سنة سِتّ وَعشْرين قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز مَا أحد أعلم من
عُرْوَة وَقَالَ الزُّهْرِيّ عُرْوَة بَحر لَا تكدره الدلاء توفّي سنة أَربع
وَتِسْعين
وَأما الْقَاسِم فَهُوَ أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن
مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ
مَالك كَانَ الْقَاسِم من فُقَهَاء هَذِه الْأمة توفّي سنة إِحْدَى أَو
اثْنَتَيْنِ ومئة وَقيل سنة ثَمَانِي ومئة وَقد بلغ عمره سبعين سنة أَو
اثْنَتَيْنِ وَسبعين
وَأما سعيد فَهُوَ أَبُو مُحَمَّد سعيد بن
الْمسيب بن حزن بن أبي وهب المَخْزُومِي ولد لِسنتَيْنِ مضتا من خلَافَة عمر أَخذ
عَن زيد بن ثَابت وجالس ابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو سعد بن أبي وَقاص وَدخل على
عَائِشَة وَأم سَلمَة وَسمع عُثْمَان وعليا وَأخذ رِوَايَته المسندة عَن أبي
هُرَيْرَة إِذْ تزوج ابْنَته وَقَالَ الْقَاسِم مقدم الذّكر هُوَ أعلمنَا
وَسَيِّدنَا وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ أَو أَربع
وَتِسْعين وَكَانَ يُقَال لهَذِهِ السّنة سنة الْفُقَهَاء لِكَثْرَة من مَاتَ
بهَا مِنْهُم
وَأما سُلَيْمَان فَهُوَ أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن
يسَار مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأسْندَ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَأم سَلمَة وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ
وَجَمَاعَة من الأكابر وَكَانَ المستفتي مَتى أَتَى سعيد بن الْمسيب قَالَ لَهُ
اذْهَبْ إِلَى سُلَيْمَان بن يسَار فَإِنَّهُ أعلم من بَقِي الْيَوْم
كَانَت
وَفَاته سنة مئة وَقيل سنة سبع ومئة
وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسبعين
سنة
وَأما أَبُو بكر فَهُوَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث
بن هِشَام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي واسْمه كنيته ولد فِي خلَافَة عمر وَكَانَ
يُسمى براهب قُرَيْش لعظم عِبَادَته ونظافة هَيئته وَكَانَت وَفَاته سنة أَربع
وَسبعين
وَأما خَارِجَة فَهُوَ أَبُو زيد خَارِجَة بن زيد بن ثَابت
الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ أَعنِي أَبَاهُ وَكَانَ خَارِجَة جليل الْقدر أدْرك
زمن عُثْمَان بن عَفَّان ولد فِي السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَقَالَ رَأَيْت
فِي الْمَنَام كَأَنِّي بنيت سبعين دَرَجَة فَلَمَّا فرغت مِنْهَا تدهورت وَهَذِه
السّنة لي سَبْعُونَ سنة قد أكملتها قَالَ فَمَاتَ فِيهَا
وروى عَنهُ
الزُّهْرِيّ ووفاته سنة تسع وَتِسْعين وَقيل مئة
هَؤُلَاءِ جملَة
الْفُقَهَاء لَوْلَا كَثْرَة حَاجَة فُقَهَاء الْأمة إِلَى معرفتهم لما ذكرتهم
وَحِينَئِذٍ نرْجِع إِلَى ذكر فُقَهَاء الْيمن فَمنهمْ أَبُو عبد الله مُحَمَّد
بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن داذويه الأبناوي ولي قَضَاء
صنعاء من قبل الْمَنْصُور وَكَانَ فَقِيها فَاضلا توفّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَقيل
إِحْدَى وَخمسين ومئة
وَمِنْهُم عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن
الأبناوي ثمَّ الذمارِي نِسْبَة إِلَى ذمار مَدِينَة على بعد مرحلَتَيْنِ من
صنعاء وَهِي بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَالْمِيم ثمَّ ألف ثمَّ رَاء ولي
الْقَضَاء من إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر الطَّالِبِيُّ حِين غلب على صنعاء
ثمَّ لما قدم ابْن ماهان من قبل الْمَأْمُون نقل إِلَيْهِ أَن هَذَا عبد الْملك
يكرههُ ويميل إِلَى الطَّالِبِيُّ فَقتله يَوْم الْجُمُعَة فِي شهر رَمَضَان سنة
مئتين وألقاه قَتِيلا على وَجه الأَرْض ثَلَاثَة أَيَّام لم يدْفن ثمَّ دفن بعد
ذَلِك وَقد أَخذ عَنهُ الإِمَام أَحْمد وَهُوَ الَّذِي سَأَلَهُ عَن بلد طَاوُوس
وَقد مضى ذكر ذَلِك
وَمِنْهُم هِشَام بن يُوسُف الأبناوي يعرف
بِالْقَاضِي أدْرك معمرا وَأخذ عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن ابْن جريج مقدم الذّكر
وَأخذ عَن عبد الله بن وهب بن مُنَبّه وَهُوَ أحد
شُيُوخ الإِمَام
الشَّافِعِي فِي الْيمن وَله فِي الصَّحِيحَيْنِ عدَّة أَحَادِيث وَأخذ عَنهُ
يحيى بن معِين ولي قَضَاء صنعاء لمُحَمد بن خَالِد حِين قدم نَائِبا من قبل
الرشيد وَذَلِكَ لنيف وَثَمَانِينَ ومئة وَلم أجد لَهُ تَارِيخا بل زَمَانه
مَأْخُوذ من زمن الْبَرْمَكِي وَكَانَ لَهُ ابْن إسمه عبد الرَّحْمَن يعد فِي أهل
الِاجْتِهَاد ذكره ابْن حزم المغربي وَكَانَ أَبوهُ هِشَام يؤم النَّاس مَعَ
الْقَضَاء أَيْضا ومؤذنه عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد الْمَذْكُور أَقَامَ
مُؤذنًا سبعين سنة
فَمن عَجِيب مَا جرى أَن النَّاس بِصَنْعَاء
أَقَامُوا شَهْرَيْن فاقدين للشمس لَا يعْرفُونَ الْأَوْقَات إِلَّا بِأَذَان
هَذَا عَليّ بن إِبْرَاهِيم وَكَانَ يعرفهَا بالوظائف حَتَّى كَانَ هِشَام يَقُول
مَا أحد بِصَنْعَاء إِلَّا وَلِهَذَا عَلَيْهِ فضل إِذْ هُوَ السَّبَب لسُقُوط
الْفَرْض عَمَّن سَمعه وَمن عَجِيب مَا جرى لَهُ أَنه لما حَضرته الْوَفَاة أوصى
أَن يبْنى لحده بِلَبن قد أعده فِي الْبَيْت فَخَلا بِهِ بعض أَصْحَابه
وَسَأَلَهُ فَقَالَ كنت إِذا عدت من الْخدمَة للجامع بسطت نطعا ونفضت ثِيَابِي
عَلَيْهِ فَمَا اجْتمع من تُرَاب جمعته حَتَّى كثر فَضربت مِنْهُ هَذَا اللَّبن
وَصَحب مَعَ هَذَا معمرا وَيُقَال لَهُ صَاحب معمر
وَمِنْهُم أَيُّوب
أَيُّوب مطرف بن مَازِن الْكِنَانِي بِالْوَلَاءِ وَقيل الْقَيْسِي أَيْضا
بِالْوَلَاءِ وَضَبطه بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وخفض الرَّاء مَعَ
التَّشْدِيد ثمَّ فَاء بعْدهَا
حدث عَن ابْن جريج الْمُقدم ذكره
وَغَيره وروى عَنهُ الإِمَام الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ رَأَيْت بعض حكام الْآفَاق
يحلف على الْمُصحف وَقَالَ حَاجِب سُلَيْمَان كَانَ مطرف رجلا
صَالحا
وَله عَنى بقوله قد كَانَ من حكام الْآفَاق يسْتَحْلف على الْمُصحف وَذَلِكَ
عِنْدِي حسن وولايته للْقَضَاء أول مرّة من قبل رجل يُقَال لَهُ ابْن إِسْحَاق
كَانَ نَائِبا لعَلي بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس وَذَلِكَ
لنيف وَسِتِّينَ ومئة ثمَّ عزل بِهِشَام ثمَّ أَعَادَهُ حَمَّاد ثمَّ عَزله
وَأعَاد هشاما وَتُوفِّي الْمطرف بمنبج وَقيل بالرقة فِي آخر أَيَّام الرشيد سنة
إِحْدَى وَتِسْعين ومئة
وَمِنْهُم أَبُو قُرَّة مُوسَى بن طَارق
الزبيدِيّ نِسْبَة إِلَى الْمَدِينَة الْمَشْهُورَة فِي الْيمن كَانَ إِمَامًا
كَامِلا لمعْرِفَة السّنَن والْآثَار وَكتابه فِيهَا يدل على ذَلِك وَهُوَ يروي
عَن مَالك وَأبي حنيفَة والسفيانين وَمعمر وَابْن جريج وَلم يكن أهل الْيمن
يعولون فِي معرفَة الْآثَار إِلَّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ قبل دُخُول الْكتب
الْمَشْهُورَة وعَلى سنَن معمر
وَحصل لي من سنَن أبي قُرَّة كتاب يعجب
لضبطه وتحقيقه قد قرىء على ابْن أبي ميسرَة بِجَامِع بلدي الْجند وَله عدَّة
مصنفات غير السّنَن الْمَذْكُورَة مِنْهَا كتاب فِي الْفِقْه انتزعه من فقه مَالك
وَأبي حنيفَة وَمعمر وَابْن جريج
وَكَانَ يكثر التَّرَدُّد بَين
بَلَده وعدن والجند ولحج وَله بِكُل مِنْهَا أَصْحَاب نقلوا عَنهُ السّنَن وشهروا
بِصُحْبَتِهِ يَأْتِي ذكر من تحققته
وَمن مسنداته عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من سره أَن ينجيه الله من كريات يَوْم
الْقِيَامَة فلينفس عَن مُعسر أَو ليَدع أدْرك نَافِعًا القارىء فَأخذ عَنهُ
الْقِرَاءَة وَكَانَ صَاحبه عَليّ بن زِيَاد الْآتِي ذكره يَقُول رَأَيْت أَبَا
قُرَّة طول مَا صحبته يُصَلِّي الضُّحَى أَربع رَكْعَات وَقد ينْسب إِلَى الْجند
وَالْأول أصح
وَكَانَت وَفَاته بزبيد سنة ثَلَاث ومئتين وَقد عرض مَعَ
ذكره ذكر جمَاعَة من أَعْيَان
الْعلمَاء مِنْهُم أَبُو حنيفَة
النُّعْمَان بن ثَابت بن زوطا بن ماه مولى تيم الله بن ثَعْلَبَة مولده سنة
ثَمَانِينَ تفقه بحماد بن أبي سُلَيْمَان الْأَشْعَرِيّ بِالْوَلَاءِ قَالَ
الشَّافِعِي سُئِلَ مَالك هَل رَأَيْت أَبَا حنيفَة قَالَ نعم رَأَيْت رجلا لَو
كلمك فِي هَذِه السارية وَأَرَادَ أَن يَجْعَلهَا ذَهَبا لقام بحجته
وَقَالَ
الشَّافِعِي من أَرَادَ التبحر فِي الْفِقْه فَهُوَ عِيَال على أبي حنيفَة ولوزم
على الْقَضَاء فَامْتنعَ مرَارًا حَتَّى قيل إِنَّه مَاتَ فِي الْحَبْس بعد
الضَّرْب وَهُوَ شَدِيد الِامْتِنَاع ووفاته بِبَغْدَاد سنة خمسين ومئة بعد أَن
بلغ عمره سبعين سنة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مَالك بن أنس بن مَالك
بن أبي عَامر بن عَمْرو بن الْحَارِث بن غيمان بن جثيل بن عَمْرو بن الْحَارِث
وَهُوَ ذُو أصبح الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الأصابح وَلَوْلَا خشيَة الإطالة لذكرت
الْآبَاء أَكثر من ذَلِك لَكِن قد حقق ابْن أبي الصَّيف فِي مُخْتَصر مَجْمُوع
أَنْسَاب الْأَئِمَّة فليبحث عَنهُ من أَرَادَهُ الأصبحي مولده سنة خمس وَتِسْعين
من الْهِجْرَة أَخذ الْعلم عَن ربيعَة الرَّأْي قَالَ مَالك قل رجل أخذت عَنهُ
الْعلم مَاتَ حَتَّى جَاءَنِي واستفتاني
قَالَ الشَّافِعِي قَالَ لي
مُحَمَّد بن الْحسن أَيهمْ أعلم صاحبنا أم صَاحبكُم يَعْنِي أَبَا حنيفَة وَمَالك
فَقلت اللَّهُمَّ صَاحبكُم فَقلت ناشدتك الله من أعلم بِالْقُرْآنِ صاحبنا أَو
صَاحبكُم فَقَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم فَقلت ناشدتك الله من أعلم
بِالسنةِ
صاحبنا أم صَاحبكُم فَقَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم قَالَ قلت لم يبْق إِلَّا
الْقيَاس وَهُوَ لَا يكون إِلَّا على هَذِه الْأَشْيَاء وَفَاته سنة تسع وَسبعين
ومئة
قَالَ فِي عُلُوم الحَدِيث قبل الثَّمَانِينَ سنة ذكر ذَلِك
لتحقيق الْآحَاد والأعشار لِئَلَّا يشْتَبه بالسبع
وَلما كَانَ هَذَا
أَبُو قُرَّة من أَئِمَّة الحَدِيث فِي الطَّبَقَة الْمُتَقَدّمَة مِنْهُم
أَحْبَبْت إِيرَاد من لم يكن عرض ذكره مِنْهُم فقد مضى ذكر مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ
فِي ذكر مُحَمَّد بن يحيى الْعَدنِي وَإِمَام الْجَمِيع أَبُو عبد الله مُحَمَّد
بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ مولده يَوْم الْجُمُعَة بَين الظّهْر وَالْعصر
وَذَلِكَ لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين ومئة وَظهر
مِنْهُ القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَكَونه عبارَة فَانْقَلَبَ عَنهُ النَّاس وهموا
بِهِ حَتَّى هرب عَن الْبَلَد وَمَات بقرية من قرى سمر قند تعرف بخرتنك
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة المضمومة ثمَّ رَاء سَاكِنة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة
من فَوق وَسُكُون النُّون ثمَّ كَاف وَذَلِكَ يَوْم السبت مستهل شَوَّال سنة سِتّ
وَخمسين ومئتين واشتمل صَحِيحه على سَبْعَة آلَاف حَدِيث وستمئة ونيف
وَأما
النَّسَائِيّ فَتوفي سنة ثَلَاث وثلاثمئة
وَأما أَبُو دَاوُد فَهُوَ
سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث بن إِسْحَاق بن بشير بن شَدَّاد بن عَمْرو بن عمرَان
الْأَزْدِيّ السجسْتانِي
مولده سنة اثْنَتَيْنِ ومئتين أحد حفاظ
الحَدِيث وَلما جمع كِتَابه الْمَشْهُور بسننه وَفِيه أَرْبَعَة آلَاف حَدِيث
وثمانمئة عرضه على الإِمَام أَحْمد فاستجاده وَاسْتَحْسنهُ وعده الشَّيْخ أَبُو
إِسْحَاق فِي أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد من جملَة الْفُقَهَاء
وَكَانَت
وَفَاته بِالْبَصْرَةِ فِي شَوَّال سنة خمس وَسبعين ومئتين وَقيل لَهُ
السجسْتانِي نِسْبَة بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَالْجِيم وَسُكُون السِّين
الثَّانِيَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَبعد الْألف نِسْبَة إِلَى
سجستان الإقليم الْكَبِير وَقيل إِلَى سجستان أَو
سجستانة قَرْيَة
بِالْبَصْرَةِ قَالَ ابْن خلكان وَقد بيّنت لَك فِي هَذَا الْمَكَان ذكر
الْغَالِب من أَئِمَّة الحَدِيث
وَقد رَأَيْت بعض المتعصبين على
الشَّافِعِي يَقُول لم يَأْخُذ أحد من أَئِمَّة الحَدِيث عَن الشَّافِعِي مَعَ
كَونهم أدركوه وَذَلِكَ مِنْهُ سَهْو ظَاهر فَإِن البُخَارِيّ كَانَ يَوْم موت
الشَّافِعِي فِي الْعَاشِرَة من السنين فَكيف يُمكن مثل هَذَا الْخُرُوج عَن
بَلَده لَا سِيمَا لطلب الْعلم وَمُسلم تَابع لَهُ وَأَبُو دَاوُود ابْن سنتَيْن
وَلذَلِك رووا جَمِيعًا عَن الإِمَام أَحْمد إِذْ أدركوا كثيرا من زَمَانه
وَحِينَئِذٍ
أرجع إِلَى ذكر عُلَمَاء الْيمن وَمِنْهُم مُحَمَّد بن كثير الصَّنْعَانِيّ قَالَ
أَبُو دَاوُود حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم عَن مُحَمَّد بن كثير يَعْنِي هَذَا
عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ إِذا وطئ أحدكُم الْأَذَى بخفه فَإِن التُّرَاب لَهُ طهُور
ثمَّ
صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى فِي جمَاعَة مِنْهُم أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم بن عباد بن سمْعَان الدبرِي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تعرف بدبرة
بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء وَسُكُون الْهَاء
وَهِي على نصف مرحلة من صنعاء وَله كَانَ يَعْنِي الْحَادِي فِي طريقها ... لَا
بُد من صنعا وَإِن طَال السّفر ... لطيبها وَالشَّيْخ فِيهَا من دبر ... أَخذ عَن
عبد الرَّزَّاق جَامع معمر وَكَانَ مَوْجُودا سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين ومئتين
وَيُقَال
إِنَّه عمر حَتَّى عَاشَ طَويلا وَكَانَ بَعضهم يَقُول هُوَ الَّذِي حكى
الشَّافِعِي أَنه كَانَ يقْرَأ الحَدِيث على شيخ بِالْيمن فَدخل عَلَيْهِ خَمْسَة
كهول الْخَبَر الْمَشْهُور بَين الْفُقَهَاء المتداول فِي كتبهمْ وَلم أتحقق
تَارِيخه
وَمِنْهُم أَبُو حنيفَة ابْن الْفَقِيه سماك بن الْفضل
الشهابي مقدم الذّكر وَأَنه صَاحب الْفتيا للوليد بن يزِيد على لِسَان خَاله
مَرْوَان كَمَا قدمنَا
كَانَ هَذَا أَبُو حنيفَة من أَعْيَان
الْعلمَاء روى عَنهُ الشَّافِعِي فَقَالَ أَبُو حنيفَة بن سماك بن الْفضل الشهابي
حَدثنَا ابْن أبي ذيب عَن المَقْبُري عَن ابْن أبي شُرَيْح الكعبي أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عَام الْفَتْح من قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ
بِخَير النظرين إِن أحب فَلهُ الْعقل وَإِن أحب فَلهُ الْقود قَالَ أَبُو حنيفَة
فَقلت لِابْنِ أبي ذيب أتأخذ بِهَذَا يَا أَبَا الْحَرْث فَضرب على صَدْرِي
وَصَاح عَليّ صياحا كثيرا ونال مني ثمَّ قَالَ أحَدثك عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَتقول لي أتأخذ بِهِ نعم آخذ بِهِ وَذَلِكَ الْفَرْض عَليّ وعَلى
من سَمعه إِن الله تبَارك وَتَعَالَى اخْتَار مُحَمَّدًا من النَّاس فهداهم بِهِ
وعَلى يَدَيْهِ وَاخْتَارَ لَهُم مَا اخْتَار لَهُ وعَلى لِسَانه فعلى الْخلق أَن
يتبعوه طائعين أَو داخرين لَا مخرج لمُسلم عَن ذَلِك الرسَالَة الجديدة فِي بَاب
قبُول خبر الْوَاحِد
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى
الصَّنْعَانِيّ روى عَنهُ التِّرْمِذِيّ حَدِيث عَائِشَة وَأَن
النَّبِي
لم ينزل الأبطح إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ أسمح لِخُرُوجِهِ وعده التِّرْمِذِيّ
بصريا إِذْ كَانَ يرتحل إِلَى الْبَصْرَة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله
مُحَمَّد بن عبد الله الصَّنْعَانِيّ روى عَنهُ التِّرْمِذِيّ مَا أسْندهُ إِلَى
جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْعمرَة أَهِي وَاجِبَة
فَقَالَ لَا وَإِن تعتمر فَهُوَ أفضل
وَمِمَّنْ ذكرهم الأندلسيون
جمَاعَة مِنْهُم مُوسَى بن مُحَمَّد الْكشِّي قَاضِي زبيد وَيحيى بن عبد الله بن
كُلَيْب قَاضِي صنعاء أَيَّام بني يعفر توفّي بالمحرم سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين
وثلثمئة وَأَبُو الْقَاسِم عبد الْأَعْلَى بن مُحَمَّد بن عباد بن الْحسن البوسي
من بَيت بوس يروي عَن الدبرِي وَهَارُون بن أَحْمد بن مُحَمَّد من علقان
الْقرْيَة الْمَشْهُورَة ذَات السُّوق من وَادي السحول بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَاللَّام وَالْقَاف ثمَّ ألف وَنون على وزن تَثْنِيَة فعل مَفْتُوح
الْفَاء وَالْعين خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْفُضَلَاء يَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر
المتحقق مِنْهُم وربيع بن سُلَيْمَان من الْجند
وَمن عدن قاضيها
شَيبَان بن عبد الله وَأَبُو الْحسن الْمُغيرَة بن عَمْرو بن الْوَلِيد التَّاجِر
عَن أبي سعيد الجندي سنَن أبي قُرَّة
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة
أُخْرَى فِي صدر المئة الثَّالِثَة
مِنْهُم أَبُو إِسْحَاق
إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الرعرعي اللحجي فالرعرعي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تعرف
بالرعارع بِفَتْح الرَّاء بعد الْألف وَلَام ثمَّ الْعين الْمُهْملَة ثمَّ ألف
ثمَّ خفض الرَّاء ثمَّ عين مُهْملَة أَيْضا إِحْدَى قرى مخلاف لحج بِفَتْح
اللَّام وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ جِيم خرج مِنْهَا وَمن مخلافها
جمَاعَة من الْأَعْيَان يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله
كَانَ
هَذَا إِبْرَاهِيم تربا لأبي قُرَّة لكنه دونه شهرة وَكَانَ لَهُ ابْن يذكر
بِالْعلمِ والورع وَلَكِن أَبَاهُ أشهر مِنْهُ وَكِلَاهُمَا مَعْدُود فِي الأخيار
الْأَبْرَار وَكَانَا معظمين عِنْد أهل مخلافهما وَغَيره لم يكد يعرف لأَحَدهمَا
صبوة وَلَقَد ذكر أَن امْرَأَة من الحسان تعرضت لأَحَدهمَا فحدرت درعها تُرِيدُ
فتنته فَأَعْرض عَنْهَا وَقَالَ ... لَا تحدري درعك إِنِّي رعرعي ... إِن كنت من
أَجلي حدرت فادرعي ... وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْمُقدم ذكره أَخذ على ابْن
زِيَاد الْآتِي ذكره
وَمِنْهُم عَليّ بن زِيَاد الْكِنَانِي
وَالْمَعْرُوف بِصُحْبَة أبي قُرَّة الْمُقدم الذّكر بِحَيْثُ كَانَ لَا يعرف
حَتَّى يُقَال عَليّ بن زِيَاد صَاحب أبي قُرَّة مولده على رَأس سِتِّينَ ومئة
ومسكنه قَرْيَة من مخلاف لحج تعرف بالهذابي بِفَتْح الْهَاء والذال الْمُعْجَمَة
ثمَّ ألف ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة أَخذ عَن أبي
قُرَّة وَعَن أَحْمد الرعرعي وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَأَيْت أَبَا قُرَّة طول مَا
صحبته يُصَلِّي الضُّحَى أَربع رَكْعَات وَكَانَ صَاحب كرامات شهيرة ذكر أَن
وَادي لحج انْقَطع فِي بعض السنين وللفقيه أَرض فِي علية وَإِذا بسحابة أَقبلت
فصبت على أَرض الْفَقِيه مَا أرواها كعادة الْوَادي مُخْتَصًّا بهَا ثمَّ فِي
عقيب ذَلِك قدم رجل غَرِيب يسْأَل عَن الْفَقِيه فأرشد إِلَيْهِ فَجعل يُبَالغ
فِي التَّبَرُّك بِهِ وسؤال الدُّعَاء حَتَّى أنكر عَلَيْهِ ذَلِك فَسئلَ عَن
السَّبَب فَقَالَ إِنِّي فِي الْبَلَد الْفُلَانِيَّة وَإِذ بِي أنظر سَحَابَة
تسير وَخَلفهَا قَائِلا يَقُول اذهبي إِلَى لحج من أَرض الْيمن فاسقي مِنْهَا
أَرض الْفَقِيه الزيَادي فَعلم أَن سَبَب شرب أَرض الْفَقِيه ذَلِك وَهِي أَرض
تعرف
إِلَى عصرنا بالجرب وَلم تزل محررة عَن الْخراج حَتَّى كَانَ فِي أَيَّام الْملك
المظفر حصل من المتصرفين عناد فَعمل عَلَيْهَا خراج ففر بعض ذُرِّيَّة هَذَا
الْفَقِيه إِلَى الإِمَام ابْن عجيل الْآتِي ذكره فَأخْبرهُ بِمَا جرى فَكتب
إِلَى المظفر يفِيدهُ عَن ذَلِك ويخبره أَن هَذِه الأَرْض لم تزل محررة لرجل
كَبِير الْقدر من أكَابِر الْعلمَاء والصلحاء وَكَانَ مَقْبُول القَوْل عِنْد
غَالب الْمُسلمين فَأمر المظفر أَن تكْتب لَهُم مُسَامَحَة فَهِيَ بأيدي ذُريَّته
إِلَى عصرنا مَا جَاءَ ملك ووقف عَلَيْهَا إِلَّا أجازها وَذَلِكَ ببركة إِشَارَة
الإِمَام ابْن عجيل وَكَانَت إِشَارَته لمعرفته بِفضل هَذَا الرجل وَلَا يعرف
الْفضل إِلَّا أَهله
وَلَقَد كَانَ بعض الْفُقَهَاء من أهل لحج مِمَّن
قَرَأَ على الإِمَام ابْن عجيل نفع الله بِهِ يسكن بِنَاء أبه العلياء وَكَانَ
مشهودا لَهُ بالفقه وَالصَّلَاح يعرف يسير وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله
تَعَالَى فِي الْمُتَأَخِّرين إِذا حصل عَلَيْهِ كرب آلمه يَقُول لأَصْحَابه
اذْهَبُوا بِنَا نحرث أَرض الْفَقِيه الزيَادي فَيخرج مَعَه من يُوَافقهُ وَهِي
منتزحة عَن قريته فِي صَعِيد الْبَلَد تعرف بالجرب بخفض الْجِيم بعد الْألف
وَلَام ثمَّ رَاء سَاكِنة بعد الْجِيم ثمَّ بَاء مُوَحدَة وَكَانَت وَفَاة عَليّ
بن زِيَاد بقريته الْمَذْكُورَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَقيل أَرْبَعِينَ ومئتين
بعد أَن جَاوز ثَمَانِينَ سنة
وَمِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد
يرجع إِلَى ذِي تبع ثمَّ إِلَى ذِي هَمدَان أحد أذواء حمير والتباعيون كَذَلِك
وَقد يغلط بهم من يغلط وينسبهم إِلَى ذِي هَمدَان وَلَيْسَ بِشَيْء وَإِنَّمَا
كَانَ جدهم ملكا على هَمدَان فَقيل لَهُ ذُو هَمدَان لصَاحب ملكهم وَكَانَ هَذَا
عَليّ مِمَّن أدْرك الإِمَام مَالك بن أنس وَأخذ عَنهُ وَعنهُ انْتَشَر مذْهبه
فِي الْيمن على مَا قيل وَمن ذُريَّته فُقَهَاء وصاب الَّذين يعْرفُونَ
بالتباعيين مِنْهُم جمَاعَة بوادي قيعة من أَعمال السانة ثمَّ بِبِلَاد ظفران
مِنْهُم جمَاعَة عدوا فِي أَصْحَاب الشَّيْخ
يحيى وَمِنْهُم مؤلف شرح
اللمع الْمَعْرُوف بمُوسَى الوصابي
وَمِنْه أَبُو حمة مُحَمَّد بن
يُوسُف الزبيدِيّ شهر بِصُحْبَة أبي قُرَّة فِي زبيد الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة
بِالْيمن وَعنهُ أَخذ الْحَافِظ أَبُو سعيد الجندي الْآتِي ذكره سنَن شَيْخه أبي
قُرَّة وَقد ذكره الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ وَذكر شَيْخه نسبتهما تَارَة إِلَى
زبيد وَتارَة إِلَى الْجند وَمن الْجند جمَاعَة مِنْهُم صَامت بن معَاذ وَعمر بن
مُسلم
وَمِنْهُم أَبُو سعيد الْمفضل بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن
الْمفضل بن سعيد بن الْفَقِيه عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ رَأس تَابِعِيّ
الْكُوفَة وَكَانَ هَذَا أَبُو سعيد معدودا فِي الْحفاظ والثقات وَذكره ابْن أبي
الصَّيف أَيْضا فِي بَاب من بِالْيمن من الْأَئِمَّة الثِّقَات الْمَشْهُورين من
التَّابِعين وَأَبْنَائِهِمْ مِمَّن يجمع حَدِيثهمْ للْحِفْظ والمذاكرة والتبرك
بهم وبذكرهم شرقا وغربا مِمَّن ذكرهم الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي فِي كتاب معرفَة
عُلُوم الحَدِيث عد جمَاعَة مِنْهُم حجر بن قيس المدري وَالضَّحَّاك بن فَيْرُوز
الديلمي ثمَّ قَالَ وَمن غير هَذَا الْكتاب الْمفضل الجندي صَاحب فَضَائِل مَكَّة
وَأَبُو حمة مُحَمَّد بن يُوسُف من سفرحه
وللفضل مصنفات فِي الْآثَار
مِنْهَا فَضَائِل مَكَّة وَرِوَايَته عَن مُحَمَّد بن يحيى الْعَدنِي وَعَن
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس ابْن عَم الإِمَام الشَّافِعِي وروى عَنهُ
مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْآجُرِيّ عدَّة أَحَادِيث ضمنهَا مصنفاته وَهُوَ رَاوِي
الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَون مَسْجِد الْجند رَابِعا
وَطَرِيقه فِي ذَلِك
قَالَ حَدثنَا صَامت بن معَاذ
الجندي
عَن الْمثنى بن الصَّباح عَن عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن
عَمْرو بن الْعَاصِ عَن أَبِيه عَن جده عبد الله بن عَمْرو أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تشد الرّحال إِلَى أَرْبَعَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام
ومسجدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وَمَسْجِد الْجند قَالَ الْحَافِظ عبد
الْملك بن أبي ميسرَة لَيْسَ فِي رُوَاته كَذَّاب وَلَا مَتْرُوك وَبَعض
الْفُقَهَاء يَقُول لَا يَنْبَغِي رد الْخَبَر لوجوه مِنْهَا أَنه من خبر
الْوَاحِد ومذهبنا القَوْل بِهِ قَالَ الْأَصْحَاب لَا يرد يعنون خبر الْوَاحِد
لانفراده بِمَا أرْسلهُ غَيره أَو رفع مَا وَقفه غَيره أَو لإيراد زِيَادَة لم
ينقلها غَيره وَمن رده لذَلِك فقد أَخطَأ وَقد صرح بذلك الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق
بذلك فِي لمعه ثمَّ إِن الْغَزالِيّ قَالَ لَا يجوز منع مُرِيد الارتحال إِلَى
غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة على الْأَصَح
وَلَوْلَا خشيَة الإطالة
لذكرت بعض فَضَائِل الْمَسْجِد الَّتِي شاهدتها أَو شَاهدهَا الثِّقَات وَلم أَقف
لأبي سعيد على تَارِيخ بداية وَلَا نِهَايَة بل غَالب ظَنِّي وجوده كَانَ فِي صدر
المئة الثَّالِثَة وَمِمَّنْ قدم الْيمن بِهَذَا التَّارِيخ وعد من أَهلهَا وأعقب
فِيهَا عقبا مُبَارَكًا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن هَارُون التغلبي قدم لقَضَاء
الْيمن صُحْبَة ابْن زِيَاد حِين قدم من قبل الْمَأْمُون وَلم تزل ذُريَّته
يتوارثون الْقَضَاء حَتَّى أزالهم ابْن مهْدي أثنى عَلَيْهِم عمَارَة وَقَالَ لم
يزل فيهم فَقِيه مبرز وخطيب مصقع وشاعر مفلق وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر
المتحقق اسْتِحْقَاقه للذّكر
وَفِي المئة الثَّالِثَة ظهر مَذْهَب
الإِمَام الشَّافِعِي فِي الْيمن وغالب من سَيَأْتِي ذكره إِنَّمَا هم أهل
مذْهبه
وَلما كَانَ كَذَلِك رَأَيْت أَن الأولى الْبِدَايَة بِذكرِهِ
وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع
بن السَّائِب بن عبيد بن عبد يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف يجْتَمع
مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عبد منَاف وَذكر أَن شافعا لَقِي
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ غُلَام مترعرع والسائب كَانَ حَامِل
راية بني هَاشم يَوْم بدر وَأسر يَوْمئِذٍ ثمَّ فدى نَفسه ثمَّ أسلم فَقيل لَهُ
هلا أسلمت قبل الْفِدَاء لتسلم مِنْهُ فَقَالَ مَا كنت لأحرم الْمُسلمين رزقا
سَاقه الله إِلَيْهِم وَأما نسبه من قبل أمه فَإِنَّهَا فَاطِمَة بنت عبد الله بن
الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وَلم يدْرك الشَّافِعِي أَبَاهُ إمنما
تولى كفَالَته جده أَبُو أمه وَهُوَ الَّذِي حضه على طلب الْعلم فارتحل بِهِ
الْبِلَاد لذَلِك مَعَ أَنه مَعْدُود فِي أهل الْيمن لوجوه مِنْهَا مَا أجمع
الْفُقَهَاء عَلَيْهِ من عدَّة فِي المكيين وَمَكَّة يمنية بِلَا خلاف ثمَّ ذكر
أَنه ولد بِالْيمن كَمَا سَيَأْتِي
قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَإِن شهر
ميلاده بغزة فَهِيَ يمنية لنزول بطُون الْيمن فِيهَا حِين افتتحها الْمُسلمُونَ
وَقَالَ فِي معرفَة السّنَن والْآثَار الشَّافِعِي أولى النَّاس لقَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية
ومولده غَزَّة
وَإِن كَانَت من الأَرْض المقدسة فعدادها فِي الْيمن لنزول بطُون أهل الْيمن بهَا
ومنشأة بِمَكَّة وَالْمَدينَة وهما يمنيتان
قَالَ ابْن خلكان يُقَال
إِن أم الشَّافِعِي لما حملت بِهِ رَأَتْ كَأَن المُشْتَرِي خرج من فرجهَا وارتفع
ثمَّ وَقع بِمصْر ثمَّ تشظت فَوَقع فِي كل بَلْدَة شظية فَأول المعبرون ذَلِك
بِأَنَّهُ يخرج مِنْهَا ولد عَالم يخْتَص علمه بِمصْر أَولا ثمَّ يتفرق فِي
الْبلدَانِ مولده سنة خمسين ومئة فَلبث مَعَ أمه حَيْثُ ولد على الْخلاف فِي أَي
مَوضِع هُوَ ثمَّ أقدمته مَكَّة لِئَلَّا يضيع نسبه وَاخْتلف فِي مَوضِع ميلاده
فَقيل غَزَّة وَهُوَ الْأَصَح وَبِه قطع
ابْن الصّباغ فِي شامله وَنقل
إِلَى عسقلان وَهُوَ صَغِير لذَلِك توهم بعض من عني بِجمع أخباره أَنه ولد
بعسقلان وَقيل ولد بِالْيمن وَذَلِكَ أَن لغته كَانَت تناسب لُغَة الْيمن
لِأَنَّهُ ولد بغزة وَأهل الْيمن إِذْ ذَاك نزُول بهَا وَلما بلغ عمره سنتَيْن
وصلت بِهِ أمه مَكَّة فَقَرَأَ بهَا الْقُرْآن وَحفظه لسبع سِنِين من عمره وَحفظ
الْمُوَطَّأ لعشر
أَخذ الْقُرْآن عَن أَصْحَاب عبد الله بن كثير
الْمُقدم الذّكر هَكَذَا ذكره فِي صفة الصفوة وَذكر فِيهَا أَيْضا عَن الإِمَام
أَحْمد أَنه جَاءَ فِي الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله
يبْعَث على رَأس كل مئة سنة من يصحح فِي هَذِه الْأمة دينهَا فَكَانَ فِي المئة
الأولى عمر بن عبد الْعَزِيز وتلاه فِي الثَّانِيَة الشَّافِعِي
وَكَانَ
تفقهه فِي مَكَّة بِجَمَاعَة هم سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَمُسلم بن خَالِد
الزنْجِي ثمَّ ارتحل إِلَى مَالك بِيَثْرِب فَأخذ عَنهُ الْمُوَطَّأ حفظا محققا
وَكَانَ يَقُول أَقمت مَعَ مَالك ثَمَانِيَة أشهر مَا يعلم أجانب النَّاس أَيّنَا
الضَّيْف لشدَّة مَا كَانَ يظْهر من الْأنس
وَعبد الْوَهَّاب بن عبد
الْمجِيد الثَّقَفِيّ ثمَّ دخل الْيمن لأوّل مرّة مَعَ جده عبد الله بن الْحسن
لَا غَرَض لَهُ غير طلب الْعلم أَخذ عَن هِشَام بن يُوسُف الأبناوي وَأبي حنيفَة
بن الْفَقِيه سماك مقدم الذّكر ومطرف بن مَازِن والدبري على إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ
ثمَّ ارتحل إِلَى الْعرَاق فَأخذ عَن مُحَمَّد بن
الْحسن واستعار مِنْهُ كتب أبي حنيفَة وَهُوَ إِذْ ذَاك يسكن الْكُوفَة ثمَّ دخل
بَغْدَاد فولى الرشيد قَضَاء الْيمن لمصعب بن عبد الله فَكَانَ الشَّافِعِي
بِصُحْبَتِهِ فَسَأَلَهُ أَن يخرج إِلَى الْيمن لما يتَحَقَّق من فقره وانقطاعه
فَخرج مَعَه فَلَمَّا صَار بِالْيمن استنابه على قَضَاء نَجْرَان فَحكم أحكاما
محررة وَصَارَ لَهُ ذكر بِالْيمن حسده مطرف بن مَازِن الْمَذْكُور أَولا فَكتب
إِلَى الرشيد إِن أردْت
الْيمن يثبت لَك فَأخْرج عَنهُ مُحَمَّد بن
إِدْرِيس فَكتب الرشيد إِلَى نَائِبه حَمَّاد الْبَرْبَرِي أَن يصدره إِلَيْهِ
فصدره وَبعث بِهِ فَلَمَّا قدم بلغه أَنه قد غلط عَلَيْهِ فِي الْأَمر إِلَى
الرشيد وَقيل لَهُ هَذَا من أَصْحَاب عبد الله بن الْحسن لَا يرى الْخلَافَة
إِلَّا فِي الطالبيين وَهُوَ الْقَائِل ... يَا رَاكِبًا قف بالمحصب من منى ...
واهتف بقاصد خيفها والناهض
سحرًا إِذا فاض الحجيج إِلَى منى ... فيضا
كَمَا التطم الْفُرَات الفائض
وَإِذا جرت بطحاؤها بهضابها ... جَاءَت
بِأُخْرَى مثلهَا كالعارض
قُم ثمَّ نَاد يَا بني لمُحَمد ... ووصيه
وابنيه لست بباغض
إِن كَانَ رفضا حب آل مُحَمَّد ... فليشهد
الثَّقَلَان أَنِّي رَافِضِي ... قَالَ الشَّافِعِي وَوَافَقَ قدومي إِلَى الرشيد
اسْتِيلَاء مُحَمَّد بن الْحسن وَأبي يُوسُف عَلَيْهِ فَلَمَّا ذكرت عِنْده
بحضرتهما رُبمَا لامني لمعرفتهما الْمُتَقَدّمَة وَذَلِكَ حسدا على مَا تحققاه
مني فَلَمَّا أدخلت على الرشيد وَأَنا مثقل بالحديد وهما عِنْده كلمني فَقلت لَا
يَتَأَتَّى لي الْكَلَام مَعَ شغل باطني بثقل الْحَدِيد فَأمر بفكه ثمَّ كَانَ لي
مَعَه ومعهما أَقْوَال كَثِيرَة واجتهادي على النجَاة واجتهدا على إسقاطي وتحقيري
فِي عين الرشيد عَن معرفَة شَيْء من الْعلم وسألني مُحَمَّد بن الْحسن عَن عدَّة
مسَائِل ووفقني الله فِي جوابها وَسَأَلته عَن عشر مسَائِل أجَاب بِخمْس وَانْقطع
عَن الْبَاقِي فأمرالرشيد بجر رجله فَذكرت مَا كَانَ بيني وَبَينه من الْأنس فِي
الْكُوفَة فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا رَأَيْت سجينا أفقه مِنْهُ ثمَّ
جعلت أثني عَلَيْهِ فَعلم الرشيد مرادي فَأمر بِتَخْلِيَتِهِ وخلع علينا جَمِيعًا
وَحمل كلا منا على مركوب وخصني بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم
وَقَالَ نقلة
سيرته فَلم يصل منزله بِشَيْء مِنْهَا إِذْ فرقها فِي طَرِيقه فَلَمَّا بلغ
الرشيد عظم عِنْده
وَأمر لَهُ بالإعاضة عَنْهَا ثمَّ أَقَامَ
بِبَغْدَاد مُدَّة فقيد بهَا كتبه الْقَدِيمَة وَكَانَ كثير الذّكر للسَّفر فعوتب
فِي ذَلِك فَقَالَ لمعاتبه ... تغرب عَن الأوطان فِي طلب الْعلَا ... وسافر فَفِي
الْأَسْفَار خمس فَوَائِد
تفرج هم واكتساب معيشة ... وَعلم وآداب
وصحبة ماجد
فَإِن قيل فِي الْأَسْفَار قل وغربة ... وَقطع فياف
وارتكاب شَدَائِد
فموت الْفَتى خير لَهُ من مقَامه ... بدار هوان بَين
واش وحاسد ... وَعُوتِبَ على كَثْرَة التنقل فِي الْبلدَانِ فَقَالَ شعرًا ...
رِزْقِي تشَتت فِي الْبِلَاد وإنني ... أسعى لجمع شتاته وأطوف
فكأنني
قلم بأنمل كَاتب ... وَكَأن رِزْقِي فِي الْبِلَاد حُرُوف ... ثمَّ عزم على
الترحل إِلَى مصر فَقَالَ فِي ذَلِك ... أرى نَفسِي تتوق إِلَى مصر ... وَمن
دونهَا أَرض المهامه والقفر
فَلَا أَدْرِي أللفوز والغنى ... أساق
إِلَيْهَا أم أساق إِلَى الْقَبْر ... وَكَانَ يُقَال الشَّافِعِي شَاعِر غلب
عَلَيْهِ الْفِقْه قلت بل شرفت نَفسه عَلَيْهِ وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ بِشَيْء من
شعره يَقُول ... وَلَوْلَا الشّعْر بالعلماء يزري ... لَكُنْت الْيَوْم أشعر من
لبيد ... ثمَّ سَافر فَدخل مصر سنة تسع وَتِسْعين ومئة فَأدْرك بهَا السِّت نفيسة
وَالنَّاس إِذْ ذَاك يحْضرُون مِنْهَا مَجْلِسا ويروون عَنْهَا الحَدِيث من
وَرَاء ستر فَحَضَرَ الشَّافِعِي مجلسها وَأخذ عَنْهَا فَهِيَ مَعْدُودَة فِي
شُيُوخه وَسَيَأْتِي ذكرهَا فيهم إِن شَاءَ الله
قَالَ ابْن خلكان قد
اتّفق الْعلمَاء قاطبة من أهل الْفِقْه وَالْأُصُول والنحو اللُّغَة وَغير ذَلِك
على ثِقَة الشَّافِعِي وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نسبه
وَصِحَّة حَسبه وَحسن سيرته وعلو قدره أَخذ عَنهُ الْأَصْمَعِي مَعَ جلالة قدره
شعر
الهذليين وَقَالَ لَهُ شَيْخه مُسلم بن خَالِد أول اخْتِلَاطه
وقراءته عَلَيْهِ من أَيْن أَنْت يَا فَتى قَالَ من أهل مَكَّة قَالَ أَيْن
مَنْزِلك بهَا قَالَ شعب الْخيف
قَالَ من أَي قَبيلَة أَنْت قَالَ من
ولد عبد منَاف قَالَ بخ بخ لقد شرفك الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَقَالَ
لما قدمت إِلَى مَالك وحفظت الْمُوَطَّأ قَالَ إِن يكن أحد يفلح فَهَذَا
الْغُلَام
وَقَالَ الْحميدِي سَمِعت مُسلم بن خَالِد الزنْجِي يَقُول
للشَّافِعِيّ وَأَنت يَا أَبَا عبد الله فقد آن لَك وَالله أَن تُفْتِي
وَالشَّافِعِيّ إِذْ ذَاك ابْن خمس عشرَة سنة
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد
بن حَنْبَل مَا عرفت نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه حَتَّى جالست الشَّافِعِي
وَقَالَ
مَا حمل أحد محبرة إِلَّا وَكَانَ الشَّافِعِي عَلَيْهِ فضل وَمِنْه
قَالَ
ابْن خلكان وَغَيره كَانَ الشَّافِعِي أول من تكلم فِي أصُول الْفِقْه وَهُوَ
الَّذِي استنبطه
وَقَالَ الزَّعْفَرَانِي كَانَ أهل الحَدِيث نياما
حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي أيقظهم فتيقظوا
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد مَا
رَأَيْت أحدا أتبع للسّنة من الشَّافِعِي وَلَقَد قَالَ لَهُ بعض حاضري مَجْلِسه
يَوْمًا وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتأخذ بِهِ يَا أَبَا عبد
الله فَغَضب وَقَالَ أَتَقول لي آخذ بِهِ وَذَلِكَ الْفَرْض عَليّ وعَلى كل مُسلم
أَتَرَى فِي وسطي زنارا أَتَرَى فِي مُشْركًا ثمَّ قَالَ مَا أَتَى عَن الله
وَرَسُوله قبلناه وَمَا أَتَت بِهِ الصقاعبة ضربنا بِهِ أقفيتهم وَلَقَد قَالَ
لَهُ إِبْرَاهِيم الحَجبي يَوْمًا وَكَانَ من أَعْيَان دولة الرشيد مَا رَأَيْت
مطلبيا يقدم أَبَا بكر وَعمر على عَليّ غَيْرك فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِي يَا
هَذَا إِن عليا ابْن عمي وَأَبُو جد خَالِي وَأَنا من عبد منَاف وَأَنت من عبد
الدَّار وَلَو كَانَ هَذَا المعتقد صَوَابا أَو مكرمَة لسبقتك إِلَيْهِ
قَالَ
ابْن خلكان وَللشَّافِعِيّ مَنَاقِب كَثِيرَة وضع الْعلمَاء مِنْهَا مجلدات
واشتهر
من المصنفات فِي مناقبه وأحواله نَحْو ثَلَاثَة عشر مصنفا من
ذَلِك لداود الظَّاهِرِيّ مُصَنف هُوَ مجلدان قلت وَرَأَيْت للفخر الرَّازِيّ
مجلدا ضمنه ذَلِك أَيْضا وللزمخشري جَار الله مُصَنف اخْتصَّ بشرح أَلْفَاظ صدرت
عَنهُ سَمَّاهُ شافي العي من كَلَام الشَّافِعِي
وَذكر الشَّيْخ أَبُو
إِسْحَاق أَن رجلا وقف على مجْلِس أبي ثَوْر وَقَالَ لَهُ أصلحك الله سَمِعت
يَقُول قولا عَظِيما قَالَ أَبُو ثَوْر مَا هُوَ قَالَ إِن الشَّافِعِي أفقه من
الثَّوْريّ فَقَالَ أَبُو ثَوْر أَنْت سمعته يَقُول ذَلِك قَالَ نعم ثمَّ ولى
الرجل فَقَالَ أَبُو ثَوْر هَذَا استنكر أَن يَقُول الشَّافِعِي أفقه من
الثَّوْريّ وَهُوَ عِنْدِي أفقه من الثَّوْريّ وَالنَّخَعِيّ وَلم يكن مُحَمَّد
بن الْحسن يعظم أحدا من أهل الْعلم تَعْظِيمه للشَّافِعِيّ وَقد جَاءَهُ يَوْمًا
فوافاه قد ركب فحين رَآهُ مُحَمَّد نزل واستقبله وَأخذ بِيَدِهِ ودخلا الْمنزل
وَلم يفترقا غَالب يومهما وَلم يكد يَأْذَن لأحد فِي الدُّخُول عَلَيْهِمَا
وَقَالَ أحد أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَأَيْت أَحْمد فِي الْحرم
عِنْد الشَّافِعِي فَقلت لَهُ يَا أَبَا عبد الله هَذَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة
فِي نَاحيَة الْمَسْجِد يحدث فَقَالَ إِن هَذَا يفوت وَذَاكَ لَا يفوت قَالَ
وَقلت لَهُ مرّة يَا أَبَا عبد الله تتْرك حَدِيث سُفْيَان وعلوه وتمشي خلف بغلة
هَذَا الْفَتى وَقد سمع مِنْهُ فَقَالَ لَو عرفت لقعدت من الْجَانِب الآخر إِن
علم سُفْيَان إِن فَاتَنِي بعلو أَدْرَكته بنزول وَإِن عقل هَذَا الشَّاب إِن
فَاتَنِي لم أدْركهُ لعلو وَلَا نزُول وَقَالَ الْكَرَابِيسِي مَا كُنَّا نَدْرِي
مَا الْكتاب وَلَا السّنة والأولون كَذَلِك حَتَّى سمع من الشَّافِعِي الْكتاب
وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فجزاه الله عَن الْمُسلمين خيرا وَقَالَ يُونُس كَانَ
الشَّافِعِي يضع كتابا من غدْوَة إِلَى الظّهْر من حفظه من غير أَن يكون بِيَدِهِ
أصل وَقَالَ الرّبيع كَانَ الشَّافِعِي إِذا حدث كَأَنَّمَا يقْرَأ سُورَة من
الْقُرْآن
وَكَانَ أول من تكلم فِي الْأُصُول وَفتح على النَّاس بَابه
وَكَانَ يكره الْخَوْض فِي علم الْكَلَام وَيَقُول رَأْيِي فِي أَصْحَاب
الْكَلَام أَن يضْربُوا بالحديد وَيُطَاف بهم على الْجمال فِي العشائر والبلدان
ويصاح عَلَيْهِم هَذَا جَزَاء من ترك كتاب الله وَسنة نبيه
وَعدل
إِلَى آراء الرِّجَال وَقَالَ لِابْنِهِ أبي عُثْمَان يَوْمًا يَا بني وَالله لَو
علمت أَن المَاء الْبَارِد يثلم من ديني شَيْئا لما شربت إِلَّا الْحَار وَقَالَ
للربيع عَلَيْك بالزهد فَإِن الزّهْد على الزّهْد أحسن من الْحلِيّ على الناهد
وَقَالَ
حَرْمَلَة سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول رَأَيْت أَبَا حنيفَة فِي الْمَنَام يَقُول
مَالِي وَلَك يَا شَافِعِيّ مَالِي وَلَك يَا شَافِعِيّ وَكَانَ مَعَ كَمَاله فِي
علم الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَالْفِقْه إِمَامًا فِي علم
الْأَدَب وناهيك بِأخذ الْأَصْمَعِي عَنهُ شَاهدا وَله شعر رائق غالبه حِكْمَة من
ذَلِك مَا أنشدنيه الصَّدْر الرئيس مُحي الدّين يحيى بن عبد اللَّطِيف الربعِي
التكريتي بثغر عدن سنة ثَمَانِي عشرَة وسبعمئة وَقد محنت بحسبة الثغر فِي هَذِه
السّنة لعول وَعدم طول وَمَا كَانَ كَذَلِك أحسن الله الْعَاقِبَة وَله الْحَمد
على ذَلِك قَالَ من الشّعْر الْمَنْسُوب إِلَى الإِمَام الشَّافِعِي ... قيمَة
الْمَرْء فَضله عِنْد ذِي الْفضل ... وَمَا فِي يَدَيْهِ عِنْد الرعاع
فَإِذا
مَا حويت مَالا وعلما ... كنت عين الزَّمَان بِالْإِجْمَاع
وَإِذا
مِنْهُمَا غَدَوْت خليا ... رحت فِي النَّاس من أخس الْمَتَاع ... وَمن ذَلِك مَا
أنشدنيه فِي المعتقد لَهُ أَيْضا يُنَاسب الأبيات الْمُتَقَدّمَة ... أَنا شيعي
لآل الْمُصْطَفى ... غير أَنِّي لَا أرى سبّ السّلف
مذهبي الْإِجْمَاع
فِي الدّين وَمن ... حفظ الْإِجْمَاع لَا يخْشَى التّلف ... وَأَخْبرنِي وَالِدي
يُوسُف بن يَعْقُوب رَحمَه الله قَالَ قدم علينا بعض الْفُقَهَاء المعتبرين
وَذكره لي غير أَن النسْيَان طَرَأَ
قَالَ رأى الشَّافِعِي من بعض أهل
زَمَانه احتقارا لَهُ على رثَّة ملبسه فأنشده ... عَليّ ثِيَاب دون قيمتاه الْفلس
... وفيهن نفس دون قيمتهَا الْأنس ...
. . فثوبك شمس تَحت أذياله
الدجى ... وثوبي ليل تَحت أذياله الشَّمْس ... وَمن ذَلِك مَا أنشدنيه شَيْخي
أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الأصبحي الْآتِي ذكره قَالَ ثَبت عَنهُ بطرِيق
صَحِيح بيتان فِي الْمَنْع عَن أكل التُّرَاب هما ... لَا تَأْكُل الطين
مُعْتَقدًا مذهبي ... فقد صد عَنهُ حَدِيث النَّبِي
من الطين رَبِّي
برا آدما ... وآكله آكل للْأَب ... وَمِنْه أَيْضا مَا قَالَه يُخَاطب والدته
حِين عزم على الارتحال فِي طلب الْعلم ... أَقُول لَهَا والعيس تحدج للنوى ...
أعدي لفقدي مَا اسْتَطَعْت من الصَّبْر
سأنفق ريعان الشبيبة آنِفا ...
على طلب العلياء أَو طلب الْأجر
أَلَيْسَ من الخسران أَن لياليا ...
تمر بِلَا نفع وتحسب من عمري ... وَمِنْه مَا وجدته بِخَط الْفَقِيه سُلَيْمَان
الجندي الْآتِي ذكره أَنه قَالَ قَالَ الشَّافِعِي ... إِذا الْمَرْء أولاك
الهوان فأوله ... هوانا وَإِن كَانَت قَرِيبا أواصره
وَإِن كنت لم
تقدر على أَن تهينه ... فَدَعْهُ إِلَى الْيَوْم الَّذِي أَنْت قادره ... وَمن
الشّعْر الْمَنْسُوب إِلَيْهِ فِي النَّفس ... كدكد النَّفس إِن أَحْبَبْت أَن
تصبح حرا
. .. واقطع الآمال عَن جود بني آدم طرا
. .. لَا
تقل ذَا مكسب يزري ففضل النَّاس أزرى
. .. أَنْت مَا اسْتَغْنَيْت عَن
غَيْرك أَعلَى النَّاس قدرا
وَمن شعره فِي الزّهْد ... أأنعم عَيْشًا
بَعْدَمَا حل عارضي ... طوالع شيب لَيْسَ يُغني خضابها
إِذا أسود لون
الْمَرْء وأبيض شعره ... تنغص من أَيَّامه مستطابها
وغرة عمر الْمَرْء
قبل مشيبه ... وَقد فنيت نفس تولى شبابها
فدع فضلات للأمور فَإِنَّهَا
... حرَام على نفس التقي ارتكابها
وَلَا تمشين فِي منْكب الأَرْض
فاخرا ... فعما قَلِيل يحتويك ترابها
وَآت زَكَاة الجاه وَاعْلَم
بِأَنَّهَا ... كَمثل زَكَاة المَال تمّ نصابها ...
. . وَأحسن إِلَى
الْأَحْرَار تملك رقابهم ... فَخير تِجَارَات الْكِرَام اكتسابها
وَلم
يذقْ الدُّنْيَا فَإِنِّي طعمتها ... وسيق إِلَيْنَا عذبها وعذابها
وَلم
أرها إِلَّا غرُورًا وباطلا ... كَمَا لَاحَ فِي ظهر الفلاة سرابها
وَمَا
هِيَ إِلَّا جيفة مستحيلة ... عَلَيْهَا كلاب همهن اجتذابها
فَإِن
تجتنبها كنت سلما لأَهْلهَا ... وَإِن تجتذبها نازعتك كلابها
فطوبى
لنَفْسي أوطنت قَعْر دارها ... مغلقة الْأَبْوَاب مرخى حجابها ... وللزمخشري كتاب
ذكر فِيهِ أَنه قيل للشَّافِعِيّ فِي صَبِيحَة كَيفَ أَصبَحت قَالَ مَا حَال من
أصبح يَطْلُبهُ ثَمَانِيَة الرب بكتابه وَالنَّبِيّ بسنته وَأهل بَيته بالقوت
وَالنَّفس بالشهوات والشيطان بِالْمَعَاصِي وَملك الْمَوْت بِقَبض الرّوح والحفظة
بِمَا ينْطق والدهر بصروفه وَذكر صَاحب الْأَرْبَعين الطائية بِإِسْنَادِهِ إِلَى
الْمُزنِيّ قَالَ دخلت على الشَّافِعِي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقلت
كَيفَ أَصبَحت يَا أَبَا عبد الله قَالَ أَصبَحت من الدُّنْيَا راحلا ولإخواني
مفارقا ولسوء أفعالي ملاقيا ولكأس الْمنية شاربا وعَلى الله عز وَجل واردا
فوَاللَّه مَا أَدْرِي أروحي إِلَى الْجنَّة تصير فأهنيها أم إِلَى النَّار
فأعزيها ثمَّ بَكَى وَأنْشد شعرًا ... وَلما قسا قلبِي وَضَاقَتْ مذاهبي ... جعلت
رجائي نَحْو عفوك سلما
تعاظمني ذَنبي فَلَمَّا قرنته ... بعفوك رَبِّي
كَانَ عفوك أعظما
فَمَا زلت ذَا عَفْو عَن الذَّنب لم تزل ... تجود
بِعَفْو منَّة وتكرما
فلولاك لم يغو بإبليس عَالم ... فَكيف وَقد أغوى
صفيك آدما ... وَكَانَت وَفَاته بِمصْر لَيْلَة الْجُمُعَة بعد أَن صلى الْعشَاء
آخر لَيْلَة من رَجَب سنة أَربع ومئتين وَدفن يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر بعد
أَن دخلت جنَازَته على السِّت نفيسة فصلت عَلَيْهِ بِنَفسِهَا وَإِنَّمَا أخر
دَفنه لِأَنَّهُ أوصى أَن لَا يدْفن حَتَّى تَبرأ ذمَّته من الدّين الَّذِي
عَلَيْهِ فَفعل ذَلِك بِهِ وَلم يدْخل قَبره وَعَلِيهِ دِرْهَم يعلم
وَحكي
فِي صفة الصفوة عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان أَنه قَالَ كُنَّا جُلُوسًا فِي حَلقَة
الشَّافِعِي قريب دَفنه فَوقف بِنَا أَعْرَابِي وَسلم ثمَّ قَالَ أَيْن قمر هَذِه
الْحلقَة بل
شمسها قُلْنَا توفّي فَبكى بكاء شَدِيدا وَقَالَ رَحمَه
الله وَغفر لَهُ فَلَقَد كَانَ يفتح ببيانه منغلق الْحجَّة ويسد على خَصمه وَاضح
المحجة وَيغسل من الْعَار وُجُوهًا مسودة ويوسع بِالرَّأْيِ أبوابا منسدة ثمَّ
مضى وَتَركنَا نعجب من حسن أَلْفَاظه
وَقَالَ الرّبيع الْمرَادِي
بِالْوَلَاءِ الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله رَأَيْت الشَّافِعِي بعد مَوته فَقلت
مَا فعل الله بك فَقَالَ أَنا فِي الفردوس الْأَعْلَى قلت بِمَ ذَاك قَالَ
بِكِتَاب صنفته وسميته الرسَالَة الجديدة قَالَ ورأيته مرّة ثَانِيَة فَقلت مَا
صنع الله بك قَالَ أجلسني على كرْسِي من ذهب ونثر عَليّ اللُّؤْلُؤ الرطب
وَوصل
بعض أهل الْمَعَالِي تربته فَاسْتعْمل صُورَة مركب من النّحاس علقها عِنْد رَأس
الْقَبْر فَكَانَ كثير من النَّاس يعجب لذَلِك وَيسْأل عَن فَائِدَة ذَلِك حَتَّى
وصل بعض نظرائه فَسئلَ عَن الْمَعْنى فَقَالَ شعرًا ... أَتَيْنَا لقبر
الشَّافِعِي نزوره ... وجدنَا بِهِ فلكا وَلَيْسَ بِهِ بَحر
فَقُلْنَا
تَعَالَى الله هَذَا إِشَارَة ... تنبىء أَن الْبَحْر قد ضمه الْقَبْر ... وَوصل
أَصْحَابه البغداديون لزيارة تربته والعزاء بِهِ إِلَى أَصْحَابه المصريين ثمَّ
لم أَرَادوا الِانْصِرَاف وقفُوا على تربته وَقَالَ بَعضهم بَيْتَيْنِ فِي
الْمَعْنى ... قد أَتَيْنَاك يَا ابْن إِدْرِيس ... وزرناك من بِلَاد الْعرَاق
وقرأنا
عَلَيْك مَا قد حفظنا ... من كَلَام الْمُهَيْمِن الخلاق ... وَقد انْقَضى ذكر
اللَّائِق من أَحْوَال الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لم يبْق إِلَّا ذكر
من عرض ذكره مَعَه من الْأَعْيَان فابدأ حِينَئِذٍ بِذكر شُيُوخه أَوَّلهمْ
المكيون مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد سُفْيَان بن عُيَيْنَة بن أبي عمرَان مَيْمُون
الْهِلَالِي بِالْوَلَاءِ قَالَ ابْن خلكان وَإِنَّمَا كَانَ مولى لامْرَأَة من
بني هِلَال رَهْط مَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي
مَيْمُونَة قَالَ وَكَانَ من عُمَّال خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَلَمَّا عزل
وَطلب عماله هرب ابْن عمرَان إِلَى
مَكَّة فنزلها وَهُوَ من أهل
الْكُوفَة ومولد سُفْيَان بهَا منتصف شعْبَان سنة سبع ومئة وعد من أهل مَكَّة
لنشوئه بهَا كَمَا فعل بعطاء بن أبي رَبَاح وَقد ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق
الرَّازِيّ فِي بعض نسخ طبقاته وَلم يؤرخه بل قَالَ قَالَ الشَّافِعِي مَا
رَأَيْت أفقه من سُفْيَان وأسكت عَن الْفتيا مِنْهُ
وَقَالَ ابْن
خلكان وَكَانَ إِمَامًا عَالما ثبتا حجَّة زاهدا ورعا مجمعا على صِحَة حَدِيثه
وَرِوَايَته حج سبعين حجَّة وروى عَن الزُّهْرِيّ وَأبي إِسْحَاق السبيعِي
وَمن
غَرِيب مَا جرى لَهُ أَنه خرج إِلَى جمع من طلبة الْعلم يُرِيدُونَ الْأَخْذ
عَنهُ وَهُوَ إِذْ ذَاك متضجر لأمر عرض لَهُ فَقَالَ لَهُم أَلَيْسَ من الشَّقَاء
أَن أكون جالست ضَمرَة بن سعيد وجالس أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وجالست عَمْرو بن
دِينَار وجالس ابْن عمر وجالست الزُّهْرِيّ وجالس أنس بن مَالك وَعدد على هَذَا
جمعا ثمَّ قَالَ وَأَنا أجالسكم الْآن فَقَالَ لَهُ حدث فِي الْمجْلس انتصفت يَا
أَبَا مُحَمَّد قَالَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَقَالَ وَالله لشقاء أَصْحَاب
رَسُول الله بك أَشد من شقائك بِنَا فَأَطْرَقَ قَلِيلا ثمَّ أنْشد ... خل جنبيك
لرامي ... وامض عَنهُ بِسَلام
مت بداء الصمت خير ... لَك من دَاء
الْكَلَام ... ثمَّ تفرق النَّاس وهم يتحدثون برجاحة الْحَدث وَهُوَ يحيى بن
الأكثم الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلم يزل بِمَكَّة حَتَّى توفّي
بهَا آخر يَوْم من جُمَادَى الْآخِرَة وَقيل مستهل رَجَب سنة ثَمَان وَتِسْعين
ومئة وَدفن بالحجون جبل بِأَعْلَى مَكَّة قبر فِيهِ عدَّة من النَّاس وَهُوَ
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الْجِيم وَسُكُون الْوَاو ثمَّ نون
وَمِنْهُم
مُسلم بن خَالِد بن سعيد الزنْجِي قيل لَهُ ذَلِك لحمرة كَانَت فِيهِ تفقه بِابْن
جريج وَإِلَيْهِ انْتَهَت رياسة الْفتيا وَكَانَت وَفَاته سنة تسع وَسبعين ومئة
وَقيل سنة ثَمَانِينَ وَأما شَيْخه ابْن جريج فقد مضى ذكره مَعَ عبد الرَّزَّاق
فلينظره من أَرَادَهُ
وَأما شُيُوخه بِالْمَدِينَةِ فأولهم أَبُو عبد
الله مَالك بن أنس وَقد مضى ذكره عقب ذكر أبي حنيفَة وَأبي قُرَّة ثمَّ أَبُو عبد
الله عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ أَخذ عَن المكيين والمدنيين
وَلم أتحقق من نَعته شَيْئا
وَأما شُيُوخه بِالْيمن فقد ذكرت مِنْهُم
عِنْد ذكره فِيمَا مضى كمحمد بن خَالِد الجندي وَالْقَاضِي هِشَام وَغَيرهمَا
وَأما بِمصْر فالست الطاهرة نفيسة بنت الْحسن بن زيد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي
طَالب
قَالَ ابْن خلكان قدمت السِّت مصر مَعَ السَّيِّد إِسْحَاق بن
جَعْفَر الصَّادِق وَقيل قدمت مَعَ أَبِيهَا وَلأَهل مصر بهَا اعْتِقَاد عَظِيم
وَكَانَت وفاتها بِشَهْر رَمَضَان من سنة ثَمَان ومئتين وَأَرَادَ زَوجهَا أَن
ينقلها إِلَى مَدِينَة يثرب فَتعلق بِهِ المصريون وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ أَن
يقبرها مَعَهم للتبرك فأجابهم ودفنها بِالدَّار الَّتِي كَانَت تسكنها عِنْد
الْمشَاهد بَين الْقَاهِرَة ومصر وقبرها مَشْهُور يزار كثيرا ويستجاب عِنْده
الدُّعَاء
انْقَضى ذكر شُيُوخ الإِمَام وَلم يبْق إِلَّا الْبِدَايَة
بِذكر التَّارِيخ وَهُوَ الأَصْل أهل المئة الثَّالِثَة بالمتأخرين إِلَى مُضِيّ
الْكتاب كَمَا هُوَ شرطنا وَأَجْعَل بدايتهم بأصحاب الإِمَام فأختم بعد مُضِيّ
الْفُقَهَاء بِذكر الْوُلَاة إِلَى عصرنا اختصارا وتيسيرا
فَاعْلَم
أَطَالَ الله بقاك أَن جَمِيع الْيمن قد أسلم أَهله وَهُوَ إِذْ ذَاك على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة مخاليف مخلاف عك وَهِي تهَامَة
خَاصَّة ثمَّ الْجند ثمَّ صنعاء ثمَّ حضر موت مَا مخلاف مِنْهُنَّ إِلَّا لم يمت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قد أسلم أَهله وَقد صَار عَلَيْهِم
من قبله وُلَاة وعمالا فَارْتَد بعض أهل حضر موت كَانَ عَلَيْهِم زِيَاد بن لبيد
البياضي كَمَا قد مضى بَيَان ذَلِك
وَأما سَائِر المخاليف فَلم يذكر
عَن أحد مِنْهُم ردة وَكَذَلِكَ أَقَامَ كل وَاحِد من الْعمَّال فِي عمله مَا
شَاءَ الله ثمَّ قدم من قدم على أبي بكر اخْتِيَارا كمعاذ بن جبل وَكَانَ ملك
صنعاء بيد الْفرس وحمير بن سيف بن ذِي يزن إِذْ
كَانَ قد هلك فالفرس
الْمُلُوك وحمير المدبرون للبلاد والسائقون للخراج والدافعون للْفَسَاد وَكَانَ
بَين الْفرس وَبَين هَمدَان عهود ومواثيق وَكَانَ بَينهم فِي ذَلِك مكتب
قَالَ
الرَّازِيّ كَانَت الْعَرَب تكْتب فِي صدر كتبهَا بِاسْمِك اللَّهُمَّ وتكتب
فَارس باسم ولي الرَّحْمَة وَالْهدى فَلَمَّا أَرَادوا كتب كتاب الْحلف جمعُوا
فَقَالَ بِاسْمِك اللَّهُمَّ ولي الرَّحْمَة وَالْهدى
هَذَا كتاب مَا
أَجمعت عَلَيْهِ هَمدَان وَفَارِس بِالْيمن بِمحضر الْمَرْزُبَان باذان بن ساسان
ومشاهدة للرئيسين عَمْرو بن الْحَارِث وَعَمْرو بن يزِيد من بكيل وحاشد وَرَضي من
حضر وكفالة بَعضهم لبَعض عَمَّن غَابَ من الْحَيَّيْنِ جَمِيعًا
إِنَّا
تحالفنا جَمِيعًا على عهد الله وميثاقه واجتماع الْهوى واتفاقه وقتال الْمُخَالف
وفراقه على أَن كل وَاحِد من الْحَيَّيْنِ جَمِيعًا فِيمَا عقد وحالف إِن نكث أَو
خَالف عَمَّا عقد وَشد ووكد فَعَلَيهِ الْعَهْد من الله المكرر الوثيق الْمُؤَكّد
الشَّديد أَبَد الْأَبَد لأبد لَا يبيد مَا دَامَ وَالِد وَولد لَا يزَال عهدا
مؤكدا مَا أظلت السَّمَاء وأقلت الغبراء وَجرى المَاء وَنزل الْمَطَر وأخضر
الشّجر وَأكل الثَّمر وَبَقِي الْبشر وَمَا بَقِي فِي الْبحار رنق وَفِي
الْأَشْجَار ورق وَفِي الْأَيَّام رَمق وَمَا ثبتَتْ الرواسِي الشامخات فِي
موَاضعهَا وَظَهَرت النُّجُوم السابحات فِي مطالعها عهدا تؤكده العهود بِعقد
مُحكم مبرم شَدِيد لَا يضمحل أمره وَلَا ينْبذ خَبره
ثمَّ جعل ذَلِك
نسختين وَاحِدَة مَعَ هَمدَان وَالْأُخْرَى مَعَ فَارس وَلم تزل الْفرس مؤالفة
لهمدان حَتَّى لَو قيل إِن ذَلِك مُسْتَمر إِلَى عصرنا لم يكد الْعقل يُنكره
فَلَمَّا
قَامَ الْإِسْلَام وَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نوابه إِلَى الْيمن
فَلم يخْتَلف أَن المعبوث إِلَى مخلاف الْجند هُوَ معَاذ بن جبل الْأنْصَارِيّ
وَلم يزل فِي الْجند حَتَّى كَانَت خلَافَة أبي بكر فَكتب إِلَيْهِ يَسْتَأْذِنهُ
بالقدوم عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ سَائِر الْعمَّال كتبُوا فَكتب إِلَيْهِم الصّديق
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثكم لما بعثكم لَهُ من شَأْنه فَمن
أحب أَن
يقف فِي عمله فليقف وَمن أحب أَن يعود فليعد بعد أَن يخلف
صَالحا فاستخلف معَاذ على الْجند عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي وَاخْتلف
المؤرخون فِيمَن كَانَ نَائِبا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صنعاء
فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن جرير الصَّنْعَانِيّ أَنه أبان بن سعيد بن الْعَاصِ
بن أُميَّة بن عبد شمس وَهُوَ أحد من قيل إِنَّه بنى جَامع صنعاء وَقد قيل
أَقْوَال غير ذَلِك فَلَمَّا قدم كتاب الصّديق إِلَى أبان يخيره بَين الْوُقُوف
وَبَين الِاسْتِخْلَاف وَالْعود فاستخلف يعلى بن أبي عبيد بن الْحَارِث بن بكر بن
زيد التَّمِيمِي وَيُقَال لَهُ يعلى بن منية نِسْبَة إِلَى أمه كَانَ مَعَ أبان
فِي ولَايَته وَكَانَ من حلفاء قُرَيْش ثمَّ من حلفاء بني نَوْفَل بن عبد منَاف
فَلم يزل يعلى على صنعاء ومخاليفها حَتَّى قتل عُثْمَان وَسَيَأْتِي ذكر مَا
كَانَ مِنْهُ فِي خلَافَة عمر
وَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى خولان خَالِد بن عَامر من بني أُميَّة فَلم يسلمُوا فَقَاتلهُمْ وسبى
مِنْهُم ثمَّ سَار إِلَى حُضُور فأسلموا فَبنى لَهُم مَسْجِدا وَهُوَ مَسْجِد
مَشْهُور من الْمَسَاجِد المعدودة بِالْيمن
وَبعث خَالِد بن الْوَلِيد
إِلَى تهَامَة وَبعث إِلَى حَضرمَوْت المُهَاجر بن أبي أُميَّة وَزِيَاد بن لبيد
فَارْتَد جمع من أهل تهَامَة وَخرج عَنْهُم خَالِد بن الْوَلِيد بعد أَن
أصلحوا
فغزا الْيَمَامَة الْغَزْوَة الْمَشْهُورَة الَّتِي قتل بهَا مُسَيْلمَة
الْكذَّاب وَسَائِر الْعمَّال لم يبرحوا من عَمَلهم حَتَّى توفوا عَلَيْهِ وَبِه
كَانَ مبدأ خلَافَة الصّديق يَوْم توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
الِاثْنَيْنِ ثَانِي شهر ربيع الأول وعَلى وَفَاة عشر من الْهِجْرَة وَقد مضى
بَيَان بيعَة الْمُسلمين لَهُ وَأَنَّهَا كَانَت فِي الْيَوْم الأول
وَمن
عَجِيب مَا حدث أَيَّام خلَافَة الصّديق بِالْيمن أَنه حصل مطر عَظِيم فأبرز عَن
بَاب مغلق وَظن النَّاس أَنه كنز وهابوا فَتحه دون مشاروة الْخَلِيفَة فَكَتَبُوا
إِلَى أبي بكر يعلمونه بذلك فَعَاد جَوَابه إِلَى عَامل الْبَلَد أَن لَا يتْرك
أحدا يقرب الْموضع حَتَّى يقدم أمناؤه ثمَّ لما قدم الْأُمَنَاء فتحُوا الْبَاب
فَإِذا هُوَ على مغارة فَدَخَلُوهَا وَإِذا بهَا سَرِير عَلَيْهِ رجل فَوْقه
سَبْعُونَ حلَّة منسوجة بِالذَّهَب وَبِيَدِهِ الْيُمْنَى لوح فِيهِ مَكْتُوب ...
إِذا خَان الْأَمِير وكاتباه ... وقاضي الأَرْض داهن بِالْقضَاءِ
فويل
ثمَّ ويل ثمَّ ويل ... لقَاضِي الأَرْض من قَاضِي السَّمَاء ... وَفِي كَفه
الْأَيْسَر خَاتم عَلَيْهِ مَكْتُوب {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد وَإِن وجدنَا
أَكْثَرهم لفاسقين}
وَعند رَأسه مَكْتُوب ... يَا لائمي فِي هجرهم
جَاهِلا ... عُذْري منقوش على خَاتمِي ... ثمَّ سيف أَشد خضرَة من البقلة
مَكْتُوب عَلَيْهِ هَذَا سيف هود بن عَاد بن إرم
وَهَذَا أعجب مَا جرى
فِي الْيمن بأيام أبي بكر وَلم يزل الْيمن بيد الْأُمَرَاء الْمُتَقَدِّمين مذ
خِلَافَته حَتَّى كَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة لسبع بَقينَ من جُمَادَى
الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة وَكَانَ آخر كَلَام سمع مِنْهُ رب توفني مُسلما
وألحقني بالصالحين
وَكَانَ رزقه من بَيت المَال كل
عَام
ثلاثمئة دِينَار بعد أَن بلغ عمره ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة وخلافته سنتَانِ
وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا وغسلته امْرَأَته أَسمَاء بنت عُمَيْس
بِوَصِيَّة مِنْهُ ثمَّ دفن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحجرة
عَائِشَة
وَجعل رَأسه بِإِزَاءِ كتف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَكَانَ الْقَمَر الثَّانِي المدفون تَصْدِيقًا لرؤيا أم الْمُؤمنِينَ
الْمُتَقَدّم ذكرهَا
ثمَّ ولي أَمر الْأمة بعده أَبُو حَفْص عمر بن
الْخطاب بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى بن رَبَاح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي
بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب يجْتَمع مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي
بكر فِي كَعْب بن لؤَي اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بكر فَقَامَ بِأَمْر الْأمة أتم قيام
وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ أول من سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ فأبقى عُمَّال الْيمن
على حَالهم لم يُغير على أحد مِنْهُم غير يعلى بن أُميَّة صَاحب صنعاء فَإِنَّهُ
أشخصه عَن صنعاء مرَّتَيْنِ وَوصل الْمَدِينَة
سَبَب الأولى أَن أَخا
ليعلى أَو بعض أَهله اشْترى فرسا لرجل بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم وَلم يوفه
الثّمن فَذهب إِلَى عمر وشكا ذَلِك فاستدعاه وحاقق بَينهمَا ثمَّ عَاد من فوره
إِذْ لم يتَوَجَّه عَلَيْهِ حق
وَالثَّانيَِة أَن رجلا من أهل حفاش
قتل ابْنا لآخر فوصل إِلَى يعلى فَأخْبرهُ فاستدعى الْقَاتِل وَسَأَلَهُ هَل قتل
ولد الشاكي فاعترف بذلك فَأخذ يعلى سَيْفا وَسلمهُ إِلَى أبي الْمَقْتُول وَقَالَ
اذْهَبْ فاقتله كَمَا قتل ولدك ثمَّ إِنَّه ضربه ضربات مُتعَدِّدَة فَوَقع مغشيا
عَلَيْهِ وَلم يشك أَنه مَاتَ فَأَخذه أَهله وَأَرَادُوا دَفنه فوجدوا فِيهِ عرقا
يَتَحَرَّك فَذَهَبُوا بِهِ الْبَيْت ولاطفوه بالأدوية فتعافى فَبينا هُوَ ذَات
يَوْم يرْعَى الْغنم إِذْ مر بِهِ أَبُو الْمَقْتُول فَعرفهُ فَذهب إِلَى يعلى
فَأخْبرهُ فاستدعاه يعلى فاستخبره فَوجدَ فِيهِ جراحات كَثِيرَة فَأمر يعلى من
قدر أروشها فبلغت الدِّيَة فَقَالَ يعلى لأبي الْمَقْتُول إِمَّا أَن تدفع
الدِّيَة ونقتله أَو تخليصه فَقَالَ أُرِيد قَتله وَمَا فعلته بِهِ يكون هدرا
فَلم يساعده يعلى على ذَلِك فَقدم إِلَى عمر وشكا إِلَيْهِ من يعلى وَقَالَ حَال
بيني وَبَين قَاتل وَلَدي فَبعث عمر الْمُغيرَة بن شُعْبَة على صنعاء واستدعى
يعلى
فَلَمَّا دخل الْمُغيرَة صنعاء أَسَاءَ إِلَى يعلى وَأخرجه إِلَى
عمر بِوَجْه لَا يَلِيق فَلَمَّا قدم يعلى والمقتول وَلَده أَن يتحاققا فَقَالَ
عَليّ كرم الله وَجهه إِن يعلى لفقيه وَقَالَ عمر إِنَّك لقاض ثمَّ لبث
بِالْمَدِينَةِ سنتَيْن
وَسَأَلَ عمر عَن قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ
عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين
كفرُوا} وَقلت قد أمنا فَقَالَ عمر عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ فَسَأَلت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم
فاقبلوا صدقته ثمَّ إِن عمر أعَاد يعلى على عمله فَلَمَّا قدم صنعاء أحسن إِلَى
الْمُغيرَة وجهزه إِلَى عمر أحسن جهاز فَكَانَ الْمُغيرَة يَقُول عِنْد ذكره يعلى
خير مني حِين ولي وَحين عزل
وَفِي أَيَّام يعلى كَانَت قصَّة أصيل
وَهِي مَا أوردهُ الرَّازِيّ بكتابه بِسَنَد حذفته اختصارا وَذَلِكَ أَن رجلا من
أهل صنعاء غَابَ عَن امْرَأَة لَهُ اسْمهَا زَيْنَب وَترك مَعهَا ابْنا لَهُ من
غَيرهَا اسْمه أصيل صبي فِي سنّ التَّمْيِيز وَكَانَت فاسقة وَلها سَبْعَة أخلاء
فَصَارَت تتبرم من الصَّبِي أَن يفضحهم وَقَالَت لخلانها إِن هَذَا الصَّبِي
فاضحنا لَا محَالة وَلست آمِنَة أَن يفضحني وَإِيَّاكُم ثمَّ حسنت لَهُم قَتله
وَلم تزل بهم حَتَّى دخلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فخنقوه حَتَّى مَاتَ ثمَّ
حملوه فألقوه ببئر الديبانادى وَهِي بوسط غمدان خلف بِئْر سَام بن نوح قَالَ
الرَّازِيّ وَهِي فِي عصرنا خراب وعصره فِي المئة الْخَامِسَة ثمَّ إِن
الْمَرْأَة أظهرت بعد ذَلِك فقد الصَّبِي وَجعلت تَدور شوارع صنعاء راكبة على
حمَار وَهِي تَقول اللَّهُمَّ لَا تخف عَليّ من قتل أصيلا ثمَّ اتَّصل الْعلم
بيعلى وَأَن صَبيا فقد لَا يعلم خَبره فشق بِهِ ذَلِك وساءه ثمَّ صعد الْمِنْبَر
فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ انْظُرُوا هَل تُحِسُّونَ لهَذَا
الصَّبِي خَبرا أَو يذكر لكم فَلم يجبهُ أحد بِشَيْء ثمَّ بعد أَيَّام مر رجل من
أهل صنعاء بالبئر فَظهر لَهُ مِنْهَا ريح مُنْتِنَة وذباب أَخْضَر يطلع من
الْبِئْر وَيرجع فِيهَا فغلب على ظَنّه وجود الْغُلَام بالبئر فَذهب إِلَى يعلى
وَقَالَ أظنني قد قدرت على طلبتك أَيهَا الْأَمِير ثمَّ أخبرهُ بِمَا وجد فِي
الْبِئْر فبادر يعلى وَركب من فوره حَتَّى وقف بِرَأْس الْبِئْر وَمَعَهُ جمع من
الحفدة وَأهل الْبَلَد وَمن جُمْلَتهمْ
بعض القتلة فَقَالَ أدلوني
أنظر مَا فِي الْبِئْر وأكشف الْخَبَر فَربط بحبال وَأنزل فَلَمَّا صَار
بِالْقربِ من المَاء وجد الصَّبِي قد نبذه المَاء وَهُوَ على وَجه المَاء فغيبه
فِي جرف من جروف الْبِئْر ثمَّ صَاح أطلعوني فَإِنِّي لم أجد شَيْئا فَأطلع
فَقَالَ النَّاس لَهُ إِنَّك لما ضربت المَاء وحركته اشتدت الرَّائِحَة وَكثر
صعُود الذُّبَاب فَقَالَ رجل آخر أدلوني مَكَانَهُ فحين قَالَ ذَلِك أخذت الأول
رعدة شَدِيدَة فاستوثقوا بِهِ فأدلوا الثَّانِي فَلَمَّا صَار بِالْمَاءِ تبع
الرَّائِحَة فَوجدَ الصَّبِي بِغَار وَعَلِيهِ أثر التقليب فشده بالحبل وَأمر
بجره فَأطلع أَولا وطلع الصَّبِي الْهَالِك فَلَمَّا ظهر الصَّبِي وَرَآهُ
الْمنزل الأول اشتدت رعدته وَهَذَا من قبيل قَوْلهم فِي الْمثل كَاد الْمُرِيب
أَن يَقُول خذوني فَأخذ يعلى عَلَيْهِ بالتهديد فاعترف أَنه قَتله من جملَة
سَبْعَة وَأَن سَبَب ذَلِك زَوْجَة أَبِيه فطلبوا جَمِيعًا فَلَمَّا حصلوا سجنوا
وَجعلت الْمَرْأَة بمعزل عَنْهُم وَكتب يعلى إِلَى عمر يسْأَله الحكم فيهم فحين
وصل الْكتاب إِلَى عمر استحضر جمَاعَة من فُقَهَاء الصَّحَابَة وَعرض عَلَيْهِم
كتاب يعلى واستشارهم وَقَالَ إِنِّي أرى بقتل الرِّجَال وَالْمَرْأَة غير أَنِّي
أردْت لَا ينفذ ذَلِك إِلَّا بعد مشورة مِنْكُم فصوبوا رَأْيه حَتَّى قَالَ عَليّ
كرم الله وَجهه رَأَيْت صَوَابا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرَأَيْت لَو أَن
جمَاعَة اشْتَركُوا فِي سَرقَة جزور سرق كل وَاحِد مِنْهُم عضوا أَكنت قاطعهم
بذلك قَالَ نعم قَالَ فَهَؤُلَاءِ كَذَلِك فقوي عزم عمر وَكتب إِلَى يعلى بذلك
ثمَّ قَالَ لَو تمالأ أهل صنعاء على قَتله لقتلتهم بِهِ فحين وصل الْكتاب إِلَى
يعلى بَادر فَقتل الرِّجَال وَالْمَرْأَة وَقد اسْتشْهد كثير من مصنفي الْفِقْه
على جَوَاز قتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ لهَذَا الْخَبَر
ثمَّ بعد
ذَلِك أَن موَالِي ليعلى ضربوا رجلا حَتَّى أحدث فِي ثِيَابه فَذهب الرجل إِلَى
عمر واشتكى إِلَيْهِ فَكتب عمر إِلَى يعلى أَن يَأْتِيهِ مَاشِيا على قَدَمَيْهِ
فَخرج من صنعاء كَذَلِك حَتَّى إِذا صَار على مراحل مِنْهَا لقِيه كتاب عُثْمَان
بن عَفَّان يبقيه على عمله ويخبره بوفاة عمر فَعَاد يعلى إِلَى صنعاء وَعمل
فرحة
وَأما ابْن أبي ربيعَة فَلم أسمع لَهُ خَبرا يستظرف غير مَا ذكر
الرَّازِيّ فَذكر بعض الْفُقَهَاء أَنه بعث إِلَى عمر ظرفا بِهِ شَيْء من الغالية
فوصل إِلَى عمر وَعِنْده
جمَاعَة من الصَّحَابَة فاستخرج مَا فِيهِ
وضمخ بِهِ من حَضَره من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَقيل دهنهم بِهِ
قَالَ
الرَّازِيّ فَذكر بعض الْفُقَهَاء أَن فِي فعل عمر ذَلِك ثَلَاث فَوَائِد مِنْهَا
قبُول الْهَدِيَّة والادهان بالغالية وطهارة الْمسك إِذْ هُوَ الْغَالِب فِي
جوانحها وَمن محَاسِن عمر رَضِي الله عَنهُ مَا ذكر طَاوُوس أَنه قَالَ للنَّاس
وهم حوله أَرَأَيْتُم إِذا اسْتعْملت عَلَيْكُم خير من أعلمهُ ثمَّ أوصيته
بِالْعَدْلِ فِيكُم أَتَرَوْنَ قضيت مَا عَليّ قَالُوا نعم قَالَ لَا حَتَّى
أطالعه وأفتقده فِي عمله هَل هُوَ كَمَا أَمرته أم لَا
وَقَالَ لَهُ
حُذَيْفَة بن الْيَمَان اسْتعْملت الْفجار على رِقَاب أمة مُحَمَّد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَلم يفعل ذَلِك من قبلك فَقَالَ أستعين بجلد الْفَاجِر وَإِن
عرفت فجوره ثمَّ أباشر عمله بنفسي فَقَالَ حُذَيْفَة أخْشَى أَن يوليهم من
يَأْتِي بعْدك احتجاجا بك ثمَّ لَا يباشرهم وَفعل عمر مَعَ يعلى دَلِيل على مَا
ذكره من الافتقاد
وَكَانَ عمر أول من سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ
سَمَّاهُ بِهِ عَمْرو بن الْعَاصِ فاشمأز مِنْهُ فَقَالَ لَهُ أَلسنا
الْمُؤمنِينَ وَأَنت أميرنا قَالَ بلَى ثمَّ سكت فَمن هُنَالك سمي كل قَائِم
بِالْأَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ أول من دون الدَّوَاوِين وجند الأجناد
وَعرف العرفاء وَوضع الْجِزْيَة وَنفى الْمُشْركين عَن جَزِيرَة الْعَرَب
وَلما
أَرَادَ وضع الدِّيوَان جمع أكَابِر الصَّحَابَة واستشارهم فوافقوه ثمَّ
سَأَلَهُمْ بِمن تكون الْبِدَايَة فَقَالُوا بك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ
لَا الْأَمر لرَسُول الله وَنحن نوابه فِي أمته أبدأ برهطه الْأَقْرَب
فَالْأَقْرَب ثمَّ فرض للْعَبَّاس فِي كل عَام سِتَّة آلَاف دِرْهَم ثمَّ لعلى
نَحوه وَفرض لِلْحسنِ وَالْحُسَيْن خَمْسَة آلَاف دِرْهَم وَقَالَ ألحقهما
بأبيهما لمكانهما من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ فرض لكل
مُهَاجِرِي خَمْسَة آلَاف وَلكُل أَنْصَارِي أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم ثمَّ جعل
نَفسه
وَأَهله فِي الْبَيْت الثَّامِن وَكَانَ إِذا أَخذ أحد مِنْهُ رزقا لَهُ بَارك
الله لَك فِيهِ هَذَا مَا وَعدك الله فِي الدُّنْيَا وَمَا ادخر لَك فِي
الْآخِرَة أفضل ثمَّ يَتْلُو وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم
فِي الدُّنْيَا حَسَنَة ولأجر الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ وَفرض لكل
امْرَأَة من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ اثْنَي عشر ألف دِرْهَم مَا خلا صَفِيَّة
ابْنة حَيّ النَّضْرِية وَجُوَيْرِية ابْنة الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة
فَإِنَّهُ جعل لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا سِتَّة آلَاف وَكَانَ مَتى قيل لَهُ جَزَاك
الله عَن الْإِسْلَام خيرا قَالَ بل جزى الله عني الْإِسْلَام خيرا
وَكَانَ
طَعَامه من أقرب الْأَطْعِمَة لَا يغالي فِيهِ وَقد يُعَاتب على ذَلِك فَيَقُول
أخْشَى أَن أكون من الَّذين قَالَ الله فيهم {أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي
حَيَاتكُم الدُّنْيَا} وَلَوْلَا ذَلِك لأمرت بجدي سمين فيطبخ بِاللَّبنِ وَكَانَ
فِي آخر عمره كثير الرَّغْبَة عَن الدُّنْيَا يَدْعُو بالوفاة قبل انصرام أمره
وَخُرُوج الْخَوَارِج عَلَيْهِ
وَمن ذَلِك مَا رُوِيَ عَن ابْن
الْمسيب أَنه حج فِي آخر سنة
فَلَمَّا نزل بطحاء مَكَّة جمع شَيْئا من
بطائحها شبه الدكة ثمَّ بسط عَلَيْهَا رِدَاءَهُ ثمَّ اضْطجع وَرفع يَدَيْهِ
وَقَالَ اللَّهُمَّ كبر سني ورق عظمي وضعفت قوتي وخشيت الانتشار من رعيتي فاقبضني
إِلَيْك غير عَاجز وَلَا مضيع ثمَّ قدم الْمَدِينَة فَمَا انْقَضى الشَّهْر
حَتَّى توفّي
قَالَ ابْن عَبَّاس لما تكَرر عَليّ سَماع عمر بِطَلَب
الْوَفَاة قلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أكثرت الدُّعَاء بِالْمَوْتِ
حَتَّى حسبت أَن يكون ذَلِك أسهل عِنْد نُزُوله فَمَاذَا مللت من قَوْمك وهم
مَعَك إِمَّا تعين صَالحا أَو تقيم مائلا فَقَالَ إِنِّي قَائِل لَك قولا وَهُوَ
إِلَيْك فَقلت لَهُ يعدوني قَالَ كَيفَ لَا أحب فراقهم وَفِيهِمْ نَاس كل فاتح
فاها للهوة من
الدُّنْيَا إِمَّا بِحَق لَا يتَوَجَّه أَو بباطل لَا
يَنَالهُ وَلَوْلَا أَن أسأَل عَنْكُم لهربت مِنْكُم وأصبحت الأَرْض مني بَلَاقِع
ومضيت لشأني
وَلما جرحه العلج وَأدْخل إِلَى منزله اجْتمع النَّاس
عِنْده وَجعلُوا يثنون عَلَيْهِ بِالْخَيرِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ بَين رَاغِب وراهب
وَلما قيل لَهُ اسْتخْلف قَالَ لَا أتحمل أَمركُم حَيا وَمَيتًا وددت الكفاف لَا
عَليّ وَلَا لي وَلما قَالَ لَهُ الطَّبِيب أوص أَمر ابْنَته حَفْصَة إِلَى
عَائِشَة تسألها الْإِذْن فِي دَفنه مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَصَاحبه فَأَذنت ثمَّ لما أَيقَن بِالْمَوْتِ أَمر ابْنه عبد الله أَيْضا إِلَى
عَائِشَة يستوثق مِنْهَا بِالْإِذْنِ فَأَذنت ثمَّ جعل أَمر الْمُسلمين شُورَى
فِي سِتَّة نفر من الْعشْرَة الَّذين شهد لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِالْجنَّةِ وهم عُثْمَان وَعلي وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد وَعبد
الرَّحْمَن بن عَوْف وَأخرج ابْن عَمه سعيدا رَضِي الله عَنْهُم وَلم يكن بَقِي
من الْعشْرَة غَيرهم وَأمر صهيبا الرُّومِي أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِلَى أَن
يتفقوا على إِمَام لَهُم ثمَّ توفّي سلخ الْحجَّة سنة ثَلَاث وَعشْرين وعمره خمس
وَخَمْسُونَ سنة وَقيل ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وَمُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين
وَسِتَّة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام ثمَّ دفن مَعَ صَاحِبيهِ وَجعل رَأسه بِإِزَاءِ
كتف أبي بكر وَكَانَ هُوَ الْقَمَر الثَّالِث فِي رُؤْيا عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا
وَفِي اجْتِمَاعهم قَالَ حسان بن ثَابت ... ثَلَاثَة برزوا
لسبقهم ... فِي نَصرهم لرَبهم إِذا بروا
عاشوا بِلَا فرقة حياتهم ...
ثمَّ الْتَقَوْا فِي الْمَمَات إِذْ قبروا
فَلَيْسَ من مُسلم لَهُ بصر
... يُنكر فضلا لَهُم إِذا ذكرُوا ... ثمَّ اتّفقت كلمة أهل الشورى على
اسْتِخْلَاف عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد
منَاف فأبقى الْعمَّال على حَالهم وَلم يزل عُمَّال الْيمن خُصُوصا يعلى وَابْن
أبي ربيعَة بمخلافي الْجند وَصَنْعَاء
فَكَانَ أول شَيْء فعله مِمَّا
يُنكره النَّاس بِخِلَاف مَا كَانَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ صُعُوده من الْمِنْبَر
وقعوده فِيهِ على الْمرقاة الَّتِي كَانَ يقْعد عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَن مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
ثَلَاث درج يقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الثَّالِثَة مِنْهُنَّ
فَلَمَّا قَامَ أَبُو بكر وقف على الثَّانِيَة وَقَالَ لَا يراني الله وَاقِفًا
موقف نبيه ثمَّ لما ولي عمر وقف على الأولى وَقَالَ لَا يراني أَهلا لموقف أبي
بكر فَلَمَّا ولي عُثْمَان صعد على الثَّالِثَة وَقَالَ مَا بِهَذَا من بَأْس
فحدقه النَّاس بِأَبْصَارِهِمْ فارتج عَلَيْهِ الْكَلَام فَقَالَ إِنَّكُم إِلَى
إِمَام فعال أحْوج مِنْكُم إِلَى إِمَام قَوَّال
وَكَانَ طلوعه ذَلِك
عقيب مبايعة الْمُسلمين لَهُ ثَالِث الْمحرم وَقيل رابعه سنة أَربع وَعشْرين
وَاسْتمرّ إِلَى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ لم يسْلك هُوَ وَلَا أحد من نوابه غير
طَرِيق الشَّيْخَيْنِ ثمَّ حصل من عماله فِي مصر وَالْعراق مَا أوجب الطعْن
عَلَيْهِ وَخُرُوج الْخَوَارِج إِلَيْهِ من أنحاء شَتَّى وَلم يزَالُوا كَذَلِك
إِلَى أَن قتل يَوْم الْجُمُعَة صَابِرًا محتسبا صَائِما بعد أَن حوصر
أَرْبَعِينَ يَوْمًا لم يبد مِنْهُ كلمة يكون فِيهَا لمبتدع حجَّة وَلَقَد قيل
لَهُ وَهُوَ مَحْصُور مَا الَّذِي تَأْمُرنَا بِهِ إِن كَانَ بك كَون فَقَالَ
انْظُرُوا مَا اجْتمعت عَلَيْهِ أمة مُحَمَّد فكونوا عَلَيْهِ فَإِنَّهَا لَا
تَجْتَمِع على ضَلَالَة حَتَّى قتل قتلة كَابْن آدم حِين قَالَ لِأَخِيهِ {لَئِن
بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك إِنِّي أَخَاف الله
رب الْعَالمين} وَقد كَانَ رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ
اللَّيْلَة فَقَالَ يَا عُثْمَان أفطر عندنَا فَلَمَّا أصبح قَالَ لعبيده
المحيطين ببيته من أغمد سَيْفه فَهُوَ حر فأغمدوا سيوفهم فجد الْخَوَارِج
عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ لثلاث خلون من الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَقيل كَانَ
قَتله أَيَّام التَّشْرِيق بعد أَن حوصر أَرْبَعِينَ يَوْمًا
وَاخْتلف
فِي عمره فَقيل اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سنة وَأشهر وَقيل ثَمَانِي وَثَمَانُونَ
سنة وَقيل تسع وَثَمَانُونَ وَقيل تسعون سنة
ثمَّ اسْتخْلف خَاتم
الْخُلَفَاء أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد
منَاف فحين سمع عَاملا الْيمن يعلى وَابْن أبي ربيعَة بقتل عُثْمَان خافا على
نفسيهما فَخَرَجَا مُجْتَمعين حَتَّى قدما مَكَّة سَالِمين فوجدا بهَا عَائِشَة
وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَقد اتَّفقُوا على خُرُوج الْعرَاق للطلب بِدَم عُثْمَان
فأهدى يعلى لعَائِشَة جملا يُقَال لَهُ عَسْكَر وَبِه يعرف الْيَوْم الْمَشْهُور
بِيَوْم الْجمل
وَبعث عَليّ على الْيمن عبيد الله بن الْعَبَّاس على
صنعاء وَسَعِيد بن سعد الْأنْصَارِيّ على الْجند فَلبث ابْن عَبَّاس بِصَنْعَاء
أَرْبَعِينَ شهرا ثمَّ إِن مُعَاوِيَة وَجه بشر بن أَرْطَأَة العامري الْيمن
بِأَلف فَارس وَأمره بِطَلَب دم عُثْمَان فحين بلغ ذَلِك الْعلم إِلَى صنعاء جمع
ابْن عَبَّاس أهل صنعاء وخطبهم وحضهم على الْقِتَال وَهُوَ يُرِيد الْأَبْنَاء
إِذْ هم حِينَئِذٍ رَأس النَّاس فَقَالَ لَهُ فَيْرُوز الديلمي مَا عندنَا قتال
فاستر شَأْنك فَحِينَئِذٍ أيس من نَصرهم واستخلف عَمْرو بن أراكة الثَّقَفِيّ
ثمَّ ترك وَلدين لَهُ مَعَ أم سعيد ابْنة بزرج الَّتِي تقدم ذكرهَا أَن أَصْحَاب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كل قادم مِنْهُم إِلَى صنعاء ينزل
بَيتهَا إِذْ كَانَت امْرَأَة داذويه أَمِير الْفرس يَوْمئِذٍ وَهِي أول امْرَأَة
قَرَأت الْقُرْآن بِصَنْعَاء وصلت الصَّلَاة وَهِي أُخْت الرجلَيْن الْمَذْكُورين
أَولا النُّعْمَان وَعبد الرَّحْمَن
فَلَمَّا قدم ابْن أَرْطَأَة
صنعاء وَقد خرج عَنْهَا ابْن عَبَّاس لاحقا بعلي استدعى بالولدين وَكَانَ
الْكَبِير ابْن عشر سِنِين وَالصَّغِير ابْن ثَمَان وَفِي اسمهما خلاف فَقيل
الْحسن وَالْحُسَيْن وَقيل عبد الرَّحْمَن وَقثم بِضَم الْقَاف وَفتح الثَّاء
الْمُثَلَّثَة ثمَّ مِيم فَلَمَّا حضرا إِلَى بسر أَمر بِقَتْلِهِمَا فَقَالَا
لَهُ يَا عَم وَمَا ذنبنا فَقَالَ الْخَبيث ذكوا ابْني أخي فَاخْرُج إِلَى بَاب
المصرع وذبحا وَقتل عَمْرو بن أراكة الثَّالِث وَقتل اثْنَيْنِ وَسبعين
من
الْأَبْنَاء كَانُوا قد شفعوا إِلَيْهِ فِي الطفلين فَحصل للأبناء فِي ذَلِك مَا
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سل سيف الْبَغي ضرب بِهِ وَمن أعَان ظَالِما
أغري بِهِ فَإِنَّهُم أعانوا بشرا على ظلمه
وَكَانَ بشر يُقَال لَهُ
بسر بن أَرْطَأَة العامري نِسْبَة إِلَى عَامر بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك
أول جَبَّار دخل الْيمن وعسف أَهله واستحل الْحَرَام ولاقى من ذَلِك قتل الشهيدين
كثير وَقد قتل من ذَلِك أمما لَا تحصر وعاث فِي الْيمن حَتَّى بلغ الْبَحْر بَحر
عدن وقبر الطفلين مَشْهُور بِصَنْعَاء فِي مَسْجِد يعرف بِمَسْجِد الشهيدين يزار
ويستنجح من الله فِيهِ الْحَاجَات وَلما بلغ عليا كرم الله وَجهه دُخُول بسر
الْيمن جهز ألفي فَارس من الْكُوفَة وَمثلهَا من الْبَصْرَة وَجعل على الْجَمِيع
جَارِيَة بن قدامَة السَّعْدِيّ وَأمره بِدُخُول الْيمن ومتابعة بسر حَيْثُ كَانَ
ومطالبته بِمَا أحدث فِي الْيمن من قتل أَو فَسَاد فَلَمَّا دخل جَارِيَة الْيمن
تهرب بسر وتفرق أَصْحَابه ثمَّ إِن جمَاعَة من الْيمن وَغَيره كَانُوا قد وافقوا
بشرا على رَأْيه فلزمهم وَنكل بهم وَقتل من اسْتحق الْقَتْل مِنْهُم ثمَّ عَاد
مَكَّة فحين دَخلهَا بلغه موت عَليّ كرم الله وَجهه فَأخذ الْبيعَة على أَصْحَابه
وَأهل مَكَّة بالبيعة لمن بَايع لَهُ أَصْحَاب عَليّ وَلم يمت عَليّ حَتَّى قد
سمع مِنْهُ الْكَرَاهَة للبقاء كَمَا سمع عَن عمر
قَالَ الْخطابِيّ
فِي كتاب الْعُزْلَة بِسَنَد إِلَى ابْن سِيرِين قَالَ قَالَ عُبَيْدَة سَمِعت
عليا كرم كرم الله وَجهه يَقُول فِي خطبَته اللَّهُمَّ إِنِّي قد سئمتهم وسئموني
ومللتهم وملوني فأرحني مِنْهُم وأرحهم مني مَا يمْنَع أشقاها أَن يخضبها بِدَم
وَوضع يَده على لحيته وَمعنى قَوْله كرم الله وَجهه مَا يمْنَع أشقاها الْكَلَام
إِلَى آخِره فِيهِ بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَشْقَى
لأخربن من يخضب هَذِه وَأَشَارَ إِلَى لحية عَليّ من هَذِه وَأَشَارَ إِلَى
قرينته وَكَانَ الْيمن وَالْعراق والحجاز وخراسان تَحت طوع عَليّ يسْتَخْلف
عَلَيْهِم من يَشَاء
وَكَانَت وَفَاته كرم الله وَجهه شَهِيدا من
ضَرْبَة ضربه ابْن ملجم وَهُوَ فِي الصَّلَاة محرم بِجَامِع الْكُوفَة وَذَلِكَ
لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة وَبلغ عمره
ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة وَقبل ثمانيا وَخمسين سنة وَصلى عَلَيْهِ ابْنه الْحسن
وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَقد ذكرت مَوضِع دَفنه فِيمَا
مضى وَختم الله بِهِ الْخلَافَة كَمَا ختم النُّبُوَّة بِمُحَمد
وَمن
ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخلَافَة ثَلَاثُونَ عَاما
فَكَانَ آخر قيام عَليّ آخر الثَّلَاثِينَ وَقيل بَقِي مِنْهَا أشهر أَخذهَا
الْحسن كرم الله وَجهه ثمَّ خلع نَفسه ميلًا إِلَى حقن دِمَاء الْمُسلمين
وَكَيْفِيَّة
ذَلِك أَن مُعَاوِيَة لما قَصده إِلَى الْكُوفَة بِجَيْش عَظِيم من الشَّام ومصر
وَخرج إِلَيْهِ الْحسن بِجَيْش لم يكن بِدُونِ جَيْشه فَلَمَّا رأى الْحسن
كَثْرَة الجيشين خشِي على الْمُسلمين أَن يتفانوا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوته يَا
مُعَاوِيَة الله الله بِأمة مُحَمَّد لَا تفنهم على طلب الدِّينَا
إِن
كَانَ هَذَا الْأَمر لَك فَمَا يَنْبَغِي لي أَن أنازعك فِيهِ وَإِن كَانَ لي فقد
آثرتك بِهِ إبْقَاء على الْمُسلمين وحقنا لدمائهم فَقَالَ الْمُغيرَة حِينَئِذٍ
لقد سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن ابْني هَذَا سيد
وسيصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُؤمنِينَ
فَخلع الْحسن
نَفسه وَبَايع لمعاوية وَذَلِكَ بعد أَن أَقَامَ سَبْعَة أشهر واثني عشر يَوْمًا
وَكَانَت هَذِه الْمدَّة هِيَ الْبَقِيَّة من الثَّلَاثِينَ الَّتِي عناها
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله الْخلَافَة ثَلَاثُونَ عَاما ثمَّ يكون
بعد ذَلِك الْملك
وَقد عرض مَعَ ذكر عَليّ كرم الله وَجهه ذكر عبيد
الله بن الْعَبَّاس وَهُوَ ابْن عَمه وَأحد الصَّحَابَة وَله عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم رِوَايَات وَكَانَ أكبر من أَخِيه عبد الله الْمُفَسّر
بِسنتَيْنِ كَانَت وَفَاته بِالْمَدِينَةِ سنة سبع وَثَمَانِينَ
ثمَّ
صَار الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة فاستناب عُثْمَان بن عَفَّان الثَّقَفِيّ فَلبث
مُدَّة ثمَّ عَزله بأَخيه عتبَة بن أبي سُفْيَان وَجمع لَهُ ولَايَة المخلافين
صنعاء والجند فَلبث فِي الْيمن سنتي وَلحق بأَخيه فاستخلف فَيْرُوز الديلمي
بِصَنْعَاء وبالجند قيس الْكَاتِب
وبتلك الْمدَّة مَاتَ فَيْرُوز على
الْعَمَل ثمَّ بعث مُعَاوِيَة مَكَان أَخِيه النُّعْمَان بن بشير الْأنْصَارِيّ
فَأَقَامَ بِالْيمن سنة ثمَّ عَزله ببشير بن سعيد الْأَعْرَج الَّذِي تقدم ذكر
انتصابه
كَانَ معينا ليعلى زمن عمر ثمَّ عَزله بِرَجُل من أهل الْجند
يُقَال لَهُ سعيد بن داذويه فَأَقَامَ واليا تِسْعَة أشهر وَمَات عَقبهَا فَبعث
مُعَاوِيَة على صنعاء الضَّحَّاك بن فَيْرُوز الْمُقدم ذكره فِي عداد الْفُقَهَاء
وَلم أعلم من كَانَ نَائِبه على مخلاف الْجند
ثمَّ كَانَت وَفَاة
مُعَاوِيَة وَالضَّحَّاك وَال على المخلافين برجب الْكَائِن فِي سنة سِتِّينَ
وَقد بلغ عمره ثمانيا وَسبعين سنة
وَكَانَ ألزم النَّاس لِلْبيعَةِ
لِابْنِهِ يزِيد فَبَايعُوا طَوْعًا وَكرها فَبعث على الْيمن بحير بن ريسان
الْحِمْيَرِي أحد كرام الْوُلَاة وَكَانَت ولَايَته ضمانا ضمنهَا من يزِيد بِمَال
يحملهُ فِي كل سنة مَا بقيت ليزِيد ولَايَة وَكَانَ رجلا جوادا يأنف أَن يسْأَل
شَيْئا قَلِيلا وَرُبمَا عاقب سائله حَتَّى أَن رجلا قَصده من الْحجاز وامتدحه
بِشعر مِنْهُ ... بحير بن ريسان الَّذِي سَاد حميرا ... ونائله مثل الْفُرَات
غزير
وَإِنِّي لأرجو من بحير وليدة ... وَذَاكَ من الْحر الْكَرِيم
كثير ... فَغَضب عَلَيْهِ بحير وَقَالَ ترحل إِلَيّ من الْحجاز لَا ترجو إِلَّا
وليدة لأؤدبنك ثمَّ أَمر بِهِ فَضرب أسواطا وَبعث لَهُ بِعشر ولائد وَأحسن
جائزته
ثمَّ إِن الْحُسَيْن استدعاه أهل الْكُوفَة من الْمَدِينَة
فَلَمَّا صَار بِالْقربِ مِنْهَا قدمهَا عبيد الله بن زِيَاد بِجَيْش وَغلب على
الْمَدِينَة وَأخرج الْعَسْكَر فِي طلبه فَقتل الْحُسَيْن فِي عَاشر الْمحرم سنة
أَربع وَسِتِّينَ وقصته ثَانِيَة مصائب الْمُسلمين إِذْ أَولهَا قتل عُثْمَان
وَذَلِكَ أَن الْمُسلمين استضيموا فِي قَتلهمَا عَلَانيَة
قَالَه ابْن
حزم وَقَامَ ابْن
الزبير فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ لمضي ثَلَاثَة أشهر
مِنْهَا واسْمه عبد الله وكنيته أَبُو بكر وَكَانَ فِي أَيَّام يزِيد تَخْلِيط
كثير وَلم يكن من الْحُسَيْن وَلَا من ابْن الزبير هَذَا بيعَة فَقتل الْحُسَيْن
كَمَا قدمنَا وغزا الْمَدِينَة فَقتل بهَا خلقا كثير من الْمُهَاجِرين
وَالْأَنْصَار حَتَّى لم يكد يبْقى بهَا أحد مِنْهُم وَهِي تسمى غَزْوَة يَوْم
الْحرَّة وَكَانَت ثَالِثَة من وقائع الْإِسْلَام وخرومه لِأَن أفاضل الْمُسلمين
وَبَقِيَّة الصَّحَابَة وأخيار التَّابِعين رَضِي الله عَنْهُم قتلوا ذَلِك
الْيَوْم فِي الْحَرْب صبرا وظلما وعدوانا وجالت الْخَيل فِي مَسْجِد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وراثت وبالت فِي الرَّوْضَة بَين الْقَبْر والمنبر وَلم
تصل جمَاعَة فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الْأَيَّام
وَلَا كَانَ بِهِ أحد حاشا ابْن الْمسيب فَإِنَّهُ لم يُفَارق الْمَسْجِد
وَلَوْلَا شَهَادَة مَرْوَان بن الحكم وَعَمْرو بن عُثْمَان لَهُ أَنه مَجْنُون
عِنْد مقدم الْجَيْش وَهُوَ مجرم بن عقبَة لقَتله وَبَايع مجرم الْمُسَمّى مُسلم
النَّاس ليزِيد على أَنهم عبيد لَهُ إِن شَاءَ بَاعَ وَإِن شَاءَ أعتق وَذكر لَهُ
بَعضهم أَنه يُبَايع على كتاب الله وَسنة رَسُوله فَأمر بقتْله صبرا ونهبت
الْمَدِينَة ثَلَاثَة أَيَّام وَمَات مجرم بعد أَن خرج من الْمَدِينَة بأيام
وَمَات يزِيد بعد ذَلِك بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أشهر وأزيد من شَهْرَيْن وَذَلِكَ
فِي نصف ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ مدَّته ثَلَاث سِنِين وَثَلَاث أشهر
وَقد
صَار الْأَمر لِابْنِ الزبير بالحجاز واليمن وخراسان على بيعَة ابْن الزبير حاشا
شرذمة من الْأَعْرَاب بالأردن فَوجه إِلَيْهِم ابْن الزبير مَرْوَان بن الحكم
فَلَمَّا
ورد الْأُرْدُن خلع ابْن الزبير فَكَانَ أول من شقّ عَصا الْمُسلمين بِلَا
تَأْوِيل وَلَا شُبْهَة وَبَايَعَهُ أهل الْأُرْدُن وَخرج على ابْن الزبير وَقتل
النُّعْمَان بن بشير أول مَوْلُود فِي الْإِسْلَام من الْأَنْصَار صَاحب رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحمص وتغلب على مصر وَالشَّام فَمَاتَ بعد عشرَة
أشهر من ولَايَته فَقَامَ ابْنه عبد الْملك مقَامه وَبقيت فتْنَة حَتَّى قوي أمره
وَبعث الْحجَّاج لِابْنِ الزبير فحاصره وَرمى الْبَيْت بِالْحِجَارَةِ والمنجنيق
فَقتل ابْن الزبير بِالْمَسْجِدِ
الْحَرَام وَكَانَ ذَلِك رَابِع خرم
فِي الْإِسْلَام ومصائبه لِأَن الْمُسلمين استضيموا بقتْله وصلبه مُنَكسًا
وَكَانَت ولَايَته تِسْعَة أَعْوَام وشهرين وَنصفا
وَقد ذكرت من كَانَ
واليا لليمن أَيَّام يزِيد وَلما صَار الْأَمر لِابْنِ الزبير كَانَ أول وَال
ولاه أَن بعث بعهده للضحاك بن فَيْرُوز مقدم الذّكر فَلبث سنة ثمَّ عَزله بِعَبْد
الله بن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد فَلبث مُدَّة ثمَّ عَزله بِعَبْد
الله بن الْمطلب بن أبي ودَاعَة السَّهْمِي فَلبث سنة وَثَمَانِية أشهر ثمَّ
عَزله بأَخيه خَالِد بن الزبير فَلبث مُدَّة ثمَّ عَزله بمغيث بن ذِي الثوجم
الْأَوْزَاعِيّ الَّذِي تقدم ذكره أَنه قيل أَنه مولى لوالد عبد الرَّزَّاق
الْفَقِيه فَلبث خَمْسَة أشهر ثمَّ عزل بحنش بن عبد الله الْفَقِيه الْمُقدم
الذّكر فَلبث مُدَّة ثمَّ عزل بقيس بن يزِيد السَّعْدِيّ التَّمِيمِي فَلبث
سَبْعَة أشهر ثمَّ عَزله بِأبي النجُود مولى عُثْمَان بن عَفَّان فَمَكثَ خَمْسَة
أشهر ثمَّ أُعِيد الضَّحَّاك الَّذِي ذكرت أَولا ولَايَته فَمَكثَ سِتَّة أشهر
ثمَّ عزل بخلاد بن السَّائِب الْأنْصَارِيّ ثمَّ عزل بِأبي النجُود وَفِي
أَيَّامه قدمت الحرورية إِلَى صنعاء وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَسبعين فاضطرب أَمر
الْيمن وَلم يزل مضطربا حَتَّى قتل ابْن الزبير كَمَا قدمنَا سنة ثَلَاث
وَسبعين
ثمَّ اسْتَقل عبد الْملك بِالْملكِ وَحين استولى الْحجَّاج
على مَكَّة بقتل ابْن الزبير بعث على صنعاء أَخَاهُ مُحَمَّد بن يُوسُف وعَلى
الْجند وَاقد بن سَلمَة الثَّقَفِيّ وعَلى حَضرمَوْت الحكم بن أَيُّوب
الثَّقَفِيّ فأقاموا جَمِيعًا على ذَلِك سنة ثمَّ عزل وَاقد وَجمع المخلافين
لِأَخِيهِ فَلم يزل عَلَيْهِمَا إِلَى أَن توفّي ثمَّ توفّي عبد الْملك فِي
شَوَّال سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَكَانَت مُدَّة استيلائه على الْيمن ثَلَاث عشرَة
سنة وَأَرْبَعَة أشهر فِي غالبها نَائِبه عَلَيْهَا أَخُو الْحجَّاج
ثمَّ
قَامَ بعد ذَلِك ابْنه الْوَلِيد وَذَلِكَ بِعَهْد لَهُ من أَبِيه وَكَانَ يقظا
فِي أُمُور دينه ودنياه وَهُوَ الَّذِي بنى جَامع دمشق الَّذِي أجمع أهل
الْمعرفَة أَنه لم يعرف لَهُ نَظِير فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب ونسبته إِلَى
بني أُميَّة
وَكَانَ يَصُوم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس وَهُوَ
أول من صامهما من مُلُوك الْإِسْلَام وَأول من أحدث المارستانات وَأول من أجْرى
الطَّعَام فِي الْمَسَاجِد لَا سِيمَا فِي رَمَضَان وَهُوَ الَّذِي فسح بالحرمين
وَفِي أَيَّامه هلك الْحجَّاج فعلى هَذِه لَهُ مَنَاقِب تعد فِي أَيَّامه رَحمَه
الله وَغفر لَهُ
وَتُوفِّي الْوَلِيد منتصف جُمَادَى الأولى فِي سنة
سِتّ وَتِسْعين مدَّته تسع سِنِين وَسِتَّة أشهر
وَقَامَ بِأَمْر
النَّاس بعده أَخُوهُ سُلَيْمَان بطرِيق الْوَصِيَّة من أَبِيه أَيْضا فَاسْتعْمل
على الْيمن عُرْوَة بن مُحَمَّد السَّعْدِيّ فَلبث مُدَّة بَقَاء سُلَيْمَان فِي
الْملك وَهُوَ عامان وَتِسْعَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام ثمَّ اسْتخْلف ابْن عَمه
عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم الْمَذْكُور أَولا وَأمه ابْنة عَاصِم
بن عمر بن الْخطاب ولي باستخلاف سُلَيْمَان وَهُوَ أحد مُلُوك الْإِسْلَام
الْمَعْدُودين المقتدى بهم فِي الْعدْل وَحسن السِّيرَة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والتواضع وَالْعلم
قَالَ الإِمَام
الشَّافِعِي سُئِلَ عَن أهل صفّين مَا تَقول فيهم فَقَالَ تِلْكَ دِمَاء طهر الله
يَدي مِنْهَا فَلَا أخضب لساني بهَا وَكَانَ ملكه قَوِيا من غير عنف لينًا من غير
ضعف فَلم يُغير على عُرْوَة ولَايَته بِالْيمن
وَمن عَجِيب مَا حُكيَ
أَنه قدم عَلَيْهِ نعيم بن سَلامَة الْحِمْيَرِي وَكَانَ أحد أَعْيَان الْيمن
فَقَالَ لَهُ يَا نعيم قَوْمك الَّذين قَالُوا {رَبنَا باعد بَين أسفارنا وظلموا
أنفسهم} فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَوْمك أَشد جهلا بعث الله إِلَيْهِم
نَبيا قد عرفُوا صدقه وأمانته فَقَالُوا {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق
من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} هلا قَالُوا فاهدنا لَهُ
فَتَبَسَّمَ عمر
قَالَ ابْن حزم وَفضل عمر بن عبد الْعَزِيز أشهر من
أَن يتَكَلَّف ذكره وَتُوفِّي عمر نَهَار الْجُمُعَة لخمس بَقينَ من رَجَب سنة
إِحْدَى ومئة مُدَّة ملكه سنتَانِ وَأَرْبَعَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام وسنه تسع
وَثَلَاثُونَ سنة وَلم يكن نَائِب فِي الْيمن غير عُرْوَة كَمَا
قدمنَا
أَنه كَانَ نَائِب سُلَيْمَان ثمَّ قَامَ بِالْأَمر يزِيد بن عبد الْملك بِعَهْد
سُلَيْمَان لَهُ بعد عمر فاستناب يزِيد على الْيمن مَسْعُود بن عَوْف الْكَلْبِيّ
فَلم يزل إِلَى أَن توفّي يزِيد لَيْلَة الْجُمُعَة لأَرْبَع بَقينَ من شعْبَان
سنة خمس ومئة مُدَّة ولَايَته أَربع سِنِين وَشهر وَاحِد
ثمَّ قَامَ
بِالْأَمر بعده أَخُوهُ هِشَام فَأمر مسعودا على الْيمن سنة من ولَايَته ثمَّ
عَزله بِيُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ فَلبث على المخاليف الثَّلَاثَة حَضرمَوْت
وَصَنْعَاء والجند ثَلَاث عشرَة سنة واستقضى على صنعاء الغطريف بن الضَّحَّاك بن
فَيْرُوز الديلمي الْمُقدم ذكر أَبِيه فِي الْفُقَهَاء والعمال وجده فِي
الْعمَّال
ثمَّ لما كَانَ فِي سنة عشْرين ومئة وَصله كتاب هِشَام
يَأْمُرهُ بِأَن يسْتَخْلف وَلَده على الْيمن ويتقدم الْعرَاق لقبض خَالِد بن عبد
الله الْقَسرِي أَمِير الْعرَاق يَوْمئِذٍ وَيكون مَكَانَهُ حَتَّى يَأْتِيهِ
أمره فَفعل يُوسُف ذَلِك وَترك ابْنه الصَّلْت مَكَانَهُ فَلبث خمس سِنِين إِلَى
أَن توفّي هِشَام لسبع خلون من ربيع الأول الْكَائِن فِي سنة خمس وَعشْرين ومئة
وَمُدَّة ملكه تِسْعَة عشر عَاما
ثمَّ ولي بعده ابْن أَخِيه الْوَلِيد
بن يزِيد باستخلاف لَهُ من أَبِيه بعد عَمه فَبعث على الْيمن خَاله مَرْوَان بن
مُحَمَّد بن يُوسُف الثَّقَفِيّ ابْن أخي الْحجَّاج فَلم يزل بِالْيمن مُدَّة
الْوَلِيد وَإِلَيْهِ قدمت الْفتيا الْمَذْكُورَة أَولا الْمَجْمُوع لَهَا
الْفُقَهَاء وَكَانَ من أَشد بني أُميَّة جبروتا وعسفا وظلما
وَذكر
أَنه تفاءل يَوْمًا بالمصحف فَخرج فأله {واستفتحوا وخاب كل جَبَّار عنيد} فَأَخذه
وَجعله بِرَأْس رمح ثمَّ رَمَاه بالنشاب وَأنْشد شعرًا مِنْهُ قَوْله ... أتوعد
كل جَبَّار عنيد ... فها أَنا ذَاك جَبَّار عنيد
إِذا وافيت رَبك
يَوْم حشر ... فَقل يارب حرقني الْوَلِيد ... ثمَّ لما تفرق ورق الْمُصحف من
شدَّة الرَّمْي جمعهَا وأحرقها وَله مخاز يطول
شرحها ذكر مَا أوردناه
يدل على أَنه فَوق مَا حُكيَ عَنهُ
وَكَانَت وَفَاته مقتولا لأجل
الْمُنْكَرَات الَّتِي كَانَ يَأْتِيهَا قَتله ابْن عَمه يزِيد بن الْوَلِيد بن
عبد الْملك يَوْم الْخَمِيس لثلاث بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ
وَعشْرين ومئة مدَّته سنة وشهران
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر بعده قَاتله
يزِيد بن الْوَلِيد أثنى عَلَيْهِ ابْن حزم قَالَ كَانَ فَاضلا قَامَ مُنْكرا
للْمُنكر غير أَنه نقص الْجند عطاءهم فَسُمي يزِيد النَّاقِص وَلما قَامَ
اسْتخْلف على الْيمن الضَّحَّاك بن وَائِل السكْسكِي واستقضى يحيى بن شُرَحْبِيل
بن أَبْرَهَة
وَذكر أَنه كَانَ أول ملك فِي الْإِسْلَام نفى الْقَضَاء
وَالْقدر على الْمُعْتَزلَة وَكَانَت وَفَاته بِالْحجَّةِ سنة سِتّ وَعشْرين ومئة
مدَّته سِتَّة أشهر
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر من بعده أَخُوهُ إِبْرَاهِيم
بن الْوَلِيد فَلبث ثَلَاثَة أشهر وَلم يتم لَهُ أَمر فَخلع نَفسه وَبَايع لمروان
بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم الْمُقدم ذكره فَبعث مَرْوَان مَكَان
الضَّحَّاك عُرْوَة فَأَقَامَ تِسْعَة أشهر بِتَمَامِهَا
ثمَّ
انْقَضتْ دولة بني أُميَّة وَذَلِكَ بقتل مَرْوَان ببوصير من أَرض مصر لَيْلَة
الْجُمُعَة لثلاث عشرَة خلت من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ومئة
مدَّته خمس سِنِين وَشهر
قَالَ ابْن حزم وَكَانَت دولة بني أُميَّة
على علاتها دولة عَرَبِيَّة لم يتخذوا مِنْهَا قَاعِدَة وَلَا أَكْثرُوا من
احتجان الْأَمْوَال وَلَا بِنَاء الْقُصُور وَلَا استعلوا على الْمُسلمين أَن
يخاطبوهم
أَو يكاتبوهم بالعبودية والمولوية وَلَا بتقبيل الأَرْض والأرجل وَالْأَيْدِي
إِنَّمَا كَانَ غرضهم الطَّاعَة الصَّحِيحَة من التَّوْلِيَة والعزل فِي أقاصي
الْبِلَاد وأدانيها
ثمَّ انْتقل الْأَمر إِلَى بني الْعَبَّاس بن عبد
الْمطلب كَانَت دولتهم أَعْجَمِيَّة سَقَطت مِنْهَا دواوين الْعَرَب وغلبت عجم
خُرَاسَان على الْأَمر وَعَاد ملكا محققا كسرويا غير أَنهم لم يعلنوا سبّ
الصَّحَابَة بِخِلَاف مَا فعل بَنو أُميَّة إِذْ كانو يستعملون لعن عَليّ حَتَّى
جَاءَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَقطع ذَلِك وأكده يزِيد بن الْوَلِيد
وَأول
قَائِم من العباسيين أَبُو الْعَبَّاس السفاح واسْمه عبد الله بن مُحَمَّد بن
عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَكَانَت بيعَته إِلَى يَده
بِالْكُوفَةِ فِي شهر الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ومئة فَبعث على
الْحجاز واليمن عَمه دَاوُد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَأَقَامَ
بِمَكَّة وَبعث على الْيمن عمر بن عبد الْمجِيد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن
الْخطاب الْعَدوي وَهُوَ أول من قدم الْيمن نَائِبا للعباسيين وَلما أَقَامَ
بِصَنْعَاء بوب جَامعهَا وَلم يكن لَهُ بَاب
وَكَانَ السفاح كَرِيمًا
حَلِيمًا بارا بأَهْله وصُولا لرحمه ثمَّ توفّي عَمه دَاوُد بعد مُضِيّ خَمْسَة
أشهر من قدوم ابْن عبد الْمجِيد صنعاء فَبعث أَبُو الْعَبَّاس السفاح على الْيمن
مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد بن عبد المدان فَقَدمهَا فِي رَجَب سنة ثَلَاث
وَثَلَاثِينَ ومئة فَأَقَامَ بِصَنْعَاء وَبعث أَخَاهُ إِلَى ثغر عدن فَسَاءَتْ
سيرة الْكل مِنْهُم فأحدث بِصَنْعَاء قبائح كَثِيرَة مِنْهَا أَنه هم بإحراق
المجذومين وَأمر أَن يجمع لَهُم الْحَطب وَقَالَ لَو كَانَ بهم خير مَا أوقع الله
بهم الجذام فَمَرض أَيَّامًا يسيرَة وَمَات قبل أَن يحدث بهم شَيْئا وَمَات
أَخُوهُ بعدن يُقَال كَانَ مَوْتهمَا بِيَوْم وَاحِد فَكتب أهل صنعاء إِلَى
أَخِيه بعدن يعلمونه وَكتب أهل عدن إِلَى أَخِيه بِصَنْعَاء يخبرونه وَسَار
الرسولان فَالْتَقَيَا وتحادثا وَخبر كل وَاحِد صَاحبه بِمَا جَاءَ من الْعلم
فناول رَسُول صنعاء رَسُول عدن كتبه وَأخذ مِنْهُ كتبه
الَّتِي جَاءَ
بهَا ثمَّ قفل كل وَاحِد مِنْهُمَا بكتب صَاحبه فحين علم خبرهما السفاح بعث
مكانهما عبد الله بن مَالك الْحَارِثِيّ فَمَكثَ أَرْبَعَة أشهر ثمَّ عَزله بعلي
بن الرّبيع بن عبد الله بن عبد المدان ابْن أخي الْمَذْكُور أَولا فَلبث إِلَى
أَن توفّي السفاح بِأحد أَيَّام التَّشْرِيق من سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ ومئة
مدَّته أَربع سِنِين وَثَمَانِية أشهر
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر أَخُوهُ
أَبُو جَعْفَر عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بِوَصِيَّة من أَخِيه ونازعه عَمه
عبد الله بن عَليّ مُنَازعَة أفضت إِلَى حروب كَبِيرَة وَبَايَعَهُ على ذَلِك جمع
كثير وَشهد لَهُ جمَاعَة أَن السفاح شَرط لَهُ ولَايَة الْأَمر بعده إِن خرج
لقِتَال مَرْوَان وَأَنه خرج وَتَوَلَّى قتل مَرْوَان ثمَّ لم يزل الْمَنْصُور
يخادعه ويلاطفه حَتَّى حصل بِيَدِهِ على ذمام وعهوده مكينة فَلَمَّا حصل بِيَدِهِ
سجنه فِي بَيت بني أساسه على ملح وَأطلق المَاء حوله فَسقط فَمَاتَ هديما وَقتل
أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي الْقَائِم بالدولة العباسية
وَكَانَ
بَخِيلًا مبخلا فظا غليظا على الْأمة وعَلى أَهله أَشد وَهُوَ أول من أوقع
الشَّرّ بَين الطالبيين والعباسيين وَقتل من الطالبيين جمعا كثيرا وَكَانَ حسودا
وَهُوَ أول من ولي الْقَضَاء بِنَفسِهِ لم يكله إِلَى أحد غَيره وَأول من قرب
المنجمين وَأول من ترجمت لَهُ الْكتب من الفارسية إِلَى الْعَرَبيَّة ككتاب كليلة
ودمنة وَكتاب السَّنَد هِنْد وَكتب أرسطا طاليس وَسَائِر كتب الفلسفة من
اليونانية والرومية والفارسية والسريانية وَفِي أَيَّامه وضع مُحَمَّد بن
إِسْحَاق الْمَكِّيّ كتب الْمَغَازِي وَالسير وأخبار مُبْتَدأ الْخلق وَلم تكن
قبل ذَلِك مَجْمُوعَة وَبنى بَغْدَاد وَجعلهَا دَار ملك وَلم يصر إِلَيْهِ
الْأَمر إِلَّا وَقد نظر فِي الْعُلُوم وتتبع الْمذَاهب وارتاض فِي الآراء وَكتب
الحَدِيث وَفِي أَيَّامه كثرت رِوَايَات النَّاس واتسعت علومهم
هَذَا
جملَة مَا لَاق ذكره من أَحْوَاله مُلَخصا مَنْقُولًا من التواريخ
ثمَّ
نرْجِع حِينَئِذٍ إِلَى ذكر ولَايَته بِالْيمن فَقَامَ بِالْأَمر وَإِلَيْهِ من
أَخِيه عَليّ بن الرّبيع عَزله بأَخيه عبد الله فَمَكثَ أَربع سِنِين وَنصفا ثمَّ
عَاد الْعرَاق واستخلف ابْنه فَمَكثَ سنّ وَثلث سنة ثمَّ عزل بمعن بن زَائِدَة
وَلما
كَانَ من أَعْيَان الْكِرَام أَحْبَبْت رفع نسبه وإيراد بعض مَا لَاق من
أَحْوَاله فَهُوَ معن بن زَائِدَة بن مطر بن شريك بن عَامر بن همام بن مرّة
الربعِي الشَّيْبَانِيّ قدم صنعاء واليا لمخلافها ومخلاف الْجند فَبعث أَخَاهُ
وَقيل ابْن عَمه واليا على الْجند فسكن قَرْيَة من قراها الخارجية قد صَارَت
خرابا وَكَانَت تعرف بالزريبة قبلي الذنبتين قَرْيَة هِيَ على ربع مرحلة من
الْجند من جِهَة الْقبْلَة وَضبط الزريبة بزاي مَفْتُوحَة مُشَدّدَة بعد الْألف
وَاللَّام ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَفْتُوحَة ثمَّ
هَاء والذنبتين مِنْهَا جمَاعَة من أَعْيَان الْفُقَهَاء فَسَاءَتْ سيرة خَليفَة
معن على أهل مخلاف الْجند بِحَيْثُ شَاءَ مِنْهُم الحليلة واحتقرهم وَصَارَ
مُولَعا بإذلالهم
من جملَة مَا ذكر عَنهُ أَنه كَانَت لَا تزف
امْرَأَة إِلَى بَعْلهَا حَتَّى تعرض عَلَيْهِ وَرُبمَا وَقع بهَا فأوقعه الله
مَعَ من يَقُول بقول ابْن كُلْثُوم ... مَتى كُنَّا لأمك مقتوينا
يُخَاطب
عَمْرو بن هِنْد فَقتله
فحين بلغ معن ذَلِك غزا الْجند نَوَاحِيهَا
وأخرب الْقرْيَة الْمَذْكُورَة الَّتِي قتل بهَا وَهِي على ذَلِك خراب إِلَى
عصرنا وَقتل من أهل الْقرْيَة نَحْو الْأَلفَيْنِ وَكَانَ إِذا
خُوطِبَ
بالكف عَن الْقَتْل قَالَ لَا أكف حَتَّى أقتل أَلفَيْنِ ثمَّ ينشد ... إِذا تمت
الألفان كَادَت حرارة ... على الصَّدْر من ذكرى سُلَيْمَان تبرد ... وَلم يكن
لَهُ مَا يذم بِهِ غير هَذِه الْغُزَاة وَقتل من قتل بهَا وَلم يقنع بذلك حَتَّى
غور مياها كَانَت بقاع الْجند مِنْهَا المَاء الْمَوْجُود فِي مَحَارِث اليهاقر
وَغَيره وَمِنْهَا أَنه ألزم النَّاس لبس الثِّيَاب المصبغة بالنيل وَترك
شُعُورهمْ منشورة فَصَارَ ذَلِك لَهُم عَادَة حَتَّى صَارُوا يعدونه جمالا وزينة
لعدم عَهدهم بذلك ومعرفتهم لَهُ وَكَانَ أحد شجعان الْعَرَب وفتاكيها ويعد من
المخضرمين أدْرك الدولة الأموية وَقَاتل وَرَأس فِيهَا ثمَّ أدْرك الدولة
العباسية فقاتل فِيهَا قتالا عَظِيما
ويحكى من كرمه أَخْبَار يطول
شرحها مَا خيب أمل من أمله وَلَا علم بِدُخُول أحد من الْأَعْيَان صنعاء وَلم
يَقْصِدهُ إِلَّا أنف من ذَلِك وَرُبمَا عاقب فَاعله وَدخل سُفْيَان الثَّوْريّ
صنعاء فِي أَيَّامه فَوَجَدَهُ خَارِجا عَن صنعاء وَقد علم حَاله وَأَنه علم قصد
دُخُول الْيمن دون قَصده فساءه ذَلِك فَسلم عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَيْن تُرِيدُ
فَقَالَ لَهُ دين أثقلني فقصدتك فأسف أَن لَا يكون أدْركهُ بِصَنْعَاء ثمَّ كتب
لَهُ إِلَى ابْنه زَائِدَة بِأَلف دِينَار فَأخذ سُفْيَان الصَّك وَدخل صنعاء
وَقضى حَاجته بهَا ثمَّ خرج وَلم يجْتَمع بزائدة وَلَا قدم معن من سَفَره حَتَّى
قد خرج سُفْيَان عَن صنعاء وَحين دخل سَأَلَ وَلَده عَنهُ فَقَالَ لم أره وَلَا
الْخط الَّذِي كتبت لَهُ فَقَالَ معن خدعني سُفْيَان
وَبعد سِتّ
سِنِين من إِقَامَته بِالْيمن كتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور باستخلاف وَلَده بِالْيمن
والوصول إِلَيْهِ فَفعل ذَلِك وَحين قدم عَلَيْهِ وَجهه إِلَى خُرَاسَان لقِتَال
الْخَوَارِج بهَا فَلبث فِيهَا ثَلَاث سِنِين وَابْنه بِالْيمن كَذَلِك ثمَّ قتل
بخراسان سنة أَربع وَخمسين ومئة فَحِينَئِذٍ بعث الْمَنْصُور الْحجَّاج بن
مَنْصُور على الْيمن فَأَقَامَ مديدة ثمَّ عزل بالفرات بن سَالم الْعَبْسِي فَلبث
ثَلَاث سِنِين ثمَّ عزل بِيَزِيد بن مَنْصُور فَلبث خمس سِنِين وَمَات
الْمَنْصُور قَاصِدا الْحَج فِي شهر ذِي الْحجَّة الْكَائِن فِي سنة ثَمَان
وَخمسين ومئة فِي بِئْر
مَيْمُون على مقربة من مَكَّة وَدفن
هُنَالك
ومدته اثْنَتَانِ وَعشْرين سنة
ثمَّ ولي الْأَمر
بعده ابْنه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الملقب بالمهدي باستخلاف أَبِيه
لَهُ فَأقر خَاله بن يزِيد بن مَنْصُور سنة ثمَّ كتب إِلَيْهِ أَن يَسْتَنِيب عَن
الْيمن وَيقدم مَكَّة ليقيم الْحَج للنَّاس فاستخلف عبد الْخَالِق بن مُحَمَّد
الشهابي وَخرج إِلَى مَكَّة فِي شَوَّال سنة تسع وَخمسين ومئة فَأَقَامَ الْحَج
ثمَّ توفّي فِي منتصف الْحجَّة فَبعث الْمهْدي مَكَانَهُ رجا بن سَلام بن روح بن
زنباع الحذامي فَلبث بِالْيمن سنة ثمَّ عزل بعلي بن سُلَيْمَان فَلبث سنة
وَخَمْسَة أشهر واستناب وَاسع بن عصمَة وقفل إِلَى بَغْدَاد فَلبث نَائِبه أحد
عشر شهرا ثمَّ عزل بِعَبْد الله بن سُلَيْمَان فَلبث سَبْعَة أشهر ثمَّ عزل
بمنصور بن يزِيد بن مَنْصُور الْحِمْيَرِي فَمَكثَ سنة ثمَّ عزل بِسُلَيْمَان بن
يزِيد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الْحَارِثِيّ فَمَكثَ سنة وَعشرَة
أشهر ثمَّ توفّي الْمهْدي فِي الْمحرم أول سنة تسع وَسِتِّينَ ومئة بعد أَن
اسْتخْلف ابْنه الْهَادِي وَكَانَت ولَايَته عشر سِنِين وشهرا فَقَامَ الْهَادِي
واستخلف على الْيمن عبد الله بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الزَّيْنَبِي فَمَكثَ
سنة ثمَّ عزل بإبراهيم فَلبث أَرْبَعَة أشهر وَتُوفِّي الْهَادِي فَجْأَة منتصف
ربيع الأول سنة سبعين ومئة ومدته عَام وشهران
ثمَّ قَامَ بعده أَخُوهُ
هَارُون الملقب الرشيد باستخلاف أَبِيه لَهُ كَمَا قدمنَا فَبعث على الْيمن
الغطريف بن عَطاء وَكَانَ ابْن خَاله فَلبث بهَا ثَلَاث سِنِين وَسَبْعَة أشهر
ثمَّ خرج مِنْهَا بعد أَن اسْتخْلف عباد بن مُحَمَّد الشهابي فَبعث الرشيد
مَكَانَهُ الرّبيع بن
عبد الله بن عبد المدان الْحَارِثِيّ فَمَكثَ
سنة
وَفِي أَيَّامه حصل الثَّلج بِصَنْعَاء وَلم يكن حصل من قبل ذَلِك
ثمَّ عزل بعاصم بن عُيَيْنَة الغساني فَلبث فِيهِ سنة ثمَّ عزل بِأَيُّوب بن
جَعْفَر بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَلبث سنة ثمَّ ولي
الرّبيع الْمَذْكُور أَولا وَجعل مَعَه الْعَبَّاس بن سعيد فلبثا سنتَيْن ثمَّ
عزلا بِمُحَمد بن إِبْرَاهِيم الْهَاشِمِي ثمَّ عزل بولده الْعَبَّاس بن مُحَمَّد
فَسَاءَتْ سيرته وقبحت آثاره فَشَكَاهُ النَّاس وَحج الرشيد تِلْكَ السّنة
فَشَكَاهُ أهل الْيمن إِلَيْهِ بِمَكَّة فَعَزله بعد سِتَّة أشهر بِعَبْد الله بن
مُصعب بن ثَابت بن عبد الله بن الزبير بن الْعَوام فَلبث سنة ثمَّ عزل بِأَحْمَد
بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن عبد الله بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة فَلبث سنة كَانَ
فِيهَا تَخْلِيط عَظِيم بِالْيمن ثمَّ عزل بِمُحَمد بن خَالِد بن برمك أخي يحيى
بن خَالِد بن برمك فَقدم صنعاء فِي جُمَادَى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَكَانَ
يسكن منكث أَيَّام جباية الْخراج وَإِلَيْهِ مخلاف صنعاء والجند فَكَانَ من أخير
الْوُلَاة القادمين الْيمن عدلا ورفقا وَحسن سيرة وعدالة فِي الرّعية مرضية
وَكَانَ يحب بَقَاء الذّكر وَالثنَاء على طَرِيق أَهله وَلأَجل فعلهم فَقَالَ
فيهم الشَّاعِر ... إِن البرامكة الَّذين تعلمُوا ... كرم النُّفُوس وعلموه
الناسا ... وببركة أفعالهم تِلْكَ ختم لَهُم بِالشَّهَادَةِ وأحدث هَذَا مُحَمَّد
فِي صنعاء أَن جر الغيل إِلَيْهَا الَّذِي يعرف بالبرمكي قدم ميمه على بائه مجَاز
لَهُ من بَاب التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ثمَّ لما فرغ من عِمَارَته جمع أهل صنعاء
وَأقسم لَهُم الْإِيمَان الْمُغَلَّظَة أَنه لم
يصرف فِي جَرّه شَيْئا
من مَال السُّلْطَان وَلَا من مَال حرَام وَلَا شُبْهَة ثمَّ وَقفه على
الْمُسلمين وببركة ذَلِك هُوَ مُسْتَمر إِلَى عصرنا سنة أَربع وَعشْرين
وسبعمئة
وَبنى مَسْجِدا بِصَنْعَاء عِنْد سوق اللسانين قَالَ
الرَّازِيّ أَدْرَكته خرابا قَالَ كَانَ هَذَا مُحَمَّد بن خَالِد كثير
الصَّدَقَة فِي جَمِيع أَحْوَاله بِحَيْثُ أَنه كَانَ إِذا ركب حمل الدَّرَاهِم
فِي كمه وكل من سَأَلَ شَيْئا أناله وَكَانَ فِي إصْلَاح الطَّرِيق إِلَى مَكَّة
أَمَان وَعمارَة وَكَانَ شَدِيد التفقد على الرّعية
يحْكى أَنه خرج
يَوْمًا إِلَى سَواد صنعاء فَوَافى أَهله وَعَلِيهِ ثِيَاب الصُّوف الْأسود
الَّتِي تسمى شمالا وظنهم سؤالا فَقَالَ لخدمه تصدقوا على هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين
فَقيل لَهُ هَؤُلَاءِ الرّعية الَّذين تَأْخُذ مِنْهُم الْأَمْوَال فَقَالَ مَا
يَنْبَغِي أَن يُؤْخَذ مِنْهُم شَيْء ثمَّ إِنَّهُم بطروا وأرادو الْخُرُوج
عَلَيْهِ
وَأما أهل تهَامَة خُصُوصا عك فَخَرجُوا عَن طَاعَته فَكتب
إِلَى الرشيد يشكوهم فَبعث مَكَانَهُ مَوْلَاهُ حَمَّاد الْبَرْبَرِي وَقَالَ
لَهُ أسمعني أصوات أهل الْيمن فَلَمَّا قدم عاملهم بالعسف والجبروت وَقتل من
رُؤَسَائِهِمْ جمَاعَة وشرد جمعا فِي الْبِلَاد حَتَّى دانوا وأطاعوا بالخراج
الْمُعْتَاد وَزِيَادَة عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ وَأمنت الطّرق فِي أَيَّامه
أَمَانًا لم يكد يعْهَد مثله حَتَّى أَن الجلب كَانَ يسير من الْيَمَامَة إِلَى
صنعاء لَا يَخْشونَ عاسفا وَمن جُمْلَتهمْ يصلونَ بالأغنام فِي عنق كل شَاة مخلاة
مَمْلُوءَة تَمرا فتبتاع بالرخص وأخصب الْيمن فِي أَيَّامه خصبا لم يعْهَد ورخصت
الأسعار غير أَن النَّاس تعبت مِنْهُ من شدَّة العسف فَلَمَّا حج مِنْهُم من حج
شكوه إِلَى الرشيد فِي بعض حجاته فَلم يشكهم وأغلظوا على الرشيد الْكَلَام فَلم
يجبهم حَتَّى أَنهم قَالُوا إِن كَانَ لَك بحماد طَاقَة فاعزله عَنَّا فَلم يلتف
وَلم يزل حَمَّاد على الْيمن حَتَّى توفّي الرشيد وَذَلِكَ مستهل جُمَادَى الأولى
سنة ثَلَاث وَتِسْعين ومئة
فَقَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه الْأمين
مُحَمَّد باستخلافه لَهُ فَلبث حَمَّاد على الْيمن سنة
بعد موت الرشيد
ثمَّ عَزله الْأمين بِمُحَمد بن عبد الله بن مَالك الْخُزَاعِيّ فَلَمَّا قدم
الْيمن صادر عُمَّال حَمَّاد وَأخذ مِنْهُم أَمْوَالًا وَحسنت سيرته بالرعية
وأحبه أهل الْيمن وَبعد سنة عَزله الْأمين بِمُحَمد بن سعيد بن السَّرْح فَلبث
ثَلَاث سِنِين ثمَّ عزل بجرير بن يزِيد بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ
الصَّحَابِيّ وَفِي أَيَّامه قدم طَاهِر بن الْحُسَيْن بَغْدَاد من الْمَأْمُون
فَقتل الْأمين فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَتِسْعين ومئة وَوجه إِلَى الْيمن نَائِبا
عَن الْمَأْمُون يزِيد بن جرير بن يزِيد بن خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فقبحت
سيرته بِالْيمن فَبلغ ذَلِك الْمَأْمُون فَكتب إِلَى عمر بن إِبْرَاهِيم بن وَاقد
بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب بِولَايَة الْيمن وَهُوَ إِذْ
ذَاك يسكن مَعَ أَخْوَاله بني أرحب بِظَاهِر بلد هَمدَان وهم بطن مِنْهُم
قَالَ
ابْن جرير وهم يعْرفُونَ بالسلمانيين فحين بلغه الْكتاب دخل صنعاء وَقبض على
يزِيد وصادره بِمَال جزيل وسجنه فَمَاتَ فِي السجْن عقيب ذَلِك
وَلما
تمت لَهُ سنة فِي الْولَايَة عَزله الْمَأْمُون بإسحق بن مُوسَى بن عِيسَى بن
مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَلبث سنة ثمَّ استناب
ابْن عَم لَهُ اسْمه الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل وَسَار إِلَى مَكَّة حِين بلغه
خُرُوج المبيضة قائدهم إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن
الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ أول طالبي أَقَامَ الْحَج سنة
اثْنَتَيْنِ ومئتين وتغلب على مَكَّة وَكَانَ سفاكا للدماء وَقتل خلقا
من
المكيين وَغَيرهم حَتَّى قَالَ المَسْعُودِيّ كَانَ إِبْرَاهِيم هَذَا مِمَّن سعى
فِي الأَرْض الْفساد وَكَانَت إِقَامَته بِمَكَّة على شبه اللائذ وكل مَا قدم سفر
من بلد بايعهم لنَفسِهِ وَمن أَبى قَتله فتخشى الْمَأْمُون يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بن
ماهان الْمُقدم ذكره أَنه قتل عبد الْملك الْفَقِيه الذمارِي فحاربه إِبْرَاهِيم
حروبا كَثِيرَة كَانَت الْعَاقِبَة فِيهَا لإِبْرَاهِيم بِحَيْثُ أسر ابْن ماهان
قَالَ ابْن جرير وَكَانَ مبلغ ولَايَة ابْن ماهان لليمن سنتَيْن وَسَبْعَة أشهر
وَسِتَّة أَيَّام وَأقَام بِالْيمن وَلم يزل بِهِ يخْطب لِلْمَأْمُونِ وَيظْهر
الطَّاعَة حَتَّى كَانَ سنة ثَلَاث عشرَة ومئتين قدم أَحْمد بن عبد الحميد مولى
الْمَأْمُون فَلبث سنة بِصَنْعَاء ثمَّ نزل الْجند وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن أبي
جَعْفَر ذِي الْمثلَة المناخي قد تغلب على جبل ثومان وَهُوَ رجل من أَوْلَاد ذِي
الْمثلَة الْحِمْيَرِي ثمَّ من ولد ذِي مناخ وَمن ذُريَّته قوم تقاة إِلَى عصرنا
يعْرفُونَ بالسلاطين سلاطين قياض بَيت عز قديم وكرم عميم وتغلب مَعَ ثومان على
جبل ريمة الْمَعْرُوف بريمة المناخي نِسْبَة إِلَى جده وهوبفتح الثَّاء
الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْمِيم ثمَّ ألف وَنون كَأَنَّهُ
تَثْنِيَة ثوم وتغلب على غَالب مخلاف جَعْفَر وَكَانَ هَذَا يذكر بالجبروت والعسف
فَلَمَّا قدم ابْن عبد الحميد صنعاء ودانت لَهُ وَكَانَ إِلَيْهِ مخلاف الْجند
نزل الْجند وعزم على حَرْب المناخي فقصده إِلَى بَلَده بعسكر
جرار
فحين تورطوا بِلَاده وَهِي وعرة باغتهم الْحَرْب فكسرهم وَقَتله مَعَ عدَّة من
عسكره وَذَلِكَ لست بَقينَ من شعْبَان سنة أَربع عشرَة ومئتين ثمَّ هرب ابْن
أُخْت لَهُ إِلَى صنعاء فِيمَن سلم من الْعَسْكَر ولبث هَذَا إِبْرَاهِيم إِلَى
أَن دخل رَمَضَان وغزا الْجند فنهبها وأخرب غالبها واحترم الْجَامِع وَمن دخله لم
يتَعَرَّض لَهُ كَمَا فعل ابْن مهْدي على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
فَذكر
الرَّازِيّ أَنه استضاف إِلَى الْمَسْجِد قوم عُمْيَان وَضعف وَأَغْلقُوا
عَلَيْهِم أبوابه وَمَعَهُمْ منيحة عنز فَلَمَّا كَانَ ذَات لَيْلَة إِذْ رَأَوْا
رجلا مستضيئا فَلَمَّا أَخذ العنز وَمسح ظهرهَا وقربها من حَوْض مَاء فَسَقَاهَا
فَحملت ثمَّ وضعت توأمين ثمَّ صَارَت إِلَى السّلف فَهِيَ أفضل الْبِلَاد معزى
إِلَى وقتنا وَحين بلغ الْخَبَر الْمَأْمُون بعث إِلَى الْيمن إِسْحَاق بن مُوسَى
الْمَذْكُور أَولا فَقدم صنعاء سنة خمس عشرَة ومئتين فَأَقَامَ بهَا سنة
وَتُوفِّي بعد أَن اسْتخْلف وَلَده فَلم يكد يصفو لَهُ الْيمن وَحصل بَينه وَبَين
أهل صنعاء شقَاق أفْضى إِلَى قتال قتل بِهِ جمَاعَة من أهل صنعاء ثمَّ انهزم
إِلَى ذمار فَعَزله الْمَأْمُون بِعَبْد الله بن عبيد الله بن الْعَبَّاس بن
مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَقدم فِي الْمحرم
سنة سبع عشرَة فَلم يزل بِهِ إِلَى ثَمَانِي عشرَة ومئتين فِي رَجَب مِنْهَا
فَمَاتَ الْمَأْمُون فِيهِ وَاسْتمرّ عبد الله إِلَى شَوَّال
وَقد
قَامَ بِالْأَمر بعد الْمَأْمُون أَخُوهُ المعتصم وَذَلِكَ بالعهد من أَبِيهِم
الرشيد ثمَّ اسْتخْلف على الْيمن عباد بن الْغمر بن عباد الشهابي فَلبث سنة
عشْرين ومئتين ثمَّ عَزله بِعَبْد الرَّحِيم بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان بن عَليّ
بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَلبث إِلَى سنة خمس وَعشْرين ومئتين ثمَّ عزل
بِجَعْفَر بن دِينَار مولى المعتصم ثمَّ عزل بإيتاخ مَوْلَاهُ
أَيْضا
فَلبث يَسِيرا ثمَّ كَانَت وَفَاة المعتصم بربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين ومئتين
ومدته ثَمَانِي سِنِين ثمَّ قَامَ ابْنه الواثق فتظاهر بالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن
ودعا النَّاس إِلَيْهِ وَكَانَ الْقَائِم بالحجاج فِيهِ وَالدُّعَاء إِلَيْهِ
ابْن أبي دؤاد وعاقب الواثق على القَوْل بِعَدَمِ خلق الْقُرْآن جمعا كثيرا فعزل
إيتاخ بِجَعْفَر بن دِينَار مولى المعتصم فَقدم صنعاء وَقد ظهر يعفر بن عبد
الرَّحْمَن فِي أَيَّام إيتاخ فحاربه مرَارًا وَحصل الصُّلْح بَينهمَا ثمَّ وصل
خبر الواثق وَكَانَت وَفَاته لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ ومئتين مدَّته خمس سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا
وَاخْتلف
هَل مَاتَ على القَوْل بِخلق الْقُرْآن أم لَا فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْأَكْثَر
أَنه مَاتَ على ذَلِك
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر بعده أَخُوهُ المتَوَكل
أَبُو الْفضل جَعْفَر بن مُحَمَّد فَنهى النَّاس عَن الْخَوْض فِي علم الْكَلَام
وَترك الْكَلَام فِي خلق الْقُرْآن وتعدى ذَلِك إِلَى النَّهْي عَن الْخلف والجدل
حَتَّى فِي النَّحْو حسما للمادة وَأقر الْيمن مَعَ جَعْفَر مولى أَبِيه
أَيَّامًا ثمَّ بعث حمير بن الْحَارِث فَلم يتم لَهُ أَمر مَعَ يعفر بل حاربه
وَقَوي عَلَيْهِ حَتَّى عَاد الْعرَاق هَارِبا وَاسْتولى يعفر على صنعاء والجند
ومخاليفهما
هَذَا ذكر مَا كَانَ فِي مخلافي صنعاء والجند دون مخلاف
تهَامَة فَإِنَّهُ فِي سنة أَربع ومئتين استولى عَلَيْهِ آل زِيَاد وَكَانَ من
خبرهم فِيمَا ذكر عمَارَة الفرضي الْمَذْكُور أَنه
قدم على
الْمَأْمُون كتاب من عَامله بِالْيمن وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ ومئتين يُخبرهُ
بِخُرُوج الأشاعر وعك فِي تهَامَة فَقَالَ الْمَأْمُون لوزيره الْفضل بن سهل
انْظُر لنا من نوجه إِلَى الْيمن يسد خللها فَأثْنى على ثَلَاثَة رجال قد وشي
إِلَيْهِ بهم وهم بِقَتْلِهِم ثمَّ عَفا عَنْهُم
وَبَيَان ذَلِك أَنهم
لما حَضَرُوا مَجْلِسه بتاريخ سنة تسع وَتِسْعين ومئة استخبر كلا عَن اسْمه
وَنسبه فانتسب أحدهم إِلَى عبيد الله بن زِيَاد بن أَبِيه وَالْآخر إِلَى
سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك وَالثَّالِث إِلَى تغلب وَقَالَ اسْمِي
مُحَمَّد بن هَارُون فَبكى الْمَأْمُون وَقَالَ وأنى لي بِمُحَمد بن هَارُون
يَعْنِي أَخَاهُ الْأمين وَقَالَ للمنتسب إِلَى سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد
الْملك يَا هَذَا إِن عبد الله بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس ضرب عنق
سُلَيْمَان وأعناق ولديه فِي سَاعَة وَاحِدَة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
أَنا من ولد سُلَيْمَان كَانَ جدي صَغِيرا يَوْمئِذٍ لم يدْرك وَمنا قوم فِي
أفناء النَّاس بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ الْمَأْمُون يقتل الأمويان ويعفى عَن
التغلبي برا لاسمه وَاسم أَبِيه فَقَالَ ابْن زِيَاد مَا أكذب النَّاس يَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ قَالَ لَهُ وَكَيف ذَلِك قَالَ يَزْعمُونَ أَنَّك حَلِيم كثير
الْعَفو متورع عَن سفك الدِّمَاء فَإِن كنت تَقْتُلنَا على ذنوبنا فَلم نخرج لَك
عَن طَاعَة وَلم نفارق عَن بيعتك رَأْي الْجَمَاعَة وَإِن كنت تَقْتُلنَا على
جنايات بني أُميَّة فِيكُم فَالله تَعَالَى يَقُول {وَلَا تزر وَازِرَة وزر
أُخْرَى} فَاسْتحْسن الْمَأْمُون كَلَامه وَعَفا عَنْهُم جَمِيعًا وَأمر وزيره
بضمهم إِلَيْهِ حَتَّى يطلبهم مِنْهُ
فَلَمَّا ورد كتاب عَامل الْيمن
الْمُقدم ذكره فَأمر الْمَأْمُون وزيره بِمَا قدمنَا من
طلب سداد خلل
الْيمن وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورين وَقَالَ يكون ابْن
زِيَاد أَمِيرا وَابْن هِشَام وزيرا والتغلبي قَاضِيا فَالْتَفت الْمَأْمُون
إِلَى قَوْله وَاعْتَمدهُ فاستحضرهم الْمَأْمُون وَكتب بِمَا ذكر لَهُ
الْوَزير
فَابْن زِيَاد جد بني زِيَاد الْمُلُوك وَابْن هِشَام جد
الوزراء الَّذين مِنْهُم الْوَزير خلف بن أبي الطَّاهِر أحد وزراء الْحَبَشَة
موَالِي بني زِيَاد وَسَيَأْتِي ذكره والتغلبي جد الْقُضَاة المعروفين ببني عقامة
سَيَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله
وَكَانَ من جملَة وَصَايَا
الْمَأْمُون لِابْنِ زِيَاد أَن أمره بإحداث مَدِينَة بِالْيمن تكون فِي بِلَاد
الأشاعر بوادي زبيد فَقدم الْيمن بعد الْحَج فِي سنة ثَلَاث ومئتين وأطاعته عرب
الْيمن كَافَّة سهلهم وجبلهم واختط مَدِينَة زبيد فِي سنة أَربع ومئتين امتثالا
لأمر الْمَأْمُون وَكَانَ يغلب على وَادي زبيد ورمع الْعَرَب الَّذين يعْرفُونَ
بالأشاعر قوم أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ الصَّحَابِيّ
ولهذين الواديين
بركَة ظَاهِرَة ذكر أَن سَببهَا دَعْوَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
قَالَ ابْن الجون فِي شرح الْخمر طاشية زبيد بِفَتْح الزَّاي
وخفض الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ يَاء سَاكِنة مثناة ثمَّ دَال مُهْملَة اسْم وَاد
بِالْيمن للأشعريين إِلَيْهِ تنْسب الْمَدِينَة فَيُقَال مَدِينَة زبيد
لِأَنَّهَا من أراضيه
قَالَ فِي كتاب ابْن الْكَلْبِيّ قَالَ حدث
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر قَالَ بَلغنِي أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قدم عَلَيْهِ الأشعريون قَالَ لَهُم من
أَيْن
جئْتُمْ قَالُوا من زبيد قَالَ بَارك الله فِي زبيد قَالُوا وَفِي رمع قَالَ
بَارك الله فِي زبيد قَالُوا وَفِي رمع قَالَ بَارك الله فِي زبيد قَالَهَا فِي
زبيد ثَلَاثًا وَفِي رمع مرّة وَاحِدَة
فَهَذِهِ بركَة عَظِيمَة فِي
زبيد وَقد تقدم فِي خطْبَة الْكتاب مَا ذكره الرَّازِيّ وَأَنَّهَا إِحْدَى
الْبِقَاع المرحومات والمقدسات فِي الْيمن
وَلما اسْتَقر أَمر ابْن
زِيَاد وهابه أهل الْيمن وأطاعوه بعد حروب جرت بَينه وَبينهمْ وَكَانَ هُوَ
الْغَالِب فِي جَمِيعهَا دخل بِطَاعَتِهِ بَنو يعفر أهل صنعاء وحملوا إِلَيْهِ
الْخراج وَقد ذكرت مَا كَانَ فِي الْجبَال حَتَّى قدم حمير وَأَنه لم يتم لَهُ
أَمر من جِهَة المتَوَكل
فارغة
فارغة
وهروبه
وَأَن المتَوَكل قتل عقب ذَلِك وَهُوَ لثلاث خلون من شَوَّال سنة سبع
وَأَرْبَعين
ومئتين مدَّته أَربع عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَأَنه قدم
من جِهَة المتَوَكل وهروبه وَأَن المتَوَكل قتل عقب ذَلِك وَهُوَ لثلاث خلون من
شَوَّال سنة تسع وَأَرْبَعين ومئتين مدَّته أَربع عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر
وَتِسْعَة أَيَّام ثمَّ قَامَ بِالْأَمر ابْنه مُحَمَّد الْمُنْتَصر وَهُوَ
الَّذِي دس على قتل أَبِيه فَلم تطل مدَّته بل توفّي بعد سِتَّة أشهر من قِيَامه
بربيع الأول سنة ثَمَانِي وَأَرْبَعين ومئتين ثمَّ قَامَ بِالْأَمر ابْن عَمه
أَحْمد بن مُحَمَّد بن المعتصم الملقب بالمستعين فولي ثَلَاث سِنِين إِلَى أَن
قتل فِي شعْبَان سنة خمس وَخمسين ومئتين مدَّته ثَلَاث سِنِين وَسَبْعَة أشهر
ثمَّ
قَامَ بِالْأَمر بعده خير العباسيين أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْمُهْتَدي بن
الواثق الْمَذْكُور أَولا فَكَانَ خير خلفاء بني الْعَبَّاس سيرة حَتَّى أَن
كثيرا من الْعلمَاء يعدونه خَليفَة لحسن سيرته وَجَمِيل طَرِيقَته وَكَانَ كثير
الِاقْتِدَاء بسيرة عمر بن عبد الْعَزِيز وَيَقُول لأَهله وخواصه دَعونِي يَا بني
الْعَبَّاس أكون فِيكُم كعمر بن عبد الْعَزِيز فِي بني أُميَّة وَلم يسكن
بَغْدَاد بل مَدِينَة سر من رأى
وَأخرج عَنْهَا المغنين والمغنيات
وَقَالَ لَا يجاورني فِيهَا من تحققت فِيهِ مَعْصِيّة لله ثمَّ بَاعَ مَا فِي
خَزَائِن الْمُلُوك من آلَات اللَّهْو والطرب وَكَانَ لَا يَأْخُذ من بَيت المَال
إِلَّا مَا لَا بُد لَهُ مِنْهُ ولولدين لَهُ وأخباره مستقصاة فِي التواريخ وَلم
تطل مدَّته بل قتل بالشهر الْحَادِي عشر من خِلَافَته وَذَلِكَ فِي رَجَب سنة
سِتّ وَخمسين ومئتين
وَفِي أَيَّامه ظهر صَاحب الزنج وَكَانَ من فساق
الْخَوَارِج يَدعِي أَنه علوي وَلم يُوجد لذَلِك صِحَة بل ثَبت أَنه عجمي من صناع
الرّيّ ذكر ذَلِك صَاحب زهر الْآدَاب
ثمَّ لما قتل الْمُهْتَدي قَامَ
بِالْأَمر بعده الْمُعْتَمد على الله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن المتَوَكل فَلبث
ثَلَاثًا وَعشْرين سنة فِي أَثْنَائِهَا جرد أَخَاهُ الْمُوفق لقِتَال صَاحب
الزنج
قَالَ المؤرخون وَكَانَ من أَخبث الْخَوَارِج مشتتا للْمُسلمين
واستحل دِمَاءَهُمْ وَكَانَ يُنَادي على الْمَرْأَة فِي محطته باسمها ونسبها
وَرُبمَا كَانَت شريفة فتباع بالبخس وَبِهَذَا بَان عدم شرفه وَبحث عَن نسبه فَلم
يُوجد لَهُ فِي العلويين صِحَة وَكَانَت فتنته مُخْتَصَّة بِالْبَصْرَةِ وَلم يزل
الْمُوفق يحاربه حَتَّى قَتله فِي صفر سنة سبعين ومئتين مدَّته أَربع عشرَة سنة
وَهُوَ من أَشد مدد الْخَوَارِج وَلَوْلَا أَن خَبره دخيل لذكرت مِنْهُ كثيرا
لكنه لَيْسَ خَارِجا بِالْيمن فَلم أجد إِدْخَاله فِي أخباره حسنا وَإِنَّمَا
ذكرت مَا ذكرت ليعلم زَمَانه ومكانه وقبح مَا جبل عَلَيْهِ
وَحين
اتَّصل قيام الْمُعْتَمد بِالْيمن قَامَ ابْن يعفر وَأخذ الْبيعَة لَهُ وَأخرج
وُلَاة الْمُلُوك قبله من صنعاء وتابع الْخطْبَة للمعتمد فحين بلغ الْمُعْتَمد
ذَلِك كتب إِلَيْهِ بنيابته على صنعاء فغلب على صنعاء والجند وحضرموت وَهُوَ مَعَ
ذَلِك يوالي ابْن زِيَاد وَيحمل إِلَيْهِ الْخَوَارِج وَيُوجد أَنه نَائِب عَنهُ
لعلمه بعجزه على مقاومته
وَكَانَ قدوم كتاب الْمُعْتَمد عَلَيْهِ سنة
تسع وَخمسين ومئتين فِي الْمحرم وَفِي أَيَّامه
حصل بِصَنْعَاء سيل
عَظِيم يعرف بسيل يعمد وأخرب فِيهَا دورا كَثِيرَة وَاحْتمل أَمْوَالًا وعالما
لَا تكَاد تحصى وَخرج مُحَمَّد بن يعفر عقيب ذَلِك إِلَى مَكَّة حَاجا بعد أَن
اسْتخْلف ابْنه إِبْرَاهِيم ثمَّ لما عَاد من مَكَّة بنى جَامع صنعاء على الْحَال
الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْآن وَأَن ذَلِك سنة خمس وَسِتِّينَ ومئتين هَكَذَا ذكره
القَاضِي سري بن إِبْرَاهِيم الْآتِي ذكره فِي الْفُقَهَاء إِن شَاءَ الله أَن
هَذَا وجد مَكْتُوبًا بألواح قريبَة من سقف الْجَامِع بنجر النجار وَأَن بعض
الْوُلَاة حسد ابْن يعفر على بَقَاء ذكره وَأَرَادَ محوه وعني بِهِ فَلم يقدر على
ذَلِك لصلابة الْخشب الَّذِي نقر بِهِ
ثمَّ كَانَت وَفَاة الْمُعْتَمد
وَقتل مُحَمَّد بن يعفر قَتله ابْنه إِبْرَاهِيم وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي
تَارِيخه قتل إِبْرَاهِيم أَبَاهُ وَعَمه وَابْن عَمه وجدته أم أَبِيه فَقيل
كَانَت وَفَاة الْمُعْتَمد قبل قَتله بِسِتَّة أشهر وَقيل بل كَانَ مُوَافقا
لتاريخ وَاحِد وَالأَصَح أَن الْمُعْتَمد توفّي بعد قَتله بِسِتَّة أشهر وَكَانَ
قَتله لَيْلَة الْجُمُعَة لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من الْمحرم سنة تسع وَسبعين
ومئتين ووفاة الْمُعْتَمد لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَجَب سنة تسع وَسبعين
ومئتين مدَّته ثَلَاث وَعشْرين سنة
ثمَّ قَامَ بِالْأَمر المعتضد
وَهُوَ ابْن أخي الْمُعْتَمد اسْمه أَحْمد بن أبي أَحْمد بن
المتَوَكل
لقبه أَبُو الْعَبَّاس وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الجبروت وَمَال إِلَى التَّشَيُّع
وَأظْهر محبَّة الطالبيين وإكرامهم فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ كنت مرّة فِي مجْلِس
أبي فَرَأَيْت فِي الْمَنَام عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه فَسَأَلته عَن
حَالي فبشرني بِالْخرُوجِ ثمَّ قَالَ أيا أَحْمد إِن هَذَا الْأَمر صائر إِلَيْك
فاستوص بأولادي خيرا فَقلت سمعا وَطَاعَة لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
وَلم
تزل صنعاء مَعَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد يعفر وَهُوَ يهادن ابْن زِيَاد وَابْن
زِيَاد قد اتخذ مَدِينَة زبيد دَار ملك وَلم تطل مُدَّة إِبْرَاهِيم ثمَّ هلك
وَقَامَ بعده ابْنه أسعد وَلم يكن فيهم شَيْء من الْبِدْعَة أَعنِي آل يعفر
وَفِي
أَيَّامه ظَهرت القرامطة عَليّ بن الْفضل بِبَلَد يافع وَمَنْصُور بن حسن يعرف
بمنصور الْيمن فَحِينَئِذٍ أذكر نبذة من أحوالهما على مَا ذكره الْفَقِيه أَبُو
عبد الله مُحَمَّد بن مَالك بن أبي الْقَبَائِل أحد فُقَهَاء الْيمن وعلماء
السّنة وَكَانَ مِمَّن دخل فِي مَذْهَبهمَا أَيَّام الصليحي وَتحقّق أصل
مَذْهَبهمَا فَلَمَّا تحقق فَسَاده رَجَعَ عَنهُ وَعمل رِسَالَة مَشْهُورَة يخبر
بِأَصْل مَذْهَبهم وَيبين عوارهم ويحذر من الاغترار بهم فَقَالَ كَانَ عَليّ بن
الْفضل من عرب يُقَال لَهُم الأجدون ينسبون إِلَى ذِي جدن وَكَانَ شِيعِيًّا على
مَذْهَب الاثْنَي عشرِيَّة فحج مَكَّة ثمَّ خرج مَعَ ركب الْعرَاق يُرِيد
زِيَارَة مشْهد الْحُسَيْن فَلَمَّا وَصله جعل يولول ويصيح يَقُول لَيْت من حضرك
يَا ابْن رَسُول الله حِين جَاءَك جَيش الفجرة وَمَيْمُون القداح
ملازم
للضريح وَمَعَهُ وَلَده عبيد يَخْدمه فحين رَأيا ابْن الْفضل على تِلْكَ الْحَال
طَمَعا فِي اصطياده ثمَّ خلا بِهِ مَيْمُون وعرفه أَنه لَا بُد لوَلَده عبيد من
دولة تقوم ويتوارثها بنوه لَكِن لَا بتكون حَتَّى تكون بدايتها فِي الْيمن على
يَد بعض دعاته فَقَالَ لَهُ ابْن فضل ذَلِك يُمكن فِي الْيمن والناموس جَائِز
عَلَيْهِم فَأمره بالتثبت وَالْوُقُوف حَتَّى ينظر فِي الْأَمر وَكَانَ مَيْمُون
فِي الأَصْل يَهُودِيّا قد حسد الْإِسْلَام واغتار على دينه فَلم يجد حِيلَة غير
العكوف على تربة الْحُسَيْن بكربلاء وَإِظْهَار الْإِسْلَام وَأَصله من سليمَة
مَدِينَة فِي الشَّام وانتسب إِلَى العلويين وَأَكْثَرهم يُنكر صِحَة نسبه وَالله
أعلم
وَقطع ابْن مَالك بِأَنَّهُ يَهُودِيّ وَصَحبه رجل من كربلاء
يعرف بمنصور بن حسن بن زَاذَان بن حَوْشَب بن الْفرج بن الْمُبَارك من ولد عقيل
بن أبي طَالب
كَانَ جده زَاذَان اثْنَي عشري الْمذَاهب أحد أَعْيَان
الْكُوفَة وَسكن أَوْلَاده على تربة الْحُسَيْن فحين قدم مَيْمُون تفرس بمنصور
النجابة والرياسة فاستماله وَصَحبه وَكَانَت لَهُ دنيا يستمد بهَا وَكَانَ ذَا
علم بالفلك فَأدْرك أَن لَهُ دولة وَأَنه يكون أحد الدعاة إِلَى وَلَده فَلَمَّا
قدم ابْن الْفضل وَصَحبه رأى أَنه قد تمّ لَهُ المُرَاد وَأَن ابْن الْفضل من أهل
الْيمن خَبِير بِهِ وبأهله فَقَالَ مَيْمُون لمنصور يَا أَبَا الْقَاسِم إِن
الدّين يمَان والكعبة يَمَانِية والركن يمَان وكل أَمر يكون مبتدأه من الْيمن
فَهُوَ ثَابت لثُبُوت نجمه وَقد رَأَيْت أَن تخرج أَنْت وصاحبنا عَليّ بن فضل
إِلَى الْيمن وَتَدعُوا لوَلَدي فسيكون لَكمَا بهَا شَأْن وسلطان وَكَانَ
مَنْصُور قد عرف من مَيْمُون إصابات كَثِيرَة فَأَجَابَهُ إِلَى مَا دَعَا فَجمع
بَينه وَبَين عَليّ بن فضل وَعَاهد بَينهمَا وَأوصى كلا مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ
خيرا قَالَ مَنْصُور لما عزم مَيْمُون على إرسالنا إِلَى الْيمن أَوْصَانِي
بوصايا مِنْهَا أنني مَتى دخلت الْيمن سترت أَمْرِي حَتَّى أبلغ غرضي وَقَالَ لي
الله الله مرَّتَيْنِ صَاحبك يَعْنِي عَليّ بن فضل احفظه وَأحسن إِلَيْهِ وَأمره
بِحسن السِّيرَة فَإِنَّهُ شَاب وَلَا آمن عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ لِابْنِ فضل الله
الله أوصيك بصاحبك خيرا وقره واعرف حَقه ولاتخرج عَن أمره فَإِنَّهُ أعرف مِنْك
ومني وَإِن عصيته لم ترشد ثمَّ وَدعنَا وَخَرجْنَا مَعَ الْحَاج حَتَّى
أَتَيْنَا
مَكَّة فحججنا ثمَّ سرنا مَعَ حَاج الْيمن حَتَّى جِئْنَا
غلافقة ثمَّ تواصينا بِأَن لَا ينسى أحد منا صَاحبه وَلَا يَنْقَطِع خَبره عَنهُ
ثمَّ سرت حَتَّى قدمت الْجند وَهِي إِذْ ذَاك بيد الْجَعْفَرِي قد تغلب عَلَيْهَا
وانتزعها من ابْن يعفر وَكَانَ الشَّيْخ قد قَالَ لي إياك أَن تبتدئ بِشَيْء من
أَمرك إِلَّا فِي بلد يُقَال لَهَا عدن لاعة فَإِنَّهَا الْبَلَد الَّذِي يتم
بِهِ ناموسك وتنال غرضك فِيهَا فَلم أعرفهَا فقصدت عدن أبين وَسَأَلت عَن عدن
لاعة فَقيل إِنَّهَا بِجِهَة حجَّة فَسَأَلت عَن من يقدم من أَهلهَا فأرشدت إِلَى
جمَاعَة قدمُوا لغَرَض التِّجَارَة وَاجْتمعت بهم وصحبتهم وتطلعت عَلَيْهِم
حَتَّى أحبوني وَقلت أَنا رجل من أهل الْعلم بَلغنِي أَن لكم بَلَدا جبلا
وَأُرِيد صحبتكم إِلَيْهِ فرحبوا وأهلوا ثمَّ لما أَرَادوا السّفر خرجت من
جُمْلَتهمْ وَكنت فِي أثْنَاء الطَّرِيق أتحفهم بالأخبار وأحثهم على الصَّلَاة
وَكَانُوا يأتمون بِي فحين دخلت لاعة سُئِلت عَن الْمَدِينَة فِيهَا فأرشدت
إِلَيْهَا فأتيتها ولزمت بعض مساجدها وَأَقْبَلت على الْعِبَادَة حَتَّى مَال
إِلَيّ جمع من النَّاس فَلَمَّا علمت أَن قد استحكمت محبتي فِي قُلُوبهم
أَخْبَرتهم أَنِّي قدمت عَلَيْهِم دَاعيا للمهدي الَّذِي بشر بِهِ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فحالفت جمعا مِنْهُم على الْقيام وَصَارَ يُؤْتى لي
بِالزَّكَاةِ فَلَمَّا اجْتمع عِنْدِي مِنْهَا شَيْء كثير قلت إِنَّه يَنْبَغِي
أَن يكون لي معقل تحفظ بِهِ هَذِه الزَّكَاة وَيكون بَيت مَال الْمُسلمين فبنيت
عين محرم وَهُوَ حصن كَانَ لقوم يعْرفُونَ ببني العرجاء ونقلت إِلَيْهِ مَا كَانَ
تحصل عِنْدِي من طَعَام ودراهم فحين صرت إِلَيْهِ بِمَا معي وَقد عاهدني خمسمئة
رجل على النُّصْرَة صعدوا معي الْحصن بِمَا مَعَهم من مَال وَأَوْلَاد فأظهرت
حِينَئِذٍ الدعْوَة إِلَى عبيد الله الْمهْدي بن الشَّيْخ مَيْمُون
وَمَال
إِلَى موافقتي خلق ناشر ثمَّ لما أَخذ جبل مسور وَاسْتعْمل الطبول والرايات
بِحَيْثُ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ طبلا إِذا أقبل إِلَى مَكَان سَمِعت إِلَى
مَسَافَة بعيدَة وَكَانَ للحوالي حصن بجبل مسور لَهُ بِهِ وَال انتزعه مِنْهُ
ثمَّ حِين علم استقامة أمره كتب إِلَى مَيْمُون يُخبرهُ بِقِيَام أمره وظهوره على
من عانده وَبعث لَهُ بِهَدَايَا وتحف جليلة وَذَلِكَ سنة تسعين ومئتين فحين بلغه
الْأَمر ووصلت الْهَدَايَا قَالَ لوَلَده عبيد هَذِه دولتك قد قَامَت لَكِن لَا
أحب ظُهُورهَا إِلَّا من الْمغرب ثمَّ بعث أَبَا عبد الله الْحُسَيْن بن أَحْمد
بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الْمَعْرُوف بالشيعي الصَّنْعَانِيّ إِلَى الْمغرب
وَأمره بِدُخُول إفريقية وسياسة أَهلهَا واستمالتهم إِلَى طَاعَة وَلَده عبيد
فَقدم الْمغرب حسب أمره وَكَانَ من رجال الْعَالم الَّذِي يضْرب بهم الْمثل فِي
السياسة فَلم يستحكم أمره إِلَّا فِي سنة سِتّ وَتِسْعين ومئتين فَكتب إِلَى
الْمهْدي يُخبرهُ بِقِيَام الْأَمر وَطَاعَة النَّاس لَهُ ويأمره بالقدوم
إِلَيْهِ فبادر عبيد الملقب بالمهدي وَقدم إفريقية وَقد كَانَ الشيعي غلب على
ملكهَا وَصَارَ بِيَدِهِ فحين قدم الْمهْدي سلمه إِلَيْهِ فندمه وذمه أَخُوهُ
وَقَالَ لَهُ بئس مَا صنعت بِيَدِك ملك تسلمه لغيرك وَجعل يُكَرر عَلَيْهِ ذَلِك
حَتَّى أثر عِنْده وهم أَن يغدر بالمهدي وبلغه ذَلِك فاستشعر مِنْهُ ودس عَلَيْهِ
من قَتله وَقتل أَخَاهُ فِي سَاعَة وَاحِدَة منتصف جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان
وَتِسْعين ومئتين
وَهَذَا عبيد الله الملقب بالمهدي هُوَ جد مُلُوك
الْمغرب ثمَّ مصر فَابْن خلكان يَقُول فِي نسبهم العبيديين نِسْبَة إِلَى هَذَا
عبيد وناس يسمونهم العلويين على صِحَة
دَعوَاهُم وَالله أعلم
بِالصَّوَابِ
فَهَذِهِ نبذة ثَبت فِيهَا بداية حَال مَذْهَب القرامطة
فِي الْيمن وَحَال مَنْصُور الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ وَكَانَ مَنْصُور ملكا
مُسَددًا
وَأما ابْن فضل فَسَيَأْتِي من ذكره مَا يبين حَاله فقد مضى
نسبه وأصل بَلَده فقد ذكر من نقل سيرته أَنه لما فَارق منصورا من غلافقة كَمَا
قدمنَا ذكره طلع الْجَبَل وَدخل الْجند ثمَّ خرج عَنْهَا إِلَى أبين وَهِي إِذْ
ذَاك بيد رجل من الأصابح يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن أبي الْعلَا ثمَّ خرج عَنْهَا
إِلَى بلد يافع فَلَقِيَهُمْ رعاعا فَجعل يتعبد فِي بطُون الأودية ويأتونه
بِالطَّعَامِ فَلَا يَأْكُل مِنْهُ إلااليسير لمن تحقق حَاله فَأُعْجِبُوا بِهِ
وهم يسكنون برؤوس الْجبَال فَسَأَلُوهُ أَن يسكن مَعَهم فَلم يكد يُجِيبهُمْ
إِلَّا بعد مُدَّة حَتَّى ألحوا عَلَيْهِ فَذكر لَهُم أَنه مَا يمنعهُ من
مساكنتهم إِلَّا عدم امتثالهم الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر
وَشرب الْخُمُور والتظاهر بِالْفُجُورِ فَحَلَفُوا لَهُ على الطَّاعَة وَأَن لَا
يخالفوه بِمَا أَمر فَوَعَدَهُمْ خيرا وصاروا يجمعُونَ لَهُ زكواتهم حَتَّى
اجْتمع لَهُ شَيْء جيد ثمَّ إِنَّه قصد أبين فَقتل صَاحبهَا واستباحها وَأخذ
أَمْوَالًا جليلة ثمَّ قصد المذيخرة بلد الْجَعْفَرِي وَكَانَت مَدِينَة عَظِيمَة
بجبل ريمة فحاربه مرَارًا وَكَانَت الدائرة لَهُ فَقتله واستباح بَلَده وسبى
الْحَرِيم وَقد ذكر ابْن مَالك ذَلِك برسالته على أكمل وَجه وَلَيْسَ هُوَ من
ملازم الْكتاب فنأتي بِهِ وَلما صَار بالمذيخرة أَعْجَبته فأظهر بهَا مذْهبه
وَجعلهَا دَار ملكه ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة وَأحل لأَصْحَابه شرب الْخمر وَنِكَاح
الْبَنَات وَالْأَخَوَات ثمَّ دخل الْجند فِي موسمها
أول خَمِيس من
رَجَب فَصَعدَ الْمِنْبَر وَقَالَ الأبيات الْمَشْهُورَة ... خذي الدُّف يَا
هَذِه والعبي ... وغني هزاريك ثمَّ اطربي
تولى نَبِي بني هَاشم ...
وَهَذَا نَبِي بني يعرب
لكل نَبِي مضى شرعة ... وهاتي شَرِيعَة هَذَا
النَّبِي
فقد حط عَنَّا فروض الصَّلَاة ... وَحط الصّيام فَلم نتعب
إِذا
النَّاس صلوا فَلَا تنهضي ... وَإِن صُومُوا فكلي واشربي
وَلَا تطلبي
السَّعْي عِنْد الصَّفَا ... وَلَا زورة الْقَبْر فِي يثرب
وَلَا
تمنعي نَفسك المعرسين ... من الْأَقْرَبين مَعَ الْأَجْنَبِيّ
فَبِمَ
ذَا حللت لهَذَا الْغَرِيب ... وصرت مُحرمَة للْأَب
أَلَيْسَ
الْغِرَاس لمن ربه ... وأسقاه فِي الزَّمن المجدب
وَمَا الْخمر إِلَّا
كَمَاء السَّمَاء ... مَحل فقدست من مَذْهَب ... ثمَّ لما استقام أمره وَغلب على
مخلاف جَعْفَر والجند عزم على غَزْو صنعاء وَبهَا يَوْمئِذٍ أسعد بن إِبْرَاهِيم
بن مُحَمَّد بن يعفر فَمر بذمار وَأخذ حصن هران وَدخل واليه وغالب من مَعَه فِيهِ
بِالْمذهبِ وَلحق بَقِيَّتهمْ بِأَسْعَد ابْن أبي يعفر
وَلما سمع أسعد
بِكَثْرَة جيوشه خرج من صنعاء هَارِبا ودخلها ابْن فضل يَوْم الْخَمِيس لثلاث
مضين من رَمَضَان سنة سبع وَتِسْعين ومئتين فَنزل الْجَامِع وَحصل
بقدومه
مطر عَظِيم فَأمر بسد الميازيب الَّتِي للجامع وأطلع النِّسَاء اللَّاتِي سبين من
صنعاء وَغَيرهَا وطلع المنارة وَجعلُوا يلقونهن إِلَى المَاء متكشفات عاريات فَمن
أَعْجَبته اجتذبها إِلَى المنارة وافتضها حَتَّى قيل إِنَّه افتض عدَّة من البكور
وَأثر ذَلِك المَاء وتحقنه على السّقف حَتَّى يُوجد أثر ذَلِك إِلَى الْيَوْم
ذكره القَاضِي السّري الْآتِي ذكره
ثمَّ إِنَّه حلق رَأسه فحلق مَعَه
مُوَافقَة مئة ألف نفس وَأمر بإخراب دَار ابْن عَنْبَسَة ظن أَنه يجد بهَا
دَفِينا فَلم يجد غير عشرَة آلَاف دِينَار وَكَانَ ابْن عَنْبَسَة من أَعْيَان
أهل صنعاء خرج مَعَ أسعد حِين خرج فَلَمَّا بلغه إخراب بَيته أَخَذته بَطْنه
وَمَات وَحين بلغ منصورا دُخُول ابْن فضل صنعاء سره ذَلِك وتجهز حَتَّى جَاءَهُ
واجتمعا وَفَرح كل بِصَاحِبِهِ
ثمَّ خرج ابْن فضل إِلَى حراز ثمَّ نزل
المهجم فَأَخذهَا وَسَار إِلَى الكدرى فَأَخذهَا أَيْضا ثمَّ قصد زبيد فهرب
صَاحبهَا وَهِي يَوْمئِذٍ بيد أبي الْجَيْش إِسْحَق بن
إِبْرَاهِيم بن
مُحَمَّد الْوَاصِل من بَغْدَاد فَقيل هرب وَقيل قَاتل فَقتله ابْن الْفضل
واستباح زبيد وسبى الْحَرِيم
وَذكر نقلة الْأَخْبَار أَنه أَخذ
مِنْهَا نَحْو أَرْبَعَة آلَاف بكر سوى الْجَوَارِي ثمَّ خرج مِنْهَا يُرِيد
المذيخرة على طَرِيق الْمِيزَاب جبل شَرْقي زبيد فَلَمَّا صَار بعسكره فِي مَوضِع
يُسمى الملاحيط أَو المناحض أَمر صائحه فصاح على الْعَسْكَر بالنزول فَلَمَّا
نزلُوا ناداهم بالاجتماع فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وحضروا لَدَيْهِ فَقَالَ لَهُم لقد
علمْتُم إِنَّمَا خَرجْتُمْ للْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَقد غَنِمْتُم من نسَاء
الْحصيب مَا لَا يخفى وَلست آمنهن عَلَيْكُم أَن يَفْتِنكُم ويشغلنكم عَن
الْجِهَاد فليذبح كل رجل مِنْكُم من صَار مَعَه مِنْهُنَّ فَفَعَلُوا ذَلِك
فَصَارَ الدَّم فِي ذَلِك أَثَره سِنِين كَثِيرَة وَلذَلِك سمي الملاحيط
المشاحيط
ثمَّ توجه إِلَى المذيخرة فَلَمَّا صَار بهَا أَمر بِقطع
الطّرق لَا سِيمَا طَرِيق الْحَج وَقَالَ حجُّوا الجرف موضعا بِالْقربِ من
المذيخرة واعتمروا التالبي وَهُوَ وَاد بِالْقربِ من الجرف
وَلما علم
ابْن فضل أَنه قد استحكم لَهُ أَمر الْيمن خلع طَاعَة عبيد بن مَيْمُون الَّذِي
كَانَ يظْهر أَنه دَاع إِلَيْهِ ثمَّ كَاتب صَاحبه منصورا بذلك فَعَاد جَوَابه
إِلَيْهِ يعاتبه وَيَقُول لَهُ كَيفَ تخلع من لم تنَلْ خيرا إِلَّا بِهِ وببركة
الدُّعَاء إِلَيْهِ فَمَا تذكر مَا بَيْنك وَبَينه من عهود وَمَا أَخذ علينا
جَمِيعًا من الْوَصِيَّة على الِاتِّفَاق وَعدم الِافْتِرَاق فَلم يلْتَفت
إِلَيْهِ بل كتب إِلَيْهِ ثَانِيًا يُخبرهُ وَيَقُول لَهُ إِن لي بِأبي سعيد
الجنابي أُسْوَة إِذْ قد دَعَا إِلَى نَفسه وَأَنت إِذا لم تنزل إِلَى طَاعَتي
وَتدْخل بإجابتي نابذتك الْحَرْب فَلَمَّا ورد كِتَابه إِلَى مَنْصُور بذلك غلب
على ظَنّه صِحَّته وطلع جبل مسور وَأخذ بتحصينه وَقَالَ إِنَّمَا حصنت هَذَا
الْجَبَل من هَذَا الطاغية وَأَمْثَاله
وَلَقَد عرفت الشَّرّ
بِوَجْهِهِ حِين اجْتَمَعنَا بِصَنْعَاء ثمَّ إِن ابْن فضل بعد مديدة من تصديره
الْكتاب تجهز إِلَى غَزْو مَنْصُور وانتدب لذَلِك عشرَة آلَاف رجل من
الْمَعْدُودين فِي عسكره وَسَار من المذيخرة حَتَّى دخل شبام فَحصل بَينه وَبَين
عَسْكَر مَنْصُور حَرْب وتكرر ذَلِك وَدخل ابْن فضل بلد لاعة وَصعد جبل الجميمة
بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة وَهُوَ جبل فائش على الْقرب من مسور وَهُوَ لقوم يُقَال
لَهُم بَنو المنتاب فَأَقَامَ بِهِ ثَمَانِيَة أشهر يحاصر منصورا فَلم يدْرك
مِنْهُ طائلا وشق بِهِ الْوُقُوف وَعلم مَنْصُور بذلك فراسله بِالصُّلْحِ فَقَالَ
ابْن فضل لَا أفعل إِلَّا أَن ترسل إِلَيّ ولدك يقف معي على الطَّاعَة وَإِلَّا
فَلَا يسمع بِأَنِّي رحت بِغَيْر قَضَاء حَاجَة ويشيع عِنْد الْعَالم أَنِّي
تركته تفضلا لَا عَجزا فَفعل مَنْصُور ذَلِك وَتقدم مَعَه بعض أَوْلَاد مَنْصُور
ثمَّ إِن ابْن فضل طوقه بطوق من ذهب وانهمك بالمذيخرة على تَحْلِيل مُحرمَات
الشَّرِيعَة وَإِبَاحَة محظوراتها وَعمل بهَا دَارا وَاسِعَة يجمع فِيهَا
غَالب
أهل مذْهبه نسَاء ورجالا متزينين متطيبين ويوقد بَينهم الشمع سَاعَة ويتحادثون
فِيهَا بأطيب الحَدِيث وأطربه ثمَّ يطفأ الشمع وَيَضَع كل مِنْهُم يَده على
امْرَأَة فَلَا يتْرك الْوُقُوع عَلَيْهَا وَإِن كَانَت من ذَوَات مَحَارمه وَقد
تقع مَعَ أحدهم مَا لَا تعجبه إِمَّا بِعَجُوزٍ أَو غَيرهَا فيريد التفلت مِنْهَا
فَلَا تكَاد تعذره
فقد حكى ابْن مَالك أَن رجلا من الْقَوْم وَقعت
يَده على عَجُوز كَبِيرَة محدودية فحين تحقق حَالهَا أَرَادَ التفلت مِنْهَا
فَقَالَت لَهُ دوبد من ذِي حكم الْأَمِير ودو بِالدَّال الْمُهْملَة فِي لُغَة
بعض اليمنيين بِمَعْنى لَا فَكَأَنَّهَا قَالَت لَا بُد من ذِي حكم الْأَمِير
وَذُو بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بِمَعْنى الَّذِي كَأَنَّهَا قَالَت لَا بُد من
الَّذِي حكم بِهِ الْأَمِير يَعْنِي ابْن فضل وَهَذِه مخزية عَظِيمَة شاعت عَنهُ
وَحَتَّى عَمت جَمِيع من انتسب إِلَى السمعلة وَهُوَ شَيْء لم يتَحَقَّق عَن أحد
غَيره وَلَقَد سَأَلت جمعا من الَّذين يتَحَقَّق مِنْهُم الْمَذْهَب فأنكروا
ذَلِك ورأيتهم مُجْمِعِينَ على أَن ابْن فضل زنديق وَأَن مَنْصُور من أَعْيَان
مَذْهَبهم وأخيارهم وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي تقرر فِي ذهني
وَكَانَ ابْن
فضل لما طابت لَهُ المذيخرة وَجعلهَا دَار إِقَامَة استناب على صنعاء أسعد بن أبي
يعفر الْمُقدم ذكره استنابه مَكَانَهُ إِلَّا أَنه لم يثبت أَن أسعد اجْتمع بِهِ
بل كَانَ حذرا من غدره فَأَقَامَ أسعد بِصَنْعَاء نَائِبا لَهُ وَهُوَ يود أَن
يَأْخُذ بثأر الْمُسلمين مِنْهُ وَهُوَ أَيْضا حذر متيقظ وَكَانَ لَا يكَاد
يسْتَقرّ بِصَنْعَاء خشيَة غَازِيَة من ابْن فضل أَو هجمة
قَالَ ابْن
جرير وَكَانَ عنوان كتب ابْن فضل إِلَى أسعد من باسط الأَرْض وداحيها ومزلزل
الْجبَال ومرسيها عَليّ بن الْفضل إِلَى عَبده أسعد بن أبي يعفر وَكفى بِهَذَا
الْكَلَام دَلِيلا على كفره فنسأل الله الْعِصْمَة
وَفِي أثْنَاء
نِيَابَة أسعد قدم غَرِيب يزْعم أَنه شرِيف بغدادي فصحب أسعد وَأنس بِهِ وَقيل
أَن قدومه كَانَ بإرسال من صَاحب بَغْدَاد لما بلغه من قوم ابْن فضل ليعْمَل
الْحِيلَة فِي قَتله فَلبث عِنْد أسعد مُدَّة وَكَانَ جراحيا ماهرا بصناعة
الْأَدْوِيَة بَصيرًا بِفَتْح الْعُرُوق ومداواة الأجرحة وَسقي الْأَشْرِبَة
النافعة وَلما رأى شدَّة خوف أسعد لِابْنِ فضل قَالَ إِنِّي عزمت على أَن أهب
بنفسي لله تصدقا على الْمُسلمين لأريحهم من هَذَا الطاغية فعاهدني إِن أَنا عدت
إِلَيْك على أَن تقاسمني مَا يصير إِلَيْك من الْملك فَأَجَابَهُ أسعد إِلَى مَا
سَأَلَ فتجهز الْغَرِيب وَخرج من عِنْد أسعد وَهُوَ إِذْ ذَاك مُقيم بالجوف
بِبَلَد هَمدَان على تخوف من ابْن فضل فَسَار الْغَرِيب حَتَّى قدم المذيخرة
فخالط وُجُوه الدولة وكبراءها وَفتح لَهُم الْعُرُوق وسقاهم الْأَدْوِيَة النافعة
وَأَعْطَاهُمْ المعجونات فَرفعُوا ذكره إِلَى ابْن فضل وأثنوا عَلَيْهِ عِنْده
ووصفوه بِمَا فِيهِ من الصَّنْعَة وَقيل لَهُ إِنَّه لَا يصلح إِلَّا لمثلك
فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم أحب الافتصاد فبحث عَنهُ وَطَلَبه فجيء لَهُ بِهِ فحين
وَصله الطَّالِب عمد إِلَى سم فعمله بِشعرِهِ فِي مقدم رَأسه وَكَانَ ذَا شعر
كثير ثمَّ لما دخل عَلَيْهِ أمره أَن يتجرد من ثِيَابه ويلبس غَيرهَا من ثِيَاب
كَانَت عِنْد ابْن فضل ثمَّ أمره بالدنو مِنْهُ ليفصده فَفعل وَقعد بَين يَدَيْهِ
ثمَّ أخرج المفصد وأمتصه تَنْزِيها لَهُ من السم ثمَّ مَسحه بِرَأْسِهِ فِي
مَوضِع السم فعلق بِهِ بعض السم ثمَّ فصده بالأكحل وربطه وَخرج من فوره وَحمل
هداده على حمَار لَهُ وَخرج من المذيخرة مبادرا إِلَى أسعد بن أبي يعفر وَلما قعد
ابْن فضل سَاعَة أحس بالسم وَعلم أَنه قد أكيد على يَد الفاصد فَأمر بِطَلَبِهِ
فَلم يُوجد فازداد تَيَقنا وَأمر أَن يلْحق حَيْثُ كَانَ وَيُؤْتى بِهِ فَخرج
العساكر فِي طلبه بنواح شَتَّى حَتَّى أدْركهُ بَعضهم بوادي
السحول
عِنْد الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بقينان فَلم يلْتَزم بل مَانع على نَفسه حَتَّى قتل
وقبره هُنَالك وَهُوَ مَسْجِد جَامع لَهُ مَنَارَة يزار ويتبرك بِهِ دَخلته فِي
الْمحرم أول سنة سِتّ وَتِسْعين وستمئة
وَتُوفِّي ابْن فضل عقب ذَلِك
لَيْلَة الْخَمِيس منتصف ربيع الآخر سنة ثَلَاث وثلاثمئة وَكَانَت مُدَّة امتحان
الْمُسلمين بِملكه سبع عشرَة سنة
وَلما علم أسعد بوفاته فَرح
وَكَذَلِكَ جَمِيع أهل الْيمن فرحوا فَرحا شَدِيدا ثمَّ كاتبوا أسعد أَن يَغْزُو
المذيخرة ويستأصل شأفة القرامطة فأجابهم إِلَى ذَلِك وتجهز بعسكر جرار من صنعاء
ونواحيها ثمَّ لما صَار بمخلاف جَعْفَر اجْتمع إِلَيْهِ أَهله ثمَّ أهل الْجند
والمعافر والتقت العساكر إِلَى المذيخرة وَكَانَ قد خلف ابْن فضل ولد لَهُ يعرف
بالفأفاء لفأفأة كَانَت بِهِ فحصر أسعد المذيخرة بِمن مَعَه من النَّاس وَكَانَت
محطته بجبل ثومان الَّذِي تقدم ذكره عِنْد ذكر الْجَعْفَرِي الَّذِي يعرف الْآن
بجبل خولان لِأَن بِهِ عربا مِنْهُم يعْرفُونَ ببني البعم فَلم يزل العساكر فِيهِ
وكل مَا خرج لَهُم عَسْكَر من المذيخرة كسرهم الْمُسلمُونَ وتتابع ذَلِك مرّة على
مرّة حَتَّى ذلوا وخضعوا ثمَّ نصب أسعد على الْمَدِينَة المنجنيقات فهدم غَالب
دُورهمْ ودخلها قهرا ثمَّ قتل ابْن فضل وَجَمِيع من ظفر بِهِ من خواصه وَأَهله
وَمن دخل مذْهبه وسبى بَنَاته وَكن ثَلَاثًا اصْطفى أسعد مِنْهُنَّ وَاحِدَة
اسْمهَا معَاذَة ثمَّ وَهبهَا لِابْنِ أَخِيه قحطان فَولدت لَهُ عبد الله بن
قحطان الْآتِي ذكره والاثنتان صارتا إِلَى رعين
وَكَانَت مُدَّة
حِصَار الْمُسلمين وأسعد للمذيخرة سنة كَامِلَة قيل إِنَّه لم ينْزع فِيهَا أسعد
درعه وَلم يزل مُتَقَلِّدًا لسيفه وانقطعت دولة القرامطة من مخلاف جَعْفَر وَلم
تزل
المذيخرة خرابا مُنْذُ ذَلِك إِلَى عصرنا
وَأما
مَنْصُور فَهُوَ على الْحَال الْمُتَقَدّم لكنه كَانَ رَئِيسا لبيبا يحب المباقاة
لم يبرح فِي جِهَة لاعة حَتَّى توفّي قبل ابْن فضل سنة اثْنَتَيْنِ وثلثمئة بعد
أَن أوصى ولدا لَهُ اسْمه الْحسن ورجلا آخر من أَصْحَابه اسْمه عبد الله بن
الْعَبَّاس الشاوري كَانَ خصيصا بِهِ وَكَانَ قد أرْسلهُ إِلَى الْمهْدي برسالة
وهدية وَصَارَ عِنْد الْمهْدي مِنْهُ صُورَة وَمَعْرِفَة وَذَلِكَ أَن منصورا لما
أحس بِالْمَوْتِ جمع بَينهمَا وَقَالَ أوصيكما بِهَذَا الْأَمر فاحفظاه وَلَا
تقطعا دَعْوَة بني عبيد بن مَيْمُون فَنحْن غرس من غروسهم وَلَوْلَا مَا دَعونَا
إِلَيْهِ من طاعتهم لم يتم لنا مُرَاد وَعَلَيْكُم بمكاتبة إمامنا الْمهْدي فَلَا
تقطعا أمرا فِي مشاروته فَإِن هَذَا الْأَمر لم آخذه بِكَثْرَة مَال وَلَا رجال
وَلم أصل هَذِه الْبِلَاد إِلَّا بعصا وَبَلغت مَا لم يخف ببركة الْمهْدي الَّذِي
بشر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُول ذَلِك
فِي مَلأ من النَّاس ثمَّ لما توفّي مَنْصُور كتب وَصِيّه الشاوري إِلَى الْمهْدي
وَهُوَ مُقيم بالمهدية لم يبرح يُخبرهُ بوفاة مَنْصُور وَترك أمرالدعوة مرجى
حَتَّى يرد أمره وَأعلم الْمهْدي بِأَنَّهُ يقوم بِأَمْر الدعْوَة قيَاما شافيا
وافيا دون أَوْلَاد مَنْصُور وَبعث بِالْكتاب مَعَ بعض أَوْلَاد مَنْصُور فَسَار
بِهِ حَتَّى قدم المهدية وَدفع الْكتاب إِلَى الْمهْدي فَلَمَّا قَرَأَهُ وَكَانَ
قد عرف الشاوري من وَقت قدم عَلَيْهِ برسالة مَنْصُور وَأَنه مكمل الدعْوَة وخشي
عجز أَوْلَاد للشاوري بالاستقلال وَعَاد ولد مَنْصُور خائبا فَعَاد الْبِلَاد
وَهُوَ مُضْمر الشَّرّ فأوصل جَوَاب الْمهْدي إِلَى الشاوري وَصَارَ هُوَ وأخوته
يواصلونه وَهُوَ يكرمهم ويبجلهم وَلَا يحجب أحدا مِنْهُم بل يدْخلُونَ مَتى
شَاءُوا من غير حَاجِب ثمَّ إِن الَّذِي وصل من الْمهْدي دخل عَلَيْهِ فِي بعض
الغفلات فَقتله وَاسْتولى على الْبِلَاد
وَلما صَار مستوليا جمع
الرعايا من أنحاء بَلَده وأشهدهم أَنه قد خرج إِلَى مَذْهَب
السّنة
وَترك مَذْهَب أَبِيه فأعجب النَّاس ذَلِك وأحبوا ودانوا لَهُ فَدخل عَلَيْهِ أَخ
لَهُ اسْمه جَعْفَر فَنَهَاهُ عَمَّا فعل وقبحه عَلَيْهِ فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ
وَخرج عَنهُ مغضبا وَقصد الْمهْدي إِلَى القيروان فَوَجَدَهُ قد توفّي وَقَامَ
بعده ابْنه الْقَائِم وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلثمئة أَعنِي موت
الْمهْدي وَقيام الْقَائِم فَلبث ابْن مَنْصُور عِنْده ثمَّ إِن أَخَاهُ قتل أهل
مَذْهَب أَبِيه وشردهم حَتَّى لم يبْق حوله إِلَّا من لَا يعرف وَبَقِي فِي
الْبَلَد جمَاعَة قَلِيلُونَ يكاتبون بني عبيد بن مَيْمُون إِلَى القيروان ثمَّ
إِن ابْن مَنْصُور خرج من مسور إِلَى عين محرم الْمَذْكُورَة أَولا وكاتبه رجل من
بني العرجى سلاطين تِلْكَ النَّاحِيَة واستخلف الَّذِي ينْسب مسور إِلَيْهِ
فَيُقَال مسور المنتاب فَلَمَّا صَار بِعَين محرم وثب عَلَيْهِ ابْن العرجي
فَقتله وَحين سمع ابْن عبد الحميد ذَلِك أخرج من بَقِي مَعَه بمسور من أهل
مَنْصُور وَحرمه إِلَى جبل أعشب فَوَثَبَ النَّاس عَلَيْهِم ينهبون ويسلبون
وَيقْتلُونَ ثمَّ حصل بَين ابْن العرجى وَابْن عبد الحميد اتِّفَاق واقتسما
الْبِلَاد وَرجع ابْن عبد الحميد عَن مَذْهَب مَنْصُور وابتنى جَامعا وَعمل منبرا
وتابع الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وَجعل يتتبع القرامطة حَيْثُ سمع بهم حَتَّى
أفناهم وَلم يبْق مِنْهُم غير شريذمة قَليلَة بِنَاحِيَة مسور كاتمين أَمرهم
مقيمين ناموسهم بِرَجُل يُقَال لَهُ ابْن رَحِيم وَمَات ابْن عبد الحميد وَقَامَ
بعده ابْنه المنتاب وَكَانَ ابْن رَحِيم حازما لَا يكَاد يعرف أَيْن قراره خوفًا
أَن يغتاله المنتاب أَو غَيره من أهل السّنة وَهُوَ مَعَ ذَلِك يُكَاتب أَوْلَاد
الْمهْدي إِلَى القيروان وَإِلَى مصر
وَفِي أَيَّامه قدم الْمعز بن
الْقَائِم بن الْمهْدي من القيروان إِلَى مصر وابتنى الْقَاهِرَة وَجعلهَا دَار
إِقَامَته ثمَّ لما دنت وَفَاته اسْتخْلف على أهل مذْهبه رجلا مِنْهُم يُقَال
لَهُ يُوسُف بن الْأَشَج ثمَّ توفّي وَولي الْأَمر يَوْمئِذٍ الْحَاكِم فَكَانَ
ابْن الْأَشَج يَدْعُو إِلَيْهِ ويبايع لَهُ سرا حَتَّى دنت وَفَاته واستخلف رجلا
يُقَال لَهُ سُلَيْمَان بن عبد الله الزواحي من ضلع شبام وَكَانَ ذَا مَال جزيل
يُدَارِي بِهِ وَيدْفَع عَن أهل مذْهبه وَكلما هم أحد من النَّاس بقتْله يَقُول
لَهُ أَنا رجل من الْمُسلمين أَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله كَيفَ يحل لكم سفك دمي
وَأخذ مَالِي فيمسكون عَنهُ وَلما دنت وَفَاته اسْتخْلف عَليّ بن مُحَمَّد
الصليحي وَأَصله من الأخروج سبع من أَسْبَاع حراز
هَذَا مَا لَاق ذكره
من الْمُلُوك من أول الْإِسْلَام إِلَى نَيف وثلثمائة
ثمَّ بعد ذَلِك
نعود إِلَى أَخْبَار الْفُقَهَاء مَا قدمنَا من المئتين وَالثَّلَاث الْمَاضِيَة
وَكَانَ مُعظم مَا ذكرت أهل عناية وتوفر على طلب علم الْأَحْكَام وَفقه كَلَام
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِجْمَاع الْعلمَاء وَاخْتِلَافهمْ
وَالِاحْتِيَاط لأَنْفُسِهِمْ فِيمَا يدينون الله رَبهم وَقل مَا فَاتَنِي من أهل
هَذِه الصّفة كَانَ مَوْجُودا بِالْيمن فِي الْمدَّة الْمَاضِيَة وَفِي
الْمُسْتَقْبلَة بِحَمْد الله وأنتهي بذلك إِلَى فُقَهَاء زَمَاننَا وأستوعبهم
ثمَّ
أذكر بعد ذَلِك الْمُلُوك الْمُتَأَخِّرين من ذَلِك إِلَى عصرنا كَمَا ذكرت من
كَانَ فِي المئتين وَالثَّلَاث الْمُتَقَدّمَة
وَاعْلَم أَن المئة
الرَّابِعَة كَانَت فقهاؤها أعيانا
مِنْهُم أَبُو سعيد الْمفضل بن
مُحَمَّد الجندي الْمُقدم ذكره لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودا فِي آخرالمئة
الثَّالِثَة وَصدر المئة الرَّابِعَة وَذَلِكَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة
وَلأَجل وجوده فِي آخر المئة الثَّالِثَة وَعدم تحققي لوُجُوده فِي المئة
الرَّابِعَة ذكرته أَولا ثمَّ رَأَيْت بِخَط الْفَقِيه ابْن أبي ميسرَة مَا تحقق
وجوده بالتاريخ الَّذِي ذكرته آنِفا
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن
الْمُغيرَة بن عَمْرو بن الْوَلِيد الْعَدنِي أَخذ بِمَكَّة سنَن أبي قُرَّة عَن
أبي سعيد الْمفضل الجندي مقدم الذّكر وَذَلِكَ سنة خمس وَسِتِّينَ وثلثمائة
وَكَانَ هَذَا يعرف بالتاجر فَيُقَال الْمُغيرَة الْعَدنِي التَّاجِر
وَفِي
هَذِه المئة أَعنِي الرَّابِعَة دخل مَذْهَب الشَّافِعِي الْيمن وانتشر فأبدأ
بِمن ذكر أَنه نشره فِي الْجبَال وَمِنْهُم مُوسَى بن عمرَان بن مُحَمَّد الخداشي
ثمَّ السكْسكِي أَصله من المعافر ثمَّ كَانَ يخْتَلف إِلَى الْجند ومخلاف جَعْفَر
وَرُبمَا أَقَامَ بقرية الملحمة الْآتِي ضَبطهَا عِنْد ذكر وَلَده وفقهاؤها
المعروفون ببني مَضْمُون من ذُريَّته وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إنْشَاء الله
تَعَالَى وَعنهُ أَخذ جمَاعَة من المعافر والجند ومخلاف جَعْفَر وَلم أكد أَقف
لَهُ على تَحْقِيق تَارِيخه
ثمَّ صَار الْعلم يُؤْخَذ عَن جمَاعَة أهل
طبقَة مُتَأَخِّرَة
مِنْهُم أَبُو الْخطاب عبد الْوَهَّاب بن
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الله الْعَدنِي لِأَنَّهُ ولي قَضَاء عدن
وَإِلَّا فأصله من أبين من قَرْيَة الطرية بهَا وجده عَنْبَسَة النُّون فِيهِ
سَاكِنة مُقَدّمَة على الْبَاء الْمُوَحدَة بِقَضَاء عدن وَكَانَ من الروَاة
الْمَعْدُودين
وجدت فِيمَا قرأته بِخَط ابْن أبي ميسرَة سندا
مُتَّصِلا إِلَى هَذَا أبي الْخطاب أَنه قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم وَأَنا بقرية الطرية من أبين لَيْلَة الْخَمِيس سَابِع
رَمَضَان
سنة خمس عشرَة وأربعمئة كَأَنَّهُ جَالس فِي بَيت لَا أعرفهُ
على شَيْء مُرْتَفع شبه الدكة وناس جُلُوس دونه قَلِيلا فَدخلت عَلَيْهِ ودنوت
مِنْهُ وَقلت لَهُ يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْك إِنَّه قد اقْترب أَجلي
وَأُرِيد مِنْك أَن تلبس قَمِيصِي هَذَا لآمر بتكفيني فِيهِ بعد الْمَوْت فَعَسَى
الله أَن يقيني بِهِ حر جَهَنَّم فَرَأَيْت الْقَمِيص على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ لم أره ثمَّ قَامَ رَسُول الله إِلَى مَوضِع آخر وَرَأَيْت
صَدره مكشوفا لَا قَمِيص عَلَيْهِ فدنوت مِنْهُ وعانقته وعانقني وألزقت صَدْرِي
إِلَى صَدره حَتَّى حسست خشونة شعر صَدره بصدري وَجعلت فمي إِلَى فَمه وهممت
أسأله يبزق فِي فمي وَقلت لَهُ سل الله أَن يجمع بيني وَبَيْنك فِي الرفيق
الْأَعْلَى وَهُوَ مَعَ ذَلِك يضمني إِلَى صَدره ويجيبني إِلَى مَا أسأله
وَيَدْعُو لي وَأَنا أضمه إِلَى صَدْرِي ثمَّ قَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِلَى مَوضِع آخر وَقَعَدت بَين يَدَيْهِ وَأَقْبل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ
يعرض لي بِشَيْء أهبه لامْرَأَة كَانَت بَين يَدَيْهِ وَقت دخولي عَلَيْهِ
فَنَظَرت إِلَيْهَا وَفتحت صرارا كَانَت بثوبي فَقلت لَهُ وَالله يَا رَسُول الله
مَا معي إِلَّا هَذَا وَوجدت بالصرا دينارين مطوقين ودريهمات نَحْو عشْرين لم
أعدهَا وسلمت ذَلِك إِلَيْهِ وانتهيت
وَكنت قد رَأَيْته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْقيام الأول وَلبس الْقَمِيص قد تنَاول من مَوضِع آخر
منديلا مدرحاد منقشا مطرزا بأحمر فَقلت فِي نَفسِي كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يرد
عَليّ الْقَمِيص ويهب لي المنديل ثمَّ مضى إِلَى الْموضع الثَّانِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رَزَقَنِي الله شَفَاعَته وَلَا حرمني النّظر إِلَيْهِ فِي
الْآخِرَة بمنه وَكَرمه وَقد تركت الْقَمِيص وأوصيتهم يكفنوني بِهِ
قَالَ
الشِّيرَازِيّ وَهُوَ الَّذِي روى الْخَبَر عَن هَذَا أبي الْخطاب وَقد سألناه
إِخْرَاج الْقَمِيص فَأخْرجهُ ولبسناه وأعطانا مِنْهُ شَيْئا
قَالَ
الشِّيرَازِيّ وَسمعت مِنْهُ أَيْضا قَالَ رَأَيْت كَأَنِّي دخلت دَارا فَلَقِيت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما تَحت الدَّار بَين ثَانِي حَانُوت
وَمَعَهُ جمَاعَة أعرف بَعضهم وهم قيام لقِيَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ
بالموضع سراج موقد فَقلت يَا رَسُول الله قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {إِن
تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} وروينا عَنْك
أَنَّك قلت ادخرت
شَفَاعَتِي لمن يعْمل الْكَبَائِر من أمتِي فَإِذا
كَانَ الله قد سامحنا فِي الصَّغِيرَة وشفعت لنا أَنْت فِي الْكَبِيرَة فَنحْن
إِذا نرجو من الله الرَّحْمَة فَقَالَ لي كَذَا هُوَ قَالَ الشِّيرَازِيّ أَيْضا
وسمعته يَقُول مرّة رَأَيْت فِي تَفْسِير النقاش عَن حميد عَن أنس قَالَ قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة تَحت الْعَرْش فِي ظلّ الله يَوْم
لَا ظلّ إِلَّا ظله قلت من هم يَا رَسُول الله قَالَ من فرج عَن مكروب من أمتِي
وَأَحْيَا سنتي وَأكْثر الصَّلَاة عَليّ
وَأَخذه لسنن أبي قُرَّة عَن
الْمُغيرَة الْعَدنِي مقدم الذّكر وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا نَحْو الْعشْرين
وأربعمئة
وَمن نَاحيَة الْجند قَرْيَة تسمى الصردف هِيَ شرقيها تَحت
الْجَبَل الْمَعْرُوف بسورق بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَإِسْكَان الْوَاو
بعْدهَا رَاء مَفْتُوحَة وقاف والصردف بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة
وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ فَاء مُوَحدَة وَهِي إِحْدَى
الْقرى الْمُبَارَكَة بِكَثْرَة الْفُقَهَاء فِيمَا تقدم وَبهَا إِلَى الْآن
مَسْجِد جَامع مشهود لَهُ بِالْبركَةِ وَفِي جنبه الشَّرْقِي من خَارجه قبر
الْفَقِيه عبد الله بن زيد العريقي صَاحب الْمُهَذّب الَّذِي صنفه فِي الْفِقْه
صرف عَنهُ الْقَوْلَيْنِ والوجهين ويقاربه قبر الْفَقِيه إِسْحَاق الصردفي
الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى غربي الْمَسْجِد الْمَذْكُور فِي
الْجَبَل الْمُقَابل للقرية وَالْمَسْجِد
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ
بالقرية الْمَذْكُورَة وَهِي على ثلث مرحلة من مَدِينَة الْجند جمَاعَة فُقَهَاء
متقدمون يعْرفُونَ بآل زرقان وزرقان بطن من مُرَاد من مشهورهم أَبُو مُحَمَّد عبد
الله بن عَليّ الزّرْقَانِيّ كَانَ فَقِيها كَبِيرا رحالا فِي طلب الْعلم
وَكَانَت لَهُ أراض كَثِيرَة مِنْهَا فِي قريته الْمَذْكُورَة وَمِنْهَا فِي
معشار الْجند وَمِنْهَا فِي
الشعبانية وَهِي عزلة كَبِيرَة ضَبطهَا
بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة ثمَّ ألف وخفض النُّون وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ هَاء
سَاكِنة وَهُوَ صقع كَبِير ينْسب الْآن إِلَى حصن تعز
وارتحل هَذَا
الْفَقِيه إِلَى مَكَّة سنة ثَلَاث وَخمسين فَسمع فِيهَا عَن الأسيوطي عَن
الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي وَسمع فِي رحلته أَيْضا عَن أبي
الْعَبَّاس الْكِنْدِيّ وَلما قدم أَبُو زيد الْمروزِي إِلَى ذمار من أَرض الْيمن
ارتحل هَذَا الْفَقِيه إِلَيْهِ فَأخذ عَنهُ صَحِيح البُخَارِيّ وَأخذ عَن هَذَا
جمَاعَة أَعنِي الْفَقِيه عبد الله فَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ الْقَاسِم بن مُحَمَّد
الْقرشِي الْآتِي ذكره وَكَانَ من الْأَئِمَّة الْمَعْدُودين فِي الْيمن وَهُوَ
من الْمُتَقَدِّمين فِي نشر مَذْهَب الشَّافِعِي وَهَذَا جملَة مَا استطعته من
ذكر أَحْوَاله
وَقد عرض مَعَ ذكره جمَاعَة من الْأَعْيَان أَحْبَبْت
بَيَان اللَّائِق مِمَّا صَحَّ لدي من أخبارهم
أما أَبُو زيد
الْمروزِي فَلم يعرف بذلك أَعنِي الْإِسْلَام غير مُحَمَّد بن أَحْمد عبد الله
الْمروزِي صَاحب أبي إِسْحَاق ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي طبقاته وَقَالَ
كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب حسن النّظر فِيهِ مَشْهُورا بالزهد وَعنهُ أَخذ
فُقَهَاء مرو