Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (2)
Buku: As-Sulūk fī Ṭabaqāt al-‘Ulamā’ wa al-Mulūk Penulis: Muḥammad ibn Yūsuf ibn Ya‘qūb, Abū ‘Abd Allāh, Bahā’ al-Dīn al-Jundī, Al-Janadi al-Yamanī (meninggal 732 H)
Penerbit: Maktabat al-Irshād – Ṣan‘ā’ – 1995 M
Edisi: Kedua
Penyunting: Muḥammad ibn ‘Alī ibn al-Ḥusayn al-Akwā‘ al-Ḥawālī
Jumlah Jilid: 2
[Penomoran buku sesuai dengan edisi cetak]
Halaman Penulis: [al-Jundī, al-Janadi, Bahā’ al-Dīn]
Book: As-Sulūk fī Ṭabaqāt al-‘Ulamā’ wa al-Mulūk
Author: Muḥammad ibn Yūsuf ibn Ya‘qūb, Abū ‘Abd Allāh, Bahā’ al-Dīn al-Jundī al-Yamanī (d. 732 AH)
Publisher: Maktabat al-Irshād – Ṣan‘ā’ – 1995 CE
Edition: Second
Editor: Muḥammad ibn ‘Alī ibn al-Ḥusayn al-Akwā‘ al-Ḥawālī
Number of Volumes: 2
[Book numbering corresponds to the printed edition]
Author's Page: [al-Jundī, Al-Janadi Bahā’ al-Dīn]
Daftar Isi
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (1)
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (2)
الكتاب: السلوك في طبقات العلماء والملوك
المؤلف: محمد بن يوسف بن يعقوب، أبو عبد الله، بهاء الدين الجُنْدي الجَنَدِي اليمني (ت ٧٣٢هـ)
دار النشر: مكتبة الإرشاد - صنعاء - ١٩٩٥م
الطبعة: الثانية
تحقيق: محمد بن علي بن الحسين الأكوع الحوالي
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة المؤلف: [الجندي، بهاء الدين]
وَمِنْهُم الْقفال وَكَانَت وَفَاته بمرو سنة إِحْدَى وَسبعين وثلثمئة برجب
وَمِنْهُم الأسيوطي وَهُوَ أَبُو عَليّ الْحسن بن الْخضر الأسيوطي بَلَدا تفقه بالطحاوي
وَمِنْهُم أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَلامَة بن عبد الْملك الْأَزْدِيّ نسبا الطَّحَاوِيّ بَلَدا نِسْبَة إِلَى بلد اسْمهَا طحا بِفَتْح الطَّاء والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهِي بلد بصعيد مصر مولده سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَقيل سنة سبع وَعشْرين ومئتين وَهُوَ ابْن أُخْت الْمُزنِيّ وَكَانَ قد تفقه عَلَيْهِ بِمذهب الشَّافِعِي فَذكرُوا أَنه غضب عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ وَالله لَا أفلحت أَو لَا جَاءَ مِنْك شَيْء فَغَضب لذَلِك وانتقل إِلَى صُحْبَة أبي جَعْفَر بن أبي عمرَان الْحَنَفِيّ واشتغل عَلَيْهِ بمذهبه وَصَارَ صَدرا فِيهِ ورأسا ودرس وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة أَصْحَاب أبي حنيفَة بِمصْر وصنف فِي مَذْهَبهم كتبا مفيدة وَمَعَ ذَلِك كَانَ لَهُ شعر رائق مِنْهُ مَا كتبه جَوَابا لأبيات وَردت إِلَيْهِ وَهِي ... أَبَا جَعْفَر مَاذَا تَقول فَإِنَّهُ ... إِذا نابنا خطب عَلَيْك نعول
وَلَا تنكرن قولي وأبشر برحمة ... من الله فِي الْأَمر الَّذِي عَنهُ نسْأَل
أَفِي الْحبّ عَار لَا بل الْعَار تَركه ... وَهل من لحا أهل الصبابة يجهل
وَهل من مُبَاح فِيهِ قتل متيم ... يهاجره أحبابه ويواصل
فرأيك فِي رد الْجَواب فإنني ... بِمَا فِيهِ يقْضى أَيهَا الشَّيْخ أفعل ... فَأجَاب عَنهُ فِي ظهر الرقعة الْوَاصِلَة ... سأقضي قَضَاء فِي الَّذِي عَنهُ تسْأَل ... وَأحكم بَين العاشقين فأعدل
فديتك مَا فِي الْحبّ عَار عَلمته ... وَلَا الْعَار ترك الْحبّ إِن كنت تعقل
وَلكنه إِن مَاتَ فِي الْحبّ لم يكن ... لَهُ قَود عِنْدِي وَلَا مِنْهُ يعقل
وَمهما لحا فِي الْحبّ لَاحَ فَإِنَّهُ ... لعمرك عِنْدِي من ذَوي الْجَهْل أَجْهَل
ووصلك من تهوى وَإِن صد وَاجِب ... عَلَيْك كَذَا حكم المتيم يفعل
فَهَذَا جَوَاب فِيهِ عِنْدِي قناعة ... لما جِئْت عَنهُ أَيهَا الشَّيْخ تسْأَل ... وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مَذْهَب الشَّافِعِي بِأَخْذِهِ لَهُ عَن خَاله وَإِن كَانَ قد شهر عَنهُ
الْخُرُوج فقد ثَبت لنا عَن جمَاعَة من الصُّدُور أَنه كَانَ يدرس المذهبين مَعَ غَلَبَة أَحدهمَا عَلَيْهِ
وَلما صَار صَدرا لمَذْهَب أبي حنيفَة كَانَ يَقُول رحم الله أَبَا إِبْرَاهِيم يَعْنِي خَاله لَو كَانَ حَيا لكفر عَن يَمِينه يَعْنِي قَوْله وَالله لَا أفلحت وَقد مضى
قَالَ شَيخنَا رَحمَه الله مَا أرَاهُ كَانَ يكفر عَنْهَا لِأَنَّهُ لم يفلح إِذْ المعتقد أَنه انْتقل من الصَّوَاب إِلَى الْخَطَأ فَمن يعْتَقد فِيهِ ذَلِك لم تجب الْكَفَّارَة على عدم فلاحه وَكَانَت وَفَاته يَعْنِي الطَّحَاوِيّ بِأحد شهور سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلثمئة
وَأما شيخ الطَّحَاوِيّ فِي الْمَذْهَب فَهُوَ أَبُو إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل بن يحيى بن إِسْمَاعِيل بن عَمْرو بن إِسْحَاق الْمُزنِيّ نِسْبَة إِلَى قَبيلَة من الْعَرَب تسمى مزينة بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء مثناة من تَحت وَفتح النُّون ثمَّ هَاء وهم جمع كثير وأصل بَلَده مصر وَكَانَ إِمَام الشَّافِعِيَّة وأعرفهم بمذهبه وأنقلهم لأقواله وَكَانَ زاهدا ورعا محجاجا مُجْتَهدا غواصا على دقائق الْفِقْه عَالما بجلائله
قَالَ الْأنمَاطِي قَالَ الْمُزنِيّ أَنا مُنْذُ خمسين سنة أنظر فِي كتاب الرسَالَة للشَّافِعِيّ مَا نظرت فِيهِ مرّة إِلَّا اسْتَفَدْت مِنْهُ فَائِدَة لم أستفدها قبل ذَلِك وَكَانَ كثير الْعِبَادَة لُزُوما للسّنة من أعرف النَّاس بِإِرَادَة الشَّافِعِي وفيا بِحَيْثُ يقدم نَقله عَنهُ على كل نقل وَذَلِكَ لعدالته وتحقيقه لمذهبه وَعنهُ وَبِه انْتَشَر مذْهبه انتشارا كَامِلا قَالَ الشَّافِعِي فِي حق الْمُزنِيّ نَاصِر مذهبي وَله عدَّة مصنفات مِنْهَا الجامعان الصَّغِير وَالْكَبِير ومختصر الْمُخْتَصر والمنثور والمسائل الْمُعْتَبرَة وَالتَّرْغِيب فِي الْعلم وَكتاب الوثائق وَكَانَ فِي أثْنَاء تصنيفه فِي كِتَابه الْمُخْتَصر كلما فرغ مَسْأَلَة قَامَ إِلَى الْمِحْرَاب وَصلى رَكْعَتَيْنِ شكرا لله وانتفع النَّاس بِهَذَا الْمُخْتَصر انتفاعا لم يكن لَهُ نَظِير وَأقَام أهل مَذْهَب الشَّافِعِي عَلَيْهِ عاكفين وَله دارسين وَبِه مطالعين دهرا ثمَّ كَانُوا بَين شَارِح مطول ومختصر مقلل والجميع مِنْهُم معترف أَنه لم يدْرك من حقائقه غير
الْيَسِير حَتَّى قَالَ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج الْآتِي ذكره يخرج مُخْتَصر الْمُزنِيّ من الدُّنْيَا بكرا لم يفتض لِأَنَّهُ كَانَ من أعرف النَّاس بِهِ وَكَانَ لَا يُفَارق حمله وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ بقوله ... صديق فُؤَادِي مُنْذُ عشْرين حجَّة ... وصيقل ذهني والمفرج عَن همي ... وهما بيتان يأتيان فِي تَرْجَمَة ابْن سُرَيج
وَكَانَ هَذَا الْمُخْتَصر أول مُصَنف صنف فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَكَانَ الْمُزنِيّ شَدِيد الْوَرع ذكرُوا أَنه أَقَامَ دهرا لَا يشرب إِلَّا بكوز من نُحَاس وَسُئِلَ عَن سَببه فَقَالَ بَلغنِي أَنهم يخلطون بالطين سرجينا فَلم تطب نَفسِي بالشرب مِنْهُ لِأَن النَّار لَا تطهره وَكَانَ مَتى فَاتَتْهُ صَلَاة الْجَمَاعَة صلى مُنْفَردا خمْسا وَعشْرين صَلَاة مستدركا لفضل الْجَمَاعَة ومستشهدا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة أحدكُم بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة ومناقب الْمُزنِيّ أجل من أَن تحصى وَكَانَت وَفَاته بِمصْر سنة أَربع وَسِتِّينَ ومئتين وَدفن على قرب من تربة الشَّافِعِي
وَقد انْتهى بَيَان اتِّصَال هَذَا الْفَقِيه بِإِمَام الْمَذْهَب وَلم يبْق إِلَّا الْعود إِلَى تَتِمَّة الْفُقَهَاء
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى بن سراقَة العامري نسبا الْمعَافِرِي بَلَدا
ارتحل إِلَى الْعرَاق وَأخذ بهَا عَمَّن أَخذ عَن ابْن اللبان الْفَرَائِض وَكَانَ إِمَامًا فِيهَا وَله فِيهَا مصنفات وَأدْركَ الشَّيْخ أَبَا حَامِد الإسفرائيني وَأخذ عَنهُ وَله مصنفات فِي الْفِقْه مِنْهَا مُخْتَصر سَمَّاهُ بِمَا لَا يسع الْمُكَلف جَهله وَآخر سَمَّاهُ آدَاب الشَّاهِد وَمَا يثبت بِهِ الْحق على الجاحد وَبِه تفقه جمَاعَة من أهل الْيمن
مِنْهُم أَبُو الْفتُوح بن ملامس الْآتِي ذكره وَلم يكن يذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي طبقاته من متأخري الْيمن غَيره أَعنِي ابْن سراقَة
وَقد عرض مَعَ ذكره رجلَانِ من الْأَعْيَان هما ابْن اللبان وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد فَأَما ابْن اللبان فَهُوَ أَبُو الْحسن بن اللبان قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي حَقه كَانَ إِمَامًا فِي
الْفَرَائِض وَالْفِقْه وَله مصنفات كَثِيرَة غالبها فِي الْفَرَائِض وَعنهُ أَخذ النَّاس فِي الْفَرَائِض فَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ أَبُو حَامِد بن أبي مُسلم الفرضي شيخ الْفَقِيه أبي حَامِد الإسفرائيني فِي الْفَرَائِض خَاصَّة وَابْن سراقَة وَأَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الكازروني الَّذِي لم يكن فِي عصره أفرض مِنْهُ وَلَا أَحسب مِنْهُ وَكَانَ الشَّيْخ ابْن اللبان يَقُول لَيْسَ فِي الأَرْض فَرضِي إِلَّا من أَصْحَابِي أَو أَصْحَاب أَصْحَابِي أَو لَا يحسن شَيْئا وَلم يذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق لَهُ تَارِيخا وَلَا تحققت من غَيره ذَلِك
وَأما الشَّيْخ أَبُو حَامِد فَهُوَ أَحْمد بن أبي الطَّاهِر مُحَمَّد بن أَحْمد الإسفرائيني مولده بِأحد شهور سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمئة بإسفرائين بَلْدَة من خُرَاسَان من نواحي نيسابور وإسفرائين بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَالرَّاء وَألف ثمَّ خفض الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ نون
قدم بَغْدَاد فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وتفقه بهَا تفقها جيدا وَفِي سنة سبعين رَأس ودرس وَأفْتى وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة أَصْحَاب الشَّافِعِي وَكَانَ إِمَام عصره وأوحد مصره
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي حَقه إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الدّين وَالدُّنْيَا بِبَغْدَاد وَكَانَت حلقته تجمع أَكثر من ثلثمئة متفقه وَله على الْمُخْتَصر تعاليق يحسن نظرها وطبق الأَرْض بالأصحاب وَله عدَّة مصنفات مِنْهَا التعليقة الْكُبْرَى ثمَّ الْبُسْتَان والرونق مختصران
قَالَ ابْن خلكان أجمع أهل عصره على تَقْدِيمه وتفضيله لجودة النّظر الفقهي حَتَّى قَالَ الْقَدُورِيّ أحد أَصْحَاب أبي حنيفَة الْمُتَأَخِّرين فِيمَا يُرَاجع بِهِ هُوَ وَبَعض الْفُقَهَاء الشَّيْخ أَبُو حَامِد عِنْدِي أفقه وَأنْظر من الشَّافِعِي
قَالَ جمَاعَة من الْأَصْحَاب الَّذين بَلغهُمْ قَول الْقَدُورِيّ إِنَّمَا قَالَ الْقَدُورِيّ مَا قَالَ تعصبا على الشَّافِعِي وَحسن اعْتِقَاده فِي الشَّيْخ أبي حَامِد فَإِن أَبَا حَامِد وَمن ناظره من الشَّافِعِي بِمَنْزِلَة كَمَا قَالَ الأول ... نزلُوا بِمَكَّة فِي قبائل نَوْفَل ... وَنزلت فِي الْبَيْدَاء أبعد منزل ...
وَكَانَت وَفَاته بِبَغْدَاد لَيْلَة السبت لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من شَوَّال سنة سِتّ وأربعمئة فَدفن بداره ثمَّ نقل إِلَى مَقْبرَة بَاب جرب سنة عشر وأربعمئة
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن المضرب سكن مَدِينَة زبيد وَكَانَ بهَا فُقَهَاء كَثِيرُونَ إِلَيْهِ ارتحل الْقَاسِم بن مُحَمَّد الْقرشِي من سهفنة كَمَا سَيَأْتِي وَأخذ الْفِقْه عَن رجل يُقَال لَهُ ابْن الْمثنى بِحَق أَخذه عَن الْمروزِي بِأَخْذِهِ عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي عَن ابْن سُرَيج عَن الْأنمَاطِي عَن الْمُزنِيّ وَالربيع كِلَاهُمَا عَن الشَّافِعِي
وَلما كَانَ ابْن المضرب شيخ الطَّبَقَة هُوَ وَالقَاسِم الْقرشِي أَحْبَبْت ذكر الْمُحَقق من أَحْوَاله وَبَيَان اتِّصَاله بِالْإِمَامِ كَمَا تقدم
وَأما ابْن الْمثنى فَلم أتحقق من أَحْوَاله شَيْئا
وَأما الْمروزِي فشيخه هُوَ أَبُو حَامِد أَحْمد بن عَامر بن بشر بن حَامِد الْمروزِي أحد عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة صنف الْجَامِع فِي الْمَذْهَب وَشرح الْمُخْتَصر وصنف فِي أصُول الْفِقْه وَسكن الْبَصْرَة وَعنهُ أَخذ فقهاؤها ونسبته إِلَى مرو الروذ الْبَلَد الَّتِي تقدم ذكرهَا عِنْد ذكر ابْن رَاهَوَيْه حِين ذكرته فِي من قدم على عبد الرَّزَّاق وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمئة
وَأما شَيْخه أَبُو إِسْحَاق فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن إِسْحَاق الْمروزِي كَانَ إِمَام عصره فِي الْفَتْوَى والتدريس وتفقه بِابْن سُرَيج كَمَا مضى وبرع فِي الْفِقْه
قَالَ ابْن خلكان فِي حَقه إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْفِقْه بالعراق بعد ابْن سُرَيج وصنف كتبا كَثِيرَة وَشرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ بِبَغْدَاد وصنف فِي الْأُصُول وَعنهُ أَخذ الْأَئِمَّة وانتشر الْفِقْه عَن أَصْحَابه فِي الْبِلَاد وَمن أحسن مَا ذكر عَنهُ من الشّعْر أَنه سمع مِنْهُ من يَقُول ... لَا يغلون عَلَيْك الْحَمد فِي ثمن ... فَلَيْسَ حمدا وَإِن أثمنت بالغالي
الْحَمد يبْقى على الْأَيَّام مَا بقيت ... وَيذْهب الدَّهْر بِالْأَيَّامِ وَالْمَال ...
وَخرج إِلَى مصر فِي آخر عمره فَتوفي بهَا لسبع خلون من رَجَب سنة أَرْبَعِينَ وثلثمئة وَدفن على قرب من تربة الشَّافِعِي
وَأما شَيْخه ابْن سُرَيج فَهُوَ أشهر أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة ميلاده سنة ثَمَان وَقيل سبع وَأَرْبَعين ومئتين قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي حَقه كَانَ من عُظَمَاء الشافعيين وأئمة الْمُسلمين حَتَّى كَانَ يُقَال لَهُ الباز الْأَشْهب ولي الْقَضَاء بشيراز وَهُوَ أول من وليه من أَصْحَاب الشَّافِعِي حَتَّى كَانُوا يعاتبونه وَيَقُولُونَ لَهُ لم يكن هَذَا يعرف فِي أَصْحَاب الشَّافِعِي إِنَّمَا كَانَ الْقَضَاء فِي غَيرهم وَكَانَ يفضل على أكَابِر الْأَصْحَاب حَتَّى على الْمُزنِيّ وَكَانَ لَا يزَال حَامِلا لمختصر الْمُزنِيّ فِي كمه وَفِيه يَقُول ... صديق فُؤَادِي مُنْذُ عشْرين حجَّة ... وصيقل ذهني والمفرج عَن همي
عَزِيز على مثلي إِعَارَة مثله ... لما فِيهِ من علم لطيف وَمن فهم
جموع لأصناف الْعُلُوم بأسرها ... حقيق على أَن لَا يُفَارِقهُ كمي ... واشتملت فهرست مصنفاته تزيد على أربعمئة مُصَنف وَقَامَ بنصرة مَذْهَب الشَّافِعِي قيَاما مرضيا ورد على مخالفيه وناظرهم وَبَالغ فِي ذَلِك وَفرع على كتب مُحَمَّد بن الْحسن وَكَانَ مُعظم مناظرته لأبي بكر بن دَاوُد الظَّاهِرِيّ حُكيَ أَنه قَالَ لَهُ يَوْمًا وهما فِي المناظرة أبلعني ريقي فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس أبلعتك دجلة وَقَالَ لَهُ يَوْمًا أُكَلِّمك من الرجل فتجيبني من الرَّأْس فَقَالَ لَهُ هَكَذَا الْبَقر إِذا حفيت أظلافها دهنت قُرُونهَا
وَقَالَ لَهُ يَوْمًا أمهلني سَاعَة فَقَالَ أمهلتك إِلَى يَوْم السَّاعَة
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْمُقدم ذكره يَقُول نَحن نجري مَعَ أبي الْعَبَّاس فِي ظواهر الْفِقْه دون دقائقه وَعَن ابْن سُرَيج أَخذ فُقَهَاء الْإِسْلَام وانتشر مَذْهَب الشَّافِعِي
فِي جَمِيع الْآفَاق وافتقد قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يبْعَث لهَذِهِ الْأمة على رَأس كل مئة من يجدد لَهَا معالم دينهَا
قَالَ ابْن خلكان فَكَانَ يُقَال فِي عصره إِن الله بعث عمر بن عبد الْعَزِيز على رَأس المئة من الْهِجْرَة فأظهر كل سنة وأمات كل بِدعَة وَمن الله على رَأس المئتين بِالْإِمَامِ الشَّافِعِي فأظهر السّنة وأخفى الْبِدْعَة وَمن الله تَعَالَى على رَأس الثلاثمائة بِأبي الْعَبَّاس بن سُرَيج فَقَوِيت بِهِ كل سنة وضعفت بِهِ كل بِدعَة وَذَلِكَ من ابْن خلكان إِشَارَة إِلَى الْخَبَر الْمُتَقَدّم
وَكَانَ لَهُ مَعَ فضائله نظم حسن هَكَذَا قَالَ ابْن خلكان وَكَانَت وَفَاته لخمس بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وثلثمئة بِبَغْدَاد وَدفن بسويقة غَالب بالجانب الغربي بِالْقربِ من محلّة الكرخ وعمره سَبْعَة وَخَمْسُونَ سنة وَسِتَّة أشهر
وَحكي أَن سَبَب الْبركَة فِيهِ أَن جده سُرَيج كَانَ رجلا صَالحا اشْتهر بالصلاح الوافر وَكَانَ رجلا أعجميا لَا يعرف من الْعَرَبيَّة شَيْئا فَرَأى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مَنَامه وَكَانَ لَهُ مِنْهُ خطاب قَالَ لَهُ فِي الْأَخير يَا سُرَيج طلب كن فَقَالَ يَا خداي سر بسر قَالَهَا ثَلَاثًا وَهَذَا لفظ أعجمي مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ يَا سُرَيج اطلب فَقَالَ يَا رب رَأس بِرَأْس كَمَا يُقَال رضيت أَن أخْلص رَأْسا بِرَأْس
وَأما شَيْخه الْأنمَاطِي فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عُثْمَان بن سعيد بن بشار الْأنمَاطِي نِسْبَة إِلَى الأنماط وَبَيْعهَا وَهِي الْبسط الَّتِي تفرش وَقيل اسْمه عبيد الله بن أَحْمد بن بشار قَالَه ابْن خلكان عَن أبي حَفْص عمر بن عَليّ المطوعي فِي كِتَابه الْمُهَذّب فِي ذكر أَئِمَّة الْمَذْهَب بعد أَن صدر كَلَامه بتسميته بعثمان تفقه بِمصْر على الْمُزنِيّ والمرادي
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كَانَ هُوَ سَبَب نشاط النَّاس بِبَغْدَاد لتحفظ كتب مَذْهَب الشَّافِعِي والمثابرة عَلَيْهَا وَبِه تفقه ابْن سُرَيج وَكَانَ إِمَامًا مُبَارَكًا كَبِيرا وَكَانَت وَفَاته بِبَغْدَاد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ ومئتين
وَأما شيخاه الْمُزنِيّ وَالربيع فالمزني قد تقدم ذكره فِي طبقَة الزّرْقَانِيّ وَأما الرّبيع فَهُوَ أَبُو مُحَمَّد الرّبيع بن سُلَيْمَان بن عبد الْجَبَّار بن كَامِل الْمرَادِي بِالْوَلَاءِ الْمُؤَذّن الْمصْرِيّ صَاحب الإِمَام الشَّافِعِي وراوي أَكثر كتبه قَالَ الشَّافِعِي فِي حَقه الرّبيع راويتي وَقَالَ مَا أَخذ مني أحد مَا أَخذ مني الرّبيع
وَكَانَ يَقُول يَا ربيع لَو أمكنني أَن أطعمك الْعلم لأطعمتك وَقَالَ دخلت على الشَّافِعِي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَعِنْده الْبُوَيْطِيّ والمزني وَابْن عبد الحكم فَنظر إِلَيْنَا ثمَّ قَالَ أما أَنْت يَا أَبَا يَعْقُوب يَعْنِي الْبُوَيْطِيّ فتموت فِي حديدك وَأما أَنْت يَا مزني فسيكون لَك فِي مصر هَنَات وهنات لتذكرن زَمَانا تكون فِيهِ أَقيس أهل زَمَانك وَأما أَنْت يَا ابْن عبد الحكم فنسترجع إِلَى مَذْهَب مَالك وَأما أَنْت يَا ربيع فَأَنت أنفعهم لي فِي نشر الْكتب فَلَمَّا مَاتَ صَار كل مِنْهُم إِلَى مَا قَالَه الشَّافِعِي حَتَّى كَأَنَّهُ ينظر إِلَى الْغَيْب من ستر رَقِيق
توفّي الرّبيع هَذَا بِمصْر يَوْم الِاثْنَيْنِ لعشر بَقينَ من شَوَّال سنة سبعين ومئتين وَقد شرك هَذَا فِي الاسمية وصحبة الشَّافِعِي ربيع آخر هُوَ أَبُو مُحَمَّد الرّبيع بن سُلَيْمَان بن دَاوُد الْأَعْرَج الْأَزْدِيّ بِالْوَلَاءِ نسبا الجيزي بَلَدا فاتفقا فِي الكنية والاسمية والأبوة وَاخْتلفَا بالأجداد تَسْمِيَة وَنسبَة كَمَا هُوَ مشَاهد فالجيزي نِسْبَة إِلَى الجيزة بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَبعدهَا زَاي ثمَّ هَاء بَلْدَة قبالة مصر يفصل بَينهمَا عرض النّيل والأهرام الْبناء الْمَشْهُور فِي حَدهَا وَكَانَ الرّبيع هَذَا قَلِيل الرِّوَايَة عَن الشَّافِعِي وَجل رِوَايَته عَن عبد الله بن عبد الحكم وَكَانَ ثِقَة روى عَنهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ وَخمسين
ومئتين وَلم أورد ذكره إِلَّا لِأَنَّهُ كثيرا مَا يشْتَبه بِالربيعِ الْمرَادِي وَكنت مِمَّن يَقع عَلَيْهِ ذَلِك وَقد انْتهى اللَّائِق من الطَّبَقَة الثَّانِيَة من أهل الْيمن أَعنِي من الَّذين انْتَشَر عَنْهُم مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي
وَمِمَّنْ قدم زبيد وَصَارَ لَهُم ذكر فِي الْعلم وذرية يشهرون بِهِ فِي طبقَة ابْن المضرب وَقَبله الْقُضَاة بَنو أبي عقامة فَأَما جدهم القادم فَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن هَارُون وَقد مضى بَيَان حَاله قبل ذكر الشَّافِعِي وَلَا أعلم مَا كَانَ مذْهبه وَإِن كنت قدمت ذكره فِي الطَّبَقَة وَلم أتحقق من كَانَ فِي طبقَة ابْن المضرب مِنْهُم من تحققت ذكر الْحسن وَجَمَاعَة يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن طبقَة الْحسن مُتَأَخِّرَة إِذْ كَانَ وجوده فِي آخر المئة الْخَامِسَة كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمن المعافر عبد الْعَزِيز بن الربحي من حرازة قَرْيَة بالمعافر بِضَم الْحَاء وَفتح الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ ألف وَفتح الزَّاي ثمَّ هَاء سَاكِنة صحب أَبَا عمرَان الْمَذْكُور أَولا وتفقه بِهِ وَهُوَ أحد شُيُوخ الْقَاسِم أَخذ عَنهُ كتاب الْمُنْتَقى فِي سنة تسعين وثلثمئة
وَقد انْقَضى ذكر من تحققته أَهلا للذّكر لم يبْق إِلَّا الطَّبَقَة الثَّالِثَة من أهل مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي
فأبدأ بِالْإِمَامِ المشتهر الْبركَة وَهُوَ الَّذِي عَمت بركته واشتهرت رئاسته أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد بن عبد الله الجُمَحِي الْقرشِي ثمَّ السهفني وَالنِّسْبَة الأولى ظَاهِرَة
وَأما الثَّانِيَة فنسبة إِلَى قَرْيَة السهفنة قبلي الْجند على ثلث مرحلة مِنْهَا بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْفَاء وَالنُّون ثمَّ هَاء سَاكِنة وَفِي النَّاس من يحذف
الْهَاء الأولى وَهِي مولد الْفَقِيه الْمَذْكُور إِذْ خرج أَهله من مَكَّة لاخْتِلَاف وَقع بَين مُلُوكهمْ فسكنوا الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَخذ فِي بدايته عَن عبد الله بن عَليّ الزّرْقَانِيّ ثمَّ انْتقل إِلَى زبيد فَأخذ عَن ابْن المضرب وَعَاد الْجَبَل فَأخذ عَن ابْن ربحي صَاحب حرازة الْمُقدم ذكره وتدير قريته سهفنة وَهِي إِحْدَى قرى الْجبَال الْمَقْصُودَة لطلب الْعلم من عصر هَذَا الرجل إِلَى عصرنا لم تكد تَخْلُو عَن فَقِيه مدرس وطلبة مجتهدين حَتَّى استولى عَلَيْهَا بعض الصعبيين فصرف وَقفهَا فِي غير وَجهه فصرف الله عَنهُ الْبركَة وَلم يبْق بهَا فَقِيه من أَهلهَا وَلَا غَيرهم لاستيلاء من لَا نظر لَهُ على مَا وقف لمدرس ودرسة فَلَمَّا صَار الْقَاسِم يدرس اشْتهر ذكره وَعلا قدره وقصده طلبة الْعلم من جَمِيع أنحاء الْيمن
قَالَ ابْن سَمُرَة قَصده الطّلبَة من صنعاء ونواحيها والجند ونواحيها وعدن وَأبين ولحج ونواحيها وَمن المعافر والسحول وأحاظة وَجَمَاعَة من نَاحيَة بَلَده من مخلاف جَعْفَر كوادي ظبا وشقب وبحرانه ونواحي هَذِه الْأَمَاكِن
وَكَانَ هَذَا الْقَاسِم من عُلَمَاء الْيمن وعظمائهم انْتَشَر عَنهُ الْمَذْهَب انتشارا كَامِلا وطبق الأَرْض بالأصحاب لم يكن لأحد فِي الْمُتَقَدِّمين من أهل الْيمن أَصْحَاب كأصحابه كَثْرَة وفضلا
من أعيانهم إِسْحَاق العشاري وَعبد الْملك بن أبي ميسرَة المعافريان وجعفر بن عبد الرَّحِيم من الظرافة وَعمر بن المصوع وَولده عبد الله وَأَبُو الْمَوْت من ذِي السفال وَأَيوب بن مُحَمَّد بن كديس من ظبأ وَإِبْرَاهِيم بن أبي عمرَان من الملحمة وأسعد بن خَلاد وَمُحَمّد بن سَالم الأشرقيان
وَلما أَرَادَ ابْن سَمُرَة إِفْرَاد ذكره قَالَ يَنْبَغِي أَن أبدأ بطبقة الإِمَام الَّذِي أيد الله بِهِ
الْمُسلمين وعضد بِهِ الدّين الإِمَام الْعَارِف أبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَحج الْقَاسِم سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلثمئة فرافقه فِي سَفَره ذَلِك أَحْمد بن عبد الله الصعبي جد قُضَاة سهفنة فلقي بهَا أحد المراوزة فَأخذ عَنهُ وَعَن الْحُسَيْن بن جَعْفَر المراغي ثمَّ سألاه الْقدوم مَعَهُمَا إِلَى الْيمن وبذلا لَهُ الْقيام بِمَا يَحْتَاجهُ فأجابهما إِلَى ذَلِك وأخذا عَنهُ مُخْتَصر الْمُزنِيّ وسننه وَسنَن الرّبيع وَثمّ تواليف ألفها الْحُسَيْن فِي علم الْكَلَام مِنْهَا كتاب سَمَّاهُ السَّبْعَة الأحرف وَغَيره وَكَانَت وَفَاته بالقرية الْمَذْكُورَة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وأربعمئة وقبر بمقبرتها الشرقية تَحت أكمة حَمْرَاء هُنَالك وهنالك قُبُور كَثِيرَة بِحَيْثُ لَا يكَاد يعرف قَبره لتقادم الزَّمَان وَالْمَسْجِد الَّذِي على المخلف من سهفنة إِلَى غيلها وَيعرف مَسْجِد قَاسم نِسْبَة إِلَيْهِ هَكَذَا سَمِعت جمَاعَة من قدماء الْقرْيَة
وَمِنْهَا أَحْمد بن عبد الله الصعبي رَفِيق الْقَاسِم فِي طَرِيق مَكَّة الْمُقدم ذكره توفّي تَقْرِيبًا على رَأس أربعمئة
وَمن مخلاف جَعْفَر ثمَّ من المشيرق جمَاعَة مِنْهُم بعزلة القرانات بَنو ملامس أَوَّلهمْ أَبُو الْفَتْح يحيى بن عِيسَى بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن ملامس كَانَ من أَعْيَان الْعلمَاء وأكابر الْفُضَلَاء تفقه بِابْن سراقَة وبالمراغي الْمَذْكُورين أَولا ثمَّ حج وَأقَام بِمَكَّة أَربع سِنِين أَو نَحْوهَا شرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ فِي إِقَامَته بذلك ذكر الْأَصْحَاب أَنه شرح مُفِيد وَهُوَ يُوجد بِالْيمن وَكَانَ ذَا مَال كثير تزوج فِي إِقَامَته بِمَكَّة سِتِّينَ امْرَأَة وَلما عزم ابْنه على الْحَج استأذنه فِي الْمُجَاورَة فَقَالَ لَهُ بِشَرْط أَنَّك مَتى أردْت النِّكَاح لَا تتَزَوَّج إِلَّا بكرا فإنني لَا آمن أَن تتَزَوَّج من كنت قد تَزَوَّجتهَا
حكى ابْن سَمُرَة أَنه قَالَ رَأَيْت بِمَكَّة الشَّيْخ أَبَا حَامِد الإسفرائيني وَعَلِيهِ ثِيَاب
من ثِيَاب الْمُلُوك وَله مركب من مراكبهم وَالنَّاس تعظمه فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطّواف إِذْ سمع قَارِئًا يقْرَأ {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا} الْآيَة فَبكى عِنْد ذَلِك وَقَالَ اللَّهُمَّ أما الْعُلُوّ فقد أردناه وَأما الْفساد فَلم نرده قَالَ ثمَّ حضرت مَعَه مجْلِس مذاكرته فَألْقى عَليّ سِتِّينَ مَسْأَلَة فأجبته عَن الْجَمِيع غير مكترث وَلَا مخيب بقولين عَن وَجْهَيْن وَلَا بِوَجْهَيْنِ عَن قَوْلَيْنِ ثمَّ استأذنته بالإلقاء عَلَيْهِ فَأذن لي فَكَانَ كثيرا مَا يجيبني بِمَسْأَلَة الْقَوْلَيْنِ بِوَجْهَيْنِ وَتارَة بِالنَّصِّ وَتارَة بِالنّظرِ ثمَّ لما علم أَنِّي استقصرت حفظه قَالَ لي مَا أَنْت إِلَّا ذكي فطن فاهم تصلح لطلب الْعلم فَهَل لَك أَن تروح معي بَغْدَاد وأجعلك ملقى مدرستي وأعز أَصْحَابِي عِنْدِي فَلم أَزْد على شكره فِي تَحْسِين قَوْله إجلالا للْعلم وَأَهله واعتذرت بِأَنِّي لم أخرج عَن بلدي بِهَذِهِ النِّيَّة وَكَانَت وَفَاة هَذَا الرجل بِبَلَدِهِ الْمَذْكُور بعد عشْرين وأربعمئة تَقْرِيبًا وتوارث ذُريَّته الْعلم مُدَّة وَلم يكد يعلم مِنْهُم أحد فِي عصرنا سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة وَلَقَد بحثت عَن ذَلِك وَقت دخلت بَلَده سنة عشر وسبعمئة فَلم أجد وَلَا وجدت من يُحَقّق لي تربته لقدم الْعَهْد بِهِ وبذريته وكتبهم يُوجد الْبَعْض بأيدي ذُرِّيَّة الْهَيْثَم وَالْبَعْض مَعَ غَيرهم
والمشيرق على زنة مفيعل تَصْغِير مشرق بالشين الْمُعْجَمَة والقرانات صقع مِنْهُ بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ نون مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ تَاء مثناة من فَوق وَمن قَرْيَة السحي وَهِي أَيْضا من المشيرق بِفَتْح السِّين وخفض الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت
وَمِنْهُم جمَاعَة أَوَّلهمْ أَبُو سعيد الْهَيْثَم بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن المشيع عبد الله بن ناكور الكلَاعِي ثمَّ الْحِمْيَرِي من ولد أحاظة والمشيع بِضَم
الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ عين مُهْملَة وناكور وزن فاعول مولده لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من الْمحرم سنة سبع وَسِتِّينَ وثلثمئة وتفقه بالمراغي وَكَانَ فَقِيها مَشْهُورا بِالْعلمِ وَله ذُرِّيَّة بورك بهَا مَا لم يُبَارك فِي غَيرهَا من ذَرَارِي الْفُقَهَاء لَا تكَاد تَخْلُو من فَقِيه يُفْتِي وحاكم يقْضِي ومدرس يقرىء وهم حكام بلدهم يتوارثون ذَلِك بَطنا بعد بطن وخلت الْقرْيَة الْمَذْكُورَة عَنْهُم من دهر طَوِيل لاخْتِلَاف عرب النَّاحِيَة فِيمَا بَينهم فانتقلوا إِلَى قَرْيَة تعرف بالحجفة ثمَّ سَار بَعضهم إِلَى مَوضِع آخر ابتنى فِيهِ مسكنا وَسَماهُ الجرينة فَالْأولى بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وَفتح الْفَاء ثمَّ هَاء سَاكِنة وَالْأُخْرَى بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح النُّون ثمَّ هَاء وَلم أَقف لَهُ على تَارِيخ وَفَاته
وَمِمَّنْ ورد الْيمن وانتفع بِهِ فِيهَا وعد من أَهلهَا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن جَعْفَر بن مُحَمَّد المراغي الَّذِي ذكرت أَولا أَنه قدم مَعَ الْقَاسِم بسؤال مِنْهُ إِلَى سهفنة وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْأَصْحَاب وانتفعوا بِهِ وَحصل بَينه وَبَين ابْن سراقَة منافرة لكَلَام نقل بَينهمَا وَكَانَ متضلعا بالفقه والأصولين وَله كتاب فِي الْفِقْه سَمَّاهُ الْحُرُوف السَّبْعَة ضمنه الرَّد على الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من أهل الْبدع وَله كتاب فِي الْفِقْه سَمَّاهُ التَّكْلِيف وَآخر مُخْتَصر سَمَّاهُ مَا لم يسع الْمُكَلف جَهله من علم الصَّلَاة ومختصر آخر يتَضَمَّن المعتقد وجدته وعلقته فَوَجَدته مُوَافق لمعتقد السّنة إِلَّا مَسْأَلَة راجعت فِيهَا بعض الأكابر لَعَلَّهَا أدخلت عَلَيْهِ فقد فعل أهل الضلال وأعداء السّنة ذَلِك مَعَه وَمَعَ كثير من الْفُضَلَاء فِي مصنفاتهم كَمَا فعل الشَّيْطَان فِي شَيْء من الْوَحْي حِين نزلت
سُورَة {النَّجْم إِذا هوى} وَسكن آخر عمره بالوادي الْمَعْرُوف بوادي الْحَاجِب وَتُوفِّي بِإِحْدَى قريتين السُّرَّة أَو الفهنة وَكَانَ قد اشْترى بهَا أَرضًا كَثِيرَة وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا بل زَمَنه مَأْخُوذ من زمن الْقَاسِم وَابْن ملامس والهيثم فَإِنَّهُم تلاميذه فَاعْلَم ذَلِك
وَمن تهَامَة ثمَّ من قَرْيَة المعقر وَهِي قَرْيَة على وَادي ذؤال أحدثها الْحُسَيْن بن سَلامَة كَمَا سَيَأْتِي ذكره وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف ثمَّ رَاء كَانَ فِيهَا جمَاعَة فُقَهَاء يعْرفُونَ بآل أبي الطلق ذكرهم عمَارَة فِي مفيده وَأثْنى عَلَيْهِم وَقَالَ هم بَيت علم وَصَلَاح وَرُوِيَ عَن رجل مِنْهُم اسْمه إِبْرَاهِيم وَقَالَ وَكَانَ وجودهم فِي آخر المئة الثَّالِثَة وَصدر الرَّابِعَة وَلم أتحقق مِنْهُم من يَنْبَغِي أَمر آخِره بل ذكر عمَارَة جمَاعَة مِمَّن ذكرته لاغير ثمَّ صَار الْعلم فِي طبقَة أُخْرَى وغالبها أَصْحَاب الْمَذْكُورين فِيمَن مضى فأعلاهم رُتْبَة وَأَكْثَرهم نشرا للْعلم أَصْحَاب الْقَاسِم
مِنْهُم أَبُو عبد الله جَعْفَر بن عبد الرَّحِيم المحابي وَقيل جَعْفَر بن أَحْمد بن
مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم المحابي ثمَّ الكلَاعِي تفقه بالقاسم غَالِبا ثمَّ بِابْن ملامس وغالب شهرته بِالْأَخْذِ عَن الْقَاسِم وَكَانَ فَقِيها عَارِفًا محققا مبرهنا للنصوص نقالا لَهَا محققا مدققا مَسْكَنه قَرْيَة الظرافة قَرْيَة هِيَ شَرْقي الْقرْيَة الَّتِي تعرف بسهفنة الْمُقدم ذكرهَا وَهِي بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة الْقَائِمَة وَفتح الرَّاء ثمَّ ألف وَفتح الْفَاء ثمَّ هَاء وَكَانَ مَعَ سَعَة علمه عابدا مَشْهُورا بالصلاح وَالْعلم وَشدَّة الْوَرع مَذْكُور وَكَانَ كثير التَّرَدُّد من بَلَده إِلَى مَدِينَة الْجند رَغْبَة فِي زِيَارَة مَسْجِدهَا ومراجعة علمائها والجند يَوْمئِذٍ بأيدي الكرنديين مُلُوك يَأْتِي ذكرهم وَكَانَ النَّائِب لَهُم فِيهَا رجل فِيهِ خير وَعبادَة يصحب الْفُقَهَاء ويحبهم وَكَانَ لَهُ بالفقه عقيدة جَيِّدَة فَلم يزل يتلطف بالفقيه ويسأله أَن يسكن مَعَه فِي الْجند وَيحسن لَهُ ذَلِك بِالْقربِ للنَّاس بالفتوى والتدريس والجند إِذْ ذَاك أعمر مَدِينَة بالجبال وأكثرها أَهلا وَلم يكن للفقيه إِذْ ذَاك أهل وَلم يكن لَهُ إِذْ ذَاك نظر فِي الْعلم وَهُوَ رَأس الْفُقَهَاء حِينَئِذٍ إِلَيْهِ تَنْتَهِي الْفَتْوَى فَلَمَّا كثر من الْوَالِي مُلَازمَة الْفَقِيه أَجَابَهُ بِشَرْط أَن لَا يكلفه الحكم وَشرط أَن لَا يَدعُوهُ إِلَى منزله وَإِن دَعَاهُ لم يكلفه إِلَى أكل الطَّعَام فالتزم الْوَالِي ذَلِك فَنزل الْفَقِيه إِلَى الْجند وسكنها فَذكر أَنه حدث للوالي حَادث أوجب دَعْوَة النَّاس إِلَى منزله فاستدعاهم والفقيه فِي جُمْلَتهمْ فَلَمَّا صَارُوا على الطَّعَام والفقيه مُمْسك يَده نَاوَلَهُ الْوَالِي موزة أَو قَالَ اثْنَتَيْنِ وَقَالَ يَا سَيِّدي الْفَقِيه هَذَا موز أهداه إِلَيّ فلَان لرجل يعرف بِالْحلِّ وتطيب نفس الْفَقِيه بِأَكْل طَعَامه فاستحياه الْفَقِيه وَأخذ الْحبَّة فَجعل مَا أمكن فِي فِيهِ ثمَّ خرج مبادرا موحدا أَن ثمَّ عذرا يُوجب الْخُرُوج وَلما صَار فِي الدهليز أخرج الْحبَّة من بَاطِنه ثمَّ صَار إِلَى بَيته وَلم يزل مُقيما بالجند إِلَى أَن قدم الصليحي سنة أَربع أَو خمس وَخمسين وأربعمئة فَلَمَّا صَار بدار الْملك فِيهَا دخل فُقَهَاء الْجند للسلام عَلَيْهِ والفقيه من جُمْلَتهمْ وَكَانَ قد استخبر عَنْهُم استخبارا محققا وَعرف حَال الْفَقِيه وَعلمه وصلاحه وَأَنه رَأس الْفُقَهَاء وَبِه يقتدون وَإِلَيْهِ ينتهون فَلَمَّا صَار الْفُقَهَاء عِنْده بحث عَن الْفَقِيه فَلَمَّا تحقق أمره قَالَ يَا فَقِيه الْقَضَاء مُتَعَيّن عَلَيْك ونريد مِنْك أَن تقبل فَقَالَ الْفَقِيه لَا أصلح لَهُ وَلَا يصلح لي أَو كَمَا قَالَ فَأَعْرض عَنهُ مغضبا حَيْثُ لم يقبل مِنْهُ واشتغل
بِالْحَدِيثِ مَعَ بعض حاضري مَجْلِسه فبادر الْفَقِيه وَخرج مبادرا وَلم يعرج على شَيْء وَأخذ طَرِيق قريته مجدا فِي السّير ثمَّ إِن الصليحي سَأَلَ عَنهُ فَقيل إِنَّه خرج فَأمر بِطَلَبِهِ فَلم يُوجد فِي الْمَدِينَة فَأمر جمَاعَة يلحقونه إِلَى بَلَده وَأَن يقعوا بِهِ فَخرج جمَاعَة من السرعان فأدركوه على قرب الْقرْيَة وجدلوه بسيوفهم وضربوه بهَا فَلم تقطع بِهِ شَيْئا غير أه من شدَّة ألم الضَّرْب وتكرره وَقع على الأَرْض مغشيا عَلَيْهِ فبادروا الْعود لِئَلَّا يلحقهم أَو يراهم أحد وظنوا مَوته وَأخذُوا شَيْئا من ثِيَابه ليتوهم أَنهم حَرْب وَلما وصلوا إِلَى الصليحي أَخْبرُوهُ بِمَا فعلوا وَأَن سيوفهم لم تقطع بِهِ وَأَنَّهُمْ فارقوه مَيتا فَأَمرهمْ بكتم ذَلِك وَلم يزل الصليحي مُدَّة حَيَاته يعظم أمره ويحترمه وَيَقُول لَيْسَ فِي أهل السّنة مثله ويشفعه فِيمَن يشفع ويحترم أَصْحَابه ويعفي أراضهيم من الْخراج إحسانا وتألفا لباطن الْفَقِيه ولسائر الْفُقَهَاء وليظنوا بِهِ خيرا ثمَّ إِن بعض من حسب وجد الْفَقِيه مغشيا عَلَيْهِ فاصطاح بِالنَّاسِ فَأَسْرعُوا إجَابَته فوجدوا الْفَقِيه مغشيا عَلَيْهِ لما بِهِ فَحَمَلُوهُ إِلَى منزله ورشوه بِالْمَاءِ فأفاق فَسَأَلُوهُ عَن قَضيته فَقَالَ وَمَا هُوَ الْخَبَر فَقيل لَهُ إِنَّهُم ضربوك بسيوفهم فَلم تقطع فَمَا الَّذِي كنت تقْرَأ فَقَالَ كنت أَقرَأ سُورَة ياسين وَقيل إِن بعض من يخْتَص بالفقيه قَالَ لَهُ سَأَلتك بِاللَّه إِلَّا مَا أَخْبَرتنِي كَيفَ لم تقطع سيوفهم بك وَلم تألم فَقَالَ جَاءُونِي وَقد أَحرمت بِالصَّلَاةِ فَلم أشعر بفعلهم وَمن الله عَليّ بالعافية والسلامة
وَكَانَ لهَذَا الْفَقِيه مُصَنف يُسمى الْجَامِع وَهُوَ من الْكتب المعدودة من الْخلاف وَآخر يُسمى التَّقْرِيب وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا على رَأس سِتِّينَ وأربعمئة
وَمِنْهُم أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق العشاري أسمي بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يُحَقّق عشرَة عُلُوم وَهُوَ مَعْدُود فِي أَصْحَاب الْقَاسِم أَيْضا وَقد مضى وَكَانَ يعرف بالمعافري إِذْ هِيَ بَلَده وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْفِقْه بهَا وَعنهُ أَخذ فقهاؤها
وَمِنْهُم أَبُو حَفْص عمر بن إِسْحَاق بن المصوع من قَرْيَة تعرف بِذِي السفال على مرحلة من قبلي الْجند وعَلى نصفهَا من قبلي سهفنة الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَولا وَهِي إِحْدَى الْقرى الْمَذْكُورَات بالفقه خرج مِنْهَا جمَاعَة شهروا بالفقه الْمُحَقق وَالصَّلَاح الْكَامِل يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم وضبطها بذال مُعْجمَة مخفوضة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ سين مُشَدّدَة مُهْملَة مَضْمُومَة قبلهَا ألف وَلَام ثمَّ فتح الْفَاء ثمَّ ألف وَلَام وَقد يحذف بَعضهم لفظ ذِي كَانَ هَذَا كَبِير الْقدر شهير الذّكر مَعْرُوفا بِالْعلمِ وَالصَّلَاح وَكَانَ ذَا دنيا متسعة أَمْلَاك أراض وَغَيرهَا وَذكروا أَن غَالب الصوافي الْقَدِيمَة بِذِي السفال لَهُ وَإِنَّمَا صَارَت صوافي لما قتل وَلَده أَخا الْمفضل وللفقيه هَذَا مُصَنف فِي فروع الْفِقْه سَمَّاهُ الْمَذْهَب بِضَم الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة نقل عَنهُ شَيْخي أَبُو الْحسن الأصبحي فِي تَصْحِيحه وَأخْبر الثِّقَة أَن الْفَقِيه الإِمَام أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل كَانَ قل أَن يَأْتِيهِ أحد من أهل الْجبَال إِلَّا وَسُئِلَ عَن الْكتاب ووجوده وَله مُصَنف آخر سَمَّاهُ الْجَامِع
وَلما كَانَ فِي سنة ثَلَاث عشرَة وسبعمئة قدمت قريته وَأَنا إِذْ ذَاك أبالغ فِي الْبَحْث عَن أَخْبَار الْفُقَهَاء وأعلق مَا صَحَّ لي مِنْهَا وَلم يكن ابْن سَمُرَة ذكر لهَذَا تَارِيخا بداية وَلَا نِهَايَة فبحثت عَن ذَلِك فَقيل لي إِنَّه توفّي مُتَقَدما وَلَا يعرف لَهُ علم فَسَأَلت فَقِيه الْقرْيَة عَن قَبره لعَلي أتبارك بزيارته فَسَار بِي إِلَى مَوضِع شَبيه السدر وَقَالَ ذكر لنا المتقدمون من أهل الْبَلَد عَن أمثالهم أَن قَبره بِهَذَا الْمَكَان فقرأنا بَعْضنَا مَا يقرأه الزائرون ثمَّ جعلنَا ثَوَابه لَهُ ودعونا لأنفسنا وَلم يذكر ابْن سَمُرَة لَهُ وَلَا للفقيه جَعْفَر تَارِيخا بل ذكرت تَارِيخه من وجوده أَيَّام قدوم الصليحي الْجند وَهَذَا الْفَقِيه من أترابه
وَمِنْهُم أَبُو الْخَيْر أَيُّوب بن مُحَمَّد بن كديس بِضَم الْكَاف وَفتح الدَّال وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ سين مُهْملَة مَسْكَنه قَرْيَة ظباء وَهِي مَا بَين ذِي السفال وسهفنة القريتين المذكورتين أَولا وَهِي إِلَى ذِي سفال أقرب وَهِي من الْقرى المعدودات فِي بِلَاد الْجبَال بِكَثْرَة الْفُقَهَاء وَهِي بَاقِيَة إِلَى الْآن بهَا جمَاعَة يسكنونها غير فُقَهَاء وَبهَا جَامع يقْصد للتبرك يُقَال إِنَّه بني على زمن عمر بن الْخطاب وبأمره وَفِيه جب للْمَاء من ذَلِك الزَّمن من رَغْبَة أهل الْقرْيَة فِيهِ ومحبتهم لَهُ بنوا عَلَيْهِ وقضضوه وَهُوَ مَسْجِد معتدل بِهِ مِنْبَر لطيف أَيْضا دَخلته مرَارًا لغَرَض الزِّيَادَة والتبرك وَإِجْمَاع أهل النَّاحِيَة على بركته وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه رجلا صَالحا مُبَارَكًا ذَا إِسْنَاد عَال وَله على من قَصده من الطّلبَة إفضال وتفقه بالقاسم وَقد ذكر وَكَانَ يقْرَأ الْعلم ويقري الطَّعَام
وَلما حج أدْرك بِمَكَّة الْحَافِظ عبد بن أَحْمد الْهَرَوِيّ فَأخذ عَنهُ كثيرا من مسموعاته وَذَلِكَ سنة سبع وأربعمئة وَكَانَ يُنَادي فِي الْمَوْسِم لَهُ من أَرَادَ الْوَرق وَالْوَرق الأول بِفَتْح الرَّاء وَالثَّانِي بخفضها وَالسَّمَاع العالي فَعَلَيهِ بِأَيُّوب بن مُحَمَّد بن كديس إِلَى قلعة ظباء من أَرض الْيمن وَلَعَلَّ الْفَقِيه كَانَ يسكن القلعة وَهِي بِقرب قَرْيَة ظباء بِضَم الظَّاء الْقَائِمَة الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَذَلِكَ أَنَّهُمَا بمَكَان وَاحِد ومحارثهما وَاحِدَة
وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا على رَأس عشر وأربعمئة وَلم يُحَقّق ابْن سَمُرَة ذَلِك وَلَا غَيره وَمِنْهُم أَبُو الْمَوْت لم أتحقق من حَاله شَيْئا وَلَا تَسْمِيَته لِأَن ابْن سَمُرَة لم يسمه غير بِأبي الْمَوْت وَذكر أَنه لم يتَحَقَّق من نَعته شَيْئا وَذكر بعض من رَأَيْته قد علق شَيْئا من
أَحْوَاله أَنه كَانَ فَقِيها مُحدثا وَقد عددته فِي أَصْحَاب الْقَاسِم وَمِمَّا وجدته فِي شَيْء من كتب الْفُقَهَاء بني مقبل الْآتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله وَفِي نُسْخَة بلغ مِنْهَا مَا مِثَاله روى الشَّيْخ سَالم بن مهرام عَن أَحْمد بن عبد الْعَزِيز عَن الْفَقِيه أبي الْمَوْت يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى يَسْتَوْفِي حُقُوقه على يَد من لَا يسْتَحق الِاسْتِيفَاء للحقوق عِنْد عدم الْأَئِمَّة
قَالَ الْفَقِيه أَبُو الْمَوْت وَدَلِيل صِحَة الْخَبَر أَن أهل الْمشرق لما تركُوا الصَّلَاة سلط الله عَلَيْهِم الْقَتْل فِيمَا بَينهم وَهُوَ حد تَارِك الصَّلَاة بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ترك الصَّلَاة حل قَتله وَأَن أهل جبال تهَامَة واليمن لما تركُوا الزَّكَاة سلط الله عَلَيْهِم سلاطين الْجور يَأْخُذُونَ أَمْوَالهم وَذَلِكَ حد تَارِك الزَّكَاة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي من غل الزَّكَاة فَإنَّا نأخذها وشطرا من مَاله قَالَ الْفَقِيه فَإِن قيل إِنَّمَا يتْرك الصَّلَاة وَالزَّكَاة بعض النَّاس فَلم عَم الْعقَاب قيل للسَّائِل عَن ذَلِك قد سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ فَقَالَ الرَّحْمَة تعم والسخط يعم أَلا ترى أَن عَاقِر النَّاقة وَاحِد والهالك بِذَنبِهِ أُمَم وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْفَقِيه عمر بن المصوع الْمُقدم الذّكر كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقهه بِأَبِيهِ وَذكره ابْن سَمُرَة مَعَ أَبِيه وَكَانَ ذَا دنيا وَاسِعَة مَال ونشب وَكَانَ يواصل وَالِي التعكر لكَونه الْحَاكِم على بَلَده ذِي السفال وَهُوَ إِذْ ذَاك أَخُو الْمفضل بن أبي البركات الْمُسَمّى الْمَنْصُور وَكَانَت فِيهِ أَعنِي هَذَا الْفَقِيه بلاهة وسلامة صدر وَكَانَ الْوَالِي يأتمنه وَيَأْمُر البوابين لَا يمنعونه عَن الطُّلُوع مَتى شَاءَ وَلَا يحتجب عَنهُ لما اعْتقد فِيهِ من الْخَيْر فطوعت لَهُ نَفسه أَن يقتل الْوَالِي استبداد واستحلالا لكَونه على مَذْهَب الرَّفْض وَلم يشاور بذلك أحدا بل خيلت لَهُ نَفسه أَنه مَتى وجد المرتبون
مِنْهُ المَال للجوامك أطاعوه على مَا يُرِيد فعامل سلاطا من عَادَته أَن يطلع الْحصن بالسليط ويبيعه على من فِيهِ أَن يطلع فِي بطاطه مَكَان السليط ذَهَبا وَفِضة مسكوكين فَلَمَّا صَار الْفَقِيه بالحصن والسلاط كَذَلِك خلى الْفَقِيه بالأمير فَقتله وَصَاح من طاق الدَّار بالسلاط يَأْكُل كَمَا يَأْكُل بانزعاج فارتاب أهل الْحصن من ذَلِك ودخلوا الدَّار فوجدوا الْأَمِير مقتولا فبادروا إِلَى قتل الْفَقِيه وإعلام المكرم بِمَا جرى فَجعل مَكَانَهُ أَخَاهُ الْمفضل فَغَضب أَمْوَال الْفَقِيه وبساتينه وَخرج بعض الْفُقَهَاء من ظباء ونخلان بِسَبَب تِلْكَ النّوبَة وَكَانَ ذَلِك تَقْرِيبًا على رَأس ثَمَانِينَ وأربعمئة
وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه أبي عمرَان مُوسَى بن عمرَان الخداشي الْمُقدم ذكره وَأَنه أحد من نشر مَذْهَب الشَّافِعِي أول ظُهُوره وَسكن إبا والسحول ثمَّ تدير الملحمة وَهِي قَرْيَة بوادي السحول تَحت الْحصن الْمَعْرُوف بشواحط وضبطها بِفَتْح الْمِيم بعد ألف وَلَام وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْمِيم ثمَّ هَاء والشواحط بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْوَاو ثمَّ ألف وخفض الْحَاء ثمَّ طاء مهملتين وَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي وَله بهَا عقب وَلم يزل فيهم الْفُقَهَاء والأخيار غَالِبا يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله وقدمت هَذِه الْقرْيَة سنة ثَلَاث عشرَة وسبعمئة لَا غَرَض لي إِلَّا زِيَارَة تربة هَذَا
الْفَقِيه وَمن قد بَلغنِي من أَهله فاجتمعت ببعضهم حِين صرت إِلَى الْقرْيَة وَسَأَلته أَن يريني شَيْئا من كتبهمْ لعَلي أجد فِيهَا شَيْئا من أخبارهم وآثارهم وَأَخْبرنِي أَن غالبها قد فَاتَ بالعارة والنهب وتقاسم الْوَرَثَة وَأَن الْبَاقِي يسير فَسَأَلته أَن يخرج إِلَيّ الْمَوْجُود فَأخْرج لي كتابا وجدت بِهِ ورقة قديمَة قد اضمحلت كتَابَتهَا وكادت تذْهب فتأملت ذَلِك وَإِذا بِهِ قد عد جمَاعَة من عُلَمَاء الْيمن الْمُتَكَلِّمين الْمُتَقَدِّمين وعد فيهم وأكد هَذَا عمرَان فَقَالَ فَقِيه من أَعلَى شُيُوخ الْيمن الَّذين ظهر عَنْهُم مَذْهَب الشَّافِعِي فِي ابْن عمرَان الْمعَافِرِي
قَالَ وَعنهُ أَخذ ابْنه إِبْرَاهِيم قلت وَهَذَا مَحْمُول على أَن الشَّيْخ الْحَافِظ مُوسَى طَال عمره وَأدْركَ وَلَده إِبْرَاهِيم وتفقه بِهِ وبالقاسم الَّذِي حقق ابْن سَمُرَة أَنه من أَصْحَابه وَلما حج إِبْرَاهِيم سمع بِمَكَّة مُخْتَصر الْمُزنِيّ على أبي رَجَاء مُحَمَّد بن حَامِد الْبَغْدَادِيّ وَقد تفقه بإبراهيم هَذَا جمَاعَة مِنْهُم يَعْقُوب البعداني وأسعد بن الْهَيْثَم وَغَيرهمَا
وَمِنْهُم أَبُو الْوَلِيد عبد الْملك بن مُحَمَّد بن أبي ميسرَة اليافعي سكن جبل الصلو وتفقه بالقاسم وَكَانَ إِمَامًا فِي الحَدِيث وثبتا فِي النَّقْل عَارِفًا بطرق الحَدِيث وَرُوَاته يعرف بالشيخ الْحَافِظ حج مَكَّة سنة إِحْدَى وَخمسين وأربعمئة فَأدْرك بهَا الشَّيْخ الْعَارِف سعد الريحباني وَأخذ عَنهُ وَعَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْمَالِكِي العكي ثمَّ عَاد الْيمن وَكَانَ قد دخل عدن فلقي بهَا أَبَا بكر أَحْمد بن مُحَمَّد البردي فَأخذ عَنهُ الرسَالَة الجديدة للْإِمَام الشَّافِعِي وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي سَمَاعنَا لَهَا وَذَلِكَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ وأربعمئة وَكَانَ كثير الترحل إِلَى الْعلمَاء وَقد أَخذ عَن أَيُّوب بن مُحَمَّد بن كديس الظبائي أَيْضا كتاب الرَّقَائِق لعبد الله بن الْمُبَارك وَدخل عدن مرّة ثَانِيَة
سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وأربعمئة فَأخذ بهَا عَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مَنْصُور بن أبي الزَّعْفَرَانِي وَكَانَ يكثر التَّرَدُّد مَا بَين بَلَده والجؤة والجند وعدن وَله بِكُل مَدِينَة أَصْحَاب وشيوخ وَكَانَ أَكثر مقَامه بِمَدِينَة الجؤة بِضَم الْجِيم وهمزة على الْوَاو ومفتوحة ثمَّ هَاء وَهِي فِيمَا مضى من المدن المعدودة بِكَثْرَة الْبناء والعالم وسكنى الْمُلُوك وَظُهُور جمَاعَة من الْفُضَلَاء بهَا وَبهَا جَامع بِهِ مأذنة وَهِي على مرحلة من الْجند من جِهَة الْيمن تَحت جبل الْحصن الْمَشْهُور فِي الْيمن بحصن الدملوة الَّذِي هُوَ بَيت ذخائر الْمُلُوك ومالهم مُنْذُ زمن مُتَقَدم وَهُوَ بِضَم الدَّال الْمُهْملَة بعد ألف وَلَام وَسُكُون الْمِيم وَضم اللَّام وَفتح الْوَاو وَقد يَجْعَل مَكَانهَا همزَة ثمَّ هَاء وَكَانَ مُعظم إِقَامَة هَذَا الْحَافِظ بِهَذِهِ الْمَدِينَة لكَونهَا على قرب من بَلَده وَأخذ عَنهُ بجامعها عدَّة كتب وقصده الطّلبَة إِلَيْهَا لِأَنَّهُ انْتقل من جبل الصلو إِلَى بلد تعرف بالحاظنة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ ألف وظاء مُعْجمَة مخفوضة وَنون مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء وَهِي صقع كَبِير يجمع قرى كَثِيرَة سكن الْفَقِيه الْمَذْكُور قَرْيَة مِنْهَا تعرف بالقرنين بقاف مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام ثمَّ رَاء سَاكِنة ثمَّ يَاء بَين نونين وَلم يزل الْفَقِيه بهَا حَتَّى توفّي وَبهَا قَبره وَكَانَ بعض مَشَايِخ بني البعداني من جبل بعدان كتب إِلَيْهِ يسْأَله أَن ينْتَقل إِلَيْهِ وبذل لَهُ الْإِكْرَام وَالْقِيَام بِحَالهِ أتم الْقيام فَلم يرغب فِي ذَلِك وجوب لَهُ جَوَابا من جملَته شعر مِنْهُ ... منزلي منزل رحيب أنيق ... فِيهِ لي من فواكه الصَّيف سوق ...
ثمَّ شكر تفضل الشَّيْخ وعد مَا كتب إِلَيْهِ بِهِ إحسانا وَاعْتذر عَن الِانْتِقَال وَسكن الحاظنة حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَسبعين وأربعمئة ويزار قَبره من أنحاء شَتَّى ويتبرك بِهِ ويشم زَائِره رَائِحَة الْمسك وَأَخْبرنِي الثِّقَة أَنه يُوجد على قَبره كل لَيْلَة جُمُعَة طَائِر أَخْضَر
وَمن ذِي أشرق وَهِي قَرْيَة كَبِيرَة بالوادي الْمَعْرُوف بنخلان على نصف مرحلة من الْجند تَقْرِيبًا وَهِي أَيْضا من الْقرى الْمُبَارَكَة من الْيمن خرج مِنْهَا جمع من الْعلمَاء وضبطها ذِي ذال مُعْجمَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ همزَة مَفْتُوحَة ثمَّ شين مُعْجمَة سَاكِنة وَرَاء مخفوضة ثمَّ قَاف أول من ذكره ابْن سَمُرَة من أَهلهَا أسعد بن خَلاد تفقه بالقاسم أَيْضا وَكَانَ فَقِيها محققا زاهدا ورعا وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا بل هُوَ من طبقَة أَصْحَاب الْقَاسِم
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَالم بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سَالم بن يزِيد الشّعبِيّ وَقد يُقَال اليزيدي نِسْبَة إِلَى جده الْمَذْكُور وأصل بلد أَهله جبل ذبحان أحد معاشير الدملوة انْتقل إِلَى هَذِه الْقرْيَة وتديرها وَلَهُم بهَا عقب إِلَى الْآن يعْرفُونَ ببني الإِمَام بَيت صَلَاح وَعلم ميلاده شهر صفر الْكَائِن فِي سنة خمس وَتِسْعين وثلثمئة أثنى ابْن سَمُرَة على جمَاعَة مِنْهُم وَأول من ذكر مِنْهُم هَذَا وَهُوَ جدهم وَأَظنهُ أول من ولي للْإِمَام بِذِي أشرق بالجامع مِنْهُم وَذريته على ذَلِك إِلَى الْآن سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة
قَالَ ابْن سَمُرَة حِين ذكره وَمِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن سَالم تفقه بالقاسم وَأخذ عَنهُ
أبي الْفتُوح بن ملامس سنَن التِّرْمِذِيّ وَذَلِكَ سنة عشْرين وأربعمئة بصفر الْكَائِن فِيهَا وَكَانَ رجلا خيرا زاهدا فَاضلا ورعا وَتُوفِّي بالقرية فِي رَمَضَان الْكَائِن فِي سنة سِتّ وَخمسين وأربعمئة
وَمِنْهُم أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم السلالي ثمَّ الْكِنَانِي كَانَ من أتراب الْفَقِيه مُحَمَّد بن سَالم وأقرانه تفقه بِأبي الْفتُوح بن ملامس وأخيه أسعد صهر الْفَقِيه إِسْحَاق الصردفي زوج أُخْته وَابْنه عَليّ مِنْهَا وَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن الْفَقِيه أَحْمد الصعبي السهفني الْمُقدم ذكره أَنه رَفِيق الْقَاسِم فِي سفر مَكَّة وأنهما قدما بالمراغي تفقه هَذَا بِأَبِيهِ وَرُبمَا قيل إِنَّه أَخذ عَن الْقَاسِم وَقد انْقَضتْ طبقَة أَصْحَاب الْفَقِيه الْقَاسِم وَمن ناظرهم
ثمَّ صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى مَعَ جمَاعَة وَمِنْهُم أَبُو سعيد بن خير بن الْفَقِيه يحيى بن ملامس مقدم الذّكر خير بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء تفقه بِأَبِيهِ الْمُقدم ذكره وَحج مَكَّة فَوجدَ بهَا جمعا من الْعلمَاء مِنْهُم الْحَافِظ أَبُو ذَر عبد بن أَحْمد الْهَرَوِيّ وَأَبُو بكر بن مُحَمَّد بن مَنْصُور الشهرزوري أحد شرَّاح الْمُخْتَصر وَأخذ عَن أبي ذَر البُخَارِيّ وَعلم الشهرزوري شَيْئا من الْفِقْه وَسنَن أبي دَاوُود وَلَقي أَيْضا أَحْمد بن مُحَمَّد الْبَزَّاز الْمَكِّيّ وَأخذ عَنهُ الشَّرِيعَة للآجري وَرجع بَلَده فَأخذ عَنهُ جمَاعَة بهَا جمع كَبِير
مِنْهُم أسعد بن زيد بن الْحسن ثمَّ أسعد بن الْهَيْثَم وَأَوْلَاده زيد وَعَمْرو الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ وبلد أَبِيه عزلة القرانات من مشيرق أحاظة سنة ثَمَانِينَ وأربعمئة
وَمِنْهُم أَبُو الغارات عَليّ بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس التباعي ثمَّ الْحِمْيَرِي مَسْكَنه
علقان قَرْيَة قد تقدم ذكرهَا خرج مِنْهَا جمَاعَة من أَعْيَان الْفُضَلَاء متقدمين ومتأخرين وَكَانَ رَفِيق الْفَقِيه فِي الْأَخْذ للشريعة عَن الْبَزَّار بِمَكَّة يَرْوِيهَا عَن مصنفها مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْآجُرِيّ
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن الْفَقِيه أبي الْخَيْر أَيُّوب بن مُحَمَّد بن كديس مقدم الذّكر وَحج فَأدْرك الشهرزوري بِمَكَّة وَأخذ عَنهُ إِسْمَاعِيل بن المبلول الْآتِي ذكره غَرِيب أبي عبيد وَغَيره
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن الإِمَام جَعْفَر بن عبد الرَّحِيم المحابي الْمُقدم ذكره وَكَانَ فَقِيها جليل الْقدر شهير الذّكر محققا مدققا مستخرجا للنكت الغامضة والمعاني الرائقة إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْعلم بِالْيمن بتفقهه بِأَبِيهِ وَكَانَ يُقَال إِنَّه حَاز رُتْبَة الْقَاسِم شيخ أَبِيه فِي سَعَة الْعلم وصفاء الذِّهْن وسعة نشره وَعنهُ أَخذ زيد اليفاعي فِي بدايته وَزيد بن الْحسن وَجمع كثير لَا يكَاد الْحصْر يدركهم وَكَانَ ذَاكِرًا لكتب الْمَذْهَب نَاقِلا لَهَا يحفظ الْمَجْمُوع تصنيف أَبِيه ومجموع الْمحَامِلِي وَكَانَت لَهُ فِي كل سنة رحْلَة إِلَى زبيد يناظر بهَا الْحَنَفِيَّة ورأسهم يَوْمئِذٍ القَاضِي مُحَمَّد بن أبي عَوْف وَيُقَال ابْن عون أحد مصنفيهم وَله كتاب القَاضِي الْمَشْهُور عِنْدهم وَكَانَ الْفَقِيه أَبُو بكر يقطعهُ مرَارًا ويستظهر عَلَيْهِ بِقُوَّة حفظه وسعة نَقله
قَالَ ابْن سَمُرَة سَمِعت القَاضِي طَاهِر بن يحيى العمراني يخبر عَن أَبِيه يحيى بن أبي الْخَيْر يَقُول سَمِعت جمَاعَة من شيوخي يثنون على هَذَا الْفَقِيه وَيَقُولُونَ كَانَ حَافِظًا عَالما مستنبطا للْأَحْكَام
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ حَافِظًا رَئِيسا فِي الدّين وَالدُّنْيَا يصحب الْمُلُوك وَيقبل جوائزهم كجياش بن نجاح صَاحب زبيد الْآتِي ذكره فِي الْمُلُوك وَالْحُسَيْن بن الْمُغيرَة التبعي وَأحمد بن عبد الله الكرندي وَكَانَ الْمُلُوك المذكورون أهل سنة ومجانبة لما عَلَيْهِ الصليحيون وَغَيرهم من الْبِدْعَة وَكَانَ تدريسه وغالب سكناهُ فِي الْجند وتدريسه بجامعها الْمُبَارك وَكَانَ مَتى وَصله طَالب سَأَلَهُ عَن حَسبه وَنسبه فَإِن وجده ذَا أصل لَائِق أقرأه وَأمره بِالِاجْتِهَادِ وَإِن لم يكن ذَا أصل صرفه عَن الطّلب وَلم يقرئه وَكَانَت حلقته تجمع نَحْو خمسين أَو سِتِّينَ طَالبا لهَذَا السَّبَب وَكَانَ الْفَقِيه زيد يقرىء كل وَاصل حَتَّى كثر أَصْحَابه على مَا سَيَأْتِي بَيَانه وَكَانَت وَفَاته سنة خمسمئة
وَمِنْهُم أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد الزّرْقَانِيّ ثمَّ الصردفي نِسْبَة إِلَى الْقرْيَة الْمَذْكُورَة عِنْد ذكرالفقيه عبد الله بن عَليّ الزّرْقَانِيّ فِي الطَّبَقَة الْمُتَقَدّمَة من أهل مَذْهَب الشَّافِعِي وَقد تقدم ضَبطهَا ومسافتها من الْجند وَأَصله من المعافر ثمَّ سكن الصردف وَكَانَ لَهُ بهَا وبقرية حكرمد بخفض الْحَاء وَالْكَاف ثمَّ رَاء سَاكِنة وخفض الْمِيم ثمَّ دَال مُهْملَة وَهِي بَين الصردف وحصن الظفر ثمَّ هِيَ من أَعماله أَيْضا وَله بهَا طين يزرعه تفقه بِجَعْفَر بن عبد الرَّحِيم وبإسحاق العشاري مقدمي الذّكر وَكَانَ فَقِيها فَاضلا محققا ذَا فنون غلب عَلَيْهِ مِنْهَا علم الْمَوَارِيث والحساب وَكتابه الَّذِي وَضعه فِيهَا يدل على سَعَة علمه ودقة فهمه وجودة تبريزه فِي ذَلِك وَفِي الدّور والوصايا والمساحة وَغير ذَلِك ومذ وجد كِتَابه لم يتفقه أحد من أهل الْيمن فِي شَيْء من الْفُنُون الْمَذْكُورَة إِلَّا مِنْهُ واعترف لمصنفه بِالْفَضْلِ كل عَارِف وَكَانَ أهل الْيمن قبل وجوده يتفقهون بالفنون الْمَذْكُورَة من كتب شَتَّى مِنْهَا كتاب أبي بَقِيَّة مُحَمَّد بن أَحْمد الفرضي وَلم يكن من أهل الْيمن فِيمَا ظَنَنْت كتابا سواهُ وبكتاب كِفَايَة الْمُبْتَدِي لِابْنِ سراقَة وبمصنفات لِابْنِ اللبان مقدم الذّكر وَقد ذكر جمَاعَة من الثِّقَات أَنه كَانَ يُقيم فِي سير كثيرا من الْأَيَّام وبجامعها
وَيُقَال صنف كِتَابه الْكَافِي الَّذِي هُوَ كاسمه الْكَافِي وللقلوب من الْإِشْكَال شافي فِي الْجَامِع الْمَذْكُور وَمِنْه مسَائِل قد استبهمت على كثير من الْمُتَأَخِّرين شرحها من جملَة الْكتاب شَيخنَا الْفَقِيه صَالح بن عمر الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله فجزاهم الله عَن الْإِسْلَام خيرا وَكَانَ لَهُ أُخْت وابنتان فَتزوّجت الْأُخْت أسعد بن عبد الله السلالي الْمَذْكُور مَعَ أَخِيه أَحْمد فِيمَا مضى وأولدت لَهُ ابْنه عليا فَهَذَا الْفَقِيه خَاله وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك وَأما ابنتاه فاسم إِحْدَاهمَا ملكة وَهِي الَّتِي تزَوجهَا الإِمَام زيد بن عبد الله اليفاعي الْآتِي ذكره وَتزَوج الْأُخْرَى إِمَام جَامع الْجند حسان بن مُحَمَّد بن زيد بن عمر وَولده عبد الله وَسَيَأْتِي ذكره وَصَارَ إِلَيْهِ شَيْء من كتب جده
قَالَ ابْن سَمُرَة جرى للفقيه هَذَا ثَلَاث خِصَال مِنْهَا أَنه ضرب بميل حَدِيد فِي الْهِنْدِيّ حَتَّى أفناه وَمعنى أفناه أَنه لم يبْق من مَا يحسن الْوَاحِد يمسِكهُ بِهِ ليضْرب بِهِ وَمِنْهَا أَنه سقط فِي بِئْر جَامع الْجند الْمُسَمَّاة زَمْزَم وَهِي بِئْر قديمَة يبعد إِدْرَاك غورها فبودر بإلقاء الْحَبل إِلَيْهِ ليطلع عَلَيْهِ وَكَانَ سابحا مجيدا فَتعلق بالحبل وَنزع فَلَمَّا صَار بِرَأْس الْبِئْر انْقَطع بِهِ الْحَبل فَعَاد ثَانِيَة ثمَّ أدلي لَهُ ثَانِيًا فَنزع وَلما صَار بِرَأْس الْبِئْر انْقَطع أَيْضا وَعَاد الْبِئْر ثَالِثا ثمَّ أدلي الْحَبل ثَالِثا وأطلع وَمِنْهَا أَنه كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ شخص من الْجِنّ فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْده فِي حَلقَة الْقِرَاءَة إِذْ مر بهم صائد الأحناش فَقَالَ الجني للفقيه يَا سَيِّدي أُرِيد أتصور لهَذَا حنشا فَإِن هُوَ أمسكني فَلَا تَدعه يذهب بِي بل افتدني مِنْهُ فَنَهَاهُ الْفَقِيه فَلم ينْتَه ثمَّ تصور حنشا فَدَعَا أحد الطّلبَة المحنش وَأرَاهُ إِيَّاه وَقد صَار حنشا عَظِيما ملتصقا بخشبة فِي السّقف فحين رَآهُ أعجبه وَفتح ربعته وتلا مَا يعْتَاد تِلَاوَته من العزائم وَإِذا بالحنش قد انخرط إِلَى الربعة فبادر المحنش إِلَى إطباقها وَأَرَادَ الْخُرُوج فلازمه الْفَقِيه وَمن حضر وَقَالُوا هَذَا جَار للفقيه مُنْذُ زمن مُتَقَدم وَإِنَّمَا
دعَاك ليختبر صدقك فتمنع فبذل لَهُ الْفَقِيه بعض شَيْء وَأجَاب بعد مداراة طَوِيلَة فَأَطْلقهُ فَغَاب عَن الْفَقِيه نَحْو خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ وصل إِلَى الْفَقِيه وَبِه ضعف ظَاهر وببدنه مَوَاضِع قد صَارَت كأحراق النَّار فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك وحاله فَقَالَ لما دخل المحنش وتلا مَا تَلا وَترك الربعة قبالي رَأَيْت الْبَيْت كَأَنَّهُ امْتَلَأَ نَارا وَلَيْسَ لي خلاص غير الْوُقُوع فِي الربعة فألقيت نَفسِي إِلَيْهَا على كره وَهَذِه الأحراق من تِلْكَ النَّار وَلما أطلقني ورحت أَقمت مَرِيضا مُنْذُ ذَلِك إِلَى الْآن لم أكد أخرج فَقَالَ الْفَقِيه قد كنت نهيتك فَلم تمتثل
قَالَ ابْن سَمُرَة أَخْبرنِي الشَّيْخ عِيسَى بن عَامر العودري عَن أَبِيه وَكَانَ مِمَّن أدْرك الشَّيْخ بالصردف قَالَ خرج الشَّيْخ يَوْمًا إِلَى بعض مزارعه وَأمر الشَّرِيك بهَا أَن يجهش لَهُ شَيْئا فَبَيْنَمَا هُوَ يجمع الْحَطب إِذْ قبض عَلَيْهِ حَنش عَظِيم بفقار ظَهره ثمَّ اجتذبه إِلَى سرب فِي ضاحة هُنَالك والفقيه ينظر وَهُوَ يَقُول يَا فَقِيه يَا فَقِيه أَوْلَادِي وَلم يقدر الْفَقِيه لَهُ على فرج ثمَّ إِن السرب ضَاقَ عَن جثته فاقتسمه نِصْفَيْنِ وَمِنْهَا قَالَ ابْن سَمُرَة أَيْضا أَخْبرنِي الشَّيْخ مُحَمَّد بن مَنْصُور بن الْحُسَيْن العمراني بمصنعة سير أَن هَذَا الشَّيْخ إِسْحَاق خرج من سير إِلَى الصردف فلاقى لصوصا قد سرقوا ثورا وهم سائرون فَسَار مَعَهم وَلم يدر بقضيتهم فأحسوا بِالطَّلَبِ بعدهمْ فَقَالُوا للفقيه يَسُوق لَهُم وَاعْتَلُّوا بِبَعْض الْأُمُور فساق لَهُم وَتَفَرَّقُوا فَلحقه سرعَان النَّاس فَأخذُوا الثور وبطشوا بالفقيه لأَنهم جهلوه فَلَمَّا لحق الْعُقَلَاء منعُوا السُّفَهَاء عَن التَّعَرُّض إِلَيْهِ وسألوه الْخَبَر فَأخْبرهُم فَعَلمُوا صدقه فَأخذُوا الثور وتركوه بعد أَن اعتذروا عَمَّا فعل السُّفَهَاء مَعَه فَيكون مَجْمُوع مَا حصل عَلَيْهِ من الغرائب خمْسا
وَكَانَت وَفَاته بالقرية الَّتِي ينْسب إِلَيْهَا على رَأس خمسمئة وقبره مَشْهُور هُنَالك يَأْتِيهِ قصاد الزِّيَادَة وَقد زرته وَهُوَ على بعد من الصردف تَحت شَجَرَة قرض وَقد دخلت الْقرْيَة مُنْذُ زمن طَوِيل وَهِي
على ذَلِك إِلَى عصرنا خَالِيَة من السكن
وَقد صَار الْعلم إِلَى طبقَة أُخْرَى فِي جمَاعَة بنواح شَتَّى مِنْهُم أهل ذِي أشرق
مِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن سَالم مقدم الذّكر مولده رَجَب من سنة ثَلَاث وَعشْرين وأربعمئة تفقه بِأَبِيهِ وَكَانَ زاهدا ورعا وَغلب عَلَيْهِ علم الحَدِيث توفّي بِبَلَدِهِ يَوْم الْخَمِيس بربيع الأول من سنة سبع وَتِسْعين وأربعمئة
وَمِنْهُم إِسْمَاعِيل بن الْحسن الفائشي المبلول كَانَ فَقِيها عَارِفًا محققا وَهُوَ أحد أَشْيَاخ زيد بن الْحسن الفائشي
وَمِنْهُم الأديبان الفاضلان الْحسن بن أبي عباد وَابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أبي عباد إمامي النَّحْو فِي بِلَاد الْيمن فِي عصرهما وإليهما كَانَ أهل النَّحْو يرتحلون من الأنحاء وَكَانَا فاضلين صالحين ومختصرهما يدل عَلَيْهِمَا وعَلى فضلهما مَعَ زِيَادَة بركَة كَبِيرَة فِي مُخْتَصر الْحسن وَذَلِكَ أَن غَالب فُقَهَاء الْيمن وأنحائها كل مِنْهُم لَا يستفتح الِاشْتِغَال بصناعة النَّحْو إِلَّا بِهِ فيجد لَهُ بركَة مَعَ تساهل أَلْفَاظه واقتراب عباراته وَذكروا أَن سَبَب بركته أَنه أَلفه فِي الْحرم تجاه الْكَعْبَة وَكَانَ كلما فرغ بَابا مِنْهُ طَاف أسبوعا ودعا لقارئه وَكَانَ الْحسن إِذا تكلم بَين الْعَامَّة لَا يتَكَلَّف الْإِعْرَاب حَتَّى كَأَن من يعرف إِذا سَمعه على البديهة يَقُول مَا عرف هَذَا شَيْئا من النَّحْو وعاتبه بعض أَصْحَابه فِي ذَلِك فَأَجَابَهُ شعرًا ... لعمرك مَا اللّحن من شيمتي ... وَلَا أَنا من خطأ أَلحن
ولكنني قد عرفت لُغَات ... الرِّجَال أخاطب كلا بِمَا يحسن ... وَلابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم مصنفات غير الْمُخْتَصر مِنْهَا تلقين المتعلم وَهُوَ كتاب مُفِيد ومختصر ذكر أَنه اخْتَصَرَهُ من كتاب سِيبَوَيْهٍ وَكَانَ وجودهما فِي آخر المئة الرَّابِعَة وَفِي أول الْخَامِسَة غَالِبا وَقد أَخذ الْفَقِيه عمر بن إِسْمَاعِيل عَن الْحسن مُخْتَصره وَسَيَأْتِي ذَلِك إِن شَاءَ الله
وَمن الْجند جمَاعَة مِنْهُم يحيى بن عبد الْعَلِيم بن أبي بكر الْأَعْمَى أَصله من قَرْيَة بخدير الْأَعْلَى تعرف بحجرة بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم وَالرَّاء ثمَّ هَاء وَهِي من الْقرى الْمُبَارَكَة خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْفُضَلَاء وَله بهَا قرَابَة يعْرفُونَ ببني الْأَعْمَى وَآل أبي ذرة وَضبط خدير بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفض الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ رَاء
وَأما يحيى هَذَا فَكَانَ فَقِيها أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وَسَماهُ الشَّيْخ الزَّاهِد وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَن ابْن أبي ميسرَة مَعَ أَخِيه أبي الْفرج بِمَدِينَة الْجند أَخذ عَنهُ سنَن أبي قُرَّة بتاريخ سِتّ وَسبعين وأربعمئة وزميله فِي الْقِرَاءَة أَيْضا وَسَمَاع الرسَالَة الجديدة القَاضِي مُحَمَّد اليافعي وَالِد أبي بكر الْآتِي ذكرهمَا وَذَلِكَ بِجمع كثير من الْفُقَهَاء وَكَانَ يحيى إِمَامًا بِجَامِع الْجند وَولي بعض أمره من قبل الْمفضل وَولده عمر بن يحيى كَانَ فَاضلا وأزوج ابْنَته من القَاضِي مُحَمَّد اليافعي وَولده أَبُو بكر مِنْهَا
قَالَ ابْن سَمُرَة وَلَا أعرف لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم اليافعي أَخذ عَن ابْن أبي ميسرَة وَغَيره ولي قَضَاء الجؤة والجند وَقبل الْمفضل بن أبي البركات وَكَانَ معدودا من أَصْحَاب أبي بكر بن جَعْفَر أَيَّام أوقع الْمفضل بَينه وَبَين الْفَقِيه زيد مَا أوقع وَقد ذكرته
وَمِنْهُم مَالك بن حري الجندي وَولده إِبْرَاهِيم حضر سَماع سنَن أبي قُرَّة على ابْن أبي ميسرَة بِمَسْجِد الْجند سنة سِتّ وَتِسْعين وأربعمئة ونسخته للْكتاب صَارَت إِلَيّ وَعَلَيْهَا سَماع جمع من الْفُقَهَاء نفع الله بهم ومكتوب على النُّسْخَة بِخَطِّهِ مَا مِثَاله وَقفه مَالِكه ابْن حري الجندي على الْمُسلمين وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَنه صَار إِلَيّ وَلم أجد لَهُ وَلَا لمُحَمد بن عبد الله تَارِيخا
وَمن المشيرق أَبُو عَليّ أسعد بن الْفَقِيه خير بن الإِمَام يحيى بن ملامس مقدمي
الذّكر تفقه بِأَبِيهِ وَهُوَ أحد أَشْيَاخ الْحَافِظ العرشاني الْآتِي ذكره رَأَيْت بِخَطِّهِ يَقُول أَخْبرنِي أسعد بن خير يَعْنِي هَذَا من أصل كِتَابه فِي منزله بالقرانات من مشيرق أحاظه بجمادى الْآخِرَة سنة سِتّ عشرَة وخمسمئة وَقد أَخذ عَن أسعد هَذَا جمع كثير من نواحي شَتَّى وَكَانَت وَفَاته بمنزله الْمَذْكُور سنة سبع عشرَة وَقيل ثَمَانِي عشرَة وخمسمئة
وَمِنْهُم أسعد بن الْفَقِيه الْهَيْثَم مقدم الذّكر ولد أسعد يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس خلون من صفر سنة ثَلَاث وأربعمئة تفقه بإبراهيم بن أبي عمرَان وَأخذ عَن خير بن يحيى هُوَ وولداه زيد وَعَمْرو كتاب البُخَارِيّ وجدت ذَلِك بِخَطِّهِ إجَازَة لَهُم وَصُورَة مَا وجدت بِهِ بِجُزْء من البُخَارِيّ مَا مِثَاله سمع عَليّ هَذَا الْجُزْء من صَحِيح البُخَارِيّ الشَّيْخ الْفَقِيه أسعد بن الْهَيْثَم وولداه زيد وَعَمْرو وَكَانَ هَذَا أسعد أحد شُيُوخ زيد الفائشي وَتُوفِّي بقرية السحي حَيْثُ كَانَ مَسْكَنه ومسكن أَبِيه بتاريخ الثُّلَاثَاء بعد الْعَصْر لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من الْقعدَة سنة ثَمَانِي وَتِسْعين وأربعمئة
وَمِنْهُم ابْنه عَمْرو ومولده شهر الْحجَّة أحد شهور سنة ثَلَاث وَخمسين وأربعمئة تفقه بِأَبِيهِ وَقد تقدم مَعَه عَن خير بن يحيى وَهُوَ أحد فُقَهَاء الحجفة والجرينة إِذْ قد مضى ذكر سَبَب مصيرهما إِلَى هَاتين القريتين وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه زيد وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَنه سمع مَعَ أَبِيه وأخيه على الْفَقِيه خير بن ملامس وبحثت هَل لَهُ عقب أم لَا فَقيل لَا عقب لَهُ وَكَانَت وَفَاة الْفَقِيه عَمْرو يَوْم الثُّلَاثَاء بعد الظّهْر لسبع خلون من رَجَب أحد شهور سنة سبع وَعشْرين وخمسمئة
وَمن جبل بعدان وَهُوَ أحد جبال الْيمن المعدودة ذَات الْمزَارِع والأنهار والعيون وَهُوَ على تَثْنِيَة بعد الَّذِي هُوَ ظرف مَكَان خرج مِنْهُ جمَاعَة من الْفُضَلَاء
مِنْهُم يَعْقُوب بن أَحْمد تفقه بإبراهيم بن أبي عمرَان أثنى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا فَقَالَ كَانَ إِبْرَاهِيم وتلميذه يَعْقُوب من أفاضل النَّاس وأخيار فقهائهم زهدا وعلما وَعَملا وَكَانَ غَالب تفقههم إِذْ ذَاك بمختصر الْمُزنِيّ وَشَرحه لِابْنِ ملامس مقدم الذّكر وبالإيضاح لأبي عَليّ الطَّبَرِيّ وَكَانَ يَعْقُوب هَذَا أحد أَشْيَاخ زيد الفائشي
وَمِنْهُم عبد الله مُوسَى الآجلي تفقه بِبَعْض بني ملامس وَلم أتحقق لَهُ وَلَا لمن ذكر قبله تَارِيخا إِذْ لم يذكر ابْن سَمُرَة ذَلِك وَلَا لَهما ذُرِّيَّة تعرف فأسألهم كَمَا فعلت فِي الْغَيْر
وَمن وَادي السحول ثمَّ من الملحمة أَحْمد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن أبي عمرَان تفقه بِأَبِيهِ وَمِنْهُم عبد الله بن يزِيد اللعفي نسبا الْحرَازِي بَلَدا وجده الَّذِي نسب إِلَيْهِ رجل من حراز المستحرزة اسْمه لعف بِضَم اللَّام وَسُكُون الْمُهْملَة ثمَّ فَاء وحراز بِفَتْح الْحَاء وَالرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ زَاي صقع كَبِير من بِلَاد الْيمن خرج مِنْهُ جمع من الْأَعْيَان كَانَ عبد الله هَذَا كَامِل الْفضل بالفقه والقراءات وَالْأُصُول وجودة الْخط لَهُ تصانيف فِي أصُول الدّين على مُعْتَقد السّلف وتصانيف فِي علم الْقرَاءَات وَكَانَت بِهِ دعابة
حُكيَ أَنه دخل يَوْمًا مَسْجِد ابْن عراف بِذِي جبلة فَوجدَ بِهِ جمَاعَة من سلاطين الْعَرَب وَكَانَ قد أرسل إِلَى الْمفضل يسْأَله أَن يَأْذَن لَهُ فِي الدُّخُول عَلَيْهِ فَلَمَّا دخل على الْقَوْم الْمَسْجِد سلم عَلَيْهِم فَردُّوا عَلَيْهِ لَا كَمَا يَنْبَغِي بل على طَرِيق الاحتقار فَبَيْنَمَا هُوَ قَاعد إِذْ جَاءَهُ الرَّسُول يستدعيه إِلَى الْمفضل فَتَطلع عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ وَقَالَ لَهُ أحد السلاطين أَنْت فَقِيه فَقَالَ مجَاز فَقَالَ وَكَيف ذَلِك قَالَ كَمَا أَن السلاطين حَقِيقَة ومجاز الْحَقِيقَة كالمفضل بن أبي البركان وأسعد بن وَائِل وَالْمجَاز مثلكُمْ فاستحوا مِنْهُ وَكَانَت وَفَاته بعد خمسمئة بِيَسِير
وَمن زبيد ثمَّ من فُقَهَاء بني عقامة أول من شهر مِنْهُم بعد جدهم القادم الْمَذْكُور أَولا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد بن أبي عقامة بن الْحسن بن مُحَمَّد بن هَارُون الْوَاصِل بِالْقضَاءِ من بَغْدَاد صُحْبَة ابْن زِيَاد كَمَا قدمنَا
قَالَ ابْن سَمُرَة وَأهل هَذَا الْبَيْت يَعْنِي بني أبي عقامة أول من قدم وجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم يَعْنِي فِي افْتِتَاح الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة وعنهم ظَهرت تصانيف مَذْهَب الشَّافِعِي وَكَانَ الْحسن الْمَذْكُور إِمَامًا فِي أَنْوَاع الْعلم شهير الذّكر بذلك وَإِلَيْهِ تنْسب الْخطب العقامية وَله شعر فائق وَترسل رائق وَله كتاب نَوَادِر مَذْهَب أبي حنيفَة الَّتِي يستشنعها أَصْحَاب الشَّافِعِي وَغَيرهم صَار كَمَا ذكرنَا درة شنع بهَا وَقَالَ مَا يلائم التشنيع وَقد صَار الْكتاب فِي الْيمن قَلِيل الْوُجُود لِأَن الْحَنَفِيَّة اجتهدت بتحصيله وإذهابه كَمَا فعل بَنو عقامة بمفيد جياش لِأَنَّهُ ثلم نسبهم
وللحسن مُصَنف سَمَّاهُ جَوَاهِر الْأَخْبَار وَله مُخْتَصر فِي علم الْفَرَائِض والحساب وَآخر سَمَّاهُ الملطف فِي علم المساحة وقصيدته النونية تدل على اتساع علومه وعلو همته أوردتها اسْتِدْلَالا على فَضله وتحقيقا لصدقه وَهِي ... إِذا لم تسد فِي ليَالِي الشَّبَاب ... فَلَا سدت مَا عِشْت من بعدهنه
وَهل جلّ عمرك إِلَّا الشَّبَاب ... فَخذ مِنْهُ حظا وَلَا تهدرنه ...
. . إِذا مَا تحطم صدر الْقَنَاة ... فَلَا ترجون من الزج طعنه
فَلَا وَأبي مَا أضعت الشَّبَاب ... فخرمته تَحت ظلّ الأكنه
وَلَكِن سعيت لكسب الْعُلُوم ... كسعي أبي قبل فِي كسبهنه
فَأَبِنْ إِلَيّ نوافرهن ... كأوب الطُّيُور إِلَى وكرهنه
فَرَحَّبَ جناني حوالهن ... وَغرب لساني ذليق بهنه
إِذا مَا أجل فِي ميادينهن ... أجل يسرة ثمَّ شاما ويمنه
تحلى حداي سعاة الرِّجَال ... وَيقصر عَمَّن وَرَاء الأعنه
وَعَن فنن الْمجد ذوت الرِّجَال ... فاخلو وخيمت فِي كل فنه
فسل بِي إِذا الْقرن إِمَّا سَأَلت ... تقل سَائِر الْقَوْم لم ير قرنه
كَلَام إِذا أَنا أصدرته ... فكالمخذم العضب فَارق جفْنه
يسير مَعَ الشهب أَنى يسير ... وَقد ودت الشهب أَن لَو يكنه
فَلَو رام سحبان دَعَا غَيره ... مقَالا لألجمت فَاه بلكنه
فَهَل قد رَأَيْتُمْ فَتى قطّ مثلي ... لعشرين فَنًّا تفرغ ذهنه
وَمَا التيه شأني ولكنني ... أحدثكُم عَن إلهي بمنه
فقد قَالَ لي اشكروا وَلَا تكفرن ... وَحدث بصنعي وَلَا تكتمنه
وَقَالَ الرَّسُول أَنا ابْن الذبيحين ... وَخير الْبَريَّة هَديا وسنه ... وَمن شعره مَا ورد جَوَابا على المعري وَذَلِكَ حِين بلغه قَوْله ... وَلما رَأينَا آدما وفعاله ... وتزويجه ابنيه ببنتيه فِي الدنا
علمنَا بِأَن النَّاس من أصل زنية ... وَأَن جَمِيع النَّاس من عنصر الزِّنَا ... فَأَجَابَهُ ... لعمرك أما القَوْل فِيك فصادق ... وَتكذب فِي البَاقِينَ من شط أَو دنا
كَذَلِك إِقْرَار الْفَتى لَازم لَهُ ... وَفِي غَيره لَغْو بذا جَاءَ شرعنا ...
وامتحن بِقَضَاء الْقُضَاة فِي أَيَّام الصليحيين ثمَّ مَعَ آل نجاح فَكَانَ أسعد بن شهَاب الْآتِي ذكره نَائِب الصليحي بتهامة يشكره ويثني عَلَيْهِ وَيَقُول أَقَامَ الْحسن عني أُمُور الشَّرِيعَة قيَاما يُؤمن عَيبه ويحمد غيبه فَإِذا كَانَ هَذَا ثَنَاء الضِّدّ المشاقق المعاند فِي الطَّرِيق وَالْمذهب فَكيف من سواهُ وَفِي مثل ذَلِك يَقُول الشَّاعِر ... وفضائل شهِدت بِهِ أعداؤه ... وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء ... وَأثْنى عَلَيْهِ عمَارَة فِي مفيده وَإِن لم يُدْرِكهُ فقد أدْرك من حقق لَهُ مَا ذكر عَنهُ فِي مفيده وَمن شعره مَا أوردهُ ابْن العمك الْآتِي ذكره فِي طبقَة متأخري زَمَاننَا من أهل سِهَام فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ الْكَامِل فِي الْعرُوض وَصِيغَة الشّعْر فِي بَاب شرح محَاسِن اللَّفْظ قَالَ وَمن ذَلِك قَول الْحسن بن أبي عقامة ... نَحن الَّذين متينة أوصالنا ... فِي الدّين لَا قطع الردى أوصالنا
هَذَا الَّذِي أوصى بِهِ جد لنا ... لمحا بمجد جدوده أوصى لنا ... فِي الْبَيْت الأول موضعان هما أوصالنا يَنْبَغِي أَن يعرف كَونهمَا اسْمَيْنِ لَا يكتبان إِلَّا بِالْألف وَفِي الثَّانِي أوصى مرَّتَيْنِ وهما فعلان يكتبان بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت
وَكَانَ الْحسن يمِيل إِلَى الْحَبَشَة وَيرى أَنهم أولى بِالْملكِ من الصليحيين لسَبَب تبَاين الْمَذْهَب وَكَانَ أحد الْأَسْبَاب لعود الْملك إِلَى جياش بن نجاح فَكَانَ عِنْده مُعظما مبجلا يلقبه بمؤتمن الدّين فَعرض لجياش خطْبَة امْرَأَة من الفرسانيين أهل موزع فندبه لخطبتها فَتقدم إِلَى أَهلهَا وأعلمهم بالرسالة لَهُ فَأَجَابَهُ بعض وَتَأَخر عَنهُ بعض ثمَّ إِن بَعضهم سَأَلَهُ عَن جَوَاز ذَلِك وَقد بَينه وَبينهمْ ألفة عَظِيمَة من حَيْثُ إِنَّهُم يرجعُونَ فِي النّسَب إِلَى تغلب وَهُوَ كَذَلِك فَقَالَ إِذا لم ترض الْمَرْأَة والأولياء جَمِيعًا لم يَصح
النِّكَاح فأصروا على الِامْتِنَاع ووثقوا بمشورته ثمَّ لما عَاد إِلَى جياش أخبرهُ بتمنعهم فَلم يزل جياش يستدرجهم ويرغبهم بِالْمَالِ حَتَّى أجابوا وأزوجوه فَلَمَّا زفت إِلَيْهِ الْمَرْأَة وَصَارَت مَعَه سَأَلَهَا عَن سَبَب التمنع فَأَخْبَرته بمقالة القَاضِي لَهُم فَحمل عَلَيْهِ فِي بَاطِنه حَتَّى أَنه قَتله ظلما وعدوانا وَذَلِكَ لبضع وَثَمَانِينَ وأربعمئة وَكَانَ ذَلِك تَصْدِيقًا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعَان ظَالِما أغري بِهِ وَلَقَد أحسن ابْن القم فِي قَوْله يُخَاطب جياشا ... أَخْطَأت يَا جياش فِي قتل الْحسن ... فقأت وَالله بِهِ عين الزَّمن
وَلم يكن منطويا على دخن ... مبرأ من الفسوق والدرن
كَانَ جزاه حِين ولاك الْيمن ... قتلكه وَدَفنه بِلَا كفن
ولاك فِي السِّرّ مِنْهُ والعلن ... ملقبا لَهُ بالمؤتمن ... وَكَانَ جياش قد اتّصف بِالْعَدْلِ حِين صحب الْحسن وَعمل بقوله واقتدى بِفِعْلِهِ فَلَمَّا قَتله أنكر النَّاس مِنْهُ ذَلِك ونسبوه إِلَى الظُّلم وحذروا مِنْهُ كَابْن القم والوزير خلف وَغَيرهمَا وَصَارَ ابْن القم يكاتبه وينقم عَلَيْهِ بِمَا فعله بالْحسنِ وَمن ذَلِك ... تَفِر إِذا جر المكرم رمحه ... وتشجع فِي من لَيْسَ يحلي وَلَا يمري ... وَلم يزل بنوا أبي عقامة ينقمون على ابْن القم فِي هَذَا الْبَيْت وَيَقُولُونَ قتل صاحبنا أَهْون علينا من قَوْله لَا يحلي وَلَا يمري هَكَذَا ذكره عمَارَة وَمُرَاد ابْن القم أَن الْحسن كَانَ غير مُسْتَحقّ للْقَتْل لِأَن الْمُلُوك لَا تفتخر إِلَّا بقتل الأضداد والأنداد أما الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء فَغير لَائِق قَتلهمْ مَعَ الِاسْتِحْقَاق فَكيف بِعَدَمِهِ فَمَعْنَاه يَا جياش أَنْت عِنْدَمَا تسمع بمجئ المكرم تفزع وتفر وَإِنَّمَا تظهر شجاعتك فِيمَن لَا يقاتلك وَلَا يُقَاتل سواك وَلَا يضر وَلَا ينفع فِيمَا أَنْت بصدده عَن قيام الْملك ثمَّ إِن فِي أَيَّام جياش تعطل الحكم عَنْهُم وَلم يكد يُقيم جياش غير مُدَّة يسيرَة صنف فِي أَثْنَائِهَا مفيده وقدح فِي آل أبي عقامة وبالغوا لذَلِك فِي إعدامه وَلم يسمعوا مِنْهُ بنسخة إِلَّا اشتروها وأعدموها فَلذَلِك قل وجوده
ثمَّ قَامَ بعد الْحسن برياسة الْقَضَاء أَبُو الْفتُوح وَسَيَأْتِي ذكره لَكِن جرت الْعَادة غَالِبا أَن مَتى عرض ذكر لأحد من الْأَعْيَان تثبت من حَاله مَا لَاق وَقد عرض مَعَ ذكر الْحسن ذكر المعري ثمَّ ذكر ابْن القم
فَأَما المعري فَهُوَ أَبُو الْعَلَاء أَحْمد بن عبد الله بن سُلَيْمَان التنوخي نسبا ثمَّ المعري بَلَدا والتنوخي نِسْبَة إِلَى تنوخ قَبيلَة من الْعَرَب بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو ثمَّ خاء مُعْجمَة
قَالَ ابْن خلكان وَهُوَ اسْم لعدة قبائل اجْتَمعُوا قَدِيما فِي الْبَحْرين وتحالفوا على التناصر وَأَقَامُوا هُنَالك فسموا تنوخا من التنوخ وَهُوَ الْإِقَامَة وهم من نَصَارَى الْعَرَب الْمَذْكُورين فِي كتب الْفِقْه مَعَ بهرا وتغلب
وَأما المعري فنسبة إِلَى المعرة بلد صَغِيرَة فِي الشَّام على قرب من بلد حماة وشيرز فسكنها المعري فنسب إِلَيْهَا هَكَذَا كَلَام ابْن خلكان وميلاده يَوْم الْجُمُعَة عِنْد مغيب الشَّمْس لثلاث بَقينَ من ربيع الأول سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمئة بالمعرة كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَة متضلعا فِي فنون شَتَّى وَله كتاب لُزُوم مَا لَا يلْزم وَهُوَ كتاب كَبِير يَقع فِي خَمْسَة أَجزَاء وَله سقط الزند ديوَان شَرحه أَيْضا وَسَماهُ ضوء السقط
قَالَ ابْن خلكان وَبَلغنِي أَن لَهُ كتابا سَمَّاهُ الأيك والغصون يُقَارب المئة جُزْء قَالَ وَكَانَ عَلامَة عصره عَنهُ أَخذ جمَاعَة مِنْهُم الْخَطِيب التبريزي وَأَبُو الْحسن عَليّ بن همام وَأَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحُسَيْن التنوخي وَكَانَ أعمى وَسبب عماه من الجدري
وَهُوَ فِي الرَّابِعَة من سني عمره غشي عينه الْيُمْنَى بَيَاض وَذَهَبت الْيُسْرَى جملَة وَدخل بَغْدَاد مرَّتَيْنِ مرّة فِي سنة ثَمَانِي وَسِتِّينَ وثلثمئة وَالْأُخْرَى فِي سنة تسع وَتِسْعين أَقَامَ فِي هَذَا الدُّخُول سنة وَسَبْعَة أشهر ثمَّ رَجَعَ المعرة فَلَزِمَ منزله وسمى نَفسه رهين المحبسين للُزُوم منزله وَذَهَاب بَصَره وَغلب عَلَيْهِ مُعْتَقد الْحُكَمَاء فَأَقَامَ خمْسا وَأَرْبَعين سنة لَا يَأْكُل اللَّحْم يُرِيد أَن لَا يَأْتِي أكله إِلَّا بِالذبْحِ وَهُوَ تَعْذِيب وَغير جَائِز التعذيب وَلَا الإيلام مُطلقًا فِي جَمِيع الْحَيَوَانَات وَعمل الشّعْر وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة
قَالَ ابْن خلكان من شعره فِي اللُّزُوم ... لَا تَطْلُبن بِغَيْر حَظّ رُتْبَة ... قلم البليغ بِغَيْر حَظّ مغزل
سكن السما كَانَ السَّمَاء كِلَاهُمَا ... هَذَا لَهُ رمح وَهَذَا أعزل ... وَقد تقدم الذّكر أَنه كَانَ على مُعْتَقد الْأَطِبَّاء حُكيَ أَن الْوَزير أَبَا نصر أَحْمد بن يُوسُف دخل المعرة وَاجْتمعَ بِهِ فَشَكا إِلَيْهِ حَاله وَأَنه مُنْقَطع عَن النَّاس وهم لَا يَدعُونَهُ من أذاهم اتهمهم أَنهم يكفرونه فَقَالَ لَهُ الْوَزير مَا لَهُم وَلَك وَقد تركت لَهُم الدُّنْيَا والاخرة فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء وَالْآخِرَة أَيْضا وَالْآخِرَة وَجعل يكررها ويتألم
إِن كثيرا من الْعلمَاء يَعْتَقِدُونَ مروقه عَن الدّين وَمَوته على ذَلِك وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه تَابَ قبل الْمَوْت ثمَّ قابلوا ذَلِك بَين قَائِل لصِحَّته وَقَائِل إِنَّه لم يكن إِلَّا خشيَة نفور النَّاس عَن قبرانه وشهود جنَازَته فَالله تَعَالَى يعصمنا من الْخَطَأ ويوفقنا لاستعطاء الْعَطاء وَاسْتدلَّ قَائِل ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُ فِي مرض مَوته ثمَّ أوصى أَن يكْتب على قَبره مَا يُحَقّق
أَن مَوته كَانَ على المعتقد الْمَذْكُور وَقت إحساسه بِالْمَوْتِ وَهُوَ بَيت شعر ... هَذَا جناه أبي عَليّ ... وَمَا جنيت على أحد ... قَالَ ابْن خلكان وَهَذَا إِشَارَة إِلَى معتقده فَإِن الْحُكَمَاء يَعْتَقِدُونَ ان الْوَلَد جِنَايَة الْوَالِد فَإِنَّهُ سَبَب وجوده وَخُرُوجه إِلَى هَذَا الْعَالم الَّذِي هُوَ بِهِ متعرض الْحَوَادِث والآفات وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين وأربعمئة بالمعرة ورثاه تِلْمِيذه أَبُو الْحسن عَليّ بن همام بقوله إِشَارَة فِيهِ إِلَى مَا حكيناه عَنهُ ... إِن كنت لم ترق الدِّمَاء زهادة ... فَلَقَد أرقت الْيَوْم من جفني دَمًا
سيرت ذكرك فِي الْبِلَاد كَأَنَّهُ ... مسك فسامعه تضمخ أَو فَمَا
وَأرى الحجيج إِذا أردوا لَيْلَة ... ذكراك أخرج فديَة من أحرما ... وَأما ابْن القم الشَّاعِر الَّذِي كَانَ يُعَاتب جياشا فَهُوَ أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن مَيْمُون بن القم كَانَ أَبوهُ صَاحب ديوَان الْخراج بتهامة وَيَأْتِي من ذكره مَا لَاق مَعَ ذكر الْمُلُوك إِن شَاءَ الله وأعيان دولتهم وَأما هَذَا حُسَيْن فمعدود من فضلاء الْيمن ورؤساء شعرائها وَكَانَ من المكثرين وَالشعرَاء المفلقين وَكَانَت لَهُ حظوة ومنزلة عِنْد الْمُلُوك لفضله وشعره بِحَيْثُ يقدمانه على مَا سواهُمَا فِي الْيمن خَاصَّة وَرُبمَا قيل فِي الشَّام
وَلما فزع من جياش نفر مِنْهُ إِلَى الدَّاعِي سبأ بن أَحْمد الصليحي وَأقَام مَعَه بحصن أشيح فَكَانَ مبجلا أثنى عَلَيْهِ الْفَقِيه عمَارَة ثَنَاء بليغا وَقَالَ ضرب على خطّ ابْن مقلة فحكاه وَكَانَ شَاعِرًا مترسلا وَلَو لم يكن لَهُ من الترسل إِلَّا الرسَالَة الْمَشْهُورَة الَّتِي كتبهَا إِلَى الدَّاعِي سبأ الْآتِي ذكره فِي الْمُلُوك والدعاة
قَالَ عمَارَة كَانَ يكْتب عَن الْحرَّة الملكة السيدة إِلَى الديار المصرية والأقطار النازحة وَكَانَ من علو الهمة وسمو الْقدر فِيمَا يلْبسهُ ويمتطيه على غَايَة منفية وَجُمْلَة شريفة طريفة وَأسْندَ الْفَقِيه عمَارَة إِلَى بعض من حضر مَجْلِسا لَهُ مَعَ الدَّاعِي سبأ بن أَحْمد وَقد أَرَادَ الْقيام بَين يَدَيْهِ بِشعر فَمَنعه وَرمى لَهُ بمخدة وَأَقْعَدَهُ إِكْرَاما لَهُ وَرَفعه عَن الْحَاضِرين وَكَانُوا أعيانا ثمَّ لم يقتنع سبأ بذلك حَتَّى قَالَ لَهُ أَنْت يَا أَبَا عبد الله عندنَا كَمَا قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي ... وفؤادي من الْمُلُوك وَإِن كَانَ ... لساني يرى من الشُّعَرَاء ... فَأَنْشد حِينَئِذٍ قَوْله ... وَلما مدحت الهبزري ابْن أَحْمد ... أَجَاد فكافاني على الْمَدْح بالمدح
فعوضني شعرًا بشعري وَزَادَنِي ... نوالا فَهَذَا رَأس مَالِي وَذَا ربحي
شققت إِلَيْهِ النَّاس حَتَّى رَأَيْته ... فَكنت كمن شقّ الظلام إِلَى الصُّبْح ... وَهَذَا من شعره فِي مدح الدَّاعِي سبأ وَمن محَاسِن شعره قَوْله فِي الرسَالَة إِلَيْهِ ... يُقيم الرِّجَال الموسرون بأرضهم ... وَيَرْمِي النَّوَى بالمقترين المراميا
وَمَا تركُوا أوطانهم عَن ملالة ... وَلَكِن حذارا من شمات الأعاديا ... وَله الشّعْر الْفَائِق والنثر الرَّائِق مِنْهُ مَا مدح بِهِ السُّلْطَان سبأ بن أَحْمد ... أَبَا حمير إِن الْمَعَالِي رخيصة ... وَلَو بذلت فِيهَا النُّفُوس الكرائم
وجدت مطارا يَا ابْن أَحْمد وَاسِعًا ... إِلَى غَرَض لَو ساعدتني القوادم
وَمَا أَنا إِلَّا السهْم لَو كَانَ رائش ... وَمَا أَنا إِلَّا النصل لَو كَانَ قَائِم
فَلَا تحتقر جفنا يبيت مسهدا ... ليدرك مَا يهوى وجفنك نَائِم
فَلَا عَار إِن جَار الزَّمَان وَأَهله ... إِذا لم تخنى همتي والعزائم
أَبى الْقلب إِلَّا حبكم وولاءكم ... وَإِن أنفت فِيهِ الأنوف الرواغم
تَأمل فكم مَال وهبت ونائل ... بذلت فَلم تثقل عَلَيْك المغارم ... وَمن شعره مَا كتبه على كأس فضَّة
. . إِن فضلي على الزجاجة أَنِّي ... لَا أذيع الْأَسْرَار وَهِي تذيع
ذهب سَائل حواه لجين ... جامد إِن ذَا لشَيْء بديع ... قَالَ الْفَقِيه عمَارَة حَدثنِي الْفَقِيه أَبُو السُّعُود بن عَليّ الْحَنَفِيّ قَالَ حَدثنِي ابْن أبي الصَّباح أَنه لما دخل الْعرَاق وَحضر مجْلِس الْوَزير يَوْمئِذٍ وَعِنْده جمَاعَة يتذاكرون الشّعْر فَقَالَ لي هَل تحفظ شَيْئا لأحد من أهل الْيمن فَأَنْشَدته قَول ابْن القم من قصيدته ... اللَّيْل يعلم أَنِّي لست أرقده ... فَلَا يغرنك من قلبِي تجلده
فَإِن دمعي كصوب المزن أنشره ... وَإِن وجدي كحر النَّار أبرده
لي فِي هوادجكم قلب أضن بِهِ ... فسلموه وَإِلَّا قُمْت أنْشدهُ
وَبَان للنَّاس مَا قد كنت أكتمه ... من الْهوى وبدا مَا كنت أجحده ... وَكَانَ الْوَزير مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا واستعادها مرَارًا ثمَّ بَعَثَنِي فِي الْمَوْسِم إِلَى مَكَّة فاشتريت لَهُ الدِّيوَان فَلَمَّا جِئْته بِهِ كَانَ من أقوى الذرائع إِلَى صحبته والانقطاع إِلَى جملَته ومناقب ابْن القم فِي الْفضل والأنفة على أَهله فِي النّسَب والصنعة كَثِيرَة وَكفى شَاهدا على ذَلِك مَا خَاطب بِهِ جياش حِين قتل القَاضِي الْحسن وَقد تقدم أَنه قَامَ برئاسة الْبَيْت بعد الْحسن ابْن عَمه القَاضِي الْأَجَل أَبُو الْفتُوح وَهُوَ ابْن أخي الْحسن وَله الذُّرِّيَّة الْكَثِيرَة الَّتِي تُوجد بقيتها بزبيد
قَالَ عمَارَة كَانَ أَبُو الْفتُوح أوحد عصره وَإِمَام مصره قَامَ بِالْعلمِ قيَاما كليا وصنف فِيهِ كتبا جليلة فِي الْفِقْه خَاصَّة وَمذهب الشَّافِعِي لم يتفقه أحد من أهل زبيد وَمن حولهَا فِي مَذْهَب الشَّافِعِي بعد وجودهَا إِلَّا مِنْهَا وَمِنْهَا كتاب التَّحْقِيق عَنهُ نقل صَاحب الْبَيَان عدَّة مسَائِل وَكفى لَهُ شَاهدا بِجَوَاز الْأَخْذ عَنهُ نقل صَاحب الْبَيَان إِلَى مُصَنفه الَّذِي انْتفع بِهِ كل إِنْسَان وَله مُخْتَصر فِي أَحْكَام الْجِنَايَات وَكَانَ تفقهه بِالْإِمَامِ أبي الْغَنَائِم عَن الشَّيْخ أبي حَامِد الْمُقدم الذّكر
قَالَ عمَارَة وَكَانَ أَبُو الْفتُوح لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم عَظِيم الْغَضَب فِيهِ مر بداره ابْن بجارة أحد فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة الْآتِي ذكره وَقد انتشى من الشَّرَاب وَكَانَ رجلا مَاجِنًا يحذو طَرِيق أبي نواس فِي الخلاعة وَالشعر فَجعل يُغني بِصَوْت عَال وَذَلِكَ فِي ليل فصاح بِهِ القَاضِي إِلَى هَذَا الْحَد يَا حمَار وَلم يكن ثمَّ عون على الْبَاب وارتجل ابْن بجارة
. . سَكَرَات تعتادني وخمار ... وانتشاء أعتاده ونعار
فملوم من قَالَ إِنِّي ملوم ... وحمار من قَالَ إِنِّي حمَار ... وَلم يذكر لَهُ عمَارَة تَارِيخا
وَمِنْهُم ابْنه أَبُو الْعِزّ عُثْمَان بن أبي الْفتُوح كَانَ فَقِيها مبرزا فَاضلا شَاعِرًا مفلقا سخيا محسنا إِلَى الشُّعَرَاء معدودا فِي ذَوي المروءات والإنسانيات
قَالَ عمَارَة وَكَانَ من المجيدين المكثرين يَعْنِي الشُّعَرَاء وَقد عده فيهم قَالَ وَولي من قبل أَبِيه قَضَاء الْبِلَاد المصاقبة لزبيد كحيس وفشال وَأخذ منصب الْقَضَاء بعده وَله شعر يزِيد على رقة النسيم ويستطاب كَمَا يستطاب التسنيم وَمِنْه قَوْله وَقد زار قُبُور أَهله فِي الْعرق الْمقْبرَة الْقبلية من زبيد وتعرف بمقابر بَاب سِهَام ... يَا صَاح قف بالعرق وَقْفَة معول ... وَانْزِلْ هُنَاكَ فثم أكْرم منزل
نزلت بِهِ الشم البواذخ بَعْدَمَا ... لحظتهم الجوزاء لَحْظَة أمثل
أخواي وَالْولد الْعَزِيز ووالدي ... يَا حطم رُمْحِي عِنْد ذَاك ومنصلي
هَل كَانَ فِي الْيمن الْمُبَارك قبلهم ... أحد يُقيم صغا الْكَلَام الأميل
حَتَّى أنار الله سدفة أَهله ... ببني عقامة بعد ليل أليل
. .. لَا خير فِي قَول امرىء متمدح ... لَكِن طغا قلمي وأفرط مقولي ... وَمن شعره فِي زُرَيْق الفاتكي الْوَزير الْآتِي ذكره ... نَفسِي إِلَيْك كَثِيرَة الأنفاس ... لَوْلَا مقاساة الزَّمَان القاسي ... وامتدحه الجليس أَبُو الْمَعَالِي حِين دخل الْيمن بقصائد كَثِيرَة من بَعْضهَا ... ابْني عقامة لست مقتصدا ... فِي وصفكم بالمدح مَا عِشْت ...
. . علقت يَدي مِنْكُم بِحَبل فَتى ... مَا فِي مرائر وده أمت ... وَصَارَ الْعلم إِلَى طبقَة اخرى فَيَنْبَغِي الْبِدَايَة بِالْإِمَامِ الَّذِي عَمت بركته وَظَهَرت شهرته وَهُوَ أَبُو أُسَامَة زيد بن عبد الله بن جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم اليفاعي بَلَدا وَهِي قَرْيَة بالمعافر تسمى يفاعة بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَالْفَاء ثمَّ ألف وَفتح الْعين الْمُهْملَة ثمَّ هَاء بعْدهَا أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا فَقَالَ كَانَ من أَعْيَان عُيُون الْعلمَاء فِي الْيمن وأفراد شُيُوخ الزَّمن أستاذ الأستاذين وَشَيخ المصنفين زيد بن عبد الله تدير الْجند تفقه فِي بدايته بِابْن جَعْفَر مقدم الذّكر وبإسحاق الصردفي وَتزَوج بِإِحْدَى ابْنَتَيْهِ كَمَا قدمنَا وارتحل مَكَّة فَأخذ بهَا عَن الشَّيْخَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ الشَّاشِي وَأبي نصر الْبَنْدَنِيجِيّ مصنفات الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ ثمَّ مصنفاتهما وَكَانَ من أَصْحَاب أبي إِسْحَاق ثمَّ عَاد إِلَى الْجند فَاجْتمع النَّاس إِلَيْهِ من نواح شَتَّى فقرأوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَن شَيْخه الإِمَام أَبُو بكر بن جَعْفَر فِي الْجند يدرس ويفتي فمالت قُلُوب النَّاس إِلَى هَذَا الْفَقِيه بِخِلَاف شَيْخه فَأخذُوا عَنهُ الْعلم وَكثر أَصْحَابه وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه كَانَ كلما وَصله طَالب أقرأه من غير بحث لَهُ عَن حسب أَو نسب وَالْإِمَام أَبُو بكر لَا يقرىء إِلَّا من تحقق حَسبه وَنسبه وصلاحه كَمَا قدمت ذَلِك فِي ذكره وَلَقَد سَأَلت بعض أهل الْمعرفَة عَن معنى ذَلِك فَقَالَ نظر الْفَقِيه أَبُو بكر إِلَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تُؤْتوا الْحِكْمَة غير أَهلهَا فتظلموها وَذهب الْفَقِيه زيد إِلَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يأتيكم أَقوام من أَطْرَاف الأَرْض يطْلبُونَ الْعلم فَاسْتَوْصُوا بهم خيرا وَلم يفرق بَين طَالب وطالب ثمَّ قَالَ وَقَول الْحُكَمَاء يمِيل إِلَى تَرْجِيح مَذْهَب الْفَقِيه أبي بكر إِذْ صَحَّ عَن بزرجمهر أَنه قَالَ لَا تعلمُوا أَوْلَاد السفلة الْعُلُوم فَإِنَّهُم مَتى علموها طالبوا معالي الْأُمُور فَإِن نالوها أولعوا بمذلة الْأَحْرَار كَمَا يرْوى ذَلِك فِي الْمشَاهد وَأَبَان ذَلِك عَن جمَاعَة لَوْلَا خشيَة
الإطالة وَعدم كَون ذَلِك لَيْسَ من ملازم الْكتاب لذكرته كَمَا ذكر
وَكَانَت مدرسة الْفَقِيه عَن يَمِين الْمِنْبَر وَرُبمَا اتكأ وَقت التدريس على الْمِنْبَر وَكَانَ أَصْحَابه فَوق ثلثمئة متفقه فِي غَالب الْأَيَّام يقوم بإعالتهم قوتا وَكِسْوَة وَكَانُوا يملأون مَا بَين الْبَاب والمنبر كَثْرَة وَكَانَ الْفَقِيه أَبُو بكر شَيْخه يقرىء فِي الزاوية الَّتِي تَحت جِدَار بِئْر زَمْزَم وَكَانَ أَصْحَابه فِي غَالب الْأَحْوَال نَحْو خمسين طَالبا هَكَذَا ذكر بعض معلقي أخبارهم وَلم يزل ذَلِك من شَأْنهمْ حَتَّى تمت الْحِيلَة من الْمفضل فِي التَّفْرِيق بَينهم وَذَلِكَ أَنه مَاتَ ميت من أهل الْجند فَخرج الإِمَام زيد وَالْإِمَام أَبُو بكر بن جَعْفَر فِي أصحابهما يقبرون وَعَلِيهِ الثِّيَاب الْبيض لبس الحواريين والمفضل يَوْمئِذٍ بقصر الْجند فحانت مِنْهُ نظرة إِلَى الْمقْبرَة فَرَأى فِيهَا جمعا عَظِيما مبيضين فَسَأَلَ عَن ذَلِك فَقيل قبران ميت غَالب من حَضَره من الْفُقَهَاء فَعرض بذهنه مَا فعله ابْن المصوع مَعَ أَخِيه حَيْثُ قَتله وَقَالَ هَؤُلَاءِ يكفروننا وَلَا نَأْمَن خُرُوجهمْ علينا مَعَ الْقلَّة فَكيف مَعَ الْكَثْرَة ثمَّ قَالَ لحاضري مَجْلِسه انْظُرُوا كَيفَ تفرقون بَينهم وتدخلون الْبغضَاء عَلَيْهِم بِالْوَجْهِ اللَّطِيف فَجعلُوا يولون الْقَضَاء بعض أَصْحَاب الإِمَام زيد أَيَّامًا ويعزلونه وَيُوَلُّونَ مَكَانَهُ من أَصْحَاب الإِمَام أبي بكر بن جَعْفَر ثمَّ يولون إِمَامَة الْجَامِع كَذَلِك ثمَّ النّظر فِي أَمر الْمَسْجِد كَذَلِك حَتَّى ظهر السباب بَين الحزبين وَكَاد يكون بَين الْإِمَامَيْنِ فَعلم الإِمَام زيد ذَلِك فارتحل مُهَاجرا إِلَى مَكَّة
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ الإِمَام زيد وقاضيه مُسلم بن الْفَقِيه أبي بكر بن أَحْمد بن عبد الله الصعبي الْمُقدم ذكره وولداه مُحَمَّد وأسعد وَإِمَام الْجَامِع الشَّيْخ حسان بن مُحَمَّد بن زيد بن عمر مَعَ أَتبَاع لَهُم كثير حزبا وَالْإِمَام أَبُو بكر وقاضيه مُحَمَّد بن عبد الله اليافعي وَإِمَام الْمَسْجِد الشَّيْخ يحيى بن عبد الْعَلِيم مَعَ جمَاعَة غَيرهم حزبا وَلما شاع ذَلِك عزم الْفَقِيه زيد على الارتحال خوف الْفِتْنَة وَالْمَشَقَّة على الْقَرِيب والبعيد من أَصْحَابه فكاتبه الْبعيد حَتَّى كتب إِلَيْهِ تِلْمِيذه الْفَقِيه الْعَالم يحيى بن مُحَمَّد بن أبي عمرَان من الملحمة الْآتِي ذكره إنْشَاء الله بقصيدة هِيَ هَذِه
. . أَحييت ذكر الْعلم وَهُوَ يبيس ... وَقتلت جهلا والمقانب شوس
وهدمت ركن الزيغ وَهُوَ مشيد ... وعمرت آي الْخَيْر وَهِي دروس
وَجعلت بُنيان المكارم شامخا ... من بعد كَانَ وربعه مطموس
ونصرت حزب الْحق وَهِي كَتِيبَة ... وهزمت جَيش الْإِفْك وَهُوَ خَمِيس
ونشرت علم مُحَمَّد وأقمته ... وكذاك فَلْيَكُن الْعلَا القدموس
وَبسطت من علم الشَّرِيعَة وَاضحا ... فحيت بِهِ بعد الْمَمَات نفوس
وتداركت كَفاك كبو عثاره ... فانساب فِي حلل الْجمال يميس
وكسوت هَذَا الْعلم حلَّة زِينَة ... فَعَلَيهِ من حلل الْجمال لبوس
طلعت على ظلم الضَّلَالَة زهرَة ... من نوره فكأنهن شموس
وحملت لِلْإِسْلَامِ عبئا لم يكن ... أحد ينوء بِحمْلِهِ فيريس
لَو أَنهم قَامُوا وَأَنَّك قَاعد ... ساويتهم وَالسير مِنْك بسيس
هَذَا وَكَيف وَأَنت قُمْت بكلما ... عَنهُ ونوء الْقَوْم عَنْك جُلُوس
مَا النَّاس غَيْرك لَو عدمت لأصبحت ... من بعْدك الأذناب وَهِي رُؤُوس
ولذل ذُو فضل وَفضل نَاقص ... فِيمَا نرى فِي قومه ونقيس
فقت الورى بديانة وتكرم ... فازدان فِيك الْعلم والتدريس
أكْرم بهَا من رُتْبَة يمنية ... فِي النَّاس مَا سبأ وَمَا بلقيس
وَلَك الْحيَاء سجية مَشْهُورَة ... وَالْعلم خلق والسخاء جليس
وَالْفضل طبع والوجاهة عَادَة ... وَالصَّبْر فَهُوَ لَهُنَّ مغناطيس
أرخصت نفسا للأنام بذلتها ... ولقل مبذول يصان نَفِيس
وَإِذا فَتى فِي الله أفنى عمره ... فَلَقَد أَرَادَ صَلَاحه القدوس
والعمر ينْفد والأمور كَثِيرَة ... وَالنَّاس مِنْهُم سائس ومسوس
حسب امرىء فِي النَّاس طَاعَة ربه ... حَتَّى يذاق من الْحمام كؤوس
زيد بن عبد الله أَنْت إمامنا ... فِي عصرنا والعالم القسيس
كم نعْمَة أوليتنا مَشْهُورَة ... مَا الشَّمْس يخفي ضوءها الناموس ...
. . قسما لما نسطيع شكرك عمرنا ... أبدا وَمَا تِلْكَ الْيَمين غموس
لَو دَامَ منا بكرَة وَعَشِيَّة ... لم يغن تبكير وَلَا تغليس
وَمَتى قنعنا بل يُرْجَى إِن يرى ... كل امرىء لَك فِي يَدَيْهِ مروس
وَالْكل أَن غرقوا فقد هَلَكُوا مَعًا ... منا وَآخر عِنْده مغموس
أوردتنا الْبَحْر الخضم فغامس ... وَإِذا يفوز بهلكهم إِبْلِيس
فتدارك الغرقى واستنقذهم ... بِالْعلمِ فَهُوَ لديننا جاسوس
وَالْعلم عمدتنا وأصل أمورنا ... وَعَلِيهِ يثبت للبنا التأسيس
وَالْكل غرسك غير أَن من الظما ... قد كَاد يهْلك غرسك المغروس
لَو عَايَنت عَيْنَاك أغصانا لَهُ ... فِيهِ النظارة ينثني وينوس
غنت بِهِ أطياره وتساقطت ... أثماره لَوْلَا اعتراه يبوس
لِرَحْمَتِهِ وسقيته مثعنجرا ... فلئن فعلت فَلَنْ يرَاهُ البوس
فلديك بَحر زاخر متغطمط ... طام وَردت عَلَيْهِ العيس
فلئن غفلت وَلم تذاركه فقد ... آل العناء لِأَنَّهُ مأيوس
وَسمعت قوما يهرجون بِرجلِهِ ... فَالْحق مَا قَالُوهُ أَو تهويس
إِن كَانَ ذَاك فَإِن أهل بِلَادنَا ... جَاءَتْهُم بعد السُّعُود نحوس
وتبدلوا من نَضرة ومسرة ... يَوْمًا لَهُ وَجه عَلَيْهِ عبوس
فلئن وطئن ركابكم فِي بَلْدَة ... سوى فخدي ذَلِك الموطوس
ولأسقين سما ذعافا ناقعا ... وَكَأن ساقي السم جالينوس
وَالروح إِن فَارَقت فَارق جِسْمه ... وَقفا عَلَيْك مدى الْحَيَاة حبيس
لَا تصغين لبائس ذكر النَّوَى ... فالشر أول أمره تيئيس
حاشاك من قتل النُّفُوس وغمطها ... فالقتل عِنْد الْعَالمين خسيس
وَالْقَوْل فِي قطع الْأَحِبَّة فَاسد ... والرأي فِي تنفيرهم منكوس
حَتَّى مَتى يَأْتِي الزَّمَان بمثلهم ... إِن الزَّمَان بمثلهم مفلوس
كم مِنْهُم حام لدين الله مَا ... فِي ذَاك توهيم وَلَا تلبيس
ذِي لبدتين غضنفر مبلغ ... عِنْد المصاع إِذا اقمطر وطيس ...
. . فَإِذا أَتَى الأخوان صَار كَأَنَّهُ ... مِمَّا اعتراه من الْحيَاء عروس
قد صرت رَأس الْمُسلمين لدينهم ... وَلكُل قوم عُمْدَة وَرَئِيس
فَإِذا ارتحلت فَرُبمَا عَن دينهم ... مالوا وَقد عضت عَلَيْهِ ضروس
هَذَا مقَال من محب نَاصح ... مَا فِيهِ تنميق وَلَا تَدْلِيس
مثل النداء هُوَ الشعار لديننا ... وشعار دين سواكم الناقوس
واسلم وَدم فِي ألف ألف مَسَرَّة ... مَا غرد الْقمرِي والطاووس
ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي وَآله ... مهما تردد فِي الأنوف نفوس ... وَقد استكملت هَذِه القصيدة لحسن ألفاظها وعذوبة إيرادها وعدالة قَائِلهَا وَاسْتِحْقَاق من قيلت فِيهِ وَهِي من القصائد الطنانة بَين الْفُقَهَاء الَّذين رسخت أصولهم فِي الْفِقْه وخصوصا فِي الْجِهَة الأصابية واليحصبية والمشرقية وَهِي خَمْسَة وَخَمْسُونَ بَيْتا ثمَّ إِن الإِمَام زيد لما طَالَتْ عَلَيْهِ المشاققة ارتحل إِلَى مَكَّة حسما للمشاققة وَهِي الرحلة الثَّانِيَة فِي سنة خمسمئة فَلبث هُنَالك اثْنَتَيْ عشرَة سنة مَاتَ فِي أَثْنَائِهَا شيخاه الإمامان الطَّبَرِيّ والبندنيجي مقدما الذّكر فتعينت الْفَتْوَى على الإِمَام زيد والتدريس كَذَلِك إِذْ لم يكن بعدهمَا أكبر قدرا مِنْهُ فِي علمه وَعَمله
قَالَ ابْن سَمُرَة وَذَلِكَ أَنه كَانَ حَافِظًا نقالا كَانَ يحفظ ثلثمئة مَسْأَلَة فِي الْخلاف بأدلتها وعللها وَكَانَ فِي أثْنَاء إِقَامَته بِمَكَّة يَأْتِيهِ مغل أرضه من الْيمن موفرة فيقتات بَعْضهَا ويعامل ببقيتها حَتَّى يحصل لَهُ بِسَبَب ذَلِك مَال جزيل وَلم يزل مجللا مُعظما عِنْد المكيين وَغَيرهم حَتَّى حصلت فتْنَة بَين مُتَقَدِّمي مَكَّة وَبَين الطَّبَرِيّ بِسَبَب الْقَضَاء وَالْفَتْوَى وثار من ذَلِك شَيْء من أُمُور السلاطين وأهويتهم فتجهز الْفَقِيه عِنْد ذَلِك من مَكَّة نافرا حَتَّى لحق الْجند فَقَدمهَا سنة اثْنَتَيْ عشرَة وخمسمئة وَقيل ثَلَاث عشرَة وَكَانَ الْمفضل قد توفّي بعد خُرُوج الْفَقِيه بِنَحْوِ أَربع سِنِين وللا ذَلِك لم يرغب الْفَقِيه فِي عود الْجند وَلما تسامع النَّاس بمصير الإِمَام زيد فِي الْجند وصلوه من جَمِيع أنحاء الْيمن وَاشْتَغلُوا بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ وَكَانَ الْفَقِيه أَبُو بكر بن جَعْفَر قد توفّي أَيْضا فَلم يبْق بِالْيمن من يقْصد للمعضلات وَحل المشكلات غير هَذَا الْفَقِيه فوصله طلبة الْعلم من عدن وَأبين ولحج وأنحائها ثمَّ من تهَامَة وَحضر موت وَمن الْجبَال المعافر والمخلاف ثمَّ تفقه بِهِ جمع من أهل الْجند نَوَاحِيهَا كسير وزبران وسهفنة ونخلان وَالسَّلَف
وقياض وَمَا بلد من هَذِه الْبِلَاد إِلَّا وَله فِيهَا أَصْحَاب عرفُوا بِالْأَخْذِ عَنهُ
وَمن الْجند أَبُو بكر بن مُحَمَّد اليافعي وَغَيره وَمن ناحيتها عبد الله بن أَحْمد الزبراني وَيحيى بن أبي الْخَيْر من سير وَمُسلم بن أبي بكر من سهفنة وَعبد الله بن عُمَيْر العريقي وَيحيى بن مُحَمَّد من الملحمة صَاحب القصيدة الْمَذْكُورَة أَولا وَأَبُو حَامِد بن أبي بكر الأصبحي من الذنبتين وَلما صَار الْفَقِيه بالجند بَالغ فِي لُزُوم طَرِيق الخمول بِحَيْثُ كَانَ يدرس فِي بَيته فِي الْغَالِب ثمَّ مَتى صلى فِي الْجَامِع صلى بمؤخره وَكَانَ متورعا متنزها عَن صُحْبَة الْمُلُوك وخلطة الظلمَة وَقبُول جوائزهم بِحَيْثُ أجمع أهل زَمَانه على نزاهة عرضه وجودة علمه وَشدَّة ورعه أجمع على فَضله المؤالف والمخالف وَشهد لَهُ بِالْفَضْلِ كل عَارِف وَكَانَ مَعَ ذَلِك ذَا عبَادَة مِنْهَا أَنه كَانَ يخرج فِي كل لَيْلَة من منزله بعد هدوء اللَّيْل واشتغال النَّاس بحلاوة النّوم فَذكرُوا أَن بعض من بَات بِالْمَسْجِدِ رأى الْفَقِيه قد دخل الْمَسْجِد وَجعله بِبَالِهِ فَجعل يُصَلِّي مَا شَاءَ الله فِي الْمِحْرَاب ثمَّ خرج من الْمَسْجِد وَتَبعهُ الرجل فَلَمَّا صَار على الْبَاب أَعنِي بَاب الْمَدِينَة انْفَتح لَهُ فَخرج الْفَقِيه وَتَبعهُ الرجل مسرعا فَسَار الْفَقِيه حَتَّى صَار مَوضِع قَبره فَأحْرم وَجعل يتركع حَتَّى صعد الْمُؤَذّن المأذنة فأخف صلَاته وَعَاد الْمَدِينَة كَمَا خرج وَانْفَتح لَهُ بَابهَا ثمَّ بَاب الْمَسْجِد فَلَمَّا صلى الصُّبْح وَقعد يذكر الله وَالرجل فِي كل ذَلِك يراقبه من حَيْثُ لَا يشْعر ثمَّ دنا مِنْهُ وَقبل يَده وَأخْبرهُ بِمَا رَآهُ من الْأَمر فَقَالَ إِن أَحْبَبْت الصُّحْبَة فَلَا تخبر أحدا مَا دمنا فِي الْحَيَاة فَلم يخبر بذلك إِلَّا بعد وَفَاة الإِمَام رَحمَه الله وَكَانَ يخبر بِزِيَادَة غير مَا ذكرنَا لَكِن اقتصرنا على مَا تكَرر نَقله وَشهر خَبره
قَالَ ابْن سَمُرَة أَخْبرنِي الشَّيْخ مَنْصُور بن أَحْمد أَبُو تُرَاب العودري أَنه دخل مَدِينَة الْجند يُرِيد يسْأَل الْفَقِيه زيد بن عبد الله عَن مَسْأَلَة فَرضِيَّة قَالَ فَوجدت الْفَقِيه يقرىء أَصْحَابه بدهليز بَيته وَكَانَ صَغِير الْخلق فَلَمَّا رَأَيْته هِبته هَيْبَة عَظِيمَة واستكبرت مقَامه فغلطت فِي سُؤَالِي وتلجلجت فِي كَلَامي فآنسني الْفَقِيه بِكَلَامِهِ ورد عَليّ اللَّفْظ حَتَّى أنست وأقمت سُؤَالِي فحين عرفه جوب لي أبين جَوَاب ثمَّ لم يزل الْفَقِيه على الْحَال المرضي دينا وورعا حَتَّى توفّي بِأحد الربيعين الكائنين فِي سنة أَربع عشرَة وَقيل خمس عشرَة وَخَمْسمِائة فقبر بالمقبرة الغربية من مَدِينَة الْجند وتربته هُنَالك مَشْهُورَة لم أر فِي الْيمن تربة مثلهَا يَتَجَدَّد مَعْرفَتهَا وَيكثر زائرها
وَلَقَد يجد الزائر فِي نَفسه كَأَن
هَذَا الإِمَام إِنَّمَا مَاتَ وَدفن عَن قريب وَله إِلَى وَقت وضعي لهَذَا الْكتاب آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة مئتا سنة وَسبع سِنِين فَلَا يكَاد أحد يَأْتِي تربته تَخْلُو عَن الزائر وَقل مَا قَصدهَا ذُو حَاجَة إِلَّا قضى الله حَاجته وَلَقَد أَخْبرنِي جمع لَا يُمكن تواطؤهم على الْكَذِب بأخبار يطول شرحها فِي ذَلِك
وَقد عرض لي مَعَ ذكر هَذَا الرجل نبذة من ذكر شَيْخه الطَّبَرِيّ والبندنيجي فَأَما الْبَنْدَنِيجِيّ فَإِنَّهُ لما قدم بمصنفات الشَّيْخ أبي إِسْحَاق صُورَة وَمعنى عكف النَّاس عَلَيْهِ وأخذوها عَنهُ وَمد ذَلِك إِلَى عصرنا لم يكد أحد يتفقه من غَيرهَا إِلَّا بعد التفقه مِنْهَا
ويروي فُقَهَاء الْيمن لَهَا فَضَائِل يطول تعدادها مِنْهَا مَا أخبرنيه الْفَقِيه أَبُو بكر بن الْفَقِيه أَحْمد بن الرَّسُول الأبيني الْآتِي ذكره أخبرنَا الْفَقِيه أَحْمد بن عمرَان أَنه كَانَ لَا يرى الْمُهَذّب طائلا وَيَقُول فقهه ظَاهر فَلَمَّا كَانَ ذَات لَيْلَة رأى فِي الْمَنَام رجلا فاتحا كتابا وَهُوَ يُشِير إِلَيْهِ أَن ينظر فِي الْكتاب قَالَ فَنَظَرت فَإِذا فِيهِ روى الْخَلِيل بن أَحْمد عَن عبد الْأَعْلَى بِسَنَدِهِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من صلى عَليّ سبعين مرّة وَسَأَلَ الله بالمهذب ومؤلفه قضى الله لَهُ اثْنَتَيْنِ وَسبعين حَاجَة أدناه الْمَغْفِرَة وَمن أَمْثَال هَذِه الرِّوَايَة كثير
وَقد دخل الْيمن عدَّة مصنفات موجزة ومبسوطة لم يكد يحصل لَهَا من الْقبُول طائل وَلَا انْتفع بهَا النَّاس كَمَا انتفعوا بمصنفات الإِمَام أبي إِسْحَاق حَتَّى قَالَ لي بعض الْفُقَهَاء الْمُحَقِّقين من فُقَهَاء الْعَجم وَقد أَقَامَ فِي الْيمن مُدَّة وَوجد نقل أَهله وفتواهم ومناظراتهم إِنَّمَا هُوَ عَن كتب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَمَتى نقل ناقل عَن غَيرهَا قل أَن يستجاد نَقله أَو يستكمل عقله ثمَّ شاركها فِي ذَلِك كتب الْغَزالِيّ مَعَ تَخْصِيص ثمَّ ولي كتب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي الْعُمُوم وَالتَّحْقِيق الْكتاب الْمُبَارك الْمُسَمّى بِالْبَيَانِ
فمصنفات الشَّيْخ أبي إِسْحَاق هِيَ الْمُقدمَة وَمَعَهَا كتاب الْبَيَان إِذْ نحا نَحْوهَا وحقق تحقيقها وَوجد طريقها وَلم ترد مصنفات الْغَزالِيّ إِلَى الْيمن إِلَّا بعد وجود هَذِه المصنفات واستطارتها بَين الْفُقَهَاء وإقبال النَّاس عَلَيْهَا وَكَانَ أول من قدم بهَا الإِمَام زيد وَأخذت عَنهُ ثمَّ بعده أخذت عَن ابْن عبدويه الْآتِي ذكره
ثمَّ لما كَانَ الْأَمر كَذَلِك وَعرض ذكر الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وتلميذيه الطَّبَرِيّ والبندنيجي مَعَ ذكر الشَّيْخ زيد اتجه بَيَان اللَّائِق من أَحْوَالهم إِذْ مِنْهُم إِلَى عصرنا لم يكد يتفقه أحد من أهل الْيمن بِغَيْر طريقهم وروايتهم لكتب شيخهم فرأت الْبِدَايَة بِذكر الشَّيْخ إِذْ هُوَ العنصر
فَهُوَ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن يُوسُف الشِّيرَازِيّ الفيروزاباذي مولده سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلثمائة بفيروزأباد
قَالَ ابْن خلكان وَهِي بَلْدَة بِفَارِس وَيُقَال هِيَ مَدِينَة جور نَقله عَن الْحَافِظ أبي سعيد السَّمْعَانِيّ فِي كِتَابه الْأَنْسَاب وضبطها بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم الرَّاء الْمُهْملَة ثمَّ وَاو سَاكِنة ثمَّ زَاي مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ ذال مُعْجمَة قدم بَغْدَاد بعد أَن تفقه بِبَلَدِهِ وَغَيرهَا بعض التفقه فَلَزِمَ مجْلِس أبي القَاضِي الطّيب الطَّبَرِيّ وَكَانَ بِهِ كَمَال تفقه وناب عَنهُ فِي مَجْلِسه ورتبه معيدا فِي حلقته وَلما بنى نظام الْملك مدرسته بِبَغْدَاد سَأَلَهُ أَن يتَوَلَّى تدريسها فَلم يفعل فولاها أَبَا نصر بن الصّباغ مُدَّة ثمَّ إِن الشَّيْخ أجَاب إِلَى توليتها فَلم يزل بهَا حَتَّى مَاتَ
قَالَ ابْن خلكان وَله التصانيف الْمُبَارَكَة المفيدة مِنْهَا الْمُهَذّب والتنبيه فِي الْفِقْه واللمع وَشَرحهَا فِي الْأُصُول والنكت والتبصرة فِي الْخلاف والمعونة فِي الجدل وَله الشّعْر الرَّائِق الْحسن مِنْهُ قَوْله ... سَأَلت النَّاس عَن خل وَفِي ... فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيل
تمسك إِن ظَفرت بود حر ... فَإِن الْحر فِي الدُّنْيَا قَلِيل ... وَمِمَّا سمع من لَفظه متمثلا كثيرا ولمناقبه كتاب قد جمعت فِيهِ وَلَوْلَا الإطالة
لذكرت طرفا جيدا مِنْهَا وَكَانَ فِي غَايَة من الْوَرع والتشدد فِي الدّين وعَلى الْجُمْلَة فمحاسنه أَكثر من أَن تحصر وَسمع من لَفظه ينشد ... يَا سائلي عني فَإِنِّي ... لأهل الْفضل كلهم غُلَام
أحبهم لأَنهم قَلِيل ... وَفِي الأنذال والسفل ازدحام ... وَهَذَانِ البيتان حِكْمَة يَنْبَغِي لأهل الْفضل حفظهما وروايتهما وَمن المسموع عَنهُ لغيره ... وَلما وقفنا بالصراة عَشِيَّة ... حيارى لتوديع ورد سَلام
وقفنا على رغم الحسود وكلنَا ... يفض على الأشواق كل ختام
وشوقني عِنْد الْوَدَاع عفافه ... فَلَمَّا رأى وجدي بِهِ وغرامي
تلثم مُرْتَابا بِفضل رِدَائه ... فَقلت هِلَال بعد بدر تَمام
فقبلته فَوق اللثام فَقَالَ لي ... هُوَ الْخمر إِلَّا أَنه بفدام ... وَمِنْه أَيْضا ... يَا عبد كم لَك من ذَنْب ومعصية ... إِن كنت ناسيها وَالله أحصاها
يَا عبد لَا بُد من يَوْم تقوم لَهُ ... ووقفة مِنْك تدمي الْقلب ذكرَاهَا
إِذا عرضت على نَفسِي تذكرها ... وساء ظَنِّي قلت أسْتَغْفر الله ... وَمِمَّا سمع من لَفظه إِلَى هُنَا أَخَذته من الْمُخْتَصر الَّذِي جمع فِي مناقبه وَمَا قبل ذَلِك أَخَذته من كتاب ابْن خلكان وَلم يزل على الْحَال المرضي حَتَّى توفّي لَيْلَة الْأَحَد بعد الْعشَاء حادي عشر من جُمَادَى الْآخِرَة الْكَائِن فِي سنة سِتّ وَسبعين وأربعمئة وَصلى عَلَيْهِ الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله ثمَّ وزيره وقاضي الْقُضَاة وَجَمِيع الخدم بِبَاب الفردوس ثمَّ أخرج فصلى عَلَيْهِ صَاحبه أَبُو عبد الله الطَّبَرِيّ وَجَمِيع من فِي الْجَانِبَيْنِ وَدفن فِي حَائِط بُسْتَان ظفر بالجانب الشَّرْقِي بِبَاب أبزرورثاه جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْقَاسِم بن باقياء بقصيدة مِنْهَا قَوْله ... أجْرى المدامع بِالدَّمِ المهراق ... خطب أَقَامَ قِيَامَة الْآفَاق
مَا لليالي لَا تؤلف شملها ... بعد ابْن بجدتها أبي إِسْحَاق
إِن قيل مَاتَ فَلم يمت من ذكره ... حَيّ على مر اللَّيَالِي بَاقِي ...
وَلما استولى الصليحي على ريمة المناخي وطرد أَهله عَنهُ خرج صَاحبه عَمْرو الْأَشْعَرِيّ من الْيمن وَلحق بِبَغْدَاد وَأدْركَ بهَا الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق فصحبه وأحبه وَوَافَقَ ذَلِك وَفَاة خَليفَة وقتهم وافتقر النَّاس إِلَى قيام خَليفَة آخر فاتفقوا على أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى العقد للخليفة وَذَلِكَ سنة سبع وَسِتِّينَ وأربعمئة أَظُنهُ الْمُقْتَدِي على مَا أَظُنهُ ظَاهر بِرِوَايَة ابْن سَمُرَة عَنهُ فَلَمَّا رَضِي الْعلمَاء وأفاضل النَّاس بالشيخ أبي إِسْحَاق وَقد صعد الْمُخْتَار من بني الْعَبَّاس ذرْوَة الْمِنْبَر ووقف ينْتَظر صعُود الشَّيْخ إِلَيْهِ فَلَمَّا صَار بالمنبر سقط فَابْتَدَرَهُ الْخَلِيفَة وَالْعُلَمَاء وَكَانَ الْخَلِيفَة ضليعا فسبقهم إِلَيْهِ وأقامه وأصعده إِلَى رَأس الْمِنْبَر فَلَمَّا اسْتَوَى على رَأسه حمد لله وَصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعقد الْخلَافَة فَلَمَّا فرغ قَالَ لَهُ الْخَلِيفَة هَل من حَاجَة قَالَ نعم أَخْبرنِي فلَان عَن فلَان مُسْندًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا من خَليفَة إِلَّا وَله دَعْوَة مجابة وَأُرِيد أَن تَدْعُو لي فَدَعَا لَهُ من فوره وَأمن الْحَاضِرُونَ
وَلِهَذَا عَمْرو الْأَشْعَرِيّ المناخي فِي الشَّيْخ أبي إِسْحَاق مدائح مِنْهَا قَوْله فِي بَعْضهَا ... وَلَقَد رضيت عَن زمَان وَإِن رمى ... قومِي بخطب ضعضع الأركانا
لما أَرَانِي طلعة الحبر الَّذِي ... أَحْيَا الْإِلَه بِعِلْمِهِ الأديانا
أزكى الورى دينا وَأكْرم شِيمَة ... وأمد فِي طلق الْعُلُوم عنانا
وَأَقل فِي الدُّنْيَا البصيرة رَغْبَة ... ولطالما قد أضنت الرهبانا
صدق الرَّسُول الطُّهْر فِي إطرائه ... أَبنَاء فَارس جهرة إعلانا
فِي كل عصر مِنْهُم علم بِهِ ... يُبْدِي الْإِلَه الرشد والتبيانا
مِنْهُم أَبُو إِسْحَاق مِصْبَاح الْهدى ... وشهاب نور كاشف الأدجانا
لله إِبْرَاهِيم أَي مُحَقّق ... صلت إِذْ رب البصيرة لانا
فتخاله من زهده ومخافة ... لله قد نظر الْمعَاد عيَانًا ... وَإِنَّمَا ذكرت الأبيات لِأَن ابْن سَمُرَة ذكرهَا وَلِأَن قَائِلهَا من أَعْيَان الْيمن وملوكهم
وَلما كَانَ كَمَال تفقهه بِالْقَاضِي أبي الطّيب اتجه أَيْضا بَيَان اللَّائِق من أَحْوَاله إِذْ هُوَ شيخ أهل الطَّبَقَة الْمُتَأَخِّرَة من أهل الْيمن وَقد قدمنَا بَيَان ذَلِك
وَهُوَ أَبُو الطّيب طَاهِر بن عبد الله بن طَاهِر بن عمر الطبرستاني مولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلثمائة وَنسبَة الطَّبَرِيّ إِلَى طبرستان بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء ثمَّ سين سَاكِنة مُهْملَة ثمَّ فتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ثمَّ ألف ثمَّ نون
قَالَ ابْن خلكان وَهِي ولَايَة كَبِيرَة تشْتَمل على بِلَاد كَثِيرَة خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْعلمَاء وَالنِّسْبَة إِلَى طبرية الشَّام طبراني فَاعْلَم ذَلِك فَإِن كثيرا من النَّاس يغلط فِيهِ وَلذَلِك بَينته وَكَانَ تفقه القَاضِي أبي الطّيب فِي ابْتِدَائه بآمد على أبي عَليّ الزجاجي صَاحب أبي الْعَبَّاس بن الْقَاص ثمَّ على أبي سعيد الْإِسْمَاعِيلِيّ وعَلى أبي الْقَاسِم بن كج بجرجان ثمَّ ارتحل إِلَى نيسابور فَأدْرك أَبَا الْحسن الماسرخسي صَاحب أبي إِسْحَاق الْمروزِي الْمُتَقَدّم الذّكر فَلَزِمَ مَجْلِسه أَربع سِنِين ثمَّ انْتقل إِلَى بَغْدَاد فَأخذ بهَا عَن أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الْخَوَارِزْمِيّ صَاحب الداركي وَحضر مجْلِس الشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرائيني وَلم يثبت أَنه أَخذ عَنهُ أثنى عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَقَالَ لم أر فِيمَن رَأَيْت أكمل اجْتِهَادًا وَأَشد تَحْقِيقا وأجود نظرا فِي الْفِقْه مِنْهُ شرح الْمُخْتَصر وفروع ابْن الْحداد وصنف فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول والجدل كتبا كَثِيرَة لَيْسَ لأحد مثلهَا عمر مئة سنة وسنتين لم يخْتل عقله وَلَا تغير فهمه يُفْتِي مَعَ الْفُقَهَاء ويستدرك عَلَيْهِم الْغَلَط وَيَقْضِي بمحاضرهم فيحضر المواكب فِي دَار الْخلَافَة وَلم يزل فِي ذَلِك حَتَّى توفّي يَوْم السبت لعشر بَقينَ من شهر ربيع الأول سنة خمسين وأربعمئة فِي بَغْدَاد وَدفن بمقبرة بَاب حَرْب
وَأما شُيُوخه الْمُقدم ذكرهم فَأَبُو عَليّ الزجاجي تفقه بِأبي الْعَبَّاس بن الْقَاص
وَعنهُ أَخذ فُقَهَاء آمد وَلم يذكر أَبُو إِسْحَاق غير مَا ذكرت وتفقه الزجاجي بِأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي أَحْمد عرف بِابْن الْقَاص الطَّبَرِيّ بتفقهه بِابْن سُرَيج وَكَانَ من أَئِمَّة الْمَذْهَب صنف المصنفات البديعة الْمِفْتَاح وأدب الْقَضَاء والمواقيت وَالتَّلْخِيص الَّذِي شَرحه أَبُو عبد الله حسن الْإِسْمَاعِيلِيّ وَقَالَ تمثلت فِيهِ بقول الشَّاعِر ... عقم النِّسَاء فَمَا يلدن بِمثلِهِ ... إِن النِّسَاء بِمثلِهِ عقم ... وَعنهُ أَخذ فُقَهَاء طبرستان وَكَانَت وَفَاته بطرسوس
قَالَ ابْن خلكان كَانَ إِمَام وقته فِي طبرستان وَكَانَ يعظ النَّاس فَانْتهى فِي بعض أَسْفَاره إِلَى طرسوس وَعقد لَهُ مجْلِس وعظ وأدركته خشيَة وروعة من ذكر الله تَعَالَى فَخر مغشيا عَلَيْهِ ثمَّ توفّي عقب ذَلِك سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة وَعرف وَالِده بالقاص لِأَنَّهُ كَانَ يقص الْأَخْبَار والْآثَار وطرسوس الَّتِي توفّي بهَا قد مضى ضَبطه بَلْدَة بِفَتْح الطَّاء وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَضم السِّين الْمُهْملَة ثمَّ وَاو سَاكِنة ثمَّ سين مُهْملَة وَشَيْخه ابْن سُرَيج قد مضى اللَّائِق من أَحْوَاله واتصاله بِالْإِمَامِ الشَّافِعِي
وَأما ابْن كج فَهُوَ القَاضِي الشَّهِيد أَبُو الْقَاسِم يُوسُف بن أَحْمد بن كج صَاحب أبي الْحسن ابْن القطاني حضر مجْلِس الداركي وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي حَقه كَانَ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا جمع بَين رياسة الْفِقْه والفتيا وارتحل النَّاس إِلَيْهِ من الْآفَاق رَغْبَة فِي علمه وجودة فهمه وَله مصنفات كَثِيرَة قَتله العيارون بالدينور لَيْلَة سَابِع وَعشْرين رَمَضَان سنة خمس وأربعمئة وَشَيْخه ابْن الْقطَّان هُوَ أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد عرف بِابْن الْقطَّان قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق هُوَ آخر من عَرفْنَاهُ من أَصْحَاب بن سُرَيج درس بِبَغْدَاد وَأخذ عَنهُ الْعلمَاء وَكَانَت وَفَاته سنة تسع وَخمسين وثلثمائة
وَأما الْإِسْمَاعِيلِيّ فَهُوَ أَبُو سعيد إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن الْعَبَّاس الْإِسْمَاعِيلِيّ الْمَشْهُور بذلك قَالَ الصاحب بن عباد فِي رِسَالَة كتبهَا إِلَيْهِ
وَأما أَنْت أَيهَا الْفَقِيه أَبَا سعيد فَمن يراك حِين تدرس وتفتي وتحاضر وتروي وتكتب وتملي علم أَنَّك الحبر ابْن الحبر وَالْبَحْر ابْن الْبَحْر والضياء ابْن الْفجْر
ثمَّ ذكر مَعَه أَخَاهُ وأباه فَقَالَ رحم الله شيخكم الْأَكْبَر فَإِن الثَّنَاء عَلَيْهِ غنم وَالنِّسَاء بِمثلِهِ عقم فليفخر بكم أهل جرجان مَا سَالَ واديها وَأذن مناديها
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق قدم القَاضِي أَبُو الطّيب جرجان قَاصِدا لِأَبِيهِ فَمَاتَ قبل لِقَائِه فَأخذ عَن هَذَا بِحَق أَخذه عَن أَبِيه قَالَ وبأبيه تفقه فُقَهَاء جرجان ثمَّ أثنى عَلَيْهِ وَقَالَ جمع بَين الْفِقْه والْحَدِيث ورياسة الدّين وَالدُّنْيَا وصنف الصَّحِيح وَتُوفِّي سنة سِتّ وَتِسْعين وثلثمائة وَولده توفّي لنيف وَتِسْعين وثلثمائة
وَأما الماسرخسي فَهُوَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عَليّ بن سهل الماسرخسي تفقه بِأبي إِسْحَاق الْمروزِي بتفقهه عَن ابْن سُرَيج وَقد مضى بَيَان ذَلِك وَكَانَ متقنا للْمَذْهَب درس بنيسابور وَعنهُ أَخذ فقهاؤها ومعظم تفقه القَاضِي أبي الطّيب بِهِ لزم مَجْلِسه أَربع سِنِين وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وثلثمائة
وَأما الْخَوَارِزْمِيّ فَهُوَ شَيْخه بِبَغْدَاد وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْخَوَارِزْمِيّ الْبَانِي يرْوى بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون سمعناه كَذَلِك تفقه بالداركي أثنى عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَقَالَ فِي حَقه كَانَ فَقِيها شَاعِرًا أديبا مترسلا كَرِيمًا درس بِبَغْدَاد بعد شَيْخه الداركي وَتُوفِّي سنة ثَمَانِي وَسبعين وثلثمائة وَشَيْخه الإِمَام الداركي هُوَ أَبُو الْقَاسِم عبد الْعَزِيز بن عبد الله الداركي كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بِأبي إِسْحَاق قد ذكرت أَن مُعظم طرق الْمروزِي عَنهُ وَإِلَيْهِ انْتهى التدريس بِبَغْدَاد وَعَلِيهِ تفقه الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرائيني وَقد مضى بَيَان طَرِيق الشَّيْخ أبي حَامِد واتصالها بِالْإِمَامِ الشَّافِعِي
ثمَّ نعود إِلَى بَيَان اتِّصَال الإِمَام زيد بن عبد الله بالشيخ أبي إِسْحَاق
قد ذكرت أَن مُعظم طرق أهل الْيمن فِي الْفِقْه خَاصَّة لَا يكَاد يتَجَاوَز هَذَا الرجل خَاصَّة فِي كتب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فاتجه بَيَان مَا ثَبت أَولا من ذكر شُيُوخه الموصلة لَهُ بالمصنف وهما الفقيهان الكبيران الطَّبَرِيّ والبندنيجي وَكَانَ الطَّبَرِيّ فِيمَا قيل أعلم الرجلَيْن لَكِن بِهِ ضيق خلق وَلذَلِك وَقل الْأَخْذ عَنهُ بِخِلَاف الْبَنْدَنِيجِيّ
والطبري هُوَ أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ تفقه بالشيخ أبي إِسْحَاق وَكَانَ متسع الْعلم فَقِيها أصوليا نحويا لغويا وَهُوَ مُصَنف الْعُمْدَة فِي الْفِقْه ولي قَضَاء مَكَّة وَقيل بل
وليه ابْنه إِبْرَاهِيم وَتُوفِّي على حَيَاة أَبِيه ثمَّ خَلفه أَبوهُ أَيَّامًا وَاعْتذر فعذر وَكَانَت وَفَاته بعد خَمْسمِائَة وَمن ذُريَّته أَبُو البركات بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الْفَقِيه مقدم الذّكر ولي الْقَضَاء وَمِنْهُم جمَاعَة بِمَكَّة قَالَه ابْن سَمُرَة قَالَ وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن الْفَقِيه أَيْضا حُسَيْن الْمَذْكُور وَكَانَ فَقِيها مجودا لَوْلَا أَنه اشْتغل بِالْعبَادَة مَعَ الصُّوفِيَّة لَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه وَالْخلاف
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ الْفُقَهَاء يكْرهُونَ اشْتِغَال الْعَالم بِالْعبَادَة وَيَقُولُونَ أَنه فرار من الْعلم وَلَعَلَّ الطبريين الْمَوْجُودين الْآن بِمَكَّة من ذُريَّته
وَأما الْبَنْدَنِيجِيّ فَهُوَ أَبُو نصر هبة الله بن ثَابت الْبَنْدَنِيجِيّ نِسْبَة إِلَى بلد بِالْقربِ من الْبَصْرَة تسمى بندنيجين بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وخفض النُّون ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة وَفتح الْجِيم ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون تفقه بالشيخ أبي إِسْحَق مقدم الذّكر كَمَا تقدم وَكَانَ سهل الْمُقَابلَة لين الْجَانِب صبورا على الإقراء لذَلِك كَانَ الْأَخْذ عَنهُ أَكثر من الْأَخْذ عَن الطَّبَرِيّ وَكَانَ بَينهمَا منافرة ثمَّ اصطلحا وَتُوفِّي قبل الطَّبَرِيّ وَكَانَ قد كف بَصَره وَلما توفّي حضر الصَّلَاة عَلَيْهِ الطَّبَرِيّ واليفاعي ووفاته على رَأس خَمْسمِائَة وَقد مضى بَيَان ذَلِك واتصال شيخهما بِالْإِمَامِ
نرْجِع إِلَى ذكر فُقَهَاء الْيمن من أهل طبقَة الشَّيْخ زيد بن عبد الله اليفاعي وهم جمَاعَة مِنْهُم مقبل بن مُحَمَّد بن زُهَيْر بن خلف الْهَمدَانِي تفقه فِي بدايته بِأبي بكر بن جَعْفَر مقدم الذّكر وَأخذ عَن ابْن أبي ميسرَة وارتحل إِلَى كرمان وتفقه بهَا على قطب الدّين وَجَمَاعَة من فقهائها ثمَّ عَاد الْيمن فسكن ذَا أشرق رَغْبَة فِي الْكتب الْمَوْقُوفَة بهَا إِذْ كَانَ قَلِيل الْكتب وَكَانَ فَقِيها زاهدا ورعا متقللا صواما قواما مَشْهُورا باستجابة الدُّعَاء وَسكن فِي آخر عمره قَرْيَة الدمنة شَرْقي ذِي أشرق وَهِي بخفض الدَّال الْمُهْملَة بعد ألف وَلَام ثمَّ سُكُون الْمِيم وَفتح النُّون ثمَّ هَاء سَاكِنة وَله مُخْتَصر حسن فِي الْفَرَائِض وَكَانَ شَيْخه الْفَقِيه أَبُو بكر بن جَعْفَر يَأْتِيهِ إِلَى الدمنة فيجد أَصْحَابه يقرأون
عَلَيْهِ فيعجبه ذَلِك وَيَقُول صدق من سماك مُقبلا ويسأله الدُّعَاء ويحثه على الاسْتقَامَة على ذَلِك وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى توفّي بعد بُلُوغ خمسين سنة من الْعُمر وَكَانَت وَفَاته غَالِبا بعد خَمْسمِائَة سنة لم يتَزَوَّج فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أَنا حر لَا أملك نَفسِي أحدا
وَمِنْهُم سَالم بن الْفَقِيه عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن سَالم الْمُتَقَدّم الذّكر فِي أَصْحَاب الْقَاسِم وَولده عبد الله غلب تفقهه بِأَبِيهِ وَأخذ عَن ابْن أبي ميسرَة وَهَذَا سَالم هُوَ يعرف عِنْد أَهَالِيهمْ بسالم الْأَصْغَر وَهُوَ أحد شُيُوخ عمر بن إِسْمَاعِيل
توفّي بِذِي أشرق فِي شهر الْحجَّة آخر سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم عبد الله بن عبد الرَّزَّاق بن حسن بن أَزْهَر كَانَ من أتراب الْفَقِيه سَالم وزامله فِي الْقِرَاءَة عَليّ بن أبي ميسرَة ارتحلا إِلَيْهِ فَأخذ عَنهُ بجبل الصلو نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه للصفار وَذَلِكَ سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ تفقه بِأبي بكر بن جَعْفَر كَانَ فَقِيها جليل الْقدر انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة التدريس وَالْفَتْوَى فِي ذِي أشرق وتفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر بن سَالم وَكَانَت وَفَاته بِذِي أشرق سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة بعد بُلُوغ عمره سِتا وَسِتِّينَ سنة
وَمن قَرْيَة العقيرة بِالْعينِ الْمُهْملَة بعد ألف وَلَام ثمَّ قَاف مُشَدّدَة مفتوحتان ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ رَاء مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء وَهِي قَرْيَة من معشار التعكر على نصف مرحلة من الْجند كَانَ بهَا فُقَهَاء متقدمون ومتأخرون يعودون إِلَى بطن من يافع يعْرفُونَ باليحويين أول من شهر مِنْهُم الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأَغَر بن أبي الْقَاسِم بن عَوْف بن عنَاق اليحيوي ثمَّ اليافعي تفقه بِبَعْض بني عَلْقَمَة وَلَعَلَّه بعمر بن إِسْمَاعِيل بن عَلْقَمَة يُقَال حَبسه صَاحب حصن التعكر مُدَّة فَصَارَ
السجْن كَأَنَّهُ مدرسة بِكَثْرَة الْقِرَاءَة وَالصَّلَاة وتفقه عَلَيْهِ جمَاعَة هُنَالك فَلَمَّا علم صَاحب الْحصن خشِي مِنْهُ فَأَطْلقهُ وَله مُصَنف فِي الْفُرُوع أودعهُ جملَة مستحسنة من الدُّرَر وَمن ذُريَّته الْفُقَهَاء اليحيويون الْآتِي ذكر من اسْتحق الذّكر مِنْهُم مَعَ أهل طبقته
وَمِنْه الوزراء صدر الدولة المؤيدية وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة لأَرْبَع خلون من صفر الْكَائِن سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَلم يذكرهُ ابْن سَمُرَة وَإِنَّمَا كتبت إِلَى بعض الْفُقَهَاء فِي ناحيته من ذُريَّته أستخبره عَن من يحققه من أَصْحَابهم فَأَخْبرنِي بِهَذَا وَمَا ذكرته عَنهُ
وَمن بعدان إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه يَعْقُوب بن أَحْمد مقدم الذّكر تفقه بِأَبِيهِ وَكَانَ زاهدا ورعا ذكره ابْن سَمُرَة بذلك
وَمن قَرْيَة الملحمة وَقد ذكرت أَبُو الْخطاب عمر بن مُحَمَّد بن عمر بن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم مقدم الذّكر كَانَ فَقِيها خيرا من ذُريَّته الْفُقَهَاء بَنو مَضْمُون المعروفون بفقهاء الملحمة
قَالَ الْحَافِظ العرشاني الْآتِي ذكره أَخْبرنِي شَيْخي يحيى بن مُحَمَّد عَن جده هَذَا عمر أَنه قَالَ كنت بِمَكَّة عَام كَذَا وَأَرْبَعمِائَة فَكنت يَوْمًا فِي الْحرم عِنْد القيلولة فِي شدَّة الْحر وَمَا فِي المطاف إِلَّا رجل أَو رجلَانِ وَإِذا بِرَجُل عَلَيْهِ طمران مُشْتَمل على رَأسه أقبل يسير رويدا حَتَّى قرب من الرُّكْن الْأسود وَلَا أعلم مَا يُرِيد وَأَنا أنظر إِلَيْهِ فَأخْرج من تَحْتَهُ معولا وَضرب الرُّكْن ضَرْبَة شَدِيد ة حَتَّى خفقه الخفقة الَّتِي فِيهِ ثمَّ رفع يَده يُرِيد يضْربهُ ثَانِيًا ليذهبه فَابْتَدَرَهُ رجل من أهل الْيمن ثمَّ من السكاسك كَانَ فِي الطّواف فطعنه بخنجر كَانَ مَعَه طعنة عَظِيمَة فأسقطه فَأقبل النَّاس من نواحي الْمَسْجِد لينظروه فوجدوه وَقد مَاتَ وَهُوَ رومي مَعَه معول عَظِيم قد حد ليقطع بِهِ الرُّكْن ثمَّ إِن النَّاس أَخْرجُوهُ من الْحرم وجمعوا لَهُ الْحَطب وأحرقوه بالنَّار وَلم أجد لَهُ تَارِيخا
وَمن المشيرق ثمَّ من بني ملامس الأخوان مُحَمَّد وَعلي ابْنا أسعد الْفَقِيه بن الْفَقِيه خير بن الإِمَام يحيى بن عِيسَى بن ملامس أخذا عَن أَبِيهِمَا وسمعا عَلَيْهِ البُخَارِيّ من جملَة جمَاعَة فمحمد سَمعه سنة خَمْسمِائَة وَعلي سَمعه من جملَة
جمَاعَة بعلقان الْبَلَد الْمُقدم ذكره فِي مُدَّة آخرهَا جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وَمن وَادي ميتم بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ثمَّ مِيم وَهُوَ وَاد كَبِير فِيهِ قرى كَثِيرَة ومزارع عَظِيمَة بِالْقربِ من مَدِينَة إب يسْقِي مَاؤُهُ وَادي لحج وَيُقَال إِنَّه سمي باسم رجل من مُلُوك حمير وَكَذَلِكَ غَالب الْيمن إِنَّمَا هِيَ مُسَمَّاة بهم كَانَ بالوادي من أهل الطَّبَقَة عبد الله بن يزِيد القسمي عرف بالميتمي كَانَ فَقِيها صَالحا زاهدا ورعا رأى لَيْلَة الْقدر فَسَأَلَ الله أَن يرزقه رزقا حَلَالا فرزقه نحلا وَبَارك فِيهِ بِحَيْثُ أَنه كَانَ يَبِيع من عسله وَولده جملَة مستكثرة
وَرُوِيَ أَنه سمع هَذَا الدُّعَاء فِي لَيْلَة الْجُمُعَة أَو فِي لَيَال ذكر عَنهُ فضل عَظِيم فِي أُمُور الدَّاريْنِ وَهُوَ اللَّهُمَّ منشىء الْخلق بِحِكْمَتِهِ وممسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا بقدرته يَا من لَيْسَ لأوليته ابْتِدَاء وَلَا لآخرته انْتِهَاء يَا بديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض يَا ذَا الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يُنكر أَسأَلك بِأَن الرَّحْمَة فِيك مَوْجُودَة وَأَن الْمَغْفِرَة عنْدك معهودة يَا مولى كل قوي وَضَعِيف وَيَا غياث كل ملهوف يَا الله يَا رحمان ارْحَمْ غربتي فِي الْقَبْر وانقطاعي إِلَيْك
وَكَانَ الْفَقِيه يَسْتَعْمِلهُ فِي كل أَمر مُهِمّ فيفرجه الله وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم حَمْزَة بن مقبل بن سَلمَة كَانَ فَقِيها عَالما وَكَانَ قد يجْتَمع مَعَ الْفَقِيه مقبل مقدم الذّكر ذكرُوا أَنَّهُمَا اجْتمعَا بِمَكَّة وعَلى عَرَفَات فَكَانَ يسْأَل مقبل الدُّعَاء وَأَنه سُئِلَ بِعَرَفَات فَاسْتقْبل الْقبْلَة وَبسط يَدَيْهِ وَلم أعلم من أَي بلد هُوَ وَلَعَلَّه من الْجند ونواحيها
وَمِنْهُم أَبُو بكر بن عبد الله بن صبيح الأصبحي مَسْكَنه قَرْيَة الذنبتين كَانَ فَاضلا وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَن ابْن أبي ميسرَة سنَن أبي قُرَّة بِمَسْجِد الْجند سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وَمِمَّنْ قدم الْيمن وعد من علمائها فَانْتَفع بِهِ أَهلهَا فِي طبقَة الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبدويه المهروباني فعبدويه اسْم أعجمي نَحْو سِيبَوَيْهٍ ونفطويه وَهُوَ بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَالْوَاو وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ هَاء والمهروباني لَا أَدْرِي إِلَى مَا هَذِه النِّسْبَة هَل هِيَ إِلَى بلد أوجد وَهُوَ بميم مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام وَسُكُون الْهَاء وَضم الرَّاء وَيكون الْوَاو وَفتح الْبَاء ثمَّ ألف ثمَّ نون ثمَّ يَاء نِسْبَة سَأَلت عَن ذَلِك بعض من يَدعِي الْخِبْرَة فَقَالَ لَعَلَّه نسب إِلَى بلد بساحل الْبَصْرَة يُقَال لَهُ ماهروبان وبميم مَفْتُوحَة ثمَّ ألف وَفتح الْهَاء ثمَّ رَاء ثمَّ وَاو سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ نون مولده سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ دُخُوله الْيمن تَقْرِيبًا فِي آخر المئة الْخَامِسَة وَكَانَ قد تفقه بالشيخ أبي إِسْحَاق بِبَغْدَاد وَحدث فِي بعض الْأَسَانِيد أَنه كَانَ فَرَاغه لقِرَاءَة الْمُهَذّب على مُصَنفه ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَأول بلد ورده من الْيمن مَدِينَة عدن ثمَّ صَار إِلَى زبيد وَنزل الْمفضل بن أبي البركات إِلَيْهَا يُرِيد نصر بعض مُلُوك الْحَبَش على ابْن عَم لَهُ قد نازعه فَدخل الْمفضل زبيد بِجَيْش عَظِيم وانتهب للفقيه جملَة مستكثرة ثمَّ إِنَّه انْتقل بعد ذَلِك إِلَى جَزِيرَة بالبحر تعرف بكمران بِفَتْح الْكَاف وَالْمِيم وَالرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ نون وَذَلِكَ سنة خمس وَخَمْسمِائة وَكَانَ ذَلِك بعد نهب زبيد بأشهر وَلم يكد يفلح الْمفضل بعد أَن نهب زبيد وَلَا عَاشَ غير شهر أَو نَحوه وَسَيَأْتِي تَارِيخ ذَلِك عِنْد ذكر أَيَّامه وَقد بَقِي مَعَه بَقِيَّة من المَال فَاشْترى جلابة وسفر موَالِي لَهُ إِلَى الْحَبَشَة والهند وَمَكَّة وعدن فعادوا غَانِمِينَ سَالِمين ثمَّ فتح الله عَلَيْهِ وَبَارك لَهُ فَبلغ مَاله سِتِّينَ ألف دِينَار وَكَانَ سكناهُ فِي الجزيرة من سنة خمس وَخَمْسمِائة إِلَى أَن توفّي بهَا على مَا يَأْتِي تَارِيخ ذَلِك وَلما اسْتَقر بكمران وشاع علمه قصد من أنحاء الْيمن بتهامتها ونجدها وَكَانَ الإِمَام اليفاعي إِذْ ذَاك بِمَكَّة مُقيما وَلَوْلَا ذَاك لم يَقْصِدهُ أَصْحَابه خَاصَّة وَكَانَ كريم النَّفس بَعيدا عَن اللّبْس فَمِمَّنْ وَصله من الْبِلَاد ثمَّ من نَاحيَة الْجند
عبد الله بن أَحْمد الزبراني وَعبيد بن يحيى من سهفنة وَعمر بن عَليّ السلالي من ذِي أشرق وَيحيى بن مُحَمَّد من الملحمة وَزيد بن الْحسن من وحاظة وَمُحَمّد وَخير ابْنا أسعد بن الْهَيْثَم من المشيرق وَعِيسَى بن عبد الْملك الْمعَافِرِي وَمن أبين عمر وَعبد الله ابْنا عبد الْعَزِيز بن أبي قُرَّة وَعبد الله بن الْأَبَّار وراجح بن كهلان من زبيد وَمن ناحيتها ثمَّ من الهرمة عبد الله بن عِيسَى بن أَيمن وَمن نَاحيَة حيس حسن الشَّيْبَانِيّ مَسْكَنه الخوهة وَيحيى بن عَطِيَّة أَظُنهُ من نواحي المهجم وَاخْتلف أَصْحَابه هَل مُحَمَّد بن كنَانَة أدْركهُ وَأخذ عَنهُ أم لَا فالنقل الصَّحِيح أَنه لم يَأْخُذ إِلَّا عَن ابْن عَطِيَّة وعَلى الْجُمْلَة فأصحابه أَكثر من أَن يحصوا كَثْرَة لَكِن هَؤُلَاءِ فِي الْغَالِب هم أعيانهم وَكَانَ يقوم بكفاية المنقطعين من أَصْحَابه وَكَانَ متحريا فِي مطعمه بِحَيْثُ أَنه لَا يَأْكُل إِلَّا الْأرز الَّذِي يجلبه عبيده من بلد الْكفَّار وَكَانَ التُّجَّار وَغَيرهم يقصدونه إِلَى الجزيرة للتبرك وَرُبمَا جَاءُوا بِنذر للدرسة وَكَانَ بِقرب السَّاحِل الَّذِي تخلص مِنْهُ إِلَى الجزيرة رجل صوفي اسْمه مُحَمَّد بن يُوسُف بن أبي الْخلّ صحب الْفَقِيه وَأكْثر زيارته وَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض التَّنْبِيه ثمَّ حصل بَينهمَا ألفة قَوِيَّة فأزوجه بابنة لَهُ فأولدت لَهُ ثَلَاثَة بَنِينَ هم عبد الله وَأحمد وَعبد الحميد وَلَهُم الذُّرِّيَّة الَّذين يعْرفُونَ بالفقهاء بني أبي الْخلّ يَأْتِي بَيَان ذَلِك عِنْد ذكرهم فِي طبقتهم إِن شَاءَ الله وامتحن هَذَا الْفَقِيه بالعمى ثمَّ رد إِلَيْهِ بَصَره
قَالَ الإِمَام سيف السّنة فِيمَا وجدته بِخَطِّهِ أَخْبرنِي الْفَقِيه عَبَّاس بن الْحسن بن بشر الشرعبي من مخلاف الشّرف وَكَانَ من أهل الدّيانَة والورع والصدق وَمِمَّنْ قَرَأَ عَليّ
كتاب الْغَرِيب
بِمَدِينَة إب فِي جُمَادَى الأولى من سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة قَالَ أَخْبرنِي الْفَقِيه أَبُو بكر الْحَرْبِيّ من الْمَحَلِّيَّة بِمحل عشمل من وَادي الكدرى
قَالَ كنت مِمَّن يقْرَأ على الشَّيْخ الإِمَام مُحَمَّد بن عبدويه بِجَزِيرَة كمران وَقد كف بَصَره فَجئْت مرّة من بلدي أَزورهُ فَدخلت المهجم فَوجدت بهَا طَبِيبا فَأَخْبَرته بِحَال الْفَقِيه وَسَأَلته السّير معي إِلَيْهِ ليعْمَل بمداواته وبذلت لَهُ على ذَلِك دِينَارا فَأَجَابَنِي
وَخرج معي من المهجم ثمَّ ركبنَا الْبَحْر حَتَّى أَتَيْنَا الجزيرة فَجئْت الْفَقِيه فَسلمت عَلَيْهِ وأخبرته بقدومي بالطبيب وَقَالَ لَا بَأْس ثمَّ لما كَانَ فِي آخر الْيَوْم الَّذِي قدمنَا بِهِ دَعَا بِابْن ابْن لَهُ وَقَالَ اكْتُبْ ثمَّ أمْلى عَلَيْهِ شعرًا ... وَقَالُوا قد دهى عَيْنَيْك سوء ... فَلَو عالجته بالقدح زَالا
فَقلت الرب مختبري بِهَذَا ... فَإِن أَصْبِر أنل مِنْهُ النوالا
وَإِن أجزع حرمت الْأجر مِنْهُ ... وَكَانَ حصيصتي مِنْهُ الوبالا
وَإِنِّي صابر رَاض شكور ... وَلست مغيرا مَا قد أنالا
صَنِيع مليكنا حسن جميل ... وَلَيْسَ لصنعه شَيْء مِثَالا
وربي غير متصف بحيف ... تَعَالَى رَبنَا عَن ذَا تَعَالَى ... وَلما بلغ قَوْله وَإِنِّي صابر رَاض الْبَيْت رد الله عَلَيْهِ بَصَره وأضاء لَهُ الْمَسْجِد وعاين ابْن ابْنه وَهُوَ يكْتب وتكامل بَصَره بِفضل الله تَعَالَى فَقَالَ لي أعْط الطَّبِيب مَا شرطت لَهُ فقد حصل الشِّفَاء بِإِذن الله تَعَالَى لَا بمداواته وَأورد لَهُ ابْن سَمُرَة شعرًا من الْمُنَاجَاة ... لَيْتَني مت قبل ذَنبي فَإِنِّي ... كلما قلت قد قربت بَعدت
لَيْتَني عِنْدَمَا عصيتك رَبِّي ... لهواني على الرماد ذبحت
لَيْتَني عِنْدَمَا هَمَمْت بذنب ... بوقود الغضا حرقت ففت
يَا رَحِيم الْعباد طرا أَغِثْنِي ... وأجرني فإنني قد هَلَكت
يَا رَحِيم الْعباد إِن لم تُجِرْنِي ... فلنفسي إِذا خسرت خسرت
يَا رَحِيم الْعباد اجْعَل جوابي ... يَا عَبِيدِي قد رحمت رحمت
يَا رَحِيم الْعباد كن لي مجيبا ... لَا تخفني وَقل غفرت غفرت
يَا رَحِيم الْعباد ارْحَمْ خضوعي ... ونداي وَقل عَفَوْت عَفَوْت ... وَكَانَت وَفَاته بالجزيرة على الْحَال المرضي لَيْلَة الْخَمِيس لعشر خلون من ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة بعد أَن بلغ عمره ثمانيا وَثَمَانِينَ سنة وقبر إِلَى جنب مَسْجده من جِهَة الْمشرق
وَكَانَ لَهُ ابْن اسْمه عبد الله فَقِيه عَالم بالفقه وَالْأُصُول حسن التَّصَرُّف فِي ذَلِك تفقه بِأَبِيهِ وَكَانَ من الْكِرَام يدان على الْمُرُوءَة ومواساة المحتاجين وَذَوي الِانْقِطَاع
وَكَانَ مِمَّن يقْصد للامتياح وَكَانَ غَالب أوقاته مديونا حَتَّى مَاتَ وَعَلِيهِ دين عَظِيم لم يقضه غير وَلَده وَكَانَ مبلغه ألف دِينَار ورثاه تلميذ أَبِيه الْفَقِيه عمر السلالي بقصيدة كَبِيرَة مِنْهَا ... أَمن بعد عبد الله نجل مُحَمَّد ... يصون دموع الْعين من كَانَ مُسلما
وَقد غاض بَحر الْعلم مذ غَابَ شخصه ... وَلَكِن بحرالجود من بعده طمى
تضعضع بُنيان الْعُلُوم لفقده ... وَأصْبح وَجه الدّين أَرْبَد أقتما
غَدا كل نور فِي الجزيرة جَامِدا ... وَأصْبح ركن الْعلم ثمَّ مهدما
فيا منهلا يروي الْقُلُوب بورده ... شهِدت لقد أورثتها بعْدك الظما
فيا أَيهَا الشَّيْخ الإِمَام تصبرا ... وَإِن كنت أهْدى من سواك وأحلما
هُوَ الدَّهْر لَا يبْقى على حَالَة مَعًا ... يُدِير على أهليه بؤسا وأنعما
فحينا نرَاهُ باسر الْوَجْه عَابِسا ... وحينا نرَاهُ ضَاحِكا مُتَبَسِّمًا
فَمَا أبقت الدُّنْيَا مُطَاعًا مسودا ... وَلَا ملكا فِي السَّابِقين مكرما
فَأَيْنَ جديس أَيْن طسم وجرهم ... ألم تطمس الْأَيَّام طسما وجرهما
أما أهلكت عَاد وَمن كَانَ قبلهَا ... وَمن بعْدهَا من ذَا من الْقدر احتمى ... قَالَ ابْن سَمُرَة والمرثاة طَوِيلَة تزيد على خمسين بَيْتا لم يُورد مِنْهَا غير مَا أوردته وذكرته اسْتِشْهَادًا على فضل قَائِلهَا وَمن قيلت فِيهِ إِذْ الْقَائِل فَقِيه صَالح لَا يسْتَحل مدح من لَا يسْتَحق وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله
وَمن أهل صنعاء أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الرَّازِيّ صَاحب التَّارِيخ الْمَذْكُور فِي الْخطْبَة
كَانَ إِمَامًا عَارِفًا بالفقه والْحَدِيث مولده صنعاء لَكِن أَظن أَهله من الرّيّ فنسب إِلَيْهَا وَكَانَ فَقِيها سنيا وَكتابه يدل على ذَلِك وعَلى سَعَة نَقله وَكَمَال عقله
وَمن غَرِيب مَا أوردهُ عَن هاني مولى عُثْمَان بن عَفَّان بِسَنَد مُتَّصِل أَنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْقَبْر أول منزل من منَازِل الْآخِرَة فَمن نجا مِنْهُ فَمَا بعده أيسر مِنْهُ وَمن لم ينج فَمَا بعده أشر قَالَ وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا فرغ من دفن الْمَيِّت قَالَ اسْتَغْفرُوا
لصاحبكم واسألوا الله تَعَالَى لَهُ التثبيت فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل قَالَ وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب تلقين الْمَيِّت إِذا ألحد بِالشَّهَادَتَيْنِ وحققت أَنه قَارب فِي تَارِيخه إِلَى آخرالمئة الْخَامِسَة
وَمِنْهُم مُسلم بن الْفَقِيه أبي بكر بن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الله الصعبي قد ذكرته أثْنَاء ذكرالإمام زيد أَنه كَانَ القَاضِي من أَصْحَابه وَهُوَ أحد شُيُوخ الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر وارتحل إِلَيْهِ من الْجند بعد وَفَاة شَيْخه الإِمَام زيد فَوقف عِنْده بسهفنة وَأخذ عَنهُ كتابي المراغي المعروفين بالحروف السَّبْعَة وشيئا من الْكتب المسموعات وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ هما مُحَمَّد وأسعد تفقها بأبيهما وَغَيره وَأخذ مُحَمَّد عَن ابْن أبي ميسرَة موطأ مَالك وَعنهُ أَخذ الْفَقِيه عبد الله بن يحيى الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله
ثمَّ صَار الْفِقْه إِلَى طبقَة أُخْرَى وغالب أَهلهَا من تلاميذ هذَيْن الْإِمَامَيْنِ اليفاعي وَابْن عبدويه وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن أبي عبد الله الْهَمدَانِي نسبا والزبراني بَلَدا نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من بادية الْجند يُقَال لَهَا زبران بِفَتْح الزَّاي وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء ثمَّ ألف وَنون وَهِي على أكمة مُرْتَفعَة من جِهَة يمن مغرب الْجند
أثنى ابْن سَمُرَة على هَذَا الْفَقِيه ثَنَاء كليا فَقَالَ حِين ذكر أَصْحَاب الْإِمَامَيْنِ من أعلاهم رُتْبَة وأكملهم طبقَة الإِمَام الْعَلامَة ثمَّ ذكره
قَالَ وَكَانَ فَقِيها فَاضلا وكما ذكر شهير الذّكر أَخذ فِي بدايته عَن أبي بكر بن جَعْفَر مقدم الذّكر ثمَّ كَانَ أول من لزم الدَّرْس على الإِمَام زيد وتفقه بِهِ وَلما علم كَمَاله وعدالته أذن لَهُ بالفتوى وَإِطْلَاق خطه عَن النَّوَازِل وَكَانَ يفضله على كَافَّة أَصْحَابه وَهُوَ أحد شُيُوخ صَاحب الْبَيَان وَلما هَاجر شَيْخه زيد بن عبد الله إِلَى مَكَّة ترافقا هُوَ والفقيه عبيد بن يحيى السهفني إِلَى تهَامَة فلحقا بِابْن عبدويه فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْمُهَذّب ومصنفه الْإِرْشَاد فِي أصُول الْفِقْه ثمَّ عادا إِلَى بلديهما وَلما عَاد الإِمَام زيد إِلَى
الْجند لزم أَيْضا مَجْلِسه وَلم يُفَارِقهُ حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته بقرية زبران سنة ثَمَانِي عشرَة وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عُمَيْر العريقي تفقه باليفاعي وَلما حج أدْرك الْبَنْدَنِيجِيّ فَأخذ عَنهُ مُصَنفه الْمُعْتَمد فِي الْخلاف وَهُوَ شيخ الشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر فِيهِ وَكَانَ مَشْهُورا بالورع
وَمِنْهُم أَبُو حَامِد بن الْفَقِيه أبي بكر بن عبد الله بن صبيح الأصبحي مقدم الذّكر تفقه باليفاعي وَمِنْهُم زيد بن أسعد مَسْكَنه حَسَنَات
وَمِنْهُم مُوسَى بن عَليّ الصعبي سكن ذَا الْحفر من عزلة نعيمة فتح النُّون وخفض الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْمِيم ثمَّ هَاء والحفر بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة بعد ألف وَلَام وَسُكُون الْفَاء ثمَّ الرَّاء ونعيمة عزلة مَشْهُورَة من مخلاف جَعْفَر وتعرف بنعيمة المسواد إِضَافَة إِلَى حصن عِنْدهَا يعرف بالمسواد بميم مخفوضة بعد ألف وَلَام ثمَّ سين سَاكِنة وواو مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ودال مُهْملَة وَكَانَ من الْحُصُون المعدودة أخربه المظفر بن رَسُول سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة وَهُوَ على ذَلِك إِلَى الْآن سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَهُوَ على الْقرب من مَدِينَة جبلة وَهَذَا الْكَلَام دخيل وَإِنَّمَا أوردته لِأَنِّي كنت أصحفه وأتوهم بتحقيقه وَكَانَ تفقه مُوسَى هَذَا الْمَذْكُور بالفقيه مقبل بن زُهَيْر
وَمن بلد أحاظة الأديبان الفاضلان الأخوان عِيسَى وَإِسْمَاعِيل ابْنا إِبْرَاهِيم الربعِي كَانَا إمامي وقتهما فِي الْأَدَب فعيسى رَأس الطَّبَقَة فِي اللُّغَة والمحقق لمشكلها وَكتابه الموسوم بنظام الْغَرِيب يدل على ذَلِك أَنه مجود فِي النَّقْل كَامِل
فِي الْفضل وَعَلِيهِ يعول كثير من أهل الْيمن من وَقت وجوده إِلَى هَذَا الزَّمن من لَا يقرأه ويتكرر فِيهِ لَا يعده كثير من النَّاس لغويا وَقد أَخذه عَنهُ زيد بن الْحسن الفائشي وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَأما أَخُوهُ إِسْمَاعِيل فَكَانَ مثله أَو يُقَارِبه فِي الْمعرفَة وَله القصيدة الْمَشْهُورَة بِقَيْد الأوابد وَله شعر حسن وَترسل مستحسن وَفَاته بعد أَخِيه بأيام
وَمِنْهُم أَبُو أَحْمد زيد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن أَحْمد بن مَيْمُون بن عبد الله بن أبي أَيُّوب الفائشي ثمَّ الْحِمْيَرِي والفائشي نِسْبَة إِلَى ذِي فائش أحد أذواء حمير وَهُوَ بِالْفَاءِ بعد ذِي بذال مُعْجمَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ فَاء ثمَّ همزَة مخفوضة ثمَّ شين مُعْجمَة سَاكِنة نِسْبَة إِلَى وَاد يُقَال لَهُ الفائش واسْمه سَلامَة بن يزِيد بن مرّة بن عَمْرو بن عريب بن يريم بن مرْثَد بن حمير وَمن ذُريَّته الْقَبِيلَة الَّتِي تعرف فِي الْيمن بالأفيوش وهم جمع كَبِير أهل عز ومنعة وإياه عَنى ابْن خمرطاش حِين عدد الأذواء فَقَالَ ... وَمِنْهُم سَلامَة ذُو فائش ... من ملك الأقطار طرا واجتبى ... نرْجِع إِلَى ذكر الْفَقِيه إِذْ هَذَا الْكَلَام دخيل وَكَانَ مولده لَيْلَة الْجُمُعَة منتصف شَوَّال سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ رجلا عَارِفًا بعلوم شَتَّى مِنْهَا علم الْقرَاءَات بطرِيق أبي معشر فِي مَكَّة أَخذهَا عَنهُ وَأخذ عَن الْبَنْدَنِيجِيّ التَّبْصِرَة فِي علم الْكَلَام وَكَانَ يقرئها فِي مدرسته وَكَذَلِكَ الإِمَام زيد اليفاعي كَانَ يقرئها أَيْضا وَأخذ عَن ابْن عبدويه وَغَيره وَكَانَ يرتحل إِلَى الْعلمَاء فِي أماكنهم فَيَأْخُذ عَنْهُم وَكَانَ عَارِفًا بالدور والحساب وَالْأُصُول وَعلم الْكَلَام وَكَانَ كثير الْحَج وَرُبمَا جاور فَأخذ بِمَكَّة وَالْمَدينَة عَن من لقِيه فيهمَا من الْعلمَاء فَمن شُيُوخه فِيهَا الْبَنْدَنِيجِيّ وَأَبُو مخلد الطَّبَرِيّ وَإِمَام الْمقَام عبد الْملك بن أبي مُسلم النهاوندي
وَأما شُيُوخه بِالْيمن فأولهم أسعد بن الْهَيْثَم وَخير بن يحيى المشيرقيان وَقد مضى بَيَان ذَلِك والصردفي بقرية سير وَأَبُو بكر بن جَعْفَر الظرافي وَيَعْقُوب بن أَحْمد البعداني وَفِي اللُّغَة عِيسَى بن إِبْرَاهِيم الربعِي ومقبل بن مُحَمَّد بن زُهَيْر وَإِسْمَاعِيل بن المبلول من ذِي أشرق ودمنتها وَأخذ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عباد النَّحْو وَأخذ اللُّغَة عَن الربعِي مؤلف النظام وَكَانَ جوالا فِي أنحاء الْيمن وَلذَلِك كثر علمه واتسع فَضله وجمعت خزانته من كتب الْعلم مَا يزِيد على خَمْسمِائَة كتاب وَكَانَ ورده كل لَيْلَة بِصَلَاتِهِ سبع الْقُرْآن وَله كتاب فِي الْفِقْه سَمَّاهُ التَّهْذِيب نقل عَنهُ شَيخنَا أَبُو الْحسن الأصبحي فِي معينه عدَّة تصاحيح ورأيته فِي المشيرق مَعَ ذُرِّيَّة الْفَقِيه الْهَيْثَم بمجلدين لطيفين وتفقه بِهِ جمع كَبِير مِنْهُم عمر بن عَلْقَمَة وَيحيى بن أبي الْخَيْر مَعَ جمع كَبِير لَا يكَاد يحصرهم الْعدَد وَذَلِكَ للين عريكته وكرم طَبِيعَته وَصَلَاح سُلْطَان بَلَده ومحبته للْعلم وَأَهله وَكَانَ يدرس بِجَامِع الجعامي قَرْيَة من وحاظة بِفَتْح الْجِيم وَالْعين الْمُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ مِيم ثمَّ يَاء مثناة من تَحت وَهِي قَرْيَة من معشار يفوز حصن قديم بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم الْفَاء ثمَّ وَاو ثمَّ زَاي وَله مَعَ كَمَال الْعلم أشعار مستحسنة مِنْهَا مَا ذكر أَن السُّلْطَان أسعد بن وَائِل عتب عَلَيْهِ فِي بعض الْأَحْوَال وَكَانَ قد ولاه حكم الشَّرِيعَة بأحاظة فَامْتنعَ فَقَالَ لَهُ الْقَضَاء مُتَعَيّن عَلَيْك فأصر على الِامْتِنَاع فَلَمَّا بلغ الْفَقِيه عتب السُّلْطَان ارتحل عَن الجعامي يُرِيد بَلَده الَّذِي خرج مِنْهَا وَهِي دمت وَبهَا قومه إِلَى الْآن وَكتب إِلَى السُّلْطَان مَا مِثَاله ... إِلَّا إِن لي مولى وَقد خلت أنني ... أُفَارِق طيب الْعَيْش حِين أفارقه
جفاني فأقصاني بعيد جفائه ... وصرت بلحظ من بعيد أسارقه
وأرقب عَقبي للوداد جميلَة ... وصبرا إِلَى أَن يرقع الْخرق فاتقة
وَمَا كَانَ سيري لاختيار فِرَاقه ... وَلكنه ميل إِلَى مَا يُوَافقهُ ...
فحين وقف السُّلْطَان على الْكتاب أَمر برد الْفَقِيه من الطَّرِيق وَإِن كره وَقَالَ لَهُ حِين وصل يَا سَيِّدي الْفَقِيه أَنا أسْتَغْفر الله عَن عتابك وَلَك مني نصف ألف دِينَار وَأَرْض الموحار ودولة اللَّيْل من مَال المسوى فَقبل مِنْهُ الأَرْض وَلم تزل بِيَدِهِ وَيَد ذُريَّته حَتَّى انقرض أعيانهم وضعفوا وَكَانَ لَهُ أَوْلَاد ثَلَاثَة هم أَحْمد وَأَبُو الْقَاسِم وَعلي أَخذ عَنهُ فِي حَيَاته وَكَانَ يَقُول أَحْمد أقرأكم وَعلي أكتبكم وقاسم أفقهكم وَلم يزل هَذَا الإِمَام على الْحَال المرضي من الْقِرَاءَة والإقراء والقرى حَتَّى توفّي بالجعامي فِي شهر رَجَب من سنة تسعين وَخَمْسمِائة وَهُوَ ابْن تسعين سنة ثمَّ وَلَده على مَا يَأْتِي ذكره فِي أَصْحَاب الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر إِذْ عده ابْن سَمُرَة فيهم
وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر سُلْطَان بَلَده هُوَ أسعد بن وَائِل بن عِيسَى الوايلي ثمَّ الكلَاعِي من ولد ذِي الكلاع الْحِمْيَرِي أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وَقَالَ كَانَ هَذَا السُّلْطَان وَأَبوهُ سَالِمين من الابتداع يؤثرون مَذْهَب السّنة وَعمارَة الْمَسَاجِد ومحبة الْقُرَّاء وَالْعُلَمَاء والعباد ويعظمون السّلف الصَّالح ويتبركون بذكرهم ويهتدون بذكرهم وأفعالهم وَلذَلِك كَانَت أحاظة فِي ذَلِك الْوَقْت وَسَاعَة الأرزاق نضيرة الْبَسَاتِين والأسواق ببركة عبادها وَعدل سلطانها وَكَانَت عامرة الْمَسَاجِد كَامِلَة المصادر والموارد وَكَانَ السُّلْطَان وَائِل هُوَ الَّذِي بنى حصن يفوز وَذَلِكَ بعد قتل الصليحي وَهُوَ أحد من سلم من الْمُلُوك الَّذين حَضَرُوا قَتله على مَا سَيَأْتِي بَيَانه
وَكَانَت وَفَاة السُّلْطَان أسعد مقتولا فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة وقبر بِجَامِع الجعامي وَقَالَ الْفَقِيه عمَارَة بَنو وَائِل من ولد ذِي الكلاع لَهُم رئاسة متأثلة قَالَ وَمِنْهُم أسعد بن وَائِل صَاحب الْكَرم العريض وَالثنَاء المستفيض يَعْنِي هَذَا الَّذِي عده ابْن سَمُرَة وَكَانَ ابْن سَمُرَة أثنى عَلَيْهِ الثَّنَاء المرضي ثمَّ عمَارَة كَذَلِك وَكَانَ محبا للفقهاء ومحسنا إِلَيْهِم اتجه ذكره فيهم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَرْء مَعَ من أحب وجد من المسودة الجيدة الْقَرِيبَة
وَنَرْجِع إِلَى ذكر الْفُقَهَاء فَمن ذِي أشرق أَبُو الْخطاب عمر بن عَليّ بن الْفَقِيه
أسعد بن أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم السلالي فقد مضى بعض ذكره مَعَ عَم أَبِيه عمر
وَذَلِكَ السلالي أول من ذكر فِي أول ذكر ذِي أشرق وَأَنه تفقه وتهذب بخاله الصردفي وَكَانَ عمر هَذَا مَشْهُورا بِالْعلمِ وَالْفِقْه وَرُبمَا زَادَت شهرته على أَبِيه وَعَمه وتفقه أَولا بِالْجَبَلِ على عبد الله بن عُمَيْر وَغَيره من فُقَهَاء الْجَبَل ثمَّ ارتحل تهَامَة وَقدم كمران فأكمل تفقهه بِابْن عبدويه وَأخذ عَنهُ أصُول الْفِقْه وَعَاد بَلَده فَأخذ عَنهُ النَّاس وَلما بلغه وَفَاة ابْن شَيْخه فِي الجزيرة رثاه بالقصيدة الَّتِي تقدم ذكر بَعْضهَا وَله غَيرهَا وَمِمَّنْ تفقه بِهِ عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الرَّحْمَن بن يحيى الخليدي وأسعد بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهم
وَكَانَت وَفَاته سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم يحيى بن عبد الله الْمليكِي من عرب يُقَال لَهُم الأملوك وَهُوَ قبيل كَبِير من مذْحج تفقه بِالْيمن وَكَانَ مَسْكَنه قَرْيَة وقير من الشوافي بِفَتْح الْوَاو وخفض الْقَاف وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء وَفِيه مَسْجِد مبارك عَلَيْهِ وقف يسْتَحقّهُ مدرس ودرسة تغير بأيام بني مُحَمَّد بن عمر وزراء الدولة المويدية لما أحدثوه فِي الْأَوْقَاف من نظر الدولة إِلَيْهَا وَلما حج أَخذ عَن الْبَنْدَنِيجِيّ التَّبْصِرَة فِي علم الْكَلَام وَغَيرهَا وَلما عَاد الْيمن أَخذهَا عَنهُ الإِمَام سيف السّنة وَهُوَ طريقنا إِلَى هَذَا المُصَنّف
وَمِنْهُم حُسَيْن بن الْفَقِيه عمر السلال مقدم الذّكر وَأَن أَبَاهُ هُوَ ابْن أُخْت الصردفي تفقهه بِأَبِيهِ عمر غَالِبا وَكَانَت وَفَاته بِإِحْدَى الربيعين من سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسبعين سنة
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن يحيى بن أبي الْهَيْثَم بن عبد السَّمِيع الصعبي ثمَّ الْعَنسِي بالنُّون نِسْبَة ثمَّ السهفني والسهفني بَلْدَة نِسْبَة إِلَى الْقرْيَة الْمَذْكُورَة وَيعرف بعبيد الله على طَرِيق التصغير لعبد الله كَانَ فَقِيها جَلِيلًا شهير الذّكر معدودا فِي أهل النّظر وَكَانَ الشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر يثني عَلَيْهِ وَيَقُول فِي حَقه عبد الله بن يحيى شيخ الشُّيُوخ تفقه باليفاعي ثمَّ لما غَابَ وَأقَام بِمَكَّة ارتحل هُوَ والزبراني كَمَا قدمنَا إِلَى ابْن عبدويه فأخذا عَنهُ وَلما عَاد بَلَده أَخذ عَن مُحَمَّد بن الْمُسلم بن أبي بكر الصعبي وَسَأَلَهُ القَاضِي مُسلم أَن يدرس لَهُ بسهفنة فامتثل وَكَانَ زاهدا ورعا متبحرا فِي الْفِقْه وأصوله وأصول الدّين وصنف كتاب التَّعْرِيف فِي الْفِقْه واحتراز الْمُهَذّب وَفِي أصُول الدّين كتابا سَمَّاهُ إِيضَاح الْبَيَان وَنور على مَذْهَب السّلف وَله عقيدة على منواله ذكر ذَلِك ابْن سَمُرَة قَالَ وَبِه تفقه جمَاعَة كَأبي مَسْعُود بن خيران من الملحمة وَمُحَمّد بن أَحْمد بن عَلْقَمَة من ذِي السفال وَسعد بن عبد الله البحري وَأحمد بن أسعد الكلالي من الشعبانية وَأحمد بن عبد الْملك التباعي من علقان وَعبد الله بن عَليّ قَاضِي ريمة مَعَ جمع لَا يكَاد يحصرهم عد لَكِن هَذَا ذكر أعيانهم وَكَانَ الْفَقِيه صَاحب كرامات منقولة مِنْهَا أَنه حصل بَين أهل قريته وَبَين بني مليك سباب وعداوة فغزا الأملوك سهفنة ونهبوها وَقتلُوا وجرحوا ثمَّ وَقع الْفَقِيه مَعَ قوم من جُمْلَتهمْ فَضَربهُ جمَاعَة مِنْهُم بِالسُّيُوفِ محدوبة فَلم تقطع شَيْئا فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ كنت أَقرَأ سُورَة يس وَقيل بل قَالَ كنت أَقرَأ هَذِه الْآيَات {وَلَا يؤوده حفظهما وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} {فَالله خير حَافِظًا وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} {وحفظا من كل شَيْطَان مارد} وحفظا من كل شَيْطَان رجيم {وحفظا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} {إِن بَطش رَبك لشديد} إِلَى
آخر السُّورَة وَهَذِه الرِّوَايَة أشهر وَكَانَ يَقُول إِنَّمَا عرفت فضل هَذِه الْآيَات بِيَوْم خرجت إِلَى الْبَريَّة مَعَ جمَاعَة فلقينا شَاة عجفاء مَعهَا ذِئْب يلاعبها وَلَا يَضرهَا فَدَنَوْنَا مِنْهَا فنفر الذِّئْب منا فتأملنا الشَّاة فَوَجَدنَا فِي بعنقها كتابا مربوطا فحللناه فَوَجَدنَا بِهِ هَذِه الْآيَات
وَكَانَ يَصْحَبهُ رجل من يافع ثمَّ من بني يحيى من أهل حرض اسْمه عَليّ بن زِيَاد كَانَ ذَا دنيا ومحبا للْعُلَمَاء وَكَانَ يقوم بِجَمِيعِ حوائج الْفَقِيه فِي الأعياد وَغَيرهَا بِحَيْثُ كَانَ الْفَقِيه لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى شَيْء وَكَانَت وَفَاته فِي قريته الْمَذْكُورَة فِي شهور سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة بعد أَن بلغ عمره ثَمَانِي وَتِسْعين سنة وَقيل ثَمَانِينَ وَلَيْسَ بِشَيْء إِذْ ثَبت أَنه كَانَ يَقُول لأَصْحَابه إِن بلغت ثَمَانِينَ عملت لكم شكرانه فَمَاتَ وَلم يعْمل فَحَضَرَ قبرانه الشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر فِي جمع من أَصْحَابه وقبره بالمقبرة الْقبلية من قريته الَّتِي يمر بهَا الطالع ذِي السفال والتعكر وقبره يزار وَيَقُول أهل الْقرْيَة قَبره عِنْد قبر عبيد وَلَا يعْرفُونَ من عبيد وَقد زرته بِحَمْد الله مرَارًا
وَمِنْهُم أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن حمد بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم مَعَ فتحهَا ثمَّ دَال مُهْملَة كَانَ قَاضِيا بالمعافر وَلذَلِك يُقَال لَهُ الْمعَافِرِي
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف بن عبد الله بن عَلْقَمَة الجماعي ثمَّ الْخَولَانِيّ من قوم يُقَال لَهُم بَنو جمَاعَة بِضَم الْجِيم وَفتح الْمِيم ثمَّ ألف وَفتح الْعين ثمَّ هَاء سَاكِنة مِنْهُم بَقِيَّة يسكنون على قرب من حصن المجمعة أحد حصون بلد الشوافي بشين مُشَدّدَة مُعْجمَة بعد ألف وَلَام ثمَّ فتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْفَاء ثمَّ يَاء نِسْبَة يَاء النّسَب تفقه فِي بدايته بسالم
الأشرقي مقدم الذّكر ثمَّ ترافق هُوَ وَالشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر إِلَى بلد وحاظة فأخذا عَن الإِمَام زيد بن الْحسن الْمُهَذّب وشيئا فِي الْأُصُول واللغة كغريب أبي عبيد ومختصر الْعين ونظام الْغَرِيب وَأدْركَ الْحسن بن أبي عباد فَأخذ عَنهُ مُخْتَصره ثمَّ لما عَاد هُوَ وَالشَّيْخ يحيى إِلَى بَلَده ذِي السفال قَرَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخ يحيى كَافِي الصفار والجمل فِي النَّحْو وَأخذ عَنهُ جمع كثير مِنْهُم مُحَمَّد بن مُوسَى العمراني نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه للصفار وَأخذ عَنهُ أَبُو السُّعُود بن خيران مَعَاني الْقُرْآن للصفار وَالْمُعْتَمد للبندنيجي وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح وصحبة أبي الْعَبَّاس الْخضر بِحَيْثُ كَانَ يُوجد عِنْده فِي أثْنَاء ذَلِك ويمليه شَيْئا من ذَلِك وَالَّذِي حقق عَنهُ أَنه أملاه بَاب الْأَذَان وَقيل غَيره وبالأول أَخْبرنِي الْفَقِيه الصَّالح الْآتِي ذكره
وَلما انقرضت ذُريَّته وَبلغ السُّلْطَان سُلْطَان الْبَلَد وَهُوَ يَوْمئِذٍ المظفر يُوسُف بن عمر الْآتِي ذكره اشْترى الْكتاب بِثمن واف وَأَوْقفهُ بمدرسته الَّتِي أَنْشَأَهَا بمغربة تعز وَتُوفِّي بقريته ذِي السفال سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة وقبر بمقبرة فِي غربي الْقرْيَة وقبره يزار ويتبرك بِهِ وَقد زرته مرَارًا
وَمِنْهُم أَبُو الْفتُوح بن عُثْمَان بن أسعد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عمرَان العمراني أول من شهر من بني عمرَان بالفقه وَهُوَ خَال الشَّيْخ يحيى وَأول من أَخذ عَنهُ كَافِي الصردفي بِحَق أَخذه لَهُ عَن مُصَنفه
وَمِنْهُم القَاضِي عَليّ بن مُحَمَّد بن شَيبَان أَخذ علم الْأَدَب عَن ابْن حمد مقدم الذّكر وَإِبْرَاهِيم بن عباد وَكَانَ فَاضلا
وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن وليد كَانَ فَقِيها فَاضلا
وَمِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن يحيى بن مُحَمَّد بن عمر بن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه أبي عمرَان مقدمي الذّكر من قَرْيَة الملحمة مولده سنة سِتّ
وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وتفقه باليفاعي وَابْن عبدويه وبمقبل بن زُهَيْر وَأخذ عَن أسعد ابْن خير بن ملامس وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا جليل الْقدر متضلعا من الْعُلُوم الْفِقْهِيَّة والحديثية والنحوية واللغوية وَله القصيدة الْمَشْهُورَة فِي الإِمَام زيد وَقد ذكرتها مَعَ ذكره وَكَانَ بِهِ مُعظم تفقهه وَعَلِيهِ تفقه جمَاعَة كَثِيرُونَ وَكَانَ ذَا عبَادَة وكرامات واشتهر عَنهُ أَنه كَانَ يقرىء الْجِنّ وَلما دخلت الملحمة سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة لغَرَض زِيَارَة تربته وترب أَهله والتبرك بآثارهم والفحص عَن أخبارهم اجْتمعت بِرَجُل من متفقهة أَهله أَخْبرنِي أَنه سمع متقدميهم ينقلون الخالف عَن السالف أَنه كَانَ إِذا تهور اللَّيْل خرج عَن الْقرْيَة إِلَى مَوضِع هُنَاكَ يعرف بعارضة الْمِيزَاب فيتوضأ بِمَاء هُنَالك ثمَّ يصله جمَاعَة من الْجِنّ فيقرأون عَلَيْهِ وَهُوَ أحد شُيُوخ الْحَافِظ العرشاني وَبِه تفقه مُحَمَّد بن سَالم وَعلي بن عِيسَى الأصبحيان وَأحمد بن إِبْرَاهِيم اليافعي مَعَ جمع غَيرهم
وَمن الشّعْر الْمَنْسُوب إِلَيْهِ أَن شَيْخه الإِمَام زيد اليفاعي لما عَاد من مَكَّة فِي الْمرة الأولى وَأَرَادَ الْعود إِلَيْهَا خشيَة الْفِتْنَة كَمَا قدمنَا قَالَ ... إِن الْعُيُون الَّتِي قرت بِرُؤْيَتِهِ ... كَادَت تعود سخينات لفرقته
وأنفسا أنست بِالْقربِ مِنْهُ فقد ... كَادَت تقطع حسرات لوحشته
لَوْلَا أعلل نَفسِي أَن فرقته ... لَا تستديم وَأَرْجُو يمن طلعته
عددت نَفسِي شقيا والرجاء بِمَا ... يقْضِي بتشتيت شَمل جمع ألفته
وَأَن يمن بِتَوْفِيق ومغفرة ... على الْجَمِيع وتسديد برحمته ... وَكَانَ وَفَاته بقريته سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم ابْن عَمه أَحْمد بن عبد الله بن عمر بن الْفَقِيه أَحْمد الْمَذْكُور أَولا يجْتَمع مَعَ يحيى مقدم الذّكر فِي جدهما عمر بن الْفَقِيه أَحْمد مولده سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة تفقه باليفاعي وبأبي بكر المحابي وبابن عبدويه وَهُوَ أكبر من يحيى لَكِن شهرة يحيى أَكثر من شهرته وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حميد بن أبي الْحُسَيْن بن نمر بن عبد الله بن
هِلَال بن أَحْمد بن نمر من بَيت رئاسة كَبِيرَة يعْرفُونَ بالسلاطين بني نمر وهم بطن من الركب وهم يعْرفُونَ بالزواقر وَالِده حميد بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ ذال مُهْملَة وَذَلِكَ تَصْغِير من سمى مُحَمَّد على اصْطِلَاح طَائِفَة من أهل الْيمن وجده أَبُو الْحُسَيْن مولده سنة ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وبالغت فِي ضبط أَبِيه وجده إِذْ يَقع فيهمَا اللّبْس لَا سِيمَا فِي الْجد وَرُبمَا وجد فِي بعض نسخ الطَّبَقَات أبي الْخَيْر وأقمت أتردد فِي ذَلِك حَتَّى اجْتمعت بِبَعْض ذُريَّته فَأَخْبرُونِي بِصِحَّة ذَلِك وَذريته قُضَاة الموسكة وبلد قَومهمْ ونواحيها يَأْتِي مُسْتَحقّ الذّكر مِنْهُم وتفقه بزيد اليفاعي والفائشي وَلما حج أَخذ عَن أَحْمد الْمَكِّيّ وَعَن المقرىء الْحبرِي وَكَانَ فَقِيها زاهدا ورعا متنقلا
حُكيَ أَنه رأى فِي الْمَنَام لَيْلَة الْقدر فَلم يسْأَل الله شَيْئا غير الْجنَّة وَتَمام قوت سنته وعَلى قَبره شَجَرَة سدر يقطع مِنْهَا أهل العاهات ويغتسلون بذلك فِيمَن الله عَلَيْهِم بالعافية وَإِن قطع مِنْهَا أحد شَيْئا عَبَثا لم يكد يسلم من عاهة تصيبه وَكَانَت وَفَاته حَيْثُ كَانَ مَسْكَنه قَرْيَة تعرف بِذِي المليد من أَعمال قياض عزلة من أَعمال تعز وَضبط ذِي المليد بخفض الذَّال الْمُعْجَمَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ مِيم مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام ثمَّ لَام بعْدهَا سَاكِنة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ومفتوحة ثمَّ دَال مُهْملَة وقياض بِضَم الْقَاف وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ ألف وضاد مُعْجمَة وَفَاته
بشوال سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة وقبره هُنَالك مَشْهُور يقْصد للزِّيَادَة وَعند السِّدْرَة الْمَذْكُورَة أَولا
وَمِنْهُم أسعد بن أبي زيد التباعي أَخذ عَن يحيى بن عمر مقدم الذّكر
وَمِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن يحيى بن أبي الْخَيْر بن سَالم بن أسعد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عمرَان بن ربيعَة بن عبس بن زُهَيْر بن غَالب بن عبد الله بن عك بن عدنان ومولده قَرْيَة سيروزن طير قد تقدم ذكرهَا فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ أَكثر من انْتَشَر الْعلم عَنهُ من أهل الطَّبَقَة تفقه فِي بدايته بخاله أبي الْفتُوح كَمَا قدمنَا أَخذ عَنهُ التَّنْبِيه وكافي الْفَرَائِض ثمَّ قَرَأَ التَّنْبِيه ثَانِيًا على مُوسَى الصعبي الْمُقدم ذكره ثمَّ قدم إِلَيْهِم سير الْفَقِيه عبد الله بن أَحْمد الزبراني باستدعاء من بعض مَشَايِخ قومه بني عمرَان وَأخذ عَنهُ الْمُهَذّب واللمع غيبا والملخص والإرشاد لِابْنِ عبدويه وَأعَاد عَلَيْهِ كَافِي الصردفي ثمَّ ترافق هُوَ وَالشَّيْخ الْفَقِيه عمر بن عَلْقَمَة إِلَى أحاظة كَمَا قدمنَا ذَلِك فِي ذكره فقرأا عَلَيْهِ الْمُهَذّب وتعليقة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي الْأُصُول والملخص وغريب أبي عبيد وَغير ذَلِك من مسَائِل الدّور وَالْخلاف ثمَّ لما عادا إِلَى ذِي السفال درسا مَا قرأاه ثمَّ أَخذ عَنهُ كَافِي الصفار والجمل فِي النَّحْو وَقَرَأَ الدّور مرّة ثَانِيَة على عمر بن بيش اللحجي وَيُقَال الأبيني وَلما دخلت الملحمة بالتاريخ الْمُتَقَدّم ووقفت على شَيْء من كتب فقهائها وجدت تعليقة بِخَط الْفَقِيه أبي الْخطاب عمر بن مُحَمَّد بن مَضْمُون مَا مِثَاله أَن الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر تعلم الْقُرْآن وأكمل حفظه غيبا وَقَرَأَ الْمُهَذّب والتنبيه والفرائض وَلم يبلغ من الْعُمر غير ثَلَاث عشرَة سنة من مولده ثمَّ لما قدم الإِمَام اليفاعي من مَكَّة إِلَى الْجند وَقد صَار هَذَا الشَّيْخ يدرس وصل الْجند بِجمع من درسته فَأخذ عَنهُ الْمُهَذّب ثَالِثَة ثمَّ النكت ثمَّ توفّي وَهُوَ عِنْده فَلَمَّا انْقَضى المعزا طلع قَرْيَة سهفنة فَأخذ بهَا عَن القَاضِي مُسلم بن أبي بكر كتاب الْحُرُوف السَّبْعَة فِي علم الْكَلَام تأليف المراغي مقدم الذّكر وَنَقله من خطّ الْقَاسِم مقدم الذّكر ثمَّ انْتقل إِلَى ذِي أشرق سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة وَأخذ عَنهُ سَالم الْأَصْغَر جَامع التِّرْمِذِيّ وبهذه السّنة تزوج أم وَلَده طَاهِر وَكَانَ قد تسرى قبلهَا
بحبشية وفيهَا ابْتَدَأَ بمطالعة الشُّرُوح وَجمع مِنْهَا مَا يزِيد على الْمُهَذّب كتابا سَمَّاهُ الزَّوَائِد وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد اسْتَشَارَ الإِمَام زيدا فِي أَي الشُّرُوح أَحَق بالمطالعة وَأجْمع لما شَذَّ عَن الْمُهَذّب لينسخه فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِجمع جَمِيع الشُّرُوح الْمَوْجُودَة ومطالعتها وانتزاع زوائدها على الْمُهَذّب فَفعل وَجمع الْكتاب الْمَذْكُور وَفرغ مِنْهُ سنة عشْرين وَخَمْسمِائة وَفِي عقيب ذَلِك حج وزار الضريح المشرف صلوَات الله على صَاحبه وَاجْتمعَ فِي مَكَّة بالفقيه الْوَاعِظ الْمَعْرُوف بالعثماني فجرت بَينهمَا مناظرات فِي شَيْء من الْفِقْه والأصولين وَكَانَ العثماني على مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فِي المعتقد وَكَانَ الشَّيْخ يحفظ التَّبْصِرَة غيبا أَخذهَا عَن شَيْخه اليفاعي والفائشي وَكَانَا يقرئانها أصحابهما وأخذا بهَا عَن الْبَنْدَنِيجِيّ فناظر العثماني مرَارًا وَكَانَ الشَّيْخ يقطعهُ وَيُقِيم عَلَيْهِ الْحجَّة بقوله إِن المسموع الْمَفْهُوم لَيْسَ بِكَلَام الله بل عبارَة فيحتج عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} وَيَقُول لَفْظَة هَذَا لَا يكون إِلَّا إِشَارَة إِلَى مَوْجُود عِنْد كَافَّة أهل اللُّغَة وَلَا يُوجد إِلَّا المسموع الْمَفْهُوم
وَلَقَد حُكيَ أَنَّهُمَا كَانَا يتناظران فِي المطاف فَمن شدَّة إفحام الشَّيْخ للعثماني يمسح جَبينه بِيَدِهِ من شدَّة الْعرق ثمَّ لما عَاد الشَّيْخ إِلَى الْيمن وَألف كتاب الْبَيَان أورد فِيهِ عدَّة مسَائِل عَن العثماني وَنقل عَنهُ كَذَلِك فِي تعليقاته وَذَلِكَ يدل على فضل العثماني وعدالته وَجَوَاز الْأَخْذ عَنهُ وَلَو كَانَ قد اعْتقد جرحه أَو فسقه كَمَا يرى جمَاعَة من الْجُهَّال يكفرون من خالفهم فِي المعتقد وَلَا يقبلُونَ نَقله لما نقل عَنهُ وَلَا قبل مِنْهُ
وَلما عَاد الشَّيْخ من مَكَّة استخرج كِتَابه الَّذِي أَلفه فِي الدّور من كتاب ابْن اللبان وَغَيره ثمَّ نظر فِي كتاب الزَّوَائِد الَّذِي كَانَ قد جمعه أَولا فَرَأى أَنه قد رتبه على شُرُوح الْمُزنِيّ ثمَّ أغفل عَنهُ الدّور وأقوال الْعلمَاء فطالع ذَلِك وراجعه ثمَّ لما كَانَ فِي سنة ثَمَان وَعشْرين ابْتَدَأَ بتصنيف الْبَيَان ورتبه على تَرْتِيب مَحْفُوظَة الْمُهَذّب وَكَانَ يَقُول لم أجمع الزَّوَائِد إِلَّا بعد أَن حفظت الْمُهَذّب غيبا وَقد ذكرت فِيمَا تقدم أَنه قَرَأَ الْمُهَذّب واللمع على الْفَقِيه عبد الله الزبراني وطالع الْمُهَذّب بعد ذَلِك وَقبل التصنيف
أَرْبَعِينَ شرفا وَأكْثر وَكَانَ يطالع كل جُزْء مِنْهُ من وَاحِد وَأَرْبَعين جُزْءا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة أَربع مَرَّات كل فصل على حِدة وَكَانَ إِذا قَرَأَ عَلَيْهِ المتفقه وَهُوَ يعلم فهمه بَين لَهُ احترازات الأقيسة وفوائدها ووجوه أُصُولهَا ثمَّ يبين لَهُ مَا الْعلَّة فِي اختصاصها بالتأصيل إِمَّا بِالنَّصِّ من طَرِيق الْكتاب وَالسّنة أَو بِتَسْلِيم الْمُخَالف حكم الْمَسْأَلَة وَمَتى كَانَ فِي عبارَة الْكتاب استغلاق أَو قصر فهم القارىء عَن ذكرهَا أبدلها بِعِبَارَة أُخْرَى حَتَّى يتصورها القارىء ويفحصها وينبه فِي كل مَسْأَلَة على خلاف مَالك وَأبي حنيفَة خَاصَّة وَقد يذكر مَعَهُمَا غَيرهمَا فِي بعض الْمسَائِل وَمَتى فرغ الطَّالِب من قِرَاءَة الدَّرْس أمره أَن ينظر فِي الْكتاب وَيُعِيد عَلَيْهِ درسه غيبا ويقصد بذلك ترغيبه وَكَانَ يفعل ذَلِك مَعَ من تحقق فهمه وَقُوَّة إشراكه الْمعَانِي وَأما غَيره فَلَا يزِيدهُ على الْجَواب عَمَّا سَأَلَ أَو رد غلط وتصحيف ثمَّ لما أكمل تصنيف الْبَيَان سَأَلَهُ تِلْمِيذه الْفَقِيه الصَّالح مُحَمَّد بن مُفْلِح الْحَضْرَمِيّ انتزاع مشكلات الْمُهَذّب وحلها فعل ذَلِك بكتابه الْمَشْهُور بمشكل الْمُهَذّب وَذَلِكَ آخر سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَكَانَ من سيرته أَنه إِذا مضى عَلَيْهِ وَقت من غير ذكر الله تَعَالَى أَو مذاكرة الْعلم حولق واستغفر وَقَالَ ضيعنا الْوَقْت وَكَانَ سهل الْأَخْلَاق لين الْجَانِب عَظِيم الهيبة عِنْد النَّاس ثمَّ حدث على قومه بسير خوف عَظِيم وحروب من الْعَرَب حَولهمْ فَخرج الشَّيْخ مِنْهَا إِلَى ذِي السفال فَلبث بهَا مُدَّة ثمَّ انْتقل إِلَى ذِي أشرق فَلبث بهَا سبع سِنِين وكسرا وَفِي الرَّابِعَة من السنين طلع فُقَهَاء تهَامَة إِلَيْهِ هاربين من ابْن الْمهْدي فأنسوا بِهِ وَأَقَامُوا عِنْده أَيَّامًا طَوِيلَة ميلًا إِلَى الجنسية وَكَونه رَأس الْفُقَهَاء بِالْإِجْمَاع من العيان ومناظرة أدَّت إِلَى تَكْفِير بَعضهم لبَعض والمنافرة بَينهم وَكَانَ الشَّيْخ رَحمَه الله لَا يُعجبهُ ذَلِك وَلَا يكَاد يَخُوض بِعلم الْكَلَام وَلَا يرتضي لأَصْحَابه من ذَلِك وَظهر من وَلَده طَاهِر الْميل والتظاهر بِخِلَاف المعتقد الَّذِي عَلَيْهِ وَالِده وغالب فُقَهَاء الْعَصْر من أهل الْجند خَاصَّة فشق ذَلِك على الشَّيْخ وهجر وَلَده هجرا شاقا وَكَانَ ذَلِك سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة ثمَّ إِن طَاهِرا لم يطق على هجر أَبِيه وَلَا هجر الْفُقَهَاء بِذِي أشرق وَكَانَ سَبَب ذَلِك مَا تحققوه فِيهِ وَعلم أَن لَا زَوَال لذَلِك إِلَّا إِظْهَار التَّوْبَة والتبري عَمَّا كَانَ أظهره فَلم يزل يتلطف على وَالِده بذلك بإرسال من يقبل الشَّيْخ مِنْهُ فَقَالَ للرسول لَا أقبل مِنْهُ حَتَّى يطلع الْمِنْبَر بِمحضر الْفُقَهَاء ويعرض عَلَيْهِم عقيدته ويتبرأ
مِمَّا سواهَا فَأجَاب إِلَى ذَلِك وَحضر فِي يَوْم الْجُمُعَة الْجَامِع وَصعد الْمِنْبَر وَكَانَ فصيحا مصقعا فَخَطب وَذكر عقيدته الَّتِي الْفُقَهَاء متفقون عَلَيْهَا وتبرأ مِمَّا سواهَا فحين فرغ من ذَلِك الْتفت الشَّيْخ إِلَى الْفُقَهَاء وهم حوله وَقَالَ هَل أنكر الإخوان من كَلَامه شَيْئا فَقَالُوا لَا وَفِي عقيب ذَلِك صنف
كتاب الِانْتِصَار
وَسبب تصنيفه مَا حدث من الْفُقَهَاء ثمَّ ظُهُور القَاضِي جَعْفَر المعتزلي ووصوله إبا واجتماعه بِسيف السّنة وقطعه لَهُ وَكَانَ بودهم نزُول الْيمن فَقيل لَهُ إِن نزلت لقِيت الْبَحْر الَّذِي تغرق فِيهِ يحيى بن أبي الْخَيْر فَعَاد الْقَهْقَرَى وَعَاد إِلَى حصن شواحط فَأمر الشَّيْخ يحيى إِلَيْهِ تِلْمِيذه الْفَقِيه عَليّ بن عبد الله الهرمي فَلحقه فِيهِ فناظره وقطعه فِي عدَّة مسَائِل رُبمَا أذكر من مناظرتهما مَا لَاق عِنْد ذكر الْفَقِيه عَليّ فَإِنَّهُ قد كَانَ قَرَأَ كتاب الِانْتِصَار فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة الأشرار على الشَّيْخ يحيى وَقد كَانَ بَالغ فِي الرَّد على الْمُعْتَزلَة بكتابه الْمَذْكُور وعَلى الأشعرية ففرح الْفُقَهَاء بِهِ عِنْد فَرَاغه وانتسخوه ودانوا الله بِهِ ثمَّ صنف غرائب الْوَسِيط وَاخْتصرَ إحْيَاء عُلُوم الدّين وَوصل الْحَافِظ العرشاني فِي تِلْكَ الْمدَّة إِلَى ذِي أشرق فَسمع الشَّيْخ عَلَيْهِ البُخَارِيّ وَسنَن أبي دَاوُد وَذَلِكَ بِقِرَاءَة الْفَقِيه أَحْمد بن إِسْمَاعِيل المأربي وَعبد الله بن عَمْرو التباعي وَسليمَان بن فتح بن مِفْتَاح وَولده طَاهِر ثمَّ انْتقل الشَّيْخ إِلَى ضراس نافرا عَمَّا شجر بَين الْفُقَهَاء أَولا وَأظْهر أَن سَبَب ذَلِك الْخَوْف من ابْن مهْدي فَلبث بهَا شهرا ثمَّ انْتقل إِلَى ذِي السفال ثمَّ توفّي بعد إِقَامَته بهَا سنة
وَلَقَد سَمِعت جمَاعَة أوثقهم الْفَقِيه صَالح بن عمر يذكرُونَ أَن الْفَقِيه لما عزم على قصد ذِي السفال متنقلا كتب إِلَى فقيهها وَهُوَ إِذْ ذَاك مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر بن عَلْقَمَة الْآتِي ذكره يَقُول لَهُ إِنِّي أُرِيد الِانْتِقَال إِلَيْكُم فَأرْسل جمَاعَة من أهل
الْبَلَد يلقونني بأسياف إِلَى المسلاب مَوضِع خوف فِي الطَّرِيق وَقَالَ لَهُ بكتابه فمعي كتب وأخشى عَلَيْهَا فتْنَة الْحَرْب فَفعل الْفَقِيه ذَلِك وَذكروا أَيْضا أَنه أَعنِي الْفَقِيه مُحَمَّد بن أَحْمد رأى لَيْلَة قدوم الشَّيْخ عَلَيْهِم قَائِلا يَقُول لَهُ غَدا يقدم عَلَيْكُم معَاذ بن جبل فَلَمَّا أصبح الْفَقِيه وَأخْبر أَصْحَابه بمنامه وَقَالَ يقدم علينا الْيَوْم عَالم هَذِه الْأمة فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول معَاذ أعلم أمتِي بالحلال وَالْحرَام
وَكَانَت وظيفته أَن يقْرَأ كل لَيْلَة سبع الْقُرْآن بِالصَّلَاةِ وَكَانَ يحب طلبة الْعلم واجتماعهم وَيكرهُ الْخَوْض فِي علم الْكَلَام وَكفى لَهُ شَاهدا على الْفضل الَّذِي حواه تصنيف الْبَيَان الَّذِي انْتفع بِهِ الْإِنْس والجان واعترف بتحقيقه وتدقيقه كل إِنْسَان ويتوقل فِي بلد البيضان والسودان
وَلما قدم بعد بَغْدَاد جعل فِي أطباق الذَّهَب وطيف بِهِ مزفوفا ثمَّ لما قدم بِهِ بِخَط علوان قَالَ جمَاعَة من أهل الْعرَاق مَا كُنَّا نظن فِي الْيمن إِنْسَان حَتَّى قدم علينا الْبَيَان بِخَط علوان رضيه الْفُقَهَاء الْمُحَقِّقُونَ وانتفع بِهِ الطَّبَقَة المدرسون وَنقل عَنهُ المصنفون حَتَّى كَانَ كاسمه للشَّرْع تبيانا وللفقه بَيَانا أجَاب بِهِ عَن المعضلات وأوضح بِهِ المشكلات وَقسم بِهِ الْأَوْصَاف والاحترازات وَسمعت شَيْخي أَبَا الْحسن الأصبحي يَقُول مَا أشكلت عَليّ مَسْأَلَة فِي الْفِقْه وفتشت لَهَا الْبَيَان إِلَّا وجدت بِهِ بَيَانهَا ووضح لي تبيانها فجزاه الله عَن الْإِسْلَام خيرا وَلَقَد دخلت عَليّ مرّة أَيَّام درسي عَلَيْهِ وَهُوَ إِذْ ذَاك فِي أثْنَاء أجوبة عَن سوآلات سَأَلَهُ بهَا الْفَقِيه صَالح بن عمر وَهُوَ بَين يَدَيْهِ فَقَالَ الْبَيَان كتاب عَظِيم لَا أشفى مِنْهُ لنَفس الْفَقِيه وَنقل صَاحب الْعَزِيز وَصَاحب الرَّوْضَة عَنهُ مسَائِل جمة شاهدة لَهُ أَيْضا بالكمال كَمَا ذكرت وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَقد قَالَ بعض الْمُحَقِّقين أَنه انتخل الشُّرُوح المفيدة والأدلة السديدة والمسائل العتيدة والأقيسة الأكيدة وضمنها الْكتاب الْمَذْكُور مَعَ مَا أضَاف إِلَى ذَلِك من النكت الْحَسَنَة والعلل المستحسنة وَجمع فِيهِ بَين تَحْقِيق الْعِرَاقِيّين وتدقيق الخراسانيين بِحَيْثُ إِذا تَأمله الحاذق الْحَاضِر وكد فِيهِ الْفِكر والناظر وَسعه وَكَفاهُ وَاسْتغْنى بِهِ عَمَّا
سواهُ فرحم الله ثراه وَبرد مضجعه ومثواه وَجعل الْجنَّة مَحَله ومأواه
وَكَانَ الإِمَام ابْن عجيل يَقُول لَوْلَا الْبَيَان مَا وسعني الْيمن وَكَانَت السيدة تجله وتعظم مَحَله وتأمر بوابها بذلك
حُكيَ أَن الْفَقِيه قدم إِلَى جبلة بشفاعة إِلَيْهَا بِسَبَب أَيْتَام كَانُوا تَحت يَده وعَلى أَرضهم جور فَوهبت ذَلِك للفقيه وكتبت للأيتام مُسَامَحَة جَارِيَة إِكْرَاما لقدوم الْفَقِيه
وَلما مدح الْفَقِيه النسابة أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَشْعَرِيّ الشَّيْخ مُحَمَّد بن عَليّ بن مشعل بِشعر مَشْهُور جعل هَذَا الإِمَام من أعظم مناقبه وَأجل مفاخره الَّتِي يمدح بهَا وَكَانَ لَهُ مَعَ تجويد الْفِقْه تجويد الأصولين وَلَقَد اجْتمعت بِبَعْض الْفُقَهَاء مِمَّن لَهُ دراية بالأصول فأوقفني على أَبْيَات وَهُوَ يستعظمها وَيَقُول مَا كنت أَظن صَاحب الْبَيَان يعرف الْأُصُول هَذِه الْمعرفَة وأوقفني على ورقة فِيهَا هَذِه الأبيات ... أفعالنا عرض فِي جسم فاعلها ... وَالله يخلق مَا فِي الْجِسْم من عرض
إِذا تقرر هَذَا فِي نَظَائِره ... فَلَا اعْتِرَاض إِذن يبْقى لمعترض
وَمن ينازعنا فى ذَا وينكره ... فليأتنا بِدَلِيل غير منتقض
الْمَدْح والذم والإنعام مِنْهُ لنا ... على اخْتِيَار لنا فِي الْفِعْل وَالْعرض
لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الزرق فِي صغر ... وَلَا ثَوابًا على كسب كَمَا الْعِوَض
لَا عذب الله إنْسَانا بِلَا عمل ... لَكَانَ عدلا كَمَا فِي الْمَوْت وَالْمَرَض
مَا لم يَشَأْ لم يكن من فَاعل أبدا ... وَأَن يرد كَون شَيْء فِي الْعباد قضي ... وَله شعر ينْسب إِلَيْهِ مِنْهُ قَوْله فِي وصف حَاله وزمانه وَأهل بَلَده ... إِلَى الله أَشْكُو وحشتي من مجَالِس ... أراجعه فِيمَا يلذ بِهِ فهمي
لِأَنِّي غَرِيب بَين سير وَأَهْلهَا ... وَإِن كَانَ فِيهَا أسرتي وَبَنُو عمي
وَلَيْسَ اغترابي عَنْهُم بيد النَّوَى ... وَلَكِن لما أبدوه من جفوة الْعلم
فقد كنت أَرْجُو أَن تكون سلالتي ... بِحِفْظ علومي فِي حَياتِي ذَوي عزم
فَثَبَّطَهُمْ عَن ذَاك حساد قَومهمْ ... وَمَا سمعُوا من كل ذِي حسد فدم
ستصبح يَا من غره قَول حَاسِد ... يَمُوت أَسِير الذل وَالْجهل واليتم ... وَلما دخلت قَرْيَة سير اجْتمعت بِبَعْض ذُريَّته فأوقفني على شَيْء من كتبه
فَوجدت مُعَلّقا بدفة كتاب مَعُونَة الطلاب لفقه مَعَاني كتاب الشهَاب تأليف وَلَده طَاهِر وبخطه أَيْضا مَا مِثَاله وللوالد رَحمَه الله ... أَلَيْسَ الله خَالق كل جسم ... وأعراض الْعباد بِلَا مراء
وَمَا عرض يخص بذا وَلَكِن ... عُمُوما فِي الْجَمِيع على سَوَاء
فَهَل أفعالنا وَالْقَوْل فِيهَا ... سوى عرض يقوم بِلَا بَقَاء ... ثمَّ بعد ذَلِك الأبيات الْمُتَقَدّمَة قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ أَخذ الشَّيْخ هَذِه الأبيات فِيمَا أَظُنهُ من قَول الْخطابِيّ وَهُوَ قَوْله ... وَمَا غربَة الْإِنْسَان فِي شقة النَّوَى ... وَلكنهَا وَالله من عدم الشكل
وَإِنِّي غَرِيب بَين بست وَأَهْلهَا ... وَإِن كَانَ فِيهَا أسرتي وَبهَا أَهلِي ... وَمن الشّعْر الَّذِي أوردهُ ابْن سَمُرَة فِي مدح الشَّيْخ رَحمَه الله قَول بعض أهل عصره ... لله شيخ من بني عمرَان ... قد كَانَ شاد الْعلم بالأركان
يحيى لقد أَحْيَا الشَّرِيعَة هاديا ... بزوائد وغرائب وَبَيَان
هُوَ درة الْيمن الَّذِي مَا مثله ... من أول فِي عصرنا أَو ثَانِي ... وَكَانَت وَفَاته بقرية ذِي السفال مبطونا وَقد عد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبطون شَهِيدا وَذَلِكَ بعد أَن اعتقلت لِسَانه لَيْلَتَيْنِ وَيَوْما وَمَتى جَاءَ وَقت الصَّلَاة سَأَلَ عَن ذَلِك بِالْإِشَارَةِ فَإِذا قيل لَهُ بِالْوَقْتِ صلى ثمَّ كَانَ لَا يزَال يُشِير بالتهليل يعرف ذَلِك مِنْهُ بِرَفْع مسبحته ويحركها ثمَّ توفّي فِي آخر لَيْلَة الْأَرْبَعَاء بعد طُلُوع الْفجْر سادس عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وقبر بجرب لَهُ بِالْقربِ من أرضه وقبره من الْقُبُور المعدودة للزيارة واستنجاز الْحَوَائِج والتوسل إِلَى الله بأصحابها وَقد زرته بِحَمْد الله مرَارًا
وَقد جرت الْعَادة غَالِبا مَتى عرض ذكر أحد من الْأَعْيَان ذكرت من ذكره مَا لَاق
فقد عرض مَعَه ذكر رجلَيْنِ أَحدهمَا الْخطابِيّ وَالْآخر علوان
فَأَما الْخطابِيّ فَهُوَ الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان حمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْخطاب قيل لَهُ الْخطابِيّ نِسْبَة إِلَى جده الْخطاب الْمَذْكُور أَولا قَالَه ابْن خلكان وَيعرف بالبستي نِسْبَة إِلَى بست بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق وَهِي مَدِينَة بِبِلَاد كابل بَين هراة وغزنة كَانَ فَقِيها أديبا مُحدثا لَهُ التصانيف البديعة وَمِنْهَا غَرِيب الحَدِيث ومعالم السّنَن وَغَيرهمَا وَله أَبْيَات حكمِيَّة مِنْهَا مَا أوردته أَولا ثمَّ قَوْله ... شَرّ السبَاع العوادي دونه وزر ... وَالنَّاس شرهم مَا دونه وزر
كم معشر سلمُوا لم يؤذهم سبع ... وَمَا ترى بشرا لم يؤذه بشر ... وَقَوله ... فسامح وَلَا تستوف حَقك كُله ... وأبق فَلم يستقص قطّ كريم
وَلَا تغل فِي شَيْء من الْأَمر واقتصد ... كلا طرفِي قصد الْأُمُور سليم ... وَلما كَانَ من أَعْيَان الْمَذْهَب علما وشهرة وَعرض ذكره اتجه فِي بَيَان حَاله مَا لَاق وَكَانَت وَفَاته بربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة
قَالَ ابْن خلكان وَقد سمع فِي اسْمه بثبات الْهمزَة وَالصَّحِيح حذفهَا
وَأما علوان الَّذِي دخل الْبَيَان بِخَطِّهِ الْعرَاق حَتَّى قَالَ أَهله مَا قَالُوا أَولا وَكَانَ أَصله من بلد على قرب من رَأس نقِيل صيد يعرف بخاو بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف وواو وَكَانَ كَاتب إنْشَاء الْملك المسعود بن الْكَامِل وَحكي أَنه سَافر مَعَه إِلَى حجَّة على بغلة فَحصل حَرْب ثمَّ كَانَ هَذَا علوان تَحت جبل فَانْقَطع من الْجَبَل كتف وَقع
عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب بغلته فَكَانَ آخر الْعَهْد بهما وَكَانَ أَيَّام الْخدمَة يسكن المعافر بِموضع من نواحي جبل ذخر يعرف بِذِي الحنان جمع جنَّة بِالْجِيم وَالنُّون وَالْهَاء وَلم أَقف لَهُ على تَارِيخ وَولده أَحْمد بن علوان الصُّوفِي الْآتِي ذكره فِي أهل طبقته
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْحَرْبِيّ مولده سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة أَخذ عَن ابْن شَيبَان وَابْن الْوَلِيد مقدمي الذّكر وَكَانَ فَقِيها شهير الذّكر وَلما اشْتغل الشَّيْخ يحيى بتصنيف الْبَيَان وَامْتنع بذلك عَن الْقُرَّاء واستشاره ابْن عَمه وصهره عُثْمَان بن أسعد بن عُثْمَان فِيمَن يذهب إِلَيْهِ من فُقَهَاء الْوَقْت وَيقْرَأ عَلَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِهَذَا عبد الله فارتحل إِلَيْهِ وَأخذ عَنهُ وتفقه بِهِ جمَاعَة
وَمِنْهُم عُثْمَان بن إِبْرَاهِيم الأبرهي غَالب سكناهُ الشعبانية وَله بهَا أَرض جَيِّدَة وَرُبمَا أَن دَار المضيف بِذِي عدينة إِنَّمَا غَالب أحجاره من دَار كَانَت هُنَاكَ
وَذَلِكَ أَن الْملك المظفر لما هم ببنيانه جعل يفكر بِموضع يَأْخُذ مِنْهُ الْأَحْجَار فَخرج يَوْمًا من تعز ليسير إِلَى جِهَة الشعبانية فَوجدَ دَارا كَبِيرَة قد صَارَت متهدمة فَسَالَ عَن مَالِكهَا فَقَالُوا إِنَّمَا تعرف ذَلِك عَجُوز بالقرية يزِيد عمرها على المئة سنة فاستدعي بهَا فَجَاءَت تتوكأ على عودين وسألها فَقَالَت لَا أكاد أعرف إِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ هِيَ لقوم كَانُوا فُقَهَاء مِنْهُم بَاقٍ فِي الموسكة وباق بذخر على قرب من ذِي الْجنان فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى مستقره بحث عَن الْقَوْم فأحضروا وَاشْترى مِنْهُم الدَّار ثمَّ نقلت أحجاره على الْجمال فَبنى دَار المضيف بِذِي عدينة خَاصَّة بالأحجار وَأما الْأجر فَرُبمَا كَانَ من غَيرهَا وَله ذُرِّيَّة بِالْقربِ من وَادي زبيد فيهم بعض تفقه فِيمَا أَخْبرنِي من خالطهم ولعَبْد الله جدهم كتاب سَمَّاهُ الشُّرُوط من أحسن مَا وضع فِي ذَلِك نَافِع يُوجد بِالْيمن كثيرا وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن مَسْعُود بن سَلمَة البريهي وَهُوَ فِي طبقَة الْفَقِيه يحيى الَّذين سمعُوا على أسعد بن خير فِي سنة خَمْسمِائَة بجمادى الأولى مِنْهَا
كتاب البُخَارِيّ وَهُوَ وَالِد سيف السّنة الْآتِي ذكره
وَمِنْهُم سَالم بن حسن الزوقري من قوم الْفَقِيه مُحَمَّد بن حميد الْمُقدم ذكره تفقه بِابْن عبدويه وَعنهُ يروي الْفَقِيه عَليّ بن أَحْمد اليهاقري كتاب الْمُهَذّب كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي بكر بن حمير بن تبع بن يُوسُف بن فضل الفضلي نسبته إِلَى هَذَا الْمَذْكُور ثمَّ الْهَمدَانِي مولده سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ غَالب فنه الحَدِيث بِحَيْثُ كَانَ يُمَيّز بَين صَحِيحه ومعلوله ومرسله وَمُسْنَده ومقطوعه ومعضله أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا وَقَالَ هُوَ شيخ الْمُحدثين وعمدة المسترشدين غلب عَلَيْهِ علم الحَدِيث فَكَانَ بِهِ عَارِفًا كثير الرحلة فِي طلبه أَخذ عَن زيد بن الْحسن الفائشي بوحاظة وأسعد بن ملامس المشيرقي وَعَن يحيى بن عمر الملحمي وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان وَأبي بكر بن أَحْمد بن الْخَطِيب بريمة سَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله وَأخذ عَن القَاضِي مبارك بالجؤة وَسَيَأْتِي ذكره فِيمَن ذكره ابْن سَمُرَة فِي فصل الْقُضَاة من أحسن كتاب وضع مُخْتَصر فِي ذَلِك نقل الثِّقَات نقلا متواترا أَنه كَانَ يخرج غَالب أَيَّام طلبه كل يَوْم من منزله بعرشان فيصل وحاظة وَإِلَّا المشيرق فَيقْرَأ ثمَّ يعود قلا يبيت إِلَّا فِي بَيته وَبَين بَلَده وَبَين أحد الْمَوْضِعَيْنِ يَوْم للمجد وَذكروا أَنه كَانَ قد يطْمع بِهِ قوم من الْعَرَب فوقفوا لَهُ مرَارًا فَلَا يَدْرُونَ بِهِ حَتَّى يجاوزهم بمسافة لَا يَسْتَطِيعُونَ إِدْرَاكه بعْدهَا فَلَمَّا تكَرر ذَلِك مِنْهُم علمُوا أَنه مَحْجُوب محمي عَنْهُم فغيروا نيتهم ووقفوا لَهُ فَمر بهم فصافحوه وتبركوا بِهِ وسألوه أَن يُحِلهُمْ مِمَّا كَانُوا أضمروا لَهُ وَهَذَا يدل على صِحَة تَأْوِيل من قَالَ معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمَلَائِكَة تضع أَجْنِحَتهَا لطَالب الْعلم رضى لَهُ وَأَن مَعْنَاهُ تحمله وتبلغه حَيْثُ مَا يأمله ويرومه إِعَانَة لَهُ على بعد الْمسَافَة
وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة قدم مَدِينَة إب فَاجْتمع إِلَيْهِ بهَا جمع كثير رَأْسهمْ إِذْ ذَاك الإِمَام سيف السّنة فَأخذُوا عَنهُ وَكَانَ هُوَ القارىء وَحضر السماع
جمَاعَة وَمِنْهُم سُلَيْمَان بن فتح وَغَيره وارتحل إِلَى عدن فَأخذ عَنهُ بهَا القَاضِي أَحْمد القريظي مَعَ جمع كثير من المغاربة والإسكندرانيين وَأهل عدن وَله كتاب الزلازل والأشراط اخذ عَنهُ جمع كثير مِنْهُم الشَّيْخ يحيى وَكَانَ يبجله ويجله وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ طَاهِر بن يحيى ومقبل الدثيني وَكَانَ الشَّيْخ يحيى يثني عَلَيْهِ وَيَقُول لَهُ لم أر أحفظ مِنْهُ وَلَا أعرف قيل لَهُ وَلَا بالعراق قَالَ مَا سَمِعت وَكَانَ يحفظ جملَة مستكثرة من الحَدِيث عَن ظهر غيب وَكَانَ راتبه فِي كل لَيْلَة جزأين من الْقُرْآن وَكَانَ يثردد مَا بَين بَلَده وإب والجند وعدن وَله بِكُل من هَذِه الْجِهَات وَأَصْحَاب فَكَانَ يقرىء بِجَامِع عرشان وَرُبمَا أَنه هُوَ الَّذِي أحدثه دَخلته مرَارًا فَوجدت بِهِ أنسا ظَاهرا وَعَلِيهِ جلالة فَعلمت أَن ذَلِك ببركة مَا كَانَ يُتْلَى فِيهِ من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقصده أهل الحَدِيث من غَالب أنحاء الْيمن رَغْبَة فِي علمه وَدينه وورعه وأمانته وعلو إِسْنَاده ومعرفته وتواضعه وَكَانَ يكره الْخَوْض فِي علم الْكَلَام وَكَانَ من أَشد النَّاس مُحَافظَة على أَدَاء الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا
وَلَقَد قَالَ مَا فاتتني صَلَاة قطّ إِلَّا لعذر عَظِيم وَكَانَ يُصَلِّي فِي مرض مَوته قَائِما وَقَاعِدا وعَلى جنب وَكَانَ الْفَقِيه عَليّ بن أسعد من عنة يقْرَأ عَلَيْهِ الشَّرِيعَة للآجري مَعَ رجل آخر وَهُوَ فِي مرض مَوته فَكَانَ يغشى عَلَيْهِ ثمَّ يفِيق فيأمر القارىء بِإِعَادَة مَا قَرَأَ فِي حَال الْغَفْلَة ثمَّ لما فرغا من قِرَاءَة الْكتاب وَهُوَ إِذْ ذَاك قد عجز عَن الْكِتَابَة أَمر وَلَده أَحْمد أَن يكْتب لَهما السماع وَلما صَار بالنزع سَمعه جمَاعَة مِمَّن حضر من أَهله وَغَيرهم يَقُول لبيْك لبيْك فَقَالُوا لَهُ من تجيب قَالَ الله دَعَاني ارفعوني إِلَى الله ارفعوني إِلَى الله ارفعوني إِلَى السَّمَاء ثمَّ توفّي عقيب ذَلِك بقريته لعشر بَقينَ من الْقعدَة سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وقبره غربي قبلي الْقرْيَة زرته بِحَمْد الله مرَارًا وَكَانَ لَهُ خَمْسَة أَوْلَاد تفقه مِنْهُم مُحَمَّد وَعبد الله شقيقان ثمَّ أَحْمد وَعمر
فَأَما مُحَمَّد فَكَانَ فَقِيها صَالحا ورعا وَلما ولي أَخُوهُ أَحْمد الْقَضَاء كَانَ يهجره وَلَا يدعس بساطه وَلَا يَأْكُل طَعَامه وعقبه بزبيد يعْرفُونَ ببني قَاضِي الرّفْعَة يتعانون الجندية والتعرز وَفِيهِمْ خير
وَأما عبد الله فَكَانَ فَقِيها لم أتحقق تَارِيخه وَلَا عقب لَهُ غير فَقِيه مَوْجُود الْآن
بعرشان اسْمه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن
توفّي مُحَمَّد وَأَخُوهُ عمر فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَأما أَحْمد فَسَيَأْتِي ذكره فِي أهل طبقته وَذريته وذرية عمر هم الموجودون بجبلة وعرشان فِي عصرنا يعْرفُونَ بالقضاة وَخرج فيهم فُقَهَاء ومحدثون فِي الْأَكْثَر وهم من أبرك ذَرَارِي الْفُقَهَاء وقبلهم أهل الملحمة آل أبي عمرَان إِذْ هم من أول صدر المئة الرَّابِعَة وَآخر الثَّالِثَة ثمَّ إِلَى عصرنا لم يخل عَن فَقِيه ثمَّ من بعدهمْ ذُرِّيَّة الْهَيْثَم وَابْن ملامس المشيرقيين لَكِن ذُرِّيَّة بني ملامس قد انقرضت وذرية الْهَيْثَم بَقِي مِنْهَا بَقِيَّة
وَمن المشيرق عمر بن الْفَقِيه أسعد بن الْفَقِيه خير بن ملامس قد مضى ذكر آبَائِهِ تفقه عمر بِأَبِيهِ أسعد فَهُوَ من طبقَة الْحَافِظ الْمَذْكُور آنِفا وَبِه تفقه ابْنه عبد الله وَهُوَ آخر من حَقَّقَهُ ابْن سَمُرَة من ذُرِّيَّة ابْن ملامس
وَمن ريمة المناخي وَهُوَ جبل كَبِير سمي بذلك نِسْبَة إِلَى ذِي مناخ قوم من حمير يرجعُونَ إِلَى ذِي مناخ بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون ثمَّ ألف ثمَّ خاء مُعْجمَة لما أَخذ الْجَبَل الصليحي من أَيْديهم شردهم وَقد مضى ذكر الرجل الَّذِي دخل مِنْهُم بَغْدَاد
وَصَحب الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق وامتدحه كَانَ بهَا جمَاعَة فضلاء متقدمون ومتأخرون والمتقدمون مِنْهُم بَنو الْخَطِيب كَانَ جدهم خَطِيبًا للصليحيين فنسبوا إِلَيْهِ وهم يعْرفُونَ بذلك إِلَى عصرنا ونسبتهم فِي الأعمور وأصلهم من أحاظة بلد وَاسِعَة تجمع قرى كَثِيرَة وَلَهُم هُنَاكَ قرَابَة
من متقدميهم عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن أَحْمد الْخَطِيب الَّذين ينسبون إِلَيْهِ وَعَمه أَبُو بكر بن أَحْمد الْخَطِيب هُوَ أَحْمد بن عبد الله كَانَ هَذَانِ الرّجلَانِ فقيهين فاضلين نزيهين أخذا عَن اللعفي مقدم الذّكر وَلما حجا أخذا بِمَكَّة عَن جمَاعَة بهَا وإليهما قدم الْحَافِظ العرشاني فَأخذ عَنْهُمَا وَكَانَ مسكنهما قَرْيَة شيعان بالشين الْمُعْجَمَة على وزن فعلان جمع فعلة وَلَا عقب لعبد الرَّحْمَن وَكَانَ بهَا عبد الله بن عَليّ الْحرَازِي وَالْقَاضِي أَحْمد بن أبي السُّعُود وَأَخُوهُ ذكر ابْن سَمُرَة جمَاعَة فِي فصل الْقُضَاة
وَمن وصاب عمرَان بن مُوسَى بن يُوسُف أَخذ عَن ابْن عبدويه وَبِه تفقه
القَاضِي التسترِي أَخذ عَنهُ الْمُهَذّب
وَمن المشيرق خير بن عَمْرو بن عبد الرَّحْمَن تفقه بِابْن عبدويه أَيْضا وَعنهُ أَخذ جمَاعَة هَكَذَا ذكر ابْن سَمُرَة
وَمِنْهُم عِيسَى بن عبد الْملك الْمعَافِرِي أَخذ عَن ابْن عبدويه وعلق عَنهُ أَلْفَاظ الْمُهَذّب الْمُخْتَلف فِي سماعهَا
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم اليافعي نسبا والجندي بَلَدا مولده سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة أثنى عَلَيْهِ عمَارَة ثَنَاء مرضيا وَكَانَ بِهِ عَارِفًا وَله مخالطا فَقَالَ عِنْد ذكره هُوَ قَاضِي قُضَاة الْيمن المنوط بِهِ أَحْكَام صنعاء وعدن وَزِير الدولتين الزريعية والوليدية تفقه باليفاعي وَأخذ علم الْأَدَب على النعماني والرشيد بن الزبير الأسواني وَكَانَ مزاملا للْإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر فِي بعض قِرَاءَته على شيخهما الإِمَام زيد وَكَانَ يَقُول بلغت عشْرين سنة وَأَنا لَا أكاد أقلد أحدا فِي مَسْأَلَة وَكَانَ مُسَددًا فِي أَحْكَامه وَمَتى تنَازع الخصمان فِي مَسْأَلَة قَالَ لَهما هاتوا جَوَاب القمرين أَو يَقُول مَا قَالَ القمران يَعْنِي عبيد بن يحيى بسهفنة وَيحيى بن أبي الْخَيْر وَكَانَ سخي النَّفس حسن الْأَخْلَاق مؤالفا للأصحاب عالي الهمة باذلا لجاهه وَمَاله فِي مَنَافِع الْإِسْلَام استوهب خراج أَرَاضِي الْفُقَهَاء فِي الأجناد خَاصَّة ثمَّ سُئِلَ التَّخْفِيف فِي ذَلِك من الْأَرَاضِي الَّتِي حول الْمَدِينَة فَجعل ذَلِك حَيْثُ يسمع الْأَذَان وببركته اسْتمرّ ذَلِك إِلَى عصرنا وَكَانَ من فضلاء الْإِسْلَام وأعيان الْأَنَام لَهُ مُخْتَصر فِي النَّحْو يعرف بالمفتاح من الْكتب المفيدة لأهل الْيمن
قَالَ عمَارَة فِي مفيده كَانَ القَاضِي أَبُو بكر الجندي مجيدا وَله بديهة لَا فضل فِي الروية عَلَيْهَا أَدْرَكته خصيصا بملكي الْيمن الْمَنْصُور بن الْمفضل والداعي مُحَمَّد بن سبأ وغالب ديوانه فِي مدحهما وَلَا سِيمَا مَنْصُور وَكَانَ حسن التأتي فِي الْمَقَاصِد سهلها جماعا لجواهر الْفُنُون خَطِيبًا مصقعا كَامِل الْفَضِيلَة وَكَانَ يرتجل الْخطْبَة من سَاعَته مَتى أرادها وديوانه مجلدان معتدلان وشعره حسن رائق يحتوي على جد القَوْل وهزله وَالرَّقِيق الجزل وَكَانَ نزها عَن الْحَسَد الَّذِي يبتلى بِهِ أَكثر مخالطي
الْمُلُوك من الوزراء والرؤساء كَمَا هُوَ مشَاهد لَا يكادون يحبونَ أَن يجْرِي على أَيْديهم شَيْء من الْخَيْر إِلَّا النَّادِر وَهُوَ لَا حكم لَهُ وَرُبمَا أَن الْمُلُوك مَتى عملت خيرا سعوا فِي فَسَاده وتغييره لاسيما إِن عملوه بِغَيْر سعايتهم وإشارتهم وَرُبمَا حملهمْ ذَلِك على أُمُور نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكر مَا كَانَ
وَكَانَ أمره عجيبا فِي عمره يَأْتِي ذكر اللَّائِق من ذَلِك وَولي الْقَضَاء فِي الْجند أَيَّام الْمفضل ثمَّ صَار قَاضِي الْقُضَاة من الْجند إِلَى صنعاء ثمَّ لما صَارَت الْبِلَاد لمُحَمد بن سبأ بالابتياع لَهَا أبقاه وَضم إِلَيْهِ الجؤة وعدن وَأبين ولحج ونواحيها فَصَارَ قَاضِي قُضَاة فِيهَا أجمع فَنزل عدن وَحكم بهَا وَعَاد الْجند واستخلف وَلَده وَلما قدم القَاضِي الرشيد بن الزبير من خلفاء مصر رَسُولا إِلَى مُحَمَّد بن سبأ وَاجْتمعَ بِهِ هَذَا أَبُو بكر ومازحه وَأنس بِهِ وَأحسن إِلَى الرشيد إحسانا تقر بِهِ الْعُيُون وينبىء عَلَيْهِ الْمكنون بِحَيْثُ أَن الرشيد لما عَاد إِلَى مصر وَسُئِلَ عَمَّن بِالْيمن من الْفُضَلَاء قَالَ بهَا جمَاعَة سيدهم أَبُو بكر اليافعي وَقَاه الله ورعاه وَكَانَ يخالط الْمُلُوك وَيكثر مجالستهم ومدحهم وبلغه أَن جمَاعَة عابوه على قَول الشّعْر وَقَالُوا لَيْسَ ذَلِك لائقا بِذِي الْفِقْه فَقَالَ فِي معنى ذَلِك ... كم حَاسِد لي فِي الْأَنَام وغابط ... على منطقي إِذْ كَانَ مَنْطِقه رخوا
يعيرني بالشعر قوم وَبَعْضهمْ ... يوبخني وَالْكل يخبط فِي عشوى
أَرَادوا بِهِ عيبي وَهل هُوَ نَاقص ... إِذا مَا جمعت الْفِقْه وَالشعر والنحوى
وأصبحت فِي علم الْعرُوض مجودا ... وَقدم قولي فِي الْحُكُومَة وَالْفَتْوَى
وَمَا كنت مداحا لنَفْسي وَإِنَّمَا ... لأجعل أكباد العدى بالغضا تكوى ... وَمن منثور كَلَامه فِي خطْبَة الدِّيوَان وَلَا يظنّ ظان أَن ذَلِك جهدي وكل مَا عِنْدِي بل هُنَاكَ همم تسمو إِلَى أرفع من الشّعْر رُتْبَة ومذاكرة بِعلم هُوَ أقدم مِنْهُ محبَّة وَأُمُور نيطت فِي عراها ورسخت لَا يرام قواها وَهَذِه صناعَة لَهَا من أفكاري الفضلات وَمن أوقاتي الغفلات فَإِلَيَّ مِنْهُمَا كإل السقب من بازل النعام وحظها مني كحظ الْمُوَافق من طيف الْمَنَام
. . وَلَوْلَا مَا
تكلفنا اللَّيَالِي ... لطال القَوْل واتسع الروي
وَلَكِن القريض لَهُ معَان ... وَأَوْلَادهَا بِهِ الذّكر الْجَلِيّ ... ثمَّ لما كَانَ مُعظم شعره فِي مدح مَنْصُور بن الْمفضل الوليدي قَالَ يخاطبه ... وَلَو إِن للشكر شخصا يرى ... إِذا مَا تَأمله النَّاظر
لمثلت ذَلِك حَتَّى ترَاهُ ... فتعلم أَنِّي آمرؤ شَاكر ... وَلما توفيت السيدة وَصَارَ التعكر وَحب والأجناد وصبر وبلاد الْحُصُون إِلَى مَنْصُور بن الْمفضل كَانَ دَار ملكه جبلة وَله محبَّة بِهَذَا القَاضِي سَأَلَهُ أَن ينْتَقل من الْجند إِلَيْهِ لكَونه قَاضِي قُضَاة بِلَاده وَلم يقبل مِنْهُ عذرا فِي ذَلِك وجبلة إِذْ ذَاك إِنَّمَا يسكنهَا الرافضة وَأهل السّنة قَلِيل لَا يكادون يعْرفُونَ إِنَّمَا يَجْتَمعُونَ إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي يعرف بِمَسْجِد السّنة وَلَا يعرف بهَا أحد من أَعْيَان الْفُقَهَاء وَأهل السّنة وَمَتى سكنها سَاكن مِنْهُم عيب عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَغَيرهم من أهل السّنة وعابوه وَرُبمَا نسبوه إِلَى الْخُرُوج عَن الْمَذْهَب وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن بانيها عبد الله بن مُحَمَّد الصليحي أَخا عَليّ بن مُحَمَّد والمقتول مَعَه فِي المهجم على مَا سَيَأْتِي فَلم يكد يسكن مَعَه غير أهل مذْهبه فِي الْغَالِب وَإِنَّمَا سكن أهل السّنة بهَا فِي أَيَّام الغز وَلَيْسَ ذكر ذَلِك والإيغال فِي بَيَانه من ملازم الْكتاب
فَذكرُوا أَن القَاضِي أَبَا بكر لما انْتقل عَن الْجند مُوَافقا للسُّلْطَان وَأقَام مَعَه بجبلة كتب الْفَقِيه أَبُو الْفتُوح بن عبد الحميد الفائشي شعرًا يعتبه على ذَلِك ... لم تأت يَا هَذَا بِأَن تنهضا ... فِي النجد أَو فِي الْغَوْر أَو فِي الأضا
حللت فِي ذِي جبلة قَاضِيا ... فبئسها أَرضًا وَبئسَ القضا
تؤم بالطائفة الْمُلْحِدِينَ ... من بعد مَا كنت إِمَام الرِّضَا
بالجند الغراء إِمَامًا بِحَمْد ... الله بل صارمها المنتضا
سميك الصّديق فِي صدقه ... أثنى عَلَيْهِ الله والمرتضا
للشَّافِعِيّ قَولَانِ يَا يافعي ... فَقَوله الآخر لن ينقضا
وَأَنت ذُو فعلين فِيمَا ترى ... وفعلك الآخر قد أمرضا
إيها فَرخص عرضك الْمُنْتَقى ... من دنس أضحى لَهُ محرضا ...
. . وَأظْهر التَّوْبَة تطمس بهَا ... مَا قبض الْقلب وَمَا غيضا ... فَأَجَابَهُ القَاضِي بِأَبْيَات وَقَالَ فِيهَا ... أهديت نصحا يَا أَخا فائش ... ونصحك المقبول والمرتضا
وَلَيْسَ عَن قَوْلك يَا أَبَا الْفتُوح ... حراجا أخرج عَنهُ أَو أرى معرضًا
تَأْتِيك أبياتي بِمَا يَنْبَغِي ... مني وتأسو قَلْبك الممرضا
وأنثني عَن مَا تكرهته ... إِن شَاءَ رَبِّي ذَاك أَو قيضا
لست مصرا مثل غَيْرِي وَلَا ... أَعُود إِلَّا مصلحا مَا مضى
هَذَا اعتقادي وبذا نيتي ... لَا بُد للمكروه أَن يرفضا
تَحِيَّة زارتك مني وَلَا ... عدمت نصحا مِنْك لي أبيضا ... ثمَّ لما لبث أَيَّامًا وَاعْتذر إِلَى مَنْصُور فِي سُكْنى جبلة ثمَّ تقدم الْجند فَلم يزل بهَا وَهُوَ يتَرَدَّد إِلَى مَنْصُور وَلما دخل عدن أَيَّام مُحَمَّد بن سبأ على الْقَضَاء كَمَا قدمنَا أَخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي أَحْمد بن عبد الله القريظي أَخذ عَنهُ المقامات للحريري والموطأ وَمن محَاسِن شعره مَا قَالَه وَقد فَارق أصحابا لَهُ بقرية يفرس من نواحي بلد جبا وضبطها بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَسُكُون الْفَاء وَضم الرَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وجبا بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف بلد كَبِير خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَهِي أكبر بِلَاد الْيمن فُقَهَاء ومتفقهين مِنْهُم من يَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر المتحقق مِنْهُم ... أستودع الله الَّذِي ودعا ... وَنحن للفرقة نبكي مَعًا
أسبل من أجفانه أدمعا ... لما رَآنِي مسبلا أدمعا
وَقَالَ لي عِنْد وداعي لَهُ ... مَا أعظم الْبَين وَمَا أوجعا ...
. . مَا أَنْت بعدِي بالنوى صانع ... فَقلت لَا أقدر أَن أصنعا
مايصنع الصب الْمَعْنى إِذا ... فَارق إلفا غير أَن يجزعا
فارقتكم يَا سَاكِني يفرس ... ورحت وَالْقلب بكم مُولَعا
ناديت صبري يَوْم فارقتكم ... أجد للبين وَقد أزمعا
يَا صَبر عد يَا صَبر عد قَالَ لَا ... لبيْك لَا لبيْك يَا من دَعَا
وَالله لَا أرجع يَا غادرا ... فِي السّير بالأحباب أَو ترجعا
ولي فؤاد مُنْذُ فارقتكم ... يُمْسِي كئيبا مُولَعا موجعا
وَنَفس صب شهِدت أَنه ... مَا نقض الْعَهْد وَلَا ضيعا
ومقلة مهما تذكرتكم ... تذرف دمعا أَرْبعا أَرْبعا
وَلَيْسَ لي من حِيلَة كلما ... لجت بِي الأشواق إِلَّا الدعا
أسأَل من ألف مَا بَيْننَا ... وَقدر الْفرْقَة أَن يجمعا ... وَمن أحسن مَا أوردهُ فِي ديوانه مدحا لمنصور بن الْمفضل وَذكره إِيَّاه وَأَنه الْجَار لغيل الْجند من خنوة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة مخفوضة وَنون سَاكِنة ثمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهُوَ غيل عَجِيب خُصُوصا طَرِيقه فَإِنَّهُ جعلهَا وسط الْجبَال وَقد بَين ذَلِك القَاضِي فِي شعره وَلم أعرف أَن الْمفضل هُوَ الْجَار لَهُ إِلَّا من شعر هَذَا القَاضِي وَقَالَ من قصيدة فِي مدحه فِيهَا ... كثرت يَا ابْن مفضل حسادي ... بصنائع أسديتها وأيادي
وأنلتني بنداك أَسبَاب الْغنى ... فبلغت أوطاري ونلت مرادي
وَفعلت لي مَا لَيْسَ يَفْعَله الْأَب الحاني ... على الْأَوْلَاد للأولاد
فِي كل يَوْم خلعة مَشْهُورَة ... كالروض تسخن أعين الأضداد
ومواهب عدد النُّجُوم فَلَو درت ... زهر النُّجُوم لَكِن من حسادي
وَأحب عِنْدِي من عطائك مَا بدا ... لي فِي ضميرك من صَحِيح وداد
فرضاك والود الَّذِي تبديه لي ... خير من الْإِعْطَاء والإرفاد
حسبي رضاك أعيش فِي الدُّنْيَا بِهِ ... فرضاك عِنْدِي من أجل عتادي
فلأشكرن على الَّذِي أوليتني ... شكر الرياض لمستهل عهاد ...
. . وَأَصَح شكر مَا بدا من شَاكر ... فِي ربه إِثْر الصنيعة بَادِي ... وَمِنْهَا ... فَهُوَ الْجواد ابْن الْجواد وَهل ترى ... ولد الْجواد يكون غير جواد
وَأَبوهُ شاد المكرمات فَأَصْبَحت ... أعلامها فِي النَّاس كالأطواد
وَأَقل مكرمَة لَهُ وفضيلة ... إجراؤه للغيل فِي الأجناد
شقّ الْجبَال الشامخات فَأَصْبَحت ... وكأنما كَانَت ثعاب وهاد
فاليوم أصبح مَاء خنوة وَهِي ... فِي الْجند العزيزة منهل الوراد
فَخر الْمفضل فِي المفاخر كلهَا ... بِمَثَابَة الْأَرْوَاح فِي الأجساد ... وَفِي قَوْله شقّ الْجبَال الشامخات دَلِيل على أَن طَرِيقه مِمَّا لَا يتخيل الذِّهْن أَنَّهَا من أَعمال الْآدَمِيّين فَلَقَد أحسن الْمفضل وَأبقى لَهُ فِي المفاخر فخرا وَفِي الْحَسَنَات ذكرا ثمَّ كَانَ القَاضِي لَهُ مَكَارِم وحمية على أَبنَاء جنسه وَمن صَحبه يقوم بحوائج من قَصده وَكَانَ ذَا حمية وعصبية للْمَذْهَب طَرِيقَته تشبه طَريقَة القَاضِي يحيى بن أَكْثَم الْمَشْهُور الَّذِي يَأْتِي ذكره لَكِن صاحبنا هَذَا يزِيد عَلَيْهِ بإتقان الْأَدَب واشتهاره بِهِ واتساعه بفنونه وَابْن أَكْثَم يشهر بالفقه لَا غير وَمن شعره أَيْضا مَا قَالَه يتوسل بِهِ إِلَى الله بأسمائه وسور الْقُرْآن سُورَة سُورَة من أَوله إِلَى خاتمته وَذكر فِي أَولهَا مَعَاني حَسَنَة وَمَا قَرَأَهَا ذُو كرب إِلَّا فرج الله عَنهُ وَهِي هَذِه ... لَك الشُّكْر يَا من جلّ عَن غَايَة الشُّكْر ... وَلَو أَنه أربى على الرمل والقطر
لَك الشُّكْر يَا باري الْبَريَّة كلهَا ... ورازقها الأرزاق من حَيْثُ لَا تَدْرِي
لَك الشُّكْر وَالْحَمْد الَّذِي أَنْت أَهله ... مَلِيًّا على الْحَالين فِي الْعسر واليسر
فيا خَالِقًا سبعا طباقا وَمثلهَا ... من الأَرْض وَالْمَاء الْمعِين من الصخر
تكفلت بالأرزاق للطير فِي الهوا ... وللوحش فِي بر وللحوت فِي الْبَحْر
وميرتهم شَتَّى فَهَذَا مقتر ... عَلَيْهِ وَهَذَا فِي مكاسبه مثري
وقدرت آجال الْعباد فكلهم ... إِلَى غَايَة لَا علم فِيهَا لَهُ يجْرِي
وأسعدت من أسعدت بِالْخَيرِ وَالْهدى ... وأشقيت من أشقيت فِي الْغَيْب بالْكفْر
وَكنت عليما بالغيوب وَمَا بِهِ ... توسوسه نفس الموسوس فِي الصَّدْر
إلهي قسا قلبِي وَضَاقَتْ مذاهبي ... وأوبقني جهلي وأثقلني وزري ...
. . وأصبحت ذَا غم خلا مِنْهُ مَا خلا ... مضاعا وَمَالِي بالمؤخر من خيري
مضى مَا مضى عني وَلَا علم لي بِهِ ... فَإِن فَاتَنِي الْبَاقِي فيا ضَيْعَة الْعُمر
زماني فِي سَهْو وَلَهو وغفلة ... وَمن خلف ظَهْري هول قاصمة الظّهْر
فإبليس وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي والهوى ... فَكيف احتيالي والتخلص من أَمْرِي
وَكَيف ألذ الْعَيْش وَالْمَوْت طالبي ... وَلَا بُد بعد الْمَوْت من ضمة الْقَبْر
وَلَا بُد من يَوْم الْحساب وهوله ... وَيَا لَيْت شعري مَا جوابي وَمَا عُذْري
إِذا قيل لي اقْرَأ كتابك وَالَّذِي ... كدحت فقد أُوتِيتهُ بَين السطر
وَقد كتبت فِيهِ ذُنُوبِي وأحصيت ... عَليّ فَمن سر خَفِي وَمن جهر
وَقد قَامَت الأشهاد تشهد والورى ... حُفَاة عُرَاة شاخصون لَدَى الْحَشْر
وَقد حَارب الْفضل الْمفضل فِي القضا ... واذعرت الْأَرْوَاح فِيهِ أَيّمَا ذعر
وكل بِهِ من شدَّة الْخَوْف سكرة ... وَمن هول مَا قاسى وَلَيْسَ بِذِي سكر
وَقد فَازَ من أعْطى وَأحسن وَاتَّقَى ... وَصدق بِالْحُسْنَى وَيسر لليسر
إلهي أَسِير الذَّنب يَدْعُوك خَائفًا ... من الذَّنب فَامْنُنْ بالفكاك من الْأسر
بحقك يَا من لَا تخيب آملا ... وَيَا عَالما سري وَيَا كاشفا ضري
أجب دَعْوَتِي واغفر خَطَايَا فإنني ... مقرّ بِمَا قدمت من فَاحش النكر
وهب لي ذُنُوبِي واعف من قبح زلتي ... وَلَا تكشفن حَالي وَلَا تهتكن ستري
بعروتك الوثقى وأسمائك الَّتِي ... تعلمهَا مُوسَى الكليم من الْخضر
بِفَاتِحَة الْقُرْآن وَالسورَة الَّتِي ... تَلِيهَا وَمَا فِيهَا من النَّهْي وَالْأَمر
بِآيَة كرْسِي وَعزة قدرهَا ... ومعظم مَا أنزلت فِي مُحكم الذّكر
وَمَا قلته فِي آل عمرَان والنسا ... وتنزيه عِيسَى عَن مقَال ذَوي الْكفْر
ومائدة نزلتها حجَّة لَهُ ... فقابل مَا أولاه مَوْلَاهُ بالشكر
بِسُورَة أنعام وأعرافها وَمَا ... أبحت من الْأَنْفَال للطاهر الطُّهْر
وبالمجتبى والمصطفى فِي بَرَاءَة ... من الله وَهُوَ الْبر ذُو اللطف وَالْبر
وَيُونُس ذِي الْبلوى وَهود ويوسف ... ورعد وَإِبْرَاهِيم والنحل وَالْحجر
وَسُبْحَان من أسرى وكهف وَمَرْيَم ... وطه وَفضل الْأَنْبِيَاء وهم ذخري
وبالحج والأفلاح ألتمس الرضى ... وَنور وفرقان وفلقك للبحر ...
. . وجامعة والنمل والقصص الَّذِي ... قصصت وَمَا فِي العنكبوت من الزّجر
وروم ولقمان وبالجرز الَّذِي ... تضَاعف أجرا لحاملها على الْأجر
بِسُورَة أحزاب وَذكر مُحَمَّد ... وَمَا كَانَ من نصر الْوَصِيّ على عَمْرو
وَذَات سباء وَالْحَمْد لله فاطر السَّمَاوَات ... م سُبْحَانَ الْقَدِير على الْفطر
وَيس وَالصَّافَّات صفا وزجرها ... وقعتكها بالتاليات وبالذكر
وص وتنزيل الْكتاب وغافر ... تبَارك من يهفو وَيَعْفُو على الْوزر
وَسجْدَة حم وَحُرْمَة فَضلهَا ... وحم عسق فَخر إِلَى فَخر
وزخرف وَالدُّخَان هَذَا وَهَذِه ... وجاثية فِي موقف ضيق وعر
بِسُورَة أحقاف وَفضل مُحَمَّد ... وبشراه بالغفران وَالْفَتْح والنصر
إِلَى حجرات ثمَّ قَاف وفضلها ... وبالذاريات الْجَارِيَات وَمَا تذري
وبالطور أَدْعُو الله والنجم عله ... يسدد من أَمْرِي ويشدد لي أزري
وباقتربت أَدْعُو الْقَرِيب من الدعا ... تَعَالَى وبالرحمن والصمد الْوتر
وواقعة ثمَّ الْحَدِيد وَسورَة ... الْجِدَال وَمَا تتلوه من سُورَة الْحَشْر
شفيعي إِلَى الرب الْوَدُود مَوَدَّة ... وصف كبنيان لَدَى الْكر والفر
وبالجمعة الزهراء وبالسورة الَّتِي ... يكذب بهَا أهل النِّفَاق ذَوُو الْغدر
وأدعوك رَبِّي بالتغابن رَاغِبًا ... وَمَا فِي طَلَاق من حَلَال وَمن حظر
وَمَا قلت فِي فضل الْمحرم أَنه ... لأَفْضَل من نجو السما وَبِه يسري
وَملك وَنون ثمَّ بالحاقة الَّتِي ... تحيق بِأَهْل الْكفْر والنكر وَالْمَكْر
وتبيان مَا بيّنت فِي سَأَلَ سَائل ... ونوح وَقل أُوحِي والمزمل والدثر
وَسورَة لَا أقسم وَسورَة هَل أَتَى ... صدقت على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر
وبالمرسلات العاصفات وشأنها ... وبالنبأ المقروء فِي البدو والحضر
وبالنازعات الناشطات ونشطها ... إِلَى عبس ثمَّ التكور والكدر
وبانفطرت والانشقاق وَذكر مَا ... مقت من التطفيف والكيل والخسر
وَفضل السما ذَات البروج وطارق ... وَسبح علام السرائر والجهر
بغاشية يَا رب يَا رب نجني ... وأسمائك الْحسنى ونورك وَالْفَجْر
وبالبلد المحجوج وَالشَّمْس وَالضُّحَى ... وليل إِذا يغشى وليل إِذا يسري
وبالقسم الْمكنون فِي سُورَة الضُّحَى ... وشرحك من خيرالنبيين للصدر ...
. . وبالتين واقرأ باسم رَبك الَّذِي ... شرحت وَمَا أنزلت فِي لَيْلَة الْقدر
وَفِي لم يكن سر خَفِي وزلزلت ... لمن هُوَ ذُو لب لَبِيب وَذُو حجر
وبالعاديات الموريات وضبحها ... وقارعة ثمَّ التكاثر وَالْعصر
بِسُورَة هماز وبالفيل بعْدهَا ... لِإِيلَافِ فِيهَا وفر إِلَى الوفر
ومقتك دع الْيَتِيم وخاب من ... يدع يَتِيما خَابَ ذُو الدع والقهر
وتشريفك الْمُخْتَار مِنْك بكوثر ... وأشرف من يقْرَأ لديك وَمن يقري
وَسورَة قل يَا أَيهَا ثمَّ بعْدهَا ... إِذا جَاءَ نصر الله فاشكر لذِي النَّصْر
بتبت وَالْإِخْلَاص أخْلص سريرتي ... بتوحيد رب وَاحِد صَمد وتر
وبالفلق الْمَحْفُوظ يَا رب نجني ... من السحر والنفاث فِي عقد السحر
وبالناس رب النَّاس حظي من البلى ... وَمن شَرّ وسواس يوسوس فِي الصَّدْر
وَكن بِي حفيا يَوْم تقضي منيتي ... رؤوفا رحِيما فِي الْقِيَامَة والحشر
وَلَا تحرقن بالنَّار جسمي فَلَيْسَ لي ... على الْقَبْر صَبر لَا وَلَا أيسر الْحر
بِفَضْلِك يَا ذَا الْجُود جد لي بِنِعْمَة ... بِفَضْلِك يَا ذَا الْفضل أفضل على فقري
تعاليت يَا من لَا يُحِيط بوصفه ... صِفَات أخي وصف وَلَا شعر ذِي شعر
تعاليت يَا من لَيْسَ يُحْصى ثَنَاؤُهُ ... غَلطت وَلَا عشر العشير من الْعشْر
تَبَارَكت يَا من جلّ قدر جَلَاله ... وَعظم آيَاته عَن النّظم والنثر
لَك الْعِزّ والنعماء وَالْقُدْرَة الَّتِي ... يقصر عَن إِدْرَاكهَا فكر ذِي فكر ... تمت القصيدة وَهِي مباركة وَلذَلِك استوعبتها وعددها ثَلَاثَة وَثَمَانُونَ بَيْتا قل من قَرَأَهَا رَاغِب أَو رَاهِب إِلَّا حصل لَهُ مَقْصُوده وَكَانَت وَفَاة قَائِلهَا بِمَدِينَة الْجند مبطونا وَقد عد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبطون شَهِيدا وَذَلِكَ لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَلما نعي إِلَى الإِمَام يحيى وَهُوَ بِذِي أشرق اسْترْجع ثمَّ قَالَ مَاتَت الْمُرُوءَة الْآن ثمَّ نزل الْجند وَحضر قبرانه فِي جمع كثير من أَصْحَابه
وَقد عرض مَعَ ذكره جمَاعَة من الْأَعْيَان مِنْهُم يحيى بن أَكْثَم والرشيد بن الزبير
فأبدأ بِيَحْيَى لكَونه من أَعْيَان النَّاس علما وَعَملا ولتقدم زَمَانه وسلامته من الْبِدْعَة قَالَ ابْن خلكان فِي حَقه هُوَ أَبُو مُحَمَّد يحيى بن أَكْثَم بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْكَاف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَبعدهَا مِيم بن مُحَمَّد بن قطن بن سمْعَان بن مشينج التَّمِيمِي الأسيدي الْمروزِي من ولد أَكْثَم بن صَيْفِي التَّمِيمِي حَكِيم الْعَرَب والأسيدي الْمروزِي بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين الْمُهْملَة وخفض الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وتشديدها ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ يَاء نِسْبَة إِلَى بطن من تَمِيم وَكَانَ سني الْمَذْهَب سليما من الْبِدْعَة وَكَانَ أحد أَعْلَام الدُّنْيَا سمع من ابْن الْمُبَارك وَابْن عُيَيْنَة وَغَيرهمَا وَرُبمَا قد ذكرت قصَّته مَعَ ابْن عُيَيْنَة حِين ذكرته وَكَانَ مِمَّن اشْتهر أمره وَعرف خَيره وَلم يسْتَتر عَن الصَّغِير وَالْكَبِير من النَّاس فَضله وَعلمه ورئاسته وسياسته لأَمره وَأمر أهل زَمَانه من الْخُلَفَاء والملوك وَاسع الْعلم بالفقه كثير الْأَدَب حسن الْعَارِضَة قَائِم بِكُل معضلة غلب على الْمَأْمُون حَتَّى لم يتقدمه أحد عِنْده من النَّاس جَمِيعًا وقلده قَضَاء الْقُضَاة وتدابير المملكة وَكَانَ أول ولَايَة تولاها الْبَصْرَة سنة اثْنَتَيْنِ ومئتين بعد إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد بن الإِمَام أبي حنيفَة وَكَانَ يَقُول من قَالَ إِن الْقُرْآن مَخْلُوق استتيب فَإِن تَابَ وَإِلَّا ضربت عُنُقه
وَيُقَال كَانَ ليحيى هَذَا يَوْم فِي الْإِسْلَام وَلم يكن لأحد مثله وَالْعجب كَيفَ أسقط الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق ذكره من طبقاته وَكَانَت كتبه فِي الْفِقْه أجل كتب تَركهَا النَّاس لطولها وَله كتب فِي الْأُصُول كتاب أوردهُ عَن الْعِرَاقِيّين سَمَّاهُ التَّنْبِيه وَجرى بَينه وَبَين دَاوُد بن عَليّ الظَّاهِرِيّ مناظرات كَثِيرَة وَكَانَ من أدهى النَّاس وَأخْبرهمْ بالأمور سَأَلَهُ رجل وَهُوَ على الْقَضَاء فَقَالَ أصلح الله القَاضِي كم آكل فَقَالَ فَوق الْجُوع وَدون الشِّبَع فَقَالَ فكم أضْحك فَقَالَ حَتَّى يسفر وَجهك وَلَا يَعْلُو صَوْتك قَالَ فكم أبْكِي قَالَ لَا تمل الْبكاء من خشيَة الله قَالَ فكم أُخْفِي عَمَلي قَالَ مَا اسْتَطَعْت قَالَ فكم أظهر مِنْهُ قَالَ مَا يَقْتَدِي بك الْبر الْخَيْر ويؤمن عَلَيْك قَول النَّاس فَقَالَ سُبْحَانَ الله قَول فاطن وَعمل طَاعن
وَأما يَوْمه الَّذِي يعد لَهُ وَأَنه لم يكن لأحد مثله فَذكرُوا أَن الْمَأْمُون أَمر مناديا يُنَادي بِحل نِكَاح الْمُتْعَة فشق ذَلِك عَلَيْهِ فَقَالَ لمُحَمد بن
مَنْصُور وَلأبي العينا إِذا كَانَ الْغَد فبكرا إِلَيْهِ يعْنى الْمَأْمُون فَإِن رَأَيْتُمَا لِلْقَوْلِ وَجها فقولا وَإِلَّا فاسكتا إِلَى أَن أَدخل قَالَ فَدَخَلْنَا على الْمَأْمُون فوجدناه يستاك وَيَقُول وَهُوَ مغتاظ متعتان كَانَتَا على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى عهد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَأَنا أنهى عَنْهُمَا وَمن أَنْت يَا جعل حَتَّى تنْهى عَن مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى عهد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَأَوْمأ أَبُو العينا إِلَى مُحَمَّد بن مَنْصُور رجل يَقُول فِي عمر مَا يَقُول نكلمه نَحن وأمسكنا إِذْ بِيَحْيَى بن أَكْثَم فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا فَقَالَ الْمَأْمُون لَهُ مَالِي أَرَاك متغيرا قَالَ لما حدث فِي الْإِسْلَام قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تحل الزِّنَا قَالَ الزِّنَا قَالَ نعم قَالَ وَكَيف ذَلِك فَقَالَ سَمِعت مناديك يُنَادي بِحل الْمُتْعَة وَهِي زنا قَالَ وَمن أَيْن قلت هَذَا قَالَ من كتاب الله عز وَجل وَحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} ثمَّ تَلا إِلَى حافظون ثمَّ إِلَى العادون يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ زَوْجَة الْمُتْعَة ملك يَمِين قَالَ لَا قَالَ فَهِيَ الزَّوْجَة الَّتِي عِنْد الله تَرث وتورث وَيلْحق الْوَلَد وَلها شرائطها قَالَ لَا قَالَ فقد صَار متجاوز هذَيْن من العادين وَهَذَا الزُّهْرِيّ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ روى عَن عبد الله وَالْحسن ابْني مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيهِمَا عَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه قَالَ أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أنادي بِالنَّهْي عَن الْمُتْعَة وتحريمها بعد أَن كَانَ أَمر بهَا قَالَ فَالْتَفت الْمَأْمُون إِلَيْنَا وَقَالَ أمحفوظ هَذَا من حَدِيث الزُّهْرِيّ قُلْنَا نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رَوَاهُ جمَاعَة مِنْهُم مَالك فَقَالَ الْمَأْمُون أسْتَغْفر الله بَادرُوا بِتَحْرِيم الْمُتْعَة فبادروا إِلَى ذَلِك وَلم يكن لَهُ شَيْء يطعن بِهِ عَلَيْهِ غير أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا بخلطة الْمَأْمُون وَكَانَ ابْن حَنْبَل يجله ويؤثم من يَقُول فِيهِ
شَيْئا قبيحا وينكر ذَلِك إنكارا شَدِيدا وَلم أتحقق تَارِيخه ولعلي أبحث عَنهُ فِي مظانه إِن شَاءَ الله مَعَ أَنه يدْرك من كَونه مَوْجُودا فِي زمن الْمَأْمُون
وَمن أحسن مَا يذكر من بديهته وَسُرْعَة إجَابَته بِالْجَوَابِ أَنه لما أَرَادَ الْمَأْمُون أَن يوليه قَضَاء الْبَصْرَة استحضره ثمَّ سَأَلَهُ عَن هَالك خلف ابْنَتَيْن وأبوين ثمَّ هَلَكت إِحْدَى الابنتين وخلفت زوجا وَهَؤُلَاء الْوَرَثَة فَقَالَ تبين أَمِير الْمُؤمنِينَ من الْمَيِّت فِي الأولى فَعلم الْمَأْمُون أَنه أصَاب وَهَذِه مَسْأَلَة يسميها الفرضيون بالمأمونية وَلما دخل الْبَصْرَة اجْتمع إِلَيْهِ فقهاؤها وَهُوَ إِذْ ذَاك ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة فَقَالُوا مَا سنّ القَاضِي يُرِيدُونَ استصغاره فَقَالَ سنّ عتاب بن أسيد يَوْم ولاه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة ففهموا
وَأما الرشيد فَهُوَ أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد ابْن عَليّ بن القَاضِي الرشيد أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الزبير الغساني الأسواني بَلَدا نِسْبَة إِلَى بلد بصعيد مصر يُقَال لَهَا أسوان بِضَم الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ نون وَقيل بِفَتْح الْهمزَة وَلَيْسَ بِشَيْء
قَالَ ابْن خلكان فِي حَقه كَانَ من أكابرالفضلاء وَذَوي الْفضل والنباهة والرئاسة صنف كتاب الْجنان ورياض الأذهان وَذكر فِيهِ جمَاعَة من مشاهير الْفُضَلَاء وَله ديوَان شعر وَكَانَ مجيدا فِي نثره ونظمه مِنْهُ مَا أوردهُ ابْن خلكان وَقَالَ هُوَ معنى لطيف غَرِيب ... وَترى المجرة فِي السَّمَاء كَأَنَّهَا ... تَسْقِي الرياض بجدول ملآن
لَو لم تكن نَهرا لما عامت بهَا ... أبدا نُجُوم الْحُوت والسرطان ...
وَله من قصيدة ... وَمَالِي إِلَى مَاء سوى النّيل غلَّة ... وَلَو أَنه اسْتغْفر الله زَمْزَم ... قَالَ ابْن سَمُرَة لما قدم الْيمن اسْتَفَادَ عَلَيْهِ جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَكَانَ عَالما بفنون شَتَّى قَالَ وَيُقَال إِن المقامة الحصيبية لَهُ وَهِي تدل على فضل وَاسع قَالَ ابْن خلكان ذكره الْحَافِظ أَبُو الطَّاهِر رَحمَه الله فِي بعض تعاليقه وَقَالَ ولي النّظر بثغر الْإسْكَنْدَريَّة بِغَيْر اخْتِيَاره سنة تسع وَخَمْسمِائة وَقتل ظلما وعدوانا فِي الْمحرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
ثمَّ نرْجِع إِلَى ذكر عُلَمَاء الْيمن فَمن أهل الطَّبَقَة أَبُو الْحسن أَحْمد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الله بن سَلمَة بن يُوسُف بن إِسْمَاعِيل البريهي ثمَّ السكْسكِي ثمَّ الْكِنْدِيّ الْمَعْرُوف بَين فُقَهَاء الْيمن المعتبرين سيف السّنة أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا وَقَالَ عِنْد ذكره وَمِنْهُم الإِمَام الأوحد سيف السّنة زين الحنبلية أَحْمد بن مُحَمَّد سكن إبا وأفضت إِلَيْهِ الرِّئَاسَة فِيهَا جمع بَين الزّهْد والورع وَالْفِقْه والْحَدِيث تفقه بِجَمَاعَة كثيرين غير ابْن سَمُرَة قد عده فِي أَصْحَاب الشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر وَلم يكن بعد الشَّيْخ للفقهاء صدر غَيره إِلَيْهِ يرجعُونَ وَعَلِيهِ فِي النَّوَازِل يعولون قَصده الطّلبَة من مَوَاضِع شَتَّى وانتفعوا بِهِ وَكَانَ عَارِفًا مَعَ الْفِقْه والْحَدِيث بالنحو واللغة والأصولين وَله كتب عدَّة فِي الْأُصُول يرد بهَا على الْمُعْتَزلَة والأشعرية وَكَانَ كَبِير الْقدر شهير الذّكر صَاحب كرامات عديدة وَكتب مفيدة من أحسن الْفُقَهَاء ضبطا للكتب وتحقيقا لَهَا وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَن الإِمَام زيد اليفاعي وَعَن الشَّيْخ يحيى أَيْضا وَأخذ عَن الْحَافِظ العرشاني البُخَارِيّ كَمَا قدمنَا ذَلِك مَعَ ذكره وَلما كَانَ فِي بعض الْأَيَّام دخل رجل من الْمُحدثين الْجند وَأَنا إِذْ ذَاك صَغِير فَاجْتمع إِلَيْهِ فقهاؤها وسألوه أَن يسمعهم صَحِيح مُسلم فَقَالَ لَا نُسْخَة معي فَقيل لَهُ هُنَا نُسْخَة جَيِّدَة فطلبها وتصفحها وَأذن لَهُم بِالْقِرَاءَةِ فَكَانُوا إِذا مروا على شَيْء قد سَمعه بِخِلَاف مَا هُوَ مضبوط بالنسخة وَأَرَادُوا إصْلَاح مَا فِي النُّسْخَة عَن سَمَاعه قَالَ لَا تَفعلُوا فقد بَلغنِي أَن ضَابِط هَذِه النُّسْخَة كَانَ إِمَامًا كَبِيرا وَلم يضْبط إِلَّا عَن أَمر تحَققه وَكَانَت هَذِه النُّسْخَة نُسْخَة هَذَا الإِمَام سيف السّنة وَهِي إِلَى الْآن مَوْجُودَة بالجند بيد بعض ذُريَّته من جملَة كتبه الَّتِي وَقفهَا وَذَلِكَ أَنه
وقف كتبا عديدة على الطّلبَة من خطه وَضَبطه يكْتب على كل كتاب مِنْهَا ... هَذَا الْكتاب لوجه الله مَوْقُوف ... منا إِلَى الطَّالِب السّني مَصْرُوف
مَا للأشاعرة الضلال فِي حسبي ... حق وَلَا للَّذي فِي الزيغ مَعْرُوف ... وبيتا آخر تركته من يتوق إِلَيْهِ نظره فِيهَا وَحج سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَقَرَأَ كتاب مُسلم على الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن عَليّ الْهَرَوِيّ إِمَام الْحَنَابِلَة بِالْحرم فَقَالَ فِي كتب السماع من اللَّفْظ مَا مِثَاله سمع عَليّ الشَّيْخ الإِمَام السَّيِّد الْفَقِيه الزَّاهِد العابد سيف السّنة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد وأرخ ذَلِك أَنه كَانَ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ فِي شهر الْمحرم وَوجدت بِالْكتاب أَيْضا مَا مِثَاله إجَازَة من الشَّيْخ عبد الله بن عمر بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم الْوراق فَقَالَ فِيهَا أَيْضا مَا مِثَاله استخرت الله الْعلي الْعَظِيم وأجزت الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل السَّيِّد الْفَقِيه نَاصِر السّنة أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ولأولاده الْكِرَام يحيى وَعِيسَى وَإِسْمَاعِيل وَمُحَمّد وَعلي أَن يرووا عني مسموعاتي وإجازاتي وأرخ كَون ذَلِك فِي الْحجَّة سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ لما عَاد إِلَى بَلَده أَقَامَ بهَا إِلَى رَجَب ثمَّ نزل الْجند فلازمه جمع كثير وسمعوا عَلَيْهِ
من أعيانهم إِبْرَاهِيم بن حديق وَمُحَمّد بن أَحْمد الْخَولَانِيّ وَأحمد وَمَنْصُور أَبنَاء مُحَمَّد بن مُوسَى العمرانيان وَفَاتَ مَنْصُور شَيْء من الْجُزْء الأول وإجازة لَهُ وَمُحَمّد بن كُلَيْب النمر الْخَولَانِيّ وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَرْوَان الْأمَوِي وَعبد الله بن مُحَمَّد بن زيد العريقي وَمُحَمّد بن سعيد المحابي وَأحمد بن مقبل الدثني وَأَبُو بكر بن يحيى بن إِسْحَاق الجبائي وأسعد بن عمر الأصبحي وَالْمُسلم بن عَليّ بن أسعد بن مُسلم الْعَنسِي ثمَّ الصعبي وَابْن عَمه مُحَمَّد بن مُوسَى بن عبد الله وَابْنه إِسْمَاعِيل وَيحيى بن عَليّ بن أبي بكر بن سَالم وَأحمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سَالم الشعبانيان وَمُحَمّد بن أسعد بن أبي الْخَيْر
اليافعي الجبائي وَمُحَمّد بن عمر بن جَعْفَر الكلَاعِي والأديب سلمَان بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الجنديان وَقَالَ بِخَطِّهِ فِي صدر السماع مَا مِثَاله سمع مني الْفُقَهَاء الأجلاء السَّادة الْفُضَلَاء مَالك الْكتاب يَعْنِي إِبْرَاهِيم
الحديقي وَعطف الْمَذْكُورين عَلَيْهِ وَذَلِكَ برجب سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَبعد أَن كتب السَّنَد قَالَ أَيْضا سمع عَليّ جَمِيع الْكتاب الشَّرِيعَة سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة الْفَقِيه أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور أَولا وَسمع مَعَه جمع من الْفُقَهَاء الَّذين سمعُوا صَحِيح مُسلم غير عبد الله بن زيد وَأحمد بن مقبل وَمُحَمّد بن عَليّ المحابي وَسمع مَعَ الْمَذْكُورين عَليّ بن عبد الله بن حسركة السكْسكِي وَمُحَمّد بن إِدْرِيس الزَّيْلَعِيّ والمقرىء قَاسم بن مُحَمَّد والفقيه عبد الله بن أَيمن بن مُحَمَّد الْأمَوِي وَلما صَار فِي أثْنَاء الْقِرَاءَة بِجَامِع الْجند وَردت عَلَيْهِم مَسْأَلَة فِي رجل اقتطع مَال مُسلم وَحلف عَلَيْهِ أَو أَنه فعل شَيْئا وَحلف عَلَيْهِ أَنه لم يكن فعله فَأجَاب الإِمَام سيف السّنة أَنه لَا شَيْء على فَاعل ذَلِك غير الْكَفَّارَة وَوَافَقَهُ كَافَّة الْفُقَهَاء الْحَاضِرين غير مُحَمَّد بن أَحْمد الجماعي فَإِنَّهُ امْتنع وَقَالَ ابْن سَمُرَة فَلَمَّا كمل سماعهم كتب الْإِجَازَة لجميعهم غير مُحَمَّد بن أَحْمد الجماعي وَهَذَا نقل لم أره يَصح وَإِن صَحَّ فَكيف عده فِيمَن سمع وَأَجَازَهُ ثمَّ لَا يظنّ بِسيف السّنة أَنه بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَة اجتهادية يمْتَنع من حق وَاجِب لأمر مُحْتَمل فقد ذهب مُحَمَّد بن أَحْمد إِلَى مَذْهَب مَالك وَأَرَادَ بذلك حسم مَادَّة المتجرئين على الْيَمين فقد فعل ابْن عَبَّاس ذَلِك إِذْ ثَبت أَن رجلا سَأَلَهُ هَل للْقَاتِل تَوْبَة فَقَالَ لَا ثمَّ أَتَاهُ آخر فَسئلَ كَذَلِك فَقَالَ نعم فَقيل لَهُ كَيفَ يخْتَلف جوابك فَقَالَ رَأَيْت فِي وَجه الأول الشَّرّ فَخَشِيت أَن أجرئه وَرَأَيْت فِي وَجه الثَّانِي النَّدَم فَخَشِيت أَن أقنطه فَيَنْبَغِي أَن يسْلك مُحَمَّد بن أَحْمد غير هَذَا المسلك
وَكَانَ الإِمَام سيف السّنة من عُظَمَاء عُلَمَاء الْمُسلمين وَأَصْحَابه أَكثر من نشر الْفِقْه بِنَاحِيَة المخلاف وَكَانُوا أعيانا
مِنْهُم مُحَمَّد بن مَضْمُون وَيحيى بن فضل وَأحمد بن مقبل وَأَبُو بكر بن يحيى ابْن إِسْحَاق وَعبد الله بن مُحَمَّد بن حميد وَعبد الله بن زيد وَحسن بن قعيش وَمُحَمّد بن عمر بن فليح وَابْن عَمه مُحَمَّد بن مُوسَى وَعبد الله بن مُحَمَّد من ذِي الْبَارِي وَبِالْجُمْلَةِ فأصحابه كَثِيرُونَ لَا يكَاد يدركهم الْحصْر وَكَانَ زاهدا ورعا صَاحب كرامات
من أحسن مَا ذكر عَن ورعه أَن الشَّيْخ عَليّ ابْن الْمعلم كَانَ مُلْتَزما للمخلاف من مصابيح إِلَى ضَرْبَة عمر بِخَمْسِينَ ألف دِينَار فِي أَيَّام سيف الْإِسْلَام الْآتِي ذكره فصادر أَقْوَامًا على مَال وَأَرَادَ أَن يَشْتَرِي بِهِ شَيْئا من أَمْوَالهم ووافقوه على ذَلِك اتقاء سطوته فَلَمَّا وثق مِنْهُم بالإجابة استدعى أَعْيَان فُقَهَاء المخلاف إِلَى دَاره بِذِي جبلة وَقيل بغَيْرهَا ثمَّ لما اجْتمع النَّاس عمل لَهُم سماطا فَأَكَلُوا وَكَانَ الْفَقِيه من جُمْلَتهمْ ثمَّ لما حَضَرُوا للْبيع أمتنع الْفَقِيه من حُضُور بيعهم فَقَالَ لَهُ بعض الْفُقَهَاء مَتى خرجت تغير النظام فَوقف على كره ثمَّ لما سَأَلُوهُ أَن يكْتب على الْوَثِيقَة شَهَادَته امْتنع فَقيل لَهُ كَيفَ أكلت الطَّعَام وَلم تشهد فَقَالَ ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل أَطْعِمَة الْكَفَرَة وَكَذَلِكَ أَصْحَابه وَسَأَلَ عَن الشَّهَادَة فَأَشَارَ إِلَى الشَّمْس وَقَالَ على مثلهَا فَأشْهد ثمَّ خرج فَقَالَ ابْن الْمعلم من هَذَا الْفَقِيه فَقيل لَهُ سيف السّنة فَقَالَ صدق من سَمَّاهُ بذلك وَكفى بذلك فضلا وَأما مَا ذكر من كراماته فكثير مِنْهَا مَا ثَبت بِنَقْل صَحِيح أَنه خرج يَوْمًا من بَيته إِلَى أَرض لَهُ يُرِيد ينظر الزَّرْع إِذْ رأى عجورة فِي أَسْفَلهَا عقد وأعلاها شجنان فِي كل شجن سنبلة فَعجب الْفَقِيه وَمد يَده يُرِيد أَخذهَا من أَسْفَلهَا فَوَقَعت يَده على الْأَيْسَر فانسلخ بِيَدِهِ فَتَأَمّله فَإِذا فِيهِ مَكْتُوب لَا إِلَه إِلَّا الله بِخَط بَين معجب قَالَ فعجبت من ذَلِك وَنظرت مُقَابِله من الْأُخْرَى وَإِذا فِيهِ مُحَمَّد رَسُول الله فَلم يُمكن إِلَّا كَسره وإيصاله إِلَى إب لأعجب مِنْهُ الدرسة والأهل وَالْأَصْحَاب فأوصله وتعجب النَّاس مِنْهُ وَكَانَ اشْتِغَاله بالتدريس وَمَعَ ذَلِك ينْسَخ الْكتب حَتَّى أَنه كَانَ ينْسَخ فِي كل عَام نُسْخَة بَيَان ونسخة الْمُهَذّب ونسخة كَافِي الصردفي وَرُبمَا التَّنْبِيه أَيْضا وَيَأْمُر بِالْجَمِيعِ إِلَى
مَكَّة يبعن ويشترى لَهُ بأثمانهن ورق مصري أَو بغدادي وغالب كتبه من ذَلِك الْوَرق وَكَانَ لَهُ مَسْجِد صَغِير بِالْقربِ من بَيته يدرس فِيهِ وَقد أَقَامَ بجبلة أشهرا ودرس فِيهَا بِمَسْجِد السّنة وَله بِهِ كتب مَوْقُوفَة من ذَلِك الْوَقْت وَكَانَ مهما حصل لَهُ من كيلة الْمَسْجِد أَخذ بِهِ وَرقا وحبرا وَنسخ بِهِ كتبا ووقفها على الْمَسْجِد وَله مصنفات فِي الْأُصُول الدِّينِيَّة وَكَانَ يُنكر على من يُخَالف مَذْهَب السّلف ويعتقد خلاف مَذْهَبهم وَلما أظهر طَاهِر مَا أظهر من الْمُخَالفَة للفقهاء وَنقض التَّوْبَة الَّتِي كَانَ أظهرها أَيَّام أَبِيه وَقد مضى بَيَانهَا كثر إِظْهَاره لذَلِك أجمع الْفُقَهَاء على هجره وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ مشافهة ومراسلة ومكاتبة وَكَانَ هَذَا من أعظمهم فِي ذَلِك ثمَّ القَاضِي مَسْعُود وَلِهَذَا فِي الرَّد عَلَيْهِ كتاب كَبِير وأخباره يطول ذكرهَا وَكَانَ مَعَ كَمَال الْعلم لَهُ فَتَاوَى نافعة تُوجد بيد كثير من الْفُقَهَاء وَكتبه الَّتِي وَقفهَا تزيد على المئة فقد مِنْهَا بَعْضهَا وَهِي بِمَدِينَة إب وَمِنْهَا بَقِيَّة بالجند وَهُوَ صَحِيح مُسلم وكافي الصردفي وَكتب على صَحِيح مُسلم بِخَطِّهِ مَا مِثَاله وَقفه أَحْمد بن مُحَمَّد بِجَمِيعِ الْكتب المنسوبة إِلَيْهِ من الحَدِيث وَالْأُصُول وَالْفُرُوع والفرائض وَالتَّفْسِير واللغة والنحو وَهِي ثَمَانُون كتابا على أهل السّنة يقدم فِيهَا من يُوجد فِيهِ الشُّرُوط الْمَذْكُورَة يعين ببيتيه اللَّذين ذكرت أَحدهمَا فِيمَا تقدم فِيهَا من يَأْخُذ فِيهِ وَتركت الآخر لشهرته وَعدم رضى كثير من الْأَشْخَاص بِهِ ثمَّ قَالَ من ذَلِك ذُريَّته أَي يتَقَدَّم من وجد فِيهِ شَرط الْبَيْتَيْنِ من ذُريَّته ونسله وبنيهم ونسلهم ثمَّ قراباته من عصباته أَي يتَقَدَّم من قراباته من عصباته فَمن خرج عَن الشَّرْط ببدعة أَو مَا يرد بِهِ الشَّهَادَة خرج من الْوَقْف فَإِن تَابَ عَاد اسْتِحْقَاقه وَلَا حق فِي الْوَقْف لمبتدع وَإِذا لم يبْق مُسْتَحقّ من نَسْله فَأهل السّنة فِيهَا سَوَاء أبدا مَا بقيت لعن الله من يتملكها أَو يملكهَا أَو يسْعَى فِي فَسَاد الْوَقْف أَو يكتمها وعَلى من يَسْتَحِقهَا أَن يعيرها من ينْتَفع بهَا إِذا سُئِلَ بِشَرْط الْحِفْظ كتبه أَحْمد بن مُحَمَّد تقبل الله مِنْهُ كَانَ الْوَقْف سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَلم يزل على الْحَال المرضي وامتحن بِقَضَاء السحول وَكَانَ يَسْتَنِيب فِيهِ ابْنه إِسْمَاعِيل وَمَا أحقه بقول الْحرَّة تقية فِي حق الْحَافِظ السلَفِي
. . كَيفَ لي أَن أقبل الْيَوْم رجلا ... سلكت دهرها الطَّرِيق الحميدة ... وَكَانَ لَهُ مَعَ كَمَال الْعلم شعر رائق مِنْهُ قصيدة زهدية ... ألالص عَقْلِي للتشاغل سَارِق ... وَقد جَاءَنِي بالنعي فِي الْيَوْم طَارق ... وَمِنْه لما هدمت مَدِينَة إب ... خليلي من ذَا عيشه قبلنَا طابا ... فَلَا تجزعا إِن نَاب أَب الَّذِي نابا
فآدم فِي الفردوس مَا طَابَ عيشه ... وَلَا طَابَ فِي الدُّنْيَا وَإِن كَانَ قد تابا ... وَمِنْه مدح الْبَيَان الَّذِي نسخه وَوَقفه قَالَ فِي آخِره ... سقى الله يحيى سلسبيلا وَخَصه ... بقصر من الْيَاقُوت أَعلَى جنان
لتصنيفه هَذَا الْكتاب الَّذِي حوى ... تصانيف أهل الْفِقْه قاص ودان
وَسَماهُ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ أَهله ... بَيَانا وَمَا فِي الأَرْض مثل بَيَان ... وَمِنْه ... يَا خَادِم الْجِسْم كم تسْعَى لخدمته ... لتطلب الرِّبْح فِيمَا فِيهِ خسران
أقبل على النَّفس فاستكمل فضائلها ... فَأَنت بِالنَّفسِ لَا بالجسم إِنْسَان ... وَكَانَت وَفَاته بِبَلَدِهِ فِي الثُّلُث الْأَخير من لَيْلَة الْجُمُعَة لعشر بَقينَ من الْقعدَة سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وقبر بِرُكْن مَسْجده من خَارجه وَلأَهل الْبَلَد وَغَيرهم بقبره مُعْتَقد عَظِيم فيتكررون لزيارته فِي غَالب أوقاتهم وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَاصَّة يَنْصَرِفُونَ بأجمعهم من الْجَامِع إِلَى تربته وَلما دفن وَعمل على قَبره أَحْجَار ليتبينه الزائر كتب على بَعْضهَا ... أيا قبر غَابَ الْفِقْه فِيك وَرُبمَا ... يكذب فِي هذي الْمقَالة جَاهِل ... وَقد اندرس ذَلِك لطول الزَّمَان وَكَانَت أَيَّامه من الْأَيَّام المباركات وتربته من
الترب المقصودات لطلب الْخيرَات واندفاع المضرات زرتها بِحَمْد الله مرَارًا وَرَأَيْت من بركاتها آثارا
وَمِنْهُم بعدن وَلَيْسَ من أَهلهَا إِسْمَاعِيل بن عبد الْملك بن مَسْعُود الدينَوَرِي الْبَغْدَادِيّ كَانَ فَقِيها مُحدثا وَغلب عَلَيْهِ فن الحَدِيث وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي أَحْمد القريظي وَكَانَ عابدا شهرت لَهُ كرامات كَثِيرَة وَصَحبه الْخضر وجد بِخَط الْفَقِيه سُفْيَان الأبيني مَا مِثَاله حدث المقرىء يُوسُف الصدائي وَكَانَ إِمَامًا لمَسْجِد هَذَا الْفَقِيه أَنه قَالَ لَهُ يَوْمًا يَا مقرىء أُرِيد أَن أريك آيَة من آيَات الله المحجوبة عَن كثير من النَّاس فَقَالَ نعم فَأمره بالدنو مِنْهُ فَلَمَّا دنا مِنْهُ مسح بِيَدِهِ على وَجهه وَقَالَ لَهُ ارْفَعْ بَصرك إِلَى السَّمَاء فَرفع فَرَأى آيَة الْكُرْسِيّ مَكْتُوبَة بِنور يكَاد يخطف الْأَبْصَار أَولهَا بالمشرق {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} وَآخِرهَا بالمغرب {الْعلي الْعَظِيم} وَقَالَ المقرىء بِهَذِهِ الشَّهَادَة اشْهَدُوا على شهادتي قَالَ وَسَأَلته يَعْنِي الْفَقِيه إِسْمَاعِيل هَل رَأَيْت الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام قطّ قَالَ نعم فَقلت لَهُ إِنِّي أقسم عَلَيْك بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَّا مَا عملت لي بِرُؤْيَتِهِ وَالنَّظَر إِلَيْهِ فَقَالَ إِذا وفْق الله وُصُوله سَأَلت لَك ذَلِك ثمَّ مكثنا مُدَّة يسيرَة وصلينا الْعشَاء لَيْلَة ثمَّ دخلت خلْوَة لي مُنْفَرِدَة فَقَرَأت مَا شَاءَ الله من الْقُرْآن وأقفلت عَليّ الْخلْوَة ثمَّ نمت فَبَيْنَمَا أَنا فِي أحسن النّوم إِذْ رَأَيْت بَاب شَمْطَاء تقطر مَاء وَهُوَ ينفضها بِيَدِهِ ثمَّ جَاءَ حَتَّى وقف عِنْد رَأْسِي وَسلم عَليّ ودعا لي بدعوات حفظت مِنْهَا وفقك الله وأرشدك وأصلحك وسددك أبشر فَإنَّك على الْحق والعقيدة الَّتِي قرأتها شَرِيعَة الْإِسْلَام وَدين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فأبشر وَبشر كل من كَانَ على مَا أَنْت عَلَيْهِ أَنه على الْحق الْمُسْتَقيم وَالسّنة الَّتِي اصطفاها الله لِعِبَادِهِ الصَّالِحين وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى نزل على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَوْت يسمع وحروف تكْتب وَمعنى يفهم على ذَلِك نحيا وَعَلِيهِ نموت وَعَلِيهِ نبعث هَذِه عقيدة الدّين تمسكوا بهَا ثمَّ وَدعنِي وَمضى وَعَاد سقف الْخلْوَة وبابها على حَالهَا فَيقدر إِنَّمَا يكون وسط الْبَيْت إِذا سَمِعت صَوت الْفَقِيه إِسْمَاعِيل يدق الْبَاب فأجبته فَقَالَ يَا مقرئ أَتَاك الرجل قلت يَا سَيِّدي الَّذِي رَأَيْته أَنْت فِي الْيَقَظَة رَأَيْته أَنا فِي الْمَنَام فَقَالَ لي أبشر فقد
نلْت مَا لم ينل سواك ثمَّ قلت لَهُ من أَيْن جَاءَ فِي هَذِه اللَّيْلَة قَالَ أَخْبرنِي أَنه جَاءَ من عِنْد الْفَقِيه الزَّاهِد عمر بن إِسْمَاعِيل من ذِي السفال وَذكر أَنه أمْلى عَلَيْهِ من الْمُهَذّب من بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة قَالَ مُؤَلفه عَفا الله عَنهُ وَهَذَا يُؤَيّد مَا ذكرته عِنْد ذكر الْفَقِيه عمر فِيمَا تقدم وَأَنه كَانَ يصحب الْخضر ويملي عَلَيْهِ شَيْئا من الْمُهَذّب فِي أثْنَاء نسخه لَهُ
قَالَ المقرىء الصدائي وَكَانَ مُعظم رغبتي بالاجتماع بالخضر لأسأله عَن صِحَة المعتقد الَّذِي أَنا عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنِّي كنت قَرَأت التَّبْصِرَة رِوَايَة الزنجاني عَن عبد الْوَاحِد الشِّيرَازِيّ وَكتاب الشَّرِيعَة للآجري واعتقدت مَا فيهمَا ثمَّ كَانَ قد تطرقني تشويش فيهمَا من بعض الْمُخَالفين فَلَمَّا رَأَيْت مَا رَأَيْت فِي الْمَنَام تثبت فِي معتقدي وَعلمت أَنه الْحق
قَالَ الْفَقِيه الصَّالح سُفْيَان نفع الله بِهِ كَانَ هَذَا المقرىء رجلا فَاضلا بالقراءات وَالْفِقْه والنحو وَقد أَخْبرنِي أَنه مُنْذُ رأى فِي الْمَنَام كَانَ كثير المجانبة لمن يتهم باعتقاد خلاف مُعْتَقد الْكِتَابَيْنِ الْمَذْكُورين وَلَا يُمَيّز كَبِيرا وَلَا ذَا جاه لذَلِك وَلما هرب أهل زبيد خوفًا من ابْن مهْدي إِلَى عدن وسواها كَانَ من جملَة من وصل عدن الْفَقِيه حُسَيْن المقيبعي فوصل مرّة إِلَى بَاب المقرىء وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَلم يَأْذَن لَهُ وَعَاد خائبا فَقيل للمقرىء مَا كَانَ يَنْبَغِي رد هَذَا الْفَقِيه من بابك فَلم يجب قَائِل ذَلِك فألح عَلَيْهِ جمَاعَة من خواصه بالسؤال عَن سَبَب رده وَرُبمَا أَقْسمُوا عَلَيْهِ ليخبرهم عَن ذَلِك فَقَالَ إِنِّي لما فرغت من كتاب التَّبْصِرَة قِرَاءَة متقنة ثمَّ قَرَأت بعده كتاب الشَّرِيعَة للآجري ومعتقدهما وَاحِد وتقرر عِنْدِي معتقدهما وَصِحَّته سَافَرت لِلْحَجِّ فرافقني فَقِيه من أهل تهَامَة وعادلني فِي محمل من السّير فَجعلنَا نتذاكر الْعلم وأنست نَفسِي إِلَيْهِ ثمَّ إِنَّا خضنا يَوْمًا فِي المعقتد فَمَا زَالَ بِي ذَلِك الْفَقِيه اللعين حَتَّى أفسد عَليّ مَا ثَبت عِنْدِي من المعتقد فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل ونمت رَأَيْت كَأَنِّي بواد مظلم وَبِه ملك رِجْلَاهُ بتخوم الأَرْض وَرَأسه فِي السَّمَاء وَهُوَ يَصِيح يَا معشر القرود يَا معشر القرود فَأقبل إِلَيْهِ قرود كَثِيرَة فَقَالَ لَهُم صكوا وَجه هَذَا المقرىء وَدبره وَقُولُوا يَا مُرْتَد يَا مُرْتَد فَجعلُوا يضْربُونَ وَجْهي ودبري كَمَا أَمرهم وَيَقُولُونَ مَا قَالَ لَهُم حَتَّى وجدت لضربهم ألما عَظِيما كَمَا لَو كَانَ باليقظة وَلم أنتبه حَتَّى تورم وَجْهي وَانْتَفَخَتْ عَيْنَايَ وَفِي يَدي جروح كَثِيرَة من أَيدي القردة فَعلمت أَن ذَلِك بِتَغَيُّر معتقدي إِذْ لم أحدث شَيْئا غَيره فَلَمَّا أَصبَحت أخذت هدادي واعتزلت عَن معادلي وعزمت على معاودة معتقدي فَلَمَّا نمت اللَّيْلَة الثَّانِيَة رَأَيْت ذَلِك الْملك بِعَيْنِه يَقُول يَا مقرىء اسْتَأْنف الْعَمَل فَإِن الله قد أحبط عَمَلك الْمَاضِي بِمَا حل فِي باطنك من رِوَايَة ذَلِك الملحد وَقبُول كَلَامه واستحسانه فنسأل الله الْعِصْمَة من عقيدة تخَالف العقيدة الَّتِي
قرأتها وعلمتها وَأعلم كل من خالفها أَن لَهُ أَشد من هَذَا واعمل بِمَا قَالَ الله تَعَالَى فِيمَن كَانَ مثل حَالهم {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا وَلَا تقم على قَبره} ثمَّ استيقظت وعاهدت الله على هجر كل من ينتسب إِلَى هَذِه الْمَذْهَب الَّذِي يجانب مَذْهَب السّلف
قَالَ الْفَقِيه سُفْيَان فعذر المقرىء من كَانَ عتب عَلَيْهِ فِي رد المقيبعي ثمَّ بعد أَيَّام التقى المقرىء مُنَاجَاة وَقد كَانَ بلغه الْخَبَر فَسلم ثمَّ حلف للمقرىء أَنه بَرِيء من المعتقد الَّذِي اتهمه بِهِ وَكَانَ وجود ذَلِك فِي عشر سِنِين وَخَمْسمِائة وَلم أتحقق لإسماعيل والصدائي تَارِيخا
وَمن أبين ثمَّ من الطرية عمر بن عبد الْعَزِيز بن أبي قُرَّة وَأَخُوهُ عبيد الله تفقها بِابْن عبدويه ومحن عمر بِالْقضَاءِ فِي بِلَاده وَتُوفِّي بالسرين عَائِدًا من الْحَج وَبِه تفقه مُحَمَّد بن سعيد بن معن القريظي الْآتِي ذكره وَكَانَ فَاضلا بالفقه وَالْأُصُول وَلَهُمَا أَخ يذكر بالفقه اسْمه أَبُو قُرَّة عبد الْعَزِيز وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَأما أَخَوَاهُ الْأَوَّلَانِ فَلم أكد أجد لَهما تَارِيخا قَالَ ابْن سَمُرَة وَمن لحج عَمْرو بن بيش قلت هُوَ بخفض الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ شين مُعْجمَة وَهُوَ أحد شُيُوخ الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر وَقد ذكرته وَكَانَ صَالحا تقيا وبحثت من اجْتمعت بِهِ من أهل ناحيته فَقَالَ لَا يعرف ذَلِك فَسَأَلت أهل أبين فَقيل لي فِي مَقَابِر الْمحل قُبُور جمَاعَة يزارون ويعرفون بقبور الْفُقَهَاء بني بيش فغلب على ظَنِّي أَن ابْن سَمُرَة سَهَا بنسبتهم إِلَى لحج إِذْ لَو كَانُوا كَمَا قَالَ لم يخف وَيحْتَمل أَنه كَانَ مِنْهُم فِي كل جِهَة من يذكر
وَمن زبيد جمَاعَة مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن حسن عرف بِابْن الْأَبَّار تفقه بِابْن عبدويه وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة التدريس وَالْفَتْوَى بزبيد وَكَانَ كَبِير الْقدر
شهير الذّكر بِهِ تفقه جمع كثير من زبيد وَغَيرهَا وَحج فَأدْرك الْبَنْدَنِيجِيّ مقدم الذّكر بِمَكَّة فَأخذ عَنهُ ذكره عمَارَة فِي مفيده وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر أَنه تفقه عَلَيْهِ وَقَالَ وَكَانَ مُعظما عِنْد النَّاس وقف الشَّاعِر الْمَعْرُوف بالغرنوق وَقد اغتص مَجْلِسه بالزحام من الطّلبَة فَأحب أَن يقْعد بَينهم فَلم يجد فَأَنْشد يُخَاطب الْفَقِيه مرتجلا ... مجلسك الرحب من تزاحمه ... لَا يسع الْمَرْء فِيهِ مَقْعَده
كل على قدره ينَال فَذا ... يلقط مِنْهُ وَذَاكَ يحصده ... فَقَالَ الْفَقِيه أفرجوا لَهُ يقْعد فأفرجوا لَهُ فَقعدَ وَبِه تفقه جمع كثير مِنْهُم عبد الله بن عِيسَى الهرمي وَمُحَمّد بن عَطِيَّة وَغَيرهمَا فِيمَن لَا يُحْصى وَكَانَ لَهُ مَعَ كَمَال فَضله شعر مِنْهُ مَا رَأَيْته بِخَط شَيْخي أبي الْحسن الأصبحي يَقُول لِابْنِ الْأَبَّار فِي مدح ابْن الصّباغ وشامله وَهُوَ ... أَحْيَا الإِمَام أَبُو نصر بشامله ... علم ابْن إِدْرِيس ذِي الفخرين محتسبا
وأوضح الْحجَج اللَّاتِي إِذا قرعت ... سمع آمرىء قد شدا فِي علمه طَربا
إِذا تصَوره ذُو فطنة وذكا ... حوى علوما وَحَازَ الْعلم مكتسبا
وَصَارَ صَدرا إِذا مَا مُشكل نزلت ... سَمِعت مِنْهُ لَدَيْهَا منطقا عجبا
فَالله يجْزِيه بِالْحُسْنَى ويأجره ... فِيمَا ابتغاه وَيُعْطِيه الَّذِي طلبا ... وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مَنْصُور بن مُفْلِح الْوَزير الفاتكي أَعنِي أَبَاهُ وَلَعَلَّ يَأْتِي من ذكره مَا لَاق فِي أَعْيَان الدول وَأما مَنْصُور فَكَانَ فَقِيها ذَا فصاحة وصباحة وسماحة ذكره عمَارَة فِي مفيده وَقَالَ كَانَ النَّاس يَقُولُونَ لَو كَانَ مَنْصُور قرشيا لكملت فِيهِ شُرُوط الْخلَافَة وَكَانَت وَفَاته مقتولا ظلما وعدوانا سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا الْوَزير الَّذِي وزر بعد أَبِيه
وَمِنْهُم عُثْمَان بن الصفار وَمُحَمّد بن عَليّ السهامي كَانَا إمامين لَا سِيمَا فِي علم الْفَرَائِض والدور والجبر والمقابلة قَالَ عمَارَة كَانُوا يرَوْنَ أَن ابْن اللبان يَعْنِي الفرضي من أتباعهم فِي ذَلِك
وَمِنْهُم أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحسن بن خلف بن الْحُسَيْن
المقيبعي الَّذِي ذكرت أَنه وصل إِلَى الصدائي كَانَ فَقِيها فروعيا حديثيا لما دخل عدن خَائفًا من ابْن مهْدي أَخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي أَحْمد القريظي وَعلي بن عبد الله الْمليكِي وَغَيرهمَا وسافر بلد السودَان وزيلع وَعَاد إِلَى عدن فِي مركب عصفته الرّيح إِلَى سَاحل أنحاء بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون والحاء الْمُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف توفّي فِيهِ وقبر هُنَاكَ منتصف شَوَّال سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَمن باديتها عبد الله بن عِيسَى بن أَيمن الهرمي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تعرف بالهرمة على وزن الفعلة بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْعين قَالَ ابْن سَمُرَة نسبهم إِلَى نزار وَأَصله من العماقي إِحْدَى قرى مَدِينَة الْجند وَكَانَ لَهُ بهَا قرَابَة انقرضوا بزماننا وَمن نَسْله جمَاعَة يسكنون بِهَذِهِ الْقرْيَة الْمَذْكُورَة من وَادي زبيد وينتسبون إِلَى بني أُميَّة
وَمِنْهُم مُوسَى وَأَبوهُ الْآتِي ذكرهمَا وليا قَضَاء زبيد من قبل بني عمرَان
أدْركْت مُوسَى حَاكما بزبيد
وَأما عبد الله هَذَا فَكَانَ فَقِيها صَالحا ورعا مرجو الدعْوَة وَأثْنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وَقَالَ أَصله من العماقي وَقَالَ من جلة الْفُقَهَاء عبد الله تفقه بِابْن الْأَبَّار غَالِبا وَرُبمَا قيل بِابْن عبدويه وَكَانَ تِلْمِيذه الْأَحْنَف الْآتِي ذكره أثنى عَلَيْهِ ثَنَاء بليغا وَقَالَ مَا رَأَيْت أحفظ للمهذب وَلَا أذكر مِنْهُ لَهُ وَلَا أورع وَكَانَ مَتى طعم عِنْد قوم قَالَ اللَّهُمَّ اعمر منزلهم بالتقوى ووسعه بالرزق وَيُقَال أَن ابْن مهْدي قَتله ظلما وَلما حج أَخذ عَن الشريف العثماني الْأَرْبَعين المقدسية بِأَخْذِهِ لَهَا عَن مؤلفها أبي نصر الْمَقْدِسِي وَله ولدان فاضلان تفقها بِهِ مُحَمَّد وَعلي وَسَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله وَأول من وصل مِنْهُم أَبُو حسان بكتب كَثِيرَة فسكن الخوهة فَكَانَ فَقِيها محققا مدققا رُبمَا ذكر لَهُ تصنيف وَخلف حُسَيْن مَعَ إِبْرَاهِيم ثَلَاثَة آخَرين عبد الله وفاتح وَعلي فعبد الله غلب عَلَيْهِ الشّعْر وَمَعْرِفَة أَخْبَار الْعَرَب حَتَّى كَانَ يَقُول مَا سَقَطت مقرعة أَيَّام الْجَاهِلِيَّة وَلَا قيل شعر إِلَّا وَأَنا أعرف قَائِله وَقد ذكرت فِي غير هَذَا الْموضع مَا أمكن وَأما فاتح فَكَانَ فَقِيها فِي ذُريَّته الْفُقَهَاء يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله
وَمن الخوهة قَرْيَة بساحل حيس على وزن قيس والقرية فتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفض الْوَاو وَفتح الْهَاء الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بن أبي بكر بن أبي حسان الشَّيْبَانِيّ مولده
أول شهور سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة تفقه بالهرمي وَأخذ عَن ابْن عبدويه من أول التَّنْبِيه إِلَى النِّكَاح وَهَذَا آخر من عَرفته أَخذ عَن ابْن عبدويه وَكَانَ فَاضلا بالفقه والْحَدِيث ومشكله على الْمُهَذّب يدل على ذَلِك وَكَانَ يتَرَدَّد مَا بَين بَلَده وعدن وزبيد وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء زبيد أَيَّام توران شاه فَامْتنعَ ثمَّ عرضه عَلَيْهِ أَيَّام سيف الْإِسْلَام القَاضِي الْأَثِير فَامْتنعَ أَيْضا فَقَالَ لَهُ إِن لم تفعل فدلنا على من يصلح لذَلِك فدلهم على عبد الله بن مُحَمَّد العقامي فولاه الْأَثِير فَلم يزل على ذَلِك وَولده إِلَى أَن توفّي فِي صدر الدولة المظفرية
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ يَعْنِي الشَّيْبَانِيّ لَهُ غزارة علم ومصنفات مفيدة غير الْمُشكل لزم مجْلِس الطويري سبع سِنِين وَكَانَ رَفِيقه فِي الرحلة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْأَحْنَف اجْتمع بِهِ ابْن سَمُرَة فِي عدن سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَلَا أعرف لوفاته تَارِيخا وَتُوفِّي وَقد خلف ثَلَاثَة أَوْلَاد تفقهوا بِهِ
وَشهر مِنْهُم إِبْرَاهِيم عمر عمرا طَويلا حَتَّى أدْرك زمن المظفر وزاره بمنزله بالخوهة فبشره بِأَخْذِهِ للْملك وسامحه بأراضيه وأراضي أَهله ونخيلهم ذكر من حضر مجْلِس السُّلْطَان مَعَه أَنه ضرب على كتفه وَقَالَ الْملك لَك بِالسَّيْفِ لَا أَسد الدّين وَلَا فَخر الدّين وَلَا قطب الدّين وَكَانَ يصحب الْجِنّ ويقرأون عَلَيْهِ وَله مَعَهم أَخْبَار يتناقلها أهل قريته وَقد دَخَلتهَا وَأَنا مَرِيض فِي أحد شهور سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة وقبورهم متجاورة لم أستطع زيارتهم لما كَانَ بِي من الْمَرَض فَالله أَحْمد على كل حَال وَأَعُوذ بِهِ من حَال أهل النَّار
وَمن هَذِه الطَّبَقَة ثمَّ من أَصْحَاب الفقيهين الْمَذْكُورين اللَّذين خصصت هَذِه الطَّبَقَة بِتَقْدِيم أصحابهما وهما اليفاعي وَابْن عبدويه جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ اليهاقري بياء مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام وهاء مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ قَاف مخفوضة ثمَّ رَاء وَهِي قَرْيَة غربي مَدِينَة الْجند إِحْدَى قراها الْمُعْتَمدَة الْقَدِيمَة قَالَ ابْن سَمُرَة تفقه بشيوخ الْجند وَوجدت سَنَد هـ بالمهذب وَأَنه قَرَأَهُ على الْفَقِيه سَالم بن حسن الزوقري مقدم الذّكر أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء كَامِلا وَقَالَ فِي التعليقة الَّتِي ذكر بهَا شُيُوخه فَقَالَ أَوَّلهمْ شَيْخي عَليّ بن أَحْمد مَسْكَنه اليهاقر بادية الْجند تفقه بشيوخ
الْبَلَد كزيد بن عبد الله اليفاعي وَزيد الفائشي وَهُوَ أول من علقت عَنهُ فِي الْفِقْه وَلما حصل فِي الأجناد الْخَوْف من ابْن مهْدي انْتقل هَذَا الْفَقِيه إِلَى قَرْيَة الانصال من بلد العوادر فَتوفي بهَا سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وقبره بمقبرة الكريف وَهُوَ آخر من حَقَّقَهُ ابْن سَمُرَة من أَصْحَاب اليفاعي قَالَ ابْن سَمُرَة وَفِي هَذِه السّنة دخل الْمهْدي بن عَليّ الْجند فَقتل بعض أَهلهَا وأحرق مَسْجِدهَا وَعَاد إِلَى زبيد فَمَاتَ وقبر بمشهدهم الْمَعْرُوف بزيارة الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس
وَمِنْهُم أسعد بن أبي بكر بن بلاوه الْجَعْدِي تفقه بِعَبْد الله الزبراني وَكَانَ يحضر حَلقَة الإِمَام اليفاعي بِمَدِينَة الْجند ومسكنه ذُو السمكر إِحْدَى قرى الْجند الْمُعْتَمدَة بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وواو سَاكِنة وَفتح السِّين الْمُشَدّدَة بعد ألف وَلَام ثمَّ مِيم سَاكِنة وكاف مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء وَابْن عَمه عمر بن أَحْمد بن بلاوه تفقه بشيوخ الْجند وَكَانَ هُوَ وَابْن عَمه تربين وَلم أجد لَهما تَارِيخا لَكِن عرفت أَنَّهُمَا من أهل الطَّبَقَة لكَون ابْن سَمُرَة عدهما فِي الَّذين كَانُوا يحْضرُون مجْلِس الشَّيْخ زيد اليفاعي وَلَهُمَا قرَابَة بقريبتهما الْمَذْكُورَة وذرية إِلَى الْآن وَرُبمَا جَاءَ فيهم مُسْتَحقّ للذّكر فأذكره إِن شَاءَ الله
وَمِنْهُم الأخوان عَليّ وَعبد الرَّحْمَن ابْنا الْفَقِيه يحيى بن عبد الْعَلِيم الْمُقدم ذكره أَخذ عَن الْحَافِظ العرشاني الْأَرْبَعين الآجرية فِي رَجَب سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَلَا أعلم تَارِيخ أَخِيه
وَمِنْهُم ابْن أخيهما عبد الله بن عمر بن الْفَقِيه يحيى بن عبد الْعَلِيم قَالَ ابْن سَمُرَة كَانَ فَقِيها زاهدا ورعا قَتله أهل الْفساد بقريتهم حجرَة الَّتِي تقدم ذكرهَا وَذَلِكَ بتاريخ سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الله بن أبي عمرَان مقدم الذّكر مولده سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة تفقه بِابْن عَم أَبِيه يحيى الْمُقدم ذكره
وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد مقبل بن عُثْمَان بن مقبل بن عُثْمَان بن صنديد بن زيد بن أسعد العلهي نسبا إِلَى جد اسْمه عله بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون الْهَاء وَإِلَيْهِ ينْسب جمَاعَة من دثينة وَلذَلِك يُقَال لَهُ الدثيني إِلَى صقع من الْيمن يعرف بدثينة بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وخفض الثَّاء الْمُثَلَّثَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة خرج هَذَا الْفَقِيه مِنْهَا فقصد بِلَاد الأعروق وَسكن مَعَهم فِي قَرْيَة الظفر وَكَانَ مَعَه دنيا فَتزَوج امْرَأَة مِنْهُم وَكَانَت بلدهم يغلب عَلَيْهَا البداوة وعَلى أَهلهَا الْجَهْل فانتقل عَنْهُم بامرأته
إِلَى ذِي أشرق فَلم يزل بهَا وأولدت لَهُ امْرَأَته وَلدين مُحَمَّد وَأحمد وَكَانَا قد تفقها بِبَلَدِهِ بعض تفقه وَلما طلع ذَا أشرق أَخذ عَن الْحَافِظ العرشاني وَغَيره ثمَّ فِي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة حج وَمَعَهُ وَلَده مُحَمَّد فَلَمَّا عادا توفّي لثمان بَقينَ من الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي وَلَده مُحَمَّد بعده بِيَسِير وانتقل ابْنه الآخر أَحْمد إِلَى قَرْيَة عرج وتديرها وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك مَعَ ذكره إِن شَاءَ الله
وَمن تهَامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن قُرَيْظَة عرف بالتهامي شهر بالفقه وَحسن التدريس وَهُوَ أحد شُيُوخ الْأَحْنَف بِكِتَاب الْوَسِيط وَلما هرب من زبيد إِلَى عدن لخوف ابْن مهْدي أَخذ عَنهُ بعده جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن مُفْلِح وَمُحَمّد بن عِيسَى الميتمي كتاب الْوَسِيط وَقد ذكرته فِي حَلقَة ابْن الْأَبَّار كَمَا ذكره عمَارَة لَكِن هُنَا أوسع ذكرا
وَمِنْهُم أَبُو عمرَان مُوسَى بن مُحَمَّد الطويري نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى حيس تعرف بالطوير على تَصْغِير طير تفقه بِعَبْد الله الهرمي وَبِه تفقه السويريان مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا وَولده إِبْرَاهِيم والشيباني أَيْضا وَنسب آبَائِهِ فِي أصابح الذنبتين الْمُقدم ذكرهَا
فِي قرى الْجند وَله احْتِرَاز الْمُهَذّب يشهر بِهِ وَكَانَ لَهُ ابْن فَقِيه اسْمه حسن
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عرف بالأحنف لحنف كَانَ بِهِ مَسْكَنه قَرْيَة الصو من عزلة اللامية بوادي سِهَام مولده سنة تسع وَخَمْسمِائة وتفقه بالهرمي مقدم الذّكر وبالطويري أَيْضا وَكَانَ بَينه وَبَين مؤلف الْبَيَان مكاتبات فِيمَا يشكل عَلَيْهِمَا من الْفِقْه وَلما قَرَأَ على السهامي كتاب الْوَسِيط كَانَ السهامي يَقُول لَا أَدْرِي أَيّنَا انْتفع بِصَاحِبِهِ وَلما وضع شَيْخه الهرمي فِي السؤالات المشكلة فِي الْمُهَذّب وَلم يجب عَلَيْهَا أجَاب هُوَ عَلَيْهَا وسماها كتاب ثَمَرَة الْمُهَذّب وَكَانَ فَقِيها جليل الْقدر مَقْصُودا للزيارة ذكرُوا أَن الشَّيْخ أَبَا الْغَيْث ابْن جميل الصُّوفِي مر بقريته الْمَذْكُورَة فَلبث مَعَه بعض اللّّبْث ثمَّ ودعه فَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض الطّلبَة بَاب صفة الصَّلَاة فَلَمَّا بلغ قَول الشَّيْخ فِي دُعَاء الاستفتاح حَنِيفا مُسلما قَالَ الْفَقِيه مَا معنى الحنيف فَقَالَ اتبع الشَّيْخ واسأله عَن ذَلِك وَكَانَ عَاده فَارقه فَتَبِعَهُ وَقَالَ يَا شيخ الْفَقِيه يسلم عَلَيْك وَيَقُول لَك مَا معنى الحنيف فِي استفتاح الصَّلَاة فَقَالَ هُوَ المائل عَن كل دين إِلَى دين الْإِسْلَام ثمَّ لما عَاد إِلَى الْفَقِيه وَأخْبرهُ كبر وَقَالَ لقد أُوتِيَ هَذَا الرجل أمرا عَظِيما وَتُوفِّي وَخلف ثَلَاثَة بَنِينَ أحدهم أَبُو بكر ذكره ابْن سَمُرَة وَكَانَ يترشح للْفَتْوَى ويتصدر للسؤال فِي أَيَّام أَبِيه والآخران أَخْبرنِي بهما بعض الخبراء وهما إِسْمَاعِيل وَعبد الله رَأْسا فِي الْفِقْه ودرسا فِيهِ وَلم أتحقق لأحد مِنْهُم تأريخا وَلَعَلَّ الله يَسُوقهُ
ثمَّ قد عرض لي مَعَ ذكره رجل من أَعْيَان الْأَعْيَان وأفراد الزَّمَان فَيَنْبَغِي أَن نذْكر من أَحْوَاله بعض مَا صَحَّ ونورد من أَقْوَاله مَا نستدل بِهِ على فَضله فَهُوَ أَبُو الْغَيْث بن جميل الملقب شمس الشموس وَهَذَا لقب عَليّ ملقب بِاسْتِحْقَاق وَكَانَ فِي بدايته يقطع الطَّرِيق فَذكرُوا أَن سَبَب تَوْبَته أَنه صعد شَجَرَة يُرِيد أَن ينظر إِلَى السّفر إِذا أقبل فَبينا هُوَ بِأَعْلَى الشَّجَرَة يتَأَمَّل الطَّرِيق إِذْ سمع قَائِلا يَقُول يَا صَاحب الْعين عَلَيْك عين فَكَأَنَّمَا وقر ذَلِك فِي قلبه فَنزل عَن الشَّجَرَة مستكين الْقلب وَنَفسه تنازعه فِي الْإِنَابَة فَلم يجد لذَلِك طَرِيقا غير الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن عبد الْملك بن أَفْلح بزبيد فوصله وَعرض أمره عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ الْيَد فَأخذ عَلَيْهِ وألزمه الْخدمَة للزاوية فَأَقَامَ يخدمها بالحطب وَالْمَاء وَفِي بَيت الْخَلَاء دهرا ثمَّ كَانَ الشَّيْخ يتَبَيَّن مِنْهُ
مخائل النجابة ثمَّ بعد ذَلِك تقدم إِلَى المراوعة إِلَى الشَّيْخ الأهدل فَأَقَامَ عِنْده أَيَّامًا هذبه بهَا تهذيبا مرضيا وَكَانَ يَقُول خرجت من ابْن أَفْلح لؤلؤة عجماء فثقفني الأهدل ثمَّ بعد ذَلِك طلع الْجبَال الشامية وَظهر لَهُ أَحْوَال خارقة حَتَّى مَال إِلَيْهِ عَالم عَظِيم من الْعَامَّة والرؤساء وَصَحب جمعا من الْفُقَهَاء ثمَّ لما قويت الزيدية بنواحي تِلْكَ الْبِلَاد لقِيَام عبد الله بن حَمْزَة أَو غَيره من أئمتهم نزل الشَّيْخ إِلَى تهَامَة وَنزل بنزوله الْفَقِيه عَليّ بن مَسْعُود الْآتِي ذكره فسكن الشَّيْخ مَعَ الْفَقِيه أَحْمد بَيت عَطاء من قريته على كره من أَهله وَلم يزل الشَّيْخ فِي بَيته حَتَّى توفّي وبلغه أَن الشَّيْخ مسموع القَوْل مَقْبُول الْإِشَارَة
وَمن عَجِيب مَا بلغ من خَبره أَن الشريف أَحْمد بن الْحُسَيْن القاسمي لما أَقَامَ بإمامة أهل مذْهبه وأطاعه غَالب الْبِلَاد يُقَال كتب إِلَيْهِ ابْن علوان الْآتِي ذكره فِي أهل جبا أما بعد فَإِنِّي أخْبرك أَنِّي ... جزت الصُّفُوف إِلَى الْحُرُوف إِلَى الهجا ... حَتَّى انْتَهَيْت مَرَاتِب الإبداع
لَا باسم ليلى أستعين على السرى ... كلا وَلَا ليلى تقل شراعي ... فَأَجَابَهُ أَبُو الْغَيْث بن جميل من الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى أبي الْغَيْث بن جميل غذي نعْمَة الله فِي مَحل الحضرة أما بعد فَإِنِّي أخْبرك أَنِّي ... تجلى لي الِاسْم الْقَدِيم باسمه ... فانشقت الْأَسْمَاء من أسمائي
وحباني الْملك الْمُهَيْمِن وارتضى ... فالأرض أرضي وَالسَّمَاء سمائي ... يَا ابْن علوان أَبَت المراهم الشافية أَن تقع على جرحك الْخَبيث حَتَّى تقدم
مميزات العقاقير فخيل فِي ذهنه أَنه يكْتب للشَّيْخ كتابا يستعطفه وَمَتى مَال مَعَه فَأهل تهَامَة مائلون مَعَه فَكتب إِلَى الشَّيْخ كتابا صَدره بِالْآيَةِ يَا أهل الْكتاب تعالو إِلَى كلمة إِلَى آخر الْآيَة ثمَّ قَالَ الْقَصْد يَا شيخ الْإِجْمَاع على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالسَّلَام ثمَّ بعث بِالْكتاب مَعَ رجل من الشِّيعَة فَلَمَّا دخل على الشَّيْخ سلم وناوله الْكتاب فَقَالَ الشَّيْخ لبَعض أَصْحَابه اقْرَأ كتاب الشريف فقرأه فَلَمَّا فرغ قَالَ يَا غُلَام عَليّ بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس فَلَمَّا حضرا قَالَ اكْتُبْ {إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم} إِلَى آخرهَا ثمَّ قَالَ اكْتُبْ الْحَمد لله فالق الإصباح ومرسل نسيم الرِّيَاح إِلَى فسحة مبدأ عَالم الأشباح وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيد الْأَنَام ومصباح الظلام وعَلى آله وَأَصْحَابه السَّادة الْكِرَام
أما بعد فقد وصلنا كتاب الشريف يَدْعُونَا إِلَى إجَابَته ولعمري أَنَّهَا طَرِيق سلكها الْأَولونَ وَأَقْبل عَلَيْهَا الْأَكْثَرُونَ غير أَنا نَقْرَأ مُنْذُ سمعنَا قَوْله تَعَالَى لَهُ دَعْوَة الْحق لم يبْق فِينَا متسع لإجابة الْخلق فَلَيْسَ لأحد يَد أَن يشهر سَيْفه على نَفسه وَأَن يفرط فِي يَوْمه بعد أمسه فَليعلم السَّيِّد قلَّة فراغنا لما رام وليبسط الْعذر وَالسَّلَام فَذكرُوا أَن الرَّسُول وقف مَعَ الشَّيْخ وَبعث بِكِتَاب الإِمَام رَسُولا وَكَانَ الشَّيْخ جليل الْقدر شهير الذّكر حكى صَاحب تربته أَنه كَانَ ذَا عبَادَة ومجاهدة قل وجود مثله بل لم يكد يُوجد نَظِيره وفضائله يعز إحصاؤها ويندر استقصاؤها وَإِنَّمَا ذكرته هُنَا لِأَن هَذَا أول مَوضِع عرض فِيهِ ذكره وَإِن كَانَ سيعرض ذَلِك فِي مَوَاضِع أُخْرَى وَمن كَلَامه قَوْله سكونك إِلَى مَا فِي يدك دَلِيل على قلَّة ثقتك بِاللَّه ورجوعك فِي حَال الشدَّة إِلَى المخلوقين دَلِيل على أَنَّك لَا تعرف الله وفرحك بالشَّيْء تناله من الدُّنْيَا دَلِيل على بعْدك من الله
وَقد ذكر أَن هَذَا من كَلَام أبي يزِيد أَو أحد نظرائه فَالله أعلم
فَيحْتَمل أَن الْكل قد قَالَ بِهِ على طَرِيق الاختراع لَكِن جَاءَ الآخر بِهِ من طَرِيق اتِّفَاق الخاطر مَعَ الخاطر كَمَا قد يَقع الْحَافِر على الْحَافِر وَيحْتَمل أَن الآخر قَالَه على سَبِيل التّبعِيَّة
والوعظية وَلم يسْندهُ وَذَلِكَ يَفْعَله كثير من النَّاس فِي تمثيلاتهم
وَسُئِلَ رَحمَه الله عَن الْمُسْتَحق لاسم الصُّوفِي فَقَالَ هُوَ من صفا سره من الكدر وامتلأ قلبه من العبر وَانْقطع إِلَى الله عَن الْبشر واستوى عِنْده الذَّهَب والمدر وَسُئِلَ عَن ذَلِك مرّة أُخْرَى فَقَالَ الصُّوفِي من هُوَ بِعَهْد الله موفي وَمن دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك يَا روح روح الرّوح
وَيَا لب لب اللب وَيَا قلب قلب الْقلب هَب لي قلبا أعيش بِهِ مَعَك فقد جعلت كل مَا هُوَ دُونك لِأَجلِك فاجعله لمن شِئْت من هَذِه الْجُمْلَة
رُوِيَ عَن الْفَقِيه إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ الْآتِي ذكره أَنه قَالَ جرى بيني وَبَين بعض أَصْحَاب الشَّيْخ كَلَام من أَجله فَقلت لَهُ قد كَانَ الشَّيْخ يخطىء فِي بعض كَلَامه فِي الْمجَالِس فَقَالَ لَا وَأنكر عَليّ إنكارا شَدِيدا فَرَأَيْت الشَّيْخ بِاللَّيْلِ بعد الْعشَاء تمثلت لي صورته بعضه فَقَالَ بلَى أَخْطَأنَا كثيرا ووقعنا كثيرا وَلَكِن قبلت منا العزائم ومحيت عَنَّا الجرائم وساءني دَاء الْبدع الموصوفون بصبرهم إِلَّا من كَانَ فِيهِ أَربع خِصَال أَن يكون لله لَا لَهُ للنَّاس لَا لنَفسِهِ سالك طَريقَة وَاحِدَة هِيَ طَريقَة مُخَالفَة النَّفس متجها جِهَة وَاحِدَة هِيَ جِهَة الرب تبَارك الله رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام
ثمَّ قَالَ لي احذر بنيات الطَّرِيق فَإِنَّهُنَّ يلتمسن اللمحة والنظرة فَسئلَ الْفَقِيه عَن بنيات الطَّرِيق فَقَالَ هِيَ الكرامات الَّتِي تعرض للسالك فِي طَرِيقه مَتى لاحظها حجب عَن مَقْصُوده وَكَانَت وَفَاته على الْحَال المرضي عازفا عَن السماع مُنْذُ مُدَّة نَهَار الْأَرْبَعَاء لخمس بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة وَله تربه مَشْهُورَة جعل عَلَيْهَا ابْن خطلبا التَّاجِر قبَّة وصندوقا وَجعل خَلِيفَته فيروزا من أَصْحَاب الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي بكر الْحكمِي صَاحب عواجة الْآتِي ذكره
وَكَانَ كَبِير الْقدر سالكا الطَّرِيق الْكَامِل وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين بعد أَن اسْتخْلف ابْنه عليا فَتوفي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة وخليفته ابْنه يُوسُف وَهُوَ على ذَلِك إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وَفِي عصره هجم الرِّبَاط وخرقت حرمته وَأمْسك المتجورون من التربة غير أَن فَاعل ذَلِك لم يفلح بل سلط الله عَلَيْهِ جور السُّلْطَان
ثمَّ صَار الْفِقْه بعد من تقدم ذكرهم فِي جمَاعَة من أَصْحَاب الْمَذْكُورين ومعظمهم
أَصْحَاب الإِمَام يحيى إِذْ النَّاظر إِذا نظر فِي أهل الطَّبَقَة رَآهُمْ كَمَا قَالَ ابْن اللبان لَيْسَ فِي الأَرْض فَرضِي إِلَّا من أَصْحَابِي وَأَصْحَاب أَصْحَابِي وَلَا يعرف شَيْئا كَذَلِك لم يكن فِي الطَّبَقَة وَمن بعْدهَا فَقِيه إِلَّا من أَصْحَابه وَأَصْحَاب أَصْحَابه أَو من يتَّصل بهم بالسند أَو لَا يعرف شَيْئا وَلما كَانَ كَذَلِك مَعَ كَونهم كَانُوا هم الْأَعْيَان فِي الْمُفْتِينَ والمدرسين والصدور فِي كل الْوَقْت والحين وَبَدَأَ ابْن سَمُرَة بهم فِي الطَّبَقَة هَذِه وَقَالَ معنى كَلَام ابْن اللبان فيهم فَيَنْبَغِي الْبِدَايَة مِنْهُم بأكثرهم شهرة وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى بن الْحُسَيْن بن أسعد بن عبد الله يجْتَمع مَعَ شَيْخه فِي أسعد بن عبد الله وَبَقِيَّة نسبهما قد مضى ولد سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ أول من لزم مجْلِس الإِمَام يحيى ودرس عَلَيْهِ وَكَانَ ابتداؤه للْقِرَاءَة فِي سنة سبع عشرَة وَخَمْسمِائة وَقد أَخذ عَن عمر بن إِسْمَاعِيل وَكَانَ فَقِيها محققا مدققا عَارِفًا بفنون شَتَّى مِنْهَا الْفِقْه والنحو واللغة والْحَدِيث والأصولين والفرائض والحساب والدور وَكَانَ الشَّيْخ يحيى يثني عَلَيْهِ بجودة الْفِقْه وَنَقله وَيَقُول ذاكرت الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى فِي الْجُزْء الأول وَأكْثر الثَّانِي من الْبَيَان غيبا فَوَجَدته حَافِظًا متقنا وَكَانَ نظيف الْفِقْه زاهدا عفيفا حسن الْأَخْلَاق متنزها عَن الشقاق مُلْتَزما سلوك عبَادَة الخلاق رَأس ودرس أَيَّام شَيْخه الإِمَام يحيى وَبِه تفقه جمَاعَة كَثِيرُونَ مِنْهُم ابناه حسان وَأحمد وَعلي بن هَارُون البرعي وَعبد الله بن أَحْمد الْجَعْدِي وأسعد بن مُحَمَّد المري وَمُحَمّد بن أبي بكر بن مفلت من آنامر وَعمر بن سَمُرَة هَؤُلَاءِ الَّذين تفقهوا بِهِ تفقها جيدا وَعرفُوا بِصُحْبَتِهِ واعترفوا بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ أسعد بن مُحَمَّد من أروس بجبل الصلو
وَعبد الله بن عُثْمَان بن رَحِيم وَمُحَمّد بن يُوسُف وَابْنه أَبُو حَامِد من دمت وَلم يكن لأحد من فُقَهَاء الذُّرِّيَّة الْمُتَّصِلَة بالفقه من عصره إِلَى عصرنا مثله إِلَى وَقت وجودهم وَمِنْهُم قُضَاة الْجند وَالسَّلَف
وَذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم ابْنه أَحْمد وَقَالَ هُوَ القَاضِي فِي الْجند يَعْنِي فِي عصره وَله ابْن ثَالِث اسْمه مَنْصُور تأهل فِي أعروق الظفر وَمَات هُنَالك وَلَعَلَّ يَأْتِي من ذكره وَذكر أخوته مَا لَاق وَلم يكد يَنْقَطِع الْقَضَاء مِنْهُم إِلَّا فِي رَمَضَان سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة ببني مُحَمَّد بن عمر يَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله وَكَانَت وَفَاة الْفَقِيه
مُحَمَّد بن مُوسَى بمصنعه سير ضحوة نَهَار الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من شعْبَان الْكَائِن فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بعد أَن بلغ عمره كعمر شَيْخه
وَمِنْهُم ابْنه أَبُو الطّيب طَاهِر بن يحيى مولده سنة ثَمَانِي عشرَة وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ وَكَانَ يثني عَلَيْهِ ثَنَاء كليا وَيَقُول طَاهِر فَقِيه شافي الذّكر لَكِن أخمل ذكره بلد السوء وَقَالَ بعض فُقَهَاء زَمَانه إِنَّمَا أخمل ذكره معارضته لمعتقد أَبِيه وَسَائِر فُقَهَاء زَمَانه وبلاده وَذَلِكَ قد مضى ذكره مَعَ ذكر أَبِيه لما كَانَ أظهر التَّوْبَة مِنْهُ فهجره الْفُقَهَاء فَلَمَّا تَعب من الْهِجْرَة والمراسلة بالأقاويل الشنيعة سَافر إِلَى مَكَّة وَأقَام بهَا مجاورا سنة أَو سنتَيْن فَأخذ بهَا الْعلم عَن القاطنين بِمَكَّة والواردين إِلَيْهَا فتضلع من الْعُلُوم تضلعا جيدا حَتَّى كَانَ يَقُول أَنا ابْن ثَمَانِيَة عشر علما وَكَانَ سَفَره إِلَى مَكَّة بأَهْله اللازمين من الْبَنَات والبنين ووصلته الإجازات من الشُّيُوخ فِي الْبلدَانِ ثمَّ حصلت بَين وُلَاة مَكَّة منافسات أوجبت عَلَيْهِ النفور وَالْخُرُوج من مَكَّة إِلَى بَلَده وَذَلِكَ أَيَّام عبد النَّبِي بن عَليّ بن مهْدي فَذكرُوا أَنه لما دنا من زبيد بلغ عبد النَّبِي الْخَبَر وَقيل لَهُ هَذَا فَقِيه الْجَبَل وَابْن فقيهه اللَّذَان عَلَيْهِمَا معول الشَّافِعِيَّة فطمع فِي إفحامه وعجزه عَن مناظرة فُقَهَاء مذْهبه إِذْ كَانَ على مَذْهَب أبي حنيفَة فَأمر من لقِيه إِلَى خَارج زبيد وَأدْخل عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِك يَوْم جُمُعَة فألزمه أَن يخْطب بالجامع فتمنع فَلم يعذرهُ فَيُقَال إِنَّه ارتجل خطْبَة عَجِيبَة غَرِيبَة وخطب وَكَانَ ظن عبد النَّبِي أَنه يعجز لكَونه إِثْر سفر وَلما انْقَضتْ الصَّلَاة جمع عبد النَّبِي بَينه وَبَين فَقِيه مَذْهَبهم الَّذِي يعرف بِمُحَمد بن أبي بكر بن المدحدح بِضَم الْمِيم وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ حاء مُهْملَة فتناظرا فَقَطعه طَاهِر فِي عدَّة مسَائِل وَاسْتظْهر عَلَيْهِ بِقُوَّة حفظه واستحضاره لمسائل الْخلاف وأدلتها وَكَانَ ابْن المدحدح رَأس طبقَة الْحَنَفِيَّة إِذْ ذَاك فَلَمَّا وجده عبد النَّبِي كَامِلا ولاه قَضَاء مدينتي جبلة وإب ونواحيها يَسْتَنِيب من شَاءَ وَيحكم حَيْثُ شَاءَ وَكَانَت الْخطْبَة والمناظرة بِجَامِع بني مهْدي الْمَعْرُوف بالمشهد إِذْ قُبُور غالبهم فِيهِ وَلم يبْق مِنْهُ إِلَى عصرنا مَا يدل عَلَيْهِ غير المنارة الَّتِي تعرف بمنارة المشهد وَأَكْثَره خراب واندراس قبوره من كَون الْأَشْرَف بن المظفر كَانَ لَهُ دَار بِالْقربِ مِنْهُ فَجعله إصطبلا لدوابه وَكَانَ سَبَب ذَلِك اندراسه وَلم يزل مُتَوَلِّيًا للْقَضَاء فِي الْأَمَاكِن الْمَذْكُورَة إِلَى دُخُول سيف الْإِسْلَام ثمَّ حدث عَلَيْهِ مَا أوجب انْفِصَاله فانفصل وَله مصنفات فَمِنْهَا
مَقَاصِد اللمع فِي أصُول الْفِقْه وحد الْفِكر بخفض الْفَاء وَفتح الْكَاف جمع فكرة ضمنه الرَّد على الْمُعْتَزلَة فِي نفي الْقدر وَكتاب مَنَاقِب الشَّافِعِي وَكتاب مَعُونَة الطلاب فِي مَعَاني كَلَام الشهَاب وَغير ذَلِك
وَفِي مدحه قَالَ بعض فُقَهَاء حضر موت من آل أبي الْحبّ ... أجل مَا العلى إِلَّا لسَيِّدهَا الحبر ... وَمَا الْعلم إِلَّا إِرْث آل أبي الْخَيْر ... تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم ابناه مُحَمَّد وأسعد وَغَيرهمَا وَأثْنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وعَلى مكارمه وَكَانَت وَفَاته بقرية سير لَيْلَة الْأَرْبَعَاء من إِحْدَى الربيعين من سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم ابْن عَمه وخال وَلَده عُثْمَان بن أسعد بن عُثْمَان بن أسعد ولد سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ فَقِيها صَالحا عابدا يقوم كل لَيْلَة بِسبع من الْقُرْآن وَهُوَ أحد شُيُوخ ابْن سَمُرَة وَمِمَّنْ أثنى عَلَيْهِ وَأخذ عَن من أَخذ عَنهُ الْحَافِظ العرشاني توفّي بالمصنعة سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم ابْن عَمه أَيْضا مُسلم بن أسعد وَأَظنهُ أَخا لعُثْمَان الْمَذْكُور آنِفا وقف كتبا جليلة وَجعلهَا على يَد أَهله قَالَ ابْن سَمُرَة فَهُوَ إِذْ ذَاك بيد القَاضِي طَاهِر
وَمن الْجند عُثْمَان بن أبي رزام كَانَ فَقِيها فَاضلا وَعَلِيهِ تفقه ابْنه وَغَيره ولي بعض ذُريَّته قَضَاء الْجند لما صَار قَضَاء الْقَضَاء إِلَى أبي بكر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى واسْمه عبد الرَّحْمَن
وَمِنْهُم الأخوان أَبُو عبد الله مُحَمَّد وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْنا سَالم بن زيد بن إِسْحَاق الأصبحيان نسبا البعدانيان بَلَدا فمحمد مولده سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة كَانَ فَقِيها فَاضلا وَهُوَ الْأَكْبَر تفقه بِيَحْيَى بن مُحَمَّد الْمُقدم ذكره فِي أَصْحَاب اليفاعي وَابْن عبدويه وَكَانَ فَقِيها فَاضلا جليل الْقدر شهير الذّكر بِهِ تفقه جمَاعَة وَمِنْهُم أَخُوهُ عبد الله وَفضل بن يحيى وَغَيرهمَا وَلما قدمت الملحمة بحثت عَن شَيْء من أخبارهما فَقيل كَانُوا يسكنون موضعا من جبل بعدان ثمَّ نزل هَذَانِ إِلَى الملحمة لأجل التفقه ومخالطة أَهله وَلم يَزَالَا بهَا حَتَّى توفيا فمحمد لزم مجْلِس التدريس بعد شَيْخه الْفَقِيه يحيى بن عمرَان رَحمَه الله وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا نظيف الْفِقْه حسن الدّيانَة بِهِ تفقه جمَاعَة مِنْهُم أَخُوهُ عبد الله الَّذِي عده ابْن سَمُرَة فِي
أَصْحَاب الشَّيْخ يحيى وَلذَلِك أوردتهما مَعًا إِذْ لم أستليق تَقْدِيم الْأَصْغَر على الْأَكْبَر والإسناد وذرية هذَيْن الفقيهين يسكنون فِي عصرنا بقرية على قرب من الملحمة تعرف بالعراهد بِعَين مُهْملَة مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام وَفتح الرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْهَاء ثمَّ دَال مُهْملَة يذكر عَن جمَاعَة فيهم الْخَيْر وَالدّين المتين وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَأما عبد الله فمولده سنة خمس وَخَمْسمِائة وتفقه بأَخيه وَأخذ عَن الإِمَام يحيى وَلذَلِك عده ابْن سَمُرَة فِي أَصْحَابه وتفقه أَيْضا بِيَحْيَى بن أبي عمرَان قَالَ ابْن سَمُرَة وَأكْثر أَخذه عَن أَخِيه الْفَقِيه الزَّاهِد مُحَمَّد بن سَالم وَكَانَ الْمدرس فِي الملحمة والمفتي فِيهَا مُدَّة حَيَاته
هَذَا كَلَامه وَبِه تفقه جمَاعَة مِنْهُم صهره تزوج على ابْنَته يحيى بن فضل وَاسم ابْنَته الَّتِي تزَوجهَا منيرة وَكَانَت من صالحي زمانها وَأَوْلَاده مِنْهَا الَّذين يعْرفُونَ بالفقهاء بني يحيى بن فضل خرج فيهم جمَاعَة عرفُوا بالفقه المتقن يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم وَكَانَت وَفَاته فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا وَمِنْهُم أَبُو السُّعُود بن خيران مولده سنة ثَمَانِي عشرَة وَخَمْسمِائة بقرية الملحمة أَخذ عَن الإِمَام يحيى وتفقه بِعَبْد الله بن يحيى الصعبي مِمَّا أَخذ عَن الإِمَام مُعْتَمد الْبَنْدَنِيجِيّ وغريب أبي عبيد ومختصر الْعين للحوافي وَكَانَ فَقِيها متفننا فِي فنون الْقرَاءَات وَالْفِقْه والنحو واللغة وَهُوَ أحد شُيُوخ ابْن سَمُرَة أَخذ عَنهُ الْمُعْتَمد بتاريخ سنة أَربع وَسبعين وَلم أعرف تَارِيخ وَفَاته
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه أبي عمرَان مقدمي الذّكر مولده سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها فَاضلا متأدبا شَاعِرًا أورد ابْن سَمُرَة من شعره أبياتا مدح بهَا عبد النَّبِي بن مهْدي لم يُعجبنِي إيرادها لما كَانَ فِي ابْن مهْدي من عدم اسْتِحْقَاق الْمَدْح وَلَا سِيمَا بِمثل أَبْيَات الْفَقِيه لَكِن حمل الْفَقِيه على مدحه اتقاء شَره والرجاء لخيره فِي خراج أرضه وأرود لَهُ بَيْتَيْنِ قالهما حِين عز عَلَيْهِ وجود العفص بمدينتي إب وجبلة إِذْ مِنْهَا يَأْخُذ أهل ناحيته مَا شَاءُوا إِذْ
هما مصراهما وَكَانَ مُرَاده نسخ إحْيَاء عُلُوم الدّين فَعمل الحبر من شجر هُنَالك يُقَال لَهُ الكلبلاب والبيتان هما ... قولا لأَب وَلِذِي جبلة ... إِن عدم العفص وشحابه
قد أنبت الله فِي شواحطنا ... بحرا غزيرا من كلبلابه ... وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عِيسَى بن سَالم الميتمي قد تقدم بَيَان هَذِه النِّسْبَة مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة تفقه بِأَهْل هَذِه الطَّبَقَة طبقَة الإِمَام يحيى وَمن كَانَ بهَا ثمَّ نزل عدن فَوجدَ الْفَقِيه المقيبعي فَأخذ عَنهُ وسيط الْغَزالِيّ كَمَا قدمنَا ثمَّ عَاد الْجَبَل فسكن الجبابي بجيم مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام ثمَّ بَاء مَفْتُوحَة مُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْبَاء ثمَّ يَاء كياء النّسَب مُدَّة ثَمَانِي عشرَة سنة وَهُوَ جبل على قرب من مَدِينَة جبلة من جِهَة ذِي عقيب ثمَّ استدعاه الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْأمان إِلَى ذِي جبلة فوصلها ودرس لَهُ بمدرسة أحدثها بِمَدِينَة جبلة وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَلما عرض ذكر ابْن أبي الْأمان وَكَانَ من محبي أهل الْفِقْه والمحسنين إِلَيْهِم وأعيان زَمَانه فاسمه قد مضى
وَكَانَ لَهُ دنيا ينيل مِنْهَا بنى مدرسة بجبلة وَكَانَ لَهُ بهَا دور كَثِيرَة وَلما حصل عَلَيْهِ فِي بعض الْأَوْقَات ضيم خرج عَن جبلة وَلحق بأبين فسكنها وَسكن قَرْيَة تعرف بالحسون وَله بهَا ذُرِّيَّة يسكنون الْمحل من أبين وَبَعض بعدن وَبَعض بِبَيْت حُسَيْن من قرى المهجم
نرْجِع إِلَى أَخْبَار الْفُقَهَاء وتتمة أَصْحَاب الإِمَام يحيى وَإِن كَانَ قد دخل مَعَهم جمَاعَة ينتسبون فِي التفقه إِلَى غَيره وَهُوَ من الأصابح لَكِن ابْن سَمُرَة رتب كَذَلِك ويأبى الله أَن يكمل على الْغَرَض إِلَّا كِتَابه فَمن تَأَخّر ذكره جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وتفقه بِالْإِمَامِ يحيى وَأخذ نظام الْغَرِيب عَن قَاسم بن زيد الفائشي
وتفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم
مُحَمَّد بن مَضْمُون وَغَيره وَمِنْهُم سُلَيْمَان بن فتح بن مِفْتَاح الصليحي بِالْوَلَاءِ كَانَ أَبوهُ من خواصي الملكة السيدة ابْنة أَحْمد ولته حصن التعكر لما استعادته من الَّذين أَخَذُوهُ على الْمفضل فغدر بِهِ بَنو الزر وأخذوه مِنْهُ بعد أَن كَانَ تغلب عَلَيْهِ ولد ابْنه سُلَيْمَان لنيف وَعشْرين وَخَمْسمِائة وتفقه بِالْإِمَامِ يحيى
وَلما فرغ من قِرَاءَة كتب الْفِقْه المسموعات قَرَأَ عَلَيْهِ مُخْتَصر الْعين وغريب الحَدِيث واللغة فَقَالَ لَهُ يَا سُلَيْمَان لقد أخذت من الْفِقْه مَا ينفع قلب عارفه سكن الشوافي ودرس فِيهَا بمدرسة أحدثها الشَّيْخ حسن بن عِيسَى بن عمر بن أبي النهى وَذَلِكَ فِي أَيَّام شَيْخه وتفقه بِهِ جمَاعَة من نواح شَتَّى
وَمِنْهُم عَليّ بن عمر الدباري وَأَبُو بكر بن يحيى بن فضل وَمُحَمّد بن أَحْمد الصعبي من سهفنة وَسَيَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله وَمِنْهُم عمر بن حمير بن عبد الحميد التباعي ثمَّ السحولي المخادري كَانَ من أَعْيَان الْفُقَهَاء وعبادهم وزهادهم وَكَانَ نظيف الْفِقْه كثير الْحَج وَرُبمَا أَقَامَ مجاورا فَأخذ عَن مُحَمَّد بن مُفْلِح العجيبي كتب الْغَزالِيّ الفروعية كالوسيط وَالْوَجِيز وجدنَا أَن آخر قِرَاءَته للوجيز يَوْم الْخَمِيس ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَلما فرغ من قِرَاءَة مصنفاته فِي الْفُرُوع فَقيل لَهُ نَقْرَأ مصنفاته فِي الْأُصُول وَقَالَ شعرًا ... أحب فروعه وألح فِيهَا ... وأكره مَا يصنف فِي الْأُصُول
لِأَن مقاله فِيهِ مقَال ... لأرباب الشَّرِيعَة والعقول
فلست بخائض مَا عِشْت فِيهَا ... لأسلم من خطيرات الدُّخُول
أدين أصُول أَحْمد طول عمري ... وَلست إِلَى سوى قلبِي يمِيل ... وَله كتب مَوْقُوفَة مِنْهَا الْبَيَان عَلَيْهِ سَمَاعه على المُصَنّف وإجازته بِهِ مِنْهُ وَلما دخلت قَرْيَة المخادر سَأَلت عَن تربته فَقيل إِنَّه مَاتَ بِمَكَّة فِي آخر المئة السَّادِسَة تَقْرِيبًا
وَمِنْهُم حُسَيْن بن عَليّ بن جسمر بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم ثمَّ رَاء سَاكِنة من دمت بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم ثمَّ تَاء مثناة من فَوق وَهُوَ صقع متسع يحتوي على قرى كَثِيرَة قبلي تعز على نصف مرحلة مِنْهَا تَقْرِيبًا
كَانَ الإِمَام يحيى يثني عَلَيْهِ بالمعرفة وجودة الْحِفْظ وَهُوَ أحد أَشْيَاخ إِبْرَاهِيم بن أسعد الوزيري الْآتِي ذكره توفّي نَهَار الْجُمُعَة مستهل ربيع الآخر الْكَائِن فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم الْفَقِيه بن جسمر وَأَخُوهُ أَبُو السُّعُود وَمُحَمّد بن حُسَيْن وَأَخُوهُ أَبُو بكر وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق وَولده عبد الرَّزَّاق وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي عُثْمَان بن أسعد بن سَالم بن دُحَيْم وَابْنه عبد الله من أَصْحَاب الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى وَهَؤُلَاء لم يَكُونُوا معدودين فِي أَصْحَاب الشَّيْخ يحيى إِنَّمَا ألحقتهم بِأَهْل بلدهم
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن مُفْلِح الْحَضْرَمِيّ كَانَ من خَواص أَصْحَابه وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِخطْبَة الْمُشكل حَيْثُ قَالَ سَأَلَني بعض من يعز عَليّ سُؤَاله ويعظم عِنْدِي قدره وحاله
وَمِنْهُم صهره أَبُو عبد الله عمر بن عبد الله بن سُلَيْمَان بن السّري من ريمة المناخي مولده سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة تفقه عَلَيْهِ ثمَّ أزَوجهُ ابْنة لَهُ فَمَاتَتْ عِنْده نفاسا فأزوجه أُخْرَى فَحملت أَيْضا فَلَمَّا دنا ولادها خشِي الْفَقِيه عَلَيْهَا الْمَوْت فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبشره بخلاصها بِولد ذكر وَأمره أَن يُسَمِّيه مُحَمَّدًا الجسيم وَذَلِكَ سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَأخْبرهُ أَنَّهَا تضع بعده غُلَاما فليسمه إِسْمَاعِيل وَكَانَ ذَلِك سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها ورعا زاهدا مُجْتَهدا فِي طلب الْعلم وَهُوَ مِمَّن حضر مجْلِس السماع مَعَ شَيْخه بِذِي أشرق حِين سمعُوا عَليّ الْحَافِظ العرشاني كَمَا تقدم بثر فاستشعر من ذَلِك وَوصل من بَلَده إِلَى ذِي جبلة قَاصِدا الطَّبِيب يُرِيد عرضه عَلَيْهِ فَلَمَّا بَات بِذِي جبلة أول لَيْلَة عَازِمًا على قصد الطَّبِيب فِي صبيحتها فَلَمَّا نَام رأى الْمَسِيح عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ يَا روح الله امسح لي على وَجْهي وادع الله لي بالشفاء فَفعل الْمَسِيح ذَلِك فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَامَ للْوُضُوء فَلَمَّا أَمر يَده على وَجهه لم يجد شَيْئا من البثور الَّتِي يعهدها فَاسْتَبْشَرَ بالعافية وَحمد الله على ذَلِك وَصدق الرُّؤْيَا ثمَّ لما أصبح استدعى بالمرآة وَنظر فِيهَا فَلم ير فِي وَجهه بَأْسا بل رأى عَلَيْهِ أنوارا ساطعة فَعَاد إِلَى بَلَده قبل لِقَاء الْحَكِيم بلطف الْعَلِيم وَتُوفِّي بِمَكَّة سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه سُلَيْمَان بن عبد الله كَانَ فَقِيها مقرئا زاهدا مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَلم أجد لوفاته تَارِيخا وَمن نَاحيَة جبل عنة ثمَّ من أهل الصّفة جمَاعَة
متقدمون ذكرهم ابْن سَمُرَة مِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد العريقي وَأحمد بن مُوسَى العريقي وَعلي بن الْحسن الْجَعْدِي هَؤُلَاءِ ألحقتهم مَعَ أَصْحَاب الإِمَام يحيى على طَرِيق التّبعِيَّة بِالْبَلَدِ على حكم الْجوَار وَلم يعدهم ابْن سَمُرَة مَعَهم
وَمِنْهُم أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن الْحُسَيْن الماربي سكن دلال وَكَانَ فَقِيها فَاضلا محققا إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْفَتْوَى بدلال وَهُوَ صقع يجمع قرى كَثِيرَة معظمها قَرْيَة تيثد خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْفُضَلَاء ودلال بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَاللَّام وَألف ثمَّ لَام وتيثد بخفض التا الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت مَعَ همزَة وخفض الثَّاء الْمُثَلَّثَة ثمَّ دَال مُهْملَة وَهَذِه النَّاحِيَة تنْسب إِلَى جبل بعدان الْمُقدم الذّكر من مخلاف جَعْفَر قدمت هَذِه النَّاحِيَة سنة ثَلَاث عشرَة وَدخلت الْقرْيَة الْمَذْكُورَة فَلم أجد من يُحَقّق لي شَيْئا من حَال هَذَا الْفَقِيه بل أَخْبَار الْمُتَأَخِّرين على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِنَّمَا أخذت ذكره من كتاب ابْن سَمُرَة وَمن النَّاحِيَة يحيى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن مِسْكين مولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة تفقه بِالْإِمَامِ أَيْضا وَأخذ عَن غَيره
وَمِنْهَا مُسلم بن مَسْعُود وَالزُّبَيْر بن عَليّ بن أبي بكر من بني مهلا كَانَ مدرسا بتيثد وَعبد الله بن مُحَمَّد التهامي توفّي هُنَالك بعد سبعين وَخَمْسمِائة وَمن جبل بعدان ثمَّ من قَرْيَة جري بِفَتْح الْجِيم وخفض الرَّاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت سعيد بن مُحَمَّد وَمن السحول ثمَّ من قَرْيَة المخادر الأخوان عبد الله وَمُحَمّد ابْنا أسعد بن أبي زيد وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم التباعيون تفقهوا بِالْإِمَامِ أَيْضا وَمن المشيرق أَبُو الْحسن عَليّ بن الإِمَام زيد بن الْحسن الفائشي كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بِأَبِيهِ وكمل تفقهه بِالْإِمَامِ يحيى
يعد من أَصْحَابه وَذريته قُضَاة حرض مُنْذُ دهر إِلَى عصرنا وَذَلِكَ سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَن أَبَاهُ كَانَ يَقُول لإخوانه عَليّ أكتبكم وَالْغَالِب أَن هَذَا كَانَ قبل كَمَال تفقهه وَخَلفه ابْن لَهُ وَهُوَ مُحَمَّد بن
عَليّ عده ابْن سَمُرَة هُوَ وَابْن عَمه الْحسن بن الْقَاسِم الْفَقِيه مقدم الذّكر فِي فُقَهَاء وحاظة الْمُتَأَخِّرين وَمن وصاب أَحْمد ومُوسَى ابْنا يُوسُف بن مُوسَى بن يُوسُف بن مُوسَى بن عَليّ يعرف بالفقيه تباعي النّسَب حميري وَكَانَ على مَذْهَب مَالك وَيُقَال إِنَّه أدْرك مَالِكًا بِالْمَدِينَةِ وَأخذ عَنهُ وَهُوَ الَّذِي أَدخل إِلَى الْيمن مذْهبه ونشره فِيهِ وَقد ذكرته فِيمَا تقدم وَثَبت نسبه وَمِنْهَا عَامر بن عَليّ قَالَ ابْن سَمُرَة وَالثَّلَاثَة يَعْنِي مُوسَى وَأحمد وعامر موجودون فِي عصره بوصاب يفتون ويدرسون فَأَما أَحْمد فَهُوَ وَالِد مُوسَى شَارِح اللمع الْآتِي ذكره وَقد أَخذ عَن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى وَعبيد الصعبي بعد التفقه بِالْإِمَامِ يحيى وَهَذَا مُوسَى بن يُوسُف ويغلط بِهِ كثير وَيجْعَل مَكَانَهُ ابْن أَخِيه مُصَنف الشَّرْح وجدت ذَلِك بِإِجَازَة الأكابر أَنهم يَقُولُونَ عَن مُوسَى بن أَحْمد عَن الشَّيْخ يحيى وَذَلِكَ بِسَمَاع الْفُقَهَاء بني عجيل
وَبَلغنِي أَنه رُوجِعَ بَعضهم فِي ذَلِك فَقَالَ هَكَذَا وَجَدْنَاهُ وَلَيْسَ هَذَا إِنَّمَا قَابل كَانَ يجب إِصْلَاحه فَإِن مُوسَى بن أَحْمد لم يدْرك صَاحب الْبَيَان بل تفقه بالفقيه مَسْعُود بن عَليّ الْعَنسِي كَمَا سَيَأْتِي
وَلما قدمت وصاب فِي سنة عشْرين وَسَبْعمائة اجْتمعت بِبَعْض من ينْسب إِلَى هذَيْن الفقيهين وَله بعض دراية بالفقه وأخبار النَّاس فَقَالَ كَانَ مُوسَى أفقه من أَحْمد وَله تصنيف سَمَّاهُ الْهِدَايَة فِي أصُول الدّين وَكسر مقَالَة أهل الزيغ والملحدين وَله تصنيف آخر سَمَّاهُ التَّعْلِيق يتَضَمَّن مَعَاني الْمُهَذّب وكشف مكشلاته ودقائق احترازاته وَبِه تفقه أَخُوهُ أَبُو بكر وَكَانَ أَصْغَرهم وَكَانَ فَقِيها مقرئا وَكَانَت وَفَاته سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة وَلم ألق لمُوسَى وأخيه تَارِيخا وَمن جبل ريمة الأشابط وَهُوَ أحد جبال الْيمن المعدودة شَرْقي وَادي ذوال الْمَعْرُوف بِبَلَد عك ثمَّ المعازبة وَضبط ريمه بِفَتْح الرَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْمِيم وهاء سَاكِنة وَضبط ذوال بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ لَام وَهُوَ أَيْضا أحد أَوديَة الْيمن المعدودة ومصره مَدِينَة القحمة بقاف مَفْتُوحَة بعد الْألف وَلَا م ثمَّ حاء سَاكِنة ثمَّ هَاء وَكَانَ بِهَذَا الْجَبَل من أَصْحَابه أَيْضا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْعمريّ وَمن جبل تَيْس وَهُوَ الْجَبَل الْمَعْرُوف
بالجهة الشرقية للمحالب الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة فِي مدن تهَامَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر بن نزيل بِضَم النُّون وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ لَام وَيعرف هُوَ وَقَومه ببني نزيل نِسْبَة إِلَى هَذَا الْجد وهم يرجعُونَ إِلَى الحكم بن سعد الْعَشِيرَة وَكَانَ هَذَا فَقِيها كَبِيرا تفقه بِالْإِمَامِ وَهُوَ أحد شُيُوخ عَليّ بن مَسْعُود الشاوري الْآتِي ذكره وَفِي قَرْيَة بني نزيل جمَاعَة فُقَهَاء أخيار يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله
وَمن مخلاف شاور بِبَلَد حجَّة عبد الله بن أبي السُّعُود وَعلي بن مُسلم وَعلي بن مقبل قَالَ ابْن سَمُرَة وَهَؤُلَاء يسكنون بينون قلت وَهُوَ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو ثمَّ نون وشاور صَاحب المخلاف بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَألف بعْدهَا ثمَّ وَاو مخفوضة وَقيل مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء وَهُوَ جد قَبيلَة كَبِيرَة يعْرفُونَ ببني شاور خرج مِنْهُم جمَاعَة من الْأَعْيَان فِي الْعلم وَغَيره وَرُبمَا يَأْتِي ذكر غالبهم إِن شَاءَ الله
وَمن تهَامَة من قَرْيَة الهرمة بوادي زبيد قد مضى ذكرهَا أَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَقِيه عبد الله بن عِيسَى بن أَيمن بن الْحسن بن خَالِد بن عبد الله الْمُقدم ذكره وَقد مضى أَن ابْن سَمُرَة ذكر أَن نسبهم فِي نزار وذريتهم الموجودون بالهرمة ينسبون إِلَى بني أُميَّة تفقه بِأَبِيهِ ثمَّ طلع الْجبَال فقصد الشَّيْخ يحيى وَسَأَلَهُ أَن يسمعهُ الْبَيَان فَقَالَ لَا بل الْمُهَذّب فَقَرَأَ الْمُهَذّب فَكَانَ الشَّيْخ يبين لَهُ المشكلات من الْبَيَان حَتَّى فرغ من الْكِتَابَيْنِ وَتبين معانيهما ضمن قِرَاءَته للمهذب وَقَرَأَ كتاب الِانْتِصَار الَّذِي تقدم تصنيف الشَّيْخ ثمَّ أَخذ عَنهُ كتاب الْحُرُوف السَّبْعَة للمراغي وَكَانَ حاذقا بارعا لأدلة الْفِقْه بَصيرًا بدقائقها وأشكالها مبرهنا لإجمالها وَلما نزل القَاضِي جَعْفَر المعتزلي وَبلغ الشَّيْخ يحيى نُزُوله أَمر هَذَا الْفَقِيه أَن يَطْلُبهُ فِي إب ونواحيها ويناظره فَلَمَّا صَار إِلَى إب وجده قد ولى إِلَى شواحط فَوَجَدَهُ متعززا فِيهِ بالشيخ مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل المسكيني ومريدا للتلبيس عَلَيْهِ وعَلى غَيره من أهل الْحصن ونواحيه وَهُوَ
حصن بِالْقربِ من قَرْيَة الملحمة بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ طاء مُهْملَة وَهُوَ لعرب يعْرفُونَ ببني مِسْكين بَيت رياسة متأثلة وَخرج مِنْهُم جمَاعَة من الْفُضَلَاء أعيانا وَإِلَى هَذَا الْحصن أَشَارَ الْفَقِيه الْمَذْكُور أَولا بقوله قد أنبت الله فِي شواحطنا فَلَمَّا الْتحق الهرمي بالمعتزلي فِي الْحصن وَقيل إِنَّه أدْركهُ بإب وراجعه بعض مُرَاجعَة فَعلم المعتزل أَن لَا طَاقَة لَهُ بِهِ قَالَ الرَّاوِي ذكر القَاضِي جَعْفَر عَنهُ فَجعل يتلمس ثمَّ يَأْمر للفقيه عَليّ بكفاية الْحَال وَأَن يعرض عَن مناظرته وَكَانَ قد تفقه بِبَلَدِهِ صنعاء ونواحيها ثمَّ ارتحل الْعرَاق فتفقه أَيْضا هُنَالك وَعَاد بَلَده وَكَانَ يَقُول ناظرت عُلَمَاء الْعرَاق وأقمت عَلَيْهِم الْحجَج حَتَّى رددت جمَاعَة مِنْهُم عَن مذاهبهم وَيَقُول لأهل مذْهبه لَو نزلت الْيمن لرددت أَهله إِلَى مَذْهَب الاعتزال ثمَّ بعد ذَلِك نزل الْيمن عَازِمًا على مناظرة فقهائه فَلَمَّا صَار بإب وَاجْتمعَ بِالْإِمَامِ سيف السّنة ناظره فَقَطعه وَأسْقط حجَّته وَقيل لَهُ لَو نزلت عَن النقيل إِلَى ذِي أشرق للقيت بحرا تغرق فِيهِ وأمثالك يعنون يحيى بن أبي الْخَيْر فَلم يطق الْخُرُوج عَن إب وهم أهل السّنة بِهِ يضربونه فَخرج هَارِبا وَلحق بالحصن الْمَذْكُور فَلَمَّا اجْتمع بالفقيه عَليّ فِيهِ قَالَ الْفَقِيه عَليّ وَلما علم مَا أَنا عَلَيْهِ من الْقُدْرَة على مناظرته كَانَ يَأْمر لي بكفاية الْحَال وَأَن لَا أتعرض لمناظرته وَأَنا إِذْ ذَاك أود مناظرته لَكِن يَمْنعنِي عَنْهَا عدم الْحَاكِم برد الظَّالِم والمميز بَين الْقَائِم والنايم والمكلوم والسالم ثمَّ لما صَار بشواحط وَعلمت أَن صَاحبه متصف بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدّمَة لحقته من إب إِلَيْهِ فَوجدت المعتزلي قد كَاد يستميل الشَّيْخ صَاحبه وَأَهله وَجعل يدرس أَصْحَابه يحضرهم وَيَقُول لَوْلَا أَنِّي عَارِف لم أدرس مذهبي بِغَيْر بلدي مَعَ غير أهل مذهبي وَيَقُول لَهُم إِنِّي لم أرد نزُول الْيمن الْأَسْفَل وَلَو نزلته لم يتَأَخَّر عَن إجَابَتِي أحد فيتوهمون صدقه فَلَمَّا قدمت ارتاب من قدومي وتبلبل قلبه لما كَانَ قد أحسه مني بإب وَلما علم أنني إِنَّمَا لحقته لغَرَض المناظرة قوي عزمه وَقَالَ هَذَا رجل تهامي عَاجز عَن المناظرة فِي الْأُصُول لَا سِيمَا الدِّينِيَّة فَقلت لصَاحب الْحصن هَذَا رجل قد أرجف عَلَيْكُم بِالْبَاطِلِ وَجعله بالهذيان بِصُورَة الْحق قَالَ الشَّيْخ فَمَا الَّذِي تطلب قَالَ تجمع بَيْننَا ونتناظر بَين يَديك فَمن وجدته خرج عَن الْقَاعِدَة الَّتِي قعدناها كنت الْحَاكِم عَلَيْهِ بالإبطال فَأَجَابَنِي إِلَى ذَلِك وجمعنا عِنْده بِحُضُور أَصْحَابه وَجَمَاعَة أَهله وحشمه واستفتحنا المناظرة فِي خلق الْأَعْمَال وَأَن الله يَقُول {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} وَحين استفتحت المناظرة مِنْهُ سوء أدب فَقلت مَالك وَلِهَذَا الْكَلَام الَّذِي لَا يجمل وَلَا يَلِيق بِأَهْل الْعلم والمنتسبين إِلَيْهِ وَالْفُقَهَاء يَقُولُونَ سفه أحد الْخَصْمَيْنِ دَلِيل على قلَّة علمه وَضعف مَعْرفَته فَقَالَ لي سامحني
فَقلت سامحك الله ثمَّ عَاد معي إِلَى الْمَسْأَلَة فَلم يخرج عَنْهَا حَتَّى انْقَطع فِي عدَّة مسَائِل ثمَّ سكت وَصَارَ يَتلون غَضبا فَلم أر أحدا من المنتسبين إِلَى الْفِقْه وَالْعلم والمناظرة أبلد مِنْهُ وَصَارَ مُنَكسًا رَأسه مطرقا وَأَصْحَابه كَذَلِك فحين رَأَيْت ذَلِك قلت لَهُ النَّصِيحَة فِي الدّين فَأَنا أعلم لَا تقبلهَا لَكِن خُذ مني نصيحة تنفعك فِي دنياك الله الله لَا تناظر وَلَا تحاج بعْدهَا فَقِيها جدليا فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا الجدل وَقد كنت أَظُنك قَرَأت شَيْئا من كتب الْأُصُول والجدل محققا وَلَوْلَا ذَلِك لم أَتكَلّم مَعَك فِي شَيْء من ذَلِك وَالْعجب كَيفَ تكون بِهَذَا الْحَال وَتقدم بِلَاد الْعلمَاء والفضلاء وَتظهر مَقَالَتك وتظن تظفر بهم أَو تظهر عَلَيْهِم وَهَذَا حالك وَلم تبلغ غير إب فَكيف لَو نزلت إِلَى ذِي أشرق لوجدت بحرا تغرق فِي موجه وَإِذا عرفت قدر نَفسك وَمَا أرى أَنَّك كنت تخلص فَلَا تغتر بعْدهَا بمقالتك فرأيته وَقد طَار عقله وَظهر فزعه ثمَّ الْتفت إِلَى صَاحب الْحصن وَقَالَ يَا شيخ مُحَمَّد يُقَال لي هَذِه الْمقَالة بمجلسك فَقَالَ لَهُ إِن الله تَعَالَى يَقُول فِي الَّذين قَالُوا كمقالتك يظنون بِاللَّه غير الْحق ظن الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء قل إِن الْأَمر كُله لله ثمَّ تَلَوت إِلَى قَوْله تَعَالَى {إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور} وَكفى وَالله بِآيَة من كتاب الله حجَّة عَلَيْكُم وَهِي قَوْله تَعَالَى {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء} وَقَالَ الله فِي مَوضِع آخر {يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وَلَقَد قَالَ إِبْلِيس خيرا من مَقَالَتك أَنْت وَأهل مذهبك حَيْثُ قَالَ {رب بِمَا أغويتني} وَقَالَ نوح وَلَا ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم إِن الله يُرِيد أَن يغويكم فَصَارَ يسمع كَلَامي وَلم يجب جَوَابا فَضَحِك جمع من الْحَاضِرين حَتَّى استلقوا على أقفيتهم فأوردت عَلَيْهِ أَدِلَّة كَثِيرَة نَحوا مِمَّا ذَكرْنَاهُ فَقَالَ المعتزلي مَا رَأَيْت مثلك يحلف على مَا يَقُول فَقلت هَل سمعتني أَحْلف إِلَّا على ديني إِذا أَنا بِحَمْد الله على حَقِيقَة مِنْهُ وأشير عَلَيْك أَن لَا تحلف إِلَّا أَن تكون على يَقِين من عجز عَن الْحجَّة بعد دَعْوَاهَا ولي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة حَسَنَة حَيْثُ قَالَ الله ويستنبئونك أَحَق هُوَ قل إِي وربي إِنَّه الْحق أفتراه إِلَّا قد أمره بِالْحلف على دينه فزاده ذَلِك خرسا
وبكما وعمى ثمَّ قَالَ لصَاحب الْحصن يَا شيخ مُحَمَّد سُبْحَانَ الله أنال هَذَا الْكَلَام مَعَك وَفِي مَنْزِلك فَلم يقل الشَّيْخ شَيْئا غير اصْفَرَّتْ الشَّمْس وضاق وَقت الصَّلَاة وَذَلِكَ بعد تعجب الْحَاضِرين وَضحك كثير مِنْهُم لما كَانَ يَدعِي عِنْدهم من عجز كل وَاحِد عَن مناظرته وتحققوا كذبه
ثمَّ إِنِّي قُمْت إِلَى صَلَاة الْعَصْر وصلينا مَعَ الشَّيْخ وَاعْتَزل المعتزلي بِأَصْحَابِهِ يُصَلِّي مُنْفَردا وَلما صرت بالملحمة سَأَلَني الْفُقَهَاء عَن كَيْفيَّة المناظرة فاستكتبوها وأمليتها عَلَيْهِم وَلما صَار إِلَى قَرْيَة العقيرة باستدعاء من أَهلهَا كتبُوا عَنهُ أَيْضا ذَلِك عَليّ مَا أملاهم وَمن بَعضهم نقلت ذَلِك الْمَعْنى غَالِبا وَلم يزل هَذَا الْفَقِيه بقرية العقيرة الْمُقدم ذكرهَا إِلَى أَن توفّي وَتوفيت والدته بهَا على رَأس سبعين وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا
وَقد عرض مَعَ ذكره ذكر الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد المسكيني وَهُوَ رجل كَبِير الْقدر من قوم يعْرفُونَ ببني مِسْكين بَيت رئاسة مُتَقَدّمَة متأثلة وَكَانُوا يملكُونَ غَالب السحول ونواحي من بعدان وحصن شواحط وَتُوفِّي هَذَا مُحَمَّد ثمَّ خَلفه أَخُوهُ أَحْمد ثمَّ ابْنه سعيد فَلَزِمَهُ سيف الْإِسْلَام سَابِع وَعشْرين من شعْبَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ توفّي بعد أَن سلم الْحصن ثَانِي لُزُومه وَكَانَت وَفَاته بِذِي الْقعدَة سنة 588 ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن أَحْمد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عليان بن مُحَمَّد بن يحيى بن مُحَمَّد الربيعي ثمَّ الْمليكِي ثمَّ الرعيني ثمَّ الْحِمْيَرِي يعرف بالأكنيتي نِسْبَة إِلَى عزلة تعرف بإكنيت بخفض الْهمزَة وَسُكُون الْكَاف وخفض النُّون وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وخفض التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهِي على قدر مرحلة من الْجند وَهَذَا الْمُنْتَشِر عَنهُ سَماع الْبَيَان بطرِيق الْفَقِيه عبد الله إِذْ أَخذ عَنهُ وَعلم بِهِ فِي صدر الدولة المظفرية فاستدعاه أعيانها ووزراؤها واستدعاه السُّلْطَان أَيْضا فَسَمعهُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَوْجُودا إِلَى نَحْو عشْرين وسِتمِائَة وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْفَقِيه عبد الله سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك مَعَ ذكر الْفَقِيه عبد الله وَقد أَخذ الْبَيَان عَن هَذَا أَحْمد جمَاعَة أَيْضا مِنْهُم ابْنه سبأ وَابْن أَخِيه فضل بن عبد الرَّزَّاق بن عبد الله وَأخذ عَنْهُمَا أَيْضا لَكِن طَرِيق عبد الله طبقت الْيمن انتشارا وَلم أتحقق تَارِيخ مَوته لَكِن لم يَعش بعد سِتّ عشرَة مَا يُجَاوز الْعشْرين سنة بعد سِتّمائَة
وَمن السُّرَّة مِمَّن عده ابْن سَمُرَة فِي أهل طبقته عبد الله بن أبي بكر قَالَ وَعبد الله بن فلَان من عرز بِفَتْح الْمُهْملَة وَالرَّاء وَسُكُون الزَّاي وَمن الظرافة الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَولا على ابْن سعيد المحابي وَمن الوزيرة فضل بن أبي بكر الأقطع وَعبد الله بن بسطَام من سلاطين بني نمر الَّذين مِنْهُم الْفَقِيه مُحَمَّد بن حميد
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن معمر الزوقري وَعبد الله بن مُسلم الكشيش وأسعد بن مَرْزُوق بن أسعد مَسْكَنه الصَّوْم وَأحمد بن أبي الْقَاسِم فَقِيه شَاعِر هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة لم يعدهم ابْن سَمُرَة فِي أَصْحَاب الشَّيْخ وعددتهم مَعَ أهل بلدهم
وَمن جبل عَنهُ مُحَمَّد بن أسعد مَسْكَنه سودان بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَالْوَاو ثمَّ دَال مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ نون وَنسبه فِي حراز وَله بالناحية قرَابَة يعْرفُونَ ببني صَالح يتسمون بالفقه وينسبون إِلَى الصّلاح ويتولون أَحْكَام ناحيتهم وَرُبمَا عرض بعد ذكر أحد مِنْهُم وَكَانَ هَذَا مُحَمَّد فَقِيها فَاضلا قَرَأَ على الإِمَام يحيى الْمُهَذّب وَالْبَيَان
وَمِنْهُم عَليّ بن أَحْمد بن زيد المسابي ثمَّ الْحِمْيَرِي كَانَ فَقِيها فَاضلا وَله شعر رائق وَلما هم بمراجعة بَلَده ومفارقة شَيْخه الإِمَام يحيى قَالَ أبياتا فِي وداعه مِنْهَا ... أستودع الله فِي نخلان لي قمرا
هَذَا مَا ذكره ابْن سَمُرَة وَمِنْهُم أَبُو بكر بن الْفَقِيه عبد الله بن عبد الرَّزَّاق مقدم الذّكر فِي أهل ذِي أشرق مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَقيل ثَلَاث وَعشْرين وَخَمْسمِائة تفقه بِالْإِمَامِ أَيْضا وبأبي بكر بن سَالم رويت لَهُ منزلَة فِي الْجنَّة وَكَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي ولي قَضَاء لحج من جِهَة عُثْمَان السهلي نَائِب شمس الدولة بعدن ونواحيها وَلم يزل هُنَاكَ قَاضِيا إِلَى سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمن السفال الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَولا جمَاعَة مِنْهُم سَالم بن الشعثمي اليافعي ضبط أَبِيه بالشين الْمُعْجَمَة بعد ألف وَلَام ثمَّ بعْدهَا عين مُهْملَة سَاكِنة وثاء مُثَلّثَة
مَفْتُوحَة وَمِيم ثمَّ يَاء نسب لم أتحققه وَلَعَلَّه من إب وَأما اليافعي فَظَاهر بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت قَبيلَة قد انتسب إِلَيْهَا قَاضِي الْجند وَغَيره خرج مِنْهَا عدَّة فضلاء وَهِي من قبائل الْيمن المعدودة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْفَقِيه الصَّالح عمر بن إِسْمَاعِيل بن عَلْقَمَة مقدم الذّكر مولده سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وتفقه بِعَبْد الله بن يحيى الصعبي مقدم الذّكر وَقد أَخذ عَن الإِمَام يحيى أَيْضا وَعَن أَحْمد بن أسعد بن الْهَيْثَم وَإِلَيْهِ انْتَهَت خطابة بَلَده وإمامتها ورئاسة تدريسها وفتواها وَكَانَ جميل الْخلق مديد الْقَامَة بِحَيْثُ كَانَ بعض الْفُقَهَاء يَقُول مَا أشبهه بقول الشَّاعِر ... إِذا ضبط السّير مد سرادقا ... عَلَيْهِ من الله الإلهي مَضْرُوب ... حكى أَنه حصل على يَده مظْلمَة فنزلوا الْجند يَشكونَ إِلَى السُّلْطَان إِذْ كَانَ بهَا وَلم يعْذر الْفَقِيه عَن النُّزُول مَعَهم فَمروا بِبَعْض أزقتها عِنْد عَرَبِيّ فعل يتَأَمَّل الْفَقِيه ويتعجب من حسن خلقه وبهجته وكماله ثمَّ قَالَ مَا أَظن هَذَا الرجل خليقا إِلَّا من أكل الْبر وَاللَّحم وَشرب الْخمر فَسمع ذَلِك بعض من كَانَ مَعَ الْفَقِيه فَقَالَ للفقيه فَتَبَسَّمَ وَقَالَ وَالله مَا أعرف اسْم الْخمر إِلَّا من الْكتب وَقد ذكرت أَنه أحد من حضر سَماع صَحِيح مُسلم بِجَامِع الْجند على الإِمَام سيف السّنة ومخالفته لَهُ فِي الْجَواب وَكَانَ فَقِيها مبرزا نظيف الْفِقْه لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَفِي أَيَّامه جَاءَ الإِمَام يحيى ذُو السفال وتفقه بِهِ جمَاعَة وَمِنْهُم مُحَمَّد بن جديل وَمُحَمّد بن كُلَيْب البحري ثمَّ الْخَولَانِيّ كِلَاهُمَا من سهفنة وَأحمد بن عبد الله بن أسعد بن مُسلم القَاضِي مِنْهَا وَيَعْقُوب بن يُوسُف بن سحارة من حضر موت وَسكن المخادر وَكَانَت وَفَاته بالقرية الْمَذْكُورَة سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وقبر بالمقبرة الغربية الَّتِي بهَا قبر أَبِيه زرته بِحَمْد الله مرَارًا وَبَين تربته وتربة أَبِيه تبَاعد قَلِيل فَليعلم ذَلِك
وَمِنْهُم عَليّ بن أبي بكر بن دَاوُد القريظي أَصله من لحج ثمَّ سكن زبيد وَبهَا توفّي سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وأظن هَذَا جد الْفَقِيه الْآتِي ذكره آخرا
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله بن مُفْلِح الْحَضْرَمِيّ كَانَ من كبار أَصْحَاب الإِمَام وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي خطْبَة الْمُشكل حَيْثُ قَالَ سَأَلَني بعض من يعز عَليّ سُؤَاله ويعظم عِنْدِي قدره وحاله
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ من تريم قَرْيَة قديمَة كَبِيرَة بحضر موت بتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وخفض الرَّاء ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ مِيم تفقه بِالْإِمَامِ وَأخذ
عَنهُ الحَدِيث أَيْضا وَكَانَ كَامِل الْفضل تعلم الْفِقْه وَالْأَدب
وَمن نَاحيَة الْجند ثمَّ من قَرْيَة زبران أَبُو أُسَامَة زيد بن الْفَقِيه عبد الله بن أَحْمد الزبراني مقدم الذّكر مولده سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة بِهِ تفقه جمَاعَة مِنْهُم عمر بن سَمُرَة مؤلف طَبَقَات أهل الْيمن وَمُحَمّد بن أَحْمد الصعبي وَأحمد بن مقبل الدثني
وَمِنْهُم عبد الله بن مَسْعُود وَكَانَ فَقِيها مجودا تفقه بالمليكي والسلالي وَأخذ عَن الإِمَام قَالَ ابْن سَمُرَة وَابْنه هُوَ أَبُو بكر هُوَ الْمدرس فِي هَذِه الْمدَّة بالجبابي تفقه بِمُحَمد وَعبد الله ابْني سَالم الأصبحيين مقدمي الذّكر وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن الْفَقِيه سَالم الْأَصْغَر مقدم الذّكر
مولده شعْبَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة بداية تفقه بِأَبِيهِ وبمقبل بن مُحَمَّد وَعبد الله بن عبد الرَّزَّاق وَهُوَ أحد أَشْيَاخ ابْن سَمُرَة أثنى عَلَيْهِ ثَنَاء مرضيا وَقَالَ وَكَانَ هَذَا زاهدا ورعا شَائِع الذّكر لذَلِك قدم السُّلْطَان توران شاه إِلَيْهِ ذَا أشرق زَائِرًا لَهُ إِذْ بلغه صَلَاحه فتبرك بِهِ واستسعد بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ الدُّعَاء فَدَعَا لَهُ بالصلاح وَهُوَ أحد شُيُوخ ابْن سَمُرَة أَيْضا وَأول شُيُوخ أبي بكر بن إِسْحَاق الجبائي توفّي لعشر بَقينَ من الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة وقبره بالعدينة مَعَ قُبُور أَهله شَرْقي قبلي ذِي أشرق زرتهم مرَارًا
وَمِنْهُم ابْن أَخِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه سَالم وَهُوَ ابْن بنت الإِمَام زيد اليفاعي مولده صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة كَانَ فَقِيها خيرا وَهُوَ الَّذِي روى أَن مَال جده زيد الْمبلغ الْمَذْكُور أَولا مَعَ ذكره وَتُوفِّي لتسْع خلون من الْمحرم سنة خسمائة وثماني وَسبعين وَله أَخَوان أَحْمد وَعلي وأظنهما شقيقين ولد أَحْمد بشعبان سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة وَولد عَليّ فِي الْمحرم سنة عشر وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله مولده صفر سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة انْتَهَت إِلَيْهِ رئاسة الْفَتْوَى بِذِي أشرق وَكَانَ مجودا توفّي فِي سنة تسعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَخُوهُ أسعد بن عبد الله مولده ربيع الأول سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَلَهُمَا أَخ اسْمه عَليّ لم أَجِدهُ فِي الْأَسْمَاء
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْفَقِيه أبي بكر بن الْفَقِيه سَالم يلقب بالضرغام مولده جُمَادَى الأخرة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ صَالحا تقيا وَله ذُرِّيَّة موجودون بالقرية إِلَى سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم صنوه عَليّ بن الْفَقِيه أَبُو بكر بن الْفَقِيه سَالم مولده شبعان سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن حديق وَأَخُوهُ أَحْمد بن عَليّ وَعمر بن سَمُرَة وَغَيرهم وَتُوفِّي بجمادى الأولى سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تفقه بأَخيه كَمَا مضى وَهُوَ آخر من ذكره ابْن سَمُرَة فِي بني الإِمَام
قَالَ توفّي أَحْمد سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمن نَاحيَة المشيرق بِبِلَاد بني حُبَيْش جمَاعَة مِنْهُم عمر بن ربيع وَعمر بن أبي بكر بن أبي حبال وَمُحَمّد بن ثعالة بن مُسلم اليافعي وَعِيسَى بن مُفْلِح وَأحمد بن سلمَان الشبويان ينسبان إِلَى قَرْيَة تعرف بشبوة بِفَتْح الشين وَسُكُون الْبَاء وَفتح الْوَاو ثمَّ هَاء سَاكِنة وموفق بن مبارك من قَرْيَة ألخ بِضَم الْهمزَة وَسُكُون اللَّام ثمَّ خاء مُعْجمَة وَهِي بِجِهَة بلد بني حُبَيْش قَالَ ابْن سَمُرَة وَالثَّلَاثَة المذكورون آخر من لقيتهم بِجَامِع ألخ ينسخون كتاب الِانْتِصَار للْإِمَام يحيى وسألوني عَن مسَائِل فأجبتهم بِمَا وفْق الله تَعَالَى وَذَلِكَ سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَمن أَبنَاء عَمه مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ وَمِنْهُم أسعد بن مَسْرُوق بن فتح بن مِفْتَاح وَهُوَ ابْن أخي الْفَقِيه سُلَيْمَان بن فتح الْمُقدم ذكره قَالَ ابْن سَمُرَة سمع يَعْنِي أسعد بِقِرَاءَتِي التِّرْمِذِيّ على شَيْخي أبي بكر الإِمَام بِذِي أشرق وَذَلِكَ سنة سبعين وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَحْمد بن زيد بن عبد الله الخلقي الْهَمدَانِي وَأَبُو بكر بن سَالم الْحرَازِي
وَمِنْهُم أَحْمد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى ولي قَضَاء الْجند ذكره ابْن سَمُرَة بذلك وَكَانَ آخر من ذكره ابْن سَمُرَة من بني عمرَان وَسَيَأْتِي ذكر انْتِقَال الْقَضَاء مِنْهُم إِلَى وَقت انقضائه عَنْهُم
وَمِنْهُم أَخُوهُ حسان بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى مولده سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها درس بحصن الظفر لبَعض مَشَايِخ الأعروق وَبِه تفقه جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد بن مقبل الدثني وَلم يفرده ابْن سَمُرَة بِذكر بل فِي معرض ذكر الْفَقِيه الْآتِي ذكره وَكَانَ لَهُ ابْن اسْمه عبد الله توفّي فِي بعدان تفقه وَذكر بذلك سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَهَذَا آخر من فهمت اسْتِحْقَاقه للذّكر من بني عمرَان من أهل الطَّبَقَة وانقضى ذكر من أوردهُ ابْن سَمُرَة وعد صاحبا للشَّيْخ يحيى بن أبي الْخَيْر وَبَقِي جمَاعَة فِي طبقتهم مِنْهُم سعيد بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل المسكيني صَاحب حصن شواحط وَقت دُخُول سيف الْإِسْلَام الْيمن كَانَ فَقِيها فَاضلا أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة وَقَالَ رويت عَنهُ كتاب النَّجْم بروايته لَهُ
عَن مُصَنفه وَقَالَ أَخْبرنِي الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر أَنه قَالَ الشَّيْخ سعيد بن أَحْمد يصلح للْفَتْوَى وَكَانَ هَذَا سعيد حَال قدوم سيف الْإِسْلَام الْيمن مَالِكًا لحصن شواحط الْمُقدم ذكره فسلمه لسيف الْإِسْلَام بعد أَن قَبضه ثمَّ أَقَامَ بِبَعْض الْجِهَات حَتَّى توفّي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بِذِي الْقعدَة
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن مُحَمَّد الْعَنسِي الوعلي فالعنسي نِسْبَة إِلَى فَخذ من مذْحج يُقَال لَهُم العنس بِالْعينِ وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ سين مُهْملَة والوعلي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من بلد صهْبَان تعرف بوعل بِفَتْح الْوَاو وبخفض الْعين الْمُهْملَة ثمَّ لَام مسكنة الْقرْيَة الْمَذْكُورَة وَله بهَا إِلَى الْآن ذُرِّيَّة وَكَانَ فَاضلا متأدبا وَله اجْتِهَاد مرض وَشعر معجب وَكَانَ يُنكر على الْفُقَهَاء مَسْأَلَتَيْنِ هما عدم القَوْل بِطَلَاق التَّنَافِي وَصِحَّته ثمَّ الْحِيلَة فِي الزِّيَادَة على مَا يَأْخُذهُ الْمُقْتَرض كَمَا يَقُول أهل الْقَرْض الْحِيلَة فِي الزِّيَادَات طَرِيق الرِّبَا
وَكَانَ يَقُول فِي إِيقَاع الطَّلَاق على الْحَبْس هُوَ حِيلَة على رفع الطَّلَاق بعد وُقُوعه وَفِي الزِّيَادَة فِي البيع فَهِيَ حِيلَة على استحلال مَحْض الرِّبَا وَله فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قصيدتان مشهورتان مِنْهُمَا فِي إِنْكَار التَّنَافِي قَوْله ... طَلَاق التَّنَافِي قد نفى الْحق ظَاهرا ... وَإِنِّي لَهُ وَالله يشْهد لي أنفًا
إِذا طلق الزَّوْج الْمُكَلف زوجه ... ثَلَاثًا وَلَيْسَ بمحجور عَلَيْهِ فقد أوفى
وَلَيْسَت حَلَالا دون تنْكح غَيره ... بِشَرْط كتاب الله مَا قلته خلفا
تصحح شَرط الله دون اشتراطكم ... وتنفيه نفيا ثمَّ تصرفه صرفا
فَكل اشْتِرَاط لَيْسَ فِي الشَّرْع بَاطِل ... وَشرط كتاب الله حق فَلَا يخفى
وَلَا يَنْتَفِي رفع الطَّلَاق بحيلة ... وحيلتكم فِيهِ أَحَق بِأَن تنفى
فأقسم مَا تحليلها بِطَلَاقِهَا ... هُوَ الْحق إِلَّا بَاطِل قسما حلفا
تحلونها فِيهِ وتحريمها بِهِ ... فَصَارَت بِمَا بَانَتْ محبسة وَقفا
فَأَيْنَ بقول الله وقف نِسَائِكُم ... وَتَصْحِيح مَا قُلْتُمْ فتعرفه عرفا
فَإِن لحكم الْحق فِيهِ أَدِلَّة ... وكل ابتداع مُحدث فِيهِ لَا يخفى
لَئِن كَانَ للتدقيق هَذَا فَتَركه ... من الْفَرْض وَالتَّحْقِيق وَالْمذهب الأصفى ...
. . فكم من أنَاس دققوا فتزندقوا ... فصاروا بِهِ عَن علم فهم على الأشفى
فيا عمرا لَو قُلْتُمُوهَا بوقته ... لأثخن فِيكُم ثمَّ جاهدكم زحفا
أعوذ بربي من تكلّف حِيلَة ... وَترك كتاب نوره الدَّهْر لَا يطفا
أأطلب تربا للتيمم عَامِدًا ... وَعِنْدِي مَاء الْبَحْر أغرفه غرفا
فَأبْطل بهَا من حِيلَة مستحيلة ... وَأعظم بِحكم صَار من أجلكم حيفا
فأعظم بهَا من فتْنَة ومصيبة ... لَهَا تذرف العينان من دمعها ذرفا
تصحح فرعا وَهُوَ تَعْلِيق طَلْقَة ... وَيسْقط أصلا وَهُوَ شَرط لَهَا حتفا ... وَهِي طَوِيلَة على مَا ذكر ابْن سَمُرَة لَكِن أخذت مِنْهَا الْغَرَض الْمَقْصُود وَله قصيدة فِي بطلَان حِيلَة الرِّبَا أوردت مِنْهَا مَا ذكر ابْن سَمُرَة برمتِهِ مِنْهَا ... الْحق أضحى غَرِيبا لَيْسَ يفتقد ... وكل مَا قَالَه فِي النَّاس يضطهد
لَا يقبل النَّاس قَول الْحق من أحد ... حَتَّى يَمُوت ويفنى الْكبر والحسد
مَا كل قَول لأهل الْعلم منتفع ... كلا وَلَا كل فعل مِنْهُم زبد
هم هم خير من فِيهَا إِذا صلحوا ... وَشر دَاء من الأدواء إِن فسدوا
فَمنهمْ كل مَعْرُوف وصالحة ... وَمِنْهُم تفْسد الأقطار والبلد
مَا شقَّتْ أمة إِلَّا بشقوتهم ... يَوْمًا وَلَا سعدت إِلَّا إِذا سعدوا
أضحى الرِّبَا قد فَشَا من أجل حيلتهم ... فِي كل أَرض سوى أَرض بهَا فقدوا
وَالله حرم مَعْنَاهُ وباطنه ... وَمَا لَهُم فِيهِ برهَان وَلَا سَنَد
يَا بَائِعا ثَوْبه حَتَّى يعادله ... أَلَيْسَ يعلم ذَاك الْوَاحِد الصَّمد
سُبْحَانَهُ من حَلِيم بعد قدرته ... وعالم مَا أرادوه وَمَا قصدُوا
هَل قَالَ هَذَا رَسُول الله وَيحكم ... أَو قَالَ ذَلِك من أَصْحَابه أحد
أم غَابَ عَنْهُم دَقِيق الْعلم دونكم ... أم باكتساب حَلَال الرِّبْح قد زهدوا
وَالْعلم يُورث عَن رسل الْإِلَه كَمَا ... يحوز بِالْإِرْثِ مَال الْوَالِد الْوَلَد
عَمَّن رويت التَّنَافِي والربا وهما ... لكل مهلكة أَو بَاطِل عضد
من أجل أَيهمَا أقصي الْمحَال فَإِن ... جازا فَلَا بَاطِل من بعد ينْتَقد ...
وَلم يرو ابْن سَمُرَة من شعره فِي هَذِه الْمَسْأَلَة غير هَذِه الأبيات وَذكر أَنَّهَا أَكثر من ذَلِك وَلما بلغ ذَلِك من قَوْله إِلَى الشَّيْخ عبد الله بن يحيى وَإِلَى الإِمَام يحيى شقّ عَلَيْهِمَا وغاظهما كَلَامه الْخَارِج عَن ميدان الْفِقْه وَأمر ابْنه طَاهِرا أَن يرد عَلَيْهِ كَلَامه فَرد عَلَيْهِ بِكِتَاب صنفه وَسَماهُ الِاحْتِجَاج الشافي بِالرَّدِّ على المعاند فِي طَلَاق التَّنَافِي
وسافر هَذَا الْفَقِيه إِلَى مَكَّة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَصَحبه الشَّيْخ مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الْحُسَيْن والفقيه حسان بن مُحَمَّد بن مُوسَى مقدم الذّكر وعادوا سَالِمين فَتوفي بقريته بوعل سنة 567 وَهَذَا مُحَمَّد عُثْمَان كَانَ من أَعْيَان زَمَانه على مَا قبل ورؤساء بني عمرَان صَاحب إطْعَام وإحسان على مَا قيل وَكَانَ للفقيه الْمَذْكُور ابْن اسْمه عَليّ توفّي بعد أَن تفقه وَكَانَ فَقِيها فَاضلا يَقُول الشّعْر أَيْضا توفّي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمن الأنصال إِحْدَى قرى العوادر الْمُعْتَمدَة أَحْمد بن زيد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عمر الْيَزنِي كَانَ مفتي نَاحيَة بَلَده تفقه بِالْإِمَامِ يحيى ووقف نُسْخَة بَيَان على يَد شَيْخه وَتُوفِّي بالقرية لم أتحقق لَهُ تَارِيخا وَخَلفه وَلَده لم يسمه ابْن سَمُرَة
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن حُسَيْن بن أبي النهى كَانَ فَقِيها فرضيا حسابيا كَانَ مَسْكَنه إب وبجامعها كَانَت مدرسته وَكَانَ يَقُول بيني وَبَين مؤلف الْمُهَذّب رجلَانِ وبيني وَبَين مؤلف الْفَرَائِض رجلَانِ فَالَّذِي بيني وَبَين مؤلف الْمُهَذّب عمر بن عَليّ السلالي ثمَّ ابْن عبدويه وَالَّذِي بيني وَبَينه مؤلف الْمُهَذّب عمر بن يَعْقُوب وَغَيره الشَّك من النَّاقِل عَن عبد الله يَرْوِيهَا عَنهُ بِهَذَا السَّنَد وَلم يزل على الطَّرِيق المرضي إِلَى أَن توفّي لَيْلَة عيد الْفطر من سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ لَهُ ابْن عَابِد اسْمه عَليّ مَوْصُوف بأنواع الْعِبَادَة مَشْهُور بالصلاح ذكر أَن سَبَب ذَلِك أَن أَبَاهُ كَانَ مَعَه امْرَأَة غير أم الْوَلَد وَكَانَت تكرههُ كَمَا هُوَ الْغَالِب فِي طبع الخالات وَكَانَت كثيرا مَا تكَرر على أَبِيه مِنْهُ مَا لَا يحسن وتحرضه ثمَّ إِنَّه خرج ذَات يَوْم يَأْتِي الْحَطب فَلَمَّا جَاءَ وَهُوَ جَائِع سَأَلَ خَالَته أَن تطعمه فَقَالَ القشير بالمشتو بِكَلَام جَاف
فَأخذ حجرا ورجم المشتو حَتَّى كَسره وَأَبوهُ إِذْ ذَاك غَائِب عَن الْبَيْت وَخرج الصَّبِي فوصل أَبوهُ فَأَخْبَرته امْرَأَته بِمَا فعل وَلَده وَكَبرت عَلَيْهِ ذَلِك فشق عَلَيْهِ وَخرج مغضبا حَتَّى أَتَى الْجَامِع فَأمر الدرسة بِالطَّهَارَةِ والاجتماع فَلَمَّا اجْتَمعُوا أخْبرهُم بِمَا فعله وَلَده وَأَنه يُرِيد مِنْهُم قِرَاءَة يس وَالدُّعَاء بذهابه فَقَالَ لَهُ بَعضهم لَا يَا سيدنَا أَلا يكون الدُّعَاء لَهُ بالهداية أولى فاستصوب ذَلِك والحاضرون فقرأوا يس ودعوا لَهُ بذلك وَكَانَ سيدا كَبِيرا لزم مَقْصُورَة فِي جَامع إب وَاعْتَكف بهَا وَكَانَ غَالب أكله أصُول الْأَشْجَار يخرج لَهَا ويقتلعها ثمَّ ييبسها ويدقها ثمَّ يكون يستفها وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى توفّي بعد أَن شهِدت لَهُ كرامات كَثِيرَة
وَمن أعجبها مَا أَخْبرنِي بِهِ شَيْخي القَاضِي أَحْمد بن عبد الله العرشاني إجَازَة حَدثنَا الْفَقِيه سُفْيَان بن أبي القبايل أخبرنَا القَاضِي عَليّ بن عمر أَو القَاضِي أَحْمد بن الشَّيْخ الْحَافِظ عَليّ بن أبي بكر العرشاني مقدم الذّكر عَن الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الصَّيف قَالَ كُنَّا ذَات يَوْم واقفين بِالْحرم إِذْ سمعنَا هاتفا من الْهوى يَقُول إِن لله وليا يُسمى عَليّ بن عمر فِي الإقليم الْأَخْضَر من مخلاف جَعْفَر مَاتَ فصلوا عَلَيْهِ فصلينا عَلَيْهِ ثمَّ أرخت ذَلِك حَتَّى قدم أهل المخلاف فسألتهم عَن من مَاتَ بذلك التَّارِيخ فَقَالُوا رجل يُقَال لَهُ عَليّ بن عمر من إب ثمَّ ذَكرُوهُ بِخَير ذكر فَعلمت أَنه المعني بالنداء وتربته من الترب الْمَشْهُورَة فِي الْبركَة واستجابة الدُّعَاء
وَمن عَجِيب بركتها مَا أَخْبرنِي بعض الثِّقَات من أهل الْعِنَايَة والبحث عَن أَحْوَال هَذَا الرجل وَأَمْثَاله أَنه كَانَ على قَبره شَجَرَة سدر يتبرك بهَا النَّاس وَيَأْخُذ أَصْحَاب الحموات من أوراقها يطلون بهَا رؤوسهم فيبرأون واستفاض ذَلِك فِي جِهَات كَثِيرَة حَتَّى كَانَ يُؤْتى لذَلِك من الْأَمَاكِن الْبَعِيدَة ويعتمد فِي الْأَمْرَاض الشَّدِيدَة وَمن عادات أهل إب فِي غَالب الأعياد أَن يحصل بَينهم وَبَين أهل باديتهم حروب كَثِيرَة كَمَا هُوَ مُتَحَقق فَلَا يألو من ظفر مِنْهُم بِصَاحِبِهِ غير مفكر بالأذية بقتل أَو غَيره فَحصل فِي بعض الأعياد حَرْب انتصر بهَا أهل الْبَادِيَة فَانْهَزَمَ أهل إب إِلَى الْبيُوت وَوصل أهل الْقرْيَة إِلَى قريتهم وَلم يطيقوا دُخُولهَا فَقَالَ بعض شياطينهم اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذِه الشَّجَرَة
الَّتِي يعبدونها ولنعقرها عَلَيْهِم فَلَا ينتفعوا بهَا فنهاهم الْعُقَلَاء وأسرع إِلَى ذَلِك الجهلاء فَضربُوا العلبة بفأس حَتَّى أوقعوها الأَرْض وَألقى الله بقلوب أهل الْمَدِينَة الْقُوَّة والأنفة فَخَرجُوا مُسْرِعين نحوهم فهزموهم هزيمَة شنيعة وَقتلُوا مِنْهُم جمعا أَوَّلهمْ عَاقِر الشَّجَرَة وَحين وَقع هبروه بِالسُّيُوفِ تهبيرا عَظِيما وتعرف هَذِه التربة بتربة من سمع النداء بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْحرم وَلم ير الْمُنَادِي
وَمِنْهُم أَبُو سعيد مَنْصُور بن عَليّ بن عبد الله بن إِسْمَاعِيل بن مِسْكين مولده صفر سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة تفقه بِزَوْج والدته الْفَقِيه أَحْمد بن أبي بكر بن أَحْمد التباعي وَأما هَذَا فمولده ومنشأه نَاحيَة دلال بقرية تيثد الْمُقدم ذكرهمَا وقدمتهما سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة لغَرَض الزِّيَادَة والفحص عَن آثَار الأخيار فِيهَا وزيارة تربته فَلم أكد أجد أحدا من أهل الْعِنَايَة بذلك غير أَنه أخرج لي فَقِيه الْقرْيَة وَإِمَام الْجَامِع بهَا كتابا بِهِ أَخْبَار يسيرَة لم يكن بِهِ شَيْء من أَخْبَار هَذَا الْفَقِيه وَلَا ذكر لَهُ ابْن سَمُرَة تَارِيخا وَلَعَلَّه كَانَ حَيا بِزَمَانِهِ
وَمِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه يحيى بن مُحَمَّد الْمَذْكُور أَولا من أهل الملحمة وَفِي أَصْحَاب اليفاعي وَصَاحب الشّعْر الَّذِي مدح بِهِ شَيْخه زيد اليفاعي مولد عبد الله سنة ثَلَاث وَعشْرين وَخَمْسمِائة وتفقهه بتلميذ أَبِيه مُحَمَّد بن سَالم الأصبحي وَتُوفِّي سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم أَبُو يحيى فضل بن أسعد بن جَعْفَر بن أبي سَالم الْمليكِي ثمَّ الْحِمْيَرِي قدم وَالِده أسعد من ردمان وَسكن موضعا من دلال وأولد ابْنه فضلا هُنَاكَ فِي شهر صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا وَقَالَ هُوَ فَقِيه مجود ارتحل إِلَيْهِ الْأَصْحَاب رَغْبَة فِي علمه وَكَرمه وَابْنه يحيى سيأتى ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ ابْن سَمُرَة وَهَذَا فضل بن يحيى هُوَ مدرس الملحمة الْآن يَعْنِي فِي عصره وَذَلِكَ لنيف أَو بضع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة إِذْ لم أجد
لِابْنِ سَمُرَة مَا يرشدني أَنه بلغ التسعين وَلما قدمت الملحمة بالتاريخ الْمُتَقَدّم لم ألق أحدا من ذُريَّته يسكنهَا وَإِنَّمَا يسكنون قريتين من جبل بعدان وهما على قرب من الملحمة وتعرف إِحْدَاهمَا بالنظارى وَالْأُخْرَى بالمحيب سَيَأْتِي ذكر من تديرهما مِنْهُم إِن كَانَ مُسْتَحقّا لَهُ وَقد دخلت القريتين للبحث عَمَّا أَنا أقصده فَأخْرج بعض ذُريَّته كتابا فِيهِ تَارِيخ جَمَاعَتهمْ فَأخذت مِنْهُ تَارِيخ من قد تحققت اسْتِحْقَاقه للذّكر فَذكر أَن وَفَاة يحيى هَذَا كَانَت بقرية الملحمة لعشر خلون من الْمحرم مستهل شهور سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم أَحْمد بن أسعد وَولده عبد الله كَانَ جوالا فِي الْبِلَاد وغلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة وَكَانَا فاضلين بِالْقُرْآنِ وَغَيره
وَمن نواحي الْجند ثمَّ من سَوْدَة جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عبد الله سلمَان بن أسعد بن مُحَمَّد الجدني ثمَّ الْحِمْيَرِي وَهُوَ فِي السماية إِلَى سلمَان الْفَارِسِي لَا إِلَى النَّبِي سُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحققت ذَلِك لِأَنِّي وجدت كثيرا من النَّاس يخطئون فِيهِ بِنسَب قومه إِلَى ذِي جدن أحد أذواء حمير
وَمِنْهُم جمَاعَة كَثِيرَة يسكنون فِي الْقرْبَة المكذورة وَمَا والاها من قرى النجاد وقرية الْفَقِيه بَاقِيَة إِلَى الْآن ضَبطهَا بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهِي قرى صقع يعرف بالنجاد بخفض النُّون الْمُشَدّدَة بعد ألف وَلَام وَفتح الْجِيم ثمَّ ألف ثمَّ دَال مُهْملَة وَهِي من مَدِينَة بلدي الْجند وَهِي على ثلث مرحلة فِيهَا غربي يَمِينهَا تفقه هَذَا الْفَقِيه بعلي بن أَحْمد اليهاقري الْمُقدم ذكره كَانَت قريته الْمَذْكُورَة قد يطْمع بهَا الْعَدو ويغزوهم الْعَرَب إِلَيْهَا وبمشرقها جبل منيع فَأَشَارَ الْفَقِيه على قومه وَأهل قريته بالانتقال إِلَى الْجَبَل والسكون بذروته وَكَانَ فَقِيها خيرا برا بالأصحاب وَهُوَ أول من انْتقل وَبنى بَيْتا فَتَبِعَهُ كثير من النَّاس وَسَكنُوا مَعَه وَسموا الْموضع قناذر بِضَم الْقَاف
وَفتح النُّون ثمَّ ألف ثمَّ ذال مخفوضة ثمَّ رَاء وَكَانَت وَفَاته بهَا عَاشر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بعد أَن وقف كتبه أدْركْت بَعْضهَا وَقد تهدم بيد بعض ذُريَّته وَمِنْهُم بَقِيَّة تغلب عَلَيْهِم البداوة والعامية
وَمِنْهُم ابْن عَمه نسبا وتربه وخدنه أسعد بن سلمَان الجدني كَانَا متزاملين فِي الْقِرَاءَة على الْفَقِيه عَليّ بن أَحْمد اليهاقري وَكَانَ لشدَّة صفاء صحبتهما يظنّ أَنَّهُمَا أَخَوان وهما أَبنَاء عَم من جِهَة الْقبلية ومسكنهما قَرْيَة وَاحِدَة قرأا جَمِيعًا على الْفَقِيه أبي الْحسن اليهاقري هَكَذَا ذكره ابْن سَمُرَة وَلَا عقب لَهُ كَمَا لِابْنِ عَمه فَسَأَلت عَن ذَلِك فَقيل لي إِنَّه كَانَ يتعانى اسْتِخْدَام الْجِنّ واستحضارهم واصطلاح كثير من النَّاس إِن من يعاني ذَلِك لَا يعِيش لَهُ ولد فِي الْغَالِب وَلم أَقف لَهُ على تَارِيخ وَلَا ذكر ابْن سَمُرَة لَهُ وَلَا لِابْنِ عَمه تَارِيخا بل لما دخلت قريتهم وبحثت عَن شَيْء من أَحْوَالهم أُتِي لي بِشَيْء من بعض كتب الْفَقِيه سلمَان كَانَ مَعَ بعض ذُريَّته فَوجدت تَارِيخ الْفَقِيه سلمَان بِخَط قد كَانَ يضمحل
وَمن قَرْيَة العقيرة الْمُقدم ذكرهَا وضبطها أَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَقِيه عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأَغَر الْمُقدم ذكره تفقه بالهرمي كَمَا قد ذكرت أَولا كَذَا ذكر ابْن سَمُرَة وَبَعض أَهله يَقُول إِن مُعظم تفقهه أَولا بِأَبِيهِ ثمَّ ثَانِيًا بالفقيه عَليّ وَلم أتحقق تَارِيخه
وَمن الشعبانية صقع متسع فِيهِ قرى كَثِيرَة من أَعمال تعز الْبَلَد الَّذِي يديره الْملك المظفر بن رَسُول وَبَنوهُ إِلَى عصرنا وَقد تقدم ضَبطهَا مِنْهَا قَرْيَة مسكونة إِلَى الْآن سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة تعرف بكمران على قِيَاس شبه كمران كَانَ فِيهَا جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد بن أسعد الكلالي ثمَّ الْحِمْيَرِي قيل لَهُ الكلالي نِسْبَة إِلَى ذِي كلال أحد أذواء حمير كَمَا قد تقدم ذكره غير مرّة وَكَانَ تفقهه بِعَبْد الله بن يحيى الصعبي غَالِبا وبعلي بن عبد الله الهرمي وَكَانَ فَاضلا بالفقه وَالْأُصُول وَعنهُ أَخذهَا القَاضِي الْكَامِل مَسْعُود الْعَنسِي وَكَانَ لَهُ بهَا أَخَوان هما عبد الله وَعلي وأظنهما تفقها بِهِ وَمِنْهُم
أَحْمد بن الْفَقِيه عبد الله بن عَليّ الْحَرْبِيّ الْمُقدم ذكره وابناه مهْدي وَزيد كَانُوا فُقَهَاء لم أتحقق لأحد مِنْهُم تَارِيخا وَمن ذِي عدينه عَليّ بن أَحْمد بن إِسْحَاق تفقه بشيوخ تهَامَة وَمن تهَامَة ثمَّ من مخلاف السُّلَيْمَانِي نِسْبَة إِلَى الشرفاء بني سُلَيْمَان بَيت عز وكرم متأثل خرج من هَذَا المخلاف جمع من الْأَعْيَان من فُقَهَاء الطَّبَقَة فَمِمَّنْ تحققته أَبُو مُحَمَّد عمَارَة بن الْحسن بن عَليّ بن زَيْدَانَ بن أَحْمد الْحكمِي نسبا ثمَّ الْمذْحِجِي مولده فِي بضع عشرَة وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا
قَالَ ابْن خلكان وَذَلِكَ بوادي وساع فِي مَدِينَة تسمى مرطان خرج شَابًّا وَلحق بزبيد فِي طلب الْعلم فاشتغل على الْفَقِيه ابْن الْأَبَّار خَاصَّة وَأخذ عَن غَيره لكنه ذكر أَنه أَخذ عَنهُ مَذْهَب الشَّافِعِي وَذكر ذَلِك فِي مفيده وَكَانَ قد تعانى التِّجَارَة وبضاعته إِذْ ذَاك فِي الْأَدَب ضَعِيفَة وَكَانَ خُرُوجه من الْبَلَد الَّذِي ولد بِهِ لطلب الْعلم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة وَحصل بِيَدِهِ شَيْء من الدُّنْيَا سَافر بِهِ إِلَى عدن مرِيدا للتِّجَارَة فَقَدمهَا وَبهَا الأديب الْفَاضِل أَبُو بكر بن مُحَمَّد العندي فَأكْرمه وَأمره بمدح الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ وَهُوَ إِذْ ذَاك صَاحب الدعْوَة قَالَ عمَارَة فأعلمته أَنِّي لست بشاعر فَلم يزل يلازمني وَيحسن لي حَتَّى عملت قصيدا غير مرض فَأَعْرض الأديب عَنهُ وَعمل على لساني قصيدا مرضيا ذكر بِهِ الْمنَازل من زبيد إِلَى عدن وهنأ بِهِ الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ بأعراسه بابنة الشَّيْخ بِلَال بِأَلْفَاظ خاصية كِتَابِيَّة ثمَّ تولى عني نشيدها بالمنظر وَأَنا حَاضر كالصنم لَا أنطق وَأخذ لي جَائِزَة من الدَّاعِي وبلال وطيبا وَاشْترى لي بضَاعَة من المَال الَّذِي كَانَ معي ثمَّ لما عزمت على السّفر قَالَ لي يَا هَذَا إِنَّك قد اتسمت عِنْد الْقَوْم بسمة شَاعِر فطالع كتب الْأَدَب وَلَا تجمد على الْفِقْه وَكَانَ ذَلِك سَبَب تعلمه لَهُ واشتغاله بالشعر وصحبة الْمُلُوك من ذَلِك الْوَقْت فَلَمَّا أكمل من الْأَدَب وَصَارَ عينا من أَعْيَان زَمَانه لم يزل مصاحبا للملوك آل زُرَيْع خَاصَّة وَلم يكد يشهر لَهُ شعر بِأحد من مُلُوك الْيمن غَيرهم ثمَّ صَار يترسل بَين صَاحب مَكَّة الشريف ابْن فليتة وَصَاحب مصر أحد العبيديين ثمَّ تدير مصر وسكنها وَصَحب مُلُوك الفاطميين وألزمه القَاضِي
الْفَاضِل أَن يضع مجموعا متضمنا لأخبار جَزِيرَة الْيمن فعمله وَهُوَ الَّذِي يعرف بمفيد عمَارَة احْتِرَازًا من مُفِيد جياش وَله ديوَان شعر وَله شعر رَقِيق مونق وَله فِي ديوانه قصائد وأشعار كَثِيرَة يمتدح بهَا الفاطميين من أهل مصر وَجَمَاعَة من خَواص دولتهم كبني رزيك وشاور وَأُخْرَى يمدح بهَا آل زُرَيْع من أهل الْيمن وَجَمَاعَة من دولهم كالعندي وبلال وَبَعض آل بني عقامه وديوانه مَشْهُور وشعره متناقل من أحْسنه مَا قَالَه يرثي بِهِ الفاطميين ... لما رَأَيْت عراص الْقصر خَالِيَة ... عَن الأنيس وَمَا فِي الرّبع سَادَات
أيقنت أَنهم عَن ربعهم رحلوا ... وخلفوني وَفِي قلبِي حزازات
سَأَلت أبله قلبِي فِي السلو وَقد ... يُقَال للبله فِي الدُّنْيَا إصابات
فَقَالَ رَأْي ضَعِيف لَا يطاوعني ... كَيفَ السلو وَأهل الْقصر قد مَاتُوا
يَا رب إِن كَانَ لي فِي قربهم طمع ... عجل بذلك فللتسويف آفَات ... ثمَّ لم يقم بعد ذَلِك غير يسير حَتَّى شنق وَكَانُوا يَقُولُونَ ينعى على نَفسه باللحاق بهم وَكَانَ جيد الصُّحْبَة حسن الألفة وَمن شعره مَا أوردهُ ابْن خلكان قَالَ وَمن جملَة قصيدة مدح بهَا شاور ... ضجر الْحَدِيد من الْحَدِيد وشاور ... من نصر دين مُحَمَّد لم يضجر
حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ ... حنثت يَمِينك يَا زمَان فَكفر ... وَمِمَّا يدل على حسن وفائه أَنه لما انْقَضتْ أَيَّام بني رزيك فِي وزارة الفاطميين وأفضت إِلَى شاور وَجلسَ أول يَوْم فِي دست الوزارة وَحَوله جمَاعَة من أَصْحَابهم وَمِمَّنْ لَهُم عَلَيْهِ إِحْسَان وَقَعُوا فِي بني رزيك تقربا إِلَى شاور وَكَانُوا قد أَحْسنُوا إِلَى عمَارَة لم يهن ذَلِك عَلَيْهِ وَقَامَ وَأنْشد
. . صحت بدولتك الْأَيَّام من سقم ... وَزَالَ مَا يشتكيه الدَّهْر من ألم
زَالَت ليَالِي بني رزيك وانصرمت ... وَالْحَمْد والذم فِيهَا غير منصرم
كَأَن صَالحهمْ يَوْمًا وعادلهم ... فِي صدر ذَا الدست لم يقْعد وَلم يقم
هم حركوها عَلَيْهِم وَهِي سَاكِنة ... وَالسّلم قد ينْبت الأوراق فِي السّلم
كُنَّا نظن وَبَعض الظَّن مأثمة ... بِأَن ذَلِك جمع غير مُنْهَزِم
فمذ وَقعت وُقُوع النسْر خَانَهُمْ ... من كَانَ مجتمعا من ذَلِك الرخم
وَلم يَكُونُوا عدوا ذل جَانِبه ... وَإِنَّمَا غرقوا فِي سيلك العرم
وَمَا قصدت بتعظيمي عداك سوى ... تَعْظِيم شَأْنك فاعذرني وَلَا تلم
وَلَو شكرت لياليهم مُحَافظَة ... لعهدهم لم يكن بالعهد من قدم
وَلَو فتحت فمي يَوْمًا بذمهم ... لم يرض فضلك إِلَّا أَن يسد فمي
وَالله يَأْمر بِالْإِحْسَانِ عارفة ... مِنْهُ وَينْهى عَن الْفَحْشَاء فِي الْكَلم ... فشكره شاور على وفائه لبني رزيك وَكَانَ عمَارَة يعرف عِنْد أهل زبيد بعمارة الفرضي وَعند أهل عدن وَالْجِبَال بالفقيه وَعند أهل مصر باليمني ثمَّ المصريون يَخْتَلِفُونَ هَل دخل بِمذهب الفاطميين أم لَا فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن خلكان أَنه لم يدْخل بِمذهب الفاطميين بل مَاتَ على السّنة وَالَّذِي عَرفته من مشافهة أحد فضلائهم مِمَّن قدم الْيمن وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن الْمُخْتَار الْآتِي ذكره فِيمَن قدم الْيمن وَقد جرى ذكر عمَارَة وَقلت لَهُ أثنى عَلَيْهِ ابْن خلكان وَذكر أَنه بذل لَهُ على الِانْتِقَال مَال فكره وَكَانَ متعصبا للسّنة فَقَالَ مَا هُوَ صَحِيح بل الْأَصَح أَنه دخل مَذْهَبهم وَهَذَا مَا صححته وَله مُصَنف سَمَّاهُ النكت العصرية فِي أَخْبَار وزارة الديار المصرية وَله الْمُفِيد فِي أَخْبَار صنعاء وزبيد وَقد أوردت مِنْهُ كثيرا فِي كتابي وَلما كَانَ بعد فنَاء الفاطميين يكثر ذكرهم والتآسي عَلَيْهِم وَالدُّعَاء على من كَانَ سَببا لهلاكهم وكل مَا هم بني أَيُّوب الْقَائِم مِنْهُم صَلَاح الدّين بأذيته على ذَلِك صد عَن القَاضِي الْفَاضِل حَتَّى كَانَ آخر قَول قَالَه فيهم يارب إِن كَانَ لي فِي قربهم طمع الأبيات الْمُتَقَدّمَة وَقبل هَذَا يَقُول مَا فِي الرّبع سَادَات
وَكثر عَلَيْهِ عِنْد صَلَاح الدّين فَأمر بشنقه مَعَ جملَة جمَاعَة على رَأْيه فَسَأَلَهُمْ أَن يجيئوا بِهِ على بَاب القَاضِي الْفَاضِل فحين أحس الْفَاضِل بذلك أَمر بإغلاق بَاب دَاره فحين مروا وَرَأى الْبَاب مغلقا قَالَ مرتجلا ... عبد الرَّحِيم قد احتجب ... إِن الْخَلَاص من الْعجب ... ثمَّ أُتِي بِهِ إِلَى المشنقة فشنق بدرب يعرف بخرابة السود ثَانِي عشر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَنْصُور الْجُنَيْد الفتوحي نسبا المشيرقي بَلَدا الصمعي فالنسبة إِلَى المشيرق قد تقدم ذكرهَا وصمع بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وخفض الْمِيم مَعَ التَّشْدِيد ثمَّ عين سَاكِنة مُهْملَة قَرْيَة قديمَة بهَا قرَابَة لهَذَا الْفَقِيه يتسمون بالفقه ويشهرون الصّلاح يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله وَلم يذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم غَيره
والفتوحيون المنتسب إِلَيْهِم قوم من الأصابح يعْرفُونَ ببني أبي الْفتُوح يسكنون شعبًا من نواحي عَنهُ سَمِعت الثِّقَة يَقُول ذَلِك وَكَانَت وَفَاة الْفَقِيه قَافِلًا من الْحَج بالسرين سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَمن ذُريَّته جمَاعَة فُقَهَاء مِنْهُم الْفَقِيه شرف الدّين أَحْمد بن الْجُنَيْد صَاحب يحيى الْآتِي ذكره وَذكر من اسْتحق مِنْهُم على مَا أتحققه إِن شَاءَ الله ثمَّ صَار الْفِقْه مَوْجُودا بِجَمَاعَة مِنْهُم عبد الله بن الْمفضل بن عبد الْملك الصرحي
تفقه بالفقيه عَمْرو بن عبد الله وَولي قَضَاء ريمة وَتُوفِّي عَلَيْهِ سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ لَهُ أَخ اسْمه عبد الرَّحْمَن ولي خطابة حرض انْتَهَت إِلَيْهِ رئاسة الْفِقْه بهَا
وَمِنْهُم سَالم بن مهْدي بن قحطان بن حمير بن حَوْشَب الأخضري أَظن مَسْكَنه ذَا عدينة تفقه بِأَهْل تهَامَة أَخذ الْمُهَذّب عَن رَاجِح بن كهلان عَن ابْن عبدويه وَهُوَ أحد شُيُوخ ابْن سَمُرَة وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم زِيَاد بن أسعد بن عَليّ الْخَولَانِيّ كَانَ فَقِيها فَاضلا مَسْكَنه وَادي شقب بشين مُعْجمَة ثمَّ قَاف ثمَّ بَاء مُوَحدَة على وزن فعل محرك الْقَاف استنابه القَاضِي
عبد الْجَبَّار الْحَنَفِيّ مُتَوَلِّي الْقَضَاء لبني مهْدي على قَضَاء الْجند وَله تصنيف استخرجه من كتاب الْبَيَان سَمَّاهُ التَّخْصِيص وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أسعد بن يعفر بن سَالم بن عِيسَى العريقي تفقه بالحاشدي مقدم الذّكر وَحضر السماع على الْحَافِظ العرشاني بِذِي أشرق وَتُوفِّي لَيْلَة عيد الفطرسنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَقد بلغ عمره خمْسا وَسِتِّينَ سنة وتفقه بشيوخ ذِي أشرق
وَمِنْهُم الْفَقِيه أَحْمد بن السلالي مقدم الذّكر فِي أَصْحَاب ابْن عبدويه مولده على رَأس أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة وتفقه بشيوخ ذِي أشرق
وَمِنْهُم دعاس بن يزِيد بن إِسْمَاعِيل بن أبي الْخَيْر الأصبحي
وَمِنْهُم عليان بن مُحَمَّد الحاشدي أَخذ عَن زيد الفائشي وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي طريقنا بِكِتَاب نظام الْغَرِيب
وَمن السفال الْقرْيَة الْمَذْكُورَة أَولا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْحسن يحيى بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن أبي الْيَقظَان أَخذ عَن مُحَمَّد بن مُوسَى العمراني وَكَانَ يدرس بِالْمَسْجِدِ الْمَعْرُوف عِنْد أهل الْقرْيَة بِالْمَسْجِدِ الصَّغِير وَقد سَأَلَهُ بعض مَشَايِخ الأعروق أَن ينْتَقل إِلَيْهِ إِلَى الظفر ويدرس عِنْده فَفعل ذَلِك فَأَقَامَ عِنْده أَيَّامًا يدرس وتفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد بن مقبل الدثيني بِبَلَدِهِ سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ الشَّيْخ الَّذِي استدعاه من الأعروق هُوَ الشَّيْخ عبد الله بن عبد الْوَهَّاب العريقي وَالِد الشَّيْخ أَحْمد وَعمْرَان وَصَاحب العودرية وَكَانَت لَهُ ولقومه من الذنبتين بِرَأْس قاع الْجند إِلَى بِلَاد مقمح فَلَمَّا دخلت الغز هادنهم على قِطْعَة مَعْلُومَة محلهَا وَبَقِي بِيَدِهِ معشار السّلف
وَمِنْهُم عَليّ بن عِيسَى بن مُفْلِح بن الْمُبَارك الْمليكِي أصل بَلَده مَدِينَة إب الْمُقدم ذكرهَا ثمَّ تدير عدن وتفقه بهَا على القَاضِي أَحْمد بن عبد الله القريظي وعَلى
الْفَقِيه المقيبعي حِين دَخلهَا كَمَا تقدم فَقِيها حَافِظًا عَارِفًا بالفقه والْحَدِيث وَالتَّفْسِير والفرائض وَله فِيهَا مُخْتَصر مُفِيد وَكَانَ زاهدا ورعا يترحل بَين بَلَده وعدن وجبا وَأخذ عَنهُ بهَا جمَاعَة مِنْهُم إِبْرَاهِيم بن حديق وَغَيره وَأَرَادُوا إكراهه أَيَّام سيف الْإِسْلَام على الْقَضَاء فِي عدن فَامْتنعَ وَخرج عَنْهَا فَأَقَامَ أَيَّامًا بالخبت وَلَحِقتهُ مشقة بذلك فَمَرض وَعَاد عدن فَتوفي عقب ذَلِك سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَهُوَ آخر من ذكره ابْن سَمُرَة قبل فصل الْقُضَاة
وَمِمَّنْ ذكره فِي فصل الْقُضَاة جمَاعَة من أهل الْجبَال يَنْبَغِي الْبِدَايَة مِنْهُم لمن كَانَ لَهُ فِي الْآبَاء سَابِقَة وهم جمَاعَة
وَمِنْهُم عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن حميد الزوقري مقدم الذّكر فِي أَصْحَاب اليفاعي وَهَذَا عبد الله تفقه بِالْإِمَامِ سيف السّنة وَكَانَ فَقِيها حاذقا مُبَارَكًا وَله تردد بَين بَلَده والجؤة والدملوة وَهُوَ أحد شُيُوخ الإِمَام بن بطال وَصَحب الشَّيْخ جَوْهَر المعظمي ومسكنه حَيْثُ كَانَ مسكن أَبِيه وَبِه توفّي بربيع الأول سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَمن ذُرِّيَّة هَذَا الْفَقِيه قُضَاة الزواقر والموسكة ونواحيهم وَرُبمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر من لَاق ذكره مِنْهُم
وَمِنْهُم أهل عرشان قد مضى ذكر الْحَافِظ وولديه وَأما وَلَده أَحْمد الَّذِي ولي الْقَضَاء فَذكره ابْن سَمُرَة فِي فصل الْقُضَاة فَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الإِمَام الْحَافِظ عَليّ بن أبي بكر وَقد مضى بَقِيَّة مَا لَاق من نسبه مولد أَحْمد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ غَالِبا وَبِغَيْرِهِ وَولي الْقَضَاء بالجند من جِهَة أحد قُضَاة سهفنة إِذْ كَانَ إِلَيْهِ قَضَاء جبلة وَيُقَال كَانَ المشير بتوليته للفضاء القَاضِي عِيسَى وَكَانَ فَقِيها حاذقا مصقعا خَطِيبًا فَاضلا مؤرخا ذيل تَارِيخ الطَّبَرِيّ
وَله مُخْتَصر جمع فِيهِ من قدم الْيمن من الْفُضَلَاء أثنى عَلَيْهِ ابْن سَمُرَة ثَنَاء مرضيا وَلما حصل بَين سيف الْإِسْلَام وَبَين أثير الدّين مَا حصل وَخرج الْأَثِير من الْيمن وَكَانَ القَاضِي أَحْمد قد يحضر مجْلِس سيف الْإِسْلَام وَقَرَأَ عَلَيْهِ موطأ مَالك وَرَأَيْت إجَازَة سيف الْإِسْلَام من القَاضِي أَحْمد هَذَا فَلبث مُدَّة سنتَيْن حَتَّى تمّ لَهُ مَعَ القَاضِي مَسْعُود الْآتِي ذكره مَا نَقله الْخلف عَن السّلف وَهُوَ أَن القَاضِي مَسْعُود لما شهر بجودة الْفِقْه وانتهت إِلَيْهِ رئاسة الْفتيا حِينَئِذٍ حسده أهل عرشان كَمَا هُوَ الْعَادة فِي حكام الْوَقْت فَذكر جمَاعَة أَنه وصل رجل إِلَى
بعض أهل عرشان بِمَسْأَلَة فجوب عَلَيْهَا جَوَابا خطأ فَأَخذهَا السَّائِل وَتقدم بهَا إِلَى القَاضِي مَسْعُود فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا كتب بعد الْجَواب هَذَا الْمُجيب لَا يعرف شَيْئا وَذَلِكَ بمداد يعمله أهل الْيمن من الصَّبْر يمِيل لَونه إِلَى الْحمرَة فَعَاد الرجل بِالْمَسْأَلَة إِلَى عرشان فوقفوا على مَا كتب القَاضِي مَسْعُود وَهُوَ يَوْمئِذٍ يدرس بِذِي أشرق وأوقفوا عَلَيْهِ القَاضِي أَحْمد فحين وقف على ذَلِك لاحت لَهُ مكيدة القَاضِي مَسْعُود فأعجم الْمُجيب أَي جعلهَا خاء وياء وَنون الْبَاء الْمُوَحدَة ثاء مُثَلّثَة وَذَلِكَ بمداد لَونه أسود يُخَالف لون مَا كتب بِهِ القَاضِي مَسْعُود ثمَّ أَخذ الْمَسْأَلَة وَدخل على سيف الْإِسْلَام وَهُوَ إِذْ ذَاك مُقيم بجبلة بِالدَّار الْمَعْرُوفَة بدارالرزاق الَّذِي هُوَ فِي عصرنا مسبك لسكر الْأَمْلَاك السُّلْطَانِيَّة فَلَمَّا حضر مَجْلِسه وفاوضه الحَدِيث قَالَ يَا مَوْلَانَا ظهر رجل يَدعِي الْفِقْه وَصَارَ يحتقر الْفُقَهَاء ويسفه عَلَيْهِم ثمَّ لَا يقنع بِاللَّفْظِ حَتَّى يزِيد يفعل ذَلِك بالخط ثمَّ فتح الْمَسْأَلَة ووضعها بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا قَرَأَ كَلَام القَاضِي مَسْعُود وَرَأى إعجابه عظم ذَلِك عَلَيْهِ وَأمر بِطَلَبِهِ فَطَلَبه من ضراس فَلَمَّا حضر مقَامه نبذ الورقة إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ الْجَواب الثَّانِي جوابك فَتَأَمّله القَاضِي مَسْعُود وَقَالَ سُبْحَانَ الله أَلا عقول تميز الْحُرُوف مَكْتُوبَة بِغَيْر مداد إعجامها والقبيح من الإعجام فَلْيتَأَمَّل السُّلْطَان ذَلِك فَأَعَادَ إِلَيْهِ الورقة فحين نظر السُّلْطَان فِيهَا أدْرك ذَلِك وَعلم صدق مَا قَالَ وَقد كَانَ تكَرر عِنْده أُمُور مَلَأت بَاطِنه على القَاضِي أَحْمد وَأَهله فحين استثبت أَنه كَاد القَاضِي مَسْعُود غلب ظَنّه صدق مَا كَانَ ينْقل عَنْهُم فَقَالَ يَا قَاضِي أَحْمد الزم بَيْتك وَأَنت يَا مَسْعُود قد وليتك الْقَضَاء فَخرج هَذَا مُتَوَلِّيًا وَهَذَا معزولا وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى توفّي على مَا سَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله وَقيل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من الْمعز بن سيف الْإِسْلَام وللقاضي أَحْمد تذييل الْقُضَاعِي فِي التَّارِيخ وَله شرح الْخَطِيب ابْن نباتة وَله تَارِيخ الْيمن مُجَردا لم أَقف على شَيْء من ذَلِك إِلَّا عَن نقل ابْن سَمُرَة وَغَيره وَبعد وَفَاة مَسْعُود عَاد الْقَضَاء إِلَيْهِم ثمَّ عزل نَفسه وَجعله فِي وَلَده عَليّ وَتُوفِّي مُنْفَصِلا
بِذِي جبلة يَوْم الِاثْنَيْنِ لعشر خلون من صفر سنة سبع وسِتمِائَة
وَمِنْهُم سري بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن عَليّ بن معَاذ بن مبارك بن تبع بن يُوسُف بن فضل العرشاني يجْتَمع مَعَ الْحَافِظ العرشاني فِي تبع بن يُوسُف كَانَ فَقِيها فَاضلا أصوليا وَله مصنفات فِي الْأُصُول على طَرِيق الْأَشْعَرِيّ ولي قَضَاء صنعاء وَفِي أَيَّامه بنى وردسار المنارتين بالجامع وَأَصْلحهُ وَبنى الْجَبانَة أَيْضا وسري هَذَا هُوَ الَّذِي بنى المطاهير وَالْبركَة بِجَامِع صنعاء وَلم يَكُونَا قبل ذَلِك وَكَانَ مُبْتَدأ بنائِهِ لذَلِك فِي شعْبَان سنة سِتّ وسِتمِائَة وَذكر أَنه أَعَانَهُ على ذَلِك وردسار وَأَنه الَّذِي حفر الْبِئْر وَعمل المجرى مِنْهَا إِلَى مطاهير صنعاء من مَاله لَا من مَال الْمَسْجِد وَأَن عمَارَة المطاهير من وقف الْمَسْجِد بشاهرة وَأَنَّهَا فرغت بجمادى الْآخِرَة سنة سبع وسِتمِائَة وَهُوَ أحد عدُول الْقُضَاة ذكر الْعَارِف بأيامه أَن سيرته فِيهِ كَانَت محمودة وَأَنه كَانَ عادلا بأحكامه وَله تذييل تَارِيخ الرَّازِيّ ونقلت مِنْهُ عدَّة فَوَائِد وَرَأَيْت شَيْئا من مصنفاته مَعَ أَهله وَمن كتبه عدَّة كتب مَوْقُوفَة هُنَاكَ وَذكر أَنه اشْترى أَرضًا فِيهَا شجر عِنَب ثمَّ حضر عِنْده خصمان اتجه على أَحدهمَا حَتَّى حكم بِهِ عَلَيْهِ ثمَّ إِن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وصل إِلَى بَيت القَاضِي لَيْلًا وناداه فَأَجَابَهُ فَقَالَ يَا سيدنَا أَنا فلَان وَمَعِي شريم لَهُ كَذَا وَكَذَا أسنه وَأُرِيد أَن أتقدم بِهِ إِلَى حظيرتك أقطعها مُكَافَأَة لحكمك عَليّ فَدَعَاهُ القَاضِي ولاطفه وَرُبمَا غرم لَهُ مَا حكم بِهِ عَلَيْهِ ثمَّ لما أصبح بَاعَ الأَرْض وَقَالَ لَا تصلح لحَاكم مزرعة وَكَانَت وَفَاته على الْقَضَاء بِصَنْعَاء سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم عَليّ ابْن القَاضِي أَحْمد الْمَذْكُور أَولا ولي قَضَاء عدن على حَيَاة أَبِيه وَكَانَ خيرا وَتزَوج بابنة الْفَقِيه طَاهِر وَأقَام بعد أَبِيه قَاضِيا مُدَّة ثمَّ انْعَزل عَن الْقَضَاء فسكن سيرا مَعَ امْرَأَته واستولدها ابْنه عبد الله وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَببا لوصول الْفَقِيه أَحْمد وَمُحَمّد ابْني مَنْصُور الْجُنَيْد إِلَى عرشان
استدعاه ليقرىء وَلَده عبد الله الْفِقْه وَكَانَ يسمع الحَدِيث وَكَانَت وَفَاته بقرية سير فِي شهر رَجَب أحد شهور سنة خمس وَعشْرين
وسِتمِائَة وَكَانَ قد بلغ عمره خمْسا وَسِتِّينَ سنة وَهُوَ آخر من ولى الْقَضَاء من ذُرِّيَّة الْحَافِظ
وَمِنْهُم ابْنه أَبُو مُحَمَّد عبد الله يعرف بِالْقَاضِي عبد الله بن عَليّ مولده لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى الْآخِرَة لَيْلَة الْجُمُعَة عِنْد طُلُوع الْفجْر من سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة أمه ابْنة القَاضِي طَاهِر بن يحيى تفقه بالفقيه أَحْمد بن مُحَمَّد الْجُنَيْد ثمَّ تفقه بِسَعْد المَخْزُومِي وَأخذ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ وَعَن حسن بن رَاشد أَخذ الْبَيَان واللمع أَخذه عَن عمر بن عبد الله الْحرَازِي الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله فِي أهل جبلة وَكَانَ فَقِيها فَاضلا ذَاكِرًا للفقه وَكَانَ سليم الصَّدْر ذكر أَن الْملك المظفر حط مرّة على قرب من جبلة فَدَخلَهَا الْفَقِيه أَبُو بكر بن دعاس وَجعل يدْخل الْمدَارِس ويذاكر الْفُقَهَاء ليمتحنهم لمضادة الْمَذْهَب إِذْ كَانَ حنفيا فَذكر النَّاقِل أَنه دخل الْمدرسَة النجمية وَكَانَ هَذَا الْفَقِيه قَاعِدا بهَا فذاكره بعدة مسَائِل وَهُوَ يجِيبه عَنْهَا بِمَا يشفي النَّفس وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ غير محتفل بِهِ وَلَا عَارِف لَهُ ثمَّ أقبل يسْأَله ويراجعه فاعترف لَهُ ابْن دعاس بجودة الْفِقْه وَقَالَ مَا كنت أَظن مثل هَذَا فِي الْجبَال ثمَّ لما حضر مقَام السُّلْطَان أخبرهُ بِهِ وَأَنه فَقِيه عَارِف وَكَانَ يُفْتِي أَيَّام قَضَاء مُحَمَّد بن يُوسُف اليحيوي فَلَمَّا تكَرر من مُحَمَّد بن يُوسُف مَا لَا يَلِيق بالقضاة كتب إِلَيْهِ أبياتا مِنْهَا ... أما تتقي ذَا الْعَرْش يَوْم حسابه ... أما ترعوي عَن موبقات العظائم
كَأَنَّك بالدنيا وَقد زَالَ ظلها ... وَيذْهب مَا فِيهَا كأضغاث حالم ... وَكَانَ يحب خمول الذّكر صبورا على التدريس عَارِفًا بطريقه شَدِيد الْغَضَب فِي ذَات نَفسه وَإِنَّمَا كَانَ يُنكر على القَاضِي مُحَمَّد بن يُوسُف لذَلِك وتفقه بِهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس عشرَة لَيْلَة خلت من الْحجَّة سنة سِتّ وَسبعين وسِتمِائَة أدْرك الْفَقِيه أَحْمد بن مُحَمَّد الْجُنَيْد وَأخذ عَنهُ وَعَن غَيره بوالده وَحج مرَارًا فَأخذ عَن المقيمين بهَا والواردين إِلَيْهَا وَكَانَ ذَا مسموعات فِي إجازات من الشُّيُوخ وَغَيرهم من الأكابر ولي مِنْهُ إجَازَة عَامَّة وَكَانَ صبورا على الإقراء إِلَى أَن توفّي آخر جُمُعَة من محرم سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة ثمَّ خَلفه ابْنه مُحَمَّد وَكَانَ طَرِيقه طَرِيق أَبِيه إِلَى أَن توفّي بجمادى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن أبي بكر بن عمر بن الشَّيْخ الْحَافِظ عَليّ بن أبي بكر مولده أحد جمادين من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ ذَا مسموعات وإجازات
طَرِيقه طَرِيق ابْن عَمه أَحْمد وَكَانَ فِيهِ سخاء نفس يطعم الطَّعَام وَيكرم من قَصده من الْأَنَام بِحَيْثُ يستكثر ذَلِك على عَادَة أَصْحَابه وَكَانَ على ذَلِك حَتَّى توفّي سَابِع عشر شعْبَان سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة وَخَلفه ابْنه عبد الله وَكَانَ فَقِيها خيرا ذَا مَكَارِم أَخْلَاق على منوال أَبِيه حَتَّى توفّي صبح الِاثْنَيْنِ لثلاثين من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة بعد أَن بلغ عمره سِتا وَأَرْبَعين سنة وَخَلفه أَخ لَهُ اسْمه أَبُو بكر فَقِيه ذُو دين متصدر للوارد إِلَى عرشان يذكر بِالدّينِ وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَفِيهِمْ الْآن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مَنْصُور بن الْفَقِيه الْحَافِظ عَليّ بن أبي بكر مولده رَجَب سنة خمسين وسِتمِائَة وتفقه بِابْن عَمه عبد الله بن عَليّ مقدم الذّكر وَأخذ مسموعات الْكتب عَن وَالِده أَحْمد وَأخذ الْفِقْه أَيْضا عَن عبيد بن أَحْمد صَاحب السهولة وَعَن صَالح بن عمر من السفال وَمُحَمّد بن أسعد بن الجميم من سهفنة وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآن فِيهِ مُرُوءَة وَأنس لمن يصله وَهُوَ آخر فُقَهَاء ذُرِّيَّة الْحَافِظ
وَمِمَّنْ ذكر من أهل أبين جمَاعَة مِنْهُم نعيم بن مُحَمَّد الطريي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى أبين تعرف بالطرية خرج مِنْهَا جمَاعَة من أَعْيَان الْعلمَاء والصلحاء هَذَا نعيم أحدهم كَانَ يُقَال لَهُ نعيم عشري الْيمن الناصب نَفسه لمن امتحن رزق نظرا جيدا فِي التَّعْبِير وَكَانَ يعرف عشرَة عُلُوم فَلذَلِك قيل عشري الْيمن وَسكن مَسْجِد الرِّبَاط وَكَانَت وَفَاته بعد سِتّمائَة تَقْرِيبًا
وَمِنْهُم عَليّ بن الْفَقِيه عمر بن عبد الْعَزِيز بن أبي قُرَّة الْمُقدم ذكره مَعَ أَصْحَاب ابْن عبدويه وَأثْنى ابْن سَمُرَة على وَلَده هَذَا وَقَالَ وَكَانَ حَافِظًا للتفسير عَارِفًا بِهِ واعظا على المنابر محققا لتعبير الرُّؤْيَا رأى بَعضهم الْفَقِيه نعيم بعد مَوته فَسَأَلَهُ عَن مَنَام فَقَالَ صرف التَّعْبِير عني إِلَى الْفَقِيه عَليّ بن عمر وَكَانَ مَقْبُول الْكَلِمَة عِنْد أهل بَلَده ذكر أَن سَبَب ذَلِك أَنه كَانَ مَعَ أَبِيه فِي السرين فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ لَهُ يَا بني قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْوَة الْمُسَافِر وَالْوَالِد لَا ترد وَأَنا وَالِد ومسافر ثمَّ دَعَا لَهُ فَأدْرك طرفا من الدُّنْيَا أَيَّام يَاسر بن بِلَال المحمدي ثمَّ خَلفه ابْنه مُحَمَّد
قَالَ ابْن سَمُرَة تفقه بشيخي أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى العمراني قَالَ وَكَانَ
خبيري وَمن أترابي أَيَّام الدَّرْس فِي مصنعة سير وَوليت بعده قَضَاء أبين من جِهَة القَاضِي الْأَثِير ونكحت زَوجته وَكَانَت وَفَاته بخنفر فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة وقبره بالميدان
وَمِنْهُم مفتي الْحرم مُحَمَّد بن مُفْلِح بن أَحْمد العجيبي نسبا من قوم هُنَالك يعْرفُونَ بالعجيبيين قَامَ بِمَكَّة مُدَّة أَيَّام يدرس ويفتي وَإِلَيْهِ انْتهى ذَلِك فِي مَكَّة وَعنهُ أَخذ الْفَقِيه عمر التباعي وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة آخر المئة السَّادِسَة وانتقل ذَلِك إِلَى ابْن أبي الصَّيف
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن أَحْمد العندي نسبا الأبيني بَلَدا من قوم يسمون الأعنود مِنْهُم جمَاعَة يسكنون أبين ولحج وعدن أثنى عمَارَة على هَذَا الرجل ثَنَاء مرضيا وَلما جعله آخر من ذكر من الشُّعَرَاء اعتذر وَقَالَ وَمِنْهُم من جعلته فَارس الأعقاب وجمال مَا مضى وَمَا سَيَأْتِي من الأعقاب
الأديب الْفَاضِل فلَان بن فلَان ثمَّ قَالَ وَمَا من شِيمَة من شيم الإنسانية وفضيلة من فضائلها المكتسبة والنفسانية إِلَّا وَيجب أَن يفرد فِي جميل ذكرهَا تصنيف ويجرد فِي جواهرها تأليف ثمَّ قَالَ وَلَا أعرف قبله وَلَا بعده لن أصدق فِيهِ إِذا قلت أَنه لَيْسَ مثله ذُو دين حُصَيْن وعقل رصين وسؤدد عريض وكرم مستفيض وتواضع لَا يفِيض وَأما البلاغة فَهُوَ إمامها وَبِيَدِهِ زمامها وَأما خاطره فأهدى من النَّجْم الساري وأسلس من العذب الْجَارِي وَعبارَته لَا يعوقها حبس وَلَا يشوبها لبس مولده بلد أبين وَكَانَ أَبوهُ من أعيانها والمعدود من أهل الرَّأْي من أَهلهَا يَنْتَهِي النَّاس فِيهَا إِلَى رَأْيه وَكَانَ ابْنه هَذَا موفقا فِي صغره مُسَددًا فِي كبره
وَلَقَد حكى أَن معلمه كَانَ يُحِبهُ ويفضله على بَقِيَّة أترابه وَيَدْعُو لَهُ ثمَّ يَقُول وَالله ليخرجن هَذَا سيدا رَئِيسا فَيُقَال لَهُ من أَيْن علمت ذَلِك
فَيَقُول إِنِّي مَتى فسحت للصبيان على جاري الْعَادة فرحوا وذهبوا إِلَّا هُوَ فَإِنَّهُ يقْعد عِنْدِي وَكَانَ عمره حِينَئِذٍ عشر سنوات
قَالَ عمَارَة فَمَا أحقه بقول الشَّاعِر
. . بلغت لعشر مَضَت من سنيك ... مَا يبلغ السَّيِّد الأشيب
فهمك فِيهَا جسام الْأُمُور ... وهم أُولَئِكَ أَن يلعبوا ... ثمَّ لما حفظ الْقُرْآن دخل مَدِينَة عدن فَقَرَأَ بهَا علم الْأَدَب وَالْفِقْه وَعلم الْحساب وَمهر فِي جَمِيع ذَلِك ونظم ونثر وَحَازَ فضلا وَاسِعًا وعلما نَافِعًا وعدن إِذْ ذَاك بيد الشَّيْخ بِلَال بن جرير المحمدي مولى السُّلْطَان الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ بن مُحَمَّد وَكَانَ لَهُ كَاتب توفّي فِي تِلْكَ الْمدَّة والأديب هَذَا قد صَار يذكر بِالْفَضْلِ وَالدّين وَحين توفّي كَاتب بِلَال احْتَاجَ إِلَى طلب غَيره قَالَ عمَارَة فأرشده رائد السَّعَادَة إِلَى هَذَا الأديب فاستدعاه فحين حَضَره أعجبه جماله وسمته ثمَّ فاتحه بالْكلَام فازداد عجبه بِهِ وَعلم أَن الله قد أبدله بِأَفْضَل من كَاتبه الَّذِي ذهب ثمَّ ولاه كِتَابَة يَده وَلما عرف فَضله جعله بِمَنْزِلَة الْوَلَد والصاحب وَالْمُدبر لأموره بِحَيْثُ كَانَ لَا يقطع أمرا دون مُرَاجعَته وَلَقَد سمع مِنْهُ مرّة وَهُوَ يَقُول لَهُ حِين رَاجعه بِالْجَوَابِ لقوم قد وصلوا من نواح شَتَّى وَالْإِجَازَة لآخرين وفدوا يَا مولَايَ الأديب الدولة دولتك وَالْمَال مَالك فأجب وأثب كَيفَ شِئْت وَلمن شِئْت وَكتب مرّة إِلَى بِلَال أَيْضا يشفع لقوم مَا مِثَاله النَّاس سَبَب إِحْسَان الحضرة إِلَيّ وأنعامها عَليّ يَعْتَقِدُونَ أَنِّي عِنْدهَا أشفع وأنفع وَقد تشفع بِي إِلَيْك بِكَذَا فَعَاد جَوَاب بِلَال أَنْت يَا مولَايَ الْمَالِك وقدرك وَالله عِنْدِي أجل أَن تكون شَفِيعًا بل مَبْسُوط اللِّسَان وَالْيَد وَلَيْسَ على أَمرك أَمر
ثمَّ لما وقف الأديب على الْجَواب كتمه تواضعا وتحرزا عَن حسد من حول بِلَال قَالَ عمَارَة فوقفت عَلَيْهِ سرا فحين علم أَنِّي وقفت عَلَيْهِ أحلفني بِاللَّه يَمِينا مُغَلّظَة أَنِّي لَا أعلمت بِهِ أحدا من المكاثرين لِبلَال لَا من أهل السَّيْف وَلَا من أهل الْقَلَم فاعتمدت ذَلِك وَهَذَا من أدل دَلِيل على كَمَال عقله وَشدَّة تواضعه وَلَقَد كَانَ يُبَالغ فِي ذَلِك حَتَّى لَا يكَاد يعرف مَنْزِلَته من الشَّيْخ بِلَال إِلَّا لأفراد من الْخَواص وَكَانَ يجْتَهد على مُرَاعَاة بواطن المكاثرين لِبلَال وَكَانَ تَارِكًا للتظاهر بالجاه والمنصب قَالَ عمَارَة وَلَو لم يكن لهَذَا الْفَقِيه الأديب غير هَذِه الْخصْلَة لكَانَتْ كَافِيَة شافية مغنية عَمَّا سواهَا من المناقب إِذْ فِيهَا قهر النَّفس وصدها وَهُوَ الْجِهَاد الْأَكْبَر كَيفَ لَا وَله مَنَاقِب غَيرهَا كَثِيرَة مِنْهَا أَنه كَانَ مَتى سمع بقدوم قافلة إِلَى عدن لقيها إِلَى الْبَاب وَسَأَلَ عَمَّن فِيهَا من
الْفُضَلَاء وَذَوي الْأَلْبَاب فَمَتَى ظفر بِوَاحِد مِنْهُم بَالغ فِي الْتِزَامه وَالسَّلَام عَلَيْهِ ولازمه أَن ينزل مَعَه إِمَّا فِي دَاره أَو بِقرب مِنْهُ ثمَّ يتَوَلَّى إكرامه وَقَضَاء حَوَائِجه من بيع أَو شِرَاء ويبذل فِي ذَلِك مَا لَاق من مَاله أَو جاهه ثمَّ إِن كَانَ مِمَّن يفد على الْمُلُوك تسبب لَهُ فِي الْوُصُول تسببا لائقا بِحَيْثُ يعود الْفَقِير غَنِيا والمقل مكثرا وَكَانَ هَذَا الْعَمَل مِنْهُ عَاما وَقد ذكرت مَعَ ذكر عمَارَة مَا فعله من عمل الشّعْر واستخراج الجوائز ومناقب هَذَا أَكثر من أَن تحصر وَبَعضهَا مَوْجُود فِي شعر عمَارَة الَّذِي جمع بِهِ شعراء الْيمن وكتابي هَذَا لَائِق لَهُ الِاخْتِصَار وَلَو لم يكن لَهُ من الدَّلِيل على عُمُوم خَيره إِلَّا أَن أهل زبيد لما طَال عَلَيْهِم الْبلَاء من ابْن مهْدي وَاشْتَدَّ خوفهم وَطَالَ حصارهم خرج مِنْهُم خلق كثير وركبوا الْبَحْر وقصدوا عدن فبذل هَذَا الرجل كرامته وجاهه لأعيانهم وأكابرهم وَمَاله وشفقته لفقرائهم وضعفائهم حَتَّى دمل كَلمهمْ وسد ثلمهم وَكَانَ مَتى حدث من فَاضل زل زلَّة مَعَ السُّلْطَان اجْتهد لَهُ فِي الْعذر عَنْهَا
حُكيَ أَن ابْن الطرائفي الْمَعْرُوف بِأبي طَالب قدم عدن ومدح الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بقصيدة لأبي الصَّلْت كَانَ مدح بهَا الْأَفْضَل بن أَمِير الجيوش أَولهَا ... نسجت غرائب مدحك التشبيبا ... وَكفى لَهُ غزلا لنا ونسيبا
وَأَنا الْغَرِيب زَمَانه ومكانه ... فَاجْعَلْ نوالك فِي الْغَرِيب غَرِيبا ... ثمَّ لما قدم الرشيد عدن أهْدى للداعي الدِّيوَان فَوجدَ القصيدة فَكتب إِلَى الأديب من الدملوة أَن يسير إِلَيْهِ قصيدة ابْن الطرائفي فَعلم الأديب أَنه قد أدْرك ابْن الطرائفي فكتبها بِخَطِّهِ وألحقها اعتذارا عَن ابْن الطرائفي من شعره من نَفسه
. .. هَذِه صفاتك يَا مكين وَإِن غَدا ... فِيمَن سواك مديحها مَغْصُوبًا
فَاغْفِر لمهديها إِلَيْك فَإِنَّهُ ... قد زَادهَا تشريف طيبك طيبا ... وَأما إجادته بطرِيق كِتَابَة الْإِنْشَاء فَذكر الْفَقِيه عمَارَة أَنه سمع الشَّيْخ أَبَا الْحجَّاج وَالْقَاضِي الجليس أَبَا الْمَعَالِي وهما يَوْمئِذٍ كَاتبا إنْشَاء الدولة العلوية يَقُولَانِ غير مرّة مُجْتَمعين ومفترقين لم يصل إِلَيْنَا مُكَاتبَة لأحد من الْآفَاق وَلَا رَأينَا لكتاب الشَّام وَالْعراق كمكاتبات ترد إِلَيْنَا من جَزِيرَة الْيمن إنْشَاء الأديب أبي بكر بن أَحْمد العندي فَإِن لَهَا
بلاغة تشهد عذوبة مطبوعها بكرم ينبوعها وألفاظا تدل مَعَانِيهَا على فضل مغانيها
وَأما شرِيف همته وعظيم نزاهته فَإِنَّهُ لما تزوج ابْنة الشريف أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْعمريّ حمل إِلَيْهِ أهل عدن أَشْيَاء على اخْتِلَاف طبقاتهم يسمونه الطرح وَذَلِكَ عَادَة جَارِيَة لَهُم فَلَمَّا اجْتمع ذَلِك بداره عرض عَلَيْهِ فَأَعَادَ كل شَيْء إِلَى أَهله مَعَ زِيَادَة وشكر ثمَّ لما بلغ ذَلِك الشَّيْخ بِلَال والداعي مُحَمَّد بن سبأ استحسنا ذَلِك مِنْهُ وشكراه ودفعا إِلَيْهِ مثل الَّذِي رده وَله أشعار هِيَ أرق من النسيم وَأحلى من التسنيم مِنْهُ مَا يَكْتُبهُ أَعْيَان النَّاس فِي دُورهمْ وقصورهم فِي الْغَالِب وَهُوَ لما أمره الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ أَن ينظم أبياتا ليكتبها فِي المنظر بعدن ... دَار تعظم بالمعظم شَأْنهَا ... وازداد عزا بالمكين مَكَانهَا ... وَهِي من جملَة أَبْيَات كَثِيرَة تركتهَا لشهرتها وامتحن فِي آخر عمره بكفاف بَصَره
قَالَ عمَارَة فحين بَلغنِي ذَلِك علمت أَن الزَّمَان قد سلب بصيرته حِين سلب بَصَره وَأَن الْأَيَّام طمست بذلك منهاج جمَالهَا وَأَطْفَأت سراج كمالها فَلَمَّا صَار مكفوف الْبَصَر أَحْيَاهُ الله بثمرة الْخَيْر الَّذِي كَانَ يغرسه وحرسه نَاظر الْإِحْسَان الَّذِي كَانَ يرعاه ويحرسه فتضاعفت عِنْد أهل الدولة وجاهته وتزايدت عِنْدهم رفعته ونباهته وَأَرَادَ الزَّمن أَن يخفضه فرفعه وَأَن يضرّهُ فنفعه وَمَا أحسن قَول عبد الله بن مُحَمَّد بن مَرْزُوق فِي مدحه لَهُ وَقد كف بَصَره ... يَا مدره الْيمن الَّذِي بمقاله ... بَين الورى قلم الزَّمَان خَطِيبًا
فغدا قدامَة ثمَّ غير مقدم ... وفصيح وَائِل بالمقال معيبا
يَا يوسفا علما وَحفظ أَمَانَة ... اعذر عَليّ بِأَن ترى يعقوبا ... وَحصل عَلَيْهِ الْعَمى فِي أَيَّام الدَّاعِي عمرَان بن الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ الْآتِي ذكره فِي الْمُلُوك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فتعب عَلَيْهِ أَشد تَعب وآلمه أَشد ألم وَكَانَ لَهُ فِيهِ مدائح قل أَن تسمح القرائح بِمِثْلِهَا مِنْهَا القصيدة الكافية الَّتِي أَولهَا ... حياك يَا عدن الحيا حياك ... وَجرى رضاب لماه فَوق لماك ...
. . وافتر ثغر الرَّوْض فِيك مضاحكا ... بالبشر رونق ثغرك الضَّحَّاك
وعلام أستسقي لاحيا لَك بَعْدَمَا ... ضمن المكرم بالندى سقياك
وهمت مكارمه عَلَيْك فصافحت ... عَن كَفه معنى الْغِنَا مغناك
فليهنك الْفَخر الَّذِي أحرزته ... لولاه حَسبك مفخرا وَكَفاك
قرت عُيُون الْخلق لاستقراره ... بك فلتقر بِقُرْبِهِ عَيْنَاك
شرفت رباك بِهِ فقد ودت لنا ... زهر الْكَوَاكِب أَنَّهُنَّ رباك
متبوئا سامي حصونك طالعا ... مِنْهَا طُلُوع الْبَدْر فِي الأفلاك
بالتعكر المحروس أَو بالمنظر المأنوس ... يحمي فرقدا وَسماك
وَله الْحُصُون الشم إِلَّا أَنه ... يحلو لَهُ بك طالعا حصناك
والمسك نثر تُرَاب أَرْضك مذ غَدا ... بك قاطنا والدر من حصباك
وَكَأن بحرك جوده متدفقا ... لَو لم تخضه سرائر الأفلاك
لَا قدر للدنيا لَدَيْهِ كَأَنَّهُ ... فِي بذل زخرفها من النساك
أدنى مواهبه الألوف سريعة ... متفردا فِيهَا بِلَا إشراك
مَا اخْتصَّ فِي الدُّنْيَا سواهُ بفضلها ... ملك من البَاقِينَ والهلاك
فالجود مبتسم الثغور ببذله ... أبدا وَبَيت المَال مِنْهُ شَاك
من دوحة الشّرف الزريعي الَّتِي ... رسخت بِأَصْل فِي المخافر زاك ... وَهِي طَوِيلَة أوردهَا عمَارَة فِي ذكر الأديب وَهِي تنيف على أَرْبَعِينَ بَيْتا متداولة بَين أهل الْيمن فَذكرُوا أَنه لما أنشدها بِحَضْرَة السُّلْطَان عمرَان أجَازه عَلَيْهَا بِأَلف دِينَار وَاعْتذر إِلَيْهِ بِعُذْر يسلي الحزين ويستخف الرزين ثمَّ لم يرض ذَلِك حَتَّى أَمر مناديا يُنَادي من دخل دَار الأديب فَهُوَ آمن قصد بذلك إِظْهَار كرامته وَأَن مَنْزِلَته لم تنقص عِنْده بعمى وَلَا غَيره ثمَّ لم يضع ذَلِك عِنْد الأديب بل لما مَاتَ السُّلْطَان عمرَان طلاه الأديب بِمَا يشد جِسْمه ثمَّ احتمله إِلَى مَكَّة عَام سِتِّينَ وَخَمْسمِائة فقبره هُنَاكَ وَكَانَت وَفَاة الأديب بعدن سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة تَقْرِيبًا
وَمن آثاره بعدن الْمَسْجِد الَّذِي يعرف بِمَسْجِد العندي وَهُوَ مَسْجِد السالك غير بناءه اسْتِيلَاء الظلمَة على الْوَقْف من قيام بني مُحَمَّد بن عمرَان فِي الدولة المؤيدية إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمن لحج ثمَّ من قَرْيَة بِنَا أبه الْعليا واستثقل ذَلِك فسميت بمنيبة بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة مَعَ تشديدها ثمَّ هَاء سَاكِنة وَسميت بِالِاسْمِ الأول لِأَن أول بانيها رجل من قُرَيْظَة يُقَال لَهُ أبه بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة مَعَ التَّشْدِيد وَسُكُون الْهَاء خرج من هَذِه الْقرْيَة جمَاعَة من الْفُضَلَاء يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله