Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (3)
Buku: As-Sulūk fī Ṭabaqāt al-‘Ulamā’ wa al-Mulūk Penulis: Muḥammad ibn Yūsuf ibn Ya‘qūb, Abū ‘Abd Allāh, Bahā’ al-Dīn al-Jundī, Al-Janadi al-Yamanī (meninggal 732 H)
Penerbit: Maktabat al-Irshād – Ṣan‘ā’ – 1995 M
Edisi: Kedua
Penyunting: Muḥammad ibn ‘Alī ibn al-Ḥusayn al-Akwā‘ al-Ḥawālī
Jumlah Jilid: 2
[Penomoran buku sesuai dengan edisi cetak]
Halaman Penulis: [al-Jundī, al-Janadi, Bahā’ al-Dīn]
Book: As-Sulūk fī Ṭabaqāt al-‘Ulamā’ wa al-Mulūk
Author: Muḥammad ibn Yūsuf ibn Ya‘qūb, Abū ‘Abd Allāh, Bahā’ al-Dīn al-Jundī al-Yamanī (d. 732 AH)
Publisher: Maktabat al-Irshād – Ṣan‘ā’ – 1995 CE
Edition: Second
Editor: Muḥammad ibn ‘Alī ibn al-Ḥusayn al-Akwā‘ al-Ḥawālī
Number of Volumes: 2
[Book numbering corresponds to the printed edition]
Author's Page: [al-Jundī, Al-Janadi Bahā’ al-Dīn]
Daftar Isi Al-Suluk Juz 1
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (1)
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (2)
- Kitab Al-Suluk fi Tabaqat al-Ulama wa al-Muluk (3)
الكتاب: السلوك في طبقات العلماء والملوك
المؤلف: محمد بن يوسف بن يعقوب، أبو عبد الله، بهاء الدين الجُنْدي الجَنَدِي اليمني (ت ٧٣٢هـ)
دار النشر: مكتبة الإرشاد - صنعاء - ١٩٩٥م
الطبعة: الثانية
تحقيق: محمد بن علي بن الحسين الأكوع الحوالي
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة المؤلف: [الجندي، بهاء الدين]
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد بن معن القريظي ميلاده سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وتفقهه بعمر بن عبد الْعَزِيز الأبيني مقدم الذّكر وَكَانَ فَقِيها صَالحا مُحدثا وَغلب عَلَيْهِ علم الحَدِيث وَله مُخْتَصر إحْيَاء عُلُوم الدّين وَدخل عدن فَجمع كتب السّنَن وَألف مِنْهَا كتاب الْمُسْتَصْفى ثمَّ كتاب الْقَمَر على منوال الْكَوْكَب وَكتاب الْمُسْتَصْفى من الْكتب الْمُبَارَكَة المتداولة فِي الْيمن يعتمده الْفُقَهَاء والمحدثون ويتبرك بِهِ الْفُقَهَاء والأميون
وَلَقَد وجدت بِخَط الْفَقِيه الْعَالم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ نفع الله بِهِ مَا مِثَاله أَخْبرنِي الْفَقِيه فلَان رجل سَمَّاهُ من أهل سردد أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَهُ اقْرَأ كتاب الْمُسْتَصْفى على جَدِيد وعَلى الْفَقِيه إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ ثمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ الْكتاب ثمَّ قَالَ الْفَقِيه وَهَذَا الْمَنَام يدل على بركَة المُصَنّف وفضله وَفضل الْبَلَد الَّذِي صنف فِيهِ
قَالَ ابْن سَمُرَة قيل إِنَّه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَا لَهُ بالتثبيت
لقِيه بعدن وَوجدت بِخَط بعض أكَابِر الْفُقَهَاء الْمُتَقَدِّمين مَا مِثَاله سَمِعت الشريف أَبَا الْجَدِيد يَقُول ثَبت لي بطرِيق صَحِيح عَن الشَّيْخ ربيع صَاحب الرِّبَاط بِمَكَّة أَنه رأى فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ من قَرَأَ الْمُسْتَصْفى الَّذِي صنفه مُحَمَّد بن سعيد كَامِلا دخل الْجنَّة
وامتحن بِالْقضَاءِ وَكَانَ ورعا زاهدا وَله قرَابَة هُنَالك يعْرفُونَ بالقريظيين إِلَيْهِم خطابة الْقرْيَة ثمَّ خطابة قَرْيَة فَور وَلَهُم الْجَامِع بالقرية الْمَذْكُورَة وَوَقفه لَهُم وَنَظره إِلَيْهِم يتوارثون ذَلِك إِلَى عصرنا ويتأدون من غلَّة الْوَقْف بعمارة الْمَسْجِد وَالْأَرْض فَلذَلِك لم يطق أحد أَن يُغَيِّرهُ وَمن هم بذلك من الظلمَة شغل بشاغل يمنعهُ وَمن ذُريَّته القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ بن مياس الْآتِي ذكره بطرِيق يَأْتِي بَيَانهَا إِن شَاءَ الله وَمِنْه أَخذ القَاضِي عَليّ الْقَضَاء إِذْ هُوَ ابْن بنته وَكَانَ قد امتحن بِالْقضَاءِ وَولي
بعده أَخُوهُ عَليّ بن سعيد وَكَانَت وَفَاته بالقرية نَهَار الْأَرْبَعَاء وَقت الظّهْر لست مضين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل
وَمن ذِي أشرق جمَاعَة مِنْهُم مَسْعُود بن عَليّ بن مَسْعُود بن عَليّ بن جَعْفَر بن الْحُسَيْن بن عبد الله بن عبد الْكَرِيم بن زَكَرِيَّا بن أَحْمد القري بِفَتْح الْقَاف وخفض الرَّاء ثمَّ يَاء نسبا ثمَّ الْعَنسِي بنُون سَاكِنة بَين عين وسين مهملتين نِسْبَة إِلَى قَبيلَة كَبِيرَة من مذْحج مولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تفقه بِأَحْمَد بن أسعد الكلالي وبعمر بن حُسَيْن بن أبي النَّهْي وبعلي بن أبي بكر بن سَالم وَشرح لمع الشَّيْخ أبي إِسْحَاق بِكِتَاب سَمَّاهُ الْأَمْثَال أثنى عَلَيْهِ غَالب الْفُقَهَاء وتفقه بِهِ جمع كَبِير لَا يكَاد يحصر عدهم من أهل تهَامَة وَالْجِبَال فَمن الْجبَال صهره على ابْنَته عبد الله المأربي الْآتِي ذكرهم وَيحيى بن سَالم وَمُحَمّد بن عمر بن فليح من الْجند ومُوسَى بن أَحْمد الوصابي وَمُحَمّد بن أسعد وَالِد سُلَيْمَان الْجُنَيْد الْآتِي ذكرهم
وَمن تهَامَة عَليّ بن قَاسم الْحكمِي وَإِبْرَاهِيم بن عجيل وَغَيرهم وامتحن بِأَن جعل قَاضِي قُضَاة الْيمن وَسبب ذَلِك الْقِصَّة الَّتِي قدمنَا ذكرهَا مَعَ ذكر القَاضِي أَحْمد العرشاني وَكَانَ من أثبت الْقُضَاة وأورعهم وَمِمَّنْ سلك طريقهم المرضية واستناب بِجَمِيعِ الأنحاء من هُوَ صَالح للْقَضَاء بعد اجْتِهَاد عَن السُّؤَال عَن حَاله وَمَاله وَلم يكن فِيمَن ولي الْقَضَاء أفقه مِنْهُ مَعَ الْوَرع وَكَانَ لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم ذكر لي جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين بأسانيد صَحِيحَة متواترة أَن بعض التُّجَّار بَاعَ من بعض الْمُلُوك وَهُوَ الْملك الَّذِي ولاه الْقَضَاء بضَاعَة كَبِيرَة بِمَال جزيل ثمَّ صَار يمطله بِالْمَالِ مرّة على مرّة بِحَيْثُ قلق التَّاجِر وتأذى من ذَلِك
وَبلغ القَاضِي مَسْعُود وشكا إِلَيْهِ فَكتب إحضارا لَهُ يَقُول فِيهِ {إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا} ليحضر فلَان بن فلَان إِلَى مجْلِس الشَّرْع الشريف بِذِي أشرق وَلَا يتَأَخَّر إِن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ثمَّ أَمر بالإحضار عونا وَأمره أَن لَا يُسلمهُ إِلَّا بيد السُّلْطَان فَلَمَّا وقف السُّلْطَان على ذَلِك قَالَ نعم أُؤْمِن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر نعم أُؤْمِن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ثمَّ خرج من فوره فَركب دَابَّة من دَوَاب النّوبَة
وَسَار إِلَى القَاضِي وَكَانَ على قرب مِنْهُ بِمَدِينَة يُقَال لَهَا المنصورة أحدثها فَلَمَّا وصل إِلَى القَاضِي وَقرب من مَجْلِسه بِحَيْثُ يرَاهُ وَيسمع كَلَامه قَالَ لَهُ بِرَفْع صَوت اتَّقِ الله وساو خصمك فَقَامَ التَّاجِر بِإِزَاءِ السُّلْطَان وَادّعى عَلَيْهِ بِالْمَالِ الثَّابِت لَهُ قبله فاعترف بذلك فَقَالَ التَّاجِر التَّسْلِيم أَو مُوجب الشَّرْع فَقيل للتاجر أَلا تصبر حَتَّى يصل السُّلْطَان دَاره ثمَّ يسلم لَك فَامْتنعَ وَقَالَ لَا أفارقه عَن هَذَا الْمَكَان حَتَّى أَقبض مَا هُوَ لي فبادر السُّلْطَان وَأمر من جَاءَهُ بِالْمَالِ وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ مُقيم بِمَجْلِس قريب من مجْلِس القَاضِي فَلَمَّا وصل المَال فسلمه للتاجر وَأَبْرَأ ذمَّة السُّلْطَان فَحِينَئِذٍ قَامَ القَاضِي وَسلم على السُّلْطَان واعتنقه فَقبل السُّلْطَان بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ صدق من سماك كَمَال الدّين وَعَاد السُّلْطَان حَيْثُ كَانَ
وَمن غَرِيب مَا حُكيَ من ثقوب فطنته أَن امْرَأَة وصلته وَمَعَهَا ثَلَاثَة رجال فَادّعى أحدهم أَنَّهَا ابْنَته وَادّعى الآخر أَنَّهَا زَوجته وَادّعى الثَّالِث أَنَّهَا مملوكته وَادعت الْمَرْأَة أَنهم مماليكها وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُم بينهة على صدق دَعْوَاهُ فَحكم لمن ادّعى الْبُنُوَّة أَنه تزوج بحرة وَهُوَ مَمْلُوك فأولدت حرَّة اشترت أَبَاهَا فَعتق عَلَيْهَا وَلمن ادّعى الزَّوْجِيَّة بِأَنَّهَا تزوجته وَهُوَ مَمْلُوك ثمَّ اشترته فانفسخ نِكَاحهَا وَبَقِي على الْملك وَلمن ادّعى ملكهَا تتعارض بينتها وبينته وسقوطهما على الْأَصَح من مَذْهَب الشَّافِعِي وَله مُخْتَصر رد بِهِ على طَاهِر بن يحيى حِين تظاهر بِمَا تظاهر من المعتقد بعد وَفَاة أَبِيه وَبَالغ فِيهِ بالإنكار عَلَيْهِ وَلم يزل فِي قَضَائِهِ موفقا حَتَّى توفّي سنة أَربع وسِتمِائَة بِذِي أشرق وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه عمر توفّي بحياته بعد أَن تفقه
وَمِنْهُم الأخوان مُحَمَّد وأسعد ابْنا الْفَقِيه طَاهِر بن يحيى بن ابي الْخَيْر مولد مُحَمَّد سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة ولي قَضَاء عدن وَأخذ عَنهُ بهَا جمَاعَة سيرة ابْن هِشَام وَغَيرهَا وَهُوَ أحد طَرِيقين لنا بهَا لما ارتحل مَعَ أَبِيه مَكَّة وَأَخذهَا عَن جمَاعَة وَكَانَ أَخذه لَهَا عَن عمر بن عبد الحميد وَلم أتحقق لأحد مِنْهُمَا تَارِيخا
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن سَالم بن عيان بن فضل بن مَسْعُود العبيدي نسبا
بِالْبَاء الْمُوَحدَة مخفوضة بعد عين مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ يَاء نسب نِسْبَة إِلَى جد لَهُ بِبَلَد كَبِيرَة فِي الْيمن مِنْهُم نَاس يسكنون وَاديا يُقَال لَهُ وَادي عميد هَذَا مِنْهُم وَلذَلِك كَانَ يُقَال لَهُ العميدي لِأَنَّهُ كَانَ يسكن فِيهِ وَهُوَ على نصف مرحلة من الْجند وَضَبطه بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة ثمَّ مِيم مخفوضة ثمَّ يَاء سَاكِنة مثناة من تَحت ثمَّ دَال مُهْملَة على وزن فعيل كَانَ هَذَا الْفَقِيه يسكن قَرْيَة من الْوَادي الْمَذْكُور تعرف بالظفير بِظَاء قَائِمَة مُعْجمَة بعد ألف وَلَام ثمَّ فَاء مخفوضة ثمَّ يَاء مثناة سَاكِنة من تَحت ثمَّ رَاء وَله إِلَى الْآن بهَا ذُرِّيَّة يحترمون ويقدرون ببركته وَكَانَ فَقِيها صَالحا غلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة وَشهر بالصلاح واستجابة الدُّعَاء بِحَيْثُ كَانَ يقْصد من أنحاء الْيمن للتبرك وَطلب الدُّعَاء نفع الله بِهِ وَكَانَ إِذا قَامَ لورده بِاللَّيْلِ بغرفة من بَيته أنارت الغرفة حَتَّى كَأَنَّمَا يُوقد بهَا شمع فَيَأْتِي النَّاس إِلَى حول ذَلِك ويقفون وَيدعونَ الله بِمَا شَاءُوا فَلَا يلبثُونَ أَن يَجدوا أَمارَة الاستجابة وَأَخْبرنِي شَيْخي الإِمَام أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الأصبحي نور الله مضجعه أَنه ثَبت لَهُ بِنَقْل صَحِيح أَن هَذَا الْفَقِيه كَانَ مَتى قَامَ لورده بِاللَّيْلِ أنار الْموضع حَتَّى يخال أَن الْفَقِيه يُوقد لَهُ شمع وَأَن بعض الْفُقَهَاء سمع بذلك فَقَالَ رُبمَا أَن يكون ذَلِك من الشَّيْطَان
ثمَّ وصل إِلَى الْفَقِيه على سَبَب الزِّيَارَة فَأكْرمه الْفَقِيه وبيته مَعَه ثمَّ جَاءَ من اللَّيْل وَقت الْورْد فَقَامَ الْفَقِيه لورده فأضاء الْبَيْت إضاءة عَظِيمَة ثمَّ إِن الْفَقِيه الضَّيْف لما رأى ذَلِك جعل يَتْلُو شَيْئا من الْقُرْآن ليبطل فعل الشَّيْطَان إِن كَانَ فَلم يَزْدَدْ إِلَّا إضاءة بِحَيْثُ أَنه رأى نملة تمشي على جِدَار الْبَيْت وَلم تُؤثر تِلَاوَته فَعلم أَن ذَلِك من فضل الله سُبْحَانَهُ فَاسْتَغْفر الله تَعَالَى واستطاب بَاطِن الْفَقِيه وَسَأَلَهُ أَن يسْتَغْفر لَهُ فَفعل ذَلِك
وَأَخْبرنِي الثِّقَة من أهل الْعلم وَالدّين أَنه ثَبت لَهُ عَن هَذَا الْفَقِيه أَن رجلا من أَصْحَابه كَانَ مَشْهُورا بالأمانة والديانة وَكَانَ النَّاس يودعونه أَمْوَالهم فَقدر الله أَن مَاتَ فَجْأَة فَلم يكد أهل الوداعات يتركون أحدا يقبره إِلَّا بِمَشَقَّة وهربت امْرَأَته وَولده وَلم يدريا مَا يفْعَلَانِ واستخفيا عِنْد بعض المعاريف ثمَّ إِن الْمَرْأَة ألهمت أَن ترسل وَلَدهَا إِلَى الْفَقِيه يُخبرهُ بِمَوْت أَبِيه صَاحبه وَأَنه مَاتَ فَجْأَة وَمَعَهُ ودائع كَثِيرَة للنَّاس دَفنهَا وَلم يطلع أحد عَلَيْهَا فَقَالَت لابنها يَا بني تقدم إِلَى الْفَقِيه وَأخْبرهُ بحالنا وَأَن أَبَاك كَانَت مَعَه
ودائع للنَّاس وَأَنه مَاتَ فَجْأَة وَأَنه آذَانا أَهلهَا بِحَيْثُ لم نقدر نحضر قبرانه لذَلِك ولكثرة طلب النَّاس بِمَا هُوَ لَهُم فَلَمَّا قَالَت لولدها بذلك وَهُوَ شَاب جَاهِل قَالَ لَهَا وَمَا عَسى أَن يفعل لنا الْفَقِيه فَلم تزل تلاطفه وَقَالَت يَا وَلَدي الصالحون لَهُم من الله مَا شَاءُوا فافزع إِلَيْهِ لَعَلَّ الله يفرج عَنَّا برحيل النَّاس ثمَّ مخلف أَبِيك فأجابها على كره وَتقدم إِلَى الْفَقِيه فَلَمَّا وَصله أخبرهُ بِأَنَّهُ ابْن فلَان صَاحبه وَأَن صفة مَوته كَذَا وَكَذَا فَاسْتَرْجع الْفَقِيه وترحم عَلَيْهِ ثمَّ الْتقط حَصَاة بَيْضَاء من الأَرْض وَقَالَ للصَّبِيّ اعرف هَذِه يَا وَلَدي فَإِذا عدت فَادْخُلْ أَنْت ووالدتك الْبَيْت سرا فَحَيْثُ تَجِد هَذِه الْحَصَاة من الْبَيْت فاحفر ذَلِك الْموضع ثمَّ إِن الْفَقِيه رمى بهَا إِلَى نَاحيَة بَيت الرجل فَلم يُمكن الصَّبِي إِلَّا استودع الْفَقِيه وَعَاد إِلَى أمه وَهُوَ بَين مكذب ومصدق فَلَمَّا وَصلهَا أخْبرهَا الْأَمر الَّذِي كَانَ من الْفَقِيه فَقَالَت يَا بني قد عرفت من الْفَقِيه أمورا كَثِيرَة أعظم من هَذَا
ثمَّ لما كَانَ اللَّيْل تسللا ودخلا الْبَيْت سرا ومعهما مَا يحفران بِهِ ومصباح يستضيئون بِهِ فَلَمَّا صَارا بِموضع من الْبَيْت رَأَتْ الْمَرْأَة حَصَاة بَيْضَاء كَمَا وصف لَهَا ابْنهَا فالتقطتها وَقَالَت يَا بني تعرف الْحَصَاة الَّتِي أراكها الْفَقِيه قَالَ نعم فأرته إِيَّاهَا فَقَالَ هِيَ وَالله هَذِه فَأَقْبَلَا على حفر الْموضع الَّذِي كَانَت بِهِ فأخرجا مِنْهُ ظرفا كَبِيرا بِهِ وداعات النَّاس على كل ودَاعَة مَكْتُوب اسْم صَاحبهَا وَمَا كَانَ لَهُ لم يكْتب عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ سرجا بيتهما وباتا فِيهِ فَلَمَّا أصبح الصَّباح طلب الصَّبِي من كَانَ فِي الْقرْيَة من أهل الوداعة وَسَأَلَهُ عَن أَمارَة مَا هُوَ لَهُ فَقَالَ بهَا فَأعْطى ثمَّ وصل الْبَاقُونَ من الْبعد فَفَعَلُوا ذَلِك وَأخذُوا مَا هُوَ لَهُم
وَحصل من بعض فُقَهَاء زَمَانه تظاهر ببدعة فهجره جَمِيع الْفُقَهَاء وأنكروا كَونه مِنْهُم وحذروا النَّاس مِنْهُ فَصَارَ لَا يكَاد يبتدأ بِالسَّلَامِ وَلَا يرد عَلَيْهِ فِي الْغَالِب فَضَاقَ بِهِ الْحَال وَعلم أَن هَذَا الْفَقِيه رُبمَا يلتبس عَلَيْهِ بعض حَاله لِأَنَّهُ لَا خبْرَة لَهُ بالبدع وأصولها بل مُعظم اشْتِغَاله بِالْعبَادَة فوصله وَصَارَ يخالطه وَيظْهر لَهُ الود فَكتب إِلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء يحذرهُ مِنْهُ وَيَقُول لَهُ هُوَ على غير السّنة فَلَا تحل صحبته فشق ذَلِك على الْفَقِيه وَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يرِيه صدق مَا قيل عَن الْفَقِيه المبتدع فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ سمع قَائِلا يَقُول اقْرَأ وَقَرَأَ الْقَائِل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ} إِلَى قَوْله {سَوَاء السَّبِيل} فَلَمَّا أصبح لم يكن لَهُ هم غير الاختفاء عَن
الْفَقِيه والاعتذار عَن مواجهته حَتَّى كَانَ ذَلِك سَببا لرجوعه إِلَى مَذْهَب السّنة نقلت ذَلِك من خطّ الإِمَام سيف السّنة
وَمِمَّنْ انْتفع بِهَذَا الْفَقِيه سُفْيَان الأبيني الْآتِي ذكره وَذَلِكَ أَن والدته كَانَت من أهل بلد الْفَقِيه وَكَانَ وَالِده يَأْمَن الْفَقِيه فِي الذّهاب وَالرُّجُوع لطلب التِّجَارَة فَتزَوج من عِنْده وَرُبمَا ولدت سُفْيَان عِنْده وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله فِي ذكره وقدمت قَرْيَة الظفير فِي شهر شعْبَان سنة عشْرين وَسَبْعمائة لغَرَض زِيَارَة ابْن بنته وَالْمَوْجُود من ذُريَّته وتربته وأبحث عَن اللَّائِق من أَحْوَاله فَوجدت الْمَوْجُودين من ذُريَّته الْغَالِب عَلَيْهِم العامية لَا يعْرفُونَ شَيْئا من تَارِيخ وَلَا سواهُ وَوجدت مَعَهم مُقَدّمَة بِخَط الطواشي جَوْهَر المعظمي ختمة قُرْآن وَقفهَا بِالْبَلَدِ وَشرط نظرها للفقيه
وَمن ذُريَّته قُضَاة مشْعر موضعا من الشوافي وَضَبطه بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْعين الْمُهْملَة ثمَّ رَاء وَبَلغنِي أَن وَفَاته على آخر المئة السَّادِسَة تَقْرِيبًا
وَمن تهَامَة ثمَّ من زبيد بَنو أبي عقامة غير من تقدم وَقد اعتمدت فِي ذكرهم مَا ذكره الْفَقِيه عمَارَة من التَّرْتِيب وَخبر من أخبر بهم ابْن سَمُرَة وَقد تقدم ذكر جمَاعَة على مَا ذكرهم عمَارَة ورتب إِذْ هُوَ خَبِير بهم فَإِنَّهُ صحب جمعا مِنْهُم فَنقل مِنْهُم أَحْوَال متقدميهم كَمَا أوردته وَأورد من أهل طبقته جمَاعَة
مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ بن أبي عقامة وَهُوَ ابْن أخي الْحسن بن مُحَمَّد القَاضِي الشَّهِيد الْمُقدم ذكره
قَالَ عمَارَة كَانَ فَقِيها فَاضلا شَاعِرًا مترسلا من شعره ... مَا لهَذَا الْوَفَاء فِي النَّاس قلا ... أَترَاهُم جفوه حَتَّى استقلا ... وَمن ترسلاته مَا كتبه إِلَى ابْن عَمه أبي حَامِد بن أبي عقامة بِسَبَب مناقشة حدثت بَينهمَا على حكم سل عني قَوْمك ويومك وَأمْسك تجدني مُعظما فِي النُّفُوس وَقَاعِدا على قمم الرؤوس
قَالَ عمَارَة وَمِمَّنْ عاصرته وعاشرته القَاضِي الْفَاضِل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن
القَاضِي عبد الله مقدم الذّكر وَيعرف بالحفائلي وَهُوَ لقب من ألقاب الْمكتب كَانَ نبيلا فَاضلا فَقِيها متكلما شَاعِرًا مترسلا رَئِيسا ممدحا يثيب على الْمَدْح إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة مَذْهَب الشَّافِعِي بزبيد وَإِلَى ابْن عَمه حاكمها يَوْمئِذٍ أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْفتُوح وَأورد من شعر الحفائلي مَا كتبه جَوَابا إِلَى ابْن عَمه أبي الْعِزّ بن أبي الْفتُوح مقدم الذّكر قَوْله ... رفقا فدتك أوائلي وأواخري ... أَيْن الأضاة من الْفُرَات الزاخر
أَنْت الَّذِي نوهت بِي بَين الورى ... وَرفعت للسارين ضوء مفاخري ... وَله قصيدة يتشوق بهَا إِلَى إخوانه ... تشتاقكم كل أَرض تَنْزِلُونَ بهَا ... كأنكم لبقاع الأَرْض أمطار ... وَمِنْه مَا كتبه جَوَابا إِلَى عمَارَة ... إِذا فاخرت سعد الْعَشِيرَة لم يكن ... لأحلافها إِلَّا بأسلافك الْفَخر
وبيتك مِنْهَا يَا عمَارَة شامخ ... هوت تَحْتَهُ الشعرى ودان لَهُ الشّعْر ... وَمن مُعَاتَبَته لبَعض إخوانه مِمَّن تغير لَهُ عَن معهوده ... عذرتك لَو كَانَت طَرِيقا سلكتها ... مَعَ النَّاس أَو لَو كَانَ شَيْئا تقدما
فَأَما وَقد أفردتني وخصصتني ... فَلَا عذر إِلَّا أَن أَعُود مكرما ... وَهَذَا آخر مَا ذكره عمَارَة قَالَ ابْن سَمُرَة فِي حق هَذَا الحفائلي ولي قَضَاء زبيد من قبل الْحَبَشَة وَكَانَ مُعظما عِنْدهم ذَا جاه كَبِير وَعلم غزير تفقه بِأَهْل بَيته
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن القَاضِي عبد الله بن عَليّ بن مُحَمَّد وَهُوَ أَخُو الحفائلي وَأَخُوهُ أَبُو بكر بن عبد الله قَالَ وَآخرهمْ فِي هَذِه الْمدَّة يَعْنِي مُدَّة القَاضِي عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله القَاضِي بن أبي الْفتُوح الْمَذْكُور أَولا وَهُوَ حَاكم زبيد من جِهَة أثير الدّين قَاضِي قُضَاة الْيمن صدر دولة سيف الْإِسْلَام تفقه بِحسن الشَّيْبَانِيّ وَلما قيل لَهُ أَعنِي الشَّيْبَانِيّ يقْعد قَاضِيا بزبيد أَشَارَ عَلَيْهِم بِهِ لما قد خَبره من فقهه وَدينه وَلم يزل بَنو أبي عقامة قُضَاة زبيد وَرُبمَا كَانَ فِي التهائم مُنْذُ دخل ابْن زِيَاد وجدهم مُحَمَّد بن هَارُون إِلَى صدر الدولة المظفرية حَتَّى كَانَ آخِرهم القَاضِي إِبْرَاهِيم وَلم يكن مثبتا فِي الْقَضَاء فَلَمَّا ولي الإِمَام إِسْمَاعِيل الْقَضَاء وَتحقّق مِنْهُ مَا
يُوجب الْعَزْل وعزم على عَزله من الْقَضَاء بزبيد أَشَارَ عَلَيْهِ من أَشَارَ بِأَن لَا يفعل ذَلِك حَتَّى يشاور الْملك المظفر وَهُوَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ فَكتب إِلَيْهِ يُخبرهُ بذلك فَأَدْرَكته عَلَيْهِ شَفَقَة لأجل أَهله وَمَا لَهُ من سَابق قدم بِالْقضَاءِ فجوب إِلَى الإِمَام إِسْمَاعِيل يستعطفه عَلَيْهِ وَيَقُول يَا سيد هُوَ من بَيت أَنْت تعلم حَالهم وسابقتهم فِي هَذَا الشَّأْن فَتصدق عَلَيْهِ بالْعَطْف وَالصَّبْر كَرَامَة لسلفه وَخرج الْجَواب مَخْتُومًا عَلَيْهِ اسْم القَاضِي أبي عون فَظن أَنه قَاضِي الْبَلَد لَا قَاضِي الْقُضَاة فوصل بِهِ إِلَيْهِ فحين رَآهُ فضه وَقَرَأَ كتاب قَاضِي الْقُضَاة وَجَوَاب السُّلْطَان ثمَّ طواه وَاعْتذر وَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى قَاضِي الْقَضَاء وأعلموه أَن الرَّسُول غلط وغلطت بِفَتْح الْكتاب فحين وصل الْكتاب إِلَى الإِمَام إِسْمَاعِيل وقرأه علم أَنه قد وقف عَلَيْهِ تغير خاطره من ذَلِك إِذْ كَانَ يحب أَن لَا يطلع على ذَلِك مَعَ مساعدة السُّلْطَان لَهُ كَيفَ مَعَ عدمهَا ثمَّ إِن ابْن أبي عقامة خرج من فوره يُرِيد أَرضًا لَهُ بِجِهَة المسلب ينظر حَالهَا فَلَمَّا عَاد مِنْهَا عثرت دَابَّته فَسقط فاندق عُنُقه فَلم يرفع إِلَّا مَيتا وَهُوَ آخر من ولي الْقَضَاء مِنْهُم وَذريته الموجودون بزبيد من بني عقامة لَيْسَ فيهم مشتغل بِالْعلمِ بل يتعانون الزِّرَاعَة وَمِنْهُم جمَاعَة يسكنون وَادي سِهَام بقرية تنْسب إِلَيْهِم فَيُقَال أَبْيَات الْقُضَاة والقرية تعرف بِمحل الدارية يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم إِن شَاءَ الله
وَمِنْهُم جمَاعَة يسكنون بِلَاد المعافر بقرية يَأْتِي ذكر المتحقق مِنْهُم أَيْضا إِن شَاءَ الله
وَمن أهل الْجبَال ثمَّ من أهل الصلو جمَاعَة يعْرفُونَ ببني عبد الْملك ثمَّ من بني ضباس فَخذ من الأشعوب وَضبط ضباس بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ سين مُهْملَة أول من ذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْملك بن مُحَمَّد بن أبي الْفَلاح كَانَ مدرسا بِجَامِع عمق قَرْيَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْمِيم ثمَّ قَاف سَاكِنة وَهُوَ جَامع أحدثه الشَّيْخ جَوْهَر المعظمي على مَا سَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله ثمَّ لما توفّي خَلفه أَخُوهُ أَحْمد بن عبد الْملك ثمَّ انْتقل التدريس إِلَى ابْن أَخِيه الْقَاسِم بن مُحَمَّد مقدم الذّكر وَذَلِكَ بحياة عَمه أَحْمد وَكَانَ حَاكم الْبَلَد ثمَّ خَلفه ابْن عَمه عمر ثمَّ كَانَ آخر مشاهيرهم ولد لَهُ اسْمه يُوسُف كَانَ
فَقِيها متفننا بالفقه والنحو واللغة تفقه فِي بدايته بِبَعْض أَهله وَأخذ النَّحْو عَن مُحَمَّد بن سعيد الْحِمْيَرِي وَحج مَكَّة فَأدْرك ابْن حسن فَأخذ عَنهُ وَعَن من وجد بِمَكَّة حِينَئِذٍ
قَالَ بعض الْفُقَهَاء من أهل ناحيته حِين سَأَلته عَن حَقِيقَة أمره هُوَ شيخ الْأَدَب إِلَيْهِ انْتهى الْعلم وَالْفضل وَالْفِقْه وَالدّين والكمال والورع وَالصَّلَاح لم يكن فِيمَن علمت مثله قبله وَلَا بعده فِي كَمَال طَرِيقه وَحسن تَحْقِيقه وَكَانَت وَفَاته فِي آخر المئة السَّابِعَة وانتجع عَن الْبَلَد مِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد تفقه بمصنعة سير وتفقه بالأصبحي وَكَانَ أفقه أَصْحَابه وأدركته يدرس فِيهَا وَأخذت عَنهُ بعض كَافِي الصردفي وَسَيَأْتِي ذكره فِي مدرسي المصنعة وهم بَيت علم وَصَلَاح
وَلَقَد كتب فَقِيه ناحيتهم فِي عصرنا الْآتِي ذكره إِلَيّ حِين كتبت إِلَيْهِ أسأله عَن الْفُقَهَاء بناحيته فَأَخْبرنِي عَن ذَلِك حَتَّى جَاءَ إِلَى ذكر هَؤُلَاءِ بني عبد الْملك فَقَالَ وَأما السَّادة بَنو عبد الْملك فِي عمق فهم الْفُضَلَاء الْقُضَاة الْعلمَاء الأتقياء الْأَبْرَار الأخيار المنتخبون مِمَّن سمعنَا مِنْهُم وعد جمَاعَة مِمَّن ذكرنَا
وَقد عرض ذكر الشَّيْخ جَوْهَر فِي غير هَذَا الْموضع لَكِن رَأَيْت ذكره هُنَا أولى لكَونه من ناحيته وَمِمَّنْ لَهُ على هَؤُلَاءِ الْقَوْم إفضال وَأَنه مَعْدُود من أَعْيَان الْفُضَلَاء وَهُوَ أَبُو الدّرّ جَوْهَر بن عبد الله المعظمي كَانَ أستاذا حَبَشِيًّا من موَالِي الزريعيين ونسبته المعظمي إِلَى الدَّاعِي مُحَمَّد بن سبأ فَإِنَّهُ كَانَ يلقب بالمعظم وَخَلفه فِي حصن الدملوة وَسَيَأْتِي ذكره أَعنِي سَيّده فِي الْمُلُوك
وَلما توفّي الْمُعظم خَلفه ابْنه عمرَان الملقب بالمكرم أبقى جوهرا على نِيَابَة الدملوة ثمَّ لما دنت وَفَاته جعله وَصِيّا على أَوْلَاده وَكَانُوا يَوْمئِذٍ صغَارًا كلهم فنقلهم من عدن إِلَى الدملوة وَأكْرمهمْ وَقَامَ بكفايتهم أحسن قيام وعضده فِي ذَلِك الشَّيْخ يَاسر بن بِلَال بن جرير المحمدي إِذْ كَانَ وزيرا لعمران ومديرا لدولته كَمَا كَانَ أَبوهُ مَعَ أَبِيه كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله وَكَانَ جَوْهَر عبدا مُبَارَكًا تقيا ومشتغلا بِالْعلمِ أجمع فُقَهَاء عصره على تَسْمِيَته بِالْحَافِظِ وَكَانَ مَعَ ذَلِك فَقِيها مقرئا قل أَن يحفظ شَيْئا فينساه وَله مصنفات فِي علم الْقُرْآن والْحَدِيث والوعظ وَكَانَ يسلم من مَذْهَب موَالِيه ويعتمد خطه فُقَهَاء زَمَانه من أهل السّنة يواصلهم ويواصلونه وَمن كتبه الَّتِي صنفها فِي المواعظ كتاب سَمَّاهُ تذكرة الأخيار ومدخرة الأشرار وَمَا أحسن قَوْله فِي خطبَته لما علمت أَن الْمَوْت موردي والقبر مشهدي جعلته تَنْبِيها لنَفْسي من الْغَفْلَة وَتَذْكِرَة لي قبل يَوْم الرحلة لَعَلَّ يتغمدني الله بِالْعَفو عَن قَبِيح مَا أسديته ويتجاوز عَن شنيع مَا جنيته
وَأفهم من هَذِه الْخطْبَة أَنه قد عمل كتابين أَحدهمَا كتاب الْمُنَاجَاة والأدعيات وَالْآخر كتاب الرسائل وشريط الْوَسَائِل وَله كتاب سَمَّاهُ اللؤلؤيات جعله فصولا فِي المواعظ واستفتح كل فصل مِنْهَا
بِحَدِيث أسْندهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ إِنَّمَا أوردت هَذِه الْأَحَادِيث مُسندَة لَا تنظم بسلك أحد طَرفَيْهِ مُتَّصِل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يزل قَائِما بكفالة أَوْلَاد سَيّده حَافِظًا لحصن الدملوة حفظا مرضيا وَأمره نَافِذ بعدن ونواحيها وَهُوَ مصَالح لبني مهْدي على ذَلِك بِمَال يحملهُ كل عَام حَتَّى قدمت الغز فَأخذ توران عدن وَلزِمَ يَاسر بن بِلَال وَعَبده السدُوسِي مِفْتَاح فوسطهما وَقيل شنقهما ولزومهم وتوسيطهم بِذِي عدينه سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة ثمَّ عَاد إِلَى مصر على مَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله
وجوهر هَذَا بَاقٍ على الحزم والعزم بحصن الدملوة وَلم يزل كَذَلِك على الطَّرِيق المرضي من الدّين وَالدُّنْيَا حَتَّى هلك توران وَقدم سيف الْإِسْلَام بالتاريخ الْآتِي وَبَاعَ مِنْهُ الْحصن حِين رَآهُ وَقد غلب على كثير من الْحُصُون والمدن وَعلم أَن لَا طَاقَة لَهُ بمقاومته وَذَلِكَ بتاريخ سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة كَمَا سَيَأْتِي وَلما بَاعه اشْترط أَن لَا ينزل من الْحصن وَلَا يطلع لَهُم نَائِب حَتَّى يكون جَمِيع عِيَال سَيّده قد جاوزوا الْبَحْر وَأَنَّهُمْ يركبون من المخا أَو نَحوه فَأَجَابَهُ سيف الْإِسْلَام إِلَى ذَلِك لما علمه من صعوبة الْحصن فحين وثق وَسلم لَهُ المَال وَلَا أَدْرِي كم مبلغه جهز أَوْلَاد سَيّده من الْبَنِينَ وَالْبَنَات إِلَى سَاحل المخاء وتجهز مَعَهم بزِي امْرَأَة مِنْهُم وَأخذ مصونهم حَتَّى جَاءَ السَّاحِل ركب الْبَحْر وَقد لَهُ سفن هُنَالك معدة فَركب وسافر إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَقد ترك كَاتبا فِي الْحصن يكْتب مَا يحْتَاج ويجهز بَقِيَّة مَا يَلِيق تَجْهِيزه وَيُوجد الغز أَن الطواشي بَاقٍ فِي الْحصن وَكَانَ قد كتب عدَّة أوراق عَلَيْهَا علامته وَكَانَ الغز قد أضمروا الْغدر بالطواشي وَأَنه مَتى نزل من الْحصن لزموه وَأخذُوا مِنْهُ مَا قَبضه وَزِيَادَة عَلَيْهِ وَلما فرغ مَا فِي الْحصن من قماش وَغَيره وَنزل الْكَاتِب وَقد صَار الطواشي وَمَا مَعَه من وَرَاء الْبَحْر فَسئلَ الْكَاتِب عَنهُ فَقَالَ هُوَ فِي أول من نزل فَعجب سيف الْإِسْلَام مِنْهُ وَقَالَ كَانَ يَنْبَغِي استخلافه وإبقاؤه فِي الْحصن فَقل وجود مثله فِي دينه وحزمه وعزمه وَلم يزل الطواشي بِالْحَبَشَةِ حَتَّى هلك هُنَالك وَأَوْلَاد سَيّده وَله فِي جَزِيرَة الْعَرَب من الْآثَار المتبقية للذّكر مَعَ السِّيرَة المرضية عدَّة مآثر مِنْهَا أَنه نسخ بِيَدِهِ عدَّة مُقَدمَات ووقفها فِي أَمَاكِن مُتَفَرِّقَة مِنْهَا فِي جَامع الْجند ثَلَاثُونَ جُزْءا ختمة كَامِلَة وَنَحْوهَا رَأَيْتهَا بوادي عميد مَعَ ذُرِّيَّة الْفَقِيه عَليّ بن سَالم وَقفهَا بحياة الْفَقِيه وَلَو لم يكن لَهُ غير جَامع عمق الَّذِي تقدم ذكره فَإِنَّهُ بناه أحسن بِنَاء ووقف عَلَيْهِ
وَقفا عَظِيما يقوم بِجمع من الطّلبَة ثمَّ بنى جَامعا آخر فِي بِلَاد الأشعوب يُقَال لَهُ معبرة وَآخر يُقَال لَهُ الخناخن وَضبط الْمَوْضِعَيْنِ الأول بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء وَسُكُون الْهَاء وَالثَّانِي بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة بعد ألف وَلَام وَفتح النُّون ثمَّ ألف ثمَّ خفض الْخَاء الْمُعْجَمَة أَيْضا ثمَّ نون وَللَّه دره
وَمن آثاره الْفَقِيه بطال أَيْضا فَإِنَّهُ ارتهنه من أَهله على مَا سَيَأْتِي ذكره فهذبه وَعلمه الْقُرْآن وَصَارَ إِمَامًا مَقْصُودا مَشْهُورا وَلم أعلم لَهُ علما يَنْبَغِي إِيرَاده وَكَانَ سَفَره بالتاريخ الْمُتَقَدّم
وَمن النَّاحِيَة أَيْضا سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُحَمَّد بن فهيد جمع بَين الْفِقْه والقراءات السَّبع والعربية
وَمِنْهُم أسعد بن مُحَمَّد كَانَ أديبا بارعا فَقِيها فِي الْعَرَبيَّة مدرسا بمنزله الْمُسَمّى أروس إِلَى أَن توفّي سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم عَليّ بن سُلَيْمَان ثمَّ الأخوان ابْنا الأديب منقذ وَعلي ابْنا عبد الله قَالَ ابْن سَمُرَة وهما مجودان فِي الْعَرَبيَّة وَمن أهل الجؤة القَاضِي الْمُبَارك بن إِسْمَاعِيل ولي قضاءها وَكَانَ فَاضلا روى عَنهُ الْحَافِظ العرشاني وَكَانَ فَقِيها مُحدثا
وَمِنْهُم عمر بن حَرْب ولي قضاءها ثمَّ الْخَطِيب أَحْمد بن عبد الله بن الإِمَام ثمَّ القَاضِي عَليّ بن يحيى أَخُو عَليّ وَأحمد وَأَصله من تهَامَة
وَمن إتحم بخفض الْهمزَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ مِيم سَاكِنة القَاضِي أَبُو بكر بن أبي الْفَتْح بن أبي السهل والفقيه سمير
وَمن خدير الْقُضَاة آل أبي ذرة مِنْهُم مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي ذرة والفقيه مَسْعُود بن ثَعْلَب وَقد تقدم مِنْهُم يحيى بن عبد الْعَلِيم وَغَيره من أَهله
وَمن المعافر من قَرْيَة الحسيد بِضَم الْحَاء وَفتح السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ دَال مُهْملَة جمَاعَة مِنْهُم بَنو الدقاق مِنْهُم عمر بن الدقاق قَالَ
ابْن سَمُرَة وَتزَوج فيهم عَليّ بن يحيى بن عبد الْعَلِيم وَعلي بن مُحَمَّد بن بلاوة الْجَعْدِي قلت وَفِي الْقرْيَة الْمَذْكُورَة جمَاعَة من آل أبي عقامة أَخْبرنِي بذلك ثِقَة وَأَنَّهُمْ فِي عصرنا يتولون الحكم بِتِلْكَ النَّاحِيَة
وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن أبي الْأَغَر الْوَلِيد وَعمْرَان بن يحيى بن عَليّ من الأشعوب ولي قَضَاء المعافر أَيَّام شمس الدولة وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن أبي الْأَغَر ولي قضاءها من جِهَة القَاضِي الْأَثِير
وَمِنْهُم ابْن أَفْلح وَابْن دُحَيْم وَمِنْهُم حسن الدباني أَصله من تهَامَة ثمَّ سكن جبل ذبحان من المعافر وَمَات هُنَالك
وَمن جباء وَهِي بلد مبارك تقدم ضَبطهَا مَعَ ذكر القَاضِي الجندي خرج مِنْهَا جمع من أَعْيَان الْفُضَلَاء مِنْهُم عليان بن مُحَمَّد الحاشدي وَمِنْهُم بَنو البلعاني بَيت رئاسة وأصلهم من حراز وَمِنْهُم جمَاعَة فُقَهَاء مِمَّن ذكر ابْن سَمُرَة
مِنْهُم عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد وَمُحَمّد بن عبد الله القَاضِي قَالَ ابْن سَمُرَة
وَقد ذكره وَغَيره من أقرانه مِمَّن لم يحضرني معرفتهم الْآن وَهَذَا من قَوْله يدل على أَن فيهم جمَاعَة لم يتحققهم
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن الشَّيْخ يحيى بن إِسْحَاق بن عَليّ بن إِسْحَاق العياني ثمَّ السكْسكِي نِسْبَة إِلَى قوم يعْرفُونَ بالأعيون قَبيلَة فِي الْيمن مِنْهُم جمَاعَة بالجانب الْيَمَانِيّ من أَعمال الْجند ونسبتهم إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا عيانة بِعَين مُهْملَة مَضْمُونَة وياء مثناة من تَحت ثمَّ ألف وَنون مَفْتُوحَة وهاء سَاكِنة وَهِي بِبَلَد مقمح بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة كَانَ وَالِد هَذَا أبي بكر من أَعْيَان الْيمن فِي الصّلاح وثروة المَال وَفعل الْمَعْرُوف وَكَثْرَة الْحَج وَكَانَ أهل الْحجاز إِنَّمَا يسمونه زين الْحَاج لِكَثْرَة الْمَعْرُوف الَّذِي كَانَ يَفْعَله هُنَاكَ وَلما علم بِهِ صَاحب بَغْدَاد وبدينه كتب لَهُ مُسَامَحَة بغالب أرضه وَأَن يبْقى عَلَيْهَا مَا بَقِي من ذُريَّته إِنْسَان وَهِي بِأَيْدِيهِم إِلَى الْآن يجرونَ عَلَيْهَا وَذريته أهل عصرنا فِي فعل الْمَعْرُوف وَالصَّبْر على الْإِطْعَام للقاصد ومؤاساة الْوَاصِل ثمَّ الْقيام بِحَال طلبة الْعلم بِحَيْثُ أَنه
قد يجْتَمع مَعَهم نَحْو المئة طَالب يقومُونَ بكفايتهم من الطَّعَام وَلَا أجد ذَلِك إِلَّا بركَة هَذَا الرجل الشَّيْخ يحيى وَكَانَ كثير الزِّيَارَة لفقهاء ذِي أشرق فَلَمَّا سمعهم يثنون على الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن حديق بجودة الْفِقْه وَالدّين سَأَلَهُ أَن ينْتَقل مَعَه إِلَى جبا ليقرىء ابْنه هَذَا أَبَا بكر وَغَيره فَأَجَابَهُ وَسَار إِلَى جبا وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله
وَلَقَد قدمت جبا فِي جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة لغَرَض زِيَارَة تربته وتربة الأخيار حوله من ذُريَّته وَغَيرهم فَوجدت ذُريَّته على الْحَال المرضي من الْإِطْعَام والإيناس لمن ورد عَلَيْهِم بِحَيْثُ غلب على ظَنِّي عدم وجود مثلهم فِي الْيمن لَا سِيمَا فِي الْجبَال إِذْ قد يذكر عَن بني البَجلِيّ مَا يضاهي ذَلِك
وبحثت عَن تَارِيخ الشَّيْخ فَلم أَجِدهُ
وَأما وَلَده أَبُو بكر فَذكره ابْن سَمُرَة وَقَالَ تفقه بشيخي عَليّ بن أبي بكر وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ فِي بداية أمره فَإِنِّي رَأَيْت طبقَة سَمَاعه للمهذب إِنَّمَا يرويهِ عَن إِبْرَاهِيم بن حديق
وَأخذ التَّنْبِيه عَن غَيره وَغير من ذكره ابْن سَمُرَة أَنه تفقه عَلَيْهِ وَأخذ عَن الإِمَام سيف السّنة عدَّة من كتب الحَدِيث وَكَانَ مِمَّن حضر السماع لصحيح مُسلم عَلَيْهِ بِمَدِينَة الْجند وَحج مَكَّة سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَلَمَّا عَاد إِلَى زبيد أَخذ بهَا على الْفَقِيه عَبَّاس بن مُحَمَّد الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله
وَكَانَ فَقِيها محققا مدققا ذَا صَلَاح مَشْهُور وَعلم مَذْكُور قَصده الطّلبَة من أنحاء الْيمن رَغْبَة فِي علمه وإنسانيته مِنْهُم ابْنه يحيى وَأَخُوهُ مُحَمَّد وَغَيرهم من أهل قريته وَقَومه
وَمن المشيرق أَحْمد بن مُحَمَّد بن مَنْصُور الْجُنَيْد وَعُثْمَان بن يُوسُف بن أسعد الشّعبِيّ وَغَيره من أهل الْجبَال وَمن تهَامَة إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عجيل وَعلي بن قَاسم الْحكمِي وَعلي بن مَسْعُود الكثيبي من المخلافة وَغَيرهم وَهُوَ أَكثر فُقَهَاء الْجبَال الْمُتَأَخِّرين أصحابا أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه حج سنة وَلم يسْتَطع الزِّيَارَة إِلَى يثرب فَبَقيَ قلقا لذَلِك وقلق بَاطِنه فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَهُ يَا أَبَا بكر لم تزرنا فزرناك فَقَالَ يَا رَسُول الله بكرمك فعلت ذَلِك
فَادع الله لي فَدَعَا لَهُ وَقَالَ ولإخوتي وأولادي وَأَوْلَاد أَوْلَادِي حَتَّى عدد سَبْعَة بطُون وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو لكل بطن عِنْد ذكره لَهُم فهم يرَوْنَ أَن الْخَيْر وَالْبركَة الْمَوْجُودين فيهم ببركة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا
وَكَانَ بعض أهل الْعلم وَالصَّلَاح من أهل جبا يَقُول رُؤِيَ الْفَقِيه أَبُو بكر بن يحيى وَهُوَ يطوف بِالْكَعْبَةِ رَاكِبًا على بغلة وَحَوله نَحْو ثلثمِائة فَقِيه يَمْشُونَ بمشيته ويطوفون بطوافه وَكَانَت وَفَاته بقريته سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَهُوَ آخر من ذكر ابْن سَمُرَة من أهل جبا
وَمِمَّنْ قدم عَلَيْهِم وانتفعوا بِهِ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن حديق بن إِسْحَاق الجشيبي ثمَّ السكْسكِي والجشيبي من قوم يُقَال لَهُم الأجشوب بجيم سَاكِنة بعد ألف وَلَام ثمَّ شين مُعْجمَة مَضْمُومَة ثمَّ وَاو ثمَّ بَاء مُوَحدَة بطن من السكاسك أصل بَلَده إتحم قد تقدم ضَبطهَا خرج إِبْرَاهِيم مَعَ ثَلَاثَة من إخْوَته فسكن أكمة سُودًا ببادية الْجند فَأدْرك الْفَقِيه سُلَيْمَان فَأخذ عَنهُ وطلع ذِي أشرق فَأخذ عَن عَليّ بن أبي بكر من بني الإِمَام وَأخذ عَن القَاضِي مَسْعُود ثمَّ صَار إِلَى جبا كَمَا قدمت ذَلِك مَعَ ذكر الشَّيْخ يحيى فَلَمَّا قدم جبا قَالَ ابْن سَمُرَة انْتَهَت إِلَيْهِ رئاسة الْفِقْه وَالْفَتْوَى بهَا وتفقه بِهِ أَبُو بكر بن يحيى الْمُقدم ذكره وَبِه تفقه الإِمَام بطال الركبي وَحضر السماع على سيف السّنة بِمَسْجِد الْجند وَفِي ذِي أشرق أَيْضا وَله بهَا عقب إِلَى الْآن وَتُوفِّي بقرية الْحَصَاة وَخَلفه ابْن لَهُ اسْمه أسعد مولده ربيع الأول سنة سبعين وَخَمْسمِائة تفقه على فَقِيه كَانَ بمطران اسْمه أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الحجوري
مِنْهُم أَخُوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى كَانَ فَاضلا تفقه بِهِ وَأخذ عَن سيف السّنة وَكَانَ جيدا صَالحا يغلب عَلَيْهِ الِاشْتِغَال بكتب الحَدِيث وَفَاته لثلاث بَقينَ من شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم ابْنه يحيى كَانَ فَقِيها تفقه بِأَبِيهِ وَأخذ الْفَرَائِض عَن لَيْث بن أَحْمد كَمَا أَخذهَا عَن أَحْمد بن عبد الله الزبراني وَلم أجد لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم ابْن أَخِيه يحيى بن عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن يحيى وَبِهَذَا يحيى تفقه جمع كثير وقصده الطّلبَة من نواح شَتَّى وَوَصله مدرسو تعز ورأسهم يَوْمئِذٍ ابْن آدم الْآتِي ذكره فَأخذُوا عَنهُ الْبَيَان
وَكَانَ ذَا كرامات ومكاشفات وَبِه تفقه مُحَمَّد بن أبي بكر الأصبحي فَذكرُوا أَنه كَانَ من جَاءَهُ للْقِرَاءَة قَالَ لَهُ مرْحَبًا بك يَا مدرس سير فَكَانَ
كَمَا قَالَ درس بسير عدَّة سِنِين وَأخذ عَنهُ جمع من الطّلبَة وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك وَكَانَت وَفَاته على طَرِيق التَّقْرِيب سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بذلك أَخْبرنِي فَقِيه جبا وحاكمها حِين دَخَلتهَا بالتاريخ الْمُتَقَدّم وَخَلفه فِي التدريس وَالطَّرِيق المرضي أَخُوهُ عُثْمَان بن عبد الله تفقه بتهامة على عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عجيل وَأخذ عَن أَخِيه يحيى وَكَانَ جيدا صَالحا كثير الْعُزْلَة ببيته ويدرس فِيهِ قل أَن يخرج مِنْهُ إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ زاهدا ورعا متقللا وَكَانَ نظيف الْفِقْه لُزُوما للسّنة أَخْبرنِي ابْن أَخِيه الْفَقِيه عَليّ بن أبي بكر أحد فقهائهم وأخيارهم عَام قدمت عَلَيْهِم بالتاريخ الْمُتَقَدّم أَنه أسر إِلَيْهِ أَنه قَالَ رَأَيْت رُؤْيا إِن عِشْت لَا أخبر بهَا أحدا وَإِن مت فَأَنت بالخيرة رَأَيْت لثمان بَقينَ من رَجَب جمَاعَة فيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَنَا مني وَقبل بَين عَيْني فَقلت اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا لي عنْدك وَدِيعَة وذخرا فَاغْفِر لي يَا خير الغافرين وَمَا أظنني أعيش بعْدهَا فَقلت وَلم ذَاك قَالَ إِن ابْن نَبَاته الْخَطِيب رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبله فَلم يَعش بعد ذَلِك غير اثْنَي عشر يَوْمًا ثمَّ لم يَعش بعد ذَلِك سوى عشْرين يَوْمًا إِذْ مَاتَ يَوْم السبت خَامِس عشر من شعْبَان سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة
وَقد عرض مَعَ ذكر هَذَا الرجل الْمُبَارك ذكر الْخَطِيب ابْن نباتة وَهُوَ أحد أَعْيَان الْعلمَاء الْمَشْهُورين وَرَأس الخطباء الْمَذْكُورين فَأحب بَيَان بعض اللَّائِق بِهِ من أَحْوَاله على مَا بَلغنِي وَصفَة رُؤْيَاهُ الَّتِي أَشَارَ الْفَقِيه إِلَيْهَا فَهُوَ أَبُو يحيى عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن نباتة الفارقي فنباتة بِضَم النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة بعد ألف وتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء سَاكِنة مولده سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة
قَالَ ابْن خلكان فِي حَقه هُوَ صَاحب الْخطب الْمَشْهُورَة كَانَ إِمَامًا فِي عُلُوم الْأَدَب ورزق السَّعَادَة فِي خطبه الَّتِي وَقع الْإِجْمَاع على أَنه مَا عمل مثلهَا وفيهَا دلَالَة على غزارة علمه وجودة قريحته وَهُوَ من أهل ميافارقين وَكَانَ خطيب حلب وفيهَا اجْتمع بِأبي الطّيب المتنبي فِي خدمَة سيف الدولة بن حمدَان وَذكروا أَنه سمع مِنْهُ بعض ديوانه وَكَانَ سيف الدولة كثير الْغَزْو وَلِهَذَا أَكثر الْخَطِيب من خطب الْجِهَاد ليحض النَّاس عَلَيْهِ ويحثهم على نصْرَة سيف الدولة وَكَانَ رجلا صَالحا رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام قلت رُؤْيَاهُ مَشْهُورَة وَجدتهَا بِخَط شَيْخي القَاضِي أَحْمد بن عبد الله العرشاني وَفِي بعض كتبه بِسَنَد أَعرَضت عَن إِيرَاده ميلًا للاختصار قَالَ رَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم لَيْلَة الْجُمُعَة كأنني خَارج من بَاب من أَبْوَاب ميافارقين يعرف بِبَاب أرزد بِأَلف مَهْمُوزَة وَرَاء سَاكِنة ثمَّ زَاي مَفْتُوحَة ثمَّ دَال مُهْملَة سَاكِنة وجدته مضبوطا كَذَلِك
فحققته
نرْجِع إِلَى كَلَام الْخَطِيب قَالَ خرجت طَالبا زِيَارَة تُرَاب أَهلِي وَإِذا بِجَمَاعَة كثير قد لقوني وَفِي وَسطهمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَأَنِّي سَأَلت عَنْهُم فَقيل هَؤُلَاءِ من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا فتقدمت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخذت بِيَدِهِ الْكَرِيمَة فَقَبلتهَا وَقلت لَهُ رفع الله درجتك تقبل الله شفاعتك رحم الله أمتك
فَأَجَابَنِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على السجع وَقَالَ أقَال الله عثرتك غفر الله زلتك أحسن الله معونتك ثمَّ الْتفت إِلَى الْجَمَاعَة الَّتِي حوله وَقَالَ سلمُوا على خطيب الخطباء فَسَلمُوا عَليّ وسلمت عَلَيْهِم ثمَّ قَالَ لي خطيب الخطباء كَيفَ قلت وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَة إِلَى الْجَبانَة كَأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا للعيون قُرَّة وَلم يعدوا فِي الْأَحْيَاء مرّة أعد الْفَصْل من أَوله فابتدأت من أول الموعظة بخطابة وَترسل وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبكي وَالْجَمَاعَة يَبْكُونَ لبكائه إِلَى أَن وصلت خَاتِمَة الْخطْبَة وَقلت أسكتهم الله الَّذِي أنطقهم وأبادهم الَّذِي خلقهمْ وسيجددهم كَمَا أخلقهم ويجمعهم كَمَا فرقهم يَوْم يُعِيد الله الْعَالمين خلقا جَدِيدا وَيجْعَل الظَّالِمين لنار جَهَنَّم وقودا ثمَّ أَوْمَأت بيَدي إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإليهم وَقلت يَوْم تَكُونُونَ شُهَدَاء على النَّاس وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا وَمَا عملت من سوء تود لَو أَن بَينهَا وَبَينه أمدا بَعيدا فَقَالَ لي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْسَنت يَا خطيب الخطباء لَا فض الله فَاك قَالَ افْتَحْ فَاك ففتحته فتفل فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ انْتَبَهت ورائحة الْمسك يتضوع من فِي وَبَقِي رَضِي الله عَنهُ أَيَّامًا الْمَنَام أفْصح وَأحلى مِمَّا قبله وَاخْتلف فِي مُدَّة بَقَائِهِ بعد ذَلِك فَقَالَ ابْن خلكان عَاشَ بعْدهَا ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا لَا يستطعم طَعَاما وَلَا شرابًا لبركة تِلْكَ التفلة وَهَذِه الْخطْبَة هِيَ الَّتِي فِيهَا هَذِه الْكَلِمَات تعرف بالمنامية لهَذِهِ الْوَقْعَة وَذكر فِيمَا رَأَيْت بِخَط شَيخنَا الْمَذْكُور أَولا الَّذِي وجدت الْقِصَّة بِخَطِّهِ أَنه عَاشَ بعد الْمَنَام أَرْبَعِينَ يَوْمًا
وَأما الَّذِي ذكره الْفَقِيه عُثْمَان وَهُوَ من الْعلمَاء الْمَأْخُوذ عَنْهُم أَنه لم يَعش غير اثْنَي عشر يَوْمًا ثمَّ لم يَعش هُوَ أَيْضا بعد الْمَنَام غير اثْنَي عشر يَوْمًا كَمَا قدمنَا وَكَانَت وَفَاة الْخَطِيب بميافارقين سنة أَربع وَسبعين وثلثمائة
قَالَ ابْن خلكان وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع قَالَ الْوَزير أَبُو الْقَاسِم بن المغربي رَأَيْت الْخَطِيب ابْن نباتة بعد مَوته فِي الْمَنَام فَقلت مَا فعل الله بك قَالَ دفع إِلَيّ ورقة وفيهَا سطران بالأحمر هما
. . قد كَانَ أَمن لَك من قبل ذَا ... وَالْيَوْم أضحى لَك أمنان
والصفح لَا يحسن من محسن ... وَإِنَّمَا يحسن من جاني ... وانتبهت وَأَنا أكررهما كي لَا أنساهما
نعود إِلَى ذكر فُقَهَاء جبا وتتمة بني إِسْحَاق إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فَمنهمْ عمر بن عُثْمَان بن الشَّيْخ يحيى مقدم الذّكر مولده سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ فَقِيها غلب عَلَيْهِ الِاشْتِغَال بكتب الحَدِيث وَتُوفِّي بصفر من سنة عشر وَسَبْعمائة ثمَّ خَلفه ابْنه عبد الله مولده سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة فِي شهر شعْبَان وارتحل إِلَى زبيد فَأخذ بهَا عَن ابْن ثُمَامَة الْآتِي ذكره وَإِلَيْهِ انْتهى الحكم فِي عصرنا والتدريس بجبا وَهُوَ أحد الْمَعْدُودين فِي أخيار فُقَهَاء الْعَصْر أنس للواصلين وَقيام بالقاصدين قدمت جبا وَهُوَ الْمَذْكُور بذلك وَاجْتمعت بِهِ فَرَأَيْت مِنْهُ مَا حقق الذّكر وَالسَّمَاع وَرَأَيْت لَهُ ذكرا بالفقه وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي الْفَتْوَى وَأخذ عَنهُ جمَاعَة وَله تصنيف بالفقه
وَمِنْهُم الأخوان عَليّ ويوسف ابْنا أبي بكر بن عبد الله بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن يحيى مقدم الذّكر قدمت جبا بالتاريخ فَوجدت عليا الْمَذْكُور هُوَ الْمشَار عَلَيْهِ بعد ابْن عَمه الْفَقِيه عبد الله بالفتوى وَرُبمَا كَانَ أَكثر تلقيا للأصحاب وأنسا لَهُم وصبرا عَلَيْهِم من الْفَقِيه عبد الله وَسَأَلته عَن ميلاده فَقَالَ سنة ثَلَاث وَسبعين
وَأما أَخُوهُ يُوسُف ففاضل بالفرائض مولده سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة يذكر بالأمانة وَالصَّبْر على أكاذبها غَالب ودائع أهل الْجِهَة إِنَّمَا تكون مَعَه وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر بن عُثْمَان فَاضل بالقراءات السَّبع وَمن بني البلعاني أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبيد بن أبي بكر بن عبد الله البلعاني مولده ربيع الأول من سنة إِحْدَى وسِتمِائَة وتفقه بعلي بن قَاسم من زبيد وَعمر بن مُفْلِح من أبين ودرس بمغربة تعز فِي الْمدرسَة النجاحية وَعنهُ أَخذ جمَاعَة من فُقَهَاء تعز وَغَيرهَا أثنى عَلَيْهِ الْفَقِيه عُثْمَان الشرعبي فِي تعليقته وَكَانَت وَفَاته بجبا نَهَار الْخَمِيس رَابِع عشر من شعْبَان سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَله ولدان بجبا أَحدهمَا مقرىء للسبعة وَهُوَ طَالب الْآن للتفقه وَمُحَمّد محسن بِالْكِتَابَةِ مَعَ السلاطين
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم بن عبد الله الجبائي ثمَّ السكْسكِي
عرف بِابْن الْمعلم كَانَ فَقِيها فَاضلا لَكِن غلب عَلَيْهِ علم الْأَدَب وَأَخذه عَن القَاضِي أَحْمد القريظي الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله وَله شرح المقامات للحريري الْمَشْهُورَة بِهِ فَيُقَال شرح الجبائي وَهُوَ أحد شُيُوخ الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عجيل وَيُقَال إِنَّه مَاتَ قبل تَمام الشَّرْح فَقدم ابْن عجيل الْمَذْكُور فأتمه وَعنهُ أَخذ عَليّ بن عمر الْحَضْرَمِيّ أحد شارحي المقامات أَيْضا شرحها شرحا أبسط من شرح شَيْخه وَشرف نفس وَلم أعرف لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن أَحْمد بن أسعد بن عمر وَعرف بِابْن الْحذاء بحاء مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ فتح الذَّال الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف وَأَظنهُ كَانَ يعْمل النِّعَال فَلذَلِك سمي الْحذاء إِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة الْقرَاءَات فِي الْيمن أجمع وَكَانَ عَظِيم الْبركَة قَلما قَرَأَ عَلَيْهِ أحد إِلَّا انْتفع وَكَانَ مَسْكَنه قَرْيَة من قرى جبا تعرف بالمتفولة بِفَتْح الْمِيم بعد الْألف وَاللَّام وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبضم الْفَاء وَسُكُون الْوَاو ثمَّ فتح اللَّام ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهِي شَرْقي مَدِينَة جبا وَكَانَ صَاحب كرامات كَثِيرَة
أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه كَانَ عِنْده يقْرَأ الْقُرْآن وَأَن الْفَقِيه تقدم من قريته إِلَى قَرْيَة تعرف بالمصراخ فِيهَا مَشَايِخ النَّاحِيَة وهم قوم يعْرفُونَ ببني عبيد بن عَبَّاس وهم عرب يُقَال لَهُم الساور أصلهم من ظَاهر حَصى وهم بَيت رئاسة وَعز وَلَهُم مَكَارِم كَثِيرَة فَأقبل اللَّيْل وَهُوَ عِنْدهم وَذَلِكَ لحَاجَة فصلى الْمغرب وَالْعشَاء مَعَهم وهم يَظُنُّونَهُ يبيت عِنْدهم فَلَمَّا انْقَضتْ حَاجته عزم على الرُّجُوع إِلَى بَيته فلازموه على الْمبيت فكره وَكَانَت لَيْلَة مظْلمَة وفيهَا ريح فَقَالُوا يَا مقرىء الظلام فَقَالَ أعيروني سِرَاجًا وأسرجوه لي فَهُوَ يضيئني فِي الطَّرِيق إِن شَاءَ الله
قَالَ الْمخبر فَفَعَلُوا ذَلِك وهم لَا يَظُنُّونَهُ يثبت مَعَه سَاعَة فَلم يزل مسرجا بيد رجل مِمَّن مَعَه حَتَّى وصل بَيته فانطفأ
وَرُبمَا كَانَ الْمخبر لي هُوَ الْحَامِل
وَمن عَجِيب مَا أخْبرت بِهِ عَنهُ عَام قدمت جبا أنني لما عولت على
الْفَقِيه عَليّ بن أبي بكر الْمُقدم ذكره بِأَن يصل معي إِلَى الْمقْبرَة ليريني الْقُبُور الَّتِي تزار فَفعل ذَلِك ووقف بِي على قبر فَقَالَ هَذَا قبر رجل يعرف بالسروي كَانَ درسيا صَالحا دخل المقرىء عمر بن الْحذاء هَذِه الْمقْبرَة فَجعل يزور أَهله ومعاريفه وَالْمَشْهُور من الْفُقَهَاء وَإِذ بِهِ يسمع من هَذَا الْقَبْر مناديا يُنَادي يَا مقرىء عمر أَنْت مَا تزور إِلَّا أَصْحَاب الجاهات فَالْتَفت إِلَى الْقَبْر وزاره وَلم يبرح يزوره كلما دخل الْمقْبرَة قبل كل يَوْم أحد وَأعلم النَّاس بالْخبر فَصَارَ الْقَبْر مزورا إِلَى عصرنا وَهَذَا المقرىء وغالب من ذكرته وأذكره مقبور بمقبرة جبا وَلم أتحقق تَارِيخه
وَمِنْهُم سعيد بن يُوسُف الزَّيْلَعِيّ تفقه بِيَحْيَى بن أبي بكر وَكَانَ فَقِيها فَاضلا وَجمع كتبا كَثِيرَة ووقفها على طلبة الْعلم بجبا وَبهَا توفّي
وَمِنْهُم بَنو حسان قوم ينتسبون إِلَى جد لَهُم ثمَّ حسان بن ثَابت الْأنْصَارِيّ ويسكنون بادية جبا فيهم فُقَهَاء حققت جمَاعَة مِنْهُم قَاسم بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حسان الخزرجي كَانَ فَقِيها صَالحا مقرئا أَخذ عَن الإِمَام سيف السّنة كتاب الشَّرِيعَة للآجري
وَمِنْهُم ابْن ابْنه عبد الله بن مُحَمَّد بن قَاسم بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن حسان الخزرجي تفقه بِمُحَمد بن حُسَيْن الأصابي وَأخذ عَنهُ شرح مُوسَى اللمع كَمَا أَخذه عَن مُصَنفه وَأخذ عَن الشَّيْخ بطال وَعنهُ أَخذ أَحْمد بن مُحَمَّد الوزيري المستعذب وَهُوَ أحد شُيُوخ شَيْخي أَحْمد السرددي وَله ابْن اسْمه إِبْرَاهِيم تفقه بِأبي بكر بن عمر السهامي أحد أَصْحَاب أبي قَاسم وبالإمام بطال وَبِمُحَمَّدٍ بن حُسَيْن المرواني الْآتِي ذكره ودرس بِذِي هزيم بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أحدثها الطواشي مُخْتَصّ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن عشر رَمَضَان سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم المقرىء عبيد بن مُحَمَّد برع فِي الْقرَاءَات وَأَخذه لَهَا عَن ابْن الْحذاء وَعَن رجل بِمَكَّة وَكَانَ لَهُ أَب وأخوة امتحنوا بالعمى وهم بَيت حفظ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم فحج هَذَا عبيد قبل الْعَمى فَلَمَّا زار ضريح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استجاره من الْعَمى فَكفى ذَلِك إِلَى أَن توفّي سالما فِي شَوَّال سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَليّ الجداي نِسْبَة إِلَى صقع من الْحَبَشَة يُقَال لَهُ جداية بخفض الْجِيم ثمَّ دَال مُهْملَة ثمَّ ألف وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ هَاء شهر بالزيلعي أَخذ عَن أبي زاكي بحراز ثمَّ عَن الغيثي بوصاب وَأخذ عَن المقرىء عبيد الْمَذْكُور آنِفا
وَيذكر عَن هَذَا المقرىء التجويد فِي علم
الْقرَاءَات والنحو وَلما قدمت جبا سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة وجدت هَذَا الْمشَار إِلَيْهِ يعلم الْقرَاءَات وَعنهُ أَخذ جمَاعَة وَكَانَت وَفَاته بِشَهْر صفر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِمَّنْ انتاب إِلَى نواحي جبا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حُسَيْن المرواني الأصابي تفقه بِابْن سحارة الْآتِي ذكره وبأبي بكر بن إِسْحَاق الْمَذْكُور وَكَانَت مدرسته بقرية المصراخ مَعَ الْمَشَايِخ مُتَقَدِّمي الذّكر وضبطها بخفض الْمِيم بعد ألف وَلَام وَسُكُون الصَّاد وَفتح الرَّاء ثمَّ ألف ثمَّ خاء مُعْجمَة أَخذ عَنهُ بهَا جمَاعَة كَثِيرُونَ من الْجند وَغَيرهَا فَمن الْجند عمرَان بن النُّعْمَان وَمن سهفنة عمر بن الْحداد وَمن ذِي السفال مُحَمَّد بن مَسْعُود وَلم أعرف لَهُ تَارِيخا
وَمن النَّاحِيَة جمَاعَة مِنْهُم عبد الْكَرِيم بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل مَسْكَنه قَرْيَة الوجي بِفَتْح الْوَاو وخفض الْجِيم ثمَّ يَاء سَاكِنة مثناة من تَحت وَهِي على قرب مَدِينَة جبا وَكَذَلِكَ المصراخ الْمَذْكُور أَولا وَكَانَ هَذَا عبد الْكَرِيم عَارِفًا بالقراءات أَخذهَا عَن الْحذاء وَكَانَ من صالحي زَمَانه وأخيارهم مَا قَرَأَ عَلَيْهِ أحد إِلَّا انْتفع وَلَا حقق عَلَيْهِ شَيْئا فنسيه وَكَانَ فِي أَوله ناسج ثِيَاب فَكَانَ القارىء يقْرَأ عَلَيْهِ وَهُوَ يشْتَغل بالخياطة فَلَا يفوتهُ شَيْء من غلطه ثمَّ فِي آخر أمره ترك النسج واشتغل بالخياطة وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى توفّي وَكَانَ قوته من صَنعته وَرُبمَا جَاءَ ضيف خاط لَهُ أَو نسج لَهُ بِغَيْر شَيْء وَقدم الْجند وَأَنا يَوْمئِذٍ أدرس بمدرسة الشَّيْخ عبد الله بن الْعَبَّاس فعزمته من الْجَامِع إِلَى الْمدرسَة وتبركت بِدُخُولِهِ وَكَانَت وَفَاته بالقرية سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة وَله أَوْلَاد مِنْهُم ابْن فِيهِ خير كَبِير وَهُوَ إِمَام الْجَامِع بجبا والخطيب فِيهِ وَآخر بقرية السمكر يتعانى التِّجَارَة وَيذكر بِحِفْظ الْقُرْآن
وَمن النواحي أَيْضا ثمَّ من قَرْيَة تعرف بيفرس قد تقدم ضَبطهَا مَعَ ذكر القَاضِي الجندي أَبُو الْحسن أَحْمد بن علوان قد تقدم ذكر وَالِده مَعَ ذكرالشيخ يحيى بن أبي الْخَيْر
نَشأ هَذَا أَحْمد بِموضع يعرف بِذِي الْجنان من جبل ذخر وَلم يزل على ثروة ورعونة على مَا جرت عَلَيْهِ أَوْلَاد الْكتاب والمتنعمين بِقرب الدولة وطلع طلوعا حسنا قَارِئًا كَاتبا فَاضلا تعلم الْكِتَابَة والنحو واللغة وشعره وَكَلَامه فِي التصوف يدلان على ذَلِك فَذكر بعض نقلة آثاره أَنه دَعَتْهُ نَفسه وَهُوَ شَاب إِلَى قصد بَاب السُّلْطَان
والتعرض للْخدمَة إِمَّا مَكَان أَبِيه أَو غَيره فَخرج من ذِي الْجنان وَصَارَ قَاصِدا بَاب السُّلْطَان فَلَمَّا صَار بِشَيْء من الطَّرِيق إِذْ بطائر أَخْضَر قد وَقع على كتفه ثمَّ مد منقاره إِلَى فِيهِ فَفتح الشَّيْخ فَاه لَهُ فصب الطَّائِر إِلَيْهِ شَيْئا فابتلعه الشَّيْخ ثمَّ عَاد من فوره إِلَى بَلَده فَلَزِمَ الْخلْوَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ فِي الْيَوْم الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ خرج من المتعبد وَقعد على صَخْرَة يتعبد فانفلقت الصَّخْرَة عَن كف وَقيل لَهُ صَافح الْكَفّ فَقَالَ وَمن أَنْت قَالَ لَهُ أَبُو بكر فصافح فَقَالَ لَهُ قد نصبتك شَيخا وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي شَيْء من كَلَامه الَّذِي يُخَاطب بِهِ أَصْحَابه حَيْثُ يَقُول وشيخكم أَبُو بكر الصّديق ثمَّ ألْقى لَهُ الْحبّ فِي قُلُوب النَّاس والوجاهة فتحكم لَهُ قوم كثير وَله كتب فِي المواعظ
نحا نَحْو ابْن الْجَوْزِيّ وَلذَلِك كَانَ يُقَال لَهُ جوزي الْيمن وَذكروا أَنه لما اجْتمع بالشيخ أبي الْغَيْث الْمُقدم ذكره بعد مُكَاتبَة كَانَت بَينهمَا يطول ذكرهَا وفاتحه الْكَلَام وأجابه أعجبه وَعلم أَنه أعجب بذلك قَالَ لَهُ أَنْت جوزي الْوَقْت وَأَنا دورته وأخشى دورتي تكسر جوزتك ثمَّ إِن الشَّيْخ أمْلى شَيْئا من كَلَامه على بعض الْحَاضِرين فَكَتبهُ ثمَّ قَالَ لِلْكَاتِبِ أعْط الورقة لِأَحْمَد فَلَمَّا أَخذهَا قَالَ يَا أَحْمد أتم هَذَا الْكَلَام فَأخذ الورقة وَقبلهَا وَقَالَ لَا يحسن للْعَبد أَن يكمل كَلَام سَيّده ثمَّ إِنَّه عَاد من بَيت عطا بِغَيْر دستور من أبي الْغَيْث فقصده بعد ذَلِك فَلم يجده فَقَالَ وَلَو وقف الْجبلي لأخذ القماش
وَكَانَت بَينهمَا مكاتبات يطول شرحها وَله فِي التصوف فُصُول كَثِيرَة يتَكَلَّم بهَا على لُغَات شَتَّى فَسئلَ بعض العارفين من أَيْن كَانَ الشَّيْخ يعرف تِلْكَ اللُّغَة وَهُوَ عَرَبِيّ وَلم يكد يعرف لَهُ خُرُوج من بَلَده
وَأَهْلهَا عرب لَا يعْرفُونَ غير الْعَرَبيَّة فَقَالَ كَانَت روح الشَّيْخ مهبطا لأولياء الله وَلَهُم لُغَات كَثِيرَة يَتَكَلَّمُونَ بهَا على لِسَان الشَّيْخ فَنَطَقَ بهَا كَمَا يَقُولُونَ
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه كَانَ يكْتب كَلَامه الَّذِي ينْطق بِهِ بآلات مُتَفَرِّقَة ثمَّ يستعرض ذَلِك مِمَّا لم يُدْرِكهُ غسله وَقَالَ كَانَ الشَّيْخ أشوق إِلَى كَلَامه من سامعيه وَكَانَ مَتى علم أَن فِي السامعين لكَلَامه من لَا يفهمهُ قَالَ معرضًا بِهِ ... يَا وَاقِفًا على المَاء وَهُوَ عطشان
وَسَأَلَهُ السُّلْطَان عَلَاء الْآتِي ذكره فِي فُقَهَاء الأجناد وَهُوَ من أكبر أَصْحَابه عَن أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن قَالَ قَوْله تَعَالَى {قل كل يعْمل على شاكلته} قَالَ إِذا كَانَت
محبَّة الله قَدِيما لم يُؤثر فِيهَا أَعْرَاض التبغيض حَدِيثا وَإِذا كَانَت الْمعْصِيَة من الله قَدِيما لم يُؤثر فِيهَا أَعْرَاض التحبيب حَدِيثا وَيَكْفِي على ذَلِك شَاهد مَعْصِيّة آدم وَطَاعَة إِبْلِيس فَلَمَّا هَبَط آدم إِلَى أَرض شقوته من حصن رتبته بِمن فِيهِ من ذَوي نفوس ذُريَّته عَادَتْ عوائد محبوبهم فَنزل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا شوقا إِلَى تقريبهم وجني من بعديتهم ليَالِي الْأَيَّام الدائرة إِلَى أَن يطلع فجر الْآخِرَة يُنَادي بِلِسَان التَّنْبِيه هَل من تائب وَسُئِلَ عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحدث وَلم يتَوَضَّأ فقد جفاني وَمن أحدث وَتَوَضَّأ وَلم يصل رَكْعَتَيْنِ فقد جفاني وَمن صلى رَكْعَتَيْنِ وَلم يدعني فقد جفاني وَمن دَعَاني فَلم أجبه فقد جفوته وَلست بِرَبّ جَاف فَقَالَ للسَّائِل معنى الْخَبَر فِي الشَّرِيعَة ظَاهر وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة إِشَارَة إِلَى أَن كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة حَتَّى يتهود أَو ينتصر أَو يتمجس أَو يُشْرك أَو يَعْصِي وَذَلِكَ حدث نَاقض لوضوء الْفطْرَة وَلَا طَهَارَة من هَذَا الْحَدث إِلَّا بِمَاء التَّوْبَة من تَوَضَّأ من إِحْدَى هَذِه النواقض بِمَاء التَّوْبَة خرج من جفَاء الْحَدث إِلَى تَجْدِيد الْعَهْد وَمن صلى بعد هَذَا الْوضُوء رَكْعَتَيْنِ مُقبلا على الله مقتديا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج من جفَاء الْمُخَالفَة إِلَى ود المؤالفة وَمن دَعَا بعد هَذِه الصَّلَاة خرج عَن جفَاء العناء عَن نبيه إِلَى خضوع الافتقار إِلَيْهِ فَلَا جرم أَنه يُسْتَجَاب لَهُ وَيدخل فِي صف الأحباب بَين يَدي رب الأرباب مولده قَرْيَة ذِي الْجنان حَيْثُ تقدم ذكر أَبِيه مَعَ ذكر الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر ثمَّ فِي آخر الْأَمر تأهل بِامْرَأَة من يفرس الْقرْيَة الْمَذْكُورَة فسكن مَعهَا ورفض ذِي الْجنان وَلم يزل بهَا حَتَّى توفّي وَكَانَت لَهُ كرامات شهيرة يطول تعداد بَعْضهَا
وَكَانَ كثيرا مَا يرد إِلَى السمكر إِحْدَى قرى الْجند وَله بهَا أَصْحَاب كَثِيرُونَ أدْركْت جمَاعَة مِنْهُم
وبالقرية كتاب فِيهِ مُعظم كَلَامه أَخْبرنِي خَبِير بِمَا ذكر أَن جمَاعَة من السمكر خَرجُوا عازمين على زيارته إِلَى يفرس أَو ذِي الْجنان وَمَعَ كل مِنْهُم شَيْء من الدُّنْيَا يُرِيد أَن يتَقرَّب بِهِ فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ وسلموا عَلَيْهِ سلم كل وَاحِد مِنْهُم مَا جَاءَ بِهِ للنقيب ثمَّ لَبِثُوا مَا شَاءَ الله وعادوا بلدهم وَفِي أول لَيْلَة لم يقم أحد مِنْهُم من نَومه حَتَّى وجد مَا رَاح بِهِ وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة السبت الْعشْرين من رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بقرية يفرس وقبر بهَا على بَاب مَسْجِد لطيف وَهُوَ الْقَبْر الملتصق
بِالْمَسْجِدِ وعَلى يسَار الدَّاخِل إِلَيْهِ وَيَمِين الْخَارِج عَنهُ وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه مُحَمَّد يسكن ذَا الْجنان أصل موضعهم وَكَانَ على طَرِيق مرضِي من طَرِيق الْمُسلمين إِلَى أَن توفّي مستهل شَوَّال سنة خمس وَسَبْعمائة وَقد جعلت ذكر هَذَا الرجل فَارس الأعقاب فِي أهل جبا ونواحيها فليعرف الْعَارِف أَن غرضي بذلك جعله ختامهم لِأَن الله ختم الْأَنْبِيَاء بأفضلهم
وَقد انْقَضى ذكر من عَرفته مُسْتَحقّ الذّكر من أهل جبا ونواحيها وَلم يبْق إِلَّا الْعود إِلَى ذكر الْفُقَهَاء فأبدأ بأقدمهم فِي ذَلِك وهم أهل الملحمة ذُرِّيَّة الْفَقِيه أبي عمرَان فقد مضى ذكر من ذكرهم ابْن سَمُرَة مِنْهُم وَلم يبْق إِلَّا من تَأَخّر عَنْهُم وهم جمَاعَة
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَضْمُون بن الْفَقِيه عمر بن مُحَمَّد بن عمر بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن أبي عمرَان فالفقهاء المذكورون أَولا قد ذكرهم ابْن سَمُرَة وذكرتهم وَأما هَذَا مُحَمَّد فَإِنِّي انْفَرَدت بذلك وَنسبه قد تقدم وميلاده يَوْم الْخَمِيس السَّابِع عشر من شعْبَان سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة وتفقه بِالْإِمَامِ سيف السّنة فَذكر أَنه لزم مَجْلِسه إِحْدَى عشرَة سنة وَأَنه أَقَامَ بِجَامِع إب سبع سِنِين لم يخرج عَنهُ إِلَّا فِي قبران صَاحب يعز عَلَيْهِ والأربع الْبَاقِيَات قد تخْتَلف فِي البدري إِلَى بَلَده فانظروا معاشر الطّلبَة إِلَى اجْتِهَاد هَذَا الرجل وتخليه مَعَ قرب بَلَده الملحمة من مَوضِع درسه إب وَأخذ عَن الإِمَام سيف السّنة الْفِقْه والنحو واللغة والْحَدِيث وَالْأُصُول وحاكاه فِي جَمِيع أُمُوره حَتَّى فِي الْخط وَالشعر وَلما شَاب وَهُوَ ابْن تسع وَعشْرين حجَّة قَالَ شعرًا ... وَلما مضى تسع وَعِشْرُونَ حجَّة ... من الْعُمر عزتني وعزت إِلَى الصِّبَا ...
. . وأنذرني شيبي بحتفي معجلا ... فَقلت لَهُ أَهلا وسهلا ومرحبا
وسمعا لداعي الْحق مِنْك وَطَاعَة ... وَإِن كنت بطالا وَإِن كنت مذنبا
فَقَالَ أَرَاك اشْتقت وَيحك مَا الَّذِي ... بجرمك قد أَعدَدْت بَين لي النبا
أتحسب أَن الْخطب من بعد هَين ... وهيهات يَا مغرور قد خلت غيهبا
أَنا الْمُنْذر الْعُرْيَان فاسمع نصيحتي ... فَإِن أَمِير الْجَيْش بعدِي تأهبا
فَإِن رَسُول الْمَوْت عَمَّا عهدته ... على أثري للقصد هيأ مركبا
فَقتل لَهُ وَالله مَا لي عدَّة ... وَإِن كَانَ فيض الذَّنب قد بلغ الزبا
سوى حسن ظَنِّي أَن رَبِّي مسامحي ... وَأَن ذُنُوبِي جنب رَحمته هبا
وَأَن رَسُول الله فِي الْحَشْر شَافِعِيّ ... وَأَنِّي وجدت الْعَفو للذنب أقربا
وَأَنِّي أحب الله ثمَّ نبيه ... وَصَحب نَبِي الله وَالْحق مذهبا
فَهَذَا الَّذِي أرجوه يُنجي من الردى ... بِيَوْم يرى من هوله الطِّفْل أشيبا
وَصلى إِلَه الْخلق مَا ذَر شارق ... على الْمُصْطَفى حَقًا وَمَا هبت الصِّبَا ... وَنسخ بِيَدِهِ كتبا عديدة وَكتب على كل مِنْهَا أبياتا مِنْهَا قَوْله ... وقف حرَام وَحبس دَائِم الْأَبَد ... يبْقى رَجَاء ثَوَاب الْوَاحِد الصَّمد
على الْحَنَابِلَة الْمَشْهُور مَذْهَبهم ... من آل بَيت أبي عمرَان ذِي الرشد
ثمَّ الحنابل طرا بعد أَن عدموا ... سيان غائبهم أَو حَاضر الْبَلَد
لَا حَظّ فِيهَا لبدعي يخالفني ... لَو كَانَ مُعْتَقدًا ضدا لمعتقدي
فَمن بغى أَو سعى فِي هتك حرمتهم ... فخصمه الله إِن الله بالرصد
يَا رب فانفع بِهِ دنيا وآخرة ... يَا من تَعَالَى فَلم يُولد وَلم يلد
وصل مَا انهل أَو أضا قبس ... على النَّبِي بِلَا حصر وَلَا عدد ... وَقد أَخذ الْعلم أَيْضا عَن أبي السُّعُود بن خيران مقدم الذّكر فِي أَصْحَاب الإِمَام يحيى وَلما قدمت الملحمة بالتاريخ الْمُتَقَدّم ووقفت على بعض كتبه الْمَوْقُوفَة نقلت الأبيات مِنْهَا وَوجدت عَلَيْهِ مُعَلّقا شعرًا وَهُوَ بِخَطِّهِ من قَوْله ... من كَانَ فِي الْحَشْر لَهُ قربَة ... تدنيه من عَفْو الْقَدِير الْوَلِيّ
فقربتي حبي للمصطفى ... ثمَّ اعتقادي مَذْهَب الْحَنْبَلِيّ ...
وَكَانَ الْملك الْمَنْصُور بن عَليّ بن رَسُول يُحِبهُ ويعتقده فَلَمَّا بنى مدرسته الَّتِي بِدَرَجَة المغربة الْمَعْرُوفَة بالوزيرية لم يزل يتلطف لَهُ ويتوسل إِلَيْهِ حَتَّى نزل من بَلَده وَقعد فِي الْمدرسَة مدرسا ثمَّ قَالَ لَهُ إِنِّي أحب أَن أكون أَقرَأ عَلَيْك ونزولي إِلَى الْمدرسَة فِي كل يَوْم يشق عَلَيْك وَعلي وعَلى النَّاس فَإِن رَأَيْت فانعم كل يَوْم يَأْتِيك الركبدار ببغلة تركبها وتطلع الْحصن فأقرأ عَلَيْك فِي خلْوَة فَرَأى الْفَقِيه أَن طلوعه أسهل فاستعفاه الْفَقِيه من ركُوب البغلة وَقَالَ أَنا أطلع على كل يَوْم بدرسي من أَصْحَابِي يؤنسني وَاتفقَ مَعَ السُّلْطَان على ذَلِك وَصَارَ يطلع فِي كل يَوْم الْحصن وَمَعَهُ درسي من أَصْحَابه فَلَمَّا صَار على بَاب الستارة وقف صَاحبه وَدخل الْفَقِيه من غير إِذن فَيقْرَأ عَلَيْهِ السُّلْطَان مَا شَاءَ الله ثمَّ يخرج الْفَقِيه وَكَانَ السُّلْطَان مَتى نزل من الْحصن يَأْمر من يسْبقهُ إِلَى الْفَقِيه يسْأَل مِنْهُ أَن يقف على بَاب الْمدرسَة فَإِذا قَابل السُّلْطَان ذَلِك الْموضع رد السَّلَام ثمَّ رفع يَده يُشِير إِلَى أَن الْفَقِيه يَدْعُو فيفهم الْإِشَارَة وَيَدْعُو السُّلْطَان وَاقِف رَافعا يَدَيْهِ فَإِذا مسح الْفَقِيه وَجهه مسح السُّلْطَان وَمن مَعَه وُجُوههم ويتقدم حَيْثُ أَرَادَ وَيعود الْفَقِيه الْمدرسَة فَلَا يبرح مدرسا ومفتيا بَقِيَّة يَوْمه وَلم يزل ذَلِك من عَادَته وَحج سنة سبع وَعشْرين أَو ثَمَان وَعشْرين وَحج مَعَه وَلَده عمر وَلما دنت وَفَاته عَاد من تعز بَلَده فَتوفي بهَا وَرَأَيْت بِخَط وَلَده عمر يَقُول توفّي الْوَالِد طُلُوع الْفجْر لَيْلَة الْجُمُعَة لليلة أَو لَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا من الْمحرم أول سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ آخر مَا فهمنا من كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله وَللَّه الْحَمد ودفناه بعد صَلَاة الْجُمُعَة وَكَانَ يَقُول من زمَان يَوْم الْجُمُعَة وليلتها عَليّ ثقيلان وَلَعَلَّ موتِي فيهمَا وَكَانَ قد أَخْبرنِي مَعَ جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ الصَّالح زُرَيْع بن سعد الْحداد وَقبل أَن يعلم أَن يُرِيد حفر قَبره مَتى حفرت قَبْرِي وجدْتُم قبرا آخر
فَلَمَّا توفّي وجدنَا جربة مزروعة فأبعدنا الزَّرْع من مَوضِع فِيهَا ثمَّ حفرنا فِيهِ فَلَمَّا قاربنا اللَّحْد ظهر لنا طَاقَة إِلَى قبر آخر فسددناها ثمَّ أتممنا الْقَبْر وقبرناه فِيهِ
ثمَّ خَلفه ابْنه عمر وَامْتنع عَن النُّزُول إِلَى تعز للتدريس فَلم يعذرهُ الْمَنْصُور من
ذَلِك بل لاطفه وَأَخذه بالحيل حَتَّى نزل ودرس وَكَانَ جيدا صَالحا ورعا زاهدا وَقد أَخذ عَن الْفَقِيه مُحَمَّد وَولده جمَاعَة فَمِمَّنْ أَخذ عَن الْفَقِيه مُحَمَّد القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ حَاكم تعز فِي صدر الدولة المظفرية وَسَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله وَتُوفِّي ابْنه بقريته
وَمن عَجِيب مَا رَأَيْته فِي سَفَرِي فِي دخولي إِلَى قريتهم بالتاريخ الْمَذْكُور مُعَلّقا بِشَيْء من كتبهمْ مَا مِثَاله أَيَّام مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور خلد الله نعْمَته فِي تعز المحروس فِي شهر رَمَضَان من سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَفِي مجْلِس السماع أَنه أخبرهُ الْفَقِيه عَليّ الصّقليّ بِمَكَّة حرسها الله تَعَالَى أَنه لبث اثْنَتَيْ عشرَة سنة يسْأَل الله أَن يرِيه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأرَاهُ إِيَّاه فِي الْحجر فِي النّوم وَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام يطوف بِالْكَعْبَةِ وَعَلِيهِ ثوب أَبيض كَأَنَّهُ محرم فِيهِ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُول الله إِنِّي أُرِيد أَن أَسأَلك فَوقف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الطّواف بَين رجلَيْنِ وَقَالَ سل فَقلت يَا رَسُول الله الْأمة اخْتلفت بعْدك فَأمرنِي مَا أفعل فَقَالَ عَلَيْك بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم فَقلت يَا رَسُول الله إِن السوَاد الْأَعْظَم اخْتلفُوا بعْدك على أَئِمَّة فَقَالَ لي من هم فَقلت يَا رَسُول الله الْحَنَفِيّ فَأَشَارَ لي بِيَدِهِ الْيُمْنَى وحرك أَصَابِعه وَقَالَ لي دع فَقلت يَا رَسُول الله الْمَالِكِي قَالَ ذَلِك رجل نقل عني ظواهر حَدِيثي فَقلت الشَّافِعِي فَقبض الْخِنْصر والبنصر وَالْوُسْطَى إِلَى رَاحَته وَقبض رَأس السبابَة إِلَى بَاطِن الْإِبْهَام كَأَنَّهُ عَاقد عشرَة وَقَالَ ذَلِك رجل ينْقل عني مَحْض حَدِيثي وَنقض يَده كرر ذَلِك ثَلَاثًا يقبض أَصَابِعه وينقضهن
قَالَ الرَّاوِي وَكَانَ ذَلِك بِالْحجرِ بَين النَّائِم وَالْيَقظَان قَالَ الْمَنْصُور وَكَانَ الرَّاوِي مالكي الْمَذْهَب وَظن أَنه يذكر مَالِكًا يُشِير لَهُ إِلَى اتِّبَاعه وَمن وَقت أَشَارَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاتِّبَاع الشَّافِعِي لم يزل يُصَلِّي مَعَ الشَّافِعِيَّة ثمَّ فِي آخر مَا كتبه الْفَقِيه عمر مَا مِثَاله بِخَط الْمَنْصُور هُوَ كَمَا ذكر فليرو عني وَكتب عمر بن عَليّ بن رَسُول وَمن أحسن مَا رَأَيْته مُعَلّقا بِخَطِّهِ مَا كتبه عقب سَماع البُخَارِيّ إِذْ كتبه لقوم إجَازَة لَهُم شعر ... فيا سَامِعًا لَيْسَ السماع بِنَافِع ... إِذا أَنْت لم تعْمل بِمَا أَنْت سامع
إِذا كنت فِي الدُّنْيَا عَن الْخَيْر عَاجِزا ... فَمَا أَنْت فِي يَوْم الْقِيَامَة صانع ...
وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا إِذْ الْغَالِب فِي الْمَوْجُود من ذُريَّته الإهمال وَعدم الِاشْتِغَال كَمَا هُوَ ذَلِك فِي كثير من ذَرَارِي الْفُقَهَاء
وَمِنْهُم أَبُو الْعَتِيق أَبُو بكر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمرَان الملقب بالصفوي لقب من ألقاب الْمكتب وَهُوَ آخر محققي هَذَا الْبَيْت تفقه بِابْن عَمه مُحَمَّد بن مَضْمُون وَكَانَ صَالحا ورعا زاهدا متقللا درس بِبَلَدِهِ ثمَّ درس بِبَلَد صهْبَان فِي مدرسة أحدثها مَشَايِخ بني حميد فَلم يزل يدرس بهَا حَتَّى دنت وَفَاته فَعَاد إِلَى بَلَده وَتُوفِّي بهَا بتاريخ سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة وقبر بَين أَهله
وَمن أعيانهم أَحْمد بن يحيى بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مَضْمُون كَانَت لَهُ مُشَاركَة بِالْعلمِ لَكِن اشْتِغَاله بِأُمُور الدُّنْيَا والترؤس وخلطة الْأُمَرَاء كعلي بن يحيى وَغَيره أَكثر من ذَلِك وَكَانَ أَخذه لما بعد من الْمَعْلُوم عَن الصفوي الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ مَشْهُورا بِالْكَرمِ وَكَثْرَة إطْعَام الطَّعَام حَتَّى أفنى جملَة مستكثرة من مَاله فِي ذَلِك وَلما بلغ حَاله إِلَى الْأَمِير عَليّ بن يحيى أَدْرَكته عَلَيْهِ شَفَقَة وَكَانَ يَصْحَبهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ مقطع لبلدهم وَكَانَ مَتى قدمهَا سكن حصن شواحط الْحصن الْمَذْكُور أَولا فَقدم ذَات مرّة فَلَمَّا صَار بالحصن وَصله أَعْيَان الْبِلَاد يسلمُونَ عَلَيْهِ وَهَذَا من جُمْلَتهمْ وَقد صَار عِنْده مِنْهُ صُورَة وَأَنه قد صَار مشرفا على إفناء مَاله صَار يتأسى لَهُ بهَا وَيَقُول هَذَا مِسْكين يفرغ مَاله وَيرجع هُوَ وَمن مَعَه يَحْتَاجُونَ إِلَى النَّاس فَلَمَّا أَرَادَ النَّاس الْخُرُوج من عِنْده أمره بالتاخر فَلَمَّا خلا بَينهمَا الْمَكَان قَالَ يَا فَقِيه بَلغنِي أَنَّك كثير التَّفْرِيط بِمَا فِي يدك بِغَيْر وَجه لَائِق وأظنك تُرِيدُ الِاقْتِدَاء بِنَا وَلَا يَنْبَغِي لَك ذَلِك نَحن يحصل لنا كثير من غير تكلّف وَلَا تَرْتَضِي أَن نَفسِي عالية فيسهل علينا خُرُوجه كَمَا يسهل دُخُوله وَأَنت فَقِيه دَخلك قَلِيل حَلَال كَسَائِر الْفُقَهَاء وَمَا خرج عَلَيْك لَا يكَاد يحصل لَك عوضه إِلَّا بِمَشَقَّة ثمَّ وبخه على فعله ومكارمه والفقيه سَاكِت فَقَالَ لَهُ الْأَمِير أحب أَن تعاهدني أَنَّك لَا عدت على شَيْء من ذَلِك فَقَالَ الْفَقِيه أروح الْبَيْت وأستخير الله اللَّيْلَة ثمَّ أتيك غَدا بِمَا قويت عَلَيْهِ عزيمتي فَلَمَّا رَاح الْفَقِيه وَبَات بمنزله فِي الملحمة صلى فِي اللَّيْل صَلَاة الاستخارة ثمَّ نَام وَإِذا بِهِ يرى قَائِلا يَقُول لَهُ يَا فَقِيه أَحْمد أنْفق فَأَنت مِمَّن وقِي شح نَفسه فَقَوِيت نَفسه على الْبَقَاء على حَاله ثمَّ لما أصبح غَدا إِلَى الْأَمِير فَقَالَ لَهُ مَا فعلت بِالْأَمر الَّذِي رحت مني أمس متسخيرا بِهِ قَالَ عزمت على
الْبَقَاء على مَا كنت عَلَيْهِ فَقَالَ وَلم وَقد رَأَيْتُك حِين كلمتك كدت تقرب إِلَى قولي قَالَ ثمَّ عذر يُوجب الْإِعْرَاض عَن السَّبَب فَلم يعذرهُ حَتَّى أخبرهُ الْمَنَام فَقَالَ إِنَّمَا كدت أوافقك لأنني علمت أَنَّك إِنَّمَا قلت لي مَا قلت شَفَقَة عَليّ فَلَمَّا رَأَيْت مَا رَأَيْت وَعلمت قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة عزمت على الْبَقَاء على حَالي فَبكى الْأَمِير وَقَالَ فِي أَي شَيْء مَا شَاءَ ركبك وَكَانَت وَفَاته سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة
وَقد عرض هُنَا ذكر الْأَمِير وَهُوَ أحد أَعْيَان الْفُضَلَاء والأمراء والكرماء فاتجه حِينَئِذٍ بَيَان بعض اللَّائِق من أَحْوَاله فَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن يحيى الْعَنسِي بالنُّون بَين السِّين وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ نِسْبَة إِلَى قَبيلَة كَبِيرَة فِي الْيمن خرج مِنْهَا جمع من الْفُضَلَاء أصل بَلَده المكنة بِبَلَد صهْبَان بِفَتْح الْمِيم بعد الْألف وَاللَّام وَفتح الْكَاف وَالنُّون بعد تشديدها ثمَّ هَاء سَاكِنة وَكَانَ لَهُ من الْمَنْصُور مكانة عَظِيمَة وَرفع لَهُ طبلخانة وأقطع لَهُ إقطاعا كثيرا وَذَلِكَ أَن الْمَنْصُور كَانَ ابْن عمته وَقيل ابْن أُخْته وَلم يزل معززا مكرما حَتَّى توفّي الْمَنْصُور على مَا يَأْتِي تَارِيخه وَكَانَ يكره المظفر ويميل إِلَى أَوْلَاد عَمه أَسد الدّين وأخيه فَلَمَّا لزم المماليك فَخر الدّين وأوصلوه إِلَى المظفر أَسِيرًا حَسبه ورسم عَلَيْهِ المبارز بن برطاش فَلَمَّا بلغ ذَلِك إِلَى عَليّ بن يحيى هَذَا كتب إِلَى أَسد الدّين يحثه على الْقِتَال واستنقاذ أَخِيه من الْأسر أبياتا وَهِي ... أتراك تعلم يَا مُحَمَّد مَا جرى ... فتقودها شعث النواصي ضمرا
جردا ترَاهَا فِي الأعنة شزبا ... تفري السباسب واليباب المقفرا
قدها عرابا من تريم ومرخة ... ودثينة حَقًا ودع عَنْك المرا
واقصد بهَا دربي زبيد على الوجا ... لتقيم عذرا أَو تشيد مفخرا
واجنح إِلَى الْملك الْمفضل لذ بِهِ ... شاوره حَقًا قل لَهُ مَاذَا ترى ...
. . أضحى ابْن عمك فِي الْقُيُود مكبلا ... حاشا لمثلك أَن تنام ويسهرا ... فَأَجَابَهُ ابْن دعاس بِشعر هَذَا مَحْفُوظ مَا سمعته مِنْهُ ... يَا قَائِلا أتراك تعلم مَا جرى ... أَتُرِيدُ عكس الْأَمر وَهُوَ مُقَدرا
مَا يَنْبَغِي هَذَا لمخلوق وَلَو ... جَاءَت بِجمع جُنُوده الإسكندرا
انْظُر إِلَى عدن أطاعت أمره ... وَإِلَى زبيد وَمَكَّة أم الْقرى ... والشعران طويلان لم يكد يعلق بحفظي غير مَا أوردته فَلَمَّا اسْتَقل المظفر بِالْملكِ تغافل عَن عَليّ بن يحيى وأبقاه على الْحَال الَّتِي مَاتَ الْمَنْصُور وَهُوَ عَلَيْهَا وَفِي نَفسه أُمُور قديمَة من أَيَّام أَبِيه وحديثة مِنْهَا هَذَا الشّعْر وَغَيره وَلما كَانَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة قَالَ لَهُ تطلع وَتصْلح بيني وَبَين ابْن عمي أَسد الدّين ووعده على ذَلِك خيرا أَو زِيَادَة إِحْسَان وَأسد الدّين إِذْ ذَاك فِي الْبَلَد الْعليا صنعاء ونواحيها وَقد ضعف وَصَارَ متخشيا من مكر الْعَرَب وَأَن يبيعوه ونفد غَالب مَا كَانَ بِيَدِهِ فَلَمَّا وصل عَليّ بن يحيى فَرح وَمَال إِلَى الصُّلْح وَكَانَ مَعَ عَليّ بن يحيى شَاهد الشَّيْخ أَمِين الدّين عبد الله بن عَبَّاس كَاتب الْجَيْش يَوْمئِذٍ وَقيل لأسد الدّين يَوْمئِذٍ ابْن عمك رُبمَا لَا يَفِي لَك بِذِمَّة ويحبسك فَقَالَ يأكلني وَلَا يأكلني غَيره وَلِأَن يُقَال اعتاب بِي السُّلْطَان خير من أَن يعتابني بعض البدو إِمَّا بقتل أَو بأسر ثمَّ نزل مَعَ ابْن عَيَّاش وَابْن يحيى فَلم ينزلا إِلَّا وَالسُّلْطَان بزبيد فلحقاه إِلَى هُنَالك فَدخل زبيد وَأنزل فِي دَار أَبِيه ووقف فِيهِ من الضُّحَى إِلَى بعد الظّهْر ثمَّ استدعى أَسد الدّين وَابْن يحيى فَلَمَّا صَارا بِموضع من دَار زبيد قعد فِيهِ وَأخرج لَهما قيدان فقيدا بهما وَبعث بهما على السّير إِلَى حصن تعز وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة
وَذكر أَن أَسد الدّين لما دخل على أَهله جعلُوا يخاصمونه فَقَالَ لَا نَكُون مثل أهل جَهَنَّم فَلم يَزَالَا بِهِ حَتَّى توفيا بدار تعرف بدار الْإِمَارَة وَكَانَ قد حبس فِيهِ قبلهمَا أَخُوهُ فَخر الدّين ووالده بدر الدّين وَرُبمَا كَانَ بدر الدّين مِمَّن حضر مَعَهُمَا وَقيل بل كَانَ بعدن وَإِنَّمَا اطلع بعد ذَلِك وَبعد سُؤال مِنْهُم السُّلْطَان لذَلِك وأخبار عَليّ بن يحيى ومكارمه كَثِيرَة وَلَو لم تكن لَهُ غير محبته للفقهاء وإحسانه إِلَى الْفُضَلَاء نقل الثِّقَات ذَلِك نقلا متواترا وَأَنه قَلما قَصده قَاصد فخيبه وَسمعت شَيْخي أَبَا الْحسن الأصبحي يَقُول أَخْبرنِي الثِّقَة أَن الْمَنْصُور لما بنى مدرسته بالجند سُئِلَ عَن أفقه من
بهَا ونواحيها فأرشد إِلَى الْفَقِيه أبي بكر بن نَاصِر فاستدعاه من الذنبتين فَلَمَّا حضر بقصر الْجند وَسلم قَالَ يَا فَقِيه نُرِيد مِنْك أَن تدرس لنا بِهَذِهِ الْمدرسَة فَقَالَ لَا أفرغ وَأَنا رجل بدوي لَا أقدر على الْمَدِينَة قَالَ فتبيعنا كتبك قَالَ وَلَا ذَلِك وَذَلِكَ بِحَضْرَة الْأَمِير عَليّ بن يحيى قَالَ لَهُ الْمَنْصُور فَتخرج من بِلَادنَا قَالَ نعم ثمَّ ولى خَارِجا عَازِمًا على ذَلِك فَقَالَ عَليّ بن يحيى الله الله يَا مَوْلَانَا رجل عَلامَة تَأمره أَن يخرج من بلدك وَمثله يطْلب من أقْصَى الْبِلَاد فَقَالَ مَا وجدنَا لَهُ جَوَابا إِلَّا قَول لَا قَالَ سَأَلته أمرا عَظِيما وَهُوَ بيع كتبه فَأجَاب بأشق جَوَاب ثمَّ قَالَ يَا مولَايَ إِن الْفَقِيه أشق الْأُمُور عَلَيْهِ هُوَ بيع كتبه فَأمر السُّلْطَان برده وَقَالَ لَهُ قف بَيْتك فَمَا لأحد عَلَيْك تعرض وادع لنا فَخرج الْفَقِيه وَعَاد بَلَده طيبا وسأذكر قصَّته مَعَ ابْن فضل فِي ذكره وابتنى مدرسة بِبَلَدِهِ وَهِي الَّتِي قبر بهَا ووقف عَلَيْهَا وَقفا جاملا لَكِن أَوْلَاده لما افتقروا عَادوا عَلَيْهِ واستأثروا بِهِ وَكَانَ مَعَ صحبته للفقهاء وَالصَّالِحِينَ يتواضع ويتأدب مَعَهم وَيقبل شفاعتهم وَكَانَ فِي نَاحيَة من بلد بني حُبَيْش رجل من الْفُقَهَاء والصلحاء يعرف بِعَبْد الله القرين رُبمَا يَأْتِي من ذكره مَا لَاق كَانَ عَليّ بن يحيى يَصْحَبهُ إِذْ كَانَت بِلَاده إقطاعة وَكَانَ مهما أمره بِهِ ائتمر وَكَانَ الْفَقِيه يَدْعُو لَهُ ويذكره بِالْخَيرِ فعوتب على ذَلِك وَقيل لَهُ هَذَا رجل ظَالِم فَقَالَ إِن دخل عَليّ بن يحيى النَّار فَإِنَّهَا صُحْبَة حمَار بن حمَار وَالله لَا مَاتَ إِلَّا طَاهِرا مطهرا فَقيل لَهُ وَمَا تَطْهِيره قَالَ الْقَيْد وَالْحَبْس فَلَمَّا حصل لَهُ ذَلِك وَمَات بِهِ علم صدق الْفَقِيه وَكَانَت وَفَاته يَوْم الِاثْنَيْنِ فِي صفر سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَحمل إِلَى بَلَده فقبر بمدرسته
وَأما أَسد الدّين الْعَارِض ذكره مَعَه فَهُوَ مُحَمَّد بن حسن بن عَليّ بن رَسُول أحد خِيَار بني رَسُول وكرامهم قَلما قَصده قَاصد إِلَّا وأناله قَصده وأجزل رفده وَله آثَار جَيِّدَة مبقية للذّكر مِنْهَا مدرسة بِمَدِينَة إب ثمَّ مدرسة بقرية الجبابي وَبهَا قَبره وَعَلَيْهَا وقف كثير شَيْء مِنْهُ للوافد يطعم على قدر حَاله وَمِنْهَا للدرسة ومدرس ثمَّ لما صَار بالسجن اشْتغل بِقِرَاءَة كتب الْعلم وَكَانَ يَسْتَدْعِي بالفقهاء إِلَى مَوْضِعه فَيقْرَأ عَلَيْهِم وَيحسن إِلَيْهِم لَا سِيمَا شَيخنَا الْفَقِيه أَحْمد السرددي إِذْ كَانَ رَأس الْمُحدثين إِذْ
ذَاك بتعز فَقَرَأَ غَالب كتب المسموعات خَاصَّة من كتب الحَدِيث على ابْن السرددي وَغَيره من أهل تعز ثمَّ نسخ عدَّة مجلدات ثمَّ مُقَدمَات قَرَأت ووقف ذَلِك على أَمَاكِن عديدة مِنْهَا تربة ذِي عقيب وَمِنْهَا مدرسته وَغير ذَلِك ووقف على مدرسته بإب أَيْضا وَقفا جاملا وَبنى سدا بِموضع فِي المخلاف يعرف بسد فرقة وَلم يزل على أحسن طَرِيق من قبل وَفَاته بعدة سِنِين إِلَى أَن توفّي على ذَلِك ثَلَاث عشر ذِي الْحجَّة آخر سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة بعد أَن بلغ عمره نيفا وَسِتِّينَ سنة وعقبه من خير أَوْلَاد الْأُمَرَاء يغلب عَلَيْهِم الْخَيْر وَفعل الْمَعْرُوف حَتَّى مواليهم بِحَيْثُ اعْتبرت ذَلِك فَوَجَدته حَقًا صدقا وَخلف عدَّة أَوْلَاد فأفضلهم أَبُو بكر كَانَ عَارِفًا بِعلم الْأَدَب وَله أشعار جَيِّدَة مِنْهَا قَوْله ... إِذا لم أقاسمك المسرة والأسى ... وَلم أجد الوجد الَّذِي أَنْت وَاجِد
وَلم أسهر اللَّيْل الطَّوِيل كآبة ... فَمَا أَنا مَوْلُود وَلَا أَنْت وَالِد ... وهما من قصيدة كَبِيرَة كتبهَا إِلَى أَبِيه فِي السجْن وَتزَوج الْملك المظفر ابْنَته مِنْهُ قبل الْحَبْس وَكَانَت من أخير نسَاء الْمُلُوك فِي الدّين وَالصَّدَََقَة وابتنت مدرسة بمغربة تعز بحافة الميهال ووقفت عَلَيْهِ وَقفا عَظِيما لَكِن ضعفه سوء نظر النظار وَلها من المظفر ابْنه الواثق والحرة مَاء السَّمَاء يَأْتِي ذكر الواثق إِن شَاءَ الله فِي الْمُلُوك وَأما الْحرَّة مَاء السَّمَاء فَهِيَ إِحْدَى أخيار الخواتين كَثِيرَة الشَّفَقَة على أَهلهَا وَالْإِحْسَان إِلَى ذُرِّيَّة جدها أَسد الدّين وَالصَّدَََقَة على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَلها من الْآثَار المبقبة للذّكر مدرسة ابتنتها بزبيد وَمَسْجِد كَانَ لجدها بدر الدّين بزبيد أَيْضا وَكَانَ قد خرب فابتنته مُخْتَصرا ووقفت عَلَيْهِ وعَلى الْمدرسَة وَقفا جاملا لدرسه وأيتام يتعلمون ومدرس يقرىء الدرسة الْعلم الشريف وابتنت بتعز فِي حدبة مَسْجِدا أَيْضا وَجعلت عَلَيْهِ وَقفا يقوم بِإِمَام ومؤذن وأيتام ومعلم جزاها الله خيرا وَالْغَالِب عَلَيْهَا وعَلى من يلوذ بهَا الْخَيْر فِي الْمقَال والفعال وَهِي آخر ذُرِّيَّة أَسد الدّين فِي اسْتِحْقَاق الذّكر
وَتوفيت بقرية التريبة سادس عشر شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة وَلَا أعرف لعَلي بن يحيى عقبا عمل مَا يسْتَحق الذّكر غير ابْنة لَهُ تسمى حللا فَإِنَّهَا كَانَت من حظاياه وابتنت مدرسة بِرَأْس وَادي نخلان بِموضع يعرف بالظهرة وعملت مكرمَة بِأَن وقفت دارها الَّتِي كَانَت تسكنها مدرسة ووقفت طينها على مدرسة ودرسة وَخرجت عَن بَيتهَا إِلَى بَيت ابتنته بِقرب الْمدرسَة وَكَانَت من المتصدقات المحسنات أَخْبرنِي الثِّقَة أَنَّهَا كَانَت تَأمر من يفتش لَهَا عَن الْأَيْتَام وَيَأْتِي لَهَا بهم فتكسوهم وتحسن إِلَيْهِم وتأمر بتطهير من لم يكن مطهرا مِنْهُم وَهَذَا دأبها إِلَى أَن توفيت وَكَانَت من أهل الهمم الْعَالِيَة والنفوس الأبية حكى لي الثِّقَة أَن الْأَمِير أَسد الدّين لما مر عِنْدهَا هُوَ ووالدها يُريدَان نزُول بَاب السُّلْطَان وَكَانَت قد كتبت إِلَى سَيِّدهَا أَنه لَا يتَأَخَّر عَن النُّزُول مَعهَا فِي دارها قبل أَن تَجْعَلهُ مدرسة فَعرف بذلك الْأَمِير أَسد الدّين فَقَالَ لَا بَأْس نجبر بَاطِنهَا ثمَّ مروا بهَا فَلم يدخلُوا إِلَّا على سماط عَظِيم لَا يعْمل أحد من نظرائها مثله وحجت بعد لُزُوم سَيِّدهَا وَأَقْبَلت على الْعِبَادَة وَفعل الْمَعْرُوف حَتَّى توفيت ووقفها على الْمدرسَة وقف جيد وَلَكِن ضعف الْوَقْت وَسُوء نظر النظار وَعدم الْحُكَّام أقلوا بركته
نرْجِع إِلَى تَتِمَّة ذكر الْفُقَهَاء بني مَضْمُون فآخر من عرف مِنْهُم ولد لِأَحْمَد اسْمه مُحَمَّد كَانَ متفقها وَيذكر بِمَعْرِِفَة النَّحْو ولي قَضَاء صنعاء من قبل بني مُحَمَّد بن عمر وَكَانَ خَطِيبًا مصقعا وَكَانَ شَدِيد الْأَحْكَام مبالغا فِي إِقَامَة الْحق وَإِقَامَة مَذْهَب السّنة وإماتة الْبِدْعَة وَكَانَ يحلف الإسماعيلية بأيمان تشق عَلَيْهِم ثمَّ بلغه أَن بَعضهم لما مَاتَ وَدفن دفن مَعَه مصحف فَأمر من ينبش الْقَبْر عَنهُ وَأخرج الْمُصحف فشق ذَلِك على الإسماعيلية وكادوا وبذلوا الْأَمْوَال فِي عَزله فعزل بِغَيْر وَجه يُوجب الْعَزْل فَعَاد إِلَى بَلَده فَلبث مُدَّة ثمَّ رتبه أَوْلَاد أَسد الدّين مدرسا بمدرسة جده بإب فَلم يبرح بهَا حَتَّى توفّي وَهُوَ الَّذِي عرفني بِبَعْض نعوت أَهله إِذْ وجدته بإب وَأَنا عازم على تقدم بَلَده فَقلت لَهُ يكْتب لي إِلَى بعض من يرَاهُ صَالحا فِي الْبَلَد يزورني الترب
ويوقفني على الْمُمكن من كتبهمْ فَفعل وقدمت بلدهم إِلَى ابْن لَهُ كتب إِلَيْهِ فَلَمَّا جِئْته تَلقانِي بالترحيب والأنس وَذَلِكَ بالتاريخ الْمُتَقَدّم سنة ثَلَاثَة عشر وَسَبْعمائة وَلم يزل الْفَقِيه هَذَا بإب حَتَّى دنت وَفَاته فَعَاد بَلَده وَتُوفِّي بهَا سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة تَقْرِيبًا وَدفن مَعَ أَهله وَخَلفه ابْنه يُوسُف الَّذِي قدمت إِلَيْهِ وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فِي عصرنا لكَونه أفقه ذُرِّيَّة بني مَضْمُون وَانْقطع عَنْهُم النّسَب إِلَى الْفَقِيه أبي عمرَان
وَمِمَّنْ ذكره ابْن سَمُرَة فِي الْفَصْل أَيْضا قَالَ وَمن الْقُضَاة بِذِي جبلة وإب مدينتي المخلاف فَذكر ذَا جبلة وقضاتها قَالَ مِنْهُم لمك بن مَالك وخليفته جرير بن يُوسُف ثمَّ وَلَده يحيى بن مَالك ثمَّ أَحْمد بن عبد السَّلَام النقوي سَمِعت خَبِيرا بذلك يَقُول كَانَ أهل النقوي قوما ذَوي دين وعزم وشهرة بالفقه ولتهم السيدة أَو غَيرهَا من الْمُلُوك الْقَضَاء بِصَنْعَاء والمخلاف وانتقلوا من مَذْهَب السّنة إِلَى مَذْهَب الشِّيعَة ثمَّ بعدهمْ أَبُو الْمَعَالِي بن يحيى وَولده أَبُو السُّعُود بِقَضَاء جبلة من قبل النقوي ثمَّ عبد الله بن أبي الْفَتْح وَولده عَليّ مَاتَ سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة ثمَّ أسعد وَأحمد وَمَنْصُور وَأَبُو الْفَتْح بَنو القَاضِي عبد الله بن أبي الْفَتْح الْمُقدم ذكره ثمَّ القَاضِي عَليّ بن أَحْمد بن أبي يحيى وَابْن أَخِيه عَليّ بن عبد الْأَعْلَى وأظن من ذكر بالنقوي إِلَى هُنَا الْغَالِب على الْمَذْكُورين التَّشَيُّع
ثمَّ صَار الْقَضَاء فِي أهل السّنة أَوَّلهمْ القَاضِي أَبُو بكر اليافعي وَولده مُحَمَّد وصهره مُحَمَّد بن عبد الله بن حسان بن مُحَمَّد وَهُوَ أحد من جدد مَسْجِد مرعيت على طَرِيق الرايح من تعز إِلَى الجؤة وَذَلِكَ فِي تسع عشرَة وَخَمْسمِائة ثمَّ وَلَده مُحَمَّد بن زيد
هَؤُلَاءِ كَانُوا ينوبونه حِين انْتقل إِلَى جبلة على مَا قدمت ثمَّ تقضى بعدهمْ القَاضِي عَليّ بن يحيى بن أبي عقبَة ثمَّ وَلَده عقبَة وَمُحَمّد بن عبد الله بن أبي عقبَة ثمَّ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الإِمَام ثمَّ إِبْرَاهِيم بن الْمُبَارك بن الدَّلِيل وَالْقَاضِي بن الحرمي وَمُحَمّد بن عَليّ بن يحيى الْحَضْرَمِيّ ولي أشهرا ثمَّ مَاتَ وَأحمد بن القَاضِي مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الإِمَام ثمَّ القَاضِي سُلَيْمَان بن أَحْمد وَأَخُوهُ مَسْعُود ونائبه عَليّ بن يحيى ثمَّ
عُثْمَان بن يحيى بن أَحْمد بن عُثْمَان فِي إب ثمَّ القَاضِي طَاهِر بن يحيى ثمَّ وَلَده مُحَمَّد ثمَّ القَاضِي عَليّ بن أسعد بن الْمُسلم الصعبي تقضى أَيَّام شمس الدولة وَتُوفِّي بسهفنة يَوْم الْجُمُعَة منتصف الْحجَّة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ ابناه مُسلم وَعِيسَى توفّي عِيسَى على الْقَضَاء يَوْم رَابِع من رَمَضَان فِي السّنة الَّتِي نزل الرماد من السَّمَاء وَسميت سنة الرماد وَهِي سنة سِتّمائَة
ثمَّ صَار الْقَضَاء إِلَى أهل عرشان بِإِشَارَة من القَاضِي عِيسَى وَالْغَالِب أَنه كَانَ مصير الْقَضَاء إِلَيْهِم قبل موت القَاضِي عِيسَى لمُدَّة لثاني ولايتهم مَعَ سيف الْإِسْلَام ثمَّ حَدِيثهمْ مَعَ القَاضِي مَسْعُود وَلما صَار الْقَضَاء إِلَيْهِ ولي قضا جبلة الْفَقِيه إِسْمَاعِيل بن الإِمَام سيف السّنة وَبِه انْقَضى ذكر أهل عرشان
وَمِمَّنْ ذكر ابْن سَمُرَة من الْقُضَاة بزبيد عبد الله بن مُحَمَّد بن عبلة ولي قضاءها أَيَّام بني مهْدي إِذْ عزلوا بني عقامة ثمَّ رَحل شمس الدولة توران شاه بن أَيُّوب الْيمن وَمَعَهُ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عمر الدِّمَشْقِي وَقد خبر شمس الدولة علمه وفضله فَجعله قَاضِي الْقُضَاة فِي الْيمن أجمع
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَ هَذَا القَاضِي كريم النَّفس ذَا مُرُوءَة أَقَامَ بِالْيمن مُدَّة وَتزَوج بهَا ابْنة السُّلْطَان مُحَمَّد بن الْأَغَر الهيثمي فأولدت لَهُ ابْنا سَمَّاهُ هبة الله الْيَمَانِيّ ثمَّ لما عَاد شمس الدولة ديار مصر عَاد صحبته قَالَ ابْن سَمُرَة بَلغنِي أَنه ذُو جاه وَحَالَة جليلة بِمصْر مَعَ صَلَاح الدّين أخي شمس الدولة وَحين صَار الْقَضَاء إِلَى هَذَا وبلغه حَال القَاضِي التسترِي جعله حَاكما بزبيد وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحُسَيْن بن أَحْمد التسترِي تفقه بشيوخ زبيد وبأبي عمرَان مُوسَى بن يُوسُف الأصابي مقدم الذّكر وَكَانَ فَقِيها مجودا ورعا نظيف الْفِقْه أجمع على تبجيله وتفضيله المؤالف والمخالف واعترف بفضله كل عَارِف وامتحنه أهل زبيد بِأَلف مسأله من مسَائِل الامتحان فأجابهم عَنْهَا بأجوبة بَيِّنَة
قَالَ ابْن سَمُرَة وَلَقَد سَمِعت من فضائله وَكَرمه مَا يتعجب مِنْهُ السَّامع ويعجز عَن بُلُوغه الطامع وَكَانَ مَقْطُوعًا بأمانته وديانته وَتُوفِّي عَائِدًا من الْحَج فِي قَرْيَة من مخلاف الساعد سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة غَرِيبا وَقد عد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَرِيب شَهِيدا
وَمن المدرسين بهَا عَيَّاش بن مُحَمَّد بن عَيَّاش بن أَسد المَخْزُومِي ثمَّ الْقرشِي والعياشان بِعَين مُهْملَة بعد ألف وَلَام ثمَّ يَاء مثناة من تَحت مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ شين مُعْجمَة مَفْتُوحَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون تَثْنِيَة عَيَّاش تفقه بِالْقَاضِي التسترِي وَكَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه بِهِ جمَاعَة مِنْهُم عَليّ بن قَاسم الْحكمِي وَمِنْهُم مُحَمَّد وَعلي ابْنا عِيسَى هَذَانِ أخذا عَن الْأَحْنَف قَالَ ابْن سَمُرَة رَأَيْتهمْ يدرسون بِمَسْجِد الأشاعر ويرشدون الطَّالِب وَمِنْهُم حُسَيْن الْأَخْرَس لم أتحقق ضَبطه وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن أبي الصَّيف سكن مَكَّة وانتهت إِلَيْهِ رئاسة الْفِقْه بهَا بعد مُحَمَّد بن مُفْلِح الأبيني وَهُوَ أحد الْحفاظ المكثرين لَقِي عدَّة من الْفُقَهَاء والمحدثين وعاصر جمعا مِنْهُم كالحافظ السلَفِي وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهمَا فانتهت إِجَازَته إِلَى مَكَّة وَلم يزل بِمَكَّة على الْحَال المرضي حَتَّى توفّي سنة تسع وسِتمِائَة
وَمن حيس الشَّيْخ عبد السَّلَام بن أبي بكر ثمَّ أَبُو بكر بن فالح وَهُوَ ابْن أخي حسن الشَّيْبَانِيّ وَولي قَضَاء حيس فِي بضع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم أَبُو ربيعَة بن أَحْمد فَقِيه القرشية ثمَّ مُحَمَّد بن أَحْمد المَخْزُومِي توفّي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ أَبُو بكر الْعَبَّادِيّ قَاضِي فشال بِفَتْح الْفَاء والشين الْمُعْجَمَة ثمَّ ألف ثمَّ لَام وَهِي مَدِينَة بالوادي الْمَعْرُوف برمع وَمن ذوال وَهُوَ وَاد عَلَيْهِ عرب يعْرفُونَ بالمعازبة يرجعُونَ عكا وجدهم ذوال بِهِ سمي الْوَادي وَبِه قَرْيَة تسمى بالمدالهة بِفَتْح الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ خفض اللَّام ثمَّ هَاء مَفْتُوحَة ثمَّ أُخْرَى سَاكِنة مِنْهَا عبد الله بن أَحْمد تلقب بالصريدح الْمَالِكِي النّسَب نِسْبَة إِلَى مَالك وَهُوَ أحد بطُون المعازبة تفقهه بِعَبْد الله الهرمي وَبِه تفقه على ابْن عمر بن عجيل ذكر ذَلِك ابْن سَمُرَة وَمن ذُريَّته جمَاعَة فُقَهَاء يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله
مِنْهُم ابناه يُوسُف وَأحمد فيوسف كَانَ فَقِيها فَاضلا محققا مدققا ثاقبا للمستعجم وَكَانَ صَالحا خيرا تفقه بإبراهيم بن زَكَرِيَّا الْآتِي ذكره واشتغل أَخُوهُ
أَحْمد بِالْعبَادَة فَغلبَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ ليوسف ثَلَاثَة أَوْلَاد هم مُحَمَّد وَأَبُو بكر وَأحمد فمحمد وَأَبُو بكر تفقها بأبيهما وَأحمد تفقه بِإِمَام الْمُتَأَخِّرين أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل وَغَيره وَكَانَ يثني عَلَيْهِ بِمَعْرِِفَة علم الْأَدَب وَأما أَحْمد الَّذِي غلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة فَحدث لَهُ ولدان هما عبد الله وَعلي فعبد الله تفقه بِعَمِّهِ يُوسُف ثمَّ بِالْإِمَامِ ابْن عجيل أَيْضا وَعلي تفقه فِي بدايته بِابْن الهرمل وَغَيره ثمَّ أُخْرَى بِالْإِمَامِ ابْن عجيل الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله قدمت عَلَيْهِ قريته الْمَذْكُورَة فِي سنة أَربع وَسَبْعمائة فرأيته رجلا مُبَارَكًا قَلِيل الْمثل فِي فُقَهَاء الْعَصْر كثير نقل الْفِقْه فَأخذت عَنهُ كتاب التَّنْبِيه الْبَعْض قِرَاءَة وَالْبَعْض إجَازَة لغَرَض التَّبَرُّك ورأيته رجلا مُبَارَكًا مؤالفا للأصحاب مؤانسا للواصل وَحصل عَلَيْهِ فِي آخر عمره تغفيل توفّي عله بعد نَيف وَعشْرين وَسَبْعمائة وَسَيَأْتِي ذكر من حدث بعده من الْقرْيَة فِي الطَّبَقَة الْمُتَأَخِّرَة ثمَّ يخرج الْخَارِج من هَذَا الْوَادي فَيَقَع مَعَ أهل الشويرى قَرْيَة بواد سِهَام بخفض السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْهَاء ثمَّ ألف ثمَّ مِيم وَضبط الْقرْيَة بشين مُعْجمَة مَضْمُومَة بعد ألف وَلَام وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء وَألف بعْدهَا بهَا الْفُقَهَاء المعروفون إِلَى عصرنا ببني زَكَرِيَّا
أَوَّلهمْ عبد الله بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا نسبه فِي قحطان ومولده سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة تفقه بالطويري الْمُقدم ذكره عِنْد ذكر أَصْحَاب اليفاعي وَابْن عبدويه وانتفع بِهِ جمَاعَة فِي الْفِقْه وبورك لَهُ فِي الذُّرِّيَّة خلاف غَيره من فُقَهَاء تهَامَة بِحَيْثُ أَنهم من عصره إِلَى عصرنا لم يكادوا يخلون من فَقِيه مُحَقّق ومفت مدقق وَكَانَت وَفَاته سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَذَلِكَ فِي أحد أَيَّام التَّشْرِيق ثمَّ خَلفه ابْنه أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم مولده سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ ثمَّ بالطويري شَيْخه وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا أثني عَلَيْهِ مَعَ وجود أَبِيه وَرُبمَا فضل عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَحْنَف يَقُول إِبْرَاهِيم أفقه من أَبِيه وَبِه تفقه جمع كثير من التهائم وَالْجِبَال وَهُوَ أَكثر الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين أصحابا حَتَّى نقل الثِّقَة عَن الْفَقِيه إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ أَنه قَالَ لبني زَكَرِيَّا على غَالب فُقَهَاء الْيمن منَّة أَو كَمَا قَالَ وَيُرِيد بذلك أهل تهَامَة فَإِن غَالب طريقهم فِي الْكتب المسموعة عَلَيْهِم وانتشر عَنْهُم الْفِقْه انتشارا متسعا فَمن أَعْيَان تلاميذه مُوسَى بن عَليّ بن عجيل الْآتِي ذكره وَعبد الله بن جعمان وَعلي بن قَاسم
الْحكمِي وَابْن عَمه مُحَمَّد بن يُوسُف الشويري ثَبت لي سَنَد بِخَط الْفَقِيه الإِمَام الصَّالح أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل الْآتِي ذكره أَنه قَالَ بَلغنِي أَن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا كَانَ من الصَّالِحين الكابر وَالْعُلَمَاء الْمَشْهُورين رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وَقد سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فاستدعى بِالثَّانِي من الْمُهَذّب وفتحه وَوَضعه بَين يَدَيْهِ وَأخذ ورقة ووضعها على رُكْبَتَيْهِ وَجعل يستملي الْجَواب من الْمُهَذّب ويكتبه فِي الورقة وَكفى بِهِ شَهَادَة ابْن عجيل لَهُ بالصلاح وَالْعلم وَكَانَ راتبه كل يَوْم سبعا من الْقُرْآن واقتدى بِهِ فِي ذَلِك جمع من أَصْحَابه وَتُوفِّي على الْحَال المرضي سنة تسع وسِتمِائَة فَلَزِمَ مجْلِس التدريس بعده تِلْمِيذه مُوسَى بن عجيل الْآتِي ذكره إِذْ لم يكن فِي أَهله من يكمل غير مُحَمَّد بن يُوسُف الْتزم العكفة تواريا عَن ذَلِك وتوقيا بِأَن الْفَقِيه مُوسَى لَا يتْرك الْموضع شاغرا من مدرس لما فِيهِ من الأنفة على الْأَصْحَاب على مَا سَيَأْتِي ذكر بَيَان ذَلِك مَعَ ذكره إِن شَاءَ الله فَأَقَامَ يدرس مُدَّة ثمَّ إِن مُحَمَّد بن يُوسُف خرج من مُعْتَكفه فَمَا هُوَ أَن رَآهُ الْفَقِيه مُوسَى فَخرج من الشويري يُرِيد بَلَده فَقيل لمُحَمد بن يُوسُف قد ذهب الْفَقِيه مُوسَى واتجه عَلَيْك أَن تدرس فلازم الْمدرسَة ودرس وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن عبد الله بن يُوسُف بن زَكَرِيَّا تفقه بالفقيه مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا كَمَا تقدم وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا عَارِفًا محققا أجوبته على مشكلات التَّنْبِيه تدل على ذَلِك سَمِعت الْعَارِف بالفقه يثني عَلَيْهِ وَيَقُول أجَاب عَلَيْهَا جمع من أهل الْيمن وَالشَّام وَأهل الْعرَاق فَلم يكن فِيهَا مَا يرتضي غير جَوَاب مُحَمَّد هَذَا وتفقه بِهِ جمَاعَة من أَهله وَغَيرهم وَكَانَت وَفَاته سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَخلف إِبْرَاهِيم ولدا يُقَال لَهُ مُحَمَّد اشْتغل بِالْعبَادَة وَكَانَ لَهُ ولدان هما عبد الرَّحْمَن وَعبد الله تفقها بالبداية بجدهما إِبْرَاهِيم وَكَانَ تفقههما بتلميذه وَابْن عَمه مُحَمَّد بن يُوسُف فَلَمَّا توفّي خلفاه فِي التدريس فرأسا ودرسا فَتوفي عبد الرَّحْمَن سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَتُوفِّي عبد الله سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ثمَّ خلفهمَا فِي التدريس ابْن عَم لَهما اسْمه مُحَمَّد بن عمر بن يحيى بن زَكَرِيَّا تفققه بِمُحَمد بن يُوسُف أَيْضا وَكَانَ فَاضلا محققا مدققا توفّي سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة ثمَّ خَلفه ابْن عَمه عبد الله بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا مولده سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة وَكَانَ فَاضلا بالفقه تفقه بِابْن عَمه مُحَمَّد بن عمر مقدم الذّكر وَأخذ عَن صَالح بن عَليّ الْحَضْرَمِيّ ولي قَضَاء الكدرا من قبل بني عمرَان وَقدم تعز فَأخذ عَنهُ أَبُو بكر بن اليحيوي الْآتِي ذكره فِي تعز كتاب الْوَجِيز وَتُوفِّي عَلَيْهِ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَخَلفه فِي الْقَضَاء وَلَده أَبُو بكر وَهُوَ
أحد أجواد زَمَانه كَانَ شرِيف النَّفس عالي الهمة ذَا محفوظات حَسَنَة وَرِوَايَات موفقة اجْتمعت بِهِ فِي تعز وزبيد وَغَيرهمَا
وَأَخْبرنِي بِكَثِير من أَحْوَال أَهله وامتحن بآخر عمره بفقر مدقع وعزله بَنو مُحَمَّد بن عمر بِغَيْر وَجه يُوجب الْعَزْل بل كَرَاهَة لمن ولاه كَمَا هُوَ عَادَة حكام زَمَاننَا إِذْ يحملهم عَلَيْهِ جهل أَو ضعف دين يَبْتَغُونَ لأَجله الأهوية
وَمِنْهُم فِي عصرنا ثَلَاثَة موجودون عبد الرَّحْمَن بن الْجُنَيْد بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن مقدم الذّكر مولده سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَتُوفِّي سنة سبع أَو ثَمَان وَسَبْعمائة ثمَّ ابْن عَمه مُحَمَّد بن عمر بن الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن أَيْضا مولده سبع وَسِتُّونَ وسِتمِائَة تفقههما بعلي بن إِبْرَاهِيم البَجلِيّ الْآتِي ذكره فاجتمعت بِعَبْد الرَّحْمَن هَذَا فِي زبيد فَأَخْبرنِي بِكَثِير مِمَّا ذكرته من أَحْوَالهم وَالثَّالِث اسْمه أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن عمر وَلَعَلَّه عمر بن يحيى بن زَكَرِيَّا جد مُحَمَّد الْمُقدم ذكره تفقهه فِي الِابْتِدَاء بعلي بن إِبْرَاهِيم البَجلِيّ أَيْضا ثمَّ كَانَ كَمَاله بِابْن الْأَحْمَر الْآتِي ذكره وانقضى ذكر بني زَكَرِيَّا من طَرِيق النَّقْل إِذْ لم أرد بلدهم وألحقت متأخرهم بمتقدمهم وَلم أرجئه إِلَى ذكر طبقته إِلْحَاقًا للذرية بِالْآبَاءِ وَالله يَقُول بِإِيمَان ألحقنا بهم ذرياتهم
نرْجِع إِلَى تَتِمَّة من ذكره ابْن سَمُرَة من أهل تهَامَة فِي فصل الْقُضَاة قَالَ وَمِنْهُم يُوسُف القطراني ولي قَضَاء الكدراء وَمن علقان قَرْيَة قد مضى ذكرهَا وَأَنه خرج مِنْهَا جمَاعَة مضوا وَمن الْمُتَأَخِّرين أَحْمد بن أسعد بن أبي الْمَعَالِي التباعي وَولده محيا بعده قلت وَلَده محيا بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ ألف حصل عَلَيْهِ غيبَة من الذِّهْن يسميها أهل الْيمن التسفيل بتاء مثناة من فَوق مُشَدّدَة بعد ألف وَلَام ثمَّ سين بعد هَاء مُهْملَة سَاكِنة وخفض الْفَاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ لَام ثمَّ عَاد ذهنه بعد أَيَّام فَأخْبر بِغَرَائِب الله أعلم بوجهها وَمِنْهُم المقرىء سُلَيْمَان بن أَحْمد بن أسعد القَاضِي كَانَ ورعا مَاتَ بعد سبعين وَخَمْسمِائة وَمِنْهُم أَبُو الْقَاسِم بن سُلَيْمَان الحبيشي سكن حصن آل أَيُّوب من بلد
وَسن تفقه بشيوخ الملحمة وَأخذ عَن طَاهِر بن يحيى وَفِي الْمحلة قَرْيَة بوادي السحول بِفَتْح الْمِيم والحاء الْمُهْملَة وَاللَّام مَعَ التَّشْدِيد ثمَّ هَاء سَاكِنة فَقِيه اسْمه مُحَمَّد بن أسعد بن أَحْمد بن عبد الله بن أبي أَفْلح
وَمن رفود بِفَتْح الرَّاء وَضم الْفَاء وَسُكُون الْوَاو ثمَّ دَال مُهْملَة قَرْيَة بالوادي أَيْضا فَقِيه اسْمه أَبُو السُّعُود بن مُحَمَّد كَانَ مَوْجُودا سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة هَذَا لم يُورِدهُ ابْن سَمُرَة لَكِن لما طلعت السحول من بلدي الْجند وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة بعد أَن كنت وجدته مَذْكُورا فِي الْأَسَانِيد سَأَلت عَنهُ فَقِيه السحول يَوْمئِذٍ أَحْمد بن سَالم الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله وَكَانَت لَهُ معرفَة بأحوال النَّاس مَعَ قدم سنّ وَصدق مذاكرة وَقَالَ كَانَ يذكر بِالْخَيرِ فروى عَنهُ بعض الْفُقَهَاء أَنه روى بِسَنَد صَحِيح إِلَى رجل من الْحَبَشَة وَأثْنى عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ أَنه كَانَ ذَات لَيْلَة فِي زمرة الْحَبَشَة ودولتهم بتهامة نَائِما على طَهَارَة إِذْ أَتَاهُ تِسْعَة رجال من أهل بَلَده ركبانا يعرفهُمْ فَسَلمُوا عَلَيْهِ فَرد عَلَيْهِم السَّلَام وسألهم أَيْن تُرِيدُونَ فَقَالُوا مَكَّة حرسها الله نشكو مُنكر هَؤُلَاءِ الْحَبَشَة وفعلهم مَعَ النَّاس فَقلت وَأَنا مَعكُمْ ثمَّ ركبت دَابَّتي وسرت مَعَهم حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّة فَدَخَلْنَا الْحرم وَوجدنَا رجلا مُسْتَندا إِلَى الرُّكْن الأسحم وَعَلِيهِ كسَاء أَبيض فسلمنا عَلَيْهِ فَرد علينا وَقَالَ مَا تُرِيدُونَ فَقُلْنَا نشكو إِلَيْك الْحَبَشَة فَإِنَّهُم قد أظهرُوا الْمُنكر ببلادنا فَقَالَ روحوا فقد سلط الله عَلَيْهِم رجلا من الْيمن يُقَال لَهُ ابْن مهْدي يقتلهُمْ وينتقم مِنْهُم ثمَّ ظهر ابْن مهْدي فِي النّوم فَفعل الأفاعيل الْمَشْهُورَة عَنهُ قَالَ الرَّائِي فَرَأَيْت الْقَوْم بأعيانهم قد جَاءُوا ركبانا على الدَّوَابّ كَمَا جَاءُوا أَولا فسألتهم أَيْن تذهبون فَقَالُوا قَوْلهم الأول نُرِيد مَكَّة نشكو فعل ابْن مهْدي وَمَا صنع بعد الْحَبَشَة فَقَالَ روحوا فقد سلط الله عَلَيْهِ أهل الذوائب فَنَظَرت الغز وذوائبهم كَمَا ذكر فَبينا أَنا فِي نومتي تِلْكَ إِذْ بِأَصْحَابِي قد جَاءُوا على حَالهم الأول فِي الرّكُوب والتهيؤ بهيئة السّفر فَقلت أَيْن تُرِيدُونَ فَقَالُوا مَكَّة نشكو فعل الغز وَمَا يصنعون بِالنَّاسِ إِلَى ذَلِك الرجل فَقلت وَأَنا
مَعكُمْ ثمَّ ركبت دَابَّتي وسرت مَعَهم حَتَّى دَخَلنَا مَكَّة فَوَجَدنَا الرجل على حَاله ذَلِك لم يكد يتَغَيَّر فشكونا إِلَيْهِ فعل الغز فَقَالَ روحوا فقد سلط الله عَلَيْهِم أهل الدراريع السود وَالْخَيْل الْبيض سلط عَلَيْهِم الْعمانِي فَنَظَرت خيلهم ولباسهم وأداتهم كَمَا وصف فَبينا أَنا فِي أثْنَاء النّوم إِذْ بِأَصْحَابِي أَيْضا قد جاؤوني وَقَالُوا نُرِيد مَكَّة فَقلت مَا تَصْنَعُونَ قَالُوا نشكو إِلَى ذَلِك الرجل مُنكر العمانيين فَقلت وَأَنا مَعكُمْ ثمَّ سرت مَعَهم رَاكِبًا دَابَّتي حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّة فَوَجَدنَا الرجل مَكَانَهُ وَعَلِيهِ لِبَاس أَخْضَر وعمامة خضراء وَهُوَ يتهيأ للسَّفر وَعَلِيهِ أهبته فَشَكا إِلَيْهِ الْقَوْم فعل الْعمانِي وجنده وَمَا صَنَعُوا فَقَالَ لَهُم اذْهَبُوا فَأَنا لَهُم على أثركم فَوَقع فِي قلبِي أَنه الفاطمي ثمَّ انْتَبَهت من نومي وبادرت إِلَى كتاب علقت فِيهِ مَا رَأَيْت وَالله يقْضِي بِالْحَقِّ وَالْخَيْر فَقلت وَقد صرنا فِي دولة الغز وَكَانَ مَا قبلهَا مَا سبقنَا كَمَا ذكر الرَّائِي ظهر ابْن مهْدي على الْحَبَشَة ثمَّ الغز على ابْن مهْدي وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيّد بَيَان مَا ذكر من العمانيين بأثر عَن الإِمَام ابْن عجيل مَعَ ذكره نفع الله بِهِ وَذكر ابْن سَمُرَة الْفَقِيه عَليّ بن عمر بن عجيل وَأَنه تفقه بِابْن الصريدح فَأَحْبَبْت بَيَان مَا صَحَّ لي من نَعته ونعت ذُريَّته وَلَوْلَا خشيَة الْعَيْب بالتقديم لَكَانَ المعتقد أَن أقدم ذكر هَذَا الْبَيْت لما ثَبت من غزارة علمهمْ وَقُوَّة ورعهم وَشرف منصبهم وقومهم الَّذين ينتسبون إِلَى ذوال إِذْ هم فَخذ يُقَال لَهُم شيت لكَوْنهم بَيت رئاسة وَشرف أما عَليّ بن عمر فَلم أجد ذكره إِلَّا من ابْن سَمُرَة وذكرته كَذَلِك وَلم أتحقق من نَعته شَيْئا وَكَانَ لَهُ ولدان هما إِبْرَاهِيم ومُوسَى
فإبراهيم طلع الْجبَال فَقدم جبا فَأخذ عَن أبي يحيى وَعَن مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الْمعلم مقدم الذّكر بجبا ثمَّ ارتحل عَن جبا فطلع المخلاف فَأخذ عَن القَاضِي مَسْعُود ثمَّ صَار إِلَى قَرْيَة المخادر من وَادي السحول وَأخذ عَن ابْن سحارة الْآتِي ذكره وَأخذ بِذِي جبلة عَن القَاضِي الْأَشْرَف شرح مُقَدّمَة ابْن بَاب شَاذ وَلما عَاد بَلَده أَخذ عَن أَخِيه مُوسَى فَرَائض الصردفي وَكَانَ فَقِيها محققا فَاضلا بالفقه والنحو واللغة والفرائض وَعلم الْحساب وَكَانَ مَسْكَنه بَيت عجيل قَرْيَة تنْسب إِلَى جده من بلد المعازبة بِالْقربِ من قَرْيَة المدالهة فَيُقَال إِنَّه انْتقل عَن الْقرْيَة إِلَى الْكَثِيب الْمَعْرُوف بكثيب الشَّوْكَة نِسْبَة إِلَى
قَرْيَة فِيهِ فابتنى بَيْتا فِيهِ ومسجدا وَاجْتمعَ عِنْده جمع من الطّلبَة فَأخذُوا عَنهُ فَسُمي ذَلِك الْمَكَان الْمدرسَة ثمَّ انْتقل عَنهُ إِلَى قَرْيَة تعرف بِمحل الأعوض فَلبث بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى الْمدرسَة فَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي على حَال الْكَمَال بعد أَن صنف عدَّة مصنفات مِنْهَا مُخْتَصر فِي الْفِقْه يعرف بالمعونة وَشرح كتاب نظام الْغَرِيب فِي اللُّغَة وَيُقَال إِن شَيْخه مُحَمَّد بن الْمعلم الجبائي مَاتَ قبل تَمام شرح المقامات وتممه وَبِه تفقه جمَاعَة من أَهله وَغَيرهم مِنْهُم ابْن أَخِيه أَحْمد الْآتِي ذكره وَكَانَت وَفَاته بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَة لبضع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وَأما مُوسَى وَكَانَ من أكَابِر الْفُقَهَاء بِزَمَانِهِ تفقه بإبراهيم بن زَكَرِيَّا وَقد ذكرته فِي أَصْحَابه وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا صَالحا يصحب الأخيار وَالصَّالِحِينَ وَتزَوج بابنة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْفَقِيه مُحَمَّد الْأَحْنَف مقدم الذّكر فأولدت لَهُ اثْنَيْنِ هما مُحَمَّد البَجلِيّ وَصَاحبه الْحكمِي الْآتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله إِذْ كَانَ يصحبهما فبشره بِأَنَّهَا تَأتي بِولد يكون عَظِيم الْبركَة وَالْقدر فَلَمَّا وضعت أخبرهما بذلك فَقَالَا إِن الْوَلَد الْعَظِيم الْبركَة هُوَ الَّذِي يَأْتِي بعده فَلَمَّا وضعت أَخَاهُ أَحْمد عرفاه بِأَنَّهُ سَيكون سيد زَمَانه علما وَعَملا وَكَانَ كَمَا قَالَا وَحين اشْتغل بِالطَّلَبِ وَالْقِرَاءَة حمل عَنهُ أَخُوهُ مؤونة كلفته وَكَانَ هَذَا مُوسَى من أَعلَى النَّاس همة وأشرفهم نفسا وَأَحْسَنهمْ عصبية وأعظمهم حمية وَقد ذكرت من ذَلِك مَعَ ذكر الإِمَام إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا مَا يدل عَلَيْهِ وَقد أَخْبرنِي خَبِير ثِقَة أَنه ثَبت عِنْده أَن هَذَا الْفَقِيه كَانَ كثيرا مَا إِذا سَافر مَكَّة صحب إِمَام الْمقَام يَوْمئِذٍ وَأَنه كَانَ رجلا مُبَارَكًا ذَا عبَادَة وزهادة وَكَانَت أَسبَاب مَكَّة غَالِبا بِيَدِهِ من إِمَامَة وتدريس وَقَضَاء وخطابة وَأَنه حسده بعض أهل زَمَانه مِمَّن سكن مَكَّة على كَثْرَة أَسبَابه مَعَ كَونه جعد الْمعرفَة فِي الْعلم فكاتب خَليفَة بَغْدَاد وَكَلمه كلَاما مزعجا حَتَّى أَنه أَمر وزيره بافتقاد ذَلِك وَمَتى كَانَ كَمَا ذكر الْمُتَكَلّم عَزله عَن جَمِيع أَسبَابه وَجعل فِي كل سَبَب مِنْهَا من يكمل لَهُ وَلما سَار الركب من الْعرَاق إِلَى مَكَّة كتب بعض أَصْحَاب الإِمَام إِلَيْهِ يُخبرهُ أَن الْوَزير قد ندب إِلَيْهِ فُقَهَاء فضلاء يستحضرونه بِمَكَّة ويسألونه عَمَّا يَلِيق بالفقه والإمامة والخطابة فَإِن وجدوه أَهلا أبقوه وَإِلَّا عزلوه وَبعث بذلك من يعْتَاد وُصُول مَكَّة قبل الركب بأيام فوصل الْكتاب إِلَى الْفَقِيه فحين علم مَا فِيهِ أجمع بخاطره أَن يختفي من وَقت وُصُول الركب إِلَى وَقت سَفَره واختفى وَأمر جَارِيَته أَن تعتذر بِعُذْر لَائِق فَدخل الْفَقِيه مُوسَى
وَسَأَلَ عَنهُ فَلم يجده وَأخْبرهُ بعض الخبراء بِالْحَال فوصل إِلَى بَاب الْفَقِيه وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ قولي للفقيه هَذَا صَاحبك مُوسَى بن عجيل الْيَمَانِيّ فحين أعلمته أذن بِدُخُولِهِ فَدخل وَاجْتمعَ بِهِ وَسَأَلَهُ عَن الْحَال فَأخْبرهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ اعْمَلْ الَّذِي أَقُول لَك وَلَا تخَالف فِي شَيْء مِنْهُ وَأَنا أَسد عَنْك هَذِه الْقَضِيَّة بعون الله فَقَالَ سمعا وَطَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ اخْرُج وَاعْتذر بأنك كنت مَشْغُولًا بِعُذْر لَازم وقوى قلبه على الْخُرُوج وَالْقعُود مَوضِع الْقَضَاء والتدريس فَخَرَجَا مَعًا وَلما دخلا الْحرم خلع الإِمَام نَعله فَحَمله الْفَقِيه مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ قد اشْترط عَلَيْهِ ذَلِك وَقَالَ إِذا قعدت اقْرَأ فَلَا تقل لي غير يَا مُوسَى ثمَّ مَتى سألوك قلت أجبهم يَا مُوسَى ثمَّ أَخذ عَلَيْهِ الأكيد بذلك ثمَّ لما قعد أقبل الْفَقِيه مُوسَى يقْرَأ عَلَيْهِ بعض الْكتب فحين علم أهل الْعرَاق كَونه قد برز يقْرَأ أَتَاهُ جَمَاعَتهمْ وقعدوا إِلَيْهِ وَهُوَ يقرىء الْفَقِيه مُوسَى ثمَّ لما فرغ الْفَقِيه مُوسَى جعلُوا يسْأَلُون الْفَقِيه عَن أُمُور فيعرضهم الْفَقِيه مُوسَى وَيَقُول لَهُم أَنا أَضْعَف تلامذته أُجِيبكُم عَمَّا شِئْتُم ثمَّ يُجِيبهُمْ عَن كل مَا سَأَلُوهُ حَتَّى نفد سُؤَالهمْ ثمَّ أورد عَلَيْهِم أسئلة تبلبل قُلُوبهم فِي جوابها وَكَانَ الْفَقِيه كلما سُئِلَ عَن مَسْأَلَة قَالَ لَهُ يَا مُوسَى أجبهم عَنْهَا إِذْ شَرط عَلَيْهِ الْفَقِيه مُوسَى ذَلِك كَمَا قدمنَا وَكَانَ أَمِير الركب حَاضرا فَعظم قدر الْفَقِيه وَقَالَ الْأَمِير وَالْفُقَهَاء المندوبون إِذا كَانَ هَذَا حَال التلميذ فَكيف يكون حَال الشَّيْخ واعترفوا بِفضل التلميذ وَالشَّيْخ واعترفوا أَن الْمُتَكَلّم على الشَّيْخ كَاذِب وتركوه مستمرا على أَسبَابه وَكَانَ مَعَهم درج فِيهِ مسَائِل فقهية كتبوها فِي الْبِلَاد وَحين غلب على ظنهم مَا قدمْنَاهُ ناولوا الْفَقِيه ذَلِك الدرج فَنظر فِيهِ وناوله الْفَقِيه مُوسَى وَقَالَ لَهُ يَا مُوسَى انْظُر هَذَا وأجب عَلَيْهِ فَنظر فِيهِ ثمَّ أجَاب عَن جَمِيع مَا فِيهِ بِجَوَاب شاف كَاف وَقَالَ فِي آخر الْأَجْوِبَة قَالَ ذَلِك وَكتبه مُوسَى بن عَليّ بن عجيل تلميذ الشَّيْخ فلَان وَهَذَا وَالله الْفضل والإنسانية المحمودان بَين الأخيار وَلم يزل على أشرف حَال حَتَّى توفّي وَكَانَ لسعة فقهه يُقَال لَهُ الشَّافِعِي الْأَصْغَر وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا وَكَانَ إِذْ ذَاك كَمَا يُقَال لم يستكمل ثَلَاثِينَ سنة
وَمِنْهُم ابْنه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد مولده رَمَضَان الْكَائِن فِي سنة ثَمَان وسِتمِائَة وتفقه بِعَمِّهِ إِبْرَاهِيم كَمَا تقدم وَلما حصل من المعازبة تخبط بعد موت عَمه انْتقل عَن الْمدرسَة إِلَى مَحل الأعوض فَلبث بِهِ مُدَّة وَكَانَ قد انْتقل مَعَه ابْنا عَمه عبد الله
وَعبد الرَّحْمَن فَلَمَّا طابت ذؤال عَاد الْفَقِيه إِلَى الْمدرسَة وبقيا بهَا إِلَى أَن مَاتَا وَكَانَ إِمَامًا من أَئِمَّة الْمُسلمين وعمدة الْمُتَّقِينَ وقدوة للورعين والمتزهدين لم يكن فِي الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين من هُوَ أدق نظرا فِي الْفِقْه وَلَا أعرف بِهِ مِنْهُ غواصا على دقائقه أجمع على تفضيله الْمُخَالف والمؤالف لم أعلم أَن أحدا أمترى فِي صَلَاحه من الْمُسلمين بِهِ تفقه جمَاعَة كثير من نواح شَتَّى وَكَانَ مبارك التدريس دَقِيق النّظر فِيهِ وحواشيه على الْمُهَذّب والتنبيه وَغَيرهمَا من كتب الْفِقْه تدل على ذَلِك وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ شَيخنَا أَبُو الْحسن الأصبحي حِين سُئِلَ عَن شَيْء من مَعَاني كَلَامه على بعض مشكلات الْمُهَذّب فَأجَاب على ذَلِك وَبَينه ثمَّ أثنى عَلَيْهِ وَقَالَ مَا مثلنَا هَذَا الإِمَام إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو حَامِد الإسفرائيني فِي حق ابْن سُرَيج نَحن نجري مَعَ أبي الْعَبَّاس فِي ظواهر الْفِقْه دون دقائقه
وَكَانَ صَاحب كرامات كَثِيرَة مَشْهُورَة يظْهر مِنْهَا مَا يظْهر عَن كره مِنْهُ وَكَانَ أَكثر النَّاس لَهَا كتمانا وَكَانَت الْمُلُوك تصله وتزوره وتتبرك بِهِ وَتقبل شَفَاعَته وتعظمه ويريدون مسامحته فِيمَا يزرعه فيأبى وَيَقُول أكون من جملَة الرّعية الدفاعة ويسألونه قبُول شَيْء من أَمْوَالهم إِمَّا لنَفسِهِ أَو يفرقه على من يرَاهُ مُحْتَاجا فَلَا يقبل مِنْهُم وَله كرامات كَثِيرَة مَعَ أَنه كَانَ قل أَن يظْهر مِنْهُ وَذَلِكَ مَا أَخْبرنِي وَالِدي عَن بعض ثِقَات أَصْحَابه قَالَ حَضَرنَا مَعَه جمَاعَة فتذاكرنا كرامات الصَّالِحين وَرُبمَا عنيناه على عدم ذَلِك فضربنا لَهُ مثلا بِأَهْل عواجة وبإسماعيل الْحَضْرَمِيّ وَمن ماثلهم فَقَالَ لكل ولي إِنَاء ملآن وَمَا ظهر من كراماته فَهُوَ بعض من الْإِنَاء وَأحب ألْقى الله بِإِنَاء ملآن
وَأَخْبرنِي الثِّقَة عَن بعض كرامته أَنه حج فِي بعض سني حجاته فَخرج عَلَيْهِم عرب وَأَرَادُوا نهبهم وَكَانَ مَتى حج حج مَعَه خلق كثير من أهل الْيمن تبركا بِهِ وأنسا فَلَا يكَاد يتَعَرَّض لَهُم أحد بِسوء وَإِن تعرض لم يفلح فَلَمَّا هم الْعَرَب بنهبهم أَمر الْفَقِيه مناديا أَن يُنَادي أَن تحط الْقَافِلَة فحطت فَقَالُوا نبيع ونشتري مَعَهم يَوْمَيْنِ ثَلَاثًا ثمَّ ننهبهم بعد ذَلِك ثمَّ لما كَانَ اللَّيْل ألْقى الله على الْعَرَب النّوم فَنَامُوا على آخِرهم وَلما تهور اللَّيْل أَمر الْفَقِيه النَّاس بالرحيل فارتحلوا وَالْقَوْم نيام فَلم يوقظهم إِلَّا بعض من
مر بهم فِي ثَانِي يَوْم أَو ثالثه فظنوا أَن النَّاس عمِلُوا لَهُم طَعَاما فِيهِ منجا وأشاعوا ذَلِك حَتَّى استطار فِي الْعَرَب ثمَّ مر بعدهمْ بعرب آخَرين وَقد صَار على مرحلَتَيْنِ من مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرادوا مصارعة الْقَافِلَة أَيْضا وَكَانُوا فِي حرَّة ذَات أَحْجَار متقشفة لَا يقدر أحد على الانحطاط عَلَيْهَا فحير الْقَافِلَة والفقيه فِي السَّاقَة وَتلك عَادَته حَتَّى إِذا مر بمنقطع أَمر بِزَوَال انْقِطَاعه إِمَّا يَسْتَقِي مَاء أَو يحمل حملا أَو غير ذَلِك وَبقيت الْقَافِلَة متحيرة واقفة بالشمس حَتَّى كَاد يهْلك مِنْهُم خلق كثير والفقيه مطرق سَاكِت فضجر الشَّيْخ على ابْن نعيم وَأمر الْجمال أَن تعدل بمحمله عَن الطَّرِيق ويقتاده إِلَى حَيْثُ الْفَقِيه والفقيه وَاقِف فَلَمَّا دنا من الْفَقِيه قَالَ يَا سَيِّدي الْفَقِيه إِلَى كم يكون هَذَا الْوُقُوف فَقَالَ لَهُ يَا شيخ عَليّ تأدب هَذَا الرب وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاء وَهَذَا النَّبِي وَأَشَارَ إِلَى قدو الْمَدِينَة فاستحى ابْن نعيم وَعَاد مسرعا إِلَى مقَامه الَّذِي كَانَ فِيهِ أَولا ثمَّ لما طَال الْوُقُوف عَلَيْهِم أَمر الْفَقِيه النَّاس أَن ينزلُوا فنزلوا بموضعهم وَسَهل الله عَلَيْهِم النُّزُول فِيهِ ووطأه لَهُم فَلَمَّا أقبل الْعشَاء أَو وَقت الْعشَاء أَمر الْفَقِيه الدَّلِيل أَن يجمع طَعَاما للْعَرَب يتعشونه فَلَمَّا وصلهم بِهِ قَالُوا تُرِيدُونَ أَن تمنجونا كَمَا منجتم بني فلَان ثمَّ باتوا محارسين وحطو محطة بأولادهم ومواشيهم فِي مُقَابلَة قافلة الْفَقِيه ينتظرون غَفلَة من الْقَافِلَة ويفتكون بهَا نهبا فَبَاتَ النَّاس على حذر وراجع الْفَقِيه الْعَرَب من أول مَا أَمْسكُوا الْقَافِلَة على أَنهم يقبلُونَ مَا يَلِيق بِحَال أهل الْقَافِلَة فَأَبَوا
قَالَ الْمخبر فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي أصبح الْعَرَب يناوشون النَّاس ويتهددونهم طلبا للشر والفقيه يَأْمُرهُم بِالصبرِ وَالِاحْتِمَال وَقد صلى الصُّبْح وَصَارَ يذكر الله تَعَالَى فَمَا كَادَت الشَّمْس تطلع رُمْحَيْنِ أَو ثَلَاثَة حَتَّى سَمِعت طبلخانة قد أَقبلت من قدو الْمَدِينَة ثمَّ بعد سَاعَة ظَهرت وَمَعَهَا عَسْكَر جرار فحين رَأَوْا البدو حملُوا عَلَيْهِم وَقتلُوا ونهبوا وأسروا وَسبوا حريمهم وَأَوْلَادهمْ فَحِينَئِذٍ شدت الْقَافِلَة وسارت ثمَّ سُئِلَ الْعَسْكَر عَن مُوجب خُرُوجهمْ وغارتهم فَقَالُوا لما كَانَ هاجرة أمس سمعنَا بِالْمَدِينَةِ مناديا يُنَادي أَن الْعَرَب قد اعترضت ابْن عجيل وقافلته فالغارة الْغَارة مَأْجُورِينَ فَأمر
الشريف من صَاح بعسكره وَالْخُرُوج للغارة فَنظر النَّاس وَإِذا هُوَ الْوَقْت الَّذِي قَالَ فِيهِ الْفَقِيه لِابْنِ نعيم تأدب يَا شيخ فَهَذَا الرب وَهَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وعَلى الْجُمْلَة فأحواله أَكثر من أَن تحصر وفضائله أعظم من أَن تنشر
وَلَقَد أَخْبرنِي الْفَقِيه الصَّالح عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الْحِجَازِي الْمُقِيم برباط النُّور عِنْد تربة الشَّيْخ مَسْعُود قبلي مَدِينَة زبيد قَالَ أَخْبرنِي الْفَقِيه الصَّالح عَليّ بن الْأسود الْمَالِكِي عرف بالعجمي قَالَ رَأَيْت الْفَقِيه أَحْمد بالمنام قبل مَوته بِمدَّة فَقلت لَهُ يَا فَقِيه مشت أحوالكم مَعَ الغز بجلالتكم واحترامكم حَتَّى لم تذوقوا مَا تذوقه المستضعفون من النَّاس فَنظر إِلَيّ الْفَقِيه وَقَالَ مد بَصرك إِلَى الْمشرق فَنَظَرت إِلَى هُنَاكَ وَإِذا بِقوم عَلَيْهِم فرجنات صوف فأشاروا وَقَالَ هَؤُلَاءِ وَالله يستبيحون دماءكم ونساءكم وَأَمْوَالكُمْ كَمَا يستباح عرق الجبين وَأَن الغز أجروا الْعدْل عَلَيْكُم وَكَانَ مَعَ ذَلِك كَلَام طَوِيل بيني وَبَين الْفَقِيه هَذَا زبدته
قلت وَهَذَا الْمَنَام يُؤَيّد مَنَام الْفَقِيه الحبيشي الَّذِي رَوَاهُ أَبُو السُّعُود
أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه كَانَ مَتى دخل مَكَّة اشْتغل النَّاس بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ عَن كل شَيْء وَمَتى صَار فِي المطاف فِي أَو الْحرم ترك النَّاس أشغالهم وَأَقْبلُوا على تَقْبِيل يَده والتبرك بمصافحته فَيَقُول يَا هَؤُلَاءِ أَنْتُم فِي بَيت الله وَمحل بركته وَرَحمته وَأَنا مثلكُمْ مَخْلُوق فَلَا يزدادون بذلك إِلَّا إقبالا عَلَيْهِ
وَلَقَد أخبر الثِّقَة أَنه سمع ثِقَة خَبِيرا من أهل مَكَّة وَذَوي الدّين وَالصَّلَاح وَالْعلم يَقُول لي من الْعُمر كَذَا وَكَذَا مُدَّة فَذكرهَا مُدَّة طَوِيلَة قل من يعيشها ثمَّ لم يزل الْعلمَاء يدْخلُونَ مَكَّة وَفِيهِمْ من يقف وَمن يرجع إِلَى بَلَده فَمَا رَأَيْت فيهم أحدا إِلَّا وَنور الْكَعْبَة وعظمتها يزيدان عَلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ من ابْن عجيل فَإِنَّهُ كَانَ مَتى دخل الْحرم زَادَت عَظمته ونوره على نور الْكَعْبَة بِحَيْثُ لَا يبْقى للنَّاس تعلق بِغَيْرِهِ وَلَقَد أَخْبرنِي الثِّقَة من أهل بَغْدَاد أَنه كَانَ مُقيما بِأم عبيد بمقام سيدنَا الْأَكْمَل أبي الْحسن أَحْمد الرِّفَاعِي نفع الله بِهِ فدعتني الْمَقَادِير فِي بعض السنين إِلَى الْحَج فحججت فَلَمَّا صرت بِمَكَّة وجدت هَذَا الْفَقِيه الْمَذْكُور وَقد اشْتغل النَّاس بِهِ عَن كل شَيْء وَحَتَّى أَنه مَتى برز للطَّواف لم يكد يفرغ من طَوَافه إِلَّا بعد مشقة لِكَثْرَة شغل النَّاس بِهِ قَالَ فَلَمَّا عدت أم عبيد سَأَلَني صَاحب الْمقَام عَن عَجِيب مَا رَأَيْت فَأَخْبَرته بِمَا رَأَيْت من الْفَقِيه أَحْمد فَقَالَ يَا وَلَدي هَذِه أَمارَة القطب
ثمَّ كَانَ مَتى قدم الْمَدِينَة فعل النَّاس مَعَه كَذَلِك فَيَقُول لَهُم اتَّقوا الله هَذَا نَبِيكُم وَهَؤُلَاء صحابته وَأَنا رجل مِنْكُم فَلَا يزْدَاد النَّاس إِلَّا إقبالا عَلَيْهِ وَكَانَ مَتى ضجر من النَّاس بِمَكَّة وَالْمَدينَة تغيب عَنْهُم لقَضَاء مآربه من ذكر أَو قِرَاءَة أَو صَلَاة وَذَلِكَ غَالب شغله وَكَانَ كثير التَّرَدُّد إِلَى مَكَّة
أخبر الثِّقَة أَن الْقَافِلَة الَّتِي تسير فِي الْبر من عصره إِلَى الْآن مَعَ من سَارَتْ من فَقِيه أَو غَيره إِنَّمَا تسمى بِهِ فَيُقَال قافلة ابْن عجيل وَهَذَا من أعجب الْأَشْيَاء
وَمَا أشبه هَذَا بقول الأول ... قد مَاتَ قوم وَمَا مَاتَت مكارمهم ... وعاش قوم وهم فِي النَّاس أموات ... ثمَّ ذهب النَّاس الْمدرسَة عَن مَسْكَنه وَقيل لَهُ بَيت الْفَقِيه يعنونه وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه والأصولين والنحو واللغة والْحَدِيث وَمن أحسن من ضبط بكتبه الْفُنُون وقرت بمذكراته الْعُيُون وَلَقَد أَخْبرنِي ثِقَة من فُقَهَاء عصره أَنه قَالَ ارتحلت من بلدي الْجبَال إِلَى الْفَقِيه أَزورهُ فَلَمَّا وصلت وسلمت عَلَيْهِ كنت قد أَعدَدْت عدَّة مسَائِل فقهية وأصولية وكلامية فَأَقْبَلت أسأله عَن الْفِقْهِيَّة وَهُوَ يجيبني وَعَن الْأُصُولِيَّة وَهُوَ أَيْضا يجيبني ثمَّ عَن الكلامية فغالطني فأضمرت فِي نَفسِي قصوره عَن ذَلِك ثمَّ لما انْقَضى الْمجْلس وَكَانَ حافلا وَدخل الْفَقِيه الْمنزل الَّذِي لَهُ استدعى بِي إِلَيْهِ وَقَالَ إِن الْعُقُول لَا تكَاد تحْتَمل جَوَاب مَا سَأَلته وَرُبمَا حصل بَيْننَا مُرَاجعَة واعتراضات تشوش على السَّامع لَكِن هَات السُّؤَال الأول فأوردته فجوب لي جَوَابا شافيا ثمَّ بَقِيَّة الأسئلة كَذَلِك فحمدت الله على ذَلِك وَعظم عِنْدِي وَكنت أَظُنهُ يُفَارق المعتقد لِأَن ينْقل ذَلِك لَا يخبر الْفَقِيه نفع الله بِهِ وَأَخْبرنِي الثِّقَة عَن أَبِيه أَنه قَالَ خرجنَا من جبل الحشاء وناحية العوادر جمعا كثيرا نُرِيد الْحَج فمررنا على الإِمَام فَأَتَانَا بِالطَّعَامِ وَجعل يغسل علينا بِنَفسِهِ وَجَعَلنَا نقُول لَهُ مَا جرت عَادَة الْبِلَاد غسلك الله من الذُّنُوب وَجعل يَقُول يَا حجاج فِي عَافِيَة فِي عَافِيَة فَإِن الْغسْل من الذُّنُوب إِنَّمَا يكون غَالِبا بالأمراض وَلَقَد أَخْبرنِي عدَّة من الثقاث أَن رجلا من دلالي زبيد طلعت بِيَدِهِ عاشة
وتعظمت وَصَارَت شَيْئا فَاحِشا مستبشعا فَقَالَت لَهُ نَفسه النَّاس مجمعون على صَلَاح هَذَا ابْن عجيل فَتقدم إِلَيْهِ وَالْتَزَمَهُ بِهَذِهِ الْعلَّة فَصَارَ إِلَيْهِ من جملَة جمَاعَة خَرجُوا زائرين لَهُ من زبيد وَلما وَصله قَالَ مَا أروح مِنْك حَتَّى تَزُول هَذِه العاشة فَقَالَ حسبي الله أزيل مَا قدره الله فَلم يعذرهُ فَقَالَ هَات يدك فأدناها مِنْهُ وتفل الْفَقِيه عَلَيْهَا وتلا شَيْئا من الْقُرْآن ثمَّ قَالَ لَهُ غطها وعد بلدك فَلَعَلَّ الله يزيلها قَالَ وأدخلت يَدي فِي كمي وسرت سَاعَة مَعَ جمَاعَة جِئْت أَنا وهم من زبيد ثمَّ أخرجت يَدي وَإِذا بهَا سليمَة كَأَن لم يكن بهَا شَيْء فأريتها الْجَمَاعَة ودخلنا زبيد
قَالَ الرَّاوِي ورأيتها وَبهَا العاشة ثمَّ رَأَيْتهَا بعد ذَلِك متعافية وَمَعَ مَا قدمت ذكره فَإِنَّهُ لَا يذكر لأحد شَيْء من كراماته مِمَّن قد عرفه فيمتري بِهِ وَله مسَائِل كَثِيرَة يسْأَله عَنْهَا فُقَهَاء أجلاء فأجابهم بأبين جَوَاب وَأحسنه وَلم يكد أحد من فُقَهَاء وقته يسْأَله إِلَّا افْتقر إِلَى فقهه وَلم أسمع عَنهُ أَنه افْتقر إِلَى أحد مِنْهُم فِي جَوَاب وَلَا سُؤال وَلم يزل على قدم التدريس وَالدّين والورع حَتَّى توفّي نَهَار الثُّلَاثَاء بَين صَلَاتي الظّهْر وَالْعصر لخمس بَقينَ من ربيع الأول من شهور سنة تسعين وسِتمِائَة وَكَانَ الْملك الواثق الْآتِي ذكره فِي فشال يَوْمئِذٍ إِذْ هِيَ إقطاعه من أَبِيه وَهِي على نصف مرحلة من مَوضِع الْفَقِيه تَقْرِيبًا فَلَمَّا سمع بِمَوْت الْفَقِيه ركب فِي موكبه وَحضر غسل الْفَقِيه وَكَانَ من جملَة الغاسلين ثمَّ لما حمل إِلَى الْمقْبرَة كَانَ من جملَة الحاملين وَتَوَلَّى إنزاله مَعَ من تولى ذَلِك فغبطه على ذَلِك كثير من أَعْيَان زَمَانه أَبنَاء جنسه وَغَيرهم وزرته بِحَمْد الله مرَارًا فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته فَكَانَت زيارتي لَهُ آخر مرّة أَنا ووالدي وأخوتي قبل مَوته بِثمَانِيَة أَيَّام فَلَمَّا صرنا بالجند إِذْ عَاد وَالِدي إِلَيْهَا متنقلا عَن زبيد ومدرسا بمدرستها الَّتِي ولدت بهَا وَهِي مدرسة الشَّيْخ عبد الله بن عَبَّاس وَمن أحسن مَا قيل فِيهِ من الشّعْر قَول وَالِدي من قصيدة امتدحه بهَا فِي حَال حَيَاته وَذكر فِي أَولهَا المراحل من زبيد إِلَى بَيت الْفَقِيه بعد أَن صدرها بقوله ... هذي ديار أحبتي يَا حادي ... أنخ الْمطِي فقد بلغت مرادي
وعَلى الْكَثِيب الْأَشْرَف أنزل فقد ... حللت بأمنع الأطواد
دَعْنِي أَضَع خدا على ساحاته ... وَالْوَجْه كي أحظى بِذَاكَ النادي
وأشاهد الْبَدْر الَّذِي من أمه ... ينجو من الأحزان والأنكاد
وَأَقْبل الْقدَم الشريف تقربا ... أَرْجُو بِذَاكَ هدايتي ورشادي ...
. . يَا رَاكِبًا حرفا أمونا جسرة ... تنجو نجاة الطّرف يَوْم طراد
يمم إِذا مَا رمت نجح سَعَادَة ... علما إِلَى نهج السَّعَادَة هادي
واجمع عزومك بل همومك واردا ... بَحر الْفُرَات العذب للوراد
فَإِذا رَأَتْ عَيْنَاك طلعة أَحْمد ... قطب الزَّمَان حبيت بالإسعاد
فاشكر لِرَبِّك شاكرا متواضعا ... كفعال إسْرَافيل ذِي الْإِرْشَاد
قل يَا ابْن مُوسَى إِنَّنِي وفادكم ... وعَلى الْكَرِيم كَرَامَة الوفاد
يَا من بِهِ تشفى الْعُيُوب وَمن بِهِ ... تمحى الذُّنُوب عَن الْمُسِيء الكادي
يَا وَاحِد الكبراء وَالْعُلَمَاء بل ... يَا قدوة الأبدال والأوتاد
يَا سيد الكبراء قد عودتني ... برا ومرحمة وَعرف أيادي
أَو أَنا المعيل العايل الأسف الَّذِي ... كل الذُّنُوب عَلَيْهِ بالمرصاد
وَلكم مَكَارِم يستطيل عمومها ... ومناصب يسمو بهَا استشهادي
سر الْخَلِيل ورثتموه حَقِيقَة ... وَمن الذَّبِيح الصدْق فِي الميعاد
شرفا لكم وليهنكم مَا نلتم ... فضلا وفخرا شامخ الأعماد ... وَالْقَصِيدَة كَبِيرَة ذكرت زبدها وشواهد غرضي مِنْهَا وَلم أوردهَا إِلَّا لما تحققته من اسْتِحْقَاق من قيلت فِيهِ لما قيل فِيهَا وَقد مدح بعدة قصائد من عدَّة شعراء وَإِنَّمَا قَالَ سر الْخَلِيل ورثتموه لِأَن الْفَقِيه من أَوْلَاد عك وعك من أَوْلَاد إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم كَمَا لَا يخفى فَأَشَارَ إِلَى أَن الْفَقِيه ورث من الِاثْنَيْنِ وهما الْخَلِيل والذبيح مَا تقدم فِي الْبَيْت مَعَ أَن معتقدي ومعتقد أخيار زماني أَن الشّعْر يَزْدَان بالفقيه وَلَا يزادن بِهِ الْفَقِيه كَمَا قَالَ ... يَزْدَان فِي أوزانه وعروضه ... فعساه يلقى طيبكم فيطيب ... وَخَلفه من الْأَوْلَاد أَرْبَعَة أكبرهم إِبْرَاهِيم فَقِيه ذُو دين وورع يحب الاعتزال قل مَا يجْتَمع بِهِ من الواصلين إِلَيْهِ أَخذ الْفِقْه عَن أَبِيه والنحو عَن الْفَقِيه عمر بن الشَّيْخ من أهل شُرَيْح المهجم توفّي سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة
ثمَّ مُوسَى فَقِيه خير تفقه بِأَبِيهِ وَتُوفِّي سادس شعْبَان سنة عشْرين وَسَبْعمائة ثمَّ إِسْمَاعِيل كَانَ فَقِيها فرضيا توفّي سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة
ثمَّ أَبُو بكر تفقه بخاله عَليّ بن أَحْمد الصريدح الْمُقدم ذكره إِذْ أمه بنت الْفَقِيه يُوسُف بن عبد الله يذكر أَبُو بكر هَذَا بجودة الْفِقْه والورع وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا على الْحَال المرضي ولإبراهيم ومُوسَى ولدان يذكران بالفقه واسمع عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا اجْتمعت بهما فِي زبيد عَام وَاحِد وَعشْرين وهما اللَّذَان يسيران بحوائج النَّاس فِي الشفاعات وغالب قدومهما زبيد لذَلِك وَسمعت من يفضل ولد مُوسَى بشرف وعلو الهمة ويذكره بمكارم الْأَخْلَاق ويبالغ فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ وَهُوَ عدل فِي الْعقل وَالنَّقْل وَيذكر عَنهُ كرامات أَيْضا
وَمِنْهُم عبد الرَّحْمَن وَعبد الله ابْنا الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه عَليّ بن عمر الَّذِي ذكره ابْن سَمُرَة أَنه تفقه بِابْن الصريدح فعبد الله تفقه بِابْن عَمه أَحْمد وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا مدرسا انْتفع بِهِ خلق كثير من الطّلبَة وَكَانَ أوحد زَمَانه علما وَعَملا اجْتمعت بِهِ فِي بعض السنين على رَأس تسعين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم الأخوان مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم ابْنا عَليّ ابْن الْفَقِيه إِبْرَاهِيم بن الْفَقِيه عَليّ بن عمر بن عجيل مقدم الذّكر فمحمد أَخذ الْفِقْه عَن عَمه عبد الله وَعَن ابْن عَم أَبِيه أَحْمد بن مُوسَى والنحو عَن الغيثي بوصاب والْحَدِيث عَن أهل زبيد وَإِبْرَاهِيم أَخذ الْفِقْه عَن ابْن عَمه أبي بكر بن الْفَقِيه أَحْمد بن عجيل مقدم الذّكر وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا يذكر عَنهُ الْخَيْر يسكن قَرْيَة هِيَ يمني بَيت الْفَقِيه ذكر عَنهُ جودة الْفِقْه وصفاء الذِّهْن وقبور من مَاتَ من بني عجيل بكثيب بَين المدالهة وَبَيت الْفَقِيه زرت قُبُورهم أجمع بِحَمْد الله وتبركت بهَا وَهَؤُلَاء آخر من اسْتحق الذّكر من فُقَهَاء تهَامَة الَّذين ذكرهم ابْن سَمُرَة وذراريهم على مَا تقدم
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ فَقِيها فرضيا توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن عَليّ يذكر بِالْفَضْلِ والمواظبة للتدريس وَالصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا
ثمَّ نرْجِع إِلَى تَتِمَّة من ذكر ابْن سَمُرَة من الْجبَال وذراريهم فأبدأ بِمن كثرت بركتهم وَارْتَفَعت شهرتهم قوم الإِمَام يحيى بن أبي الْخَيْر فقد مضى ذكر مُحَمَّد بن مُوسَى وَأَوْلَاده وَلم يبْق إِلَّا ذكر من تَأَخّر مِنْهُم مَعَ من تبعه وعاصره مَعَهم بالحصن الَّذِي يعرف بمصنعة سير وَذَلِكَ أَنه انْتَشَر عَنْهُم الْعلم انتشارا كليا بِحَيْثُ لم يكن فِي
الْمُتَأَخِّرين لَهُم بذلك نَظِير إِذْ كَانُوا أهل إطْعَام وإكرام عَاميْنِ وَقد تقدم ذكر الشَّيْخ وَمن شهر بالفقه من أَهله ثمَّ ذكر ابْن عَمه مُحَمَّد بن مُوسَى وَمن تفقه من أَوْلَاده على مَا ذكر ابْن سَمُرَة تَصْرِيحًا ومفهوما وَآخر من ذكر مِنْهُم أَحْمد بن مُوسَى وَقَالَ كَانَ على قَضَاء الْجند يَعْنِي فِي عصره ثمَّ توفّي وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا فخلفه ابْنه أَبُو بكر فِي الْفِقْه وَالْقَضَاء وَكَانَ يُقَال لَهُ سرداب الْعلم لِكَثْرَة نَقله لَهُ وجودة مَعْرفَته بِهِ وَكَانَ أحد حفاظ الْيمن بِكِتَاب الْمُهَذّب وَقدم المسعود بن الْكَامِل الْيمن بالتاريخ الْآتِي ذكره وَقدم صحبته معلمه القَاضِي معافى وَكَأَنَّهُ كَانَ سني الِاعْتِقَاد فَأصْبح بعد أَن ولي الْقَضَاء من قبل المسعود فِي آخر يَوْم من شعْبَان صَائِما وَأمر النَّاس بِالْفطرِ وَأنكر عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَهُوَ إِذْ ذَاك بِالْجَبَلِ فَعلم بِهِ بعض أعدائه فوشى بِهِ إِلَى المسعود وَكَانَ حادا لصِغَر سنه فَعظم ذَلِك عَلَيْهِ واستدعى بِهِ فَلَمَّا حضر قَالَ لَهُ يَا قَاضِي الْيَوْم من رَمَضَان قَالَ لم يثبت بذلك شَيْء فاستدعى بالغداء فَلَمَّا حضر اعتزله فَقَالَ لَهُ المسعود الْآن تحققت أَنَّك خارجي على غير السّنة ثمَّ طرده وَأخرجه عَن مَجْلِسه وَكَانَ وَقت دُخُوله الْيمن ضَعِيف الْفِقْه إِذا حضر مَجْلِسا وذاكره الْفُقَهَاء بِشَيْء من أَبْوَاب الْفِقْه ومسائله يصدر عَنهُ الْجَواب القَاضِي أَبُو بكر وحاجج عَنهُ الْفُقَهَاء فَأَحبهُ وقربه فَصَارَ أول دَاخل عَلَيْهِ وَآخر خَارج عَنهُ وَصَارَ يُسَمِّيه بكيرا على طَرِيق التصغير ثمَّ كَانَ يثني عَلَيْهِ عِنْد المسعود وَيَقُول هُوَ أفقه أهل الْيمن فَصَارَ لَهُ فِي بَاطِن السُّلْطَان صُورَة جَيِّدَة فَلَمَّا صَار الْمعَافى فِيمَا صَار من الْأَمر مَعَ المسعود وطرده طلب هَذَا أَبَا بكر فَلَمَّا حضر ولاه قَضَاء الْقُضَاة فَلم يزل عَلَيْهِ حَتَّى توفّي آخر الدولة المنصورية وَحكى الثِّقَة الْخَبِير بأحواله أَنه نزل تهَامَة يُرِيد افتقادها فحين صَار بحيس وَقد سمع بِهِ فُقَهَاء زبيد لم يصل النوري إِلَّا وَقد صَار مِنْهُم أَعْيَان متوكفون للقائه فحين واجهوه سلمُوا عَلَيْهِ سَلاما لائقا ثمَّ أَقبلُوا يسألونه بسؤالات قد أعدوها من مشكلات الْفِقْه وَكَانَ يُجِيبهُمْ غير مكترث وَلَا متلعثم فَأَخْبرنِي الْفَقِيه أَبُو بكر بن عبد الله بن خليج الْآتِي ذكره قَالَ أَخْبرنِي بعض أَصْحَابه وَمن كَانَ مَعَه مِنْهُم فِي سَفَره ذَلِك قَالَ خشيت عَلَيْهِ التَّعْجِيز فدنوت مِنْهُ وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي أَلا أصرفهم
عَنْك فَقَالَ دعهم فَأَنا وَالله أحفظ الْمُهَذّب كَمَا تحفظ الْفَاتِحَة وَلم يزَالُوا يسألونه حَتَّى نفذ سُؤَالهمْ ثمَّ أقبل على كل فَسَأَلَهُ بسؤال فَتَركه متحيرا يتلعثم ويتلجلج ثمَّ أَقَامَ بزبيد أَيَّامًا فوصله حكام التهايم وفقهاؤها وافتقد من يصلح فأبقاه وَمن لَا يصلح فنفاه وَهُوَ أول من ولي الْقَضَاء من بني عمرَان فَذكرُوا أَنه اسْتمرّ على قَضَاء الْقُضَاة وَتُوفِّي عَلَيْهِ كَانَ ميلاده سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَكَانَ أورع من قعد فِيهِ وَحكم بِأَحْكَام الشَّرْع وَله من الْآثَار المتقنة للذّكر تَجْدِيد جَامع مرعيت على طَرِيق الساير من تعز إِلَى عدن أَو الجؤة وَغَيره وَكَانَ حسن الْهَيْئَة جيد السِّيرَة وَلما توفّي لَا أَدْرِي بِأَيّ تَارِيخ وَله إِذْ ذَاك ولد اسْمه مُحَمَّد كَانَ مولده سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَقد صَار مراهقا فأضيف الْقَضَاء إِلَى ابْن عَمه أسعد بن مُحَمَّد بن مُوسَى فتوقف فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور حَتَّى يكمل ولد القَاضِي أبي بكر فَلَمَّا كمل كتب القَاضِي إِلَيْهِ يُعلمهُ فَجعل مَكَانَهُ ابْنه مُحَمَّد فسلك طَرِيق أَبِيه فِي كل الْأُمُور وَذَلِكَ مَعَ علم بالفقه وَغَيره وَكَانَ نظيف الْعلم عَظِيم الْوَرع
حُكيَ أَنه كَانَ يطعم النَّاس طَعَاما لائقا وَكَانَ ابْن عَمه مُحَمَّد بن أسعد الملقب بالبهاء يطعم أَيْضا طَعَاما خَارِجا عَمَّا يَلِيق بِحَيْثُ يذبح وَيعْمل الألوان الْحَسَنَة وَكَانَ ذَلِك وَالْقَاضِي الْبَهَاء لَيْسَ مَعَه مَا يطعم مِنْهُ غير مَا يَأْتِيهِ من أملاكه وَهِي إِذْ ذَاك قَليلَة وَكَذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاة فَذكرُوا أَنه قَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه ابْن عمك يعْمل طَعَاما عَالِيا وَأَنت تعْمل دونه وَلَو شِئْت لعملت خيرا مِنْهُ فَقَالَ صدقت لَكِن أَنا أطْعم دَائِما حَلَالا لَو شِئْت كم على هَذِه المثابة الَّتِي ترى وَابْن عمي كَأَنَّك بِهِ وَقد أدان وَأخذ رَحل الْمَسَاجِد والأيتام فَكَانَ كَمَا قَالَ وَأَن من عَجِيب ورع هَذَا الرجل أَنه دخل جبلة لقضية أوجبت ذَلِك وَمَعَهُ ابْن عَمه الْمُقدم ذكره فقضيا حوائجهما وخرجا فَأخذ نصف ابلوج سكر أَبيض وَأخذ ابْن عَمه عدَّة أباليج ثمَّ لم يعلم بهم حَتَّى وصلا المصنعة وَكَانَ متزوجا بأخته فَأمر لَهَا أَخُوهَا بِنَصِيب من الْهَدِيَّة وَفرق على الْجِيرَان والأهل فَقَالَت أُخْته لزَوجهَا قَاضِي الْقُضَاة يَا هَذَا يُؤَدِّي إِلَيّ أخي نَصِيبي أَكثر مِمَّا أهديت أَنْت جَمِيعه فَقَالَ يَا هَذِه تنظري أَنْت عَاقِبَة أَمْرِي وَأمر أَخِيك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَكَانَت وَفَاته على الطَّرِيق المرضي فِي عشر سِنِين
وسِتمِائَة ثمَّ خَلفه ابْن عَمه مُحَمَّد بن أسعد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى مقدم الذّكر أَولا ميلاده سنة ثَمَانِي عشرَة وسِتمِائَة تفقه بِحسن بن رَاشد وحصلت صُحْبَة بَينه وَبَين الْملك المظفر أَولهَا أَنه لما افترق أَوْلَاد الْمَنْصُور المظفر وَإِخْوَته وطلع المظفر إِلَى الْجَبَل أمره ابْن عَمه أَن يتَقَدَّم إِلَيْهِ من المصنعة ليختطب لَهُ فَلَقِيَهُ إِلَى جبا واختطب لَهُ بهَا أول جُمُعَة وَكَانَت أول بلد خطب لَهُ بهَا ثمَّ صَحبه من هُنَالك وحصلت بَينهمَا ألفة قَوِيَّة واستحلف لَهُ الأيفوع وَمن حَولهمْ من الْعَرَب كالسبأيين ورأسهم يَوْمئِذٍ عبيد بن عَيَّاش بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت مُشَدّدَة مَفْتُوحَة بعد عين مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ ألف ثمَّ شين مُعْجمَة وَلم تزل الصُّحْبَة تتأكد حَتَّى آلت إِلَى الوزارة مَعَ قَضَاء الْقُضَاة وَكَانَ خَطِيبًا مصقعا لبيبا ذَا دهاء وسياسة وَكَانَ لَهُ حسن نظر مَعَ الْمُلُوك وَالْفُقَهَاء يجلهم ويحترمهم فِي الْغَالِب وَهَذَا أول من جمع بَين الوزارة وَقَضَاء الْقُضَاة وَتَبعهُ على ذَلِك عَليّ بن مُحَمَّد بن عمر ثمَّ انْقَطع وَجعل الْقَضَاء مُنْفَردا وَلم يتوزر أحد بعده وَلم يزل على الْقَضَاء والوزارة حَتَّى كَانَ فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة فَأَقَامَ المظفر ابْنه الْأَشْرَف فِي الْملك على أَن يكون خَلِيفَته وأحلف لَهُ العساكر وطلع حصن تعز وَأَشَارَ القَاضِي الْبَهَاء إِلَيْهِ أَن يَجْعَل أَخَاهُ حسان وزيرا للأشرف فَفعل ذَلِك وَبَقِي القَاضِي الْبَهَاء على الْقَضَاء وَبقيت لَهُ دَوَاة الوزارة بعد الِاسْتِنَابَة بِتِسْعَة أَيَّام فَلم يزل الْقَضَاء مَعَه وَمَعَ ذَلِك يتراجع هُوَ وَحسان بِمَا يرد عَلَيْهِ من التهائم إِلَى أَن توفّي على ذَلِك منتصف ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة فاستمر على الْقَضَاء حَتَّى كَانَ من عزلهم مَا كَانَ
فَأول ظُهُور ذَلِك عزل حسان من الوزارة لمضي شَهْرَيْن من سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة عَزله الْمُؤَيد واستوزر عَليّ بن مُحَمَّد بن عمر وَبَقِي الْقَضَاء مَعَ ابْن عمرَان على طَرِيق الْمجَاز حَتَّى كَانَ رَمَضَان من سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة وصلوا الْجند للتختم بالجامع وَكَانَ ذَلِك عَادَة جَارِيَة مِنْهُم يصل جمَاعَة يَوْم سِتَّة وَعشْرين وشخص وَاحِد يخْتم لَيْلَة سَبْعَة وَعشْرين وَيقْرَأ الختمة على الْمِنْبَر ويلبث بالجند
حَتَّى يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِيد ثمَّ يعْمل طَعَاما يدْخل عَلَيْهِ من الْمصلى جمَاعَة من حفدتهم فَوَافَقَ وصولهم أَن وصل أسعد أَخُو الْوَزير مُعَارضا لَهُم يُرِيد يخْتم ويختطب وَكَانَ قد بَلغهُمْ أَن للخطيب فِي كل شهر ثَلَاثِينَ دِينَارا فوصل وَأَرَادَ الاختطاب فَمَنعه بَنو عمرَان وغالب أهل الْجند يحبونهم إِذْ ذَاك ويلوذون بهم فَلم يطق أسعد يطلع الْمِنْبَر وَدخل بَينهم الْعُقَلَاء على أَن أسعد يكْتب إِلَى السُّلْطَان يُخبرهُ فَإِذا جَاءَ جَوَابه بِأَنَّهُ يسْتَمر سلم لَهُ كتاب الْخطْبَة فَكتب فِي أول اللَّيْل وَصدر رَسُولا فَلم تطلع الشَّمْس جدا حَتَّى عَاد بالخط على مَا سُئِلَ وَزِيَادَة وَأخْبر أَيْضا بِأَن الْقَضَاء إِلَيْهِم فَخرج بَنو عمرَان من فورهم عَن الْجند إِلَى المصنعة لم يصلوا الْجُمُعَة إِلَّا بهَا وَلَبِثُوا بقريتهم إِلَى رَمَضَان سنة سبع وَتِسْعين وطلبهم الْمُؤَيد إِلَى تعز فلبثوا أَيَّامًا بدار الواثق يُؤْتى لَهُم كل يَوْم بِالطَّعَامِ ثمَّ بعد انْقِضَاء رَمَضَان تقدم السُّلْطَان الْجند وهم مَعَه وَعَلَيْهِم ترسيم من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَأمر السُّلْطَان من أخرج بَقِيَّة رِجَالهمْ وحريمهم عَن المصنعة وَختم على بُيُوتهم وأنزلوا الْجند فَلم يشعروا حَتَّى قيل لَهُم هَؤُلَاءِ أهلكم قد جِيءَ بهم ثمَّ تجهز السُّلْطَان إِلَى صنعاء لحصار الْعَظِيمَة والميقاع وَأمر وَالِي الْجند يخرجهم عَن الْجند إِلَى ذِي جبلة فَفعل وَذَلِكَ فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فلبثوا بهَا أَيَّامًا وَكَانَ لَهُم من فعل الْمَعْرُوف خُصُوصا عبد الله مَا لَا ينْحَصر حَتَّى أَن أهل جبلة كَانُوا إِذا طلبُوا فَقِيرا لم يجدوه إِلَّا عِنْد بَيت عبد الله وَكَانَت سنة خصَاصَة وَكَانَ كثير الصَّدَقَة وإطعام الطَّعَام وإكرام الضَّيْف لم أر لَهُ نظيرا فِي ذَلِك ثمَّ كَانَ ذَا عبَادَة كَثِيرَة وَذكر وتلاوة قل من يواظب ذَلِك مثله ثمَّ يَصُوم غَالب زَمَانه وَكَانَ خَطِيبًا مصقعا ذَا كرامات وعبادات وَله مسموعات ومقروءات ولي مِنْهُ إجَازَة بكتب عدَّة ثمَّ لما نزل الْمُؤَيد من حِصَار الْعَظِيمَة والميقاع التقاه حسان للسلام بالموسعة ثمَّ إِنَّه لم يكد يقف فِي تعز غير تَتِمَّة السّنة حَتَّى بعث أَمِير خاندار مَعَه
عشرَة تردارية وجندارية أنزلوا عبد الله هَذَا وأخاه حسان وَابْنه عمرَان من جبلة فَلَمَّا صَارُوا بالحصن فِي تعز ضرب حسان وَعمْرَان ضربا يخرج من حد الْوَصْف يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ وَالنَّاس تتألم وهموا بِضَرْب عبد الله فحماه الله مِنْهُم قهرا مَا هم بِهِ أحد إِلَّا ضرب ببلاء من فوره وَكَانَ الْعَدو الَّذِي لَهُم يؤنب أَمِير خاندار ويلومه على ذَلِك فطلع ذَات يَوْم وَقد امْتَلَأَ غيظا ودعا بعض الخاندارية مِمَّن يعرف جَهله ووبخه وَقَالَ لَهُ اعْمَلْ بِضَرْب القَاضِي عبد الله فَدخل عَلَيْهِ وَكَلمه بِسوء أدب وتهدده بِالضَّرْبِ فبزقه القَاضِي بزقة انْقَطع بهَا شَيْء من أمعائه وَوَقع مغشيا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لم يبرح إِلَى بَيته إِلَّا مَحْمُولا وَلم يزل مَرِيضا لَا ينفع نَفسه بنفاعة حَتَّى توفّي مطروحا فِي بعض الْأَسْوَاق وَوصل حريمهم إِلَى بَيت الْفَقِيه أبي بكر حَالين وَفِيهِمْ بَنَات خَاله فَلم يفتح لَهُم بَابه وَلَا قضى لَهُم حَاجَة وأزيل عَنْهُم الضَّرْبَة بشفاعة الْحرَّة ابْنة أَسد الدّين زَوْجَة السُّلْطَان وَكَانَت خيرة كثيرا مَا ترده عَن الْقَبِيح فأطلقوا عَن الْحَبْس وأنزلوا فِي المغربة وَأمرت أَن يجْرِي عَلَيْهِم بأدوية حَتَّى تعافوا وأطلقوا بِشَرْط أَن يسكنوا سهفنة فسكنوها وَرهن عبد الله وَلَده عمرَان وَحسان ابْنه مُحَمَّدًا وَتركُوا فِي زبيد فسكنوها من رَجَب ثَمَانِي وَتِسْعين وسِتمِائَة ولبث القَاضِي عبد الله وَالْبَاقُونَ بسهفنة إِلَى أَن توفّي بهَا نَهَار رَابِع ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة وَحضر قبرانه جمع من الْجند وَغَيرهَا فيهم شَيخنَا أَبُو الْحسن الأصبحي فَأخْبر الثِّقَة أَنه كَانَ على قَرْيَة سهفنة خَاصَّة جَراد عَظِيم وَلَيْسَ بخارجها شَيْء فَسَأَلَ شَيخنَا عَن ذَلِك فَقَالَ مَا هُوَ بِبَعِيد أَن يكون الْجَرَاد مَلَائِكَة فِي حق القَاضِي عبد الله وَكَثْرَة إطعامه وصدقته وَلم يزل الْجَرَاد حول الْبَيْت وحول النعش إِلَى أَن قبر ثمَّ لم يُوجد مِنْهُ شَيْء وَبَقِي حسان وابنان لَهُ إِلَى مُدَّة بعد ذَلِك فِي قَرْيَة سهفنة مَعَ أحزان وإهانة من غلْمَان بني مُحَمَّد بن عمر ثمَّ بعد وَفَاة الْحرَّة الَّتِي كَانَت سَببا لإطلاقهم وَذَلِكَ مستهل ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَسَبْعمائة أوهم عدوهم فيهم السُّلْطَان بِمَا لَا يَلِيق وظل يَوْمًا طردا عِنْده وَكَانَ لَا يتهمه بكذب فصدر لَهُم نَحْو خمسين فَارِسًا ورجلا عَددهمْ مئتان سروا إِلَيْهِم وَقت الْعشَاء من تعز فوصلوا سهفنة سحرًا وقبضوا حسان وابنيه وَعبد الله ابْن أَخِيه بن أبي بكر ونزلوا بهم الْجند غير مقيدين فأدخلوا الدهليز الَّذِي للقصر وَكتب السُّلْطَان بذلك فَأمر الْفَقِيه أَبَا بكر التعزي بِإِطْلَاق عبد الله لِأَنَّهُ كَانَ يوالي الْفَقِيه هُوَ وَأَبوهُ مُحَمَّد وجده أَبُو بكر صنو القاضيين الْمَذْكُورين ثمَّ قيد حسان وابناه وأنزلا إِلَى سجن قد أحدث
لأجلهم فِيهِ من الضّيق مَا لَا ينْحَصر وَكَانَ قد أَمر السُّلْطَان وَالِي عدن بِبِنَاء سجن شَدِيد الضّيق لَيْسَ لَهُ متنفس لخارج وَلَا دَاخل فاجتهد الْوَالِي ببنائه ظنا أَنه لبَعض الْجَبَابِرَة من أَعدَاء السُّلْطَان فَلَمَّا جِيءَ بالقضاة نَدم على ذَلِك فلبثوا بالسجن مُجْتَمعين لَا يكَاد يفتح لَهُم بَاب إِلَّا فِي الْوَعْد مرّة أَو مرَّتَيْنِ لما يُؤْتى بِهِ من المَاء
أما الطَّعَام فَينزل لَهُم من تصدق عَلَيْهِم من طَاقَة فِي السّقف سقف الْحَبْس وَذَلِكَ أَنه يُعْطِيهِ الحباس سرا خشيَة أَن يبلغ عدوهم وَبعد ثَلَاث سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر توفّي حسان على ذَلِك الْحَال فقبر بالمقبرة الَّتِي بهَا ابْن أبي الْبَاطِل وَهُوَ أحد مَشَايِخ الطَّرِيق من الصُّوفِيَّة الأكابر ولبث ابناه حَتَّى قدمت الْحرَّة كَرِيمَة السُّلْطَان من ظفار بعد وَفَاة أَخِيهَا الواثق الْآتِي ذكره وَكَانَت إِحْدَى أخيار الخواتين على طَرِيق الْمُرُوءَة وَالدّين وَالصَّدَََقَة وَقد مضى من ذكرهَا مِمَّا يُغني عَن إِعَادَته فحين وصلت تعز إِلَى أَخِيهَا وسلمت عَلَيْهِ شفعت لَهُم وَقَالَت أجعلهم ضيافتي مِنْك فَأمر بإطلاقهم فَعلم بذلك عَدو لَهُم غير الأول فَأمر بِأَنَّهُم لَا يخرجُون من عدن وَكَانَ الْوَالِي ابْن عَلَاء الدّين عمر فأعادهم من بَاب عدن وأسكنهم فِي دَار جَيِّدَة وفسح لَهُم فأقاموا هُنَالك مُدَّة وَبعد وَفَاة الْوَزير وانقضاء أَيَّام بني مُحَمَّد بن عمر على مَا يَأْتِي بَيَانه طلب بَنو عمرَان من عدن وَجمع بَينهم وَبَين أخيهم بزبيد وَكَانَ فِي يَوْم حبس وَالِده بعدن حبس وَهُوَ بِحَبْس زبيد وَجعل لَهُ فِي وَسطه حبس فِي غَايَة الضّيق وَكَانَ كثيرا مَا يُوجد خَارج الْحَبْس فِي الْمَسَاجِد يُصَلِّي وَبلغ السُّلْطَان الْمُؤَيد فَأَطْلقهُ وَجعل لَهُ رزقا يقتاته وَسكن بدار عَمه القَاضِي الْبَهَاء مقدم الذّكر وَلما صَار الْملك إِلَى الْمُجَاهِد بن الْمُؤَيد الْمرة الأولى وَالْغَالِب عَلَيْهِ الْأَمِير عمر بن يُوسُف بن مَنْصُور قَالَ لَهُ القَاضِي عبد الْبَاقِي بن عبد الْمجِيد يَا أَمِير اعْمَلْ لآخرتك وَاسع فِي إِطْلَاق هَؤُلَاءِ بني عمرَان من زبيد واجمع بَينهم وَبَين عائلتهم فَلم يزل عمر بن يُوسُف يتلطف حَتَّى أطْلقُوا من زبيد وطلعوا سهفنة فِي الدولة المجاهدية وَتُوفِّي مُحَمَّد بن حسان بعد أشهر دون السّنة من طلوعهم يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر صفر من سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَأما ابْن عَمه عمرَان فَتوفي بزبيد بعد وَفَاة أَبِيه بأيام قَلَائِل وَكَانَ قد توزر للواثق مُدَّة حَتَّى سَافر إِلَى ظفار فَلم يتْركهُ أَهله يُسَافر مَعَه وَبَقِي حَاكم تعز فِي غَالب الْأَحْوَال إِذْ كَانَ عَمه حسان حاكمها مُنْذُ توفّي مُحَمَّد بن عَليّ وَقد يستنيبون بعض المدرسين مجَازًا وَالله أعلم
وَفِيهِمْ فُقَهَاء درسوا وأفتوا فلعبد الله وَلَده مُحَمَّد كَانَ فَقِيها فَاضلا درس مُدَّة
بِجَامِع المصنعة وَعنهُ أخذت بعض كَافِي الصردفي والمهذب وَبَعض مُصَنفه فِي الدقائق وَهُوَ كتاب فائق سَمَّاهُ جَامع أَسبَاب الْخيرَات البديعة ومثير عزم أهل الكسل والعثرات وَهُوَ من أحسن كتب المتعبدين ثمَّ كتاب مُخْتَصر سَمَّاهُ البضاعة لمن أحب صَلَاة الْجَمَاعَة وَهُوَ من المختصرات البديعة فِي ذَلِك والتبصرة فِي علم الْكَلَام وَشرح التَّنْبِيه شرحا لائقا اجْتمع الْفُقَهَاء على سَمَاعه بعد فَرَاغه من جَمِيع أنحاء الْجبَال وَكَانَ فيهم عدَّة من أكَابِر الْفُقَهَاء وَقد سَمِعت عَلَيْهِ بعضه وأجازني بِجَمِيعِهِ وقرأت عَلَيْهِ جَمِيع مُصَنفه الَّذِي سَمَّاهُ البضاعة لمن أحب صَلَاة الْجَمَاعَة وإيضاح الأصبحي وَكَانَت وَفَاته فِي شهر شَوَّال سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة
وَآخر اسْمه عبد الرَّحْمَن كَانَ مقرئا مجيدا فَاضلا بالقراءات وَقد تفقه بعض تفقه توفّي سلخ رَمَضَان سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَهُوَ أَصْغَرهم وَآخر اسْمه أسعد تفقه وَكَانَ يَنُوب أَبَاهُ فِي خطابة الْجند وقضائها توفّي آخر سنة خمس وَتِسْعين وَالْآخر عمرَان وَقد مضى ذكره ولأخيه أبي بكر بن أسعد ولد فَقِيه فَاضل كَانَ فِيهِ إِحْسَان إِلَى الطّلبَة وَأنس لَهُم وَذَلِكَ بعكس مَا كَانَ لِأَبِيهِ وَكَانَ يتَوَلَّى التدريس هُوَ وَابْن عَمه مُحَمَّد بِجَامِع المصنعة وتفقها بالفقيه مُحَمَّد بن أبي بكر الأصبحي الْآتِي ذكره وَكَانَت وَفَاته بقرية سهفنة على رَأس سنة سَبْعمِائة تَقْرِيبًا وَله ابْن سَمَّاهُ عبد الله كَانَ قد تولى الخطابة بالمصنعة وَلما حبس أَهله قَامَ بحريمهم وَتحمل مؤنتهم حَتَّى خرج من خرج مِنْهُم من الْحَبْس وَكَانَ للْقَاضِي إخْوَة يَأْتِي ذكرهم إِن شَاءَ الله فِي أَعْيَان الدول
فلنرجع إِلَى تَتِمَّة ذكر الْفُقَهَاء وذراريهم وأعني بالفقهاء الَّذين ذكرهم ابْن سَمُرَة فِي آخر ذكر الْقُضَاة وَقد انْقَضى ذكر مَا لَاق من أَحْوَال بني عمرَان وَمَا تمّ عَلَيْهِم من الامتحان ثمَّ يتبعهُم فِي الشُّهْرَة بقدم التسمي بالفقه ذُرِّيَّة الْفَقِيه الْهَيْثَم وقدمت بني عمرَان لانتفاع النَّاس بتصانيفهم لَو لم يكن لَهُم غير الْبَيَان ثمَّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من الْإِطْعَام فِي المصنعة بِحَيْثُ يجْتَمع مَعَهم فِي غَالب الْأَوْقَات فَوق مئة درسي يقومُونَ بكفايتهم من النَّفَقَة وَالْكِسْوَة بِحَيْثُ سَمِعت جمَاعَة من أَعْيَان الْفُقَهَاء يَقُولُونَ لم يصب أحد من أهل الْيمن بمصيبة كَمَا أُصِيب طلبة الْعلم بِأَهْل سير وَقد رثيت سير بقصائد مِنْهَا قصيدة للنجم صَاحب مَكَّة وَلَوْلَا خشيَة الإطالة لذكرت من ذَلِك عجائب وعدهم وَقد مضى ذكر من ذكره ابْن سَمُرَة وَتَأَخر عَنْهُم جمَاعَة
تحققت مِنْهُم جمَاعَة عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْفَقِيه عمر بن الْفَقِيه أسعد بن الْفَقِيه الْهَيْثَم مقدمي الذّكر مولده يَوْم الْخَمِيس مستهل صفر سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة تفقه بِابْن نَاصِر الْآتِي ذكره فِي قَرْيَة الذنبتين وَولي قَضَاء بَلَده وَكَانَ يتَرَدَّد بَين بَلَده والجند وتعز وَاجْتمعت بِهِ فَرَأَيْت رجلا مُبَارَكًا كَانَت وَفَاته لسبع بَقينَ من رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَله ولدان هما يُوسُف وَأَبُو بكر ومولد يُوسُف مستهل ربيع الأول من سنة خمسين وسِتمِائَة تفقهه أَولا بِأَبِيهِ ثمَّ بِمُحَمد بن أبي بكر الأصبحي وَكَانَ حَاكم بَلَده كَمَا كَانَ أَبوهُ وَكَانَ ينيب القَاضِي عمر بن سعيد على قَضَاء صنعاء ودرس بمدرسة الزواحي بتَشْديد الزَّاي بعد ألف وَلَام ثمَّ فتح الْوَاو ثمَّ ألف ثمَّ حاء مُهْملَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت وَهِي قَرْيَة من نواحي بلدهم بهَا مدرسة أحدثها بعض مَشَايِخ بني وايل وَكَانَت وَفَاته بِصَنْعَاء لسبع بَقينَ من شعْبَان سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَأما أَبُو بكر فتفقه بأَخيه أَولا ثمَّ بِصَالح بن عمر بالسفال ثمَّ بالفقيه عبد الصَّمد ثمَّ بِأَهْل المصنعة ثمَّ صَار حَاكما فِي بَلَده كَمَا كَانَ أَبوهُ وَأَخُوهُ وَشهر بطريقة مرضية فِي الحكم
وَلما كَانَت سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة محنت بحسبة زبيد لعدم طول وَكَثْرَة عول وَدين وَعدم طول فقدمتها وقاضي الشَّرْع بهَا يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بن سعد عرف بِأبي شكيل الْآتِي ذكره فَلَبثت أَيَّامًا قَلَائِل وَقدم هَذَا أَبُو بكر فَلبث قَاضِيا وَكَانَت ولايتنا جَمِيعًا من قبل القَاضِي جمال الدّين مُحَمَّد بن الْفَقِيه أبي بكر التعزي فلبثنا مُدَّة أشهر إِلَى أَن دخل رَمَضَان ثمَّ فصلني عَن الْحِسْبَة وَالْحَال مِنْهُ جميل فِي الحكم وَجَعَلَنِي قَاضِيا فِي موزع ثمَّ بَلغنِي أَنه تغير بعد ذَلِك وَحكم بِمَا استحسنه وَبِمَا أمره أهل الْغَرَض فِي حق القَاضِي أبي شكيل خَاصَّة ثمَّ حصل عَلَيْهِ بعد ذَلِك نهب بَيته فِي الحجفة وهرب إِلَى تربة ذِي عقيب لَوْلَا أَنه أَقَامَ بِقَضَاء الْقُضَاة من لَيْسَ بِهِ غَرَض فَمشى حَاله وفصله عَن زبيد وَأعَاد أَبَا شكيل على الْقَضَاء وَهُوَ إِلَى الْآن سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة حَاكم بَلَده وَمِمَّنْ سكن الجرينة الْقرْيَة الَّتِي تقدم ضَبطهَا مَعَ الحجفة وسكنتها جمَاعَة وَمِنْهُم أسعد بن يُوسُف بن أَحْمد بن الْفَقِيه عمر مقدم الذّكر وَهُوَ أول من تدير هَذِه الْقرْيَة وانتقل إِلَيْهَا من الحجفة وفقهاؤها ذُريَّته وَهُوَ باني مَسْجِدهَا وَلم أتحقق من نَعته وتاريخه شَيْئا غير مَا ذكرت وَكَانَ لَهُ أَخ
اسْمه أَحْمد بن يُوسُف تفقه بِمُحَمد بن مَضْمُون بن أبي عمرَان مقدم الذّكر وَأخذ عَن ابْن أبي سحارة الْآتِي ذكره وَله ولد أَيْضا اسْمه مُحَمَّد بن أسعد أَخذ عَن مُحَمَّد بن مِصْبَاح وَغَيره وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ وَكَانَت وَفَاته آخر أَيَّام التَّشْرِيق من سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وَله أَوْلَاد جمَاعَة قدمت بلدهم للبحث عَن أَحْوَالهم وجدت اثْنَيْنِ مِنْهُم إِدْرِيس فِيهِ أنس وَخير ثمَّ أَحْمد أكبر مِنْهُ امتحن بالعمى وَقَتله أهل الْفساد فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة ثمَّ يُوسُف أوسطهم هُوَ حَاكم ذمار يذكر بِولَايَة الْقَضَاء بهَا من أَيَّام بني مُحَمَّد بن عمر وانفصل فِي أَيَّام الْفِتْنَة وانضراب الدول لنيف وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَمِمَّنْ ذكر ابْن سَمُرَة وَخَلفه ذُرِّيَّة يذكرُونَ بالفقه بَنو يحيى بن الْفَقِيه فضل الَّذِي تقدم ذكره فخلفه ابْنه يحيى مولده سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وتفقه بِعَبْد الله بن سَالم الأصبحي وَتزَوج ابْنَته منيرة وَله منا أَوْلَاد انْتَشَر مِنْهُم ذُرِّيَّة تفقه مِنْهُم جمَاعَة ومسكنهم قَرْيَة الملحمة فِيمَا مضى وَلَهُم بهَا مَسْجِد ينْسب إِلَيْهِم وَهُوَ شرقيها وَيعرف بِالْمَسْجِدِ الْأَعْلَى وقراءته للْبَيَان على سُلَيْمَان بن فتح وَكَانَت وَفَاته بقرية الملحمة لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث عشر ربيع الأول من سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة وَخلف أَوْلَادًا جمَاعَة تفقه مِنْهُم أَبُو بكر مولده لَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ وَغَيره وَفتح لَهُ فِي الْعلم بفهم جيد حَتَّى أدْرك مِنْهُ نَصِيبا وافرا بِحَيْثُ كَانَ الْفَقِيه عمر بن سعيد يَقُول لَو سُئِلَ أَبُو بكر بن يحيى عَن علم الرّوح لأفتى بِهِ وَكَانَ خيرا توفّي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ تَاسِع ربيع الأول سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَلم يعقب ثمَّ عُثْمَان مولده آخر نَهَار الْجُمُعَة لليلة بقيت من الْمحرم سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها صَالحا متأدبا ذَا محفوظات لَهُ بديهة جَيِّدَة حَاضر الْجَواب نظما ونثرا
لما قدمت إِلَى قومه وَقد انتقلوا عَن الملحمة إِلَى الْجَبَل الَّذِي هُوَ مطل عَلَيْهَا من قبل الْيمن وَسَكنُوا قريتين تعرف إِحْدَاهمَا بالمحيب وَهِي على قبالة من الملحمة وضبطها بخفض الْمِيم بعد ألف وَلَام ثمَّ سُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة كَانَ هَذَا الْفَقِيه يسكنهَا وَبهَا جمَاعَة من ذُريَّته وَأَهله
والقرية الْأُخْرَى تسمى النظاري بِفَتْح النُّون بعد ألف وَلَام والظاء الْقَائِمَة ثمَّ ألف ثمَّ رَاء ثمَّ يَاء مثناة من تَحت
وَلما قدمت قَرْيَة المحيب أخرج إِلَيّ بعض ذُرِّيَّة الْفَقِيه عُثْمَان شَيْئا من كتبه فَرَأَيْت على بَعْضهَا بِخَطِّهِ وَمن قَوْله
. . طُوبَى لمن عَاشَ بعض يَوْم ... وَنَفسه فِيهِ مطمئنه
وَلَا لَهُ فِي الملا عَدو ... وَلَا لخلق عَلَيْهِ مِنْهُ ... وَهَذَا هُوَ صَاحب الْقِصَّة الْمَشْهُورَة مَعَ الْأَمِير عَليّ بن يحيى وذكرتها خشيَة أَن يَقع كتابي مَعَ من لم يكن علمهَا وَذَلِكَ أَن الْأَمِير عَليّ بن يحيى كَانَ على الصّفة الْمُتَقَدّمَة من الإنسانية والمحبة للفقهاء والفضلاء وصحبتهم كَمَا ذكرته فَقدر أَنه عمل طَعَاما لجَماعَة من أَصْحَابه هَذَا الْفَقِيه من جُمْلَتهمْ وَعمل فِيهِ ظرفا مملوءا لحوحا وزوما وَوضع بِموضع فِيهِ بعد عَن الْفَقِيه فَلَمَّا اجْتَمعُوا على الطَّعَام صَار الْفَقِيه يتَنَاوَل مِنْهُ فَلَا يَنَالهُ إِلَّا بتكلف فَأَنْشد الْأَمِير ... بعد اللحوح عَن الْفَقِيه الأوحد ... عُثْمَان خير بني الْبَريَّة عَن يَد ... فَأَجَابَهُ الْفَقِيه مرتجلا ... ترد المراسم إِن أمرت بنقله ... وَيطول مِنْك الباع إِن قصرت يَدي ... فَقَامَ الْأَمِير مسرعا من مَكَانَهُ وَاحْتمل الظّرْف وَوَضعه بَين يَدي الْفَقِيه ثمَّ لما انْقَضى الطَّعَام جعل الْأَمِير يحدث الْفَقِيه وَيَقُول يَا سَيِّدي الْفَقِيه إِنِّي رَأَيْتُك تحب اللحوح وَقد وَهبتك جربتي الْفُلَانِيَّة تكون برسمه فقبلها الْفَقِيه وَهِي جربة تَسَاوِي ألف دِينَار على قرب من الملحمة هِيَ بيد ذُريَّته إِلَى الْآن فرحم الله عَليّ بن يحيى مَا كَانَ ألطف شمائله وَأكْثر فَضله وفضائله
وَقد تقدم ذكره مَعَ بني مَضْمُون وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَحَد لثلاث بَقينَ من رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَذَلِكَ بقرية الملحمة مَعَ أَبِيه يحيى وأخوته أبي بكر وَعلي فقبر الْأَب وأبناؤه أَبُو بكر وَعلي فِي فسقية هِيَ شَرْقي مَسْجِدهمْ فَلَمَّا دنت وَفَاة عُثْمَان قيل لَهُ نقبرك مَعَ أَبِيك وأخوتك قَالَ لَا إِنَّنِي أخْشَى أَن أؤذيهم هم كَانُوا على طَرِيق كَامِل من الْوَرع فقبر بِقَبْر قريب مِنْهُم ثمَّ لما توفّي عُثْمَان خَلفه برئاسة أَهله واشتهر بالفقه ابْن لَهُ اسْمه يحيى مولده آخر نَهَار الْجُمُعَة لخمس خلون من صفر سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة وَكَانَ خيرا ذَا دين وورع نزل من بَلَده إِلَى ذِي جبلة فدرس بِالْمَدْرَسَةِ الشرقية وَكَانَ
فِي شهر ذِي العلان فَيطلع بَلَده فيقف فِيهَا حَتَّى يَنْقَضِي الصراب ثمَّ مَتى عَاد بَلَده أَحَالهُ النَّائِب بِنَفَقَة السّنة فَيرد عَلَيْهِ نَفَقَة الشَّهْرَيْنِ اللَّذين غَابَ فيهمَا وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى عصرنا أَن لَا ينْفق للمدرس غير عشرَة أشهر لتِلْك الْعَادة وَكَانَ إِذا قيل لَهُ يَا سيدنَا لَا ترد الشَّهْرَيْنِ فالمدرسون قبلك كَانُوا يغيبون أَكثر من الشَّهْرَيْنِ وَيَأْخُذُونَ كيلة الْجَمِيع فَقَالَ لَا يسْأَلُون عَمَّا أجرمنا وَلَا نسْأَل عَمَّا يعْملُونَ وَكَانَ يصرف مَا يقبضهُ من الكيلة على المحتاجين من طلبة الْعلم وَفِيمَا يَطْلُبهُ أهل الدِّيوَان مِنْهُ خراجا على أرضه وَكَانَ مَعَ ورعه نقالا للفروع وعارفا بهَا وَتُوفِّي بقرية المحيب وَبهَا قَبره منتصف صفر من سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة ثمَّ خَلفه ابْن لَهُ اسْمه عُثْمَان كَانَ فَقِيها خيرا وَله قريحة يَقُول بهَا الشّعْر وَمن شعره يجمع فِيهِ أولي الْعَزْم من الْأَنْبِيَاء بيتان هما ... أولو الْعَزْم فاحفظهم لَعَلَّك ترشد ... فنوح وَإِبْرَاهِيم هود مُحَمَّد ... وَخمْس المديح الَّذِي لِابْنِ حمير وَهُوَ ... يامن لعين قد أضرّ بهَا السهر ... وأضالع حدب طوين على الشرر ... فصدر هَذَا الْبَيْت بِأَن قَالَ ... قلبِي الْمَعْنى صَار حلفا للفكر ... وكذاك سَمْعِي خانني مثل الْبَصَر
ودموع عَيْني بالمحاجر كالمطر ... يَا من لعين قد أضرّ بهَا السهر
وأضالع حدب طوين على الشرر
وضاهاها بالتخميس تخميس ابْن الظفاري لبانت سعاد وَكَانَت وَفَاته مبروقا لأحد عشر ذِي الْحجَّة من سنة تسع وَسَبْعمائة بعد بُلُوغ سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة وقبر
بالمحيب إِلَى جنب قبر أَبِيه زرتهما مَعًا وفقيههم يَوْم قدمت إِلَيْهِم حسن بن عَليّ بن الْفَقِيه يحيى بن الْفَقِيه فضل مَسْكَنه النظاري يدرس بمدرسة بنتهَا امْرَأَة فوقفت عَلَيْهَا وَقفا جيدا وَكَانَ صَاحب دنيا وَاسِعَة وَلما خشِي من الظلمَة وتعسفهم على نَفسه وعَلى الْمدرسَة لَاذَ بالفقيه أبي بكر التعزي وَتزَوج ابْنة لِأَخِيهِ عمر فَكَانَ بذلك مُسْتَقِيم الْحَال حَتَّى هلك الوزراء بالتاريخ الْآتِي ذكره وَحصل عَلَيْهِ بعض تعسف ثمَّ لما قدم ولد الْفَقِيه أبي بكر على قَضَاء الْقُضَاة على مَا سَيَأْتِي ذكره ولبث مَا لبث ثمَّ ظهر للمؤيد مِنْهُ مَا ظهر صودر هَذَا وَحبس وعزر وَجرى لَهُ أَمر لَا يَلِيق ذكره وَلم تطل مدَّته بعده بل توفّي سنة ثَمَانِي عشرَة وَسَبْعمائة وَكَانَ ذَلِك تَصْدِيقًا للأثر الَّذِي هُوَ من تعزز بِغَيْر الله ذل
وَمِنْهُم يحيى بن فضل بن الْفَقِيه يحيى مقدم الذّكر ولاه القَاضِي مُحَمَّد بن أبي بكر على طَرِيق عَادَة حكام الْوَقْت فِي كَرَاهِيَة من كَانَ قبلهم ونوابهم وَفِيهِمْ جمَاعَة مِنْهُم سُهَيْل يذكر عَنهُ مُرُوءَة وَشرف نفس ثمَّ الْمَأْمُون فقيهان خيران لما قدمت المحيب قَرَأَ عَليّ الْمَأْمُون وَيحيى وَمُحَمّد بن عُثْمَان شَيْئا من الأربعينات النووية وَهَذَا مُحَمَّد بن الْفَقِيه عُثْمَان صَاحب الأبيات وَهُوَ يَوْمئِذٍ شَاب مبارك مترشح لطلب الْعُلُوّ وَمِنْهُم بَنو الإِمَام ذكر ابْن سَمُرَة مِنْهُم جمَاعَة وذكرتهم أَيْضا ثمَّ تَأَخّر عَن زمانهم جمَاعَة مِنْهُم الأخوان مُحَمَّد بن الْفَقِيه عبد الله بن الْفَقِيه سَالم الْأَصْغَر وَمِنْهُم أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَالم أَيْضا وَكَانَا فقيهين خيرين لَكِن أَحْمد كَانَ يَقُول الشّعْر وَكَانَت فِيهِ خفَّة فَسُمي لأَجلهَا بالمجن وَكَانَ يَقُول الشّعْر ويسلك طَرِيق أبي الطّيب المتنبي فيرحل إِلَى أقيال الْيمن وكرامها ويمتدحهم وَيَأْخُذ جوائزهم وَكَانَ فَقِيها فَاضلا مترسلا مهذبا متأدبا
حُكيَ أَنه ترك شَيْئا من الْكتب مَعَ بعض مَشَايِخ بني عمرَان فِي قلعة سير فعبث بهَا الفأر عَبَثا شنيعا فَلَمَّا جَاءَ لأخذها وجدهَا مبعثرة فَعمل أبياتا مِنْهَا قَوْله ... مديح الفأر خير من هجاه ... رجا شَيْئا فَأدْرك مَا رجاه
وَأعْطى مَا أَرَادَ وَمَا تمنى ... وأحظى الْخلق من يعْطى مناه ...
. . بدار الشَّيْخ أسعد حَيْثُ كَانَت ... أكيتبتي وَقد عظموا وتاهوا
وَقَالُوا قطّ لَيْسَ لنا معدا ... من المخزان فَهُوَ لنا بناه
إِذا مَا الهر وافى فَرد يَوْم ... أَغَارُوا كلهم وجروا وَرَاه
فأطبق وَهُوَ فِي وَجل عَظِيم ... وَلم يلفت وَأَعْطَاهُمْ قَفاهُ
وَحش لَو استقام لَهُم قَلِيلا ... لطاح وأطعموه إِذا أَذَاهُ ... وَهِي أَبْيَات تقَارب الْعشْرين لم يعلق بحفظي مِنْهَا غير مَا أوردته وَذكر أَنه قدم المخادر على الشَّيْخ عبد الله بن أسعد بن نَاجِي فَوَجَدَهُ محجبا فَقَالَ للخادم اسْتَأْذن لي على الشَّيْخ فَدخل وَخرج وَقَالَ الشَّيْخ بحافة الْحَرِيم فَأخذ ورقة بَيْضَاء وَكتب بهَا بَيْتَيْنِ هما ... يقبح بالسيد الْكَرِيم ... أَن يقْعد فِي حافة الْحَرِيم
والوفد بِالْبَابِ بانتظار ... نظامه غير مُسْتَقِيم ... وَقَالَ للخادم أعْطهَا الشَّيْخ وَركب من فوره وَصَارَ إِلَى مقْصده فحين وقف عبد الله على الورقة شقّ عَلَيْهِ القَوْل وَعرف من كتبهَا وَسَأَلَ الْخَادِم عَنهُ فَقَالَ ناولني الورقة وَسَار طَرِيق كَذَا فحنق عَلَيْهِ وَقَالَ وَالله لَا يلْحقهُ غَيْرِي ثمَّ ركب دَابَّته ولحقه بعد سَاعَة جَيِّدَة فَأَعَادَهُ وَأحسن إِلَيْهِ إحسانا كليا
وَذكر بعض الْمَعْنيين بأخبار النَّاس أَن الْمعز بن سيف الْإِسْلَام لما خرج إِلَى مَذْهَب الإسماعيلية وَصَارَ مَالِكًا لليمن تشفع إِلَيْهِ أهل مذْهبه بِأَن يَأْمر الخطباء فِي بِلَاد الْيمن بِأَن يقعوا بالشيخين فِي الْخطْبَة ويسبوهما فَقَالَ لَا طَاقَة لي بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم فَقَالُوا اعْمَلْ ذَلِك بجبلة وَكَانَ أَكثر سكناهُ بهَا فَقَالَ أَسْتَطِيع وَلَا آمن أَن يهجم عَليّ الْعَامَّة فَقَالُوا فَأمر خطيب جبلة بِإِسْقَاط ذكرهمَا قَالَ لَعَلَّ هَذَا أَهْون من غَيره فاستدعي بِالْقَاضِي فِي تِلْكَ الْمدَّة وَأمره بذلك وَكَانَ ذَلِك بيد أهل عرشان فساءهم ذَلِك وشق عَلَيْهِم وبقوا حائرين فَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم قدوم هَذَا أَحْمد وَقد بلغه مَا امروا بِهِ وَأَنَّهُمْ لم يقدروا على التَّأَخُّر خوف السلطنة وَلَا التَّقَدُّم خوف الشِّيعَة تبقى هَذِه السمعة عَنْهُم فوصلهم هَذَا الْفَقِيه وَقَالَ لَهُم أعطوني شَيْئا أَقْْضِي بِهِ ديني وَأسد بِهِ فَاقَتِي وَأَنا أَخطب عَنْكُم وَأسْقط ذكر
الشَّيْخَيْنِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَسَأَلُوهُ عَن دينه فَأخْبرهُم فالتزموا لَهُ بذلك وَأَن يسدوا فاقته فَلَمَّا جَاءَ وَقت الْخطْبَة صعد الْمِنْبَر وخطب حَتَّى جَاءَ مَوضِع ذكر الشَّيْخَيْنِ فَقَالَ وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن ذكر الشَّيْخَيْنِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَيْسَ شرطا فِي الْخطْبَة وَقد حصل لي ببركتهما كَذَا وَكَذَا دِينَارا وَكَذَا وَكَذَا ذَهَبا من الطَّعَام فعلى مبغضهما لعنة الله ولعنة اللاعنين
وَكَانَ الشِّيعَة قد اجْتَمعُوا من أَمَاكِن شَتَّى ليسمعوا بِإِسْقَاط الشَّيْخَيْنِ إِلَى الْجَامِع فَلَمَّا عمل هَذَا مَا عمل فحين سمعُوا ذَلِك ساءهم وشق بهم وَقَالُوا لم يرض إِلَّا سبنا وذكرهما بِأَحْسَن مَا كَانَا يذكران بِهِ ثمَّ لما خَرجُوا من الْجَامِع اتَّفقُوا على الرواح إِلَى بَيت الْمعز وملازمته بِالْإِرْسَال على الْخَطِيب وَالْأَمر لَهُ بِأَن يبْقى على الْعَادة الْمُتَقَدّمَة فَفَعَلُوا ذَلِك وَفعله الْمعز خشيَة بَقَاء سبّ مبغضيهما بعد أَن قَالَ لَهُم وَالله لقد كنت خاشيا عَلَيْكُم وعَلى الْخَطِيب أَن تقع الْعَامَّة بكم وَبِه وَقد سَمِعت من يذكر أَن الْخَطِيب لم يكن هَذَا وَإِنَّمَا كَانَ رجلا من أهل صهْبَان يُسمى الصُّبْح وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
وَقد عرض مَعَه ذكر عبد الله بن أسعد بن نَاجِي التباعي وَهُوَ أحد أَعْيَان الْيمن وأخيار الزَّمن وَكَانَ مَشْهُورا بِالْكَرمِ وسعة الْجُود وَالنعَم لَهُ عطايا جمة مَسْكَنه قَرْيَة المخادر قد مضى ذكرهَا ونال هَذَا عبد الله وَأَخُوهُ مكانة عَظِيمَة ورزقه الله سماحة نفس وعلو همة بِحَيْثُ سَمِعت لَهُ مَكَارِم يطول تعدادها وَيكثر إيرادها وَكَانَ قد استماله بعض الإسماعيلية وَدخل بمذهبه وَصَارَ عَلَيْهِ مَعَ تستر فَإِنَّهُ ليَوْم قَاعد فِي الْجَامِع بالمخادر وَهُوَ حافل بِجمع من الْفُقَهَاء والطلبة إِذْ قَرَأَ بَعضهم بِصَوْت حسن سُورَة الْمُؤمنِينَ حَتَّى قَرَأَ {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين} إِلَى أَن بلغ قَوْله {ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون} ثمَّ جعل يُرَدِّدهَا فحكي أَنه بَكَى حَتَّى غشي عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق وَتشهد واستغفر الله تَعَالَى وَنزل على طَرِيق السّنة لَا يَبْدُو مِنْهُ مَا يُخَالِفهَا حَتَّى توفّي وَكَانَ قد حدث لَهُ فِي تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي أَقَامَ بهَا خَارِجا أَوْلَاد
خَرجُوا عَن الإسماعيلية إِلَى وقتنا وذراريهم فِي الْغَالِب على ذَلِك غير أَن الْغَالِب على بني نَاجِي حَيْثُ كَانُوا السماحة والرجاحة وَالْإِحْسَان إِلَى أهل الْقُرْآن وَلَهُم فِي بلدهم مدارس حَسَنَة وَعَلَيْهَا وقف جيد لَا تكَاد تَخْلُو قريتهم عَن أهل الْخَيْر من أهل الدّين وَالدُّنْيَا قدمتها لزيارة صالحيها فَوجدت بهَا آثارا يعجب من أقربها من آثَار أهل سير
وَمِنْهُم أَعنِي بني الإِمَام أَبُو الْخطاب عمر بن يحيى بن الْفَقِيه أبي بكر بن الْفَقِيه سَالم كَانَ فَقِيها فَاضلا
وَمِنْهُم عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الضرغام بِهِ تفقه جمَاعَة مِنْهُم عَليّ بن أَحْمد الْجُنَيْد وَعمر بن مُحَمَّد الجرهمي وَابْن عَمه سُلَيْمَان وَغَيره وَهُوَ آخر من تحققته من بني الإِمَام وَتَبعهُ من أَهله سُلَيْمَان بن عَليّ بن مُحَمَّد بن سَالم الأصعى درس بِذِي هزيم وَغَيره بعد أَخِيه أَحْمد الْمَذْكُور فِي فُقَهَاء تعز وَتُوفِّي أَيْضا بتعز وَكَانَ عَارِفًا بِكِتَاب الْبَيَان أَخذه عَن جمَاعَة وَتُوفِّي وَترك ولدا اسْمه عبد الرَّحْمَن أم مُدَّة طَوِيلَة بِجَامِع ذِي أشرق تفقه بعض التفقه وَتُوفِّي على الطّلب منتصف الْقعدَة من سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة وَآخر فُقَهَاء قريتهم مِمَّن هُوَ فِي طبقَة الْمَذْكُورين آنِفا جمَاعَة لَيْسُوا مِنْهُم
مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أسعد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن سعيد القري الْعَنسِي الْمذْحِجِي بالنُّون بَين الْعين وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ نِسْبَة إِلَى الْقَبِيلَة الْمَذْكُورَة فِيمَا تقدم
كَانَ فَقِيها عَارِفًا بالفروع وَالْأُصُول وَله بِكُل كتاب مِنْهُمَا تصنيف ولي قَضَاء عدن بُرْهَة من الدَّهْر وَكَانَ مَوْصُوفا بالورع وَالْفِقْه غواصا على دقائقه عَاملا بِهِ
سَمِعت فَقِيه عدن شَيْخي أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الْحرَازِي يذكر هَذَا الرجل ويثني عَلَيْهِ ثَنَاء بليغا بالفقه والورع وَكَانَ مِمَّن أدْركهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَأَخْبرنِي أَيْضا أَنه كَانَ يُعجبهُ الِاخْتِلَاط بالفقهاء والمواصلة لَهُم
وَكَانَ مدرس عدن يَوْمئِذٍ والمعيد وأصحابهما من الطّلبَة يصلونَ صباح كل يَوْم إِلَى بَابه ويحضرون مَجْلِسه فيلقاهم بالبشر وَالْإِكْرَام ثمَّ إِذا اطمأنوا جعل يلقِي عَلَيْهِم الْمسَائِل من الْكتب الَّتِي يتعانون قرَاءَتهَا
فَمن وجده ذَاكِرًا بَارك عَلَيْهِ وشكره ووعده بِالْخَيرِ وحثه على زِيَادَة الِاجْتِهَاد وَكَانَ ذَا مَكَارِم أَخْلَاق وكرم طباع قَلما قَصده قَاصد إِلَّا وَأَعْطَاهُ مَا يَلِيق بِحَالهِ إِمَّا من نَفسه إِن أمكن
أَو من جاهه
وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير الصَّدَقَة متنزها عَمَّا يتهم بِهِ حكام عدن وَغَيرهم من الْخِيَانَة وَكَانَ كثير الْعِبَادَة
أَخْبرنِي شَيْخي أَحْمد بن عَليّ الْحرَازِي الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَن الْفَقِيه مُحَمَّد بن أبي بكر الأصبحي قدم عدن على هَذَا القَاضِي وَهُوَ إِذْ ذَاك شَاب قد تفقه فَكَانَ يحضر مجْلِس القَاضِي ويستمع إلقاءه فيجيب مبادرا فَيَقُول القَاضِي هَذَا يخرج فَقِيها فَكَانَ كَمَا قَالَ وَلَقَد أَخْبرنِي الْفَقِيه عبد الْملك الْوراق بعدن قَالَ أَخْبرنِي من أَثِق بِهِ من خبر هَذَا القَاضِي أَنه كَانَ يتَصَدَّق كل يَوْم بِدِينَار خبْزًا وَلما دخل شمس الدّين البيلقاني عدن صَحبه وتتلمذ لَهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْوَجِيز للغزالي وَلم يكن إِذْ ذَاك أظهر شَيْئا من معتقده الَّذِي شهر بِهِ فَلَمَّا أظهره انشقت الْعَصَا بَينهمَا وتهدد القَاضِي من حضر مَجْلِسه أَو قَرَأَ عَلَيْهِ فَتفرق غَالب النَّاس عَنهُ فصاروا نافرين وَمن رغب بِالْأَخْذِ عَنهُ أَتَاهُ سرا إِن خشِي من القَاضِي وَكَانَ السُّلْطَان المظفر قد جعله مدرسا فِي مدرسة أَبِيه الْمَنْصُور فَلم يهن ذَلِك على القَاضِي لما رأى من قصوره فِي معرفَة الْفِقْه ولمباينة المعتقد فَمَا زَالَ يفكر فِي إِخْرَاجه عَن الْمدرسَة حَتَّى أجمع رَأْيه على أَنه يَأْمر بعض الطّلبَة يسْأَله كَمَا سَيَأْتِي فِي ذكر البيلقاني وَكَانَ القَاضِي هَذَا من أهل الحمية والعصبية الَّذين لَا تأخذهم فِي الله لومة لائم وَكَانَ فِي عدن نَاظر يعرف بالجزري وَكَانَ متعصبا مَعَ البيلقاني وَرُبمَا كَانَ السَّبَب فِي إشفاق السُّلْطَان عَلَيْهِ فَكتب إِلَى السُّلْطَان يتَكَلَّم على القَاضِي مَا لَيْسَ بِحَق نصرا للبيلقاني فَعَاد جَوَاب السُّلْطَان إِلَى الْجَزرِي يعده بعزل القَاضِي فِي وَقت معِين فَمن شدَّة فَرح النَّاظر بذلك أخبر بذلك كافور البالكي الْآتِي ذكره وَكَانَ مِمَّن يصحب القَاضِي وَيُحِبهُ فَأخْبرهُ بذلك وَقَالَ لَهُ اجْتمع بالأمير عَبَّاس وَأخْبرهُ بِمَا فعل الْجَزرِي فَفعل ذَلِك وَكَانَ عَبَّاس على مُعْتَقد القَاضِي فشق عَلَيْهِ وَكتب إِلَى المظفر ورقة يُخبرهُ بصلاح القَاضِي وَدينه وَأَنه قل أَن يسْتَبْدل بِهِ وَيَقُول قد بَلغنِي أَن بعض من لَا خير فِيهِ كتب إِلَى مَوْلَانَا يتَكَلَّم عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَأَنه غير صَادِق فجوب لَهُ السُّلْطَان يَقُول لَهُ لقد تحققنا مَا ذكرت عَن القَاضِي لسنا نسْمع فِيهِ كلَاما فلتطب نَفسك وَنَفسه واسأله لنا الدُّعَاء أَو كَمَا قَالَ وشق على السُّلْطَان كَون الْجَزرِي أذاع مَا كتب بِهِ إِلَيْهِ من عزل القَاضِي وأكن ذَلِك فِي نَفسه فَلَمَّا جَاءَ الْوَقْت الَّذِي يرقب فِيهِ عزل القَاضِي وَلم يعْزل ظن أَن السُّلْطَان قد نسي فَكتب إِلَيْهِ يستنجزه الْوَعْد فَعَاد جَوَابه يَقُول لَهُ لَوْلَا خوف الله لعملنا بهلاكك إِذْ نفشي إِلَيْك سرا تذيعه فَكَانَ ذَلِك آخر مُكَاتبَة جرت من الْجَزرِي فِي حَقه ثمَّ بعد عود المظفر من الْحَج دخل عدن فَشَكا أَهلهَا من الْجَزرِي وفظاظته وجبروته فَأمر السُّلْطَان القَاضِي الْبَهَاء أَن يحاقق بَينه وَبينهمْ فَكَانَ ذَلِك فِي الْجَامِع
فَقَالُوا لَا نَفْعل ذَلِك حَتَّى يكون بِأَيْدِينَا ذمَّة أَنه لَا يبْقى يتَصَرَّف علينا فَفعل السُّلْطَان لَهُم ذَلِك وحققوا عَلَيْهِ جملَة مستكثرة وهموا أَن يبطشوا بِهِ لَوْلَا مَانع عَنهُ جمَاعَة من أهل الدولة ثمَّ صودر وَضرب ثَلَاث مَرَّات فَسلم ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار ثمَّ ضرب وعصر فَلم يقدر على شَيْء وَصَارَت جَارِيَته وَبنَاته يدرن بيُوت أَصْحَابه الَّذين كَانَ يواليهم فيقفلون فِي وُجُوههم الْأَبْوَاب فَقدر أَن جَاءُوا بَاب القَاضِي فوجدوه مَفْتُوحًا فدخلوه فحين وَقعت عين القَاضِي عَلَيْهِم رحب بهم ورق لَهُم وَبكى ثمَّ ناولهم صرة بهَا ثلثمِائة دِينَار فضَّة بعد أَن أطْعمهُم وبرهم فَلَمَّا عَادوا إِلَى أَبِيهِم سَأَلَهُمْ عَن حَالهم وَأَخْبرُوهُ الْقِصَّة فَكَانَ بعد ذَلِك يَقُول لمن يتحدث مَعَه وَرُبمَا ابْتَدَأَ ذَلِك مَا الْبعيد إِلَّا ولد زنا وَذَلِكَ أنني أَسَأْت كثيرا كثيرا إِلَى هَذَا القَاضِي وَجرى مِنْهُ مَا هُوَ كَذَا وَكَذَا وَفِي عدن جمَاعَة أَصْحَاب أَحْسَنت إِلَيْهِم وصاروا أهل ثروة مَا أعلم أحدا مِنْهُم لما نكبت كَانَ يسلم عَليّ السَّلَام الشَّرْعِيّ وَلَو لم يكن لهَذَا القَاضِي من المكارم غير هَذِه لكَانَتْ كَافِيَة شافية وَله مُصَنف جيد فِي أصُول الدّين وسأذكر بعض مَا جرى بَينه وَبَين البيلقاني حِين أذكرهُ فِي الواردين إِلَى عدن وَمَكَارِم هَذَا الرجل كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته بثغر عدن يَوْم الثُّلَاثَاء اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت من صفر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وقبر بالقطيع فِي حياط ينْسب إِلَى آل الْفَارِسِي الْآتِي ذكرهم فِي أهل عدن إِن شَاءَ الله وَإِلَى جنبه قبر جمَاعَة من الْحُكَّام الَّذين توفوا بعده كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَقد زرت قَبره مرَارًا وتبركت بِهِ وَقد عرض مَعَ ذكره رجلَانِ من الْأَعْيَان الأول أَبُو مُحَمَّد عَبَّاس بن عبد الْجَلِيل بن عبد الرَّحْمَن التغلبي أصل بَلَده جبل ذخر بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وخفض الْخَاء وَسُكُون الرَّاء كَانَ ذَا مَال جزيل وجاه كَبِير أَكثر مَاله من التِّجَارَة وَكَانَ أَكثر النَّاس صَدَقَة ومعروفا وَكَانَت ولَايَته تَارَة بعدن وغالبها زبيد وَله فِيهَا مدرسة حَسَنَة جعلهَا ابْنه مُحَمَّد بعد مَوته وَهِي الدَّار الَّتِي كَانَت لِأَبِيهِ وَكَذَلِكَ فِي بَيت حُسَيْن وَله بقرية السَّلامَة مَسْجِد وَله على كل وقف يقوم بِهِ وصدقاته كَثِيرَة ومعاملته مَعَ الله جليلة بِحَيْثُ يعز حصرها وَكَانَ إِذا أقبل الْحجَّاج وَهُوَ فِي بلد مروا عِنْده فيكسوهم ويعطيهم مَا يوصلهم بلدهم الَّتِي يذكرُونَ أَنهم قاصدون لَهَا وَإِن كَانُوا من الْبَلَد أَعْطَاهُم مَا يزيلون بِهِ وعثاء السّفر وَقد أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه كَانَ يتشبه بهم جمَاعَة فِي زيهم يأْتونَ إِلَيْهِ فيعطيهم مَا يَلِيق بحالهم وَله من الْآثَار المبقية للذّكر
مدرسة فِي بَلَده ذخر فِي مَوضِع يعرف بالحبيل بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ لَام وَكَانَت وَفَاته بزبيد سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَخلف أَوْلَادًا رَأس مِنْهُم مُحَمَّد نَالَ مرتبَة عِنْد الْملك المظفر وَرفع لَهُ طبلخانة وَجعله من جملَة حرفائه وَكَانَ أَمِيرا شهما فَارِسًا مقداما لَكِن غلب عَلَيْهِ الْعجب فَكثر عَلَيْهِ إِلَى السُّلْطَان وَقيل لَهُ عَنهُ بِأُمُور لَا يحْتَمل الْمُلُوك بَعْضهَا فَلَزِمَهُ وكحله بزبيد وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وَسَار إِلَى بَيت ابْن عجيل الْمُقدم ذكره وَلم يزل مترددا بَين بَيت الْفَقِيه وزبيد إِلَى أَن توفّي فِي رَمَضَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَخلف أَوْلَادًا رَأس مِنْهُم اثْنَان أَحْمد وعباس فَأَحْمَد توفّي بعد أَن ولي زبيد ونال بعض شَفَقَة من الْملك المظفر وَذَلِكَ لنيف وَتِسْعين وسِتمِائَة وَأما عَبَّاس فَإِنَّهُ نَشأ فِي صنعاء وَأمه ابْنة الْأَمِير سنجر الشّعبِيّ أحد أخيار أُمَرَاء الغز ثمَّ إِنَّه نَالَ من الْملك الْمُؤَيد شَفَقَة جَيِّدَة وَقَاتل قتالا جيدا فِي مخارج كَثِيرَة بَان للسُّلْطَان ذَلِك بِصُحْبَتِهِ وَله وقعات كَثِيرَة أَجَاد بهَا وَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا رد الإِمَام ابْن مطهر من بَاب صنعاء وَقد أشرف على أَخذهَا هُوَ وأكراد ذمار ثمَّ لم يقف بعد ذَلِك حَتَّى رفع لَهُ الْمُؤَيد طبلخانة وأقطعه إقطاعا جيدا ثمَّ أَنه امتحن بِمَرَض يعرف بالنقرس وَطَالَ بِهِ سِنِين فاستحى من أَخذ الإقطاع وَقلة الْمخْرج فَجعل يلازم الْمُؤَيد بالاستعادة الطبلخانة والإقطاع فتوقف مرَارًا ثمَّ غلب عَلَيْهِ الْيَأْس من عافيته فاستعاد ذَلِك ثمَّ أقطعه إقطاعا لطيفا يقوم بِاثْنَيْ عشر ألفا بِسَبَبِهِ وَحصل من حسده على ذَلِك وَحسن للمؤيد أَن لَا يقطعهُ إِذْ هُوَ صَاحب مَال جزيل فَمَال إِلَى ذَلِك وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا يذكر بِالْعقلِ والرجلة فِي الرَّأْي وَغَيره وَغلب عَلَيْهِ الْمَرَض الْمَذْكُور وَمَعَهُ ابْن لِأَخِيهِ أَحْمد اسْمه عبد الْجَلِيل كَانَ يتَوَلَّى بَاب عَمه وَالْقِيَام بِهِ أَيَّام الطبلخانة وَمِنْهُم بَقِيَّة بزبيد
وَالْآخر من الْأَعْيَان هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الْجَزرِي قدم عدن وَنزل فِي الْمدرسَة المنصورية وَكَانَ من أَعْيَان أَبنَاء الجزيرة فَعرفهُ جمَاعَة من التُّجَّار وَغَيرهم وَكَتَبُوا إِلَى السُّلْطَان يعلمونه بِهِ وَأَنه من أَبنَاء النَّاس وَأَن لَهُ خبْرَة جَيِّدَة فِي الْكِتَابَة فَأمره السُّلْطَان أَن يتَوَلَّى ديوَان النّظر بعدن فَفعل ذَلِك وَكَانَ يلقب بالفقيه شمس الدّين وَقَرَأَ عَلَيْهِ شَيْئا من الْعلم وَرُبمَا أَقرَأ فِي
بَيته وَفِي الفرضة جمَاعَة من الطّلبَة شَيْئا من الْعلم وَكَانَ يعْمل فِي كل يَوْم سماطا يحضرهُ جمع من وُجُوه التُّجَّار وَجَمِيع الْفُقَرَاء لَا يمْنَع أحد وَمَعَ ذَلِك يواسي كلا مِنْهُم بِمَا سَأَلَ وَمَا لَاق وَبِالْجُمْلَةِ أخباره الجميلة كَثِيرَة وَكَانَت فِيهِ مَكَارِم أَخْلَاق مَا قَصده قَاصد فخاب وَلَوْلَا أَنه كَانَ عسوفا لَكَانَ من أخيار النَّاس ظَاهرا وَبَاطنا وَله مَكَارِم يطول تعدادها مِنْهَا مَا أَخْبرنِي وَالِدي عَن الْفَقِيه أبي بكر السرددي أَنه قَالَ كنت بلحج أعلم لبَعض أعيانها فَجرى فِي بعض الْأَيَّام ذكر أبي نواس ثمَّ ذكر أبياته ذَوَات الكافات الثَّلَاث الَّتِي يَقُول فِيهَا ... انعمي بِالرِّضَا يَا سيدتي ... وامنحينا عسلا من عككك
مَا على أهلك مَا ضرهم ... لَو مشينا سَاعَة فِي سككك
لَيْتَني المسواك أَو يَا لَيْتَني ... تكة منقوشة من تككك ... وَكنت فِي مجْلِس بِهِ جمَاعَة يتعانون الْأَدَب فَكل مِنْهُم ادّعى أَنه يُطيق مشابهتها فَلم يطيقوا حَتَّى قلت أبياتا مِنْهَا ... يَا دَار سلمى لَيْتَني ... دكة مفروشة من دككك ... من روى الأبيات للجزري فَقدر أَنِّي دخلت عدن وَعرضت لي حَاجَة إِلَى الْجَزرِي فَكتبت إِلَيْهِ بِسَبَبِهَا فحين وقف على رقعتي استدعاني فَلَمَّا قربت مِنْهُ حياني وأكرمني وسألني الأبيات فرويتها لَهُ وَكَانَ تِلْكَ السّنة قد حج المظفر وهم فِي عمل مدارية ونسميها فِي الْجبَال شجمات وَقد تسمى أراجيح وَعمل غَالب أَعْيَان أهل عدن كل وَاحِد مِنْهُم شجمة شَيْء يعْتَاد أهل الْيمن عمله لمن حج أول حجَّة وَعند نصبها إِذا كَانَت لرجل ذِي رئاسة قَامَ الشُّعَرَاء بأشعار يمدحون عَملهَا أَو من عملت لَهُ وضبطها بلغَة تهَامَة بِفَتْح الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة ثمَّ ألف ثمَّ خفض الرَّاء ثمَّ يَاء مثناة من
تَحت ثمَّ هَاء واحدتها مدروهه وبلغة أهل الْجَبَل بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْجِيم الْمُعْجَمَة وَالْمِيم ثمَّ هَاء سَاكِنة فَعمل الْجَزرِي مِنْهَا شَيْئا باسم السُّلْطَان وَاجْتمعَ النَّاس حوله فَأَرَادَ الشُّعَرَاء الْقيام وَقد كَانَ أَشَارَ إِلَيّ أَن أكون من جُمْلَتهمْ فَأمر من ناداني يَا فَقِيه أَبَا بكر يَا سرددي فأجبت فَقَالَ ادخل فَلَمَّا دخلت مقَامه قَالَ هَات مَا عملت فَقُمْت بقصيدتي فِي السُّلْطَان فَرمى عَليّ كسْوَة جَيِّدَة ثمَّ تشبه بِهِ جمَاعَة من التُّجَّار ثمَّ رمى لي بِدَنَانِير ذهب فأمال الْحَاضِرُونَ على شَيْء كثير من الذَّهَب وَالْفِضَّة حَتَّى اجْتمع لي كثير من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْكِسْوَة وَبِالْجُمْلَةِ مكارمه كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته لنيف وَسِتِّينَ وسِتمِائَة حُكيَ أَن المظفر لما بلغه شدَّة وَجَعه أَمر إِلَيْهِ يخبر بَاطِنه ويعده بِالْخَيرِ أنْشد
وجادت بوصل حِين لَا ينفع الْوَصْل ... نرْجِع إِلَى تَتِمَّة فُقَهَاء ذِي أشرق مِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن الْفَقِيه القَاضِي مُحَمَّد بن أسعد مقدم الذّكر مولده ثامن عشر جُمَادَى الْأُخْرَى سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ولي قَضَاء عدن أَيَّامًا ثمَّ كاده تَاجر يُقَال لَهُ ابْن نكاس بِأَن كذب عَلَيْهِ إِلَى الْملك المظفر فَحَمله على الصدْق وَأمر القَاضِي البهآ أَن يعزله وَلم يفلح التَّاجِر بعد ذَلِك بل أخرجه الله من عدن وَأَسْكَنَهُ بَين الْكفَّار بِالْهِنْدِ وَصَارَ غُلَاما لملك مِنْهُم إِلَى أَن توفّي هُنَالك على حَال غير مرضية عِنْد ذَوي الدّين وَالدُّنْيَا وَأما عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهُ لما انْفَصل من عدن وَكَانَ ذَا عبَادَة وزهادة واجتهاد فِي الْعلم وَشهر بذلك كرهه بعض أهل الْوَقْت وكاده إِلَى أهل سير الْقُضَاة فكرهوه وَظهر لَهُ مِنْهُم ذَلِك فلاذ بِالْملكِ الْأَشْرَف بن المظفر توقيا لشرهم فَجعله وزيرا لَهُ وَأحسن إِلَيْهِ فَلم يزل مَعَه مجللا حَتَّى توفّي آخر يَوْم من رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة
وَمِنْهُم عَليّ بن عمر بن مَسْعُود ابْن أخي القَاضِي مَسْعُود الَّذِي تقدم ذكره وَأَنه كَانَ جيدا صَالحا ولي قَضَاء صنعاء بُرْهَة من الدَّهْر وَكَانَ القَاضِي عمر بن مَسْعُود أَخَاهُ لأمه فاستعفى الْمَنْصُور وَكَانَ إِذْ ذَاك مراهقا وَسَيَأْتِي ذَلِك مَعَ ذكره إِن شَاءَ الله وَحج هَذَا عَليّ بن عمر وَعَاد إِلَى زبيد فَتوفي بهَا فِي شهر صفر سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة
وَمِنْهُم عبد الله بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل المأربي الْآتِي ذكره كَانَ فَقِيها صَالحا متعبدا ورعا زاهدا متقللا رأى لَيْلَة الْقدر مرَارًا فَقَالَ لَهُ وَلَده يَا أبي بِاللَّه إِذا رَأَيْت لَيْلَة
الْقدر فأدع الله أَن يفتح علينا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ أُفٍّ لَك يَا بني رَأَيْتهَا نيفا وَعشْرين مرّة مَا سَأَلت الله شَيْئا من أُمُور الْآخِرَة فَكيف أسأله أُمُور الدُّنْيَا لقد كنت أعدك رجلا وَكَانَت وَفَاته بِذِي أشرق على الطَّرِيق المرضي وَلما دنت وَفَاة القَاضِي عبد الرَّحْمَن مقدم الذّكر أوصى أَن يدْفن إِلَى جنبه لما يَعْتَقِدهُ فِيهِ من الصّلاح
وَمِنْهُم أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان الملقب بالجنيد مُحَمَّد بن أسعد بن هَمدَان بن يعفر بن أبي النهى مولده سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة وَذَلِكَ بقرية العدن من بلد صهْبَان وَكَانَ وَالِده فَقِيها فَاضلا تفقه بِمُحَمد بن عَليّ الْحَافِظ العرشاني وأصل بلدهم ريمة المناخي وَسكن الْقرْيَة الْمَذْكُورَة وَعنهُ أَخذ ابْنه وَتُوفِّي بِهَذِهِ الْقرْيَة سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَأما ابْنه هَذَا فَكَانَ سيدا نبيلا وامتحن بِقَضَاء مدينتي الْيمن عدن وزبيد ثمَّ عوفي من الْجَمِيع وَذكر بَعضهم أَنه إِنَّمَا امتحن بذلك لِأَنَّهُ عَابَ بعض حكام زَمَانه فِي شَيْء مِمَّا هُوَ بِهِ فَقيل لَهُ سنذيقك مَا ذاق فَلَمَّا امتحن بِقَضَاء عدن اسْتغْفر الله تَعَالَى وَتَابَ ثمَّ عزل نَفسه وَعَاد بَلَده فَقيل لَهُ عَاد لَك قَضَاء زبيد فامتحن بِهِ ثمَّ عزل نَفسه وَعَاد بَلَده ثمَّ انْتقل إِلَى ذِي أشرق وَكَانَ الزَّاهِد العابد مَقْصُودا للزيارة مَشْهُورا باستجابة الدعْوَة حَتَّى أَن الْفَقِيه عمر بن سعيد العقيبي الْآتِي ذكره كَانَ كثيرا مَا يزوره وَيَأْمُر أَصْحَابه بزيارته فَذكرُوا أَنه زَارَهُ مَعَ جمَاعَة من أَصْحَابه فَلَمَّا وصلوه لم يزدهم على الْقيام وَهُوَ على مُصَلَّاهُ والمصافحة لَهُم وأقعدهم وقعدوا وتحدثوا سَاعَة ثمَّ سَأَلَهُ الْفَقِيه الدُّعَاء فَمد يَده ودعا ثمَّ وادعهم وفارقوه وَكَانُوا وَقت وصلوا إِلَيْهِ مَعَهم فاقة فحين خَرجُوا قَالُوا نجد فِي نجد المحرس أَو نجد العكايف الطَّعَام يُبَاع فنشتري مِنْهُ فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الْمَوْضِعَيْنِ لم يَجدوا بهما شَيْئا من الطَّعَام وأمضهم الْجُوع والتعب فعتب غالبهم على الْفَقِيه الْجُنَيْد كَونه لم يُطعمهُمْ حَتَّى أَرَادَ بَعضهم أَن يَقُول لَو كَانَ الْجُنَيْد يطعم الطَّعَام لَكَانَ أفضل لَهُ من الْعِبَادَة فزجره الْفَقِيه عمر عَن الْكَلَام وَقَالَ مهلا الْمَوْضُوع مَحْفُوظ ثمَّ لم يصل الْفَقِيه ذَا عقيب إِلَّا وَأَصْحَابه قد كَادُوا يهْلكُونَ جوعا فأدخلهم بَيته وأتاهم بِطَعَام فأكلوه ثمَّ بعد أَيَّام عزم على إِعَادَة الزِّيَارَة فَأمر أَصْحَابه الَّذين خَرجُوا مَعَه أَولا أَن يخرجُوا مَعَه ثَانِيًا فَأَجَابُوهُ وَسَارُوا مَعَه على كره إِذْ لَا يَسْتَطِيعُونَ خلاف الْفَقِيه بعد أَن احتملوا طَعَاما مَعَهم وَسَارُوا فَلَمَّا دنو من ذِي
أشرق خرج الْفَقِيه فَلَقِيَهُمْ وَسلم عَلَيْهِم سَلاما مكملا بالبشر والأنس وَصَارَ كلما مر مِنْهُم ثَلَاث أَربع خطوَات أقبل عَلَيْهِم ورحب بهم وَأهل وَسَهل ثمَّ أدخلهم منزله وأتى لَهُم بِطَعَام كثير فَأَكَلُوا حَتَّى اكتفوا فَلَمَّا غسلوا أَيْديهم سَأَلُوهُ أَن يَدْعُو لَهُم فَدَعَا لَهُم ثمَّ استودعوه وَخَرجُوا عائدين فَقَالَ الْفَقِيه عمر لأَصْحَابه فِي أثْنَاء الطَّرِيق مَا بَقِي سُلَيْمَان يتْرك الْإِطْعَام أبدا وَكَانَت لَهُ كرامات يجل قدرهَا عَن الْحصْر وببركته وإشارته عمل الطواشي مُخْتَصّ المطاهير بِجَامِع ذِي أشرق وَكَانَت وَفَاته على الْحَال المرضي بالقرية الْمَذْكُورَة حَيْثُ انْتقل ظهر الْأَرْبَعَاء منتصف صفر من سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وقبر بالعدينة حَيْثُ قبر بَنو الإِمَام وَهِي بِفَتْح الْعين وخفض الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح النُّون وَسُكُون الْهَاء وَهِي مَقْبرَة كَبِيرَة قديمَة شَرْقي الْقرْيَة فقبر بهَا جمع من الأخيار وَخَلفه ولدان أدركتهما أَحْمد أكبرهما وَكَانَ متعبدا يحب الْعُزْلَة وَهُوَ مَوْجُود فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَالْآخر اسْمه عمر تفقه بِسَعِيد العودري الْآتِي ذكره وَكَانَ هُوَ السَّبَب فِي انْتِقَاله إِلَى ذِي أشرق وَكَانَ صَالحا ذَا كرامات وَكَانَت وَفَاته ثامن الْمحرم من سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة وقبر إِلَى جنب قبر أَبِيه فِي الْمقْبرَة الْمَذْكُورَة
وَمِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَقِيه أَحْمد بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مَنْصُور الْجُنَيْد الَّذِي ذكره ابْن سَمُرَة وَقَالَ توفّي بالسرين عَائِدًا من الْحَج كَانَ عَليّ هَذَا تقيا خيرا تفقه بِحسن بن رَاشد وبعمر بن يحيى وَالْإِمَام مقدم الذّكر وَغَيره ثمَّ امتحن بِقَضَاء ذِي أشرق وَإِلَيْهِ انْتهى تدريسها فَذكرُوا أَنه كَانَ يَوْمًا بِمَجْلِس التدريس إِذْ قَالَ لأَصْحَابه الْيَوْم نَحن فُقَهَاء وَغدا نَكُون صوفية فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي قدم إِلَيْهِ رجل من أهل بعدان صوفي من أَصْحَاب الشَّيْخ عمر بن المسن يُقَال لَهُ حبريل فَقَالَ لَهُ يَا عَليّ كن مَعنا وَمد إِلَيْهِ يَده فَحكمه ثمَّ نَصبه شَيخا وَأذن لَهُ فِي التَّحْكِيم وَكَانَ الْفَقِيه أَبُو بكر التعزي إِذْ ذَاك فِي أول ظُهُوره وتعرضه للشهرة وتظاهره بِصُحْبَة الصُّوفِيَّة ومحبتهم وَهُوَ شَاب فوصل إِلَى هَذَا الْفَقِيه وتتلمذ لَهُ فِي التَّوَاضُع وَكَانَ من أظرف النَّاس فِي اجتلاب الْقُلُوب عَلَيْهِ فَأَحبهُ الْفَقِيه على أَنه صَار يتواضع لَهُ ويعظمه ثمَّ جلبه إِلَى تعز وتلطف لَهُ بتدريس الْمدرسَة الأَسدِية بمغربة تعز فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَنزل فدرس بهَا
مُدَّة وَعجب النَّاس من ذَلِك أَشد الْعجب إِذْ كَانُوا يرَوْنَ الْفَقِيه لَو تعرض عَلَيْهِ الْخلَافَة لأعرض عَنْهَا وَعَلمُوا أَن ذَلِك سَلامَة بَاطِن مِنْهُ واستدراج من الْفَقِيه أبي بكر وَلم يزل على تدريس الْمدرسَة الْمَذْكُورَة حَتَّى توفّي مستهل الْحجَّة من سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بعد بُلُوغ عمره أَرْبعا وَخمسين سنة
وَمِنْهُم أَبُو الْخطاب عمر بن سعيد بن مُحَمَّد بن عَليّ الربيعي الكعومي الجميلي مولده على رَأس سِتّمائَة وَكَانَ فَقِيها مُحدثا أَخذ عَن أَخِيه لأمه عَليّ بن عمر مقدم الذّكر وَعَن غَيره من الْعلمَاء الَّذين يجْتَمع مَعَهم بِصَنْعَاء وَغَيرهَا من بِلَاد الْيمن عرضت ولَايَته لقَضَاء صنعاء حِين عزل أَخُوهُ نَفسه وَاعْتذر وَكَانَ من أفْصح النَّاس الْخطْبَة وَأَحْسَنهمْ رِوَايَة للْحَدِيث وَالتَّفْسِير وَمَتى حضر مَجْلِسا لم يبْق لأحد فِيهِ قدر يتَكَلَّم بِشَيْء دونه وَكَانَ حَافِظًا للفقه وَالتَّفْسِير لَدَيْهِ معرفَة بالفقه لائقة وَكتب إِلَى المستعصم آخر خَليفَة بِبَغْدَاد يسْأَله أَن يَأْذَن لَهُ فِي الحكم بِصَنْعَاء ونواحيها فوصله خطه بذلك فَكَانَ القَاضِي الْبَهَاء لَا حكم لَهُ فِي شَيْء من تِلْكَ النواحي من رَأس نقِيل صيد حَتَّى تجَاوز عمل السُّلْطَان المظفر إِلَى خلف صنعاء فَكَانَت بَينهمَا بذلك مكارهة وَكَانَ يهم بحرقه وَكسر حرمته فَلم يسْتَطع ذَلِك وَكَانَ هَذَا القَاضِي مَعَ اشْتِغَاله بِالْقضَاءِ راتبه كل يَوْم ثلث الْقُرْآن وَكَانَ رزقه على الْقَضَاء ورزق حكام الْجِهَة من الْجِزْيَة وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي فَلذَلِك صَار مُنْذُ توفّي آمُر الْجِزْيَة يسْتَند عَلَيْهِ الْقُضَاة الأكابر كقضاء الْقُضَاة والوزراء إِلَى عصرنا وَكَانَ حسن السياسة أَحْكَامه كَمَا شَرط لينًا من غير ضعف قَوِيا من غير عنف مَعَ كَثْرَة صِيَام وَقيام وَكَانَ متعصبا للسّنة مجانبا لأهل الْبِدْعَة وَكَانَ المظفر يعظمه ويجله وَبِذَلِك عجز القَاضِي الْبَهَاء عَن إِسْقَاطه وَلم تزل جِزْيَة الْيَهُود وجامكية من جَاءَ مَعَه إِلَى أَن هلك فَأخذ بَنو عمرَان الْجِزْيَة إِلَيْهِم وَجعلُوا لحَاكم كل بلد جامكية من الْوَقْف وَرُبمَا جَعَلُوهُ من مَال الدِّيوَان واستمروا على ذَلِك هم وكل وَزِير جَاءَ بعدهمْ فَصَارَ الْحُكَّام هُنَالك يَأْخُذُونَ مَا لَا يحل لَهُم وَيمْنَعُونَ مَا هُوَ لَهُم حَلَال فَهَذِهِ سنة رتبها بَنو عمرَان غَالِبا واحترزت
بالغالب عَن الْبِلَاد اليمنية كإب وجبلة والجند وتعز وَنَحْوهَا فَإِن تَغْيِير ذَلِك كَانَ من المظفر كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه مَعَ القَاضِي عَبَّاس بِذِي جبلة وَكَانَ هَذَا القَاضِي لَهُ جاه جيد عِنْد مُلُوك بني رَسُول وأمرائهم وَكَانُوا محسنين إِلَيْهِ وَكَانَ ذَا دنيا متسعة اتساعا كليا اشْترى أَرضًا كَثِيرَة فِي السحول والشوافي وَغَيرهمَا وَكَانَ كثيرا مَا ينزل وَيقف عِنْدهَا ويستوطن أشهرا بِمَدِينَة إب وَغَيرهَا من الْيمن الْأَوْسَط وَمن عَجِيب مَا جرى لَهُ أَنه كَانَ قَاعِدا مَعَ الْأَمِير الشّعبِيّ فِي دَار السُّلْطَان بِصَنْعَاء إِذْ خرب عَلَيْهِم الدَّار وَمَعَهُمْ جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن حَاتِم وَأَخُوهُ وَمُحَمّد بن بدر صهر الشّعبِيّ فَمَاتَ الْجَمِيع لم يخرج مِنْهُم أحد من تَحت الْهدم وَهلك الْبَاقُونَ غير هَذَا القَاضِي وَمُحَمّد بن حَاتِم الْهَمدَانِي فَكَانَ القَاضِي يَقُول لما تهور الدَّار رَأَيْت رجلا كَبِير السن قد التقى عني خَشَبَة وَسُحْقًا سقفهما عَليّ فَلم يصلني الْهدم فَقلت لَهُ من أَنْت الَّذِي من الله عَليّ بك فِي هَذَا الْوَقْت فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وَكَانَت وَفَاته تَقْرِيبًا على الْقَضَاء بِمَدِينَة صنعاء سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة تَقْرِيبًا وَقد أَخذ عَنهُ جمَاعَة من أهل صنعاء وَغَيرهم وَله ذُرِّيَّة كَثِيرَة لم يقم أحد مِنْهُم مقَامه وَهُوَ أَكثر الْقُضَاة ذُرِّيَّة وَأَكْثَرهم رواجا فِي صنعاء وإب وَغَيرهمَا
وَمِنْهُم عمر بن مُحَمَّد بن عَليّ الجرهمي من قوم بالقرية يُقَال لَهَا الجراهمة تفقه بِعَبْد الله بن الإِمَام مقدم الذّكر وبعلي الْجُنَيْد ولي قَضَاء ذِي أشرق وَكَانَ فرضيا عَارِفًا بِعلم الْمَوَارِيث وَتُوفِّي بهَا سنة خمس وسِتمِائَة
وَمِنْهُم سعيد بن عمرَان بن سُلَيْمَان العودري تفقه بشيخي أبي الْحسن الأصبحي الْآتِي ذكره وَكَانَ قد انْتقل من الذنبتين ودرس بمدرسة الْحرَّة حلل الَّتِي تقدم ذكرهَا مَعَ ذكر عَليّ بن يحيى الْأَمِير وَكنت لَهُ الْوَاسِطَة بذلك مَعَ القَاضِي عبد الله بن أسعد بمكاتبة شَيْخي لَهُ فَلبث بهَا سِنِين قَلَائِل وَنقل الْفَقِيه عمر بن الْفَقِيه سُلَيْمَان الْجُنَيْد الْمُقدم ذكره إِلَى ذِي أشرق لِأَنَّهُ كَانَ رَاغِبًا فِي قِرَاءَة الْعلم عَلَيْهِ إِذْ قَامَ مُدَّة يخْتَلف إِلَيْهِ من ذِي أشرق إِلَى الْمدرسَة ثمَّ صَعب ذَلِك على الْفَقِيه عمر فَجعل لَهُ سَببا من وقف مَعَهم بِذِي أشرق نظرهم عَلَيْهِ وَهُوَ من وقف الطواشي مُخْتَصّ فانتقل الْفَقِيه إِلَى ذِي أشرق وزهد بِالْمَدْرَسَةِ وَلم يزل سَاكِنا بِذِي أشرق حَتَّى توفّي عقيب موت شَيْخه أبي الْحسن بأيام وَذَلِكَ سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة فِي الْمحرم وقبره بالمقبرة الْمَذْكُورَة مَعَ
الْفُقَهَاء وأصل بَلَده جبل يُقَال لَهُ الْعود بِعَين مُهْملَة مَفْتُوحَة بعد ألف وَلَام وَسُكُون الْوَاو ثمَّ دَال مُهْملَة وَكَانَ أَحْمد بن عبد الله اليحيوي بهَا ودرس وَكَانَ ذَاكِرًا للفقه فَاضلا توفّي لنيف وَسَبْعمائة ثمَّ درس بهَا يحيى بن مُحَمَّد بن أبي الرجا ثمَّ آخر من تحققته الْفَقِيه حسن بن مُحَمَّد العماكري انْتفع بِهِ جمَاعَة من أهل الْقرْيَة وَتُوفِّي على ذَلِك بقريته على مَا سَيَأْتِي تَارِيخه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَذكر ابْن سَمُرَة جمَاعَة فِي الطّلبَة أَيْضا مِنْهُم أَحْمد بن مقبل ذكره مَعَ ذكر ابْن أبي الْيَقظَان الْمَذْكُور فِي أهل السفال وَعبد الله بن زيد العريقي
فَأَما أَحْمد فَهُوَ ابْن الْفَقِيه مقبل الدثيني مقدم الذّكر مولده سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة بِذِي أشرق سكنها مُدَّة ثمَّ انْتقل إِلَى مَوضِع يُسمى عرج وزن فعل بِفَتْح الْعين اشْتَرَاهُ وَهُوَ أول من أسس قريته وتفقه بِالْإِمَامِ سيف السّنة وَيزِيد بن عبد الله الزبراني وَغَيرهمَا وَكَانَ فَقِيها حَافِظًا محققا مدققا وتصنيفه لكتاب الْجَامِع يدل على ذَلِك وَبِه تفقه جمَاعَة مِنْهُم عمر بن الْحداد والشكيل وابناه مُحَمَّد وَأَبُو بكر وَكتابه الَّذِي صنفه مَوْجُود مَعَ ذُريَّته بالموضع الْمَذْكُور وَله فِي أصُول الْفِقْه كتاب سَمَّاهُ الْإِيضَاح وَله شرح الْمُشكل من كتاب اللمع وَكتابه الْجَامِع فِي أَرْبَعَة مجلدات كبار يزِيد حجمه على الْمُهَذّب وَهُوَ أحد الْفُقَهَاء الَّذين ذكرت ذَرَارِيهمْ بِحَيْثُ أَن ذُريَّته الْآن تزيد على الْأَرْبَعين رجلا سوى النِّسَاء وهم مجتمعون بالموضع فيهم خير يقومُونَ بالوارد إِلَيْهِم لَكِن شغلوا بالأزدراع وَغَيره من أُمُور الدُّنْيَا وامتحن هَذَا أَحْمد بِقَضَاء عدن وَعَاد بَلَده فَتوفي بهَا سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَخَلفه ابْنه مُحَمَّد مولده سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة تفقه بِأَبِيهِ كَمَا قدمنَا وَهُوَ أحد مدرسي الْمدرسَة المنصورية بالجند وتفقه بِهِ جمَاعَة من أَهلهَا وَعَاد بَلَده فَتوفي بهَا سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة فقبر إِلَى جنب قبر أَبِيه وَله أَخ اسْمه أَبُو بكر مولده سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فَقِيها فَاضلا وخطيبا كَامِلا ولي خطابة زبيد سِنِين ثمَّ توفّي بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ثمَّ خَلفه بقريتهم ابْن لَهُ اسْمه عبد الله بن أبي بكر مولده سنة ثَمَان وسِتمِائَة وتفقه بجده أَحْمد وزميله فِي الدَّرْس عمر بن الْحداد الْآتِي ذكره وَعرض عَلَيْهِ بَنو عمرَان أَن يتَوَلَّى قَضَاء عدن حَيْثُ كَانَ جده فكره وَامْتنع وَكَانَت وَفَاته بقريته الْمَذْكُورَة فِي رَمَضَان سنة إِحْدَى
وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَخَلفه ابْن لَهُ اسْمه مُحَمَّد هُوَ عين أَهله دينا وعقلا ورياسة فَقدمت بلدهم سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة فَوجدت لَهُ مَكَارِم أَخْلَاق وَلَيْسَ فيهم أحد يشْتَغل بالفقه فأذكره لَكِن مُحَمَّدًا هَذَا من أَعْيَان النَّاس وعقلائهم وَأهل بَلَده ونواحيها يرجعُونَ إِلَى قَوْله وَهُوَ الَّذِي أخرج لنا شَيْئا من كتب أَهله تتبعت مِنْهُ التَّارِيخ وَأما عبد الله بن زيد فَهُوَ عبد الله بن زيد بن مهْدي العريقي من أعروق أَيَّامه بِرَفْع الْهمزَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ ألف ثمَّ فتح الْمِيم ثمَّ هَاء سَاكِنة وَهِي قَرْيَة على قرب من حصن الشذف بهَا قوم هَذَا الْفَقِيه وَفِي الْقرْيَة سد متغير كلما أصلح تغير ينْقل قدماؤهم أَن سَبَب ذَلِك أَنه امْتَلَأَ مَاء فِي أول مرّة فَأَتَاهُ جمَاعَة من صبيان الْحَيّ وَفِيهِمْ ولد للفقيه فَسقط إِلَيْهِ وَمَات فِيهِ فَقيل للفقيه ذَلِك فَقَالَ لَا بَارك الله بِهِ من سد فانشق وَهُوَ كلما أصلح من جِهَة فسد من أُخْرَى وَكَانَ تفقه هَذَا عبد الله بِابْن أبي الْيَقظَان كَمَا ذكر ابْن سَمُرَة وَقد ثَبت أَنه أَخذ وتفقه على الإِمَام سيف السّنة وَأخذ رِوَايَته للْحَدِيث وَالْفِقْه عَنهُ وَكَانَ دَقِيق النّظر ثاقب الفطنة اتَّضَح لَهُ فِي مسَائِل الْخلاف مَا لم يَتَّضِح لفقهاء الْوَقْت إِذْ غلب عَلَيْهِم تَقْلِيد مَذْهَب الشَّافِعِي فَذهب فِي الْمسَائِل الَّتِي خَالف بهَا إِلَى أَقْوَال أَئِمَّة معتقدين ظهر لَهُم قُوَّة الْأَدِلَّة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَذَلِكَ بِخِلَاف مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل وَدَاوُد ونظرائهم فأنكروا عَلَيْهِ بِغَيْر إنصاف إِذْ لم يطيقوا الْإِنْكَار على غَيره مِمَّن قَالَ بقوله إِذْ أَكثر مَا فعلوا بالإنكار عدم قبُول قَوْله وعندما يوردون مَسْأَلَة فِيهَا خلاف أوردوا خِلَافه وَلم يتَعَرَّضُوا لَهُ بِسَبَب بل يعظمونه ويثنون عَلَيْهِ بِمَا يَنْبَغِي الثَّنَاء بِهِ على أهل الْعلم فالعجب للمتأخرين كَيفَ لَا يقتدون بالمتقدمين فِي ذَلِك
وَهَذَا الْفَقِيه كَانَ مَشْهُورا بِالْعلمِ وَالصَّلَاح وَإِذا نظر النَّاظر فِي مصنفاته علم غزارة علمه وجودة فَضله وَله عدَّة مصنفات فِي الْفِقْه وَالْأُصُول وَكَانَ نظيف الْفِقْه توفّي تَقْرِيبًا فِي عشر الْأَرْبَعين وسِتمِائَة فِي جَامع الصردف معتكفا إِذْ كَانَ كثير الِاعْتِكَاف وقبره بحياطة شَرْقي الْمَسْجِد زرته فِي آخر الْمحرم سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة ثمَّ زرته بعد ذَلِك مرَارًا فِي أَوْقَات مُتَفَرِّقَة وَلم يكن اعْتِكَافه إِلَّا بعد خلو الصردف عَن السكان
وَمِمَّنْ عده ابْن سَمُرَة أَيْضا فِي الطّلبَة مُحَمَّد بن أبي بكر بن مفلت وَقد تفقه بِمُحَمد بن مُوسَى يَعْنِي الْمَذْكُور أول ذكر أَصْحَاب صَاحب الْبَيَان فَلَمَّا اجْتمعت بِبَعْض ذُريَّته وَكَانَ مِنْهُم جمَاعَة يسكنون الْجند مِنْهُم شخص توفّي سنة خمس
وَعشْرين وَسَبْعمائة سَأَلته عَن نسب هَذَا الْفَقِيه فَقَالَ هُوَ أَبُو بكر بن مفلت بِضَم الْمِيم وَفتح الْفَاء وَاللَّام وتشديدها وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بن عَليّ بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سعيد بن قيس الْهَمدَانِي نسبا والجحافي بَلَدا نسبه إِلَى جبل هُوَ من أكبر جبال الْيمن وأكثرها عربا يُقَال لَهُ جحاف بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء ثمَّ ألف ثمَّ فَاء والسعيدي نِسْبَة إِلَى جدهم سعيد الْمَذْكُور وَهُوَ أحد أَصْحَاب عَليّ كرم الله وَجهه قدم مُحَمَّد بن أبي بكر إِلَى سير فتفقه بهَا على مُحَمَّد بن مُوسَى ثمَّ سكن قَرْيَة أنامر بِضَم الْهمزَة وَفتح النُّون ثمَّ ألف ثمَّ مِيم مُخَفّفَة ثمَّ رَاء سَاكِنة وَهِي إِحْدَى قرى العوادر الْقَدِيمَة الْمُعْتَمدَة وَله بهَا ذُرِّيَّة إِلَى الْآن مِنْهُم حكام الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة بالأنصال
قَالَ ابْن سَمُرَة وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَسبعين أَو ثَمَان وَخَمْسمِائة ثمَّ لما توفّي خَلفه ابْن لَهُ اسْمه عَليّ كَانَ فَقِيها صَالحا كثير الْحَج يُقَال إِنَّه حج نَحوا من أَرْبَعِينَ حجَّة وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح وَالْعِبَادَة واستجابة الدُّعَاء وَلما توفّي خلف جمَاعَة من أَوْلَاده مِنْهُم ابْنه عِيسَى تفقه بالمصنعة وولاه القَاضِي أَحْمد بن أبي بكر قَضَاء الْجند فَلبث قَاضِيا بهَا خمْسا وَأَرْبَعين سنة لم يذكر عَنهُ مَا يذكر عَن غَيره من الْحُكَّام بل يذكر بالورع وَالدّين والعفاف والكفاف وَكَانَ يحب الْعلم وَأَهله وَكَانَ حَافِظًا لكتاب الله تَعَالَى وحافظا لكتاب الْمُهَذّب عَارِفًا بِهِ وَهُوَ أحد من يعده الْفُقَهَاء من حفظَة الْمُهَذّب وَكَانَ إِذا دخل الْجند طَالب علم أحبه وَأَهله واجتهد مَعَه بِحُصُول سَبَب يقوم بِحَالهِ وَكَانَ مَتى حضر مَجْلِسا لم يكن لأحد مَعَه قدر يتَكَلَّم وَلم تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم يَقُول الْحق وَلَو على نَفسه وَلما أَرَادَ المظفر أَن يتَزَوَّج بابنة الشَّيْخ الْعَفِيف استدعى بِهَذَا القَاضِي فَلم يعْقد لَهُ حَتَّى استكملت شَرَائِط العقد وَلم يتساهل من ذَلِك بِشَيْء فأعجب المظفر بذلك وَقَالَ لَو كَانَ متساهلا بِشَيْء فِي حكمه لتساهل مَعنا فِي مرادنا وَكَانَ عِنْده مُعظما وَذكر عِنْده الْقُضَاة والمنكحون فَقَالَ كل نِكَاح لَا يكون بِحَضْرَة القَاضِي عِيسَى حَاكم الْجند لَا يكَاد يوثق بِصِحَّتِهِ أَو كَمَا قَالَ وَكَانَت جامكيته من جِزْيَة الْيَهُود
فِي الْجند وَهِي خَمْسَة عشر دِينَارا وَله أَرض على قرب مَدِينَة الْجند وَأَرْض بِبَلَدِهِ يَأْتِيهِ مِنْهَا مَا يقوم بِحَالهِ وَكَانَ غَالِبا على حَاله المسكنة وَكَثِيرًا مَا يدان وَقل أَن يدان من أهل الْجند تورعا لَيْسَ كَمَا نرى من حكام الْوَقْت يدْخل الْحَاكِم فَقِيرا فَيصير غَنِيا فِي أقرب مُدَّة وَهَذَا جلس خمْسا وَأَرْبَعين سنة وَمَات مديونا عَلَيْهِ نَحْو من سِتّمائَة دِينَار وَعمر فَوق مئة سنة لم يتَغَيَّر لَهُ عقل وَلَا اخْتَلَّ لَهُ فهم يحضر الْمجَالِس الْفِقْهِيَّة والمواكب الملكية يستضاء بِرَأْيهِ وَينْتَفع بِعِلْمِهِ وَكَانَت وَفَاته على الْقَضَاء المرضي بالجند لَيْلَة الْأَرْبَعَاء حادي عشر جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وقبر تَحت جبل صرب زرت قَبره مرَارًا لما ذكر لي من خَبره وَإِلَّا فغالب الْحُكَّام تنفر النَّفس مِنْهُم أَحيَاء فَكيف أَمْوَاتًا وَذَلِكَ وَالْقَضَاء بيد مُحَمَّد بن أسعد الملقب بالبهاء الْمُقدم الذّكر فَلم يستنب بِالْقضَاءِ أحدا غير أَخ لَهُ اسْمه حسان وَهُوَ أَصْغَرهم وَقد تقدم ذكره مَعَ أَهله فاستولوا على الْقَضَاء والخطابة واستنابوا على وقف الْمَسْجِد والمدارس من شَاءُوا وَلم يزل حسان على الْقَضَاء حَتَّى توفّي القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ الْآتِي ذكره صَاحب تعز فَنقل القَاضِي الْبَهَاء أَخَاهُ حسان عَن الْجند إِلَى تعز وتركا الْجند لعبد الله خطابة وَحكما واستنابة وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى نزع الْقَضَاء مِنْهُم على الصّفة الْمُتَقَدّمَة وَخلف القَاضِي عِيسَى وَلدين هما إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد فإبراهيم تفقه بِأَبِيهِ ثمَّ بفقهاء المصنعة ثمَّ بعمر بن مَسْعُود الأبيني بِذِي هزيم ثمَّ بِإِحْدَى الوزيرتين وَرُبمَا كَانَ بهما وَيَأْتِي ذكر الْجَمِيع إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَكَانَ فَقِيها كَبِيرا وَهُوَ آخر من يعد فَقِيها من بني مفلت على مَا بَلغنِي وَكَانَت الْجند موردا للْعُلَمَاء ومقاما للملوك فَكَانَ يَأْخُذ عَن كل من وردهَا من الْعلمَاء واكتسب علوما جمة مِنْهَا الْفِقْه والأصولان وَكَانَ مُعظما عِنْد أهل الدولة والبلد وَكَرِهَهُ بَنو عمرَان لِأَنَّهُ كَانَ لَا يتخضع لَهُم وَلَا يلْتَفت عَلَيْهِم وَلَا إِلَيْهِم وَكَانَ فِي أَيَّام أَبِيه يدرس بِالْمَدْرَسَةِ الشقيرية فأخرجوه عَنهُ ووقف بالجند متقطعا عَن الْأَسْبَاب وَكَانَ بِيَدِهِ أَرض بَاعهَا على شخص فَأمروا عَلَيْهِ وأكرهوه فِي دفع الثّمن ورغبوه فِي الأفساخ ففاسخه ثمَّ كَانُوا يذكرُونَ للسُّلْطَان عَنهُ أمورا قبيحة هُوَ منزه عَنْهَا لَا غَرَض لَهُم بذلك غير إِسْقَاطه عَن عين السُّلْطَان فَحصل بذلك بعض صُورَة عِنْده وَكَانَ قد استفاض بَين
النَّاس علمه وصلاحيته فَذكرُوا أَن المظفر قعد يَوْمًا فِي مجْلِس حافل بقصر الْجند مَعَ جمَاعَة من أَعْيَان دولته الحرفا لم يكن الْوَزير فيهم فَذكرُوا الْجند وَمن بهَا من الْفُقَهَاء فَذكرُوا هَذَا إِبْرَاهِيم فَقَالَ السُّلْطَان يَا نَاس إِنَّه يذكر عَنهُ أُمُور لَا تلِيق وَكَانَ ابْن الْجُنَيْد من الْحَاضِرين فَقَالَ يَا مَوْلَانَا أَنا أخبر بِهَذَا الرجل وَأَنه فَقِيه الشَّافِعِيَّة لَكِن صَار لَهُ أَعدَاء يحسدونه ويكذبون عَلَيْهِ ويتركون من يكذب عَلَيْهِ كَرَاهَة لَهُ فَوَقع ذَلِك فِي قلب السُّلْطَان وَغلب عَلَيْهِ ثمَّ أَمر وَلَده الْأَشْرَف أَن يستدعيه إِلَيْهِ وَيقْرَأ عَلَيْهِ فَفعل ذَلِك وَلما حضر وجده فَقِيها كَامِلا ورجلا فَاضلا فلازمه على أَن يكون لَهُ وزيرا فَلم يقبل فَجعل لَهُ افتقادا جيدا فِي كل سنة وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ مَا قَالَ صللم تمعددوا وَاخْشَوْشنُوا وَكَانَ لبسه الْقطن وتفقه عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل الْجند مِنْهُم أَبُو بكر بن فليح وَابْن المغربي أَبُو بكر ووالدي وَأخذ عَنهُ شَيْخي أَبُو الْحسن الأصبحي وَجمع كَبِير وَكَانَت وَفَاته بالجند أَيْضا مستهل ربيع الأول من سنة تسعين وسِتمِائَة وَكَانَ وَالِدي إِذْ ذَاك فِي الْجند حَاضرا قد طلعها من زبيد لاستعادة مدرسة ابْن عَبَّاس فَلَمَّا نزل زبيد لاطلاع أَوْلَاده تقدم إِلَى الإِمَام ابْن عجيل وَأخْبر بِمَوْتِهِ فَقَالَ الْفَقِيه قد بَلغنِي ذَلِك وَصليت عَلَيْهِ فِي جمَاعَة وقبر إِلَى جنب قبر أَبِيه وَأما أَخُوهُ مُحَمَّد فَكَانَ حَافِظًا لكتاب الله تَعَالَى من أحسن النَّاس لهجة بِهِ
من سَمعه يقرأه استعذب ذَلِك وطرب لَهُ رتبه بَنو عمرَان إِمَامًا بالجامع بعد أَبِيه وَكَانَ يتخضع لَهُم ويتودد إِلَيْهِم وَلم يكن لَدَيْهِ فقه شاف فَكَانَ بَنو عمرَان يركنون إِلَيْهِ لذَلِك وَيَقُولُونَ هُوَ لَا يروم مَا يروم أَخُوهُ فَلبث إِمَامًا بالجامع حَتَّى انفصلوا عَن الْقَضَاء ولبث بعدهمْ إِمَامًا نَحْو سنة ثمَّ فَصله بَنو مُحَمَّد بن عمر فَلبث مُنْفَصِلا مُدَّة سِنِين ثمَّ توفّي بالجند لتسْع وَسَبْعمائة تَقْرِيبًا وَخلف ابْنا اسْمه عِيسَى كَانَت أمه من بني الأمجد الْكتاب فغلب عَلَيْهِ اللَّبن فطلع كَاتبا من كتاب الْحساب وَهُوَ الَّذِي ذكر أَولا أَنِّي أَدْرَكته وَبقيت لِابْنِ مفلت ذُرِّيَّة بِبَلَد العوادر مِنْهُم بَقِيَّة بقريتهم أنامر الْمُتَقَدّم ذكرهَا وَلما خربَتْ الْقرْيَة انتقلوا إِلَى جبل سورق وَمِنْهُم فُقَهَاء الأنصال وحكامها وَالْغَالِب عَلَيْهِم أَن لَيْسُوا فُقَهَاء بل يسمون بالفقهاء استصحابا للاسم كَمَا يُسمى الْيَتِيم بعد بُلُوغه
انْقَضى ذكر من حَقَّقَهُ ابْن سَمُرَة فِي جَزِيرَة الْيمن من الْفُقَهَاء وَمن كَانَ بعصره طَالبا ثمَّ لم يبْق غير يسير إِمَّا لسهو أَو ليجعلهم مَعَ من تَأَخّر من ناحيتهم بمَكَان وَاحِد وهم جمَاعَة أفردهم بِالْفَصْلِ الَّذِي ختم بِهِ كِتَابه وَجعله مُخْتَصًّا بذكرالقضاة وَقد أَدخل
جمَاعَة غَيرهم فِيهِ لَيْسُوا بقضاة وَأَنا أنبه على ذَلِك إِن شَاءَ الله
فَمن أهل الْجبَال جمَاعَة مِنْهُم أهل الصّفة فِي الْفضل مِنْهُم عَليّ بن يحي العريقي وَأحمد بن مُوسَى العريقي وَعلي بن حسن الْجَعْدِي وَمن دمت الْفَقِيه عَليّ بن جسمر وَأَخُوهُ أَبُو السُّعُود بن عَليّ وَمُحَمّد بن حُسَيْن وَأَخُوهُ أَبُو بكر وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق وَولده عبد الرَّزَّاق وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي عُثْمَان بن أسعد بن سَالم بن دُحَيْم وَابْنه عبد الله من أَصْحَاب مُحَمَّد بن مُوسَى العمراني
وَمن بِنَا بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالنُّون ثمَّ ألف بِجِهَة مشرق الْيمن جمَاعَة مِنْهُم عمر بن مُحَمَّد الْحَضْرَمِيّ ثمَّ أسعد بن مَسْرُوق بن فتح بن مِفْتَاح الصليحي بِالْوَلَاءِ وَهُوَ ابْن أخي سُلَيْمَان الْفَقِيه سُلَيْمَان بن فتح مقدم الذّكر قَالَ ابْن سَمُرَة سمع يَعْنِي هَذَا أسعد بقرآتي التِّرْمِذِيّ على شَيْخي أبي بكر بن سَالم الإِمَام بِذِي أشرق وَذَلِكَ سنة سبعين وَخَمْسمِائة وَمن أحاظة الْبَلَد الَّذِي كَانَ بهَا الفائشي كَانَ بهَا جمَاعَة من الْفُقَهَاء غير من تقدم مِنْهُم وَمِنْهُم مُحَمَّد بن الْفَقِيه عَليّ بن الإِمَام زيد بن الْحسن الفائشي وَابْن عَمه الْحسن بن الْفَقِيه قَاسم فمحمد ذُريَّته قُضَاة حرض فِي عصرنا وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عمر الزوقري وَعبد الله بن مُسلم الكشيش وأسعد بن مَرْزُوق بن أسعد مَسْكَنه الصَّوْم وَأحمد بن أبي الْقَاسِم فَقِيه شَاعِر
انْقَضى ذكر من ذكره ابْن سَمُرَة فِي أهل الْجبَال ونواحيها مَا خلا عدن ونواحيها ثمَّ حضر موت ونواحيها ومرباط وَهِي مَدِينَة قديمَة كَانَت على السَّاحِل قبل ظفار وموضعها من ظفار على مَسَافَة مرحلة أَو مرحلَتَيْنِ وضبطها بخفض الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ طاء مُهْملَة سميت بذلك لِكَثْرَة مَا كَانَ يرْبط بهَا من الْخَيل ثمَّ لما سكنها قوم من الصيادين يعْرفُونَ بالمرابطة طاوها وطاء والمخرب لَهَا أَحْمد بن مُحَمَّد الحبوضي بعد قتال المنجوي وَهُوَ الَّذِي بنى ظفار فِي سَاحل اسْمه جردفون بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَضم الْفَاء ثمَّ وَاو وَنون
فأبدأ حِينَئِذٍ بِذكر من عَمت بركته وانتفع النَّاس بتصانيفه وَهُوَ أَبُو عبد الله
مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن أبي عَليّ القلعي قيل بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون اللَّام نِسْبَة إِلَى قلعة حلب الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة بِالشَّام وَقيل بفتحهما نِسْبَة إِلَى قلعة بَلْدَة بالمغرب وَقيل غير ذَلِك كَانَ فَقِيها كَبِيرا لم يبْدَأ ابْن سَمُرَة فِي الْفَصْل الْأَخير بعده إِلَّا بِهِ أثنى عَلَيْهِ وَله مصنفات عدَّة انْتفع النَّاس بهَا مِنْهَا قَوَاعِد الْمُهَذّب وَمِنْهَا مستعرب أَلْفَاظه وَمِنْهَا إِيضَاح الغوامض من علم الْفَرَائِض مجلدان جيدان جمع بِهِ بَين مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره وَأورد فِيهِ طرفا من الْجَبْر والمقابلة والوصايا وَله احْتِرَاز الْمُهَذّب الَّذِي شهد لَهُ أَعْيَان الْفُقَهَاء أَنه لم يصنف فِي اعتزاز لَهُ نَظِير أَوله لطائف الْأَنْوَار فِي فصل الصَّحَابَة الأخيار وَله كنز الْحفاظ فِي غَرِيب الْأَلْفَاظ أَعنِي أَلْفَاظ الْمُهَذّب وَله تَهْذِيب الرياسة فِي تَرْتِيب السياسة وَله كتاب أَحْكَام الْقُضَاة مُخْتَصر وَيُقَال إِن مصنفاته أَكثر مِمَّا ذكرت وَهِي تُوجد بظفار وَحضر موت ونواحيهما وَعنهُ انْتَشَر الْفِقْه بِتِلْكَ الْجِهَة وَأَخْبرنِي شيخ قديم من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَأهل الْفِقْه بهَا قَالَ سَمِعت قدماء بِلَادنَا يذكرُونَ أَن هَذَا الْفَقِيه قدم عَلَيْهِم من الْحَج إِلَى مرباط فِي مركب فأرسوا وَجعلُوا الأبحر فِي البندر ودخلوا البندر ليشتروا ويبيعوا ثمَّ يترددوا وَكَانَ فِي الْبَلَد قَاض ذُو دين وَفقه قَلِيل والوارد إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة من الْفُقَهَاء قَلِيل وَكَانَ الْفِقْه بهَا قَلِيلا فَبلغ القَاضِي أَنه وصل فِي الْمركب رجل من أكَابِر الْعلمَاء فبحث عَن ذَلِك وتحققه فحين ثَبت عِنْده خرج بِجَمَاعَة من الْبَلَد وتجارها وَكَانَ قد ضرب للقلعي خيمة خَارج الْبَحْر نزل ليستريح بهَا من ضنك الْمركب فقصده القَاضِي وَمَعَهُ التُّجَّار وَاسْتَأْذَنُوا حِين صَارُوا ببابها فأدخلوا عَلَيْهِ فَرَحَّبَ بهم وآنسهم فَسَأَلَهُ القَاضِي عَن عدَّة مسَائِل فَأَجَابَهُ عَنْهَا بأبين جَوَاب وَأقرب صَوَاب بعبارات مرضية فأعجب القَاضِي وَمن مَعَه بِعِلْمِهِ وَحسن خلقه وَسَأَلَهُ أَن يقف مَعَهم بِشَرْط أَلا يَتْرُكُوهُ يحْتَاج إِلَى شَيْء فَقَالَ أُرِيد أَن أصل بلدي فَلم أخرج مِنْهَا على هَذَا الْعَزْم وَظن أَن ذَلِك مِنْهُم على سَبِيل
التجمل فَلم يجزموا على كَثْرَة ملازمته وعادوا الْبَلَد وسلطانها يَوْمئِذٍ الْمَعْرُوف بالأكحل فوصل القَاضِي إِلَيْهِ وأعيان من خرج مَعَه وَأَخْبرُوهُ بقدوم الْفَقِيه وَأَنه عَالم كَبِير وَأَنَّهُمْ مضطرون إِلَى مثله ينْتَفع النَّاس بِهِ ويتفقهون عَلَيْهِ قَالَ وَمَا الْغَرَض قَالُوا تخرج إِلَيْهِ بِنَفْسِك وتلازمه بِالْوُقُوفِ فَلَعَلَّهُ يقبل مِنْك فأجابهم إِلَى ذَلِك وَخرج بموكبه حَتَّى أَتَى خيمة الْفَقِيه وَسلم عَلَيْهِ وَالْتَزَمَهُ فِي الْوُقُوف مَعَه وَشرط لَهُ على ذَلِك أَن يفعل لَهُ مَا أحب فاستحى الْفَقِيه وَأجَاب إِلَى ذَلِك فَحمل قماش الْفَقِيه من الْفَوْر من الْمركب إِلَى الْبَلَد وَأنزل فِي دَار لَائِق بِهِ ثمَّ أقبل على التدريس وَنشر الْعلم فتسامع النَّاس بِهِ إِلَى حضر موت ونواحيها فقصدوه وَأخذُوا عَنهُ الْفِقْه وَغَيره بِحَيْثُ لم ينتشر الْعلم عَن أحد بِتِلْكَ النَّاحِيَة كَمَا انْتَشَر عَنهُ وأعيان فقهائها أَصْحَابه وَأَصْحَاب أَصْحَابه فَمِمَّنْ تفقه بِهِ أَحْمد بن مُحَمَّد بن صمع الْآتِي ذكره ثمَّ أَبُو مَرْوَان وَحج من مرباط فَأخذ عَنهُ بِمَكَّة وزبيد وَغَيرهمَا من الْبِلَاد الَّتِي مر بهَا وَلما أحدث بهَا حمد بن مُحَمَّد الحبوضي ظفار بعد وَفَاة السُّلْطَان الْمَذْكُور على حَيَاة هَذَا الْفَقِيه وَأمر أهل مرباط بالانتقال إِلَيْهَا وَذَلِكَ سنة عشْرين وسِتمِائَة تَقْرِيبًا فابتنى الْفَقِيه بَيْتا بظفار وَكَانَ يتَرَدَّد بَينهَا وَبَين مرباط لِئَلَّا ينْسب إِلَى مُخَالفَة السُّلْطَان فأخرب أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب بيُوت مرباط إِلَّا بَيت هَذَا الْفَقِيه إجلالا لَهُ وَعمر طَويلا وَكَانَت وَفَاته نَحْو ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بمرباط وقبر بمقبرتها وَإِلَى جنبه قبر تَاجر يُقَال لَهُ أبافير بخفض الْفَا وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت ثمَّ رَاء وَكَانَ تَاجِرًا من أهل الدّين وَالدُّنْيَا يقوم بكفاية الطّلبَة الَّذين يصلونَ على الْفَقِيه وَإِن كَثُرُوا فِي الْغَالِب وقلما كَانَ يدْخل الْمَدِينَة مرباط أحد إِلَّا وَكَانَ عَلَيْهِ تفضل فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ دَار على بَاب الْبَلَد فَلَا يدْخل فِي الْغَالِب دَاخل إِلَّا وتكرم فِيهَا على مَا يَلِيق بِحَالهِ وَلم أتحقق تَارِيخه وَإِنَّمَا ذكرته لما كَانَ فِيهِ من الْخَيْر وَالْفضل وقبره إِلَى جنب قبر الْفَقِيه بَينهمَا أَذْرع قَليلَة فَأَخْبرنِي الْخَبِير أَنه تُوجد فَأْرَة تخرج من أحد القبرين وَتدْخل فِي الآخر قبر الْفَقِيه وقبر هَذَا ويفوح عِنْد خُرُوجهَا رَائِحَة الْمسك والواصلون إِلَى هُنَالك يتبركون بتربتهما ويقصدونهما للزيارة من بعد
ثمَّ قد عرض مَعَ ذكر الْفَقِيه ذكر السُّلْطَان وقاضيه فقد أوردت مَا كَانَ مِنْهُمَا فِي حق الْفَقِيه لنَنْظُر فُقَهَاء زَمَاننَا وحكامه كَيفَ لم يداخل القَاضِي حسد كَمَا هُوَ مَنْظُور فِي غالبهم أعين الْقُضَاة وَلم أعرف اسْمه وَكَذَلِكَ السُّلْطَان لم يستكبر على أهل بَلَده
وَلَا على الْفَقِيه وَهُوَ السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الأكحل لكحل كَانَ بِهِ من قوم يُقَال لَهُم المنجويون من بَيت لَهُم آل بَلخ بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَاللَّام وَسُكُون الْخَاء ونسبهم فِي مذْحج كَانَ أوحد زَمَانه كرما وحلما وتواضعا فَانْظُر كَيفَ فعل للفقيه وَخرج إِلَيْهِ وَكَانَ ممدحا وَإِلَيْهِ قدم الشَّاعِر التكريتي وَلم يكن يتعانى الشّعْر إِنَّمَا كَانَ تَاجِرًا ولديه فضل فانكسر بِهِ الْمركب على قرب من مرباط فَدَخلَهَا وَلَيْسَ مَعَه شئ بل غرق جَمِيع قماشه وامتدح هَذَا الأكحل بقصيدة مَشْهُورَة قَالَ فِيهَا أَعْيَان الأدباء شعرًا يدرس يدرس إِلَّا مَا كَانَ من قصيدة التكريتي وَقد أَحْبَبْت إيرادها فِي كتابي لحسنها وَهِي مَا أَنْشدني وَالِدي قَالَ قدم علينا رجل من أهل ظفار فأنشدني إِيَّاهَا
وأنشدني الْفَقِيه الَّذِي ذكرت أَولا أَنه أَخْبرنِي بِبَعْض مَا ذكرت من أهل هَذِه النَّاحِيَة عَن جمَاعَة سمعهم يروونها هِيَ ... عج برسم الدَّار فالطلل ... فالكثيب الْفَرد فالأثل
فبمأوى الشادن الْغَزل ... بَين ظلّ الضال فالجبل
فَإِذا مَا بَان بَان قبا
. .. وَبَلغت الرمل والكثبا
. .. نَاد يَا ذَا الرّبع واحربا ... واسبل العبرات ثمَّ سل
وابك فِي أثر الدُّمُوع دَمًا
. .. هَب كَأَن الدمع قد عدما
. .. واندب الغيد الدما ندما ... وَاقِف أثر الظعن وَالْإِبِل
آه لَو أدْركْت بَينهم
. .. كنت بَين الْبَين بَينهم
. .. لَيْت شعري الْآن أينهم ... رب سَار ضل فِي السبل
كَيفَ أثني عَنْهُم طمعي
. .. وهم فِي خاطري وَمَعِي
. .. كف عني اللوم لست أعي ... ففؤادي عَنْك فِي شغل
هَا أَنا فِي الرّبع بعدهمْ
. .. أشتكي وجدي من بعدهمْ
. . أسلك الْأَيَّام وعدهم ... وأقضي الدَّهْر بالأمل
فدموع الْعين تنجدني
. .. وحمام الأيك تسعدني
. .. فَهُوَ يدنيني ويبعدني ... بالبكا طورا وبالجدل
خلفوني فِي الرسوم ضحى
. .. أحتسي الدمع مصطبحا
. .. كل سَكرَان وعى وصحا ... وَأَنا كالشارب الثمل
رق رسم الدَّار لي ورثا
. .. وسقامي للضنا ورثا
. .. لَيْسَ سقمي بعدهمْ عَبَثا ... كل من رام الحسان بلي
آه لَو جاد الْهوى وسخا
. .. أذهب الأقذار والوسخا
. .. والجوى وَالصَّبْر قد نسخا ... وقعتي صفّين والجمل
مَا لهَذَا الدَّهْر يطمعنا
. .. وأكف الْبَين تقمعنا
. .. أَتَرَى الْأَيَّام تجمعنا ... بمنى والخيف والجبل
أَتَرَى بالمشعرين يرى
. .. عيسهم والركب قد نَفرا
. .. ونزور الْحجر والحجرا ... ونضم الرُّكْن للقبل
كم لنا بالمروتين أسى
. .. مَا لَهُ غير الخضوع أسى
. .. ينجلي عَن رُبمَا وَعَسَى ... والورى فِي غَايَة الوجل
يَا أصيحابي وَيَا لزمي
. .. غير خَافَ عَنْكُم ألمي
. .. إِن أمت لَا تَأْخُذُوا بدمي ... غير ذَات الدل والكسل
غادة فِي خصرها هيف
. .. دنف كل بهَا دنف
. . فهيام الْقلب والشغف ... بَين ذَاك الخصر والكفل
كبياض الصُّبْح غرتها
. .. وَسَوَاد اللَّيْل طرتها
. .. دمية كَالشَّمْسِ بهجتها ... وَهِي فِي خمس من الْحمل
أصل دائي عنج مقلتها
. .. ودوائي لثم وجنتها
. .. أَتَرَى عمرا بنظرتها ... أَو أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ
رِيقهَا والمبسم الشنب
. .. خندريس فَوْقه حبب
. .. لُؤْلُؤ رطب هُنَا الْعجب ... بحره أحلى من الْعَسَل
وصفوا هندا وَمَا وصفوا
. .. عكسوا الْمَعْنى وَمَا عرفُوا
. .. قلت هَذَا مِنْكُم سرف ... أيقاس الْكحل بالكحل
فعلت بِي غير مَا وجبا
. .. عَاقَبت مَا راقبت رقبا
. .. صحت فِي الْأَحْيَاء وآحربا ... أَيحلُّ الْقَتْل فِي الخجل
كم كرى عَن مقلتي منعت
. .. حبذا لَو أَنَّهَا قنعت
. .. مذ بَدَت صنعاء وَمَا صنعت ... جمع ذَاك اللحظ بالمقل
إِن يكن بالحب هان دمي
. .. هَا صباباتي وَهَا ندمي
. .. قدمي فِي سالف الْقدَم ... ورشادي ضل فِي الْأَزَل
بدرت من بدر جَارِيَة
. .. ودموع الْعين جَارِيَة
. .. ثمَّ قَالَت وَهِي جَارِيَة ... أرفقي يَا هِنْد بِالرجلِ
فأجابت وَهِي معرضة
. .. ومراض اللحظ ممرضة
. . أَنْت لي يَا سعد مبغضة ... قد شفيت النَّفس من علل
قَالَت البدرية اتئدي
. .. وعدى ذَا الْمُبْتَلى وعدي
. .. مَا الَّذِي يُنجي من الْقود ... خلق الْإِنْسَان من عجل
طالما فِيك الْهوى عبدا
. .. مَا عدا مِمَّا لديك بدا
. .. لَيْسَ يخفى قَتله أبدا ... عَن مَرْوِيّ الْبيض والأسل
الإِمَام الطَّاهِر النّسَب
. .. الزكي الطّيب الْحسب
. .. السَّحَاب الساكب اللجب ... الهتون الْعَارِض الهطل
الهزبر المنجوي إِذا
. .. أَلْقَت الْحَرْب الْعوَان إِذا
. .. هُوَ تَاج والملوك حذا ... بل حضيض وَهُوَ كالقلل
طالما قد ضنت السحب
. .. واشرأب الْمحل والشغب
. .. وعوادي كَفه الشهب ... بالضحى تهمي وبالأصل
لَو هَمت يَوْمًا غمائمه
. .. بلظى ناحت حمائمه
. .. فَهُوَ مذ ميطت تمائمه ... مولع بِالْخَيْلِ والخول
يمنح السُّؤَال قبل مَتى
. .. سَأَلَ الْمُضْطَر أَو سكتا
. .. لَو أَتَى بعد الرَّسُول فَتى ... كَانَ حَقًا خَاتم الرُّسُل
وعذول بَات يعذله
. .. ولديه المَال يبذله
. .. قَصده عَن ذَاك يَخْذُلهُ ... وَهُوَ لَا يصغي إِلَى العذل
حكت الأنوا أنامله
. .. وَهِي تخشى أَن أقاتله
. . فَإِذا مَا هز ذابله ... قرب الْأَرْوَاح بالأجل
مَا لَهُ مثل يماثله
. .. لَا وَلَا شكل يشاكله
. .. وَله فِيمَا يحاوله ... همة تعلو على زحل
كف كف الدَّهْر حِين سَطَا
. .. ويداه نحونا بسطا
. .. فغدونا أمة وسطا ... بعد ذَاك الْخَوْف والوجل
كَيفَ نخشى بعده الزمنا
. .. وَأَبُو عبد الْإِلَه لنا
. .. ارتدى مجدا وألبسنا ... حللا ناهيك من حلل
هُوَ قس فِي فَصَاحَته
. .. ولؤي فِي صباحته
. .. وَهُوَ معن فِي سماحته ... وَابْن عَبَّاس لَدَى الجدل
إِن يكن فِي نظمها خلل
. .. يعْذر الْجَانِي وَيحْتَمل
. .. خاطر الْمَمْلُوك مشتغل ... عَن كتاب الْعين والجمل
جد جد أجد قرلراع سمى
. .. زد مر آنه اسْلَمْ تهن دم
. .. صل أَو أَصْرَم صريب استقمي ... هَب تفضل أدن نل أنل ... وَأَشَارَ بقوله أيقاس الْكحل بالكحل إِلَى مَا ذكرنَا أَنه كَانَ أكحل الْعَينَيْنِ وَكَانَ آخر مُلُوك مرباط
قَالَ الْمخبر فَذكرُوا أَنه أجَاز هَذَا الشَّاعِر بمركب جَاءَ لَهُ من بعض الْبِلَاد إِذْ كَانَ معول مُلُوك المنجويين إِنَّمَا هُوَ على الْمَوَاشِي لَا غير كالبدو والحبوضيين على التِّجَارَة والزراعة لَا على الجباية كَمَا هُوَ الْيَوْم مُنْذُ دخل الغز وَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى انْقَضتْ أيامهم فَذكرُوا أَن التَّاجِر وصل من مرباط إِلَى عدن وملكها يَوْمئِذٍ سيف الْإِسْلَام وَقد نقل إِلَيْهِ الشّعْر فَاسْتَكْثر الْمَدْح واحتقر الممدوح وَلما وقف على قَوْله هُوَ
تَاج والملوك حذا غضب عَلَيْهِ وَقَالَ تمدح بدويا بِمثل هَذَا ثمَّ أوصى النَّائِب بعدن مَتى قدم التَّاجِر عَلَيْهِ أوصله إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ فَلَمَّا قدم عدن احتاط على مَا مَعَه وأقدمه على سيف الْإِسْلَام فَلَمَّا استحضره ووقف بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ كَيفَ تَقول هُوَ تَاج والملوك حذا قَالَ لم أقل بخفض الْحَاء وَإِنَّمَا فتحتها فأعجب سيف الْإِسْلَام وَأَعَادَهُ مكرما وَكَانَ قد عَاد الثغر من عدن إِلَى مرباط فَأخْبرُوا السُّلْطَان المنجوي بِمَا جرى على التَّاجِر وَأَنه مُودع فِي السجْن قد حيل بَينه وَبَين مَاله فَبعث مَعَ السّفر بمركب آخر وَقَالَ يتْرك لَهُ مَعَ بعض عدُول الْبَلَد يُنْفِقهُ مِنْهُ ويكسوه مَا شَاءَ حَتَّى يَأْتِيهِ الله بالفرج فَلم يصل السّفر إِلَى عدن إِلَّا وَقد سلم إِلَيْهِ مَاله فَسَلمُوا إِلَيْهِ الْمركب وشحنه فَكتب نَائِب سيف الْإِسْلَام بعدن إِلَيْهِ يُخبرهُ فَعجب من ذَلِك وَقَالَ يحِق لمادح هَذَا أَن يَقُول فِيهِ مَا شَاءَ وَكَانَت وَفَاته يَعْنِي السُّلْطَان على طَرِيق مرض من العفاف وَالْعدْل بعد سِتّمائَة وقبره بَين مرباط وظفار
ذكر الثِّقَة أَنه كثير مَا يسمع من قَبره قِرَاءَة الْقُرْآن وَلم يتْرك عقبا وَلَا بَقِي فِي أَهله كَامِل وَكَانَ مُحَمَّد بن أَحْمد الحبوضي يتجر لَهُ فَقَامَ بِالْملكِ وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك إِن شَاءَ الله وَبَلغنِي لهَذَا الْملك قصَّة حَسَنَة فَكرِهت إهمالها لِأَن المؤرخين يَقُولُونَ من ذكر إنْسَانا وَله منقبة لم يذكرهَا ظلمه وَذَلِكَ أَن الْفَقِيه الْمخبر قَالَ أَخْبرنِي من أَثِق بِهِ عَن من يَثِق بِهِ أَن جمَاعَة من أَعْيَان حضر موت تجهزوا من بلدهم لقصد هَذَا المنجوي بِهَدَايَا تلِيق بأحوالهم فصحبهم فَقير فسمعهم يذكرُونَهُ بِالْكَرمِ والإنسانية ثمَّ ذكر كل مِنْهُم مَا وصل بِهِ فاجتنى الْفَقِير ضغثا من أسوكة عَددهمْ سَبْعَة وَجعله حزمة فَلَمَّا دخل أهل الْهَدِيَّة مرباط وَأذن لَهُم فِي الدُّخُول عَلَيْهِ فَدَخَلُوا والفقيه من جُمْلَتهمْ فَسَلمُوا وَوضع الْفَقِير الأسوكة بَين يَدَيْهِ ثمَّ أنْشد ... جعلت هديتي لكم سواكا ... وَلم أقصد بهَا أحدا سواكا
بعثت إِلَيْك ضغثا من أَرَاك ... رَجَاء أَن أَعُود وَأَن أراكا ... ثمَّ أَمر السُّلْطَان أَن تخلى لَهُم بيُوت وللفقير مثلهم وَبعث للْفَقِير بجاريتين ووصيف يخدمونه مُدَّة إِقَامَته وَكَذَلِكَ كَانَ يفعل لكل ضَعِيف يصله ثمَّ عزم الْفَقِير على السّفر فَاسْتَأْذن وَذَلِكَ فَأذن لَهُ بعد أَن أَمر السُّلْطَان من عد الأسوكة الَّتِي جَاءَ بهَا
فَقيل لَهُ سَبْعَة فَقَالَ يعْطى مِمَّا فِي خزائننا من كل شَيْء سَبْعَة أَجزَاء فَقلت للمخبر وَكَيف ذَلِك قَالَ مَا كَانَ يُوزن بالبهار كالحديد والقار وَنَحْوهمَا أعطي مِنْهُ سَبْعَة أبهرة وَمَا كَانَ يُوزن بالمن أعطي سَبْعَة أمنان كالمسك والزعفران وَنَحْوهمَا
وَبِالْجُمْلَةِ مَكَارِم هَذَا الْملك أَكثر من أَن تحصر وَلَو لم تكن من بركته إِلَّا مَا أبقى الله لَهُ جميل الذّكر فِي هَذِه القصيدة الَّتِي مَا سَمعهَا أحد إِلَّا أعجب بهَا وكررها لكفى
ثمَّ نرْجِع إِلَى ذكر الْفُقَهَاء وتتمته كَمَا ذكر ابْن سَمُرَة وَلم يذكر بمرباط غير القلعي وَذكر من فُقَهَاء تريم وَهِي مَدِينَة قديمَة بحضر موت وضبطها بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وخفض الرَّاء ثمَّ يَاء مثناة من تَحت ثمَّ مِيم كَانَ بهَا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر أَبُو كدر حاكمها وَكَانَ فَقِيها مقرئا وَله أَخ يذكر بِالْفَضْلِ قتلا جَمِيعًا سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
حُكيَ أَن الزنجبيلي لما أَمر بِقَتْلِهِمَا سبقه أَخُوهُ إِلَى المقتل فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ أَبُو كدر اسبقني إِلَى الْجنَّة لَا بَأْس عَلَيْك وَإِلَى مثلهَا يكون السباق
أخبر الثِّقَة من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة أَنَّهُمَا يزاران وَمَتى عَطش أهل حضر موت وَاشْتَدَّ بهم الْجهد وصلوا قبرهما واستسقوا بهما فَمَا يلبثُونَ أَن يسقوا
وَمِنْهُم أَبُو بكر قَالَ ابْن سَمُرَة لَقيته فِي عدن بِأول مرّة وقرأت عَلَيْهِ فِي عدن تَفْسِير الواحدي وَكتاب النَّجْم وَقتل شَهِيدا فِي غَزْوَة الزنجبيلي أَيْضا مَعَ أبي كدر إِذْ لما غزا الزنجبيلي حضر موت قتل من أَهلهَا عَالما كثيرا لَا سِيمَا من الْفُقَهَاء وَقَالَ ابْن سَمُرَة وَهُوَ من أهل ذَلِك الْعَصْر قتل فِي غَزْوَة الْأَمِير عُثْمَان الَّتِي قتل فِيهَا فُقَهَاء حَضرمَوْت وقراؤها قتلا ذريعا وَلَقَد كنت لما قدمت عدن وَرَأَيْت مَا وَقفه هَذَا الْأَمِير الزنجبيلي على الْحرم وَالْمَسْجِد الَّذِي بناه على الخان استعظمت قدره واستكثرت خَيره حَتَّى رَأَيْت مَا ذكره ابْن سَمُرَة من قَتله للفقهاء والقراء فصغر وحقر مَا فعله من خير فِي جنب مَا عمله من شَرّ وَقد يَقُول قَائِل مَا كَانَ هَذَا عُثْمَان فَأَقُول هُوَ عُثْمَان بن
عَليّ الزنجبيلي يلقب بعز الدّين كَانَ من جملَة الْأُمَرَاء الَّذين قدمُوا مَعَ شمس الدولة توران شاه بن أَيُّوب حِين قدم الْيمن على مَا سَيَأْتِي فَلبث توران فِي الْيمن مَا لبث ثمَّ عَاد واستخلف الزنجبيلي على عدن ونواحيها فأطمعته نَفسه لغزو حضر موت أشرا وبطرا بعد أَن غزا الْجبَال والتهائم وأفسد فِيهَا على نواب شمس الدولة فِي عدَّة مَوَاضِع فأخلى الْجند عَن أَهلهَا وَكَانَت حروب كَثِيرَة بَينه وَبَين خطاب نَائِب شمس الدولة على زبيد وَذَلِكَ بعد أَن غزا حضر موت فَلم يقم بعد غَزْو الْجند غلا يَسِيرا حَتَّى قدم سيف الْإِسْلَام وَعُثْمَان إِذْ ذَاك بعدن وخطاب بزبيد فَأسر خطابا واستباح أَمْوَاله
ثمَّ قَتله وهرب عُثْمَان فِي الْبَحْر فَأمر السُّلْطَان سيف الْإِسْلَام بالتقاط مراكبه من سَاحل زبيد فَلم يفلت مِنْهَا غير الْمركب الَّذِي كَانَ فِيهِ وَأخذت بَقِيَّة المراكب وَلم يدر بعد ذَلِك مَا جرى لَهُ وَلَا أَي الْجَرَاد عاره فَظَاهر أَفعاله الْفسق الشنيع وَأمره فِي آخرته إِلَى الله تَعَالَى
وَنَرْجِع إِلَى ذكر الْفُقَهَاء فَمن شبام وَهِي قَرْيَة محدثة بعد تريم وضبطها بخفض الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ ألف ثمَّ مِيم وَهِي ملك للملوك بِخِلَاف تريم فَإِنَّهَا لم تزل للْعَرَب فَفِي شبام جمَاعَة فَمنهمْ ابْن أبي ذِئْب فَقِيه شَاعِر مجود لم يزدْ ابْن سَمُرَة على ذَلِك فَلَمَّا صرت بعدن وَأَنا إِذْ ذَاك معتزم لجمع هَذَا الْكتاب سَأَلت جمَاعَة من أهل النَّاحِيَة عَن اسْمه وبلده فَقيل بَلَده شبام واسْمه مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب وَكَانَ فَاضلا فِي الْفِقْه وَعلم الْأَدَب نظم التَّنْبِيه فِي شعر وَله قصائد عدَّة مِنْهَا قَوْله ... أر رسوم ربوع أم رقم ... لاحت فدموع عَيْنَيْك تنسجم
أم وشم معاصم رفشه ... وتأنق فِيهِ من يشم ... وَهِي قصيدة كَبِيرَة تنيف على مئة بَيت مِنْهَا حكم وأمثال وَله ذُرِّيَّة مِنْهُم بَقِيَّة فِي
مَدِينَة عدن يتعانون التِّجَارَة ويعرفون ببني أبي الذِّئْب
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن دَاوُد كَانَ نظيرا لِابْنِ أبي الذِّئْب فِي الْفِقْه وَالشعر وَمن الهجرين وَهِي بلد بِأَعْلَى حضر موت على قرب من الشحر ضَبطهَا بِفَتْح الْهَاء بعد ألف وَلَام ثمَّ جِيم وَرَاء مفتوحتين ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ نون خرج مِنْهَا جمَاعَة مِنْهُم أَبُو زنيج بِضَم الزَّاي وَفتح النُّون ثمَّ يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ جِيم كَانَ فَقِيها كَبِيرا مَشْهُورا وَله هُنَاكَ ذُرِّيَّة ينسبون إِلَيْهِ ويتسمون بالفقه استصحابا للْأَصْل وَمِنْهُم أَبُو جحوش وَمِنْهُم حمد بن أَحْمد بن النُّعْمَان كَانَ فَقِيها كَبِير الْقدر شهير الذّكر طَاف الْبِلَاد وَلَقي المشائخ وَدخل بعد ذَلِك ثغر الاسكندرية وأصبهان فَأدْرك الْحَافِظ السلَفِي وَأخذ عَنهُ بهَا وَهُوَ أحد من عده ابْن سَمُرَة شَيخا لَهُ وَلم يذكر لَهُ تَارِيخا
ثمَّ عرض مَعَ ذكره ذكر السلَفِي نِسْبَة إِلَى جده سلفة بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَالْفَاء ثمَّ هَاء
قَالَ ابْن خلكان وَذَلِكَ لفظ أعجمي مَعْنَاهُ بالعربي فِي ثَلَاث شفَاه وَذَلِكَ أَن شفته الْوَاحِدَة كَانَت مشقوقة فَصَارَ شفتين غير الْأَصْلِيَّة مولده سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة تَقْرِيبًا وأصل بَلَده أَصْبَهَان وَهُوَ أحد الْحفاظ المكثرين رَحل فِي طلب الحَدِيث وَلَقي أَعْيَان الْمَشَايِخ وَكَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب وَقدم بَغْدَاد فاشتغل بهَا على أبي الْحسن عَليّ الهراس فِي الْفِقْه وعَلى الْخَطِيب التبريزي فِي اللُّغَة وروى عَن أبي مُحَمَّد جَعْفَر بن السراج وَغَيره من الْأَئِمَّة الأماثل وجاب الْبِلَاد وَطَاف الْآفَاق وَدخل ثغر الاسكندرية سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة وَبنى لَهُ أَبُو الْحسن عَليّ السلال وَزِير الظافر أحد الْمُلُوك الفاطميين مدرسة بهَا وَهِي ومعروفة بِهِ إِلَى الْآن
قَالَ ابْن خلكان لم يكن فِي آخر عمره لَهُ نَظِير فِي سَعَة الْعلم قَصده النَّاس من الْأَمَاكِن الشاسعة فَسَمِعُوا عَلَيْهِ وانتفعوا بِهِ وَله أشعار متداولة بَين النَّاس وأماليه وتعاليقه كثير وَله أشعار متقنة مِنْهَا مَا قَالَه فِي معاتبة الزَّمَان حَال ترحله من الْبِلَاد فمما قَالَه ... لج الزَّمَان مبالغا فِي شاني ... فأزاحني عَن موطني ومكاني
وَغدا يعاندني معاندة العدا ... مُتَعَمدا حَتَّى لقد أعياني
وحر لقيا من أحب بَقَاؤُهُ ... بالرغم بعد وَزيد فِي أحزاني ... وَهِي كَبِيرَة تزيد على ثَلَاثِينَ بَيْتا وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْجُمُعَة وَقيل يَوْمهَا خَامِس
ربيع آخر من سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة
ثمَّ نرْجِع إِلَى ذكر فُقَهَاء حضر موت قَالَ ابْن سَمُرَة وَمِنْهُم ابْن أبي الْحبّ تفقه بطاهر بن يحيى وَهُوَ الَّذِي مدح طَاهِرا بالشعر الْمَذْكُور مَعَ ذكره وَفِي آل الْحبّ جمَاعَة يسكنون ظفار وعدن لَعَلَّ الله يَسُوق إِلَيّ أحدا مِنْهُم فأذكره فِي طبقته إِن شَاءَ الله وَهَذَا آخر من ذكر ابْن سَمُرَة من أهل حضر موت ثمَّ قَالَ وَمن أحور مُحَمَّد بن مَنْصُور النصيف كَانَ فَقِيها مجودا فِي علم الْفَرَائِض والحساب إِمَامًا فِي الحَدِيث وَفِي ميفعة سعيد بن فَرح وَرَاشِد بن عبد الله بن أبي جياش العامري
وَمِنْهُم عمر بن مُحَمَّد الكبيبي بِضَم الْكَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وخفض الْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ يَاء لَا أَدْرِي إلام هَذِه النِّسْبَة تفقه بشيوخ الْحصيب وَولي قَضَاء عدن سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن حَوْشَب العامري من أبين والخطيب مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْفَقِيه عمر بن بيش مقدم الذّكر وَأَنه أحد شُيُوخ الإِمَام يحيى
قَالَ ابْن سَمُرَة وَهُوَ مفتي لحج الْآن
وَمن أهل عدن أَبُو الْفَتْح بن عَمْرو ولي قضاءها أَيَّام السُّلْطَان زُرَيْع بن الْعَبَّاس اليامي أَو أَبُو الْفَتْح بن أبي السهل الْفَارِسِي ثمَّ بعده القَاضِي أَبُو بكر اليافعي ثمَّ زبيد بن عبد الله بن عون الله ثمَّ ولي قَضَاء الْقُضَاة فِي الْيمن من صنعاء إِلَى عدن سُلَيْمَان بن الْفضل عده عمَارَة فِي كِتَابه وَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد القَاضِي سُلَيْمَان بن الْفضل شيخ اللُّغَة وَصدر الشَّرِيعَة وجمال الخطباء وتاج الأدباء وظني وَالله أعلم إِنَّمَا ولي بعد القَاضِي أبي بكر وَكَانَ لَهُ شعر رائق مِنْهُ قَوْله ... تسموا بالوصال ترك الْوِصَال ... واعتمدتم قطيعتي وملالي
واعتضتم من التداني بعادا ... وصدودا يزِيد فِي بلبالي
لَيْسَ من شِيمَة الوفا أَن تلجوا ... فِي التجني فيشتفي عذالي ...
وَذكر لَهُ عمَارَة عدَّة أشعار لَكِن لَا يَلِيق بالمختصر غير ذَلِك وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه حَاتِم معدودا فِي الْفُضَلَاء
قَالَ ابْن سَمُرَة وأفضت ولَايَة الْقَضَاء بهَا يَعْنِي عدن إِلَى شَيْخي أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي سَالم القريظي كَانَ فَقِيها فَاضلا مُحدثا نحويا لغويا أَخذ عَن القَاضِي الجندي والمقيبعي وَعَن غَيرهمَا وَعنهُ أَخذ جمَاعَة كَثِيرُونَ مِنْهُم ابْن سَمُرَة والفقيه بطال وَمُحَمّد بن قَاسم الْمعلم وَغَيرهم وامتحن بِالْقضَاءِ أَرْبَعِينَ سنة هَكَذَا ذكر ابْن سَمُرَة وانفصل عَنهُ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَت وَفَاته بعدن سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة ثمَّ تولى بعده القَاضِي عبد الْوَهَّاب بن عَليّ الْمَالِكِي من جِهَة أثير الدّين وَهُوَ آخر من عده ابْن سَمُرَة وَعَجِيب كَيفَ لم يعد ولد طَاهِر فِي الْقُضَاة بعدن وَقد ذكر ذَلِك مَعَ ذكره
وَمِنْهُم إِبْرَاهِيم بن القَاضِي أَحْمد أَخذ عَن أَبِيه وَغَيره وَأخذ عَن القَاضِي الْأَثِير وَعَن مُحَمَّد بن سعيد مؤلف الْمُسْتَصْفى وَعنهُ أَخذ الشريف أَبُو الحَدِيث وَمُحَمّد بن عمر الزَّيْلَعِيّ وحسين العديني وَأَبُو السُّعُود بن الْحسن وَغَيرهم مِمَّن يَأْتِي ذكرهم وَله عدَّة أَوْلَاد مِنْهُم وَلَده إِسْمَاعِيل كَانَ فَاضلا وَلم تزل خطابة عدن بأيدي ذُريَّته حَتَّى انقرضوا لبضع وَسَبْعمائة وَقد كَانَ فيهم من هُوَ أهل لِأَن يذكر لَكِن لم أجد ذَلِك محققا وَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر من الْتحق بهم فِي عدن مَعَ أهل الطَّبَقَة الْمُتَأَخِّرَة مِمَّن لم يذكرهُ ابْن سَمُرَة على حسب مَا ثَبت لي من نقل الْعدْل
وَهَذَا أَوَان الشُّرُوع فِي ذكر الَّذين تَأَخَّرُوا عَن زمن ابْن سَمُرَة إِذْ يغلب على ظَنِّي أَنِّي قد أتيت على جَمِيع من ذكره مَعَ مَا حصل وَزِيَادَة من غير الْكتب الَّتِي تقدم ذكرهَا أَو من نقل الْعدْل من ذكر المناقب وَقد رَأَيْت أَن أستفتح من ألحقت وأحببت أَن أبدأ بِذكرِهِ رَحْمَة الله عَلَيْهِ فَهُوَ أَبُو الْخطاب عمر بن عَليّ بن سَمُرَة الْجَعْدِي مولده قَرْيَة أنامر الْمُقدم ذكرهَا سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة تفقه بِجَمَاعَة أَوَّلهمْ عَليّ بن أَحْمد اليهاقري وَزيد بن عبد الله بن أَحْمد الزبراني وَمُحَمّد بن مُوسَى العمراني وطاهر بن يحيى وَجَمَاعَة كَثِيرُونَ وَهُوَ شَيْخي فِي جمع هَذَا الْكتاب
وَلَوْلَا كِتَابه لم أهتد إِلَى تأليف مَا ألفت
وَلَقَد أبقى للفقهاء من أهل الْيمن ذكرا وَشرح لِذَوي الأفكار صَدرا ولي قَضَاء أَمَاكِن فِي المخلاف من قبل طَاهِر بن الإِمَام يحيى وترأس فِيهَا بالفتوى ثمَّ
صَار إِلَى أبين فولاه القَاضِي الْأَثِير الْقَضَاء فِي أبين سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَأَظنهُ توفّي هُنَالك بعد سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَقد تكَرر ذكر القَاضِي الْأَثِير فَأحب بَيَان مَا ثَبت لي من أَحْوَاله فأبدأ بنسبه هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد ذُو الرياستين ابْن الشَّيْخ ثِقَة الْملك أبي الْفضل مُحَمَّد بن ذِي الرياستين مُحَمَّد بن بنان الْأَنْبَارِي بَلَدا ضبط بنان جده بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح النُّون ثمَّ ألف وَنون قدم الْيمن صُحْبَة سيف الْإِسْلَام وَقد خبر علمه وأمانته وعمره يَوْمئِذٍ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سنة وَقَالَ سَمِعت كتاب الشهَاب وَأَنا ابْن ثَلَاث سِنِين فَسَمعهُ عَلَيْهِ القَاضِي إِبْرَاهِيم بن أَحْمد فِي جمَاعَة كَانَ إِبْرَاهِيم فِي جمَاعَة القارىء لَهُم وَابْن سَمُرَة من جملَة السامعين وَأخذ عَن القَاضِي إِبْرَاهِيم سيرة ابْن هِشَام قِرَاءَة وَهُوَ طَرِيق سَمَاعنَا بهَا فِي بعض الطّرق لشَيْخِنَا أبي الْعَبَّاس الْحرَازِي الْآتِي ذكره ثمَّ إِن سيف الْإِسْلَام صرفه عَن الْقَضَاء سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَحمله رِسَالَة إِلَى بَغْدَاد فحملها وَعَاد من بَغْدَاد إِلَى مَكَّة وَكتب مِنْهَا إِلَى سيف الْإِسْلَام
. .. وَمَا أَنا إِلَّا الْمسك عِنْد ذَوي النَّهْي ... أضوع وَعند الْجَاهِلين أضيع ... قَالَ ابْن سَمُرَة وَلم أدر أَي الْجِهَات قراره وَلَا أَي الْجَرَاد عاره ثمَّ لم يبْق إِلَّا أَن أذكر الْفُقَهَاء فِي كل بلد فأبدأ بِذكر الْبَلَد ثمَّ بِمن فِيهَا وحواليها وَكنت أحب أَن أفعل ذَلِك فِي جَمِيع الْكتاب فَلم يساعد الزَّمَان لِكَثْرَة الامتحان وَعدم الْإِمْكَان فأبدأ حِينَئِذٍ بفقهاء الْجبَال لتحققي لغالبهم نظرا وسماعا يقوم مقَام النّظر فَرَأَيْت أَن أعظم الْبِلَاد إِفَادَة للطلبة وَأعظم أَهلهَا صبرا عَلَيْهِم فِي الزَّمَان الْمُتَأَخر وَهِي مصنعة سير مسافتها من مَدِينَة الْجند عِنْد ذكر الشَّيْخ مؤلف الْبَيَان نصف مرحلة وَكَانَت هَذِه الْقرْيَة قلعة فَاشِية بأيدي صبهان فاشتراها مِنْهُم بَنو عمرَان وابتنوا بهَا مسَاكِن وَذَلِكَ فِي شهر جُمَادَى الْآخِرَة من سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة وَوجدت بِخَط الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى أَن ابْتِدَاء الْبناء بهَا فِي سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَذَلِكَ قبل وَفَاة الإِمَام يحيى لسنة
أَو سنتَيْن فَلم تزل مُنْذُ ابْتِدَاء عمارتها موئلا لطلبة الْعلم وَلَا نجد فِي الْجبَال غَالِبا من المدرسين والمفتين وَالْفُقَهَاء والمحققين إِلَّا من كَانَ تفقه بهَا إِن لم يكن جملَته أَو تفقه على من تفقه بهَا فقد ذكر فِيمَا تقدم أَن الْفُقَهَاء من أَهلهَا هم ذُرِّيَّة الْفَقِيه مُحَمَّد بن مُوسَى وَبَقِي مِنْهُم بَقِيَّة وَقد درس مَعَهم فِيهَا جمَاعَة وَذَلِكَ أَنه لما صَار إِلَيْهِم الْقَضَاء الْأَكْبَر والوزارة فشغلوا بهما عَن التدريس فَكَانُوا يجتلبون الْفُقَهَاء ليدرسوا لَهُم أَوْلَادهم وَمن جَاءَ طَالبا حَتَّى تفقه من أَوْلَاد القَاضِي عبد الله بن مُحَمَّد وَابْن عَمه مُحَمَّد بن أبي بكر قَائِما بالتدريس كَمَا قدمنَا ذَلِك وَلمن كَانَ يفقههم
وَأما المدرسون المستدعون إِلَى المصنعة لأجل التدريس فَجمع لَا يكَاد يُحْصى
مِنْهُم أَبُو الْحسن بن رَاشد وَبِه تفقه جمَاعَة مِنْهُم القَاضِي الْبَهَاء وَمن تفقه من أخوته وَكَانَ مَسْكَنه العماقي وَسَيَأْتِي ذكره محققا إِن شَاءَ الله
ثمَّ بعده مَنْصُور بن مُحَمَّد بن مَنْصُور الأصبحي ثمَّ ابْن أَخِيه مُحَمَّد بن أبي بكر بن مَنْصُور ثمَّ تِلْمِيذه شَيْخي عَليّ بن أَحْمد الأصبحي وَيَأْتِي ذكرههم محققا مَعَ أهل بلدهم إِن شَاءَ الله ثمَّ مُحَمَّد بن عَليّ الشّعبِيّ ثمَّ عبد الله بن عمرَان الْخَولَانِيّ وغلبت من أَوْلَادهم على التدريس مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ الْأَكْبَر من الطّلبَة يتفقهون بِهِ لِأَن أَبَاهُ هُوَ الَّذِي يطعم الدرسة وَغَيرهم بالمصنعة لَا يطعم مَعَه أحد وَيكبر لَهُ أَخَوَاهُ اللَّذَان يسكنان مَعَه فِي المصنعة وهما أَبُو بكر وَمَنْصُور فَإِذا غَابَ فِي الْجند أَو تعز قَامَ بأعباء الطّلبَة والضيف أَخُوهُ مَنْصُور فَإِذا غَابَ أَيْضا قَامَ بذلك أَبُو بكر مَعَ أَن الْجَامِع لم يكن يَخْلُو عَن مدرس يَأْخُذ الكيلة من وقف وَقفه القَاضِي أَبُو بكر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى مقدم الذّكر بِجِهَة الحيمة وَإِن لم يدرس ويقتصر على إِمَامَة الْمَسْجِد وَرُبمَا قَرَأَ عَلَيْهِ بعض الدرسة على سَبِيل التوطئة وَيكون تَحْرِير ذَلِك وتحقيقه فِي الْغَالِب على الْفَقِيه مُحَمَّد بن عبد الله فَإِنَّهُ كَانَ يجْتَمع عَلَيْهِ نَحْو من مئة درسي أَو زِيَادَة عَلَيْهِم وتفقه من بني عمرَان جمَاعَة من أَوْلَاد الْقُضَاة غير من تقدم مِنْهُم عمرَان بن القَاضِي عبد الله الَّذِي ذكرت أَولا تفقه وَأخذ النَّحْو وَكَانَ بِهِ فَاضلا وَقعد وزيرا للْملك الواثق مُدَّة سِنِين وَلما أَرَادَ يقدم ظفار على مَا سَيَأْتِي امْتنع أَهله عَلَيْهِ من السّفر مَعَه فَلبث مَعَ أَعْمَامه بتعز وَتَوَلَّى قضاءها مَكَان عَمه حسان ثمَّ لما صودر قومه كَانَ من أَشد النَّاس عذَابا هَذَا ثمَّ أنزل هُوَ وَابْن عَمه مُحَمَّد بن حسان إِلَى زبيد على حبس الرهائن وأقعد تَحت الْحِفْظ بدار لَهُم صَغِيرَة إِلَى جنب دَار عمهم القَاضِي الْبَهَاء حَتَّى توفّي بعد أَبِيه سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة
وَمن أحسن مَا بَلغنِي من مَكَارِم بني عمرَان أَن هَذَا عمرَان كَانَ يلْعَب وَهُوَ فَتى مَعَ بعض الدرسة فَحَذفهُ بحصاة وَقعت بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ وأبعدته فخاف الدرسي خوفًا شَدِيدا فَأمر لَهُ القَاضِي بكسوة وَأمره أَن يروح حَيْثُ شَاءَ وَلم يغب إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِل وَكَانَت لَهُ مَكَارِم يكثر تعدادها لَو أَنَّهَا قرنت بورع لكَانَتْ عجبا وَكَانَ لحسان الْمُقدم ذكره ثَلَاثَة أَوْلَاد هم مُحَمَّد ويوسف وَعمر وأمهم وَأم الوزراء بني مُحَمَّد بن عمر أختَان إِذْ هما بَنَات القَاضِي أسعد بن مُسلم الْآتِي ذكره ولهذه الْقَرَابَة سلمُوا من الضَّرْب وَلم يسلمُوا من الْقَيْد وَالْحَبْس بِخِلَاف أَوْلَاد أبي بكر فَإِنَّهُم سلمُوا من جَمِيع مَا وَقع بأهلهم من ضرب وَحبس وَقتل وَقبض أَرض فَدلَّ أَن نفع الدُّنْيَا والمداراة بهَا أبلغ من نفع النّسَب كَمَا قَالَ الحريري الْمَرْء بنشبه لَا بنسبه إِنَّمَا شاركوهم من الْأُمُور الَّتِي وَقعت عَلَيْهِم المؤلمة بِالْخرُوجِ عَن المساكن إِذْ قَامَ بهم الْفَقِيه أَبُو بكر قيَاما مؤزرا وَصد عَنْهُم فَسَأَلت عَن ذَلِك فَقيل كَانَ والدهم يصحب الْفَقِيه أَبَا بكر ويهادنه بِغَيْر علم من أخوته فَلم تزل ذُريَّته مجللين مصونين حَتَّى انقرض مُحَمَّد وَابْنه عبد الله مصونا إِلَى الْآن وَهَذَا كَلَام دخيل
فلنرجع إِلَى تَتِمَّة أَوْلَاد حسان مُحَمَّد أكبرهم كَانَ بِهِ تعبد وتعفف وتفقه على جمَاعَة من فُقَهَاء تعز وَغَيرهم وَكَانَ فِيهِ صَدَقَة وافتقاد لجَماعَة من الضعوف وترتب سِقَايَة لجامع الْجند ثمَّ كَانَ مسحسها هَذَا فِي قيام حَالهم ووزارتهم وسجن بزبيد دهرا وَكَانَ السجان يذكر عَنهُ كرامات مستغربة ثمَّ أطلقهُ الْمُؤَيد من السجْن بعد وَفَاة الْوَزير عَليّ بن مُحَمَّد
وأسكن بَيْتا عمره ثمَّ صَار الْملك إِلَى الْمُجَاهِد وَقد كَانَ الْمُؤَيد نقل إِلَيْهِ أَخَوَيْهِ من سجن عدن إِلَى دَار عمهم بزبيد فلبثوا بِهِ فَأخْرجهُمْ الْمُجَاهِد وَجمع بَينهم وَبَين أهلهم بسهفنة فلبثوا مُجْتَمعين نَحوا من سنة وَتُوفِّي بالتاريخ الْمُتَقَدّم وَأما أَخُوهُ يُوسُف فتفقه أَيْضا بِمن تفقه بِهِ أَخُوهُ كَابْن العراف الْآتِي ذكره وَغَيره وَفِيه مروة وتخلق وَحسن فتوة وَهُوَ بَاقٍ إِلَى عصرنا سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَأما أَخُوهُ عمر فتفقه وَيذكر بِالْخَيرِ والإنسانية أَيْضا وَلَهُم أَخ رَابِع أمه من الطبريين من أهل مَكَّة لما امتحن أَهله بالسجن وَنزل بِأَبِيهِ إِلَى عدن هربت بِهِ أمه إِلَى
أَهلهَا فَنَشَأَ بَينهم نشأة حَسَنَة وتفقه وَذكر بِالْفَضْلِ وَقدم زبيد سنة ثَلَاث وَعشْرين فَجعل قَاضِي قُضَاة من قبل الظَّاهِر فَلَمَّا غلب الْمُجَاهِد على زبيد خرج إِلَى عدن وَلحق بِالظَّاهِرِ إِذْ كَانَ يَوْمئِذٍ بهَا ثمَّ طلع الْجبَال فانتهب بجرانع ثمَّ تقدم جبلة فَهُوَ بهَا إِلَى الْآن فِي شهر ربيع الآخر سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَلَيْسَ للْقَاضِي الْبَهَاء عقب يذكر بِهِ وَلَا لمنصور وَهَؤُلَاء آخر من يَنْبَغِي ذكره مِنْهُم وَآخر ذَرَارِي الْفُقَهَاء الَّذين ذكرهم ابْن سَمُرَة اللَّهُمَّ إِلَّا رجل بِذِي السفال اسْمه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْفَقِيه عمر بن إِسْمَاعِيل مقدمي الذّكر مولده سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة أدْرك جده مُحَمَّدًا وَأخذ عَنهُ وَكَانَ فَاضلا بالتفسير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَكَانَ جميل الْخلق مديد الْقَامَة كَمَا ذكر عَن جده مُحَمَّد بن أَحْمد وَكَانَ يحفظ النقاش فِي التَّفْسِير حفظا جيدا وَكَانَ يتنعم فِي ملبسه ومطعمه ومشربه فَكَانَ يدان حَتَّى يبلغ دينه مبلغا عَظِيما فيضيق من ذَلِك وَينزل مدرسة الْجند المنصورية فيتخلى لَهُ مدرسها عَن منصبه ليبقى بهَا مُدَّة وَمَا يحصل من الكيلة قضى بِهِ الدّين وَهُوَ لَا يَأْكُل إِلَّا من بَيته يُؤْتى بِخبْز مخبوز وَيَشْتَرِي إدامه فِي الْجند ثمَّ إِذا انْقَضى دينه عَاد بَلَده مبادرا فَمَا أحسن هَذَا وَأحسن مِنْهُ فعل الْفَقِيه الْمدرس الَّذِي يتخلى لَهُ هَذَا يكَاد يكذب بِهِ الْعقل لما نرَاهُ من فُقَهَاء زَمَاننَا لَكِن الَّذِي أَخْبرنِي رجل من أهل الدّين وَالْعقل وَكَانَ من بَقِي عَلَيْهِ من الطّلبَة شَيْء فِي كِتَابه لحقه بَلَده فأتمه وَكَانَ صَاحب كرامات ومكاشفات أَخْبرنِي الثِّقَة من أهل بَلَده أَنه كَانَ يكثر التّكْرَار لزيارة الْقُبُور فزارها ذَات يَوْم بِجَمَاعَة من أَصْحَابه فحين أشرف عَلَيْهَا تنفس صعدا ثمَّ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله إِن هَذِه الْقُبُور لَيست على مَا ترَوْنَ إِنَّهَا كبيوت أهل الدُّنْيَا مِنْهَا قُصُور وَمِنْه دور وَمِنْهَا بيُوت وَمِنْهَا عشش وَمِنْهَا ديم وَقد سمع مِنْهُ هَذَا جمَاعَة وَأخْبر ثِقَة عَنهُ أَنه روى عَن جده مُحَمَّد بن أَحْمد أَنه كَانَ ذَات لَيْلَة قَائِما يُصَلِّي ورده إِذْ سمع شخصا يَدْعُو من الشَّارِع يَقُول يَا مسعودة يَا مسعودة من قبالة الطاق الَّذِي لَهُ فأخف الصَّلَاة ثمَّ أشرف من الطاق فَرَأى كَلْبا على جذم حَائِط يحدث هرة لبيت الْفَقِيه قد خرجت حِين دَعَا فحين لَقيته تسالما بِكَلَام يعرفهُ الْفَقِيه ويسمعه ثمَّ قَالَت لَهُ من أَيْن جِئْت قَالَ خرجت من زبيد الْيَوْم لِأَنَّهُ قتل الْملك الْمعز بهَا وَأُرِيد أبلغ الْخَبَر من فوري صنعاء وَلَكِنِّي جوعان فانظري لي شَيْئا آكله فَقَالَت لَيْسَ بِالْبَيْتِ شَيْء إِلَّا
وَقد غطي وَذكر عَلَيْهِ اسْم الله تَعَالَى قَالَ كَمَا فِيهِ صبي قد أكل شَيْئا ونام قبل غسل فِيهِ قَالَت بلَى لكني أخشاك تضره قَالَ إِذا أصبح وعَلى فِيهِ شَيْء فأطلوه بطحلة الجرة ثمَّ غَابَ عَن نظر الْفَقِيه وَإِذا بِهِ يسمع بكاء الطِّفْل فِي المهد فَاسْتَيْقَظت أمه وحركته حَتَّى نَام وَعَاد الْفَقِيه إِلَى ورده ثمَّ لما أصبح الصَّباح ظهر على فَم الصَّبِي بثر فَقَالَت أمه للفقيه يَا سَيِّدي مَا هَذَا الَّذِي بولدي قَالَ تطعمينه وَلَا تغسلين فَمه من الطَّعَام فَعرفت وَقَالَت نعم فَقَالَ هَاتِي الجرة فَأَتَتْهُ بهَا فأبعد ماءها وسلت من طحلتها شَيْئا فطلى بِهِ فَم الصَّبِي فَلم يلبث أَن تعافى ثمَّ أَقبلت الْهِرَّة تمشي على سَبِيل عَادَتهَا فَقَالَ الْفَقِيه لَهَا هَكَذَا يَا مسعودة تساعدين علينا فَنَظَرت إِلَيْهِ سَاعَة ثمَّ ولت فَقَالَ الْفَقِيه قد ربينا هَذِه الْهِرَّة فَالله عَلَيْهَا خير حَافِظًا فَنزلت الْهِرَّة الدهليز وأرادت أَن تخرج من طَاقَة فِيهِ فحنبت فِيهَا ثمَّ لما كَانَ بعد يَوْمَيْنِ افتقدت فَلم تُوجد فَأمر الْفَقِيه من طلبَهَا وَقَالَ لَعَلَّهَا فِي الْموضع الْفُلَانِيّ فَوجدت فِيهِ حانبة فخلصت مِنْهُ وأتى بهَا إِلَى الْفَقِيه فَمسح عَلَيْهَا وَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْك لَا تغيري الصُّحْبَة ثمَّ لما استفاضت هَذِه الرِّوَايَة صَار كل من حصل بِهِ حول فَمه بثر طلاه بطحلة الجرة فَيبرأ وجرب ذَلِك وَقدم على هَذَا الْفَقِيه الفقيهان مُحَمَّد بن أبي بكر الأصبحي وَمُحَمّد بن عمر الزَّيْلَعِيّ أَخْبرنِي الْفَقِيه صَالح بن عمر بذلك وَأَنه يذكر قدومهما عَلَيْهِ وسمعا عَلَيْهِ كتاب الرَّقَائِق لِابْنِ الْمُبَارك وَكنت إِذْ ذَاك صَغِيرا
وَلَقَد نَدِمت حَيْثُ لم أحضر سماعهما وَكَانَ محبوبا عِنْد أهل بَلَده ونواحيها مسموع القَوْل مَقْبُول الشَّفَاعَة وَكَانَ خطيب الْبَلَد وَإِمَام الْجَامِع وَكَانَت وَفَاته نَحْو سِتِّينَ وسِتمِائَة تَقْرِيبًا وَحضر قبرانه خلق لَا يكادون يُحصونَ
وَمن غَرِيب مَا جرى يَوْم مَوته أَنه لما توفّي كَانَت لَهُ بقرة غَالب إدامه من لَبنهَا ودهنها توفيت يَوْم توفّي أَيْضا فَلم يخرج الْفَقِيه حَتَّى أخرجت الْبَقَرَة وَكَانَ مَعَه مُؤذن بَينه وَبَينه محبَّة وَرُبمَا كَانَا أَتْرَابًا فحين توفّي الْفَقِيه خرج من جملَة القبار وَجعل ابْنا لَهُ
على كتفه خوفًا عَلَيْهِ من الزحام فَلَمَّا انْقَضى الْأَمر من الدّفن جعل يطْلب وَلَده ثمَّ صَاح لَهُ فَأَجَابَهُ من كتفه فَعجب النَّاس من اشْتِغَال بَاطِنه كل هَذَا الانشغال وَضرب بِهِ الْمثل فَقيل يفتش على ابْنه وَهُوَ على كتفه وَكَانَ مَعَه خَادِم للبقرة يرعاها مُنْفَرِدَة وَيَأْتِي لَهُم بالحطب توفّي بعد أَيَّام يسيرَة وَلم يقم بعده فِي بني عَلْقَمَة أحد يسْتَحق الذّكر وَمن تركته أَنه اشْترى المظفر كتبهمْ الْمُهَذّب الَّذِي نسخه عمر بن إِسْمَاعِيل وَغَيره
وَمِنْهُم عُثْمَان بن الْفَقِيه عبد الْحَكِيم بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن أَحْمد مقدم الذّكر كَانَ هَذَا عُثْمَان وَولده فقيهين فاضلين دخل عُثْمَان عدن فَأخذ عَنهُ عبد الرَّحْمَن الأبيني الْمدرس وَجَمَاعَة من فُقَهَاء عدن جَمِيع كتاب الْبَيَان وَهُوَ وَأَبوهُ مشتهران بالفقه وَالْحِفْظ وَلم أتحقق لأَحَدهمَا تَارِيخا
وَمن بني المصوع مقدمي الذّكر عبد الرَّحْمَن بن فلَان كَانَ زَمَانه قبل زمَان الْفَقِيه عبد الله لَكِن قدمت عبد الله لِأَنَّهُ اشْتهر بِالْعلمِ بِخِلَافِهِ وَأما عبد الرَّحْمَن فَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الازدراع والاتجار مَعَ إتقان الْعِبَادَة أَخْبرنِي الْفَقِيه مُحَمَّد بن عمر صنو الْفَقِيه صَالح بن عمر الْآتِي ذكره عَن أَبِيه وَكَانَ مِمَّن طعن بِالسِّنِّ أَن عَمه قَالَ أَخْبرنِي الْفَقِيه عبد الرَّحْمَن بن المصوع أَنه صلى ذَات لَيْلَة الْعشَاء مَعَ جمَاعَة بِالْمَسْجِدِ ثمَّ تقدم بَيته فَأَتَتْهُ امْرَأَته وَهِي متطيبة فَدَعَاهَا إِلَى الْفراش فاعتذرت بِعُذْر هَين فَتَركهَا ونام قبل عودهَا إِلَيْهِ ثمَّ لم يشْعر إِلَّا وَهِي تكبسه فَاسْتَيْقَظَ يحدثها يُرِيد وقاعها فَقَالَت نَحن الْآن قد فَرغْنَا فتشوش من ذَلِك ثمَّ قَامَ وأرخ ذَلِك وَامْتنع عَنْهَا تِسْعَة أشهر فَوضعت صَبيا فَلم يكن أَكثر شيطنة مِنْهُ لَا سِيمَا فِي أَوْقَات الصَّلَاة وَكثر الْبَوْل على من حمله قل من حمله إِلَّا وبال عَلَيْهِ وخصوصا مَتى كَانَ من أهل الدّين وَالطَّهَارَة وَمَتى صَار بمواضع الصَّلَاة بَال فِيهَا وقلما يَبُول فِي الأَرْض والفقيه قد عرف قلَّة توفيقه وَأَنه سبقة من الشَّيْطَان فَلم يتَكَلَّم فَلَمَّا صَار على أَنه يمشي ويفطم تركته أمه يَوْمًا يلْعَب بِالْمَجْلِسِ والفقيه قَائِم يُصَلِّي الضُّحَى نظر بطرفه وَالصَّبِيّ مُقَابل الطَّاقَة فَظهر مِنْهَا شخص فصاح يَا قدار يَا قدرا فَأَجَابَهُ الصَّبِي بِكَلَام فصيح لبيْك فَقَالَ وَكَيف أَنْت قَالَ بِخَير وعَلى خير يكرمونني ويغذونني غذَاء جيدا فَقَالَ لَا تكون إِلَّا جيدا فَمَا تعرف لَا تتركهم يصلونَ وَلَا تتْرك لَهُم موضعا طَاهِرا وَلَا ثوبا طَاهِرا حَسْبَمَا أشكرك فَقَالَ الصَّبِي سمعا وَطَاعَة ثمَّ قَالَ كَانَ الله مَعَك فَذهب وَلم يره الْفَقِيه بل كَانَ خطابه من خَارج الطَّاقَة فَلَمَّا فرغ
الْفَقِيه من صلَاته صَاح بِالصَّبِيِّ يَا قدار اذْهَبْ أذهبك الله وَإِذا بِالصَّبِيِّ قد نفر على شبه الطَّائِر وَخرج من الطَّاقَة الَّتِي حصل مِنْهَا الْكَلَام كَأَنَّهُ طَائِر
ثمَّ إِن امْرَأَته عَادَتْ فَلم تَجِد الصَّبِي فَقَالَت يَا سَيِّدي أَيْن ابْني قَالَ أمره عَجِيب ثمَّ أخْبرهَا بِمَا كَانَ مِنْهُ جَمِيعه فَقَالَ لَو قلت لي يَوْم وَلدته كنت قتلته
فَقَالَ قد كفى الله بِهِ وقلعه ثمَّ لبث الْفَقِيه مُدَّة سنتَيْن فَتحصل لَهُ شَيْء من الْقُوَّة من أرضه فعزم أَن ينزل بِهِ إِلَى عدن فَسَار حَتَّى صَار بالمفاليس ولقيه الحرس ونقيبهم يَوْمئِذٍ شَاب جميل الْخلق فحين رأى الْفَقِيه أقبل يسلم عَلَيْهِ بِسَلام حسن سَلام عَارِف مؤالف
فأنزله بِمَنْزِلَة جَيِّدَة وَصَارَ يتَكَرَّر بحوائجه وَيَقُول لأَصْحَابه اخدموا الْفَقِيه فَهُوَ رجل صَالح فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل هُوَ نقيب العشارين لَا نَعْرِف فِيهِ الْخَيْر إِلَّا لَك فَعجب الْفَقِيه ثمَّ سَافر إِلَى عدن فَقضى حَوَائِجه وَعَاد المفاليس فَلَمَّا صَار بهَا وَصله النَّقِيب وَتَوَلَّى خدمته فَقَالَ لَهُ الْفَقِيه يَا هَذَا بِمَ استحققت مِنْك هَذِه الْمُوَالَاة فَقَالَ يَا سَيِّدي لَك عَليّ حُقُوق كثير أما تعرفنِي قَالَ لَا قَالَ أَنا عَبدك قدار فَقَالَ أَنْت قدار فَقَالَ نعم يَا سَيِّدي لَك عَليّ حُقُوق كثير لَو علمت أَنَّك تقبل ضيافتي لأضفتك لَكِن معي هذَيْن الزنبيلين وأحضرهما أحب أَن تحملهما إِلَى والدتي فِي أَحدهمَا كسْوَة لَهَا وَفِي الآخر طيب فَلم يُمكن من الْفَقِيه إِلَّا جبر بَاطِنه وَأخذ مَا جَاءَ بِهِ وَلما وصل بَلَده أخبر زَوجته بِمَا جرى مَعَه فعجبت ثمَّ أخذت حطبا وَأوقدت التَّنور فَلَمَّا اشْتَدَّ لهيبه أَلْقَت فِيهِ الأجبين بِمَا فيهمَا وَلم تفتحهما وَكَانَ وجود هَذَا الْفَقِيه فِي صدر المئة السَّابِعَة وَهُوَ آخر من تحققت من بني المصوع
ثمَّ اعْلَم أَن أَكثر بلد الْيمن من زمن مُتَقَدم على زَمَاننَا فُقَهَاء ومتفقهين وعلماء محققين مَدِينَة زبيد الْمُتَقَدّم ذكرهَا على مَا تحققته قد مضى ذكره والمتأخر جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْحسن عَليّ بن قَاسم بن العليف بن عبس بن سُلَيْمَان بن عمر بن نَافِع الشراحيلي الْحكمِي من حكم حرض قدم زبيد بعد أَن تحكم بقرية الشويري على إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا مقدم الذّكر ثمَّ لما قدم زبيد أَخذ عَن الْفَقِيه عَبَّاس بن مُحَمَّد مقدم الذّكر وَدخل مَدِينَة ذِي أشرق فَأدْرك القَاضِي مَسْعُود فَأخذ عَنهُ وَكَانَ إِمَامًا كَبِيرا من أَئِمَّة
الدّين بِهِ تفقه غَالب الطَّبَقَة الْمُتَأَخِّرَة من غَالب نواحي الْيمن إِذْ قَصده الطّلبَة من نواح مُخْتَلفَة وتفقهوا بِهِ وعادوا بلدانهم فنشروا بهَا الْعلم وَكَانَ عَالما مُبَارَكًا عَظِيم الْقدر وَله مصنفات مفيدة مِنْهَا كتاب الدّرّ فِي الْفَرَائِض وَله مُخْتَصر سَمَّاهُ الدُّرَر يبين بِهِ مشكلات الْمُهَذّب وَله أسئلة غَرِيبَة عَن مُشكل التَّنْبِيه سَيرهَا إِلَى بَغْدَاد على يَد الإِمَام مُحَمَّد بن الْحسن الصغاني وَأعَاد الْجَواب من البادراوي من بَغْدَاد وَأجَاب عَلَيْهَا جمَاعَة من علمائها وَأجَاب عَنْهَا أَيْضا مُحَمَّد بن يُوسُف الشويري الْمُقدم ذكره وَجَوَابه أرْضى الْأَجْوِبَة عَنْهَا وَقد ذكرت ذَلِك
وَمن أَعْيَان أَصْحَابه بزبيد مُحَمَّد بن الْخطاب وَابْن عَاصِم وَابْن القلقل وَرُبمَا كَانَ القوقلي وَعبد الْوَاحِد بن مبارك السحيلي وَعمر بن مَسْعُود الأبينيان وَحسن الشرعبي وَعبيد بن أَحْمد من السهولة وَلَقَد أخبر الثِّقَة أَنه خرج فِي درسته سِتُّونَ مدرسا وَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ذكر من تحققته مِنْهُم مُبينًا فِي مَوْضِعه وَكَانَ يحفظ التَّنْبِيه عَن ظهر غيب ثمَّ لَا يزَال حَامِلا لَهُ فَقيل لَهُ فَأَنت تحفظه فَلم تحمله قَالَ احْتج بِهِ على أهل المراء وَكَانَ راتبه كل يَوْم سبع الْقُرْآن أَخذ ذَلِك عَن شَيْخه إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا مقدم الذّكر وَكَانَ ذَا ورع لوزم على قَضَاء زبيد فَامْتنعَ ولوزم على التدريس فَامْتنعَ ورسم عَلَيْهِ أَيَّامًا وَهُوَ مصمم على الِامْتِنَاع مَعَ الْفقر وَعدم مَا يقوم بِهِ
وَبِالْجُمْلَةِ ففضله أَكثر من أَن يحصر وَكَانَت وَفَاته خَامِس رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَخَلفه ابْنه أَحْمد وَكَانَ فَقِيها فرأس ودرس إِلَى أَن توفّي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع ربيع الآخر سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَله ذُرِّيَّة بزبيد يجللون ويحترمون ببركته
وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن القلقل بقافين مخفوضتين الأولى بعد الْألف وَاللَّام وَبَين القافين لَام سَاكِنة وَبعد الْأَخِيرَة لَام أَيْضا سَاكِنة كَانَ فَقِيها جليل الْقدر محققا مدققا وَله فَتَاوَى تدل على فقهه وسعة فَضله لوزم على تدريس المنصورية ورسم عَلَيْهِ بذلك فَامْتنعَ وَأقَام أَيَّامًا بالترسيم اتَّصل فِي أَثْنَائِهَا الْعلم بِمَوْت الْمَنْصُور صَاحب الْمدرسَة فَانْظُر هَؤُلَاءِ وورعهم كَيفَ يطْلبُونَ ويرسم عَلَيْهِ فِي قبُول المناصب وَأخذ الرزق عَلَيْهَا فيتورعون عَن ذَلِك وَكَانَ غَالب أَحْوَالهم الْفقر
وَهَذَا عكس أهل زَمَاننَا وَكَانَ هَذَا إِبْرَاهِيم من أجل الْفُقَهَاء قدرا وَإِلَيْهِ ينْسب الْمحل الغربي من زبيد الْمَعْرُوف بِمحل القلقل وَله ذُرِّيَّة يحترمون ببركته إِلَى عصرنا وَلم أتحقق لَهُ تَارِيخا
وَمِنْهُم الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْحكمِي وَولده مُحَمَّد كَانَا فقيهين كبيرين وَكَانَا يدرسان بِالْمَدْرَسَةِ المعزية الْمَعْرُوفَة بمدرسة الميلين وذريتهم يتوارثون ذَلِك إِلَى عصرنا سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة وَرَأَيْت إجَازَة لمُحَمد فِي إقرائه لبَعض الطّلبَة لكتاب الْمُهَذّب أَنه كَانَ ذَلِك فِي أَيَّام آخرهَا ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى من سنة خمسين وسِتمِائَة وَأدْركت لمُحَمد أَخا اسْمه أَبُو بكر درس بعد أَخِيه وَكَانَ رجلا صَالحا مُبَارَكًا ذَا مروة وتفضل وَعمي فِي آخِره وَتُوفِّي آخر المئة السَّابِعَة وَخَلفه ابْنَانِ هما عَليّ وَعمر فعلي درس بالعاصمية إِلَى أَن توفّي فِي الْمحرم سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة وَخَلفه ابْن اسْمه أَبُو بكر هُوَ الْآن مدرس بِالْمَدْرَسَةِ المعزية وَله مروة وَخلق درس بهَا بعد عَمه وَالْغَالِب عَلَيْهِم الْخَيْر وَالدّين ويعرفون بحكماء الميلين تَحَرُّزًا من حكماء الْجَامِع
وَمِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن أبي الْحُسَيْن بن عبد الله الزوقري ثمَّ الركبي وَيعرف بِابْن الْحطاب فَإِن أَبَاهُ كَانَ يسكن قَرْيَة النويدرة على بَاب زبيد القبلي نِسْبَة إِلَى بيع الْحَطب مولده آخر المئة السَّادِسَة وتفقهه بِابْن قَاسم الْمُقدم ذكره وتضلع من عُلُوم شَتَّى بِحَيْثُ كَانَ يفضل على فُقَهَاء عصره أجمع على ذَلِك المؤالف والمخالف وَكَانَ يقرىء الْقرَاءَات السَّبع وَكَانَ نحويا لغويا فروعيا أصوليا فرضيا حسابيا حديثيا وَكَانَ يَقُول أَنا ابْن عشْرين علما لَيْسَ أحد لي مناظرا فِي شَيْء مِنْهَا ذكر الثِّقَة أَنه حصل اجْتِمَاع لفقهاء زبيد فِي وَلِيمَة وَتَأَخر هَذَا الْفَقِيه عَن الْمُبَادرَة فَلم يتم أَمر حَتَّى وصل فَأقبل يمشي وَعَلِيهِ ثِيَاب مُرْتَفعَة يجر رِدَاءَهُ فَقَالَ شَيْخه ابْن قَاسم مَا هَذَا الْعجب الَّذِي مَعَ هَذَا الصَّبِي فحين دخل الْمجْلس قصد صَدره وَقعد فِيهِ غير محتفل بِأحد وَلَا لافت فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين مسرا إِنَّك لما أَقبلت على الْجَمَاعَة قالو كَيْت وَكَيْت ثمَّ قَالَ الْفَقِيه عَليّ بن قَاسم كَذَا وَكَذَا فَرفع الْفَقِيه رَأسه وَقَالَ جهارا كَيفَ لَا أعجب وَأَنا ابْن عشْرين علما لَيْسَ فِي الْحَاضِرين من يناظرني فِي وَاحِد مِنْهَا ثمَّ أنْشد قَول المتنبي ... إِن أكن معجبا فَعجب عَجِيب ... لم يجد فَوق نَفسه من مزِيد ...
وَحين تفقه صَار إِلَى زبيد من النويدرة وَمن قومه بَقِيَّة بهَا إِلَى الْآن وَلما صَار إِلَى مَدِينَة زبيد حَاز مَسْجِد الأشاعر على أَصْحَاب أبي حنيفَة وَصَارَ يدرس فِيهِ وعندما دخل الْوَقْت يَأْمر الْمُؤَذّن بِالْأَذَانِ ثمَّ يُبَادر إِلَى أَدَاء الصَّلَاة كَمَا هُوَ مقول فِي مَذْهَب الشَّافِعِي فتعب من ذَلِك أَصْحَاب أبي حنيفَة وَلم يحتفل بهم وَكَانَ لَا يكَاد يُوجد إِلَّا مدرسا للْعلم أَو مُقبلا على صَلَاة وغالب تدريسه فِي مَسْجِد الأشاعر ونادرة فِي مَسْجِد عِنْد بَيته يعرف بفخر الدّين بن عَليّ رَسُول الَّذِي جددته الْحرَّة مَاء السَّمَاء ابْنة المظفر وَقد تقدم ذكرهَا وَذكر الثِّقَة أَنه أصبح ذَات يَوْم استدعى بِأَخ لَهُ اسْمه أَبُو الْحسن وَهُوَ جد الْمَوْجُودين بقرية النويدرة المعروفين ببني الْحطاب فَلَمَّا حَضَره قَالَ لَهُ يَا فلَان رَأَيْت البارحة رَبِّي تَعَالَى فَقَالَ لي يَا مُحَمَّد إِنَّا أحبك فَقلت يارب من أحببته ابتليته فَقَالَ استعد للبلاء وَأَنت يَا أخي فَكُن بِي على حذر ثمَّ فِي ذَلِك الْيَوْم خرج من بَيته إِلَى الأشاعر يُرِيد صَلَاة الْعَصْر فَصلاهَا ثمَّ عَاد بَيته مسرعا وَكَانَ من عَادَته الْقعُود والإقراء فَلَمَّا صَار بِشَيْء من الطَّرِيق غشي عَلَيْهِ فَذكرُوا أَن الْفَقِيه إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ نفع الله بِهِ مر بِهِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال فأكب عَلَيْهِ وَقبل بَين عَيْنَيْهِ ثمَّ قَالَ أَهلا بك يَا مَحْبُوب ثمَّ حمل إِلَى بَيته وَكَانَ ذَلِك وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة وَكَانَ متزوجا بابنة شَيْخه عَليّ بن قَاسم ففسخ عَلَيْهِ نِكَاحهَا وَاشْترى لَهُ من مَاله جَارِيَة تقوم بِهِ وخطبت زَوجته فَقَالَت لَا أُرِيد بِهِ بَدَلا حَيا وَلَا مَيتا وَكَانَت الْجَارِيَة ترمه وَتَحفظه وَقد أَتَت لَهُ بابنتين إِحْدَاهمَا مَوْجُودَة عَام وَاحِد وَعشْرين وَسَبْعمائة وَكَانَ من أَكثر النَّاس حفظا للآثار وَالْأَخْبَار والأشعار وَكَانَ مُقَيّدا مربوطا إِلَى شَيْء أكيد ثمَّ كَانَ الطّلبَة من أَصْحَابه وَأهل عصره يقرؤون عَلَيْهِ فِي أَوْقَات يكون فِيهَا متعافيا وكل من أعياه مثل أَو مَسْأَلَة وَصله وَسَأَلَهُ فيزيل عَنهُ الْإِشْكَال
حُكيَ أَن الْملك المظفر قَالَ يَوْمًا لجلسائه أذكر بَيْتَيْنِ كنت أحفظهما فِي المعلامة لَا أذكر مِنْهُمَا غير حضني أَو حضنا وأريدهما وَلَو بِمَال فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين يَا مَوْلَانَا هُنَا فَقِيه فَاضل حصل بِهِ جنان يفِيق فِي بعض الأحيان وَيسْأل عَن مسَائِل فيجيب عَنْهَا وَلَو أَمر مَوْلَانَا بإحضاره فِي وَقت الصحو فَرُبمَا يجد عِنْده مَا سَأَلَ فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وَأمر إِلَى الْجَارِيَة وسألها عَن وَقت يَتَّسِع فِيهِ صفاء ذهن الْفَقِيه فَقَالَت مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء فَأمر إِلَيْهَا بِثِيَاب وأمرها أَن تغسله وتطيبه وَعرفهَا أَنه بعد الْمغرب يُرْسل لَهُ بمركوب وَأَنَّهَا تصل مَعَه وَذَلِكَ أَنه بلغ السُّلْطَان أَنَّهَا تشد عَلَيْهِ وَقد
تضربه فَهُوَ يخافها خوفًا شَدِيدا فَلَمَّا كَانَ بعد الْمغرب أَمر السُّلْطَان لَهُ بمركوب وَغُلَام يركبه ويسير مَعَه إِلَى دَاره وَكَانَت الْجَارِيَة قد استعدت لذَلِك بِمَا يَلِيق من غسل وتنظيف وسارت مَعَه حَتَّى دخلت مَعَه مقَام السُّلْطَان الْملك المظفر وَقد اغتص بالأمراء والحرفاء وأعيان الدولة فَأقْعدَ وَلما اسْتَقر سُئِلَ عَن أَي مَكَان هُوَ فِيهِ فَقَالَ هُوَ مقَام السُّلْطَان الْملك المظفر ثمَّ قَالَ لَهُ يَا يُوسُف كَانَ والدك صَاحِبي فَقَالَ السُّلْطَان وَنعم الصاحب أَنْت يَا فَقِيه ثمَّ أَمر من يسْأَله من الْحَاضِرين شخصا شخصا فَكلما سُئِلَ عَن وَاحِد قَالَ هَذَا فلَان قَالَ هَذَا فلَان بِمَعْرِِفَة شافية حَتَّى قيل لَهُ ابْن دعاس فَقَالَ هَذَا ابْن عَم أَخِيه وَكَانَ بَينهمَا مكارهة من طَرِيق الْمَذْهَب إِذْ ابْن دعاس حَنَفِيّ فحين تحقق السُّلْطَان صفاء ذهنه أَمر من يكلمهُ فِي طلبته فَقيل لَهُ إِن مَوْلَانَا السُّلْطَان كَانَ يحفظ أَيَّام الْمكتب بَيْتَيْنِ وَقد نسيهما غير أَن فِي أَحدهمَا حضنى أَو حضني فَقَالَ الْفَقِيه هما ... رَاحَة الْإِنْسَان حَيا ... بَين حضني وَالِديهِ
فَإِذا مَاتَا أحالا ... بشقا الدُّنْيَا عَلَيْهِ ... فَقَالَ السُّلْطَان هما وَالله البيتان وسر بهما سُرُورًا عَظِيما وَأمر أَن يخلع عَلَيْهِ فَفعل ثمَّ بدا مِنْهُ شَيْء حسن التعقيل فَقَالَت الْجَارِيَة هَذَا وَقت تغير حَاله فأعيدوه إِلَى الْبَيْت فَأمر السُّلْطَان بذلك فِي سرعَة وأعيد إِلَى بَيته ثمَّ فِي صباح ذَلِك الْيَوْم أصبح متأسفا عَلَيْهِ ولائما لِأَبِيهِ كَيفَ حصل لَهُ رجل فِي دولته مثل هَذَا وغفل عَن حَدِيثه وَلم يداوه ثمَّ طلب الطَّبِيب وَأمره بِمُبَاشَرَة الْفَقِيه ووعده على عافيته إعطاءه مَا سَأَلَ فَذكرُوا أَنه تقدم وَنَظره وَخرج من عِنْده وَقد استبشر لَهُ بالفرج فَيُقَال إِن ابْن دعاس لقِيه بِالطَّرِيقِ وَقد كَانَ علم مَا أَمر لَهُ فَقَالَ كَيفَ رَأَيْت حَال هَذَا الرجل هَل يتداوى قَالَ نعم فَقَالَ وَالله إِن تعافى لَا يتْرك لَك وَلَا لأحد من الْفُضَلَاء قدرا فَإِنَّهُ فِي كل علم باقعة وَالصَّوَاب أَنَّك تدفع السُّلْطَان عَن ذَلِك لعذر مَا فأوقع ذَلِك فِي نفس الطَّبِيب وَلما صَار إِلَى السُّلْطَان قَالَ وَالله يَا مَوْلَانَا هَذَا لَا يتداوى إِلَّا فِي الْعرَاق قَالَ لَهُ فَلَو بَعَثْنَاهُ إِلَى الْعرَاق وتداوى ثمَّ عَاد إِلَى الْبِلَاد هَل يخْشَى عَلَيْهِ شَيْء قَالَ نعم فَأَعْرض السُّلْطَان عَن ذَلِك ظنا مِنْهُ أَنه صَادِق فِيمَا يَقُول ثمَّ أَمر أَن يجْرِي على الْفَقِيه كل يَوْم عشْرين درهما فحسده ابْن دعاس وَلم يزل بالسلطان حَتَّى نَقصهَا حَتَّى عَادَتْ إِلَى دِرْهَمَيْنِ وَاسْتمرّ ذَلِك بعد مَوته على ذُريَّته وَكَانَ كثيرا مَا يَأْتِيهِ أَصْحَابه وَغَيرهم فَمَتَى لقوه ذَاهِبًا
باحثوه فِي الْعلم وَمَتى تغير خَرجُوا عَنهُ وَمن لم يفهم حَاله صفقت الْجَارِيَة فَيعرف فَيخرج فتظهر الْجَارِيَة وتهيب بِالضَّرْبِ وَرُبمَا ضَربته فيسكن إِذْ كَانَ يخافها
أَخْبرنِي وَالِدي يُوسُف بن يَعْقُوب نور الله حفرته قَالَ كنت أحب هَذَا الْفَقِيه ابْن الْحطاب على السماع وأكره أَن أره على مَا قد بَلغنِي من الْحَال علمت أَن رجلا مِمَّن كنت أَصْحَبهُ قَالَ لي يَوْمًا اذْهَبْ معي إِلَى الْفَقِيه ابْن الْحطاب نسلم عَلَيْهِ فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ ورافقته فَلَمَّا صرت مَعَه إِلَيْهِ وَسلمنَا عَلَيْهِ رد علينا ردا جيدا ثمَّ قَالَ للرجل يَا مُحَمَّد هَل جئتنا بِشَيْء فَقَالَ بنفسي فَأَنْشد الْفَقِيه مرتجلا ... أَتَانَا أَخ من غيبَة كَانَ غابها ... وَكَانَ إِذا مَا غَابَ ننشده الركبا
فَقُلْنَا لَهُ هَل جئتنا بهدية ... فَقَالَ بنفسي قلت نطعمها الكلبا ... وَنَحْو ذَلِك مَا أَخْبرنِي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن الشَّيْخ الْفَاضِل مَنْصُور بن حسن الْكَاتِب عَن أَبِيه قَالَ دخلت أَنا والمقرىء مُحَمَّد بن عَليّ الْفَقِيه الْمَذْكُور فَسَأَلَهُ المقرىء عَن مَسْأَلَة فِي الْحيض مشكلة فَأَبَانَهَا لَهُ ثمَّ أنْشد ... لَو علمنَا مجيئكم لبذلنا ... مهج النَّفس أَو سَواد الْعُيُون
وفرشنا على الطَّرِيق خدودا ... ليَكُون الْمُرُور فَوق الجفون ... وَله شعر رائق مِنْهُ مَا وجدته بوصاب عَام دَخَلتهَا سنة عشْرين وَسَبْعمائة مَعَ مقرئها يَوْمئِذٍ وَهُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف الغيثي الْآتِي ذكره قَالَ أثبت إِلَيّ أَن هَذَا الْفَقِيه يَعْنِي ابْن الْحطاب كَانَ بَينه وَبَين الْفَقِيه مُوسَى بن أَحْمد شَارِح اللمع الْآتِي ذكره صُحْبَة ومكاتبة وَأَنه كتب إِلَيْهِ شعرًا مِنْهُ لما دخل كِتَابه شرح اللمع إِلَى زبيد مَا مِثَاله ... تربي خليلي فِي ربع والثمل فأرقته ... وَيَكْفِيك فضلا أدمج حطاب
وكل وعذراء بردي
وَهَذَا جملَة مَا وجدته عِنْد المقرىء الْمَذْكُور وَبِالْجُمْلَةِ فأوصافه جمة وَإِنِّي مقصر عَن استيعابها وَكَانَت وَفَاته بزبيد سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
إِلَى هُنَا تَنْتَهِي تَرْجَمَة الأديب الْعَلامَة أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الزوقري الْمَعْرُوف بِابْن الْحطاب الزبيدِيّ وبانتهاء هَذِه التَّرْجَمَة انصرم الْجُزْء الأول من كتاب السلوك فِي طَبَقَات الْعلمَاء والملوك للمؤرخ الْفَاضِل بهاء الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن يَعْقُوب الجندي السكْسكِي الْكِنْدِيّ وَذَلِكَ بتجزئة الْمُحَقق مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَكْوَع الحوالي لطف الله بِهِ ويبتدىء الْجُزْء الثَّانِي بترجمة أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن يحيى بن عبد الله النَّاسِخ الزبيدِيّ
حررها بتاريخ 27 الِاثْنَيْنِ من شهر رَجَب 1403 هـ الْمُوَافق 9 من شهر مايو سنة 1983 م
الصفحة