Bab 2: Pengaruh Aliran Quburiyah di Yaman
Judul Buku: Pemujaan Kuburan di Yaman: Asal Usul, Dampak, dan ٍSikap Ulama atasnya
Ditulis oleh Syekh Ahmed bin Hassan Al-Moallem
اسم الكتاب: القبورية في اليمن نشأتها - آثارها - موقف العلماء منها
تأليف فضيلة الشيخ أحمد بن حسن المعلم
Daftar Isi
- Download Kitab Al-Quburiyah fi Al-Yaman
- Bab 1: Pendahuluan
- Bab 2: Pengaruh Aliran Quburiyah di Yaman
- Kembali ke: Kitab Al-Qurburiyah fi al-Yaman
الباب الثاني آثار القبورية
ويشتمل على مدخل وأربعة فصول
المدخل
وفيه بيان نشأة العقائد الضالة عن الغلو في الصالحين
الفصل الأول عقائد القبورية الضالة
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: عقيدة القطبية والتصرف في الكون.
المبحث الثاني: عقيدة الرجعة وإمكان الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة.
المبحث الثالث: الاعتقاد بحياة الخضر واللقاء به.
سبق في الباب التمهيدي تعريف القبورية وأنها (طائفة غلت في أصحاب القبور واعتقدت فيهم عقائد ضالة، حملتها على تعظيم قبورهم وآثارهم، والتقرب إليهم بأنواع من العبادات حتى صيّرتهم أنداداً لله تعالى) .
فهذه الطائفة أهم سماتها الغلو وهو مجاوزة الحد في هؤلاء الناس الذين زَعَمَتْهُم أولياء لله تعالى، مما نتج عنه عقائد ضالة، بعض هذه العقائد شرك وبعضها دون ذلك، وبناءً على تلك العقائد نشأ تعظيم القبور والآثار المنسوبة إلى أولئك الأولياء، وبهذا التعظيم غرست بذور من بذور القبورية في نفوس هؤلاء القبورية ومقلديهم من العوام، مثل المحبة والخوف المتجاوزَيْن حدود الطبيعة الذَين أوجبا التذلل والانكسار أمام هؤلاء الأولياء أحياءً وأمواتاً، وحملا على التقرب إليهم بما لا يُتقرب به إلا إلى الله سبحانه من النذر والذبح والطلب منهم ما لا يجوز طلبه إلاّ من الله تعالى وهو الدعاء، وبناءً على
كل ذلك نشأت في الأمة أمراض فتاكة مثل السحر والكهانة والدجل والخرافة والتمايز الطبقي وتجهيل الأمة.
من هذا المنطلق سيكون تناولي لآثار القبورية، وهناك آثار كثيرة لن أتكلم عنها لضعف أو خفاء ارتباطها بالقبورية التي حددتُ معالمها في هذا التعريف، والتي قد يكون لها بواعث أخرى غير الغلو في أصحاب القبور، ومن أمثلة ذلك عقيدة وحدة الوجود وإضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الصوفية والسماع الصوفي، فهذه الثلاثة النماذج وغيرها قد يتطلع القارئ لبحثها ودراستها ولكنني لن أخوض فيها لخروجها عما رسمته وحددته لنفسي، ولضيق المساحة المحددة لهذا البحث.
الفصل الأول عقائد القبورية الضالة
Pasal Pertama: Akidah al-Quburiyah yang Sesat
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عقيدة القطبية والتصرف في الكون
وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول: تعريف القطب:
قال الجرجاني في تعريف القطب: (وقد يسمى غوثاً باعتبار التجاء الملهوف إليه وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم, وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحق، وعلم الحق يتبع الماهيات الغير المجعولة، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس لا من حيث إنسانيته، وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوة الدافعة فيها) . [1]
(1) التعريفات ص (177 - 178) .
هذا هو القطب، وهو مأخوذ عن الإسماعيلية كما سبق عن ابن خلدون [1]، والإسماعيلية أخذته عن الفلاسفة، وما النفس الناطقة إلا إحدى مراتب الألوهية عند الفلاسفة.
المطلب الثاني: اعتماد ما تقرر من تعريف القطب عند قبورية اليمن:
ما اشتمل عليه تعريف القطب السابق هو ما اعتقده صوفية اليمن ودانوا به، يقول اليافعي [2] بعد أن ذكر حديث الأبدال الموضوع: (( وله واحد قلبه على قلب إسرافيل )) قال: (والواحد المذكور في هذا الحديث هو القطب، وهو الغوث ومكانته من الأولياء كالنقطة من الدائرة التي هي مركزها به يقع صلاح العالم) [3].
وقال الحداد: (والقطب الغوث هو: إمام الأولياء أهل الدائرة والتصريف، وهم المعدودون في الأخبار والآثار الواردة فيهم) . [4]
وتلك الصفات التي يتحلى بها القطب قد أسبغها قبورية اليمن على أوليائهم، وبهذا وصف الشيخ علي الأهدل صاحبي عواجة البجلي والحكمي فقال أثناء حكاية ساقها الشرجي عن اليافعي في
(1) هو المؤرخ المشهور وواضع علم الاجتماع عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الاشبيلي توفي سنة (808 هـ) اشتهر بالتاريخ الذي سماه العبر وديوان المبتدئ والخبر ومقدمته التي تعد من أصول علم الاجتماع، ترجم نفسه في آخر التاريخ وترجمه الكثير من الباحثين، انظر ترجمته في أخر كتاب التاريخ (7/ 365) وما بعده، والضوء اللامع للسخاوي ... (4/ 145) ، الأعلام للزركلي (3/ 330) ،انظر: مقدمة التاريخ طبعه دار إحياء التراث العربي.
(2) عبد الله بن أسعد اليافعي توفي سنة (786 هـ) أحد أقطاب صوفية اليمن فقيه مؤرخ صاحب كتاب روض الرياحين في ذكر حكايات الأولياء والصالحين ومرآة الجنان في التاريخ، انظر: طبقات الخواص ص (162) ، البدر الطالع (1/ 378) .
(3) روض الرياحين في حكايات الصالحين ص (16) تأليف عبد لله بن أسعد اليافعي، وبذيله عمدة التحقيق في بشائر الصديق للشيخ إبراهيم العبيدي المالكي، نسخة مصورة بدون تاريخ.
(4) النفائس العلوية في المسائل الصوفية ص (148) لعبدالله بن علوي الحداد طبع دار الحاوي الطبعة الأولى (1414 هـ -1993 م) .
بعض مصنفاته: (يا أبا الغيث هذان في مقام التولية والعزل، يوليان ويعزلان ويميتان ويحييان بإذن الله تعالى وسوف أرثهما وترثني أنت) [1].
وبذلك وصف محمد بن أحمد باجرفيل الدوعني أبابكر العيدروس حينما استفسره محمد بن عمر بحرق عن تصرفات مالية تصرفها العيدروس على غير الوجه الشرعي فقال: (أنا أشهد أنه أمير المؤمنين المالك للتولية والعزل والحل والعقد والتصرفات كلها، وأشهد أنه أفضل أهل الأرض ظاهراً وباطناً) [2].
ووُصف بها الشيخ عبدالرحمن السقاف، قال عبدالرحمن الخطيب: (الحكاية السابعة والثلاثون بعد الثلاثمائة وهي السادسة والتسعون من مناقب السقاف - رضي الله عنه - عن عبدالرحيم بن علي الخطيب -رحمه الله تعالى - قال: كنت يوماً في مجلس شيخنا الشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه - فتكلم الشيخ في الشيخ أبي الغيث بن جميل اليمني [3] ثم قال في أثناء مدحه: أتى فقهاء اليمن إلى الشيخ أبي الغيث وقالوا له: يا أبا الغيث ما عرفنا إيش مذهبك أخبرنا إيش مذهبك أنت شافعي أم مالكي أم حنبلي أم حنفي؟ فقال لهم: (لا أنا شافعي ولا مالكي ولا حنبلي ولا حنفي، فقالوا له: (فإيش أنت فقال: جنداري من جنادرة السلطان، ثم سكت الشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه - ساعة ثم همز نفسه ومد يديه في الهواء وقال بأعلى صوته: أنا جنداري من جنادرة السلطان، قال عبدالرحيم ثم بعد ذلك بأيام قلت للشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه: وما جنداري السلطان، فقال: ما هذا معناه، هو الذي يدخل على السلطان من غير إذن ولا عليه حجاب، ويأمر
(1) طبقات الخواص ص (266) .
(2) مواهب القدوس في مناقب العيدروس ضمن المجموعة العيدروسية ص (14) .
(3) توفي سنة (651 هـ) انظر هِجَر العلم (1/ 219) ، السلوك (1/ 184) .
وينهى ولا أحد يعارضه فيما يريد، وإذا دخل بلداً أو مكاناً لم يبق لأحد معه من أهل تلك الديار والمكان أمر لا أمير ولا وزير ولاغيرهما، بل الأمر أمر الجنداري والحكم حكمه ما شاء فعل ولا معقب لأمره ولا مرد له ... ) [1].
قلت: وقبل هذه الحكاية حكايات أخرى ساقها صاحب الجوهر فيها تأكيد وشواهد على ما تضمنته هذه الحكاية من اعتقاد القطبية للسقاف التي تجعله في مقام التصرف التام والتولية والعزل.
وإليك نص حكاية منها، وهي الحكاية الخامسة والثلاثون بعد الثلاثمائة عن عمر المحضار بن عبدالرحمن السقاف [2] قال: (كنت نائماً أظنه قال في مسجد مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال: فلم أشعر إلا برجل من الصالحين قد وكزني برجله فرفعت رأسي فقال: ما أجرأك تنام هنا وبطن أبيك ملانة كرعان [3] [كم واحد قال سلبه ثم ولى عني ولم أعرفه فسأل الشيخ عمر - رضي الله عنه - عن معنى قول الرجل بطن أبيك ملانة كرعان] [4] فقال أخذ الخلق كلهم في بطنه يولي من يشاء ويعزل من يشاء رضي الله تعالى عنه) [5].
وقال أحمد بن حسن العطاس في أثناء حكاية (فقال: إني صاحب الوقت وأتصرف في أهله وأنت فلان ابن فلان، وإن كنت تريد أن تنظر إلى بلدكم تريم فأدخل رأسك في كمي فبهت من ذلك ولم أفعل، ثم قال لي: أتريد أن أتصرف في قلب الباشا بأن يقوم؟ وكان جالساً في الحرم فبمجرد قوله ذلك
(1) الجوهر الشفاف (1/ 81 - 82) .
(2) نقيب العلويين في زمانه وأحد أشهر أقطاب حضرموت توفي سنة (833 هـ) انظر الغرر ص (192) ، المشرع ... (2/ 241) .
(3) هي قوائم الدابة انظر القاموس مادة كرع ص (980) .
(4) ما بين القوسين من الحاشية معلم عليه أنه ساقط من الأصل.
(5) الجوهر الشفاف (2/ 80) .
قام الباشا وأتباعه وذهبوا خارجين من الحرم، فلما قاربوا الخروج منه قال لي: أتريد أن أتصرف فيه بأن يرجع فيطوف؟ فبمجرد ذلك رجع هو وأتباعه وطافوا، ثم قال لي: أتريد أن أتصرف في قلب الشريف عبدالمطلب بأن يرجع الخمسة الديواني فتسلك في السوق وتمشي؟ فبمجرد قوله ذلك نادى المنادي بأعلى صوته يقول لكم الشريف عبدالمطلب لايمتنع أحد من الخمسة الديواني). [1]
فانظر إلى هذا الذي إن صدق النقل عنه فهو ساحر كيف يدعي هذه الرتبة من مراتب الأولياء عند الصوفية وأنه يتصرف حتى في قلوب الناس ومقاصدهم ويحملهم على فعل ما يشاء دون اختيار منهم، وكيف يقص هذا العالم القدوة من علماء صوفية حضرموت لأتباعه ومريديه هذه القصة مسلماً بها مريداً منهم أن يصدقوها ويعتقدوها، أليس هذا هو التطبيق العملي لعقيدة القوم في القطب الذي مر تعريفه؟
المطلب الثالث: التصرف في الكون أهم وظائف القطب:
اتضح من تعريف القطب بأنه هو المفوَّض من قبل الله تعالى في التصرف في الكون، وربما أطلقوا على مرتبة القطبية (الخلافة العظمى) [2]، والمعنى: أن يكون القطب خليفة الله تعالى في تصريف الكون.
ولمعرفة ما يشمله ذلك التفويض لدى القوم نذكر بعض النصوص من كتبهم تبين سعة ذلك التفويض وشموليته من حيث الزمان والمكان ومن حيث الدنيا والآخرة.
نقل السيد علي بن محمد الحبشي [3] -أحد أقطاب حضرموت- على سبيل الإقرار والاستحسان عن عبدالعزيز الدباغ قوله: (إن تصرفي يصل حتى إلى الجنان، وإن الحور ما يفعلن شيئاً إلا بأمر مني) ،
(1) تذكير الناس ص (216)
(2) أنظر مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية (2/ 619) .
(3) علي بن محمد الحبشي العلوي الحضرمي صاحب سيؤن ومنشئ رباط العلم بها المسمى باسمه "رباط الحبشي" من أشهر علماء زمانه ومربي جيله تتلمذ عليه الكثير من الطلاب الذين نبغوا وأصبحوا من العلماء والأدباء غير أنه مع علمه قد نقل عنه من الخرافات والهذيان مالا مزيد عليه وذلك ما حواه كتاب كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية كتبه من إملائه ... تلميذه محسن بن عبد الله السقاف وهو أيضاً صاحب زيارة الحول المشهورة بحضرموت توفي رحمة الله سنة (1312 هـ) انظر تاريخ الشعراء الحضرميين (4/ 128) تأليف المؤرخ عبدالله بن محمد السقاف الناشر مكتبة المعارف الطبعة الثالثة سنة (1418 هـ) الطائف، ولوامع النور (1/ 197) .
وكان يقول لمريده: (إن كنت تعتقد أن الْبِسَّ في جميع أقطار الأرض يأكل الفأر بغير إذن مني فما أحسنت الأدب معي) ، ثم يعقب الحبشي على ذلك فيقول: (انظر إلى هذا الفناء العظيم وأين اليوم هذا الاعتقاد) [1].
فانظر إلى هذه الدعوى التي شملت التصرف في الدنيا والآخرة وجميع أقطار الأرض وجميع العوالم من عالم الحور العين إلى عالم الْبِسَّ والفأر.
وإليك صورة أخرى للتصرف الشامل في الحياة وبعد الموت، قال الشلي: (وقال بعض العارفين: الفقيه المقدم تصرف على المشايخ الذين تصرفوا بعد موتهم كتصرفهم في حياتهم وهم القطب الرباني الشيخ عبدالقادر الجيلاني والشيخ معروف الكرخي والشيخ عقيل المنبجي وحيوة بن قيس) ثم استشهد على ذلك بهذه الأبيات لمحمد بن علي خرد باعلوي [2] صاحب الغُرر:
تصرّف شيخ في الوجود معظّم ٌ على السادة الأشياخ أهل المعارف
على السيد الشيخ الفتى عبد قادر ومعروفٍ الكرخي منجٍ لتالف
وقيسٌ عقيل المنبجي وشيخنا لتصريفه لا يصرفون الصارف
(1) كنوز السعادة الأبدية ص (179) الذي قام بطبعه علي بن عيسى الحداد.
(2) صاحب غرر البهاء الضوي توفي سنة (760 هـ) انظر ترجمته في الغرر ص (3 - 11) ، وتاريخ الشعراء الحضرميين ... (1/ 142) .
وتصريفهم في كل شيء محقق سوى في جمال الدين عين لواقف [1]
وتأكيداً لذلك تجدهم في الحضرات وبعض الموالد ينشدون إلى اليوم:
ربي اسألك باسرار الفقيه المقدم والذي قد حوى التصريف من قبل آدم
ويقول صاحب شرح العينية: (وكان سيدنا الفقيه من الممكنين في التصريف بعد موتهم، قال المشايخ العارفون: ما صلينا على جنازة إلا والفقيه محمد بن علي بعد موته يصلي معنا عليها) [2]،فانظر الشمول الزماني لهذا التصريف من الأزل إلى الأبد! بل زاد في الأنموذج اللطيف أن قال بعد ما ذكر صلاته على الأموات بعد موته: (فلا شك أنه ممن صلى على نفسه بنفسه) [3]
وفي مناقب عبدالرحمن السقاف يقول محمد بن علي خرد: (ومنها ما روي عن السيد عبدالرحمن بن علوي بن محمد بن الشيخ المذكور، قال كنت في عدن، وقد أصابني في عيني وجع، ولقيت الفقيه العالم القاضي محمد بن سعيد كبن، وأريته إياها وكان عارفاً بعلم الطب، وقيل، إنه كان يعرف اثني عشر علماً سوى العلوم المتداولة بين الناس معرفتها، ما يسأله أحد عن شيء منها، وقلت له يافقيه: أعطني لها دواء، فلما نظرها قال: (هذا مرض تسميه الأطباء الماء الأخضر وليس عندنا دواء حتى يكمل عماؤها، وإن أردت لها دواءاً قبل ذلك دللناك عليه فقلت: ما هو؟ فقال: اقصد جدك الشيخ عبدالرحمن، وقل له: يسلم عليك محمد بن سعيد كبن، وقل له: في عيني وجع أريدك تزيله بإذن الله فإنه يزول، فقلت له: تحولني على ميت؟ فنهض من مقعده وارتعش، ثم قال: والله، ثم والله
(1) المشرع الروي (2/ 6 - 7) ، وقال بعد أبيات (قوله: وقيس صوابه حيوة) .
(2) شرح العينية ص (161) نظم عبدالله بن علوي الحداد تأليف العلامة أحمد بن زين الحبشي باعلوي طبع مطبعة كرجاي المحدودة سنغافورة، الطبعة الأولى (1407 هـ - 1987 م) .
(3) الأنموذج اللطيف في مناقب الغوث للأستاذ الأعظم الفقيه محمد بن علوي باعلوي دفين تربة تريم ص (213) مع البرقة المشيقة للسيد علي بن أبي بكر السكران طبع في مصر سنة (1347 هـ) .
ثم والله، إني أعتقد في الشيخ المذكور أنه يتصرف في مماته، كتصرفه في حياته، وأنه انتقل إلى الآخرة ولم تنتقل دولته، وفي رواية عن الفقيه الولي الصالح الشيخ سهل بن عبدالله باقشير، ما أخبرني عنه السيد شيخ بن عبدالله بن الشيخ عبدالرحمن، قال: لما رأى الفقيه عين عبدالرحمن رآها عمياء لكتيبة حصلت فيها هذا من أمر القدرة ما يزيل أمر القدرة إلا أهل القدرة، وجدك من أهل القدرة فأحاله عليه، فقال عبدالرحمن: ثم بعد مدة رأيت الشيخ في المنام على سرير فقلت له: إن الفقيه ابن كبن قال لي إنك تتصرف بعد وفاتك كتصرفك في حياتك، فأخذ بإذني وقال لي: (أنا ابن محمد بن علي، ما تصدق إلا إن قال: لك ابن كبن؟ أنا كذلك وأزْيَد وأزْيَد، - رضي الله عنه - ونفع به) [1]، فهذا لا يقتصر على التصرف في الكون في حياته وبعد مماته بل هو كذلك وأزيد وأزيد) ولا أدري ما هو الأزيد من ذلك؟!.
وهناك مثال عملي للتصرف في الكون مع تأويل له من أحد كبار أقطاب صوفية اليمن: (من عجائب الآيات وغرائب الكرامات ما وقع بين الشيخين العارفين السيفين القاطعين أعني أبا عيسى واسمه سعيد وأحمد ابن أبي الجعد المذكورَين، وذلك أنه ورد الشيخ أحمد المذكور في جمع من أصحابه على الشيخ سعيد في وقت جاءوا إلى زيارة القبور الشريفة في حضرموت، فوافقه الشيخ سعيد وأصحابه على الزيارة ومشوا، فلما بلغوا بعض الطريق بدا للشيخ سعيد أن يرجع في هذا الوقت ويزور في وقت آخر، فرجع هو وأصحابه إلى موضعهم واستمر الشيخ أحمد على عزمه حتى انتهى إلى مقصده فزار ورجع، والشيخ سعيد مكث أياماً ثم خرج هو وأصحابه إلى الزيارة المذكورة فالتقى الشيخان وأصحابهما في الطريق فقال الشيخ أحمد للشيخ سعيد: توجه عليك حق الفقراء في رجوعك
(1) الغرر ص (398) .
فقال: لا ما توجه علي حق، فقال له الشيخ أحمد: بلى قد توجه عليك الحق فقم وأنصف، فقام الشيخ سعيد وقال: من أقامنا أقعدناه، فقال الشيخ أحمد: ومَنْ أقعدنا ابتليناه، وأصاب كل واحد منهما ما قاله صاحبه، فصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي الله تعالى، وصار الشيخ سعيد مبتلى في جسمه ببلاء قطع جسمه حتى لقي الله تعالى رضي الله تعالى عنهما.
وهذه لعمري أحوال تَكِلُ في جَبِّ بعضها السيوف القاطعة، وإنما يقطع الحالان معاً إذا كان صاحباهما متكافيين أو قريباً من التكافي، فإن لم يكونا كذلك قطع القوي منهما الضعيف، وقد يقطع السابق دون المسبوق فيما يظهر والله أعلم.) [1].
ومنهم من يدَّعي ذلك لنفسه كما قال الشيخ أبو بكر بن سالم صاحب عينات:
(أنا أعزل أنا اللي ولي أنا شيخها قاضيها) [2].
وقال أحمد بن حسن العطاس قال: (فزعت مرة من أحد الناس فلما جئت إلى الحبيب أبي بكر بن عبدالله قال لي: لا تخف من حي ولا من ميت عاد المفاتيح إلا كلها بيدي) ،وقال أيضاً: (قال الحبيب أبوبكر بن عبدالله انسدحت مرة في بندر الشحر في مسجد الحبيب أحمد بن أبي بكر بن سالم بعد صلاة الصبح فأتوا بشيء كالبيضة وفيه شيء ونكتوه عند رأسي فإذا هو مختلف الألوان الأبيض والأسود والممتزج فقلت: لعله عالم الذر قال: نعم، فقلت لعله لما ولوكم عليه؟ قال: نعم) [3]، وهذا واضح أن الرجل يدّعي أنه بيده مفاتيح الكون ولا أحد يقدر على عمل شيء بغير إذنه هذا في
(1) مرآة الجنان لليافعي (4/ 352 - 354) .
(2) من قصيدة شهيرة للشيخ المذكور ما زالت متداولة إلى اليوم ينشدها الصوفية في موالدهم وحضراتهم وضمن مولد الديبعي ص (93 - 95) .
(3) الحكايتان في مجموع كلام الحبيب أحمد بن حسن العطاس رواية محمد بن عوض بافضل ص (25) وهو مخطوط مصور عند بعض الأصدقاء.
الحكاية الأولى، وأما الحكاية الثانية ففيها أنه ولي على عالم الذر أي الخلق الذين لم يخرجوا إلى الحياة بعد.
وقضية القطبية واعتقادها عند أهل اليمن مبثوثة في كتبهم فلا يكاد أحد من كبارهم لا يوصف بها، حتى لقد قال عبدالرحمن بن محمد السقاف باعلوي [1]: (في تربة تريم ثمانون قطباً كلهم أشراف - رضي الله عنهم -) [2] فهؤلاء فقط في تربة تريم، فكم في باقي ترب اليمن، والسقاف توفي عام (819 هـ) فكم جاء بعده من الأقطاب، وهذا كله في اليمن إلى ذلك التاريخ فكيف ببقية بلاد الله منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا، لاشك أن عدد الأقطاب لا يمكن أن يأتي عليه الحصر رغم أنهم يقولون إن القطب واحد فقط ولا يولي غيره حتى يموت.
وعلى كل حال فإننا سنلمس الأثر الكبير لعقيدة القطبية بالمفهوم الصوفي فيما يأتي من المطالب حيث تتوالد العقائد الضالة بعضها من بعض.
وكما شارك صوفية اليمن بقية الصوفية في عقيدة القطبية شاركوهم كذلك في اعتقادهم بدولة الأولياء وديوان شورا هم، يقول أحمد بن حسن العطاس: (وعقد أي الديوان مرة في قبة الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس ورأيت الحبيب أبا بكر ارتفع من قبره وفرشوا له فوق القبر حقه، وكان رئيس المجلس الحبيب أبوبكر، ورأيت بالجانب البحري من القبة، رجلاً فسألته: من هو؟ فقال: نقيب الأولياء بالقدس، والذي ظهر لي أن النوبة بقيت مع الحبيب أبي بكر مدة بعد موته، قال سيدي: والرجال الذين هم رجال ما يطلبون مقام القطبية، ولا غيرها ويفرون منها، ومثالها مثال مَنْ قال لك: (هذه البلدة ونفقة أهلها، وخرج معاشهم ودوابهم، وأعطاك ما يحتاجون إليه ماذا ترى لنفسك؟) .
(1) جد آل السقاف انظر ترجمته في المشرع الروي ص (2/ 141)
(2) 3 الغرر ص (96)
وقال أيضاً: (وفي ليلة وفاة الحبيب أبي بكر عبدالله العطاس، اجتمع الأولياء أهل الظاهر والباطن، وجلست أنا بالقرب منهم، وكان ذلك في جامع حريضة، فكان رئيس المجلس الشيخ عبدالقادر الجيلاني فدعاني الشيخ عبدالقادر فقلت له: أنا ما فيَّ طاقة لشيء إن معكم شيء لي اطرحوه في القرآن، فطلع أحد من الأولياء لم أعرفه إلا من بعد، ولما انقضت نوبته اجتمعوا بأعلى شبام، بالقرب من العقّاد، وجعل الأمر بين اثنين، واحد على المعالي وواحد على المسافل) [1].
المطلب الرابع: فروع عقيدة التصرف في الكون:
الفرع الأول: درجة الكونية:
والمراد بها أن الولي قادر على أن يقول للشيء كن فيكون، وهذا مما اختَصَّ الله به، ولم يقم دليل على أن الله تعالى منحه أحداً من خلقه، ولم يدّعه أحد من رسل الله فضلاً عن غيرهم من البشر، ولكن الصوفية حينما ادّعوا لأنفسهم خلافة الله في تصريف الكون ساغ لهم ذلك الادعاء الكاذب المبني على الادعاء الكاذب الأول.
ومن أدلة ادعائهم ذلك لأنفسهم وإقرارهم من ادعاه ما ورد في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم من المشرع قال: (وحُكي أن الشيخ عبدالله باعباد سأل صاحب الترجمة عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال: (ظهر لي ثلاث أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء كن فيكون، وأعرف ما سيكون فقال الشيخ عبدالله: نرجو فيك أكثر من هذا) [2].
(1) نظر الحكايتين في: تذكير الناس ص (206 - 207) .
(2) المشرع (2/ 211) وقد اعتمد القوم هذه المنقبة له حتى قال صاحب النور السافر عنه ص (281) : (يقول للشيء كن فيكون بإذن الله) ، وانظر الغرر ص (372) .
وأعجب من ذلك ما ذكره صاحب الجوهر في ترجمة الشيخ إبراهيم بن يحيى بن أحمد بن محمد بافضل: (وقال في بعض مصنفاته وردت إليَّ رقعة من الفقيه ابن العربي - رضي الله عنه - فإذا فيها ورد علينا فقير وقال لنا: الفقير يحيي ويميت بإذن الله تعالى، والفقير يقول للشيء كن فيكون بإذن الله تعالى والفقير لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فأشكل علينا مافيها [1] فقال الشيخ إبراهيم بن يحيى - رضي الله عنه - شعراً:
إذا لم أفتكم بصريح علم فلا من بعدها تستفتيوني
بما في محكم القرآن أفتي وإلا بعد هذا كذبوني
ثم أجاب عن الكل بجواب فايق عجيب وأتى على كل مسألة بدليل من القرآن) [2]. وحسبك بهذا إقرار لهذه العقائد الخبيثة وأخذ بها.
الفرع الثاني: الإحياء والإماتة:
مما تضمنه توحيد الربوبية من الصفات التي لاشريك له سبحانه فيها الإحياء والإماتة، وقد جمع الله سبحانه بين هاتين الصفتين في آيات كثيرة جداً، أقتصر على ثلاث منها، ففي آل عمران يقول تعالى: {والله يحي ويميت والله بما تعملون بصير} [3]، وفي التوبة يقول تعالى: {إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير} [4]، وفي يونس يقول الله تعالى: {هو يحيي ويميت وإليه ترجعون} [5]، ولما كانت هاتان الصفتان من أكبر البراهين على ربوبية الله تعالى احتج بهما إبراهيم على خصمه فقال وهو يحاج ذلك الطاغية: {ربي الذي يحيي ويميت} فعاند
(1) هذه الكلمة غير مفهومة في الأصل وأظنها فيها.
(2) الجوهر الشفاف (1/ 146 - 147) .
(3) آل عمران (156) .
(4) التوبة (116) .
(5) يونس (56) .
الطاغية وكابر فقال: {أنا أحيي وأميت} قال المفسرون: فلما رأى إبراهيم سفهه وسخافة دعواه عدل إلى دليل آخر أكثر ظهوراً ولا يستطيع أن يغالط فيه سفهاء الأحلام ممن حوله فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} [1]،وقد عد المفسرون هذا الطاغية مدّعياً للربوبية بذلك وجعلوه مثل فرعون الذي صرح بذلك حين قال: {أنا ربكم الأعلى} [2] وقال: {ما علمت لكم من إله غيري} [3].
وهذا كله يدل بجلاء على أن من ادعى هاتين الصفتين فقد ادعى الربوبية، ومع ذلك فإن الصوفية القبورية يدعون ذلك لبعض أوليائهم، أو يدعيها بعضهم فيقرونه عليها، وإذا أردنا أن نعتذر لهم نقول: إنهم لم يدّعوا ذات الربوبية ولكنهم ادعوا الخلافة العظمى عن الحق سبحانه، ومن جملة وظيفة الخليفة التي فوضها إليه الرب سبحانه هذه الصفة وغيرها من الصفات التي يزعمونها لأوليائهم، وأما ادعاؤهم ذلك فثابت لاشك فيه، ومن الأدلة على ذلك ما مر من ادعاء علوي بن الفقيه المقدم لذلك فيما حكاه الشلي كما في الفرع الأول.
الفرع الثالث: علم الغيب:
(1) البقرة (258) .
(2) النازعات (24) .
(3) القصص (38) .
من مسلَّمات العقيدة الإسلامية اختصاص الله تعالى بعلم الغيب وأنه لا يشاركه فيه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} [1]، وأنه سبحانه عنده وحده مفاتيح الغيب كما قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} [2]، وقد بينها سبحانه وحصر علمها عنده، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطرأحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله )) . [3]
بهذه النصوص وغيرها قطع علماء المسلمين أن علم الغيب مما اختص الله به، وأن من ادعاه فقد كذب [4] وأنه طاغوت [5].
ومع ذلك فقد ادعاه الصوفية القبورية لبعض أوليائهم أو ادعاه بعضهم وأقروه عليه وعدّوه من كراماته ومناقبه.
ومن الأدلة على ذلك ما مر في الفرعين الأول والثاني مما ادعاه علي بن الفقيه المقدم وذكر في مناقبه أنه: (يحيي ويميت ويقول للشيء كن فيكون ويعلم ما سيكون) .
ومن ذلك ما جاء في ترجمة أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف أنه يقول: (أعرف من الفرش إلى العرش) [6]، وفي ترجمة أخيه حسن بن عبدالرحمن السقاف: (كان يقول: أنا أعرف السعيد والشقي وأعرف
(1) الجن (27) .
(2) الأنعام (59) .
(3) 6 رواه البخاري من حديث ابن عمر كتاب التفسير باب قوله (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام) ... (4/ 1733)
(4) انظر: فتح القدير للشوكاني (2/ 123) .
(5) 2 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 282) .
(6) 3 المشرع (2/ 33) .
الصالحين بالشيم) [1]، وفي ترجمة أخيهما الثالث شيخ: (وقال والده عبدالرحمن السقاف: ولدي شيخ كعشرة شيوخ، وما سميته شيخاً إلا أني رأيته في اللوح المحفوظ شيخاً) [2].
وسأقتصر على هذه النماذج مع أن هناك دعاوى كثيرة من هذا القبيل.
الفرع الرابع: إعطاء الولد:
هذه الخصلة (إعطاء الولد) هي كذلك من خصائص الله تعالى كما قال - عز وجل: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير} [3].
ولو قيل: إن صالحاً من الصالحين الأحياء دعا ربه لأحد من الناس بالولد فرزق بتلك الدعوة ولداً ماكان عليه من نكير، ولكن أن ينسب إلى الولي ذاته إعطاء الولد حياً كان أو ميتاً فذلك الذي فيه ادعاء ما هو من خصائص الربوبية، والقبورية يدعون ذلك لأنفسهم أو لأوليائهم أحياءً وأمواتاً، والدليل عليه ما جاء في تذكير الناس قال جامعه: (وأهدى بعض السادة شيئاً لسيدي - رضي الله عنه - فدعا له بأن يرزقه الله ولداً وقال له: حولناك على الحبيب أحمد بن علي الهدار، وهذا الحبيب كان من أهل الأحوال العظيمة، وكان إذا جاءه أحد وسأله الدعاء بالذرية يقول له: بايأتيك ولد، أو اثنان أو أكثر فاعترض عليه أحد بقلبه فكاشفه الحبيب أحمد وقال له: يا فلان إن الذين قسمتهم من بحر الشيخ
(1) 4 المصدر السابق (2/ 89)
(2) المصدر السابق (2/ 116) .
(3) الشورى الآية (49 - 50) .
أبي بكر بن سالم سبعة آلاف ولد، وأنت يأتيك نصف ولد، فأتاه نصف ولد على رِجل واحدة ويد واحدة وناصفة وجه، نسأل الله العافية.) [1]
ويظهر من هذه الحكاية بشكل جلي أن الرجل لم يدعُ الله، وإنما يقول على جهة الوعد (بايأتيك ولد) وهذا باللهجة الحضرمية معناه سوف يأتيك ولد، فليس فيه أي معنى من معاني الدعاء، ويؤكد ذلك إنكار العامي وغضب الحبيب من ذلك الإنكار، ثم تصريحه بأنه قسّم، وقسّم من أين؟ قسَّم من بحر الشيخ أبي بكر بن سالم، فأبوبكر بن سالم عنده القدرة والإمكانية الواسعة جداً المشبهة بالبحر، وهذا ولده أخذ يقسَّم من ملك جده، أليس هذا صريح في أنهم يدَّعون القدرة الكاملة على ذلك وأنه من جملة ما يملكونه.
وبناءً على ترسخ هذه العقيدة لديهم نجدهم يطلبون ذلك فعلاً من أوليائهم، قال صاحب تذكير الناس: (قال سيدي: وزرنا مرة تربة الفريط بتريم نحن والأخ حامد بن أحمد المحضار، ولما كنا عند الشيخ القرشي صاحب الذرية أخذ الأخ حامد حصاة كبيرة ووضعها عند قبر الشيخ وقال: -والحاضرون يسمعون - شف نحنا نبغي ولداً لفاطمة عبوده بنت عبدالله بن عمر القعيطي، وكانت مسنة في ذلك الوقت ومستبعدٌ أن تحمل فقدّر الله أنها حملت بولد وعاش) [2].
وصاحب هذه الحكاية من كبار أقطاب القوم وعلمائهم ومع ذلك يروي هذه الحكاية مقراً لها، و "حامد المحضار" من كبارهم أيضاً وقد رفع صوته يطلب ذلك أمام العامة وأقره من حضر من الأكابر، إذاً هي قضية مسلّمة يربّون عليها أتباعهم.
(1) تذكير الناس ص (321) .
(2) المصدر السابق ص (322 - 323) .
ويقول آخر من كبارهم وُصف بأنه: "العالم الجليل نسخة السلف وقدوة الخلف" في رحلته الموسومة بـ "النفحة الشذية إلى الديار الحضرمية وتلبية الصوت من الحجاز وحضرموت" في نفس الموضوع: (ولما وقفنا على قبر الشيخ عمر بن علي القرشي ويروى أن من طرح عند قبره حجرة يرزق ولداً، وقيل: لنا أن الحبيب علي بن محمد الحبشي زاره وبصحبته الحبيب عمر بن عيدروس العيدروس فأخذ الحبيب عمر ملا ثوبه حصى ليطرحه عند القبر، فقال له الحبيب علي: كثّرت جم، فقال: أريد نسمات تذكر الله أو قال تعبد الله، فأخذت أنا حصاتين وطرحتهما عند القبر على هذه النية) [1]، فإذا كان هذا فعل علمائهم فماذا يا ترى يصنع عوامهم وجهالهم؟.
الفرع الخامس: إنزال المرض ورفعه:
القول في هذا الفرع كالقول في بقية الفروع فالمرض لا يصيب به إلا رب العالمين، قال تعالى حاكياً عن إبراهيم أنه قال لقومه وهو يدعوهم ويبين لهم حقيقة دعوته وعقيدته: {وإذا مرضت فهو يشفين} [2]، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم: (( لا عدوى ولا طيرة )) [3]،وقد صرح العلماء بأنه ليس المقصود نفي العدوى من أصلها بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم: (( لا يورد ممرض على مصح )) [4]، لأنه واضح أن في ذلك اعتبار العدوى ولكنه نفى على المعنى الذي كانت الجاهلية تفهمه وهو أن الأمراض تعدي بذاتها فتنسب إلى الأمراض،
(1) النفحة الشذية إلى الديار الحضرمية، وتليه رحلته تلبية الصوت من الحجاز وحضرموت ص (175 - 176) ، تأليف ... العالم نسخة السلف وقدوة الخلف الحبيب عمر بن أحمد بن سميط، طبع على نفقة أحد المحبين من المحسنين (1397 هـ) .
(2) الشعراء آية (80) .
(3) البخاري في صحيحه (5/ 2158) ، كتاب الطب باب الجذام، ومسلم في صحيحه (4/ 1743) ، كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.
(4) مسلم في صحيحه (4/ 743) في الكتاب والباب السابقين، كلاهما من حديث أبي هريرة.
فحسم - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الباطل بهذا اللفظ العام ليكون أبلغ وأشمل [1]، فكيف يأتي بعد ذلك من يقول أنه يضع المرض على من شاء وأنه يرفعه عمن يشاء، إن ذلك لاشك ادَّعاء لخاصة من خصوصيات الربوبية وتعليق للخلق بغير الحق وهذا أيضاً مضاد ومناقض لما تدعيه الصوفية من تجريد قلوب الناس من سوى الله تعالى.
وإليك الدليل على زعمهم وضع الأمراض على أناس ورفعها عن آخرين، فقد ذكر الشرجي في ترجمة إسماعيل الجبرتي قال: (ومن ذلك ما يروى عن رجل من أهل مكة يقال له الفقيه عبدالرحيم الأميوطي أنه قال: (كنت لا أعتقد الشيخ إسماعيل، وكنت أحط منه، فبينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، وإذا بي أرى الشيخ قد دخل عليّ في جماعة، فسمعته وهو يقول لآخر: هات الوجع الفلاني فجاء به فوضعه عليَّ ثم قال: هات الوجع الفلاني فجاء به فوضعه علي، ثم مازال يقول هات الوجع الفلاني ويضعه عليّ، حتى وضع عليّ قدْرَ عشرين وجعاً حتى كدت أموت، وخرج، قال: (فبقيت تلك الأوجاع عليّ باقي ليلتي ويومي ذلك إلى العصر، فأرسلت إليه واستعطفت خاطره، فجاء إليَّ فرفع ذلك كله عني، وقمت كأن لم يكن بي شيء فتبت إلى الله تعالى، وحسّنت عقيدتي في الشيخ نفع الله به) . [2]
إذاً فالذي لا يعتقد فيهم ذلك فهو مهدد بالمرض من قبلهم، فهذا عمر المحضار يروي عنه صاحب المشرع ( ... وكان إذا غضب على أحد أصابه الجذام وغيره من الأسقام بعد ثلاثة أيام، فقيل له:
(1) انظر: (10/ 160 - 162) من الفتح.
(2) طبقات الخواص ص (103) .
أما تخشى أن ينالك بهذا شيء فقال: إني لم أدعُ على أحد، ولكني إذا غضبت على أحد وقع في باطني نارٌ لا تنطفئُ إلا بعد ما يصيبه ذلك المرض أو يتوب). [1]
الفرع السادس: إنزال المطر:
الآيات في تفرد الله تعالى بإنزال المطر كثيرة جداً، منها قوله تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} [2]، فلو كان أحد من الخلق قادراً على ذلك فهل سيكون هذا التحدي صحيحاً؟ والجواب: لا قطعاً فعلم أنه لا ينزل المطر إلا الله، بل حتى علم الوقت الذي ينزل فيه المطر ومكان نزوله قبل نزوله لا يعلمه إلا الله: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [3]، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز أن ننسب إنزال المطر إلى عبد من عباد الله، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حسم الأمر بشكل أوضح، وأبعد المؤمنين عن توهم ذلك أو التلفظ بلفظ يؤدي إلى ذلك الفهم الخاطئ، ففي صحيح البخاري من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: (( صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ) ) . [4]
(1) المشرع (2/ 242 - 243) .
(2) الواقعة الآية (68 - 69) .
(3) لقمان الآية (34) .
(4) البخاري في صحيحه (1/ 290) كتاب صفة الصلاة باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، ومسلم (2/ 59 - 60) مع النووي كتاب الإيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.
ومن الأدلة على أن القوم يعتقدون في أوليائهم إنزال المطر ما جاء في ترجمة أحمد بن عمر الزيلعي من طبقات الخواص حيث قال: (وكان للفقيه أيضاً ولد يقال له علي، كان من الصالحين، وكان لا يُلازم في المطر إلا ويحصل سريعاً حتى عرف بذلك، وكان يقال له صاحب الماء) [1]، وقد كان ذكر في ترجمة الجد حكايات تدل على أنه ينزل الغيث منها: (أنه وصل من اللحية إلى قرية المحمول وقد أجدبوا مدة طويلة، فعند أن وصل إليهم جاءت إليه بهيمة وجعلت تخور بين يديه، فدخل المسجد ودعا الله تعالى ثم قال: (يا ميكائيل كل، فاجتمع السحاب للفور من كل ناحية ومطروا مطراً عظيماً بإذن الله تعالى) [2].
ومنها قول صاحب الطبقات: (وكان أهل الوادي خُلَب بضم الخاء المعجمة وفتح اللام وآخره باء موحدة يصحبونه ويعتقدونه، فجاء إليهم مرة وهم مجدبون فجعلوا يلازمونه في السيل فقال لفقيرٍ له: (اذهب إلى رأس الوادي وقل له: يقول لك الفقيه سل الآن، ففعل الفقير ذلك، فسال الوادي من ساعته وسقوا سقياً هنيئاً بفضل الله تعالى) [3]، فلاحِظْ أمره لميكائيل في الحكاية الأولى وأمره للوادي في الحكاية الثانية، هل يدل على أن الأمر مجرد دعاء؟ كلا لا يدل إلا على أنه هو المالك لذلك والمتصرف فيه.
وفي تذكير الناس: (قال سيدي: ووقع بحريضة في بعض السنين قحط شديد، فسار الحبيب علي بن جعفر العطاس إلى النقعة، وهي قرية بقرب حريضة وقال لأهل البلد: سنجيئكم بسيل من عند
(1) طبقات الخواص ص (77) .
(2) المصدر السابق ص (75) .
(3) المصدر السابق ص (75) .
الشيخ جنيد باوزير إن شاء الله، فلما وصل إليها زار قبر الشيخ جنيد والشيخ علي بن سالم ورجع فسال وادي حريضة تلك الليلة). [1]
وأوضح من هذا ما ذكره، أيضاً في تذكير الناس قال: (قال سيدي وبلغنا أن الشيخ عبدالله بن أحمد بلعفيف كان من أولياء الله المستجابة دعوتهم، ويقال له بياع السيول، وصل إلى تريم في بعض زياراته، فاجتمع ببعض السادة آل العيدروس فقال له أنت: بلعفيف بياع السيول، فقال له الشيخ: نعم حاجة خدمة، فقال له الحبيب: نعم مرادنا سيل، فقال الشيخ لا بأس، بكم تشتري؟ فقال له الحبيب بالذي تريده، فقال الشيخ: نبيع لك سيل بكبش سمين، وخمس قهاول [2] برُ، فقال الحبيب: لا بأس تم الكلام، فقال الشيخ تبغي السيل لأي أرض؟ قال الحبيب: للشرج الفلاني حقي، فقال الشيخ: هات الكبش والبر وأخرج رُعّاضك لشرجك، فأتى الحبيب بالبر والكبش وخرج الرُّعَّاض [3] وشرب الشرج بإذن الله وبركة أولياء الله) [4].
قلت: وحكى لي جدي - رحمه الله - أن في قرية مجاورة لنا رجلاً يقال له "فلان باسليمان" وكان حراثاً عارفاً بقوانين الحراثة ومتى يكون السيل أفضل للأرض، فكان ربما جاء السيل في غير الوقت الذي يراه مناسباً فلا يسقي أرضه فعوتب في ذلك لأنه ربما إذا لم يسق لم يأت سيل آخر، فيقول: (ما بيني وبين السيل إلا صاع طحين) يعني أنه يتزود صاعاً من الطحين ويزور الشيخ سعيد بن عيسى
(1) تذكير الناس ص (187) .
(2) القهاول مقدار من الكيل يساوي ثلاثة أصواع تقريباً.
(3) الرَّعَّاض جمع راعض وهو الذي يعدِّل السيل في الحقول.
(4) المصدر السابق ص (188) .
فيأتي السيل، فهل يشك أحد في اعتقاد هذا العامي وأمثاله أن الشيخ سعيد بن عيسى يملك إعطاء السيل؟!.
الفرع السابع: إجابة الداعي وإغاثة المستغيث:
إن هذا الفرع في الحقيقة هو النتيجة الحتمية لتلك العقائد بل الثمرة المرة الخبيثة لها، فإن المريد الصوفي أو العامي من عوام المسلمين حينما يتكرر على سمعه أن فلاناً من الأولياء هو القطب الغوث الذي أعطي الخلافة العظمى في هذا الكون والتولية والعزل فيه، واعتباره الواسطة بين الله وبين عباده فلا يصل خير إلى العباد إلا بواسطته، وأنه قد فوِّض إليه تصريف الكون، وأن تصريفه نافذ على كل شيء من العرش إلى الفرش وحتى البِسْ لا يأكل الفأر في جميع أقطار الأرض إلا بإذنه، وأنه يعطي ويمنع ويشفي ويمرض بل يميت ويحيي ويُنزل الغيث ويهب الولد، إلى آخر ما ينسب إليهم من القدرات، ماذا سيتصور ذلك المسكين، هذا الولي؟ لاشك أنه سيتصور أنه هو السميع المجيب وأنه على كل شيء قدير، وبموجب هذا التصور سيهرع إليه كلما نزلت به نازلة أو أصابته حاجة، فإنه لا رجاء في حصول أي مطلوب أو دفع أي مرهوب إلا بالالتجاء إليه، وهذا هو الذي يحصل في كثير من الأحيان والأحوال ولدى أكثر الناس من القرون التي سيطر فيها فكر القبورية على الناس.
وهم لم يكتفوا بما مضى من دفع الناس إلى ذلك الاعتقاد والتصور الخاطئ، بل صرح الكثير من أوليائهم بأنهم يسمعون من ناداهم ويجيبونه ويغيثون من استغاث بهم وينقذونه مما هو فيه، ويروون مئات القصص التي تحكي كيف نزل الضر بفلان فاستغاث بالقطب فأغاثه، بصور وأساليب متنوعة كلها تتآزر على شيء واحد هو تعميق الاعتقاد في ذلك الشخص بأنه يفعل ويفعل، وأن على الجميع الالتفات إليه والاعتماد عليه وإنزال حوائجهم به.
وهذا هو الشرك بالله تعالى، ولكنني لن أخوض في الرد عليه في هذا الموضع، وإنما سوف أنقل بعض النماذج عنهم في ذلك لإثبات أنهم يعتقدون في أهل الولاية منهم أحياءً وأمواتاً أنهم يجيبون الداعي ويغيثون المستغيث، وليس الأمر كما يقوله من يروج تلك العقائد ويدافع عن الموروث الذي كان عليه الآباء والأجداد من أن ذلك مجرد توسل بهم إلى الله وإن كان بلفظ الدعاء والاستغاثة.
وإليك النصوص الصريحة والوقائع الواضحة الشاهدة على ما نقول:
أول ما نورد في ذلك تقرير عميد القوم وحجتهم وإمامهم في العلم والتصوف من يسمونه (قطب الدعوة والإرشاد عبدالله بن علوي الحداد) وهذا التقرير في قصيدة من أشهر قصائده لدى القوم وهي العينية حيث يقول فيها في صفة الولي:
من كل طود في العلوم وفي الحجا متبحر متفنن متوسع
داع إلى الله العظيم بفعله ومقاله والحال غير مضيع
ذي عفة وفتوة وأمانة وصيانة للسر أحسن من يعي
وزهادة وعبادة وشهادة منه الغيوب بمنظر وبمسمع
جمع الرياضة والكشوف ولم يزل يرقى إلى أن يستجيب إذا دعي [1]
إذاً فهي حقيقة مسلّمة عند القوم أن الولي ما يزال يترقى حتى يصير ممن يستجيب إذا دعي [2]، فعند القوم أن الولي "يُدعى" وليس فقط يتوسّل به و "يجيب إذا دُعي" وليس الله - عز وجل - يجيب من دعاه متوسلاً به.
(1) شرح العينية ص (ب) من المقدمة.
(2) انظر: شرح هذا البيت في العينية ص (17 - 18) .
وبناءً على تلك الحقيقة المعروفة لديهم منذ عرف التصوف المنحرف في اليمن والتي عبر عنها الحداد في عينيته، تجد الدعوى متواصلة لأوليائهم بإغاثة من استغاث بهم.
ومن ذلك ما ذكره شارح العينية المذكورة في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم حيث قال: (وكان - رضي الله عنه - سريع الغوث لمن استغاث به، قال السيد الجليل العلامة المحدث الإمام محمد بن علي علوي خرد باعلوي في كتابه "الغُرر" أخبرني الشيخ عبدالرحمن بن علي أن العارفين قالوا: (ثلاثة من آل باعلوي لا تزال خيل حميتهم وإجابتهم مسرجة ملجمة من دعا بهم أُجيب وهم علوي المذكور وابنه علي والشيخ عمر المحضار، وقال صاحب كتاب الغرر المذكور في ذلك شعراً:
إذا خفت أمراً أو توقّعت شدة فنوِّه بهم كي يدركوك ويحضروا
فنوِّه بعلوي الفتى وابنه علي كذا عمر فيما يجل ويعسر
فغارتهم تنجيك من كل شدة وعُسرٍ وضيقٍ أو بصدرك يكبر [1]
ولا يقتصر الأمر على أناس ينسبون إلى الولي أنه يغيث من يستغيث به، ولكن الولي يدّعي ذلك لنفسه ويفخر به، فهذا عمر المحضار يقول في قصيدة مازالوا إلى اليوم ينشدونها في حضرة السقاف.
إني سريعُ الغوث في كل الشدائد فاهتف
باسمي تجدني أسرِعُ
قل يا شهاب الدين إن يعروك خطب يا فطن
فأنا لخطبك أدفعُ
(1) شرح العينية ص (174) وانظر أيضاً: المشرع الروي (2/ 212) .
وقال شارح العينية في ترجمة عبدالرحمن السقاف: (وكان يرد على من غلط في مسجده وهو بالعجز [1] ويسمعه الغالط، وكان يقلب التراب دراهم بإذن الله تعالى، وكان يظهر لمن استغاث به جهاراً في الأماكن البعيدة بحراً وبراً) [2].
وفي كتاب "تاج الأعراس" في مناقب الحبيب القطب صالح بن عبدالله العطاس، قال المؤلف: (ومما أكرم الله به صاحب المناقب، وخصه به من سنيات المراتب، وكان ينفرد به دون أقرانه من أهل المظاهر والمناصب، أنه يحضر عند من ناداه وتوسل به إلى الله بصدق نية وصفاء طوية) [3].
وتقول الشيخة سلطانة الزبيدية كما في ترجمة السقاف من المشرع: (ما رأيت أحداً أسرع إجابة عند الاستغاثة من السيد محمد بن السقاف، وكانت تقول: إذا حدث أمر واستغثت بالأولياء فأول من يغيثني هو) [4].
وقال صاحب "تاج الأعراس" في ترجمة صالح بن عبدالله العطاس: (وممن أثنى على صاحب المناقب واعترف له بمقام الغوثية شيخ مشايخ تلك العصور، وعالمها وإمامها المشهور، شيخ الإسلام ببلد الله الحرام السيد أحمد بن زيني دحلان قال: (إنه حصل عليَّ حال بمكة وكربتُ لذلك كرباً شديداً فاستغثت بالحبيب صالح بن عبدالله العطاس صاحب عمد وهو إذ ذاك بحضرموت ودعوته بثلاثة أصوات، فإذا هو حاضر عندي في الحرم المكي، راكباً على جواد أخضر اللون ومعه أربعون جندياً كلهم مسلحون، فحين رأيته ذهب عني ذلك الكرب وانشرحت انشراحاً كاملاً ببركته) [5].
(1) العَجُز: بفتح العين وضم الجيم قرية شرق تريم تبعد منها مسافة.
(2) شرح العينية ص (188) .
(3) تاج الأعراس ص (1/ 94) .
(4) المشرع الروي ص (1/ 184) .
(5) تاج الأعراس (1/ 104) .
وقال كذلك في ترجمة هادون بن هود العطاس: (ومن كرامات الحبيب هادون أيضاً ما أخبرتني به والدتي الشريفة العفيفة شيخة بنت الجد علي بن حسين بن هود العطاس الآتي ذكرها في ترجمة والدي من الباب السادس عن والدتها الشريفة العفيفة زينة بنت الحبيب هادون المذكور قالت: لما كان والدي يجدد عمارة بعض المساكن بالمشهد وعنده جملة من العمال أصبحنا ذات يوم وليس عندنا في الدار ما يفطر به الصائم من أنواع الطعام، فلما رجع والدي من المسجد الإشراق كعادته أخبرناه بالحال فقال: لا بأس، ولكنكم أوقدوا ناراً في المطبخ كعادتكم ليستشعر العمال بأن غداهم يطبخ كالعادة، ثم خرج والدي إلى عند العمال وألقى بيتاً من الشعر الحميني ارتجالاً على الذين ينقلون المدر منهم وأمرهم أن يرتجزوا به، وكان قد استنجد فيه بجده الحبيب علي بن حسن العطاس صاحب المشهد وهو قوله:
مع هادون يا بو حسن والخير واصل وهز الرمح لا تعمد [1] القبة وغافل
قالت: فلم نلبث إلا يسيراً وإذا نحن بقافلة أي عير مرسلة لمقام المشهد من أهل حجر بن دغار وفيها الذرة والتمر والدهن وغير ذلك، وبمعية العير أناسٌ من تلك الجهة أيضاً قاصدين زيارة الحبيب علي بن حسن ومعهم ثلاثة أكباش سمان للمقام، فذبحنا وقدحنا وكان ذلك اليوم من أسعد أيام العمال عليهم انتهى.
قلت [2]: وقول الحبيب هادون لجده علي (وهز الرمح) لما اشتهر من أن الحبيب علي كان يلقب بأبي حربة وسبب تلقيبه بذلك أنها تواترت الأخبار من المعادين للحبيب علي في حياته وأهل الجرأة على مقام المشهد بعد وفاته أنهم يرونه في مناماتهم يطعنهم بحربته فيخبرون قراباتهم بذلك موقنين بالموت
(1) هذه الكلمة باللهجة الحضرمية معناها (لا تبقى) أي لا تبقى في القبة غافلاً عنا.
(2) الكلام ما زال لصاحب تاج الأعراس.
ويموتون في الحال بإذن الله القائل: (( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) لاسيما الذين يعتدون على غيرهم في شهر المشهد أي ربيع الأول؛ لأن الحبيب علي قد جعله عُرضه بضم العين أي أماناً مؤبداً في كل سنة بين المحاربين من قبائل تلك الجهة وأخذ عليهم العهد في ذلك ليأتي كل منهم وهو مطمئن البال إلى المشهد لحضور قصة مولد نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وسماع شمائله الشريفة وما يضاف إلى ذلك من المواعظ الدينية، فكان مما أكرم الله به الحبيب علي وعظم به شهر المولد النبوي أن من اعتدى فيه بالقتل ونقض العهد يعجل الله له العقوبة بإهلاك عدد من أولاده وقبيلته بمقدار الأيام الماضية من ذلك الشهر، فمن قتل فيه في اليوم الخامس مثلاً يهلك الله خمسة من رجاله في أسرع وقت، ومن قتل فيه في اليوم السابع يهلك الله منهم سبعة وهكذا حتى صار ذلك عند قبائل الجهة من المجربات التي لا خلاف فيها) [1].
وأعتذر للإطالة بنقل الحكاية كاملة وذلك لما فيها من دلالات كثيرة يجدها المتأمل وليعرف كيف يسخِّر القبوريون الناس لمصالحهم ويبنون على حطام عقائدهم مجدهم الموهوم.
وأسألُ صاحب التاج وكل من ينشر هذه الحكايات ويغرس بها تقديس هؤلاء الناس في نفوس عوام المسلمين أين كان الحبيب علي وحربته يوم هجم الجيش النجدي على المشهد فأخربه وهدّم قببه وكسّر توابيته؟.
ومن ذلك أيضاً ما ذكره صاحب مقدمة ديوان العيدروس قال: (وأخبرني السيد الفقيه محمد الظمطاوي المكي وقد رويتها عن المريد الصادق نعمان بن محمد المهري أنه قال: (كنا في سفينة سائرين إلى الهند فحصل في السفينة خرق عظيم فأيقن أهل السفينة بالهلاك فضجُّوا بالدعاء
(1) تاج الأعراس (1/ 207 - 209) .
والتضرع إلى الله تعالى وهتفوا بالمشايخ، فقال نعمان: فهتفت بشيخي أبي بكر بن عبدالله العيدروس، فأخذتني ِسنة فرأيت شيخي وهو داخل السفينة وبيده منديل أبيض متيمماً نحو الخرق، فانتبهت فرحاً مسروراً وناديت بأعلى صوتي يا أهل السفينة أبشروا فقد جاء الفرج، فقالوا لي: ماذا رأيت، فقلت لهم: رأيت شيخي - رضي الله عنه - دخل السفينة الساعة وبيده منديل فسد به الخرق فافتقدوه فوجدوا الخرق مسدوداً بمنديل أبيض). [1]
وفي نفس الكتاب في آخره قال: (وأخبرني الأمير مرجان بن عبدالله عبد السلطان عامر بن عبدالوهاب قال: كنا في محطة صنعاء الأولى فحصل علينا ما حصل، وأنا إذ ذاك في جماعة، فحمل علينا العدو ففر أصحابي ووقع في فرسي جملة أكوان [2] فسقط بي، فزار بي العدو من كل جانب وأنا أهتف بالصالحين، ثم ذكرت الشيخ الأجل أبابكر بن عبدالله العيدروس فهتفتُ به فإذا هوقايم فو الله العظيم لقد رأيته نهاراً وعاينته جهاراً أخذ بنا صيتي وناصية فرسي وشلني من بينهم حتى أوصلني إلى المحطة السعيدة فعند ذلك مات الفرس ونجوت ببركات الشيخ نفع الله به وأعاد علينا من بركاته) [3].
فهذه النماذج إن شاء الله كافية لإثبات أن القوم يعتقدون في أوليائهم أنهم يسمعون استغاثاتهم، وأنهم يغيثونهم عند ذلك، فحيناً يحضرون بأنفسهم، وحيناً يحصل المطلوب بدون حضورهم، وعليه فإن دعاءهم لأوليائهم ليس مجرد توسل إذ التوسل إنما هو دعاء لله تعالى مع ذكر المتوسَّل به وسؤال الله
(1) مقدمة ديوان العيدروس المسمى (محجة السالك وحجة الناسك) ص (242) , تأليف الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن باوزير ضمن المجموعة العيدروسية.
(2) أي جراح.
(3) المصدر السابق ص (247) .
سبحانه أن يحقق المطلوب بجاه أو ببركة ذلك المتوسَّل به، ولذلك فإن الذين يعرفون حقيقة التوسل ويقتصرون عليها لا يجيزون دعاء المتوسل بهم ويصرحون بأنهم لا يدعون ولا يجيزون دعاء غير الله، وإنما يذكرونهم في ضمن دعائهم لله للتبرك بذكرهم وليكونوا سبباً في عطاء الله.
الفصل الثاني موقف علماء اليمن من القبورية
Pasal Kedua: Sikap Ulama Yaman tentang Quburiyah
وبيان جهودهم المشكورة في مواجهتها
وفيه تمهيد وأربعة مباحث
التمهيد: في حفظ الله لهذا الدين بواسطة العلماء رغم المكائد والمؤامرات:
لقد تكفل الله تعالى بحفظ هذا الدين وبقائه واستمراره إلى أن يرث الأرض ومن عليها، لا يقضي عليه عدو من الكافرين، ولايطمس معالمه مبتدع من المبتدعين، حتى تغيب السنة كلها، وتحل البدعة محلها، قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [1]،وقد فصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائل ذلك الحفظ، فوعد بوجود طائفة من العلماء العاملين والأخيار المجاهدين القائمين على حفظ هذا الدين في قوله - صلى الله عليه وسلم: (( لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )) [2].
ولايمنع وجود هذه الطائفة القائمة على الحق؛ من تسرب بعض البدع، واندثار بعض السنن، وانحراف بعض المفاهيم على مرور الأيام؛ لذلك فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه بعد كل فترة، يقيض الله لهذه الأمة من يجدد لها دينها، فقال: (( إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )) [3].
(1) الحجر (9) .
(2) تقدم تخريجه ص ( ... ) .
(3) رواه أبو داود (2/ 512) كتاب الملاحم باب ما يذكر في قرن المائة، والحاكم (4/ 542 - 543) كتاب الفتن والملاحم .. وانظر: تصحيح شيخنا الألباني - رحمه الله - للحديث في سلسلته الصحيحة (11/ 150 - 151) .
والحمد لله فقد صدق الله ورسوله، وحُفظ الدين، وجُددت معالمه، رغم هدم الهادمين وكيد الكائدين وبدع المبتدعين، ولقد حظي اليمن بما سبق له من عناية الله سبحانه ولطفه بالحظ الأوفر والنصيب الأكبر من ذلك، وصار مجددوه وأعلام علمائه ودعاته مجددين للأمة كلها، وليسوا مجددين لليمن وحده، فرزقهم الله القبول التام والثقة المطلقة عند سائر الطوائف وفي سائر البلاد الإسلامية، فكتبهم هي من أهم مقررات جامعات العالم الإسلامي المرموقة ومراكزه العلمية، وقد أقبل الباحثون على دراسة شخصيات المجددين اليمنيين ومناهجهم في العقيدة والدعوة والعلوم المختلفة من تفسير وحديث وعقائد وغير ذلك.
وبرغم ما سلف في الفصل الأول من أساليب مختلفة، سلكها القبورية؛ لمواجهة علماء أهل السنة، وما قاموا به من جهد جهيد وكيد شديد لمواجهة هؤلاء العلماء؛ إلا أن تلك الجهود والأساليب الماكرة الكثيرة، كلها لم تفلح في صد العلماء عن معارضتهم وكشف ضلالهم وبيان حالهم، وإن كانت مناطق اليمن تختلف في قوة وضعف تلك المواجهة، فعلماء البلاد الزيدية بحكم قوتهم وكثرتهم وعدم تمكن النفوذ الروحي في بلادهم، ولسعة أفق المذهب الزيدي والفقه الهادوي وحثه على الاجتهاد؛ كانت جهودهم أكبر ومواجهتهم وسلطان علمهم على القبورية أقهر، وقدشاركوا في مقاومة كل أنواع القبورية من إسماعيلية وأصحاب وحدة الوجود وعموم القبورية مقدسي القبور.
وكان لعلماء زبيد موقف مشرف في صد أهل وحدة الوجود ومقاومتهم حتى اندثر مذهبهم أو كاد، وأما بقية المناطق كالجند وما حولها وعدن وحضرموت، فقد كانت مواقفهم أضعف وأقل، وذلك أنه وبعد دخول التصوف ورسوخه في هذه المناطق في القرن السابع وما بعده، احتوى المتصوفة الساحة العلمية، وهيمنوا عليها هيمنة شبه تامة، فالعلم حُصر في قبائل وأسر محددة هي الأسر
العلوية التي أصبح كل علمائها من المتصوفة على تفاوت في غلوهم واعتدالهم فيه، إلا ما ندر، والنادر لاحكم له، ثم الأسر التي تُوالي هذه القبيلة موالاة تامة، وترى أنها تابعة لها "منطوية فيها" حسب تعبيرهم، وفي المقابل فقد أعطى العلويون لهذه الأسر إمتيازات كبيرة مقابل التزامهم بطريقهم، وعملهم على الترويج لأفكارهم وتلميع شخصياتهم؛ ولذلك فقد أصبح العالم الذي يستطيع أن يبصر بغير منظارهم، ويصل إلى ما عند غيرهم، أصبح في حرج عظيم حيث يرى الحق، ولايستطيع الإفصاح عنه والعمل به، فتجده يرضخ لما عليه القوم، وإن كان في قرارة نفسه منكراً له؛ إلا من أراد الله لهم الخير وهيأهم لإقامة الحجة وسلوك المحجة، وتحمل التبعة وهم، أقل من القليل، متناثرون عبر القرون الطويلة والبلاد الشاسعة، ولم يستطع أحد أن يظهر بذلك المظهر حسب علمي إلا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بعد انتشار الدعوة السلفية في اليمن بواسطة تلاميذ الإمامين ابن الأمير والشوكاني، وكذلك ظهور وانتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ووصولها إلى تلك المناطق، واتصال بعض علماء هذه البلاد بعلمائها في الحجاز ونجد، واطلاعهم على كتبهم ورسائلهم، فقد هزت تلك الدعوة الجزيرة العربية كلها، وحركت ذلك الركود الذي خيم عليها قروناً طويلة، ووصل أثرها إلى كل أرجائها، بل وكل أرجاء العالم الإسلامي، كما أسهمت حركة الإرشاد في إندونيسيا بجهود كبيرة في إيقاظ علماء وطلبة العلم في حضرموت وما جاورها، وأزالت كثيراً من الحجب التي كانت تغطي الحقيقة، وحطمت كثيراً من القيود التي كان الناس يرسفون فيها، وأسقطت تلك الهيبة التي صنعها القبوريون لأنفسهم وأوليائهم، وسيّروا بها الناس كما أرادوا.
هذا هو موجز موقف العلماء من القبورية، وإليك تفاصيله في المباحث الآتية.
المبحث الأول
موقف العلماء اليمنيين من القبورية الإسماعيلية
وجهودهم المشكورة في مواجهتها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: موقف العلماء اليمنيين من الإسماعيلية:
لم يجمع علماء اليمن ومثقفوه وحكامه على ذم شيء من البدع الطارئة كإجماعهم على كفر ومروق الطائفة الإسماعيلية الباطنية؛ مما حملهم على التصريح بكفرها ونشر قبائحها، ومحاربتها بشتى الوسائل من القتال إلى الردود العلمية، ومما يوضح ذلك عبارات المؤرخين وثورات الفقهاء ومقاومة الأئمة والملوك لها حتى أزالوها، وقضوا على دولتها وكيانها، وإن كان مقتهم والتصريح بالتفكير في حق علي بن الفضل وصاحبه منصور اليمن أشهر وأظهر من مقت الصليحي، وماذاك إلا لأن الصليحي كان أدهى من سابقيه ومستفيداً من أخطائهما، فتجنب إظهار الكثير مما أظهر الأولان من العقائد والأفعال الممقوتة، وكان بالرعية أرأف وألطف، وبذلك كسب شيئاً من التعاطف لشخصيته لا لنحلته، وكذلك الملكة الحرة والمعروفة عند العامة بـ "الملكة أروى" كانت ذات شخصية عظيمة وحنكة سياسية كبيرة، ثم كونها امرأة ظهرت بتلك القوة وذلك الدهاء في ذلك العصر، كل ذلك خفف من حدة المقت نحو الصلحييين كشخصيات.
أما مبادؤهم وعقائدهم فكانت موضع اتفاق من سائر اليمنيين كلهم بمقتها وبذمها، حتى لقد نحتوا من اسم هذه الطائفة عبارة مختصرة فقالوا "السمعلة" ، وجعلوها شعاراً للذم، والطعن فيمن تطلق عليه.
وهذه بعض عبارات المؤرخين يصفون دخول هذه النحلة إلى اليمن على يد علي بن الفضل وصاحبه، ومن أوائل المؤرخين الذين أبدوا الموقف اليمني من هذه الطائفة العلامة ابن سمرة صاحب
طبقات فقهاء اليمن، فقد قال: ( "فصل" ثم لحق باليمن كله في آخر المائة الثالثة وأكثر المائة الرابعة فتنتان عظيمتان:
فتنة القرامطة: وقد عمت العراق والشام والحجاز، وإن اختلف تأثيرها في البلدان فَمَلَكَ المخلاف اليمني علي بن الفضل - لعنه الله - وأظهر فيه ما هو منسوب إليه ومشهور عنه على منبر جامع الجند بقوله:
خذي الدف ياهذه والعبي وغني هزاريكِ ثم اطربي
فذكر القصيدة، ثم قال: (والشعر طويل، وكله تحليل محرمات الشرع والاستهانة به، فقتل أهل اليمن قتلاً ذريعاً قبل هذا، وملك الحصون والأموال العظيمة) [1].
وبعد أن ساق الجندي تاريخ ابن الفضل ومنصور اليمن قال: (قال ابن جرير [2]: وكان عنوان كتاب ابن الفضل إلى أسعد: من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده أسعد ابن أبي يعفر، وكفى بهذا الكلام دليلاً على كفره، فنسأل الله العصمة) [3].
وقال الخزرجي في العسجد المسبوك بعد أن ذكر طرفاً من أخبار منصور وعلى بن الفضل: (فلما صار علي بن الفضل في صنعاء أظهر مذهبه الخبيث ودينه المشؤوم، وارتكب محظورات الشرع، وادعى النبوة، وكان المؤذن يؤذن في مجلسه أشهد أن علي بن الفضل رسول الله، وأباح لأصحابه
(1) طبقات فقهاء اليمن ص (75 - 76)
(2) 2 ابن جرير هو: إسحاق بن يحيى بن جرير الطبري الصنعاني، توفي سنة (450 هـ) صاحب تاريخ صنعاء، وقد قال الأكوع في تعليقه على السلوك (1/ 210) : أنه لم يعثر على هذه الرسالة فيما لديه من تاريخ ابن جرير، وأنا كذلك لم أعثر عليها في النسخة المطبوعة غير أن ابن جرير كان لا يذكر ابن الفضل إلا وقال (لعنه الله) .
(3) 3 السلوك (1/ 210) .
شرب الخمر ونكاح البنات وسائر المحرمات) [1]، وقد نقل ابن الديبع كلام الخزرجي بنصه دون أن يعزوه إليه، وهو إقرارله [2].
وقال الأكوع في تعليقه على قرة العيون: (القرامطة فرقة من الباطنية، واحدها قِرْمِطي بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم بعدها طاء مهملة وياء النسبة، والقرمطة تقارب الشيء بعضه من بعض، يقال "خط مقرمط" إذا كان متقارب الحروف و "ومشي مقرمط" أي متقارب الخطو، سمي به أبو سعيد الأشعب؛ لأنه كان قصيراً دميماً مجتمع الخلق أسمر كريهاً؛ فلذلك سمي قرمطياً. فنسبت إليه القرامطة لأتباعه، قال الإمام نشوان [3]: والقرمطة عند أهل اليمن عبارة عن الزندقة، وصاحبها عندهم قرمطي، وجمعه قرامط، وقرامطة.
قلت: وهي منظمة سرية خطيرة، تكونت من جماعة فارسية من المجوس، اندست بين المسلمين متظاهرين بالدين والورع، وهدفها تقويض دعائم الإسلام وإعادة السيادة الفارسية، ثم اتخذت التشيع لها شعاراً لما أعجزتها الحيل. وكان منشؤها بفارس ولها خلايا بكل مكان، ثم امتدت جذورها إلى العراق وكْرَ التشيع، وأصبح مركزاً هاماً لبث دعوتهم في ظل البكاء والعويل على ما نال أهل البيت من التشريد والتنكيل، وألفوا قلوباً حانية على هذا المبدأ الذي استهوى بريقه ضعفة النفوس والسذج من الناس، واعتنقه البعض عن طيب خاطر وسماحة نفس بدون مناقشات للغايات والأهداف، والبعض اعتنقه طمعاً في الوصول إلى المناصب والجاه والمال، واستفحل أمر هذه العصابة، وعمَّ
(1) 4 العسجد ص (39) .
(2) 5 قرة العيون ص (142) .
(3) 6 نشوان بن سعيد الحميري، توفي سنة (573 هـ) .انظر: الأعلام (8/ 20) ، ومقدمة الحور العين لنشوان الحميري ... ص (16 - 25) تحقيق كمال مصطفى طبع دار آزال بيروت، والمكتبة اليمنية صنعاء الطبعة الثانية (1985 م) والسلوك (1/ 92 9) .
خطرها، وتطاير شررها، وقُوضت ممالك، وكانت فتنة صماء، جرّت على الإسلام والمسلمين ويلات وحروب لا ينادي وليدها، ونال منها اليمن شرارة انطفأت بعد حين) [1].
ويقول نشوان بن سعيد، وهو من علماء ومؤرخي الزيدية: (وسار علي بن الفضل الخنفري إلى أرض يافع، فاشتدت وطأته باليمن، واستولى على أكثر مخاليفه، وأعلن بالكفر، وأحل جميع المحرمات، وخرب المساجد، وكان يدّعي أنه نبي) ، ثم ذكر بعض تلك الأبيات، ثم قال: (وابن الفضل أول من سنَّ القرمطة في اليمن، والقرمطة عند أهل اليمن عبارة عن الزندقة، وصاحبها عندهم قرمطي، فجمعه قرامطة) [2].
أما القاضي حسين بن أحمد العرشي، وهو كذلك من علماء ومؤرخي الزيدية، فقد أطال في بيان حالهم وكشف عوارهم والتحذير منهم، فقال: (اعلم أن الباطنية - أخزاهم الله تعالى- أضر على الإسلام من عبدة الأوثان، وسموا بها؛ لأنهم يبطنون الكفر، ويتظاهرون بالإسلام، ويختفون حتى تمكنهم الوثبة، وإظهار الكفر، وهم ملاحدة بالإجماع، ويسمون "بالإسماعيلية" ؛ لأنهم ينسبون أئمتهم المستورين فيما يزعمون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، و "بالعبيدية" ؛ لدعائهم إلى عبدالله بن ميمون القداح الذي نسبته الباطنية إلى مايزعمون من الأئمة المستورين.
والعبيديون من أولاد عبيدالله، وِلاة مصر ذلك الزمن، والآن يسمون "شيعة" ؛ لكونهم مظهرين أن أئمتهم من أولاد الرسول، حين عرفوا أنه لا يستقيم لهم إمالة الحق، والدخول إلى دهليز الكفر، إلا بإظهار المحبة والتشيع، ولهم قضايا شنيعة وأعمال فظيعة، كالإباحية وغيرها، وقد تابعهم على ذلك
(1) قرة العيون تعليقاً ص (122 - 123) .
(2) الحور العين ص (253 - 254) .
من ذهب عنه النور الإيماني، واستولى على قلبه الهوى الشيطاني، وهم مع ذلك ينكرون القرآن والنبوة والجنة والنار، ولولا أن حياتهم معلومة عندهم، مرتبة بينهم لأنكروها.
وعلى الجملة فدينهم النجوم، وظواهرهم التخوم، ولايكاد يظهر مذهبهم لأتباعهم إلا لمن رسخ دينهم في قلبه، وتراهم إذا وجدوا لأنفسهم قوة أظهروا أمرهم، وأعلنوا كفرهم، فإن غُلبوا ولم تساعدهم الأيام، كمنوا كما تكمن الحية في جحرها، وهم مع ذلك يؤملون الهجوم والوثبة، وأن ينهشوا عباد الله، وقد أفصح السيد "الدافعاني" عن أطراف من أحوالهم في رسالته بعد اختلاطه بهم، وتردده عليهم، ولا ينبغي لذي معرفة وقوة، أن يعرف منهم أحداً يقتدرعليه، فيتركه وشأنه، فإنهم - أهلكهم الله تعالى-شياطين الأرض) [1].
وكلامه عام يشمل ابن الفضل ومنصور اليمن والصليحيين، بل إنه قد بين في مقدمة كتابه هذا أن من جملة ما حمله على تأليفه أنه سمع راوياً يروي عن أناس، وذُكر عندهم بنو الصليحي، وما فعلوه من جوامع وصدقات، فترحموا عليهم جهلاً بأنهم دعاة الباطنية وأصحاب الطائفة العبيدية، فقلت: الآن اتخذ الجهل من الناس مأخذه، وفتح لهم فاه، وأطبق نواجذه، فقلت قصيدة مستغربة وكلمة منظومة معربة، سميتها مسك الختام) [2].
هذا هو موقف علماء ومؤرخي اليمن من الإسماعليلية، وهو مع ما فيه من المقت لهم وتكفيرهم لا يرقى إلى المستوى المطلوب الذي يجب أن يصل إليه الرد والبيان لحالهم وسوء معتقدهم وخطورة مكائدهم ودسائسهم، وربما كان للأولين العذر في ذلك كونهم قد حاربوهم حرباً عسكرية وسياسية حتى أزالوا دولهم، وطهروا اليمن من وجودهم.
(1) بلوغ المرام ص (21 - 22) .
(2) المصدر السابق ص (4) .
ولكن يجب ألا يخفى على علماء اليمن وحكامه أن مجرد زوال دولة الباطنية لا يكفي، فدولتهم قد زالت قديماً بزوال ابن الفضل ومنصور اليمن وأتباعه، ولكن نارها مازالت تدب تحت الرماد حتى مرت بها ريح الصليحي، فأشعلتها أقوى من ذي قبل، وملك جميع اليمن كما هو معلوم، ثم زالت دولته، وبقي فكره وعقائده ودعوته، وبقي دعاته يخلف بعضهم بعضاً، ويوصي بحفظ الدعوة والحفاظ عليها في دور الستر كما يقولون حتى يحين دور الظهور الجديد، وبقيت كتبهم متوفرة، وهي أعظم ما يقوم عليه منهج الإسماعيلية في العالم كله، هذه الكتب محفوظة كما يؤكِّد ذلك الدكتور حسين الهمداني في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء وبعض المكتبات الخاصة وبعض المتاحف ودور الكتب العالمية، وقد بدأت موجة إحياء لهذه الكتب ونشر وتحقيق في أكثر من بلد؛ وذلك للتحول الجديد في العالم وطغيان الحرية الفكرية والعقائدية، فبعد أن كان الباطنية يتخفون غاية التخفي بعقائدهم، ويخفون كتبهم عن أهل نحلتهم حتى يصلوا إلى مستوى معين من الفهم والقناعة بما لديهم، أصبحوا اليوم يتباهون بما هم عليه، وينشرون تلك الكتب على الملأ، ويتظاهر بعض الباحثين بانتسابه إليهم، ويؤرخ لهم مادحاً شارحاً لبعض قضاياهم التي كانت في غاية السرية.
إذاً هذا الفكر الضال والمعسول في نفس الوقت الذي ينبني على الفلسفة والخطاب العقلي والعاطفي في آنٍ واحد، جدير بالاهتمام والحذر واتخاذ التدابير الواقية من بعثه وافتتان الناس به في المستقبل.
واسمع إلى الدكتور حسين الهمداني، وهو أحد الباحثين الباطنية الإسماعيلية المحدثين، وهو يمني حيث يقول في كتابه "الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن" تحت عنوان "الثروة العلمية الفاطمية في اليمن" : (ترى أن دعوة اليمن مضت من يوم وفاة السيدة الحرة الملكة الصليحية إلى انتهاء الدولة الأيوبية في اليمن في مرحلة تمتاز بنشاط علمي وجمع شتات التراث الفكري وتسجيلها في كتب
ومؤلفات وحفظ ما تركه المؤلفون الدعاة في عهد الخلفاء الفاطميين، وقد بدأت هذه الحركة العلمية في حياة الملك المكرم والملكة الحرة بعد عودة قاضي قضاة اليمن لمك بن مالك الحمادي من الديار المصرية إلى مقر الدولة الصليحية، وقد سبق أن ذكرنا أن داعي الدعاة المؤيد في الدين الشيرازي، قرر في أواخر عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي خطوط برنامج الدعوة العلمي، وكلف القاضي لمك تنفيذ هذا البرنامج، ونقل القاضي كتب الدعوة وما احتوته من علوم إلى اليمن، ثم قررت السيدة الملكة الحرة بعد وصول القاضي إلى اليمن فصل الدعوة من شؤون الملك. وعينت الملكة يحيى بن لمك والداعي الذؤيب بن موسى الوادعي للاشراف على تنفيذ هذا المشروع العلمي البعيد عن التيارات السياسية. فابتدأت الدعوة تعمل لهذا الغرض في عهد الداعي الذؤيب بن موسى الوادعي، ومأذونه السلطان الخطاب بن الحسن الحجوري، ثم أظهر الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي ومأذونه الشيخ علي بن الحسين بن جعفر بن الوليد القرشي، والشيخ محمد بن طاهر الحارثي نشاطاً بليغاً في هذا الصدد، وبلغ الداعي حاتم بن إبراهيم الحامدي، والوادعي علي بن محمد بن الوليد من إنتاجهما الأدبي مبلغاً لايستهان به. وأثبت الداعي علي ابن حنظلة خلاصة بعض علوم الدعوة في رسالته وأرجوزته. وقد واصل علماء اليمن هذا النشاط العلمي في القرون التالية إلى عهد الداعي إدريس عماد الدين الأنف القرشي، المتوفى سنة اثنتين وسبعين وثمان مائه، بل إلى أيامنا هذه، ومن هذا العرض السريع نأخذ فكرة عما يوجد من الثروة الأدبية والعلمية في خزائن كتب الدعوة اليمنية) [1].
(1) الصليحيون ص (297 - 298)
كما أن الأستاذ عبدالله الحبشي ذكر في كتابه مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن ذكر ستة عشر داعياً ومؤلفاً من دعاة الإسماعيلية اليمنيين الذين خلفوا ثروة علمية وعقائدية ضخمة، كلها يقصد بها تعميق وترسيخ الفكر والعقيدة الإسماعيلية لدى اليمنيين [1].
ذلك المخزون الفكري وإن كان ضالاً غير مستساغ لدى العقلاء، فإنه قد يستساغ لدى الجهلاء، ولدى المفتونين بالغرائب، ولدى المندسين الذين دأبوا على بث الفتن والشقاق من خلال العقائد الضالة والأفكار الهدامة. هذا بالإضافة إلى الاهتمام الكبير والمتزايد باليمن من قبل هذه الطائفة هذه الأيام، وما يعتمل داخل تجمعات هذه الطائفة في مناطق تواجدها وعلاقاتها المريبة مع جهات أجنبية، ربما عملت على زعزعت أمن اليمن واستقراره.
وكذلك الظاهرة التي برزت في السنوات الأخيرة ما يسمى لدى تلك الطائفة في الخارج "الحج إلى اليمن" ؛ وذلك لتتبع قبور دعاتهم في مناطق مختلفة في اليمن، سبقت الإشارة إلى بعض منها، ومما يدل أن وراء الأكمة ما وراءها، أنهم لم يقتصروا على زيارة تلك القبور والانصراف عنها، ولكنهم يشترون ماحولها من أرض ودور ومدارس وأي شيء، حتى يتحول الضريح وماحوله إلى ملك خاص بهم، يقيمون فيه المساكن في الظاهر، ولاندري ما وراء المساكن، وقد شاهدت قبراً لهم معظماً في زبيد، وقد ملكوا سكناً واسعاً بجواره، فإذا جاءوا للزيارة نزلوا فيه، وانطلقوا منه إلى بقية المزارات، كما رأيت قبراً آخر في قرية الحمى من نواحي زبيد، يسمونه قبر "حضرة خواجه أويس القرني عاشق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" هكذا مكتوب عليه، وقد دخلته وهو ضمن مباني مدرسة صغيرة قديمة، فاشتروا
(1) مصادر الفكر العربي والإسلامي في اليمن تأليف عبد الله محمد الحبشي الصفحات (95) و (100) و (102) و (106) و (111) و (112) و (11) و (121) و (123) و (125) و (126) طبع مركز الدراسات اليمنية صنعاء.
حسب إفادة بعض أهالي المنطقة مساحة من الأرض، وبنوا عليها مدرسة جديدة على أن تكون المدرسة القديمة والقبر لهم، ورأيت قبراً عالياً مغطى بثوب موشى، لعله من الحرير مطرز بآيات من القرآن وبعض العبارات الأخرى، وهو في غاية من النظافة، ومفروش بفراش من السجاد والبخور يفوح منه مما يلقي له مهابة في نفس الزائر.
فهذه الأماكن، مايدرينا أنها تتحول إلى مقار للفتنة والمؤامرة في يوم من الأيام! وهل كانت بدايات اليهود المهاجرين إلى فلسطين إلا بهذه المثابة؟ أوَما نخشى أن يأتي يوم يقال فيه لابد من وطن قومي لهذه الطائفة؟
ولايسعني في نهاية هذا المطلب إلا أن أسجِّل تحذيري للعلماء وللحكام ولكل غيور على أمن اليمن وسلامته واستقراره:
أرى خلل الرماد وميضَ نارٍ ويوشك أن يكونَ لها ضرامٌ
لئن لم يطفها عقلاءُ قوم يكون ضرامها جثثٌ وهامُ
المطلب الثاني: أبرز الأعلام الذين واجهوا الإسماعيلية من علماء اليمن:
سبقت الإشارة إلى ضعف المواجهة العلمية لهذه الطائفة، ولكن مع ذلك فإن علماء اليمن لم تخلُ الساحة تماماً من الردود وبيان فساد عقائد ومناهج هذه الطائفة، ومن المؤمل أن يقوم العلماء المعاصرون بسد ذلك النقص.
العلم الأول
محمد بن مالك بن أبي القبائل [1] الحمادي
هذا الإمام هو أشهر من رد على الإسماعيلية من اليمنيين، بل إن رسالته أصبحت مرجعاً لكل من يكتب عنهم، وهو الفقيه أبو عبدالله محمد بن مالك بن أبي القبائل الحمادي المعافري، والذي لم يُعثر له على ترجمة، كما أكد ذلك القاضي محمد بن علي الأكوع في مقدمة كتابه [2] غير أن الجندي قد أفاد ما يأتي في ترجمة علي بن الفضل: (على ما ذكره الفقيه أبو عبدالله محمد بن مالك بن أبي الفضائل أحد فقهاء اليمن وعلماء السنة، وكان ممن دخل في مذهبهما - منصور وابن الفضل - أيام الصليحي، وتحقق أصل مذهبهما، فلما تحقق فساده رجع عنه، وعمل رسالة مشهورة، يخبر بأصل مذهبهم، ويبِيْن عوارهم ويحذر من الاغترار بهم) [3]، وقد استنبط القاضي الأكوع أن وفاة الحمادي كانت في أيام علي بن محمد الصليحي ما بين عامَي (439 هـ -459 هـ) حيث لم يدرك مقتل الصليحي سنة (459 هـ) .
وكتاب الحمادي من أهم الكتب الكاشفة عن حقيقة الإسماعيلية في اليمن، بل هو أهمها؛ وذلك لما انطوى عليه من مشاهدة واحتكاك وخبرة من الداخل، قال - رحمه الله - في فاتحة كتابه: (قال محمد ابن مالك - رحمة الله تعالى عليه: اعلموا أيها الناس المسلمون، عصمكم الله بالإسلام، وجنبنا وإياكم طرق الآثام، وأرشدكم، ووفقكم لمرضاته، وسددكم، إني كنت أسمع ما يقال عن هذا
(1) ابن أبي القبائل هذا الذي ذكره الأكوع في تحقيقه لكتابه كشف أسرار الباطنية، وذكره فؤاد سيد في تحقيقه لكتاب طبقات فقهاء اليمن لابن سمرة الجعدي ص (78) ، ومنهم من ذكره بابن أبي الفضائل والله تعالى أعلم.
(2) كشف أسرار الباطنية ص (45) .
(3) السلوك (1/ 201) .
الرجل الصليحي كما يسمعون، ومايتكلم به عليه من سيء الإذاعة وقبح الشناعة، فإذا قال القائل: هو يفعل، ويصنع، قلت: أنت تشهد عليه غداً، فيقول: ما شهدت، ولا عاينت، بل أقول كما يقول الناس. فكنت أتعجب من هذا أولاً، ولا أكاد أصدق، ولا أكذب ما قد أجمع عليه الناس، ونطقت به الألسن، فتارة أقول هذا ما لا يفعله أحد من العرب والعجم، ولا سمع به فيما تقدم في سالف الأمم، إنما هذه عداوة له من الناس للمآل الذي بلغه من غير أصل ولا أساس، وكنت كثيراً ما أسمعه يقول: حكم الله لنا علىمن يظلمنا، ويرمينا بما ليس فينا.
فرأيت أن أدخل في مذهبه؛ لأتيقن صدق ما قيل فيه من كذبه؛ ولأطلع على سرائره وكتبه، فلما تصفحت جميع ما فيها، وعرفت معانيها، رأيت أن أبرهن على ذلك؛ ليعلم المسلمون عمدة مقالته، وأكشف لهم عن كفره وضلالته؛ نصيحة لله وللمسلمين؛ وتحذيراً ممن يحاول بغض هذا الدين، والله موهن كيد الكافرين.
فأول ما أشهد به وأشرحه، وأبينه للمسلمين وأوضحه، أن له نوّاباً يسميهم الدعاة المأذونين، وآخرين يلقبهم بالمكلبين تشبيهاً بكلاب الصيد؛ لأنهم ينصبون للناس الحبائل، ويكيدونهم بالغوائل، وينقبضون عن كل عاقل، ويلبِّسون على كل جاهل، بكلمة حق يراد بها باطل. يحضّونهم على شرائع الإسلام، من الصلاة والزكاة والصيام كالذي ينثر الحب للطير؛ ليقع في شراكه، فيقيم أكثر من سنة يمعنون به وينظرون صبره، ويتصفحون أمره، ويخدعونه بروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - محرفة، وأقوال مزخرفة، ويتلون عليه القرآن على غير وجهه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فإذا رأوا منه الانهماك والركون والقبول والإعجاب بجميع ما يعملونه والانقياد لما يأمرونه، قالوا حينئذٍ: اكشف عن السرائر، ولاترض لنفسك، ولاتقنع بما قد قنع به العوام من الظواهر، وتدبر القرآن ورموزه، واعرف مثله وممثوله، واعرف
معاني الصلاة والطهارة، وماروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرموز والإشارة، دون التصريح في ذلك والعبارة، فإنما جميع ما عليه الناس أمثال مضروبة، لممثولات محجوبة، فاعرف الصلاة وما فيها، وقف على باطنها ومعانيها، فإن العمل بغير علم لاينتفع به صاحبه، فيقول: عمَّ أسأل، فيقول: قال الله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [1]، فالزكاة مفروضة في كل عام مرة، وكذلك الصلاة من صلاها مرة في السنة فقد أقام الصلاة بغير تكرار، وأيضاً فالصلاة والزكاة لها باطن؛ لأن الصلاة صلاتان، والزكاة زكاتان، والصوم صومان، والحج حجان، وما خلق الله - سبحانه - من ظاهر إلا وله باطن، يدل على ذلك: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} [2] {قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها وما بطن} [3]، ألا ترى أن البيضة لها ظاهر وباطن، فالظاهر ما تساوى به الناس وعرفه الخاص والعام، وأما الباطن فقصر علم الناس به عن العلم به، فلا يعرفه إلا القليل، من ذلك قوله: {وما آمن معه إلا قليل} [4]، وقوله: {وقليلٌ ماهم} [5]،وقوله: {وقليلٌ من عبادي الشكور} [6]، فالأقل من الأكثر الذين لاعقول لهم) [7].
وقد بدأ كتابه بذكر الدعاة المأذونين، وكيفية قيامهم بتلك الدعوة، وكيف يؤوِّلون، ويعلمون الناس أن لكل شيء ظاهراً وباطناً، فالصلاة لها باطن والزكاة لها باطن ... الخ، ثم ذكر تدرجهم بالمدعو حتى يصل إلى الدرجة التي يبيح له الإمام المبيت مع زوجة الداعي، ثم مع زوجات الواصلين إلى تلك
(1) البقرة (43) .
(2) الأنعام (120) .
(3) الأعراف (33) .
(4) هود (40) .
(5) سورة ص (24) .
(6) سبأ (13) .
(7) كشف اسرار الباطنية وأسرار القرامطة ص (63 - 65) .
الرتب العالية عندهم [1]؛ ثم ذكر المشهد الأعظم وما فيه من إباحية، ثم يختم الفصل بقوله: (قال محمد بن مالك - رحمه الله تعالى: هذا ما اطلعت عليه من كفرهم وضلالتهم، والله - تعالى - لهم بالمرصاد، والله - تعالى - عليَّ شهيد بجميع ما ذكرته مما اطلعت عليه من فعلهم وكفرهم وجهلهم، والله يشهد عليَّ بجميع ما ذكرته عالم به، ومن تكلم عليهم بباطل فعليه لعنة الله واللاعنين والملائكة والناس أجمعين، وأخزى الله من كذب عليهم، وأعد له جهنم وساءت مصيراً، ومن حكى عنهم بغير ما هم عليه، فهو يخرج من حول الله وقوته إلى حول الشيطان وقوته.
فأديت هذه النصيحة للمسلمين حسب ما أوجب علي من حفظ هذه الشهادة، فإن الله - سبحانه -أمر بحفظ الشهادة ومراعاتها وأدائها إلى من لم يسمعها، قال الله - سبحانه وتعالى: {سُتكتب شهادتهم ويسئلون} [2]،والله أسأله أن يتوفانا مسلمين، ولاينزع عنا الإسلام بعد أن أتانا بمنه ورحمته) [3].
ثم قال تحت عنوان "المقالة في أصل الدعوة الملعونة" : (وقد رأيت أيها الناس، وفقنا الله وإياكم للصواب، وجنبنا وإياكم طرق الكفر والارتياب، أن أذكر أخبار هذه الدعوة الملعونة؛ لئلا يميل إلى مذهبهم مائل، ولا يصبو إلى مقالتهم لبيب عاقل، ويكون في هذا القدر من الكلام في هذا الكتاب إنذار لمن نظره، وإعذار لمن، وقف عليه واعتبره) [4]، ثم ابتدأ في تاريخ تلك الدعوة وأخبارها إلى آخر الكتاب.
(1) . المصدر السابق ص (69) .
(2) الزخرف (19) .
(3) المصدر السابق ص (70) .
(4) المصدر السابق ص (70 - 71)
والكتاب يعد من أهم وأقدم المراجع المؤرخة للباطنية والكاشفة عن حقائقهم خصوصاً باطنية اليمن؛ ولذا فلا يحصى من نقل عنه قديماً وحديثاً، وقد طبع عدة طبعات من آخرها وأفضلها طبعة "مركز الدراسات والبحوث اليمني" بتحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع سنة (1415 هـ) .
ولقد حاول البعض التشكيك في بعض ما احتوى عليه الكتاب، إما باعتبار ذلك غير معقول، أو بدافع قومي أو وطني، ولكن الشهادة التي صدّره بها القاضي الأكوع عن المقريزي تشهد للحمادي بصدقما ذكره، وكذلك يشهد له كثير من النقول عن كتب الإسماعيلية أنفسهم التي أوردها الباحث الكبير إحسان إلهي ظهير في كتابه الفذ "الإسماعيلية تاريخ وعقائد" ومن أراد التأكد فليرجع إليه في الباب السادس "الإسماعيلية والتأويل الباطني" [1] و "الإسماعيلية ونسخ شريعة محمد صلوات الله عليه" [2]، إلا موضوع "المشهد الأعظم" أي جمع الرجال مع النساء، وكذلك المبيت مع زوجة الداعي وزوجات من يليه فلم أجد إلى الآن ما يشهد له فلا أستطيع الجزم بإثباته كما لا أستطيع نفيه.
العلم الثاني
الإمام يحيى بن حمزة
وهو الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي - رضي الله عنه -، وهو خلاف أكثر أئمة اليمن الذين يرجعون إلى الحسن بن علي - رضي الله عنه -، ولد بصنعاء سنة (669 هـ) (واشتغل بالمعارف
(1) الإسماعيلية تاريخ وعقائد ص (473 - 538)
(2) المصدر السابق ص (546 - 592)
العلمية وهو صبي، فأخذ من جميع أنواعها على أكابر علماء الديار اليمنية، وتبحر في جميع العلوم، وفاق أقرانه، وصنف التصانيف الحافلة في جميع الفنون) [1]، (وهو من أكابر أئمة الزيدية بالديار اليمنية، وله ميل إلى الإنصاف مع طهارة لسان وسلامة صدر وعدم إقدام على التكفير والتفسيق بالتأويل ومبالغة في الحمل على السلامة على وجه حسن، وهو كثير الذب عن أعراض الصحابة المصونة - رضي الله عنهم -، وعن أكابر علماء الطوائف رحمهم الله) [2]، وله في ذلك "الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب أصحاب سيد المرسلين" [3].
وكتبه كثيرة جداً، أوصلها بعضهم إلى مئة مجلد، ومنها رسالتاه اللتان رد فيهما على الباطنية، وهما "الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام" و "مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار" وقد طبعتا، ولكني لم أحصل على أي منهما.
وهذا الإمام لم يقتصر على الرد على الإسماعيلية بقلمه ولسانه، بل حاربهم بسيفة وسنانه، كما ذكر ذلك صاحب أعلام المؤلفين الزيدية [4]، ولست أدري شيئاً عن مضمون الكتابين غير أن الظن أنهما مفيدان ومحققان، فقد وُصِفَ هذا الإمام بالتحقيق والنبوغ.
وهو مع مكانته العلمية وشهرته بين علماء اليمن، قد صدرت عنه بعض الفتاوى التي يظهر بجلاء مخالفتها للأدلة، من أشهرها تجويزه بناء المشاهد والقباب على قبور الخلفاء وذوي الفضل، وهذه
(1) البدر الطالع (2/ 331)
(2) المصدر السابق (2/ 332)
(3) المصدر السابق (2/ 332) .
(4) أعلام المؤلفين الزيدية ص (1124) .
الفتوى هي التي رد عليها الشوكاني برسالته "شرح الصدور بتحريم رفع القبور" ، وقد ذكر بعض تلك المسائل القاضي إسماعيل الأكوع في ترجمته في كتابه هجر العلم [1].
وقد توفي - رحمه الله - في موضع اعتزاله بعد أن تخلى عن الإمامة بقصر هران بذمار سنة (749 هـ) [2].
المطلب الثالث: المؤلفات اليمنية في الرد على الباطنية الإسماعيلية:
لقد عثرت- أثناء بحثي عن هذه الطائفة وتاريخها وموقف العلماء منها-على عدد من الردود عليها من علماء اليمن، ولاأزعم أن هذه الأسماء التي سأذكرها في هذا المطلب هي كل ما كتبه اليمنيون في ذلك، ولكن هذا ما وقفت عليه.
1 - 3) ماسبق ذكرها؛ وهي رسالة الحمادي "كشف أسرار الباطنية" ،و "الإقحام لأفئدة الباطنية الطغام" و "مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار" وكلتاهما للإمام يحي بن حمزة.
4) "الحسام البتار في الرد على القرامطة الكفار" ؛ للشيخ حُميد بن محمد المحلي الهمداني المعروف بحميد الشهيد، وكان من كبار الهادوية في عصره، قتل سنة (652) [3].
5) "الرسالة القاطعة في الرد على الباطنية" (جزآن) ؛ للشيخ محمد بن يحيى بن أحمد بن حنش، توفي سنة (719) [4].
(1) هجر العلم (1/ 502) .
(2) انظر ترجمته في البدر الطالع (2/ 331 - 333) ، وهجر العلم ص (501 - 506) ، وأعلام المؤلفين الزيدية ... ص (1124 - 1131) .
(3) هجر العلم للأكوع (2/ 882) ، ومصادر الفكر للحبشي ص (107) .
(4) هجر العلم (3/ 1306) ، ومصادر الفكر ص (112) .
6) "العضب المسلول في الرد على الباطني المخذول" لأبي العطايا عبدالله بن يحيى بن المهدي، توفي سنة (873) [1].
هذه هي الكتب المفردة، وهناك من تعرض لهم أثناء بحوث أخرى وضمن كتب غير مخصصة للرد عليهم منها:
أ) ماكتبه الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، المتوفى سنة (840 هـ) ؛ في كتابه "إيثار الحق على الخلق" في عدة مواضع.
ب) محمد بن الحسن الديلمي المتوفى سنة (711 هـ) ، في كتابه "قواعد عقائد آل محمد" ، وغير ذلك من كتب العقائد والتاريخ.
وعندما بدأت موجات الحجاج الإسماعيلية تتوافد على اليمن، وظهر نشاطهم ونشاط إخوانهم من اليمنيين، تحرك بعض العلماء والدعاة من المعاصرين؛ لمواجهة ذلك خطابة ومحاضرة وربما تأليفاً، والواجب أن تأخذ هذه الفرقة حظها من العناية والاهتمام على مستوى الخطر الذي تشكله، والله الموفق.
(1) مصادر الفكر ص (122) .
المبحث الثاني
المواجهة العلمية لعلماء الجهات اليمنية المختلفة لعموم القبورية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: جهود علماء اليمن الأعلى "صنعاء ومايليها" :
لقد كان لعلماء هذه الجهة النصيب الأوفر والحظ الأكبر من الجهود العلمية والعملية في مواجهة القبورية، وقد تقدم بعض جهودهم في مواجهة الباطنية الشيعية، وفي هذا المبحث سألقي الضوء على جهودهم في مواجهة عموم القبورية، ولم تكن تلك الجهود العظيمة لأن بلادهم كانت أكثر قبورية من غيرها، ولكن كان هناك عاملان أساسيان لذلك:
الأول: هو الاجتهاد والتجديد الذي تميز به علماء هذه الجهة، فاتسعت آفاقهم، وزالت الموانع من طريقهم؛ سواء موانع النظر العلمي، أو موانع الجهر بكلمة الحق التي حالت دون علماء جهات أخرى أن يقولوها.
الثاني: أنه لايوجد من يتبنى القبورية، ويدافع عنها بقوة من علماء تلك الديار، وإنما الذي يروج تلك القبورية هم الحكام دون اعتقاد؛ بل لدوافع إظهار العظمة لديهم، فلم يكن لهم حماس الصوفية المعتقدة في الأولياء والحكام الخاضعين لسلطان الصوفية.
ولذا فسوف تطالعنا أسماء عديدة، لها إسهاماتها في هذه الجهود من جوانب مختلفة، ولكنني سأكتفي بدراسة أكثر تلك الأسماء تأثيراً، وهما الإمامان شيخا الإسلام "محمد بن إسماعيل الأمير" و "محمد بن علي الشوكاني" ، مع استعراض بعض آثارهما في هذا المجال، وأما بقية الأسماء فسأذكرها مجردة، مع تاريخ الوفاة وبعض مصادر الترجمة، واسم الأثر الذي تركه ذلك العالم في مواجهة القبورية وموضوعه.
العلم الأول
من أعلام مواجهة القبورية في اليمن الأعلى
الإمام محمد بن إسماعيل الأمير
هو علامة اليمن ومجدد علم الحديث بها، البدر المنير محمد بن إسماعيل بن صلاح، الأمير الكحلاني ثم الصنعاني، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ولد بكحلان ليلة الجمعة منتصف جمادى الأول سنة (1099 هـ) [1]، ثم ارتحل مع والده إلى صنعاء، وهناك أكب على طلب العلم على أشهر وأفضل علمائها، (ورحل إلى مكة، وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وتظهر بالاجتهاد وعمل بالأدلة، ونفر عن
(1) هجر العلم (4/ 1854) .
التقليد وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية، وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن) [1]، وقد عدد الشوكاني تلك المحن التي وقعت عليه [2].
وقد تفرد في عصره من بين علماء اليمن بأمور، هي من أعظم خصال المجددين، وأزكى ثمار اجتهاد المجتهدين، أولها الدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة الشرك ووسائله، وهذا ما سنراه في الجزء الثاني من هذه الترجمة، وكان ذلك قبل أن يسمع بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب- رحمه الله- فلما سمع بها وبما يقوم به ابن عبدالوهاب في ذلك السبيل، فرح فرحاً شديداً، وتقوّى بذلك، ووجد المساعد على دعوته التي كان يظن أنه وحده عليها، فراسله بقصيدته الشهيرة المعروفة بالقصيدة النجدية، والتي مطلعها:
سلامٌ على نجد ومن حل في نجد وإن كان تسليمي على البعد لايجدي
وقال مبدياً سروره بما يدعو إليه ذلك الإمام:
لقد سرني ما جاءني من طريقة وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي
وقد ضمّن هذه القصيدة أهم ملامح دعوته إلى التوحيد والاجتهاد ومحاربة البدع، وأثنى على الإمام ابن عبدالوهاب بذلك.
ولكن هناك أموراً ساعدت على شيء من التردد تجاه الشيخ ابن عبدالوهاب؛ وهي أنه لم يبادر بالجواب على الصنعاني، وترتب على هذا السبب أسباب أخرى، من أهمها أن القصيدة انتشرت، وسار بها الركبان، وبلغت الحجاز والشام والعراق وغيرها من البلدان التي لابن عبدالوهاب فيها أعداء، فسارعوا بالكتابة لابن الأمير، يلومونه على مدحه لابن عبدالوهاب، ويختلقون المطاعن
(1) البدر الطالع (2/ 133) .
(2) المصدر السابق (2/ 113 - 136) .
والمثالب، ويهوِّلون الأمر بحيث يصورونه له أنه بسبب هذه القصيدة، ارتفع شأن هذا الرجل، واغتر به أناس مع ما عنده من أخطاء، ويحمِّلون ابن الأمير مسؤولية من اغتر بقصيدته، ولكن ذلك كله لم يؤثر فيه، كما صرح بذلك في مقدمة قصيدة الرجوع غير أنه بعد فترة، ورد إليه رجل من أهل نجد، يزعم أنه من طلاب محمد ابن عبدالوهاب، وذكر لابن الأمير بعض الأمور عن صاحبه، لم ترق له، ولم يُعِر ذلك اهتماما ً، ثم ورد رجل آخر، يظهر عليه سمت وسيما صلاحٍ ونباهة في طلب العلم حسبما يصفه ابن الأمير؛ فأكد ما قاله الوافد الأول وأحضر حسب زعمه بعض رسائل ابن عبد الوهاب التي فيها تبرير تكفير سائر الأمة، والوجهة في قتل مخالفيه، وأخذ أموالهم، فلما تجمع ذلك كله وجد ابن الأمير نفسه مضطراً لمسح ما فعلته القصيدة الأولى، من دعاية لابن عبدالوهاب، فنظم قصيدته التي مطلعها:
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
وأبان فيها ما بلغه عن ابن عبدالوهاب، مما لا يرتضيه وأهمه تكفير الأمة قاطبة، والتَّجاري على الدماء والأموال، وأقول:
أما القضية الأولى فهي قطعاً غير صحيحة، وجميع مؤلفات الإمام ومؤلفات أبنائه وأحفاده وأعلام الدعوة النجدية موجودة متداولة، وليس فيها شيء من ذلك، أعني التكفير العام المطلق للأمة، وإنما فيها التحذير من الشرك والحكم العام دون التعيين لمن وقع في الشرك بأنه مشرك، مالم يكن معذوراً، وتاب عن ذلك، فدعوى تكفير الأمة قاطبة مما افتراه عليه أعداؤه؛ لتشويه سمعته.
وأما القضية الثانية وهي التجاري على دماء المسلمين وأموالهم فهي مبنية على حكم من يحاربهم، فمن اعتقد هو وأتباعه أنه مرتد معاند، لم يقبل النصح، ولم ينصع للدعوة، استحل قتاله، وغنم أمواله،
وذلك بعد البلاغ والإعذار، كما تنص عليه كتبه وكتب أتباعه، وأما وصول الأمر إلى حد الاغتيال دون إنذار ودون دعوة، فما علمت أن الشيخ وأتباعه العلماء، يجيزون ذلك بهذه الصورة المذكورة، وأما أن يحصل من بعض الجنود وقُوَّادِهم شيء من التجاوز في القتل أو في نهب الأموال أو ما أشبه ذلك، فهذا ممكن، وليس العيب فيه على الشيخ، ولا على دعوته.
وعلى كل حال فتأخُّر جواب الشيخ ابن عبدالوهاب علىلشيخ ابن الأمير؛ فتح المجال للطرف الثالث وهم الناقمون على الشيخين جميعاً، فسعوا للإيقاع بينهما، وخصوصاً أنهم لمسوا قضية حساسة لدى ابن الأمير، وهي قضية قتل الناس وأخذ أموالهم باسم الدين والشرع والجهاد في سبيل الله، التي كان قد سنّها بعض أئمة اليمن، وضاق بها علماء اليمن ذرعاً، ومن أشدهم ابن الأمير، فكم له في ذلك من مكاتبات وقصائد تعد ثورة على تلك الأوضاع، فخشي أن يذم أئمة اليمن، ويمقتهم لذلك الظلم، وفي نفس الوقت يمدح إمام نجد الذي يجاري أئمة اليمن في ذلك البغي والظلم.
هذه في نظري هي الأسباب الحاملة على نظم القصيدة الأخيرة؛ ولذلك ومن أجل أن يقطع الطريق على من يصطاد في الماء العكر، فقد أكد تمسكه بما جاء في القصيدة النجدية من العقيدة والمنهج، وإنما كان الرجوع عن تلك القضايا المحددة فقال:
نعم واعلموا أني أرى كل بدعة ضلالاً على ما قلت في ذلك العقد
ولاتحسبوا أني رجعت عن الذي تضمنه نظمي القديم إلى نجد
بلى كل ما فيه هو الحق إنما تجاريك في سفك الدما ليس من قصدي
وتكفير أهل الأرض لست أقوله كما قلته لا عن دليل به تهدي) [1]
والقصيدة ثابتة عن الإمام ابن الأمير، وليست مقولة على لسانه، والسبب فيها ماذكر، وليس هو تراجعاً عن ذلك المنهج، وقد أشار الشوكاني في "الدر النضيد" إلى شرح هذه القصيدة لابن الأمير [2]،
(1) الديوان وانظر مقدمةهذه القصيدة ص (171 - 173) .
(2) الدر النضيدص (102) .
فمن أنكرها من علماء نجد وغيرهم كان إنكاره لها عن عدم اطلاع على ما ذكر من أسباب وملابسات، وماذاك إلا غيرة على الإمام ابن الأمير من أن ينسب إليه مايخالف ماعرف عنه من الدعوة إلى التوحيد والاتباع ومحاربة الشرك والابتداع.
وأما الأمر الثاني فالدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد الأعمى والتعصب المقيت، وهذا الأمر تطفح به كتبه التي خصص منها رسالة لهذا الغرض بعنوان: "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد" ، كما تعرض لهذا الأمر في الكثير من كتبه الكبيرة والصغيره، وأعلنه في العديد من قصائده، ومنها هذه القصيدة النجدية التي تكلمنا عنها آنفاً حيث قال:
وأقبح من كل ابتداع سمعته وأنكاه للقلب الموفق للرشد
مذاهب من رام الخلاف لبعضها يُعض بأنيابِ الأساود والأسد
يصب عليه سوط ذم وغيبة ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد
ويُعزى إليه كل ما لا يقوله لتنقيصه عند التهامي والنجدي
فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد
وليس له ذنب سوى أنه غدا يتابع قول الله في الحل والعقد
ويتبع أقوال النبي محمد وهل غيره بالله في الشرعي من يهدي
لئن عده الجهال ذنباً فحبذا به حبذا يوم انفرادي في لحدي [1]
وتجد هذا الاتجاه في ديوانه في عدة مواضع بارزاً، وقد جر عليه هذا ضروباً من المحن، كما مر.
(1) الديوان ص (167)
والأمر الثالث مقارعته للأئمة وتشديده النكير عليهم في المظالم التي يرتكبونها بحق الأمة في دمائها وأموالها، وهو فاشٍ في كتبه ورسائله وقصائده، ومن أشهر تلك القصائد وأذيعها وأبعدها ذكراً القصيدة التي مطلعها:
(سماعاً عباد الله أهل البصائر لقولٍ له يفنى منام النواظر) [1]
وقد شجب فيها ظلم الأئمة وميل بعض القضاة عن مقتضى العدل، وسكوت العلماء عن قول كلمة الحق، وبالجملة فقد وهب نفسه وراحته ووقته وعلمه لإعلاء كلمة الحق ورفع راية التوحيد وقمع البدع والمنكرات، ومن طريف ما قام به في الحفاظ على التوحيد ومحاربة الشرك ما ذكره "زبارة" في "نشر العرف" تحت عنوان "صنم المخا وفتنة الخطبة بصنعاء" قال: (وأرشد المهدي العباس إلى إزالة أصنام كانت ببندر المخا لطائفة البانيان، وألف البدر رسالة في ذلك نفيسه، فبادر المهدي إلى الأمر بإزالتها وهدم بيوتها، وقبض جميع أموالها، وقد كان لها مال واسع يقدر بنحو خمسين ألف ريال، فأخذ وأوصل أحد الأصنام إلى حضرة الإمام والبدر لديه، فأمر البدر بكسره، وكان في صورة أنثى، فديس بالنعال) [2].
وقد التف حوله نخبة كبيرة من طلاب العلم من طبقات متفاوتة من المجتمع، قال عنها الشوكاني: (وقد كان أكثر أتباع صاحب الترجمة من الخاصة والعامة، وعملوا باجتهاده وتظاهروا بذلك، وقرأوا عليه كتب الحديث وفيهم جماعة من الأجناد، بل كان الإمام المهدي يعجبه التظهر بذلك، وكذلك وزيره الكبير الفقيه أحمد بن علي النهمي وأميره الكبير الماس المهدي، ومازال ناشراً لذلك في الخاصة والعامة غير مبال بما يتوعده به المخالفون له، ووقعت في أثناء ذلك فتن كبار، وقاه الله شرها) [3].
وبواسطة طلابه والمقتدين به من العلماء والدعاة، وصلت إلينا الدعوة السلفية اليمنية، والحمد لله، كما خلّف ثروة ضخمة من الكتب التي تُشد إليها الرحال في التحقيق والتجديد ودقة الفقه والاستنباط، من أوسعها انتشاراً "سبل السلام" و "تطهير الاعتقاد" والعدة حاشية شرح العمدة "لابن دقيق العيد، ومؤلفاته كثيرة جداً، قال القاضي الأكوع: (وله رسائل كثيرة، يضيق المقام"
(1) الديوان ص (244 - 247) .
(2) نشر العرف (3/ 41)
(3) البدر الطالع (2/ 137) .
بذكرها) [1].ومعظمها في تلك الاتجاهات التي أشرنا إليها، وسيأتي التعريف بما يخص القبورية من مؤلفاته التي اطلعنا عليها أو بعضها، ولقد اهتم العلماء والمؤرخون وطلاب الدراسات العليا بدراسة جوانب مختلفة من حياته وفكره، فمنهم الإمام الشوكاني في "البدر الطالع" ، والقاضي الحيمي في كتابه "طيب السمر" ، والجرموزي في كتابه "سلافة العصر" ، والقاضي أحمد قاطن في كتابه "الدمية والتحفة" ، وعبدالله بن عيسى في كتابه "الحدائق" ، وعبدالله الحبشي في كتابه "مصادر الفكر الإسلامي في اليمن" [2].
وقد ترجمه ترجمة واسعة "زبارة" في "نشر العرف" ، والقاضي الأكوع في "هجر العلم" ، كما كُتبت عنه عدد من المؤلفات الخاصة والرسائل العلمية منها: كتاب "الصنعاني وكتابه توضيح الأفكار" للدكتور "أحمد محمد العليمي" ، وكَتب علي عبدالجبار ياسين السروري كتاباً بعنوان: "ابن الأمير الصنعاني حياته وفقهه" ، نال بها درجة الماجستير، وكتب الباحث قاسم صالح ناجي الريمي رسالة بعنوان "الفكر التربوي عند ابن الأمير الصنعاني" ، نال بها درجة الماجستير، وكتب عنه العلامة عبدالرحمن طيب بعكر كتاباً بعنوان "مصلح اليمن محمد بن إسماعيل الأمير دراسة حياته وآثاره" وكتب الأساتذة قاسم غالب أحمد، وحسين أحمد السياغي، ومحمد بن علي الأكوع، وعبدالله ابن عبدالوهاب الشماحي، ومحمود إبراهيم زائد كتاب "ابن الأمير وعصره" [3].
هذا هو الإمام محمد بن إسماعيل الأمير أحد أبرز مجددي اليمن ومن أوائل من فتح باب مواجهة القبورية في اليمن الأعلى.
جهود ابن الأمير في مواجهة القبورية:
لقد احتلت مواجهة القبورية حيزاً واسعاً من حياة ابن الأمير وجهده وجهاده، ولن أستطيع الإحاطة بكل ما كتب في هذا الجانب، فبعضه مازال مخطوطاً، وبعضه ضمن مؤلفات كبيرة متناثر في ثناياها، والقصد هو إلقاء الضوء على منهج الرجل في مواجهة القبورية، وسيظهر ذلك - إن شاء الله - من خلال استعراض ما يقع عليه الاختيار من كتبه.
الأثر الأول من آثار ابن الأمير المفردة في مواجهة القبورية
(1) هجر العلم (4/ 1857)
(2) مقدمة الديوان ص (47) بقلم حفيده الأستاذ عبدالرحمن علي الأمير ..
(3) هجر العلم (4/ 1855) .
"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"
هذه الرسالة هي أشهر كتبه المفردة في هذا الموضوع، وقد تداولها الناس، وطبعت عدة طبعات في بلدان عديدة، قال في مقدمتها بعد الحمد والثناء والصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم: (وبعد فهذا "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد" ،وجب عليّ تأليفه، وتعين عليّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجداً، ولا يُرى لله راكعاً ولا ساجداً، ولا يعرِف السنة والكتاب، ولا يهاب البعث والحساب، فواجب عليّ أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره) [1].
وقد احتوى الكتاب على خمسة أصول وعدد من الفصول، كلها تدور حول إخلاص العبادة لله تعالى، وبيان ما وصل الناس إليه من جاهلية باعتقادهم في أصحاب القبور، ونقد كثير من الأوضاع المبتدعة المتعلقة بذلك.
وللشيخ كتب أخرى مفردة في هذا الموضوع، منها كتاب بعنوان "الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف" ، ألفه حينما اطلع على جواب لأحد القبوريين، أجاب به علىسؤال ورد إليه، فجاء في ذلك الجواب: (إن للأولياء ما يريدون، وأنهم ممن يقول لأي شيء أرادوه كن فيكون، وأنهم من القبور لقضاء الحوائج يخرجون) [2]، إلى آخر ما ذكره المجيب من نواقض الاعتقاد الصحيح قال: (فتعين إيقاظ أهل الغفلة والمنام، من القاصرين والعوام، ببيان حقيقة الولي وماورد في صفته من الآثار، وبيانه من الكتاب والسنة والأخبار، ثم بيان رد ما أورده المجيب من الهذيان، وأنه جعل الأولياء من جملة الأصنام والأوثان، ووصفهم بأنهم كالإله تقّدسَ وتعالى، وأنهم يقولون للشيء كن فكان، فرأيته يتعين إبانة الصواب، وبيان حقيقة ما افتراه من الأوتاد والأنجاب والأقطاب، وما خالف فيه بهذه البدعة من أدلة السنة والكتاب) [3].
ثم تتبع ذلك المجيب، بأن يورد مقطعاً من كلامه، ثم يتعقبه بالرد وبيان الحق في تلك المسألة، وقد طُبع الكتاب عام (1417 هـ) بتحقيق مجموعة من الطلاب في الجامعة الإسلامية بالمدينة
(1) تطهير الاعتقاد ضمن مجموعة رسائل في علم التوحيد ص (27 - 28) .
(2) الإنصاف للصنعاني ص (2) .
(3) المصدر السابق ص (3) .
النبوية تحت إشراف الشيخ "حسن علي حسين العواجي" المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في نفس الجامعة.
كما أن له كتاباً يتعلق بالقبورية، ولا يظهر علاقته بهم إلا بعد النظر الفاحص فيما يمارسون، ذلكم الكتاب هو المسمى "رسالة شريفة فيما يتعلق بـ (الأعداد للحروف، والأوفاق، وكم بقي من عمر الدنيا، وذكر المهدي المنتظر" ، والذي يخص موضوعنا منها هو ما يتعلق بالحروف والأوفاق، وقد تكلم في المسألة الأولى عن حروف "أبجد، هّوز" ، وأبان أنها ليست في دلالتها على الأعداد من وضع اللغة العربية، ثم انتهى إلى القول بأن جعلها دلالة على الأعداد أمر اصطلاحي، لا حجر فيه، ولا ضير على متعاطيه، ونهي ابن عباس عنه وأنه من السحر، يدل على أنه عرف أنه اصطلاح لليهود، يستعملونه في الأسحار، وهذا يأتي بحقيقته في المسألة الثانية [1].
وفي المسألة الثانية قرر أن علم الأوفاق علم مبتدع وحادث، لايعرف له دليل من كتاب ولا سنة ولا فعل صحابي ولاغيره، وبعد أن فنّده، وحكم بعدم وجود أصل شرعي له، نقل تعريف داود الأنطاكي له، ثم قال: (قلت: وهذا شأن الأسحار والابتداع، لاشأن الطريقة النبوية والاتباع، ومعلوم أنها طريقة سحرية، إذ المطلوب بها أمور دنيوية محضة، من جاهٍ عند العباد، وجلب رزق من أيديهم، وإلقاء المهابة في قلوبهم وغير ذلك) [2].
وإنما قلت: إن هذه الرسالة هي من ضمن مواجهة القبورية؛ لأنه سبق في الباب الثاني أن كثيراً من أولياء القبورية ذكروا أنهم يتعاطون علم الحروف والأوفاق، ويتصرفون بها، ويعدون ما ينتج عن ذلك كرامات لأولئك الأولياء، وهو في الحقيقة من السحر، فناسب جعل هذه الرسالة من جملة الردود عليهم، وقد حقق هذه الرسالة الأخ: مجاهد بن حسن بن فارع الوصابي المطحني، وراجعها شيخنا الشيخ مقبل الوادعي - رحمه الله - وطُبعت من قِبَل دار القدس بصنعاء عام (1412 هـ - 1992 م) .
كما إن هناك رسالة صغيرة هي عبارة عن إجابة على سؤال عن حكم الذبح على القبور بعنوان "مسألة في الذبائح على القبور وغيرها" حققها أخونا "الشيخ عقيل بن محمد المقطري" ،
(1) رسالة شريفة للإمام الصنعاني ص (18) .
(2) المصدر السابق ص (22) .
وراجعها محدث اليمن العلامة "مقبل بن هادي الوادعي" [1] - رحمه الله -، وهي رسالة صغيره جداً، أبان فيها حرمة تلك الذبائح، وفصل فيها، وقد عد الذبح ـ على باب الدار وعلى جدرانها، وكذلك ما سمي عند العامة بـ "الهجر" ونحوه ـ من الذبائح المحرمة، ولكن الذابح لايكون بذلك مرتداً، وأما الذابح للقبور فإنه يكون مشركاً، وذبيحته ذبيحة مشرك: ( ... فإن الذابح لابن علوان مثلًا، لايكون إلا عن اعتقاد أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، ويشفي المرض ويذهب عن الأبدان العليلة الأدواء، وهذا بعينه الذي كان عليه عباد الأوثان وأتباع الشيطان، فإنهم كانوا ينحرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويدعونها، ويخافونها، ويرجونها، ويطوفون بها، وينادونها بمثل "على الله وعليك" ، كما يفعله الآن عباد القبور والقباب والمشاهد التي يجب هدمها) [2].
كما يعد من هذا الباب شرحه على رجوعه عن القصيدة النجدية المسمى "إرشاد ذوي الألباب إلى حقيقة أقوال ابن عبدالوهاب" أو "النشر الندي بحقيقة أقوال ابن عبد الوهاب النجدي" ، ذلك أن الرجل لم يرجع كما سبق عن أصل ما كان في قصيدته الأصلية "النجدية" ، وإنما رجع عن مدح محمد ابن عبدالوهاب وبيان ما بلغه عنه مما لايرتضيه، وهذا كله لايغير من منهج تلك القصيدة، وبالتالي فالشرح يؤكد ما كان في تلك القصيدة من مواجهة للقبورية، ويوضحه، ويقيم الأدلة عليه، كيف لا وهو قد صرح فيها بأن القبوريين قد أصبحوا مشابهين لعباد "ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر" .
ولعل الله أن يهيئ نشر ذلك الشرح؛ ليتضح صحة هذا الكلام؛ وليخسأ من يتشدق أمام العوام وأشباه العوام، بأن الصنعاني رجع عما جاء في قصيدته النجدية مطلقاً، وأنه عاب على ابن عبدالوهاب دعوته إلى التوحيد من أصلها، ومحاربته للشرك والقبورية من أساسها. هذه بعض جهود الإمام الصنعاني - رحمه الله - في مواجهة القبورية.
(1) كتبت هذه السطور بعد وفاة الشيخ بأربعة أيام، حيث وافاه الأجل المحتوم آخر يوم السبت أول يوم من شهر جمادى الأولى عام 1422 هـ تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته وأخلف على المسلمين خيراً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
(2) مسألة في الذبائح على القبور وغيرها ص (44) ، طبع مكتبة دار القدس صنعاء ودار ابن حزم بيروت، الطبعة الأولى ... (1413 هـ - 1992 م) .
العلم الثاني
من أعلام مواجهة القبورية في اليمن الأعلى
الإمام شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني
هو الإمام شيخ الإسلام أحد مشاهير أعلام اليمن ومجددي الدين فيه، وأحد رواد النهضة الحديثة والصحوة المباركة ورموز السلفيين في العصور المتأخرة، محمد بن علي بن محمد الشوكاني ثم الصنعاني، ترجم لنفسه، وسلسل نسبه إلى آدم - عليه السلام - [1]، ولد - رحمه الله - في "هجرة شوكان" وسط نهار يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة سنة (1173 هـ) ، ونشأ بصنعاء في كنف والده الذي يعد من كبار علماء صنعاء في وقته، وقد أقبل على طلب العلم بشكل منقطع النظير، أعانه على ذلك الحال الميسور لأسرته، إذ وفَّر له التفرغ للطلب، وعدم الانشغال عنه بطلب المعاش، كما كان من أسباب نبوغه وترقيه في الطلب، وسرعة البلوغ إلى المطلب والأرب، النفس الأبية، والهمة العلية، وتشجيع الأب، ودفعٌ به إلى الارتقاء وجود مجموعة من أكابر العلماء، من طلاب الإمام ابن الأمير والمتأثرين به، وهكذا واصل مشوار التعليم، ثم صار يعيد الدروس لزملائه وأقرانه، ثم اشتهر بين أساتذته وأشياخه قبل بلوغ العشرين من عمره [2]،وما إن بلغ العشرين حتى أصبح مفتياً ترد إليه الفتاوى من جهات مختلفة من اليمن، وكان يفتي بدون أجر، وذلك أمر مستغرب في زمنه وفي وطنه.
ولقد امتحنه الله تعالى بامتحان عظيم، وهو تولي القضاء، بل قضاء الأقضية أو بالتعبير العصري "رئاسة القضاء" ، فنجح في الامتحان ونجى من الافتتان، وأجمع مترجموه على نزاهته، وحسن سيرته فيه، بل لم يعد رئيساً للقضاة فحسب، وإنما من أقرب المقربين إلى أئمة عصره الذين عايش حكمهم، وهم: الإمام المنصور علي بن المهدي العباس (1189 - 1224 هـ) ،وابنه الإمام المتوكل على الله أحمد (1224 - 1231 هـ) ، وحفيده الإمام المهدي عبدالله (1231 - 1251 هـ) ، ولقد كان لقربه منهم أثر كبير في كثير من الإصلاحات، ومنها حمله على الاستجابة لطلب الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود من الإمام المهدي هدم المشاهد والقباب المقامة على القبور في صنعاء ونواحيها، فصوّب الإمام الشوكاني ومن معه من العلماء ذلك، وحثوا الإمام عليه، فوقع الهدم لتلك المشاهد، كما سيأتي في مطلب الجهود العملية لمواجهة القبورية.
(1) البدر الطالع (1/ 478 - 480) .
(2) انظر ترجمته لنفسه: في البدر الطالع (1/ 214 - 225) .
كما أثر عليه في غير ذلك من جوانب الإصلاح، وهذا جانب مهم من جوانب شخصية الشوكاني، وهو جانب الإصلاح السياسي والاجتماعي، والذي مارسه عملياً ومن موقع القرار بخلاف الإمام ابن الأمير، الذي كان يمارسه من خارج نطاق السلطة.
والجانب الثاني كما بدأه سلفه من علماء اليمن، من تمزيق قيود التقليد الأعمى والعصبية المقيتة، فقد قام في ذلك الجانب بجهود جبارة نظرياً من خلال دعوته إلى ذلك وتأليفه فيه وتأصيله في عدد كبير من كتبه ورسائله، حتى أنّا سنجد أنه جعل مدخله إلى نقد فتوى الإمام يحيى بن حمزة في رسالته "شرح الصدور بتحريم رفع القبور" ، جعل مدخله إلى ذلك التأكيد على الرجوع إلى الكتاب والسنة والتحاكم إليهما [1]، وقد أخذ ذلك حيزاً كبيراً من تلك الرسالة، وهكذا شأنه في كثير من رسائله، إضافة إلى كتابه الخاص في ذلك، المسمى "القول المفيد في أدلة الاجتهادوالتقليد" .
وأما الجانب العملي فهو ما يراه كل مطالع لمصنفاته الفقهية والحديثية، وحواشيه وشروحه، فكلها ينطلق فيها من هذا المنطلق، ولا يبالي بمن خالف، أو وافق فيما يذهب إليه.
والجانب الثالث هو دعوته إلى الاتباع ونهيه عن الابتداع، وجهاده في سبيل إخلاص كلمة التوحيد، وحربه لعقائد الشرك والتنديد، وسيأتي في آخر هذا المطلب دراسة بعض آثاره في ذلك.
غير أني أود قبل الخروج من هذا الجانب أن أرد على قوم ظفروا بقصيدة للإمام الشوكاني في ديوانه، فهموا منها أنه يعادي الإمام محمد بن عبدالوهاب، ويرد عليه وعلى علماء نجد وأمرائها، فطاروا بذلك فرحاً، وانتسخوها، وصاروا يوزعونها على أتباعهم، والواقع أن القارئ لايجد فيها ما يفرح به أولئك، غير أنهم قد اتخذوا سياسة التأثير النفسي على الأتباع، فإنهم عندما يوزعونها هم، وربما جعلوا لها مقدمة تبين أن هذه القصيدة رد فيها الشوكاني على الوهابية، ونقض ما يدعون إليه من محاربة الأولياء والمعتقدين فيهم ... الخ، فإن التابع المسكين سيتأثر بتلك المقدمة المكتوبة أو الشفوية، ويعتبر أن القصيدة من هذا الباب دون تأمل لما فيها، مما هو في الحقيقة رد عليهم وتأكيد على منهج الشوكاني الذي كرس له حياته، ولم يحد في هذه القصيدة عنه، إذ عرف عنه تجويز التوسل بالصالحين، وقرره في أكثر من كتاب من كتبه، مع اعتباره دعاء غير الله شرك
(1) انظر: مقدمة شرح الصدور من مجموعة رسائل في علم التوحيد ص (65 - 69) .
أكبر، وقد رد على ابن الأمير حين قال إنه من الشرك العملي، وذلك في الدر النضيد [1]، وكل ما في الأمر أن الإمام الشوكاني حذر من التسرع في تكفير الأمة بما دون الشرك من البدع، كالبناء على القبور، وجعل التوابيت عليها، أو التوسل الذي يراه هو مباحاً، أما مَن دعاهم من دون الله، واعتقد فيهم مالا يجوز اعتقاده إلا في الله، فقد اعتبره من الشرك المخرج من الملة، قال - رحمه الله في تلك القصيدة:
ومن يأتي إلى عبد حقيٍر ... فيزعم أنه الرب الودودُ
فهذا الكفر ليس به خفاءٌ ... ولا ردلذاك ولا جحودُ
ولست بمنكر هدماً لقبرٍ ... إذا لعبت بجانبه القرودُ
وقالوا: إن ربَّ القبر يقضي ... لنا حاجاً فتأتيه الوفود
كذبتم ذاك ربُّ العرش حتقاً ... تعالى أن تكون له ندودُ
ومن يقصد إلى قبر لأمرٍ ... توسل فهو الكنودُ [2] بغير
وهذا الكلام واضح في مراد الإمام - رحمه الله-، ومنسجم مع منهجه، ولئن كان فيه شيء من التعميم والإطلاق فيجب إرجاعه إلى كلامه البين الواضح، وأما قوله قبل هذه الأبيات:
فإن قلتم قد اعتقدوا قبوراً فليس لذا بأرضينا وجودُ
فيجب أن يقارن بينه وبين ما في سائر كتبه، ومنه ماجاء في "الدر النضيد" ،حيث قال: (وإذا علمت هذا، فاعلم أن الرزية كل الرزية، والبلية كل البلية، أمرٌ غير ما ذكرناه من التوسل المجرد، والتشفع بمن له الشفاعة، وذلك ماصار يعتقده كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء، من أنهم يقدرون على مالا يقدر عليه إلا الله - جل جلاله -، ويفعلون مالا يفعله إلا الله - عز وجل -، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، وهذا إذالم يكن شركاً فلا ندري ماهو الشرك؟ !، وإذا لم يكن كفراً فليس في الدنيا كفر.) [3].
(1) انظر الدر النضيد ص (102 - 116) .
(2) الديوان ص (163) ، قال المعلق على كلمة (كنود) : الكنود الكفور. قلت: وكذلك هو في القاموس ص (403) .
(3) الدر النضيد ص (28) .
فإن قيل: هذا عام، ولايدل على أن هذا موجود في اليمن، قلت: يؤكد دلالته على ذلك ماجاء في نفس الكتاب بعد أن أسرد الأدلة على تحريم أنواع من الشرك ووسائله، حيث قال وهو يؤكد ما ينتج عن تعظيم القبور وتفخيمها من عقائد باطلة: (وروى لنا أن بعض أهل جهات القبلة، وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب "ذي بين" -رحمه الله -، فرآها وهي مسرجة بالشمع، والبخور ينفح من جوانبها وعلى القبر الستور الفائقة، فقال عند وصوله إلىلباب: أمسيت بالخير، يا أرحم الراحمين) [1].
إذاً كيف نؤول قوله: (فليس لذا بأرضينا وجودُ) ، قلت: يُؤوَّل - والله أعلم - أن هذه القصيدة هي في إطار المراسلات الرسمية بين إمام اليمن، ومعه الشوكاني، وبين أئمة نجد، الذين كانت العلاقات بينها يسودها الود حيناً والنفور حينا، وخوف إمام اليمن من زحف الجيوش النجدية على بلاده حيناً، فجاءت هذه لقصيدة، لتهدئة الأوضاع وإقناع النجديين بأنه ليس في اليمن مايستوجب محاربتهم له وزحفهم عليه، فجاز مثل هذا التعبير المخالف للواقع لأجل دفع فتنة الاقتتال بين الطرفين والله أعلم.
وبعد معرفة هذه الجوانب المهمة أقول: إن الإمام الشوكاني خلّف لليمن ثروتين عظيمتين:
أما الأولى: فهم طلابه وأصحابه الذين ساروا عل نهجه، وتعلموا منه المنهج السلفي النقي، وحملوه إلى أن وصلنا اليوم كما وضعه، وهم كُثر، وقد أورد منهم الأستاذ عبدالغني قاسم عدد اثنين وتسعين رجلاً [2]، منهم من هو عالم، ومنهم من أصبح إماماً مجتهداً، أو قاضياً عادلا، ً أو والياً كبيراً، وهؤلاء الطلاب هم أساس المدرسة السلفية القائمة في اليمن اليوم، والتي يعد رأسها اليوم القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني عضو مجلس الإفتاء حالياً.
والثروة الثانية: هي كتبه ومصنفاته، التي اتفق على الثناء عليها في الجملة الموافق والمخالف، وصارت مراجعاً للكثير من المؤسسات العلمية في شتى بقاع العالم الإسلامي، وتنافس لاقتنائها العلماء وطلاب العلم في كل مكان، وهي كثيرة جداً، حصر الباحث عبد الغني قاسم منها
(1) الدر النضيدص (48) .
(2) الشوكاني حياته وفكره ص (238 - 266) للدكتور عبد الغني قاسم غالب الشرجبي، طبع مؤسسة الرسالة، بيروت، ومكتبة الجيل الجديد صنعاء، ط الأولى 1408 هـ -1988 م، وقد قال عقب أن سردهم: (وقد اكتفى الباحث بهذا القدر من تلاميذ الشوكاني، وعددهم اثنان وتسعون تلميذاً "وإلا فهم مئات بل ألوف" ،وتلاميذ الشوكاني أكثر من أن يحصوا) .
(278) مائتين وثمانية وسبعين مؤلفاً، وأفاد أن المجال مازال مفتوحاً؛ لاكتشاف غيرها في مظانٍ حددها، هي: (المكتبات المنزلية للأسر اليمنية التي توارثت ملكية مخطوطات علماء اليمن، أو في مكتبات كل من الهند "حيث يوجد تلاميذه" وتركيا "إسطنبول" ، وإيطاليا وبريطانيا، وسائر متاحف ومكتبات أوروبا الغربية والشرقية، حيث تسربت إلى خارج اليمن.
مترجمو الشوكاني:
كما لايحصى عدد تلاميذه بالدقة، ولاتعرف مؤلفاته بالتحديد من كثرتها، كذلك لايحصى عدد من ترجم للشوكاني، وأشاد بعلمه، وأظهر جوانب من شخصيته، وحتى لا أطيل على القارئ، فلن أشغل نفسي بمن أفرده بالترجمة من الأقدمين، ولا من ترجم له في كتب التراجم والتواريخ العامة؛ وإنما أذكر بعض الباحثين الذين درسوا نواحي من حياة الشوكاني وعلمه وفكره، وقدموا في ذلك رسائل علمية؛ للحصول على درجات علمية من قبيل الدكتوراه والماجستير.
فمنهم دون التزام بترتيب معين:
1) د. محمد بن حسن الغماري، له رسالة دكتوراه بعنوان: "الإمام الشوكاني مفسراً" .
2) د. عبدالغني قاسم الشرجبي، له رسالة دكتوراه بعنوان: "الإمام الشوكاني حياته وفكره" .
3) د. عبدالله نومسوك، له رسالة بعنوان: "منهج الإمام الشوكاني في العقيدة" .
4) د. صالح بن عبدالله الظبياني، له رسالة دكتوراه بعنوان: "اختيارات الإمام الشوكاني الفقهية من خلال كتابيه نيل الأوطار والسيل الجرار" .
5) د. زياد علي "من ليبيا" له رسالة دكتوراه بعنوان: "الفكر السياسي والقانوني عند محمد ابن علي الشوكاني" .
6) د. عادل ياؤوز "من تركيا" ، له رسالة دكتوراه بعنوان: "الإمام الشوكاني محدثاً" .
7) د. سمير حسين، له رسالة دكتوراه بعنوان: "الشوكاني ومنهجه في الفقه الإسلامي من خلال كتابه السيل الجرار" .
8) صالح محمد صغير مقبل، له رسالة ماجستير بعنوان: "محمد بن علي الشوكاني وجهوده التربوية"
9) خالد بن إبراهيم بن عبدالله الديبان، له رسالة ماجستير بعنوان: "قضايا العقيدة عند الإمام الشوكاني" .
10) عبدالله فارع عبده العزعزي، له رسالة ماجستير بعنوان: "الشوكاني مؤرخاً، دراسة في منهجه التاريخي في كتابه (البدر الطالع لمحاسن ما بعد القرن السابع) " .
11) سالم بن محمد باكوبن، له رسالة دكتوراه تحت الإعداد بعنوان: "الإمام الشوكاني وجهوده في الدعوة" .
12) برنارد هيكل اللبناني، له رسالة باللغة الإنجليزية بعنوان: "الشوكاني والوحدة الفقهية في اليمن" .
قال القاضي إسماعيل الأكوع: (وتوجد رسائل دكتوراه وماجستير أخرىلم أذكرها؛ لأنهالم تنشر بعد) [1].
وهناك مئات المقالات الصحفية والأبحاث العلمية المتفرقة في الصحف والدوريات وغيرها، كل ذلك يدل على عظمة هذا الرجل واهتمام العلماء به. وقد توفي رحمه الله سنة (1250 هـ) .
جهودالشوكاني في مواجهة القبورية:
وأما عن جهوده في مواجهة القبورية فهي كثيرة مشكورة، وقد ترك عدة آثار في ذلك:
الأثر الأول "شرح الصدور في تحريم رفع القبور" وهو رد على الإمام يحيى بن حمزة الذي قال كما نقل عنه صاحب البحر الزخار: (لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك لاستعمال المسلمين، ولم ينكر) [2]، فرد عليه، ومهد لذلك بالتذكير بالعودة إلى الكتاب والسنة والالتزام بما جاء فيهما، وماجناه التقليد على أهله وعلى الناس من كوارث، ثم جعل هذه المسألة كالمثال على تلك القاعدة، وقد نوَّه الشيخ العلامة محمد حامد الفقِّي بالشوكاني وكتابه في مقدمته لشرح الصدور فقال: (وله "الشوكاني" من الرسائل في مفردات المسائل كثير جداً، فمنها رسالته هذه "شرح الصدور بتحريم رفع القبور" وهي رسالة تنادي بأنه من الشجاعة وقوة اليقين، بحيث وقف هذا الموقف الفذ في وجه جموع أهل اليمن وغيرهم، يرد على الإمام يحيى خطأه - وناهيك بمنزلة الإمام يحيى من نفوس الزيديين - هذا الرد المفحم، وينادي عليه في صراحة المؤمن الذي لايخشى في الله لومة لائم: أخطأت في تجويز رفع القباب والمشاهد على قبور الصالحين والملوك،
(1) أئمة العلم المجتهدون في اليمن، للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع، مصفوف بالكمبيوتر (تحت الطبع) .
(2) شرح الصدور من مجموعة رسائل في التوحيد ص (70) .
ويالها من شجاعة لله وفي الله! ولو أن العلماء كانوا بهذه الشجاعة في قولة الحق، وكانوا بالصدق والإخلاص في النصيحة كذلك، لكان شأن المسلمين اليوم غير ماهم عليه من الذلة والهوان.
والله يجزي الإمام الشوكاني وإخوانه الصادقين خير الجزاء، ويوفقنا لمثل ما وفقهم، ويحشرنا يوم القيامة مع إمامنا وإمامهم وإمام المهتدين عبد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -) [1].
وقد اعتنى العلماء بهذه الرسالة وطبعت طبعات عديدة.
الأثر الثاني كتاب "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" ، وهو أيضاً جواب على سؤال ورد إليه عن ذلك الموضوع، وقد صدّر الجواب بتوضيح بعض المصطلحات التي يؤدي الخلط فيها إلى الغلط، وهي: الاستغاثة، والاستعانة، والتشفع، والتوسل، وقد شرح معانيها، وأبان الفروق بينها، وقد رجح جواز التوسل بالصالحين على اعتبار أن ذلك توسل بأعمالهم الفاضلة، واحتج لذلك، ورد على من منع منه، ومسألة التوسل من المسائل التي جرى فيها الخلاف قديماً وحديثاً، والصحيح والله أعلم أنها من البدع المحدثة التي لم يثبت لها دليل عنه - صلى الله عليه وسلم -،ولا عن أصحابه بالمعنى الذي يريده مجوزو ذلك التوسل، هذا في أصل المسألة، وأما ماهو حاصل اليوم عند جماهير المسلمين من عوام وأشباههم وصوفية وغيرهم من المنحرفين، فإن التوسل يستعمل، ويراد به الاستغاثة المجمع على المنع منها واعتبارها شركاً فلينتبه لذلك.
ثم أنه بعد مافرغ من تقرير موضوع التوسل، قرر بقوة وحزم أن دعاء غير الله شرك، وأنه تعبير عما تنطوي عليه نفوس من يدعون غير الله من الاعتقاد فيهم ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله تعالى، وقد سبق نص كلامه كاملاً قبل قليل [2]، وقد نوّع الكلام، واستطرد استطرادات حسنة، وبيَّن كثيراً مما يقع فيه الناس من نواقض التوحيد، ومما هو وسائل إلى ذلك، ونبه على حرمة الحلف بغير الله والطيرة، وفرّق بين الشرك والكفر الأصغر والأكبر إلى غير ذلك من الفوائد الجليلة.
الأثر الثالث "رسالة في وجوب توحيد الله عزوجل" وهي مأخوذة من كتابه الكبير المسمى "العذب المنير في جواب عالم بلاد عسير" ، وقد كان السؤال متعلقاً بالتوحيد، وكون الدعاء عبادة، وهل يعذر الجاهل في ذلك ... إلخ.
(1) المصدر السابق ص (63 - 64) .
(2) انظر: الصفحة السابقة من رسالتنا رقم ( ... )
فأجاب شيخ الإسلام جواباً شافياً مقنعاً مليئاً بالأدلة من الكتاب والسنة مستشهداً بأقوال أهل العلم، وبين منزلة الدعاء من الدين، وحكم صرفه لغير الله، وحقيقة شرك المشركين الأولين، وهو اتخاذهم لأصنامهم شفعاء عند الله، وأن من هذه الأمة من يتخذ أصحاب القبور شفعاء، وهو بذلك مساوٍ لمشركي الجاهلية، ومنهم من يدعوهم من دون الله، وهؤلاء أغلظ شركاً من مشركي الجاهلية، ثم تعرّض لتقسيم الكفر إلى كفر أكبر وكفر أصغر، وإلى خفاء الشرك وكثير من أنواعه على كثير من المسلمين حتى وقع فيه بعض من ينسب إلى الأدب والعلم، ثم بيّن خطورة اتخاذ المشاهد والقباب على القبور المبالغ في تعظيمها وتزيينها، ثم بين الحكمة من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متخذي القبور مساجد.
ثم أنكر إدخال قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وما بني عليه بعد ذلك، وكيف كان اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بإزالة القبور المشرفة بحيث بعث أميراً من أهله هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -؛ لطمس التماثيل، وتسوية القبور.
هذا مجمل ما احتوت عليه الرسالة، وهي قيِّمة في بابها، فرحمه الله وغفر له وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وهذه الرسالة قد قام بتحقيقها ونشرها د. محمد بن ربيع بن هادي المدخلي الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد طبعت للمرة الثانية عام (1419 هـ) .
تلك ثلاثة نماذج من جهود شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله -، الخاصة في مواجهة القبورية، وهناك جهود أخرى كثيرة موزعة أثناء تراثه العظيم الذي خلّفه؛ ليستضيء به العلماء، ويتربى عليه الطلاب، ويرجع إليه المختلفون في كثير من القضايا، فهو لم يغفل مواجهة القبورية في تفسيره ولا أغفلها في شروحه للأحاديث وكتب الفقه، وما سهى عنها في فتاواه وردروده على الأسئلة عند أدنى مناسبة، فقد عاش هذه القضية بكل حواسه، وتفاعل معها بكل عواطفه، لذلك قال د. إبراهيم هلال، وهو يتكلم عن دعوة شيخ الإسلام الشوكاني إلى إخلاص شهادة لاإله إلا الله: (وقد أخذت هذه الدعوة منه حيزاً كبيراً، بحيث صار فيها في اليمن إماماً كابن عبدالوهاب في الحجاز من قبل، وابن تيمية في مصر والشام، ولاقى من جرائها الكثير من
المتعصبين ومن المقلدين ورُمي بالنصب من أجلها، ومن أجل دعوته إلى الاجتهاد والرجوع بالتشريع، إلى طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين) [1].
المؤلفات المفردة في مواجهة القبورية لعلماء اليمن الأعلى سوى ما تقدم:
ولعلماء اليمن الأعلى الآخرين جهود مشكورة مباركة في هذا المجال، وقد ألف الكثير منهم في الرد على القبورية رسائل مفردة، فمنهم:
1) محمد بن محمد السماوي، المتوفى سنة (1410 هـ) ، مترجم في هِجَر العلم (3/ 1407) ، له رسالة بعنوان: "التوصل إلى تحريم التوسل" [2]، في الرد على القائلين بجواز التوسل.
2) يحيى بن محمد شاكر، المتوفى سنة (1370 هـ) ، مترجم في هجر العلم (4/ 2088) ، له رسالة بعنوان: "دفع المشكك في وقوع شطر هذه الأمة في الشرك" [3]، في الرد على من يقول بامتناع وقوع أحد من هذه الأمة في الشرك، كما له رسالة أخرى بعنوان: "السيف القاطع لأماني أهل الشرك والمطامع" [4]، وجهها إلى الإمام يحيى حميد الدين، انتقد فيها عدداً من المنكرات، ومن أهمها المشاهد التي على القبور، وأوصاه فيها بهدمها وإزالتها وكذلك إزالة البدع والمنكرات والرجوع إلى الكتاب والسنة، وإفساح المجال للعلماء من أهل السنة؛ لتعليمها والعمل بها.
هؤلاء بعض من اطلعت على تآليفهم في هذا الباب، ولاشك أنه يوجد سواهم، وعدم اطلاعي لا يعني عدم وجود شيء من ذلك.
المطلب الثاني: جهود علماء اليمن الأسفل (من إب إلى عدن) في مواجهة القبورية:
العلم الأول
القاضي العلامة عقيل بن يحيى الإرياني
القاضي العلامة النابغة عقيل بن يحيى بن محمد بن عبدالله الإرياني، وصفه القاضي إسماعيل بن علي الأكوع بقوله: (عالم أديب كاتب شاعر له مشاركة قوية في الفقه وعلوم العربية، سلك مسلك أهل السنة في اتباع أدلة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونعى على المقلدين والمعتقدين بالأولياء
(1) قطر الولي على حديث الولي ص (37) تحقيق وتقديم إبراهيم هلال طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(2) هجر العلم (3/ 1407) .
(3) السابق (4/ 2093) .
(4) السابق (4/ 2093) .
جمودهم، وندد بمن يعتقد فيهم الخير، وأنهم يشفعون لمن يلتمس الخير عندهم، أو عن طريقهم، فاتهمه بعض الغلاة بأنه ينزع إلى عقيدة الوهابية فقال:
إن أنا نزّهت إلهي عن الأ نْداد قالوا أنت وهابي
لكن لي بالمصطفى أسوة فقومه سمَّوه بالصابي [1]
وقد ترجم له ابن أخيه الأديب مطهر بن علي الإرياني ترجمة مطولة في التقديم لرسالته موضوع البحث، عندما نشرها أخوه القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني، ضمن مجموعة رسائل في علم التوحيد، وذكر ذكاءه ونبوغه، وعدد العلوم التي أتقنها رغم عمره القصير والمجالات التي شارك فيها، وأبرز السمات التي كان متميزاً بها: (إخلاص التوحيد كله لله، وتشدده في ذلك إلى حد عدم السكوت حيث سكت الآخرون عن بعض ممارسات العامة واعتقاداتهم الباطلة بالأولياء وزيارة أضرحتهم والتقرب إليهم والهتاف بأسمائهم عائذين بهم عند حدوث أي حادثة كزلة قدم طفل أو وقوع دابة من أنعامهم أو نحو ذلك مما نظر إليه على أنه إشراك صريح لله في وحدانيته، وبحكم تمسكه الشديد بمبدأ "إخلاص التوحيد كله لله" ، لم ينظر إلى هذه المسألة على أنها شبهة إشراك أو جهالات مضلة مما يقع في الكثير من العامة، بل نظر إليها على أنها الشرك بعينه كما نرى في كتابه هذا) [2].
ولم يعمّر طويلاً، بل اخترمته المنية في ريعان شبابه - رحمه الله تعالى -، فقد كان مولده سنة (1324 هـ) ، ووفاته سنة (1346 هـ) ، فكان عمره أقل من اثنين وعشرين عاماً رحمه الله رحمة واسعة) [3]،وأثره الوحيد هو كتاب "السيف الباتر لأعناق عباد المقابر" ، وقد اشتمل الكتاب على ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في أمور يجب التنبيه عليها، واشتمل على ستة تنبيهات: التنبيه الأول على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لتتبعن سنن من كان قبلكم )) ، ثم أورد تسع خصال وقع فيها التشبه بالمشركين في هذه الأمة، التنبيه الثاني في أن من مكائد الغلاة التشنيع على أهل الحق، التنبيه الثالث في أن من مكائد الغلاة إفهامهم العوام بأن ما يحصل عند قبور الصالحين من محبتهم، ومن أنكر ذلك فهو من مبغضيهم، التنبيه الرابع في أن كثيراً من يظهر عقيدة الغلاة، وينتصر لهم،
(1) هجر العلم (1/ 87) .
(2) مجموعة رسائل في علم التوحيد ص (127)
(3) المصدر السابق (124) .
ويصوب أقوالهم المخالفة لما جاءت به الرسل هم زنادقة، لايعترفون أن للعالم إلهاً ولا صانعاً ... الخ، التنبيه الخامس أن من مكائد الغلاة التي كادوا بها العوام قولهم لهم: إن مَن خالف ما نحن عليه من عبادة القبور، نزلت به المصائب، التنبيه السادس في أن الغلاة يدّعون رؤيتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عياناً بجسده يقظة.
وأما الباب الثاني: فهو في الاستغاثة وما يتعلق بها، بيّن حال القبوريين في هذا الموضوع، ثم استشهد على أن ذلك شركاً بالآيات الكريمة، وقارنهم بمشركي العرب، وبيّن أن المشركين السابقين لم يعتقدوا أن أصنامهم تخلق أو ترزق، وإنما اتخذوها شفعاء عند الله كشأن هؤلاء المعتقدين للقبور وأصحابها، ثم أورد بعض الآيات الآمرة بالالتجاء إلى الله - سبحانه وتعالى -، وقد تكلم على البسملة والفاتحة، وبيّن ما فيها من الوجوه الدالة على وجوب توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، ثم عزز بذكر آيات أخرى، مما يبين ذلك المقصود، ثم نقل نقلاً طويلاً من إغاثة اللهفان لابن القيم - رحمه الله -، ثم نقلاً عن العلامة "محمد رشيد رضا" من تفسيره "تفسير المنار" ، ثم عقد فصلاً للتفريق بين الاستغاثة والتوسل، ثم تحدث عن التوسل، وقرر أنه إن كان التوسل عقيدة في المتوسَّل به فهو من النوع الأول، وإن لم يكن له فيه عقيدة وإنما أراد ذكره عند دعاء الله - عز وجل -، متبركاً بذلك الاسم فقط، فقد اعتبر هذا القسم "بدعة من أعظم البدع وأشنعها" ، ثم عقد فصلاً آخر، أكد ما مر الكلام فيه في شأن الدعاء والذبح ونحوه. وبعده فصلٌ آخر يتضمن ما قاله الخصم من إثبات للأقطاب وبطلان ذلك بالدليل الواضح، وبعد ماعرّف القطب على مصطلح الصوفية قال: (أما إثبات الأقطاب هذه الصفة فمروقٌ من الدين وعدول عن سبيل الموحدين وخروج عن الصراط المستقيم) [1]، ثم أورد الأدلة على بطلان قول الصوفية، ثم عقد فصلاً، قال في فاتحته: (ويلحق بذلك من شنيع مقالات أهل القبور في هذا الوقت قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لايخلو منه زمان أو مكان) [2]،ثم أبطل ذلك، ثم كر على "عباد القبور" حسب تعبيره واعتقادهم الفضل والولاية بمن قد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وعدد أولئك الأقطاب في زعمهم من أمثال ابن عربي وابن الفارض وعبد الكريم الجيلي، ثم أورد أمثلة من كلامهم، ورد العلماء عليه وبيان حكم هؤلاء عندهم.
(1) السيف الباتر لأعناق عباد المقابر ضمن مجموعة رسائل في علم التوحيد (219) .
(2) السيف الباتر ص (231) .
وأما الباب الثالث: فقد عقده "في حكم زيارة القبور والسفر إليها" ، ذكر الأحاديث الناهية عن شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة، وما أخذه العلماء منها من منع السفر إلى مشاهد الصالحين، ثم عقد فصلاً نقل تحته كلاماً لابن القيم - رحمه الله - من "إغاثة اللهفان" يوضح فيه مكائد الشيطان التي كاد بها الناس حتى عبدوا القبور.
وأما الخاتمة فقد خصصها لشبه الخصم، والرد عليها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وجعل في آخره قصيدة تزيد على أربعين بيتاً في نفس الموضوع، لابأس من إيرادها هنا:
قل الحق واصدع بالذي فيه تؤمر ... ولا تخشَ غير الله والله أكبرُ
وبالعرف فأمر والتزم نهي منكر ... لتنج غداً من حر نار تسعر
ولله فاخلص بالعبادة وحده ... فليس سواه للأنام يدبر
سميعٌ عليم شاهد غير غائب ... لطيف خبير رازق متكبر
سماعاً عبادالله مني نصيحة ... هي الحق فاصغوا وانصتوا وتدبروا
نصحتكم أبغي الفلاح لكم غداً ... وحق الذي يولي النصيحة يُشكر
ألا نزهوا أوطانكم ونفوسكم ... عن الشرك والأوثان كي تتطهروا
فهذي قبور الأوليا بينكم لها ... يحُج ويستسقى لديها وينحر
وها هي كالأصنام بين ظهوركم ... إليها لدى وقع الشدائد يجأر
جعلتم برب العالمين مشاركاً ... فيا ويح مَن مِن بعدِ الايمان يكفر
أتدعون ميْتاً زاعمين بأنه ... يجيب الذي يدعو ويُغني ويفقر
ومن بعد قلتم إنهم شفعاؤكم ... إلى الله فهو الخالق المتجبر
و أقسم بالرحمن جل بأنه ... نظير مقال الجاهلية فاحذروا
كما قلتمُ قالوا فسيقت إليهم ... خيول متينات الأعنة ضمّر
دعاؤكم مخ العبادة فاعلموا ... كما قال طه الصفوة المتخير
وكم منكم يدعو "ابن علوان" قائلاً ... دعوتك مضطراً فجاهك أكبر
أيا حابس الحنشان والفيل بل ويا ... مقيِّد كل الجان أنت المسخِّر
دعوتك أرجو أن تلبي دعوتي ... وأيقنت أن النجح لا يتعسر
فأنت الذي في كل وقت تجيبنا ... إذا ما إجابات الإله تؤخر
فهذا هو الشرك الصريح الذي له ... تكاد السماوات العلى تتفطر [1]
العَلَم الثاني
من أهل هذه المنطقة
العلاّمة الكبير الشيخ أحمد بن محمد بن عوض العبَّادي - رحمه الله-
العلامة الشيخ أحمد بن محمد بن عوض العبّادي - رحمه الله -،ولد بقرية من قرى إب، نشأ بها ثم سافر أسفاراً عديدة وطويلة، وصل خلالها إلى كابول، وأخذ بها عن الحافظ محمد تقي الدين الأفغاني في القرآن الكريم وفقه الشافعية وغيرهما من العلوم، ثم ارتحل إلى الهند، وطلب بها العلم ثمانية عشر شهراً تقريباً، ثم سافر إلى عمان، وتزوج من "صور" ، وأقام بها اثنتي عشرة سنة، وحج من هناك مرتين، ثم رجع إلى بلاده ومنها إلى لحج، ثم عدن حيث استقر في الشيخ عثمان إماماً لمسجده الذي عُرف باسمه ويسمى كذلك مسجد "زكُّوا" [2].
وقد عرف في عدن بدعوته إلى الكتاب والسنة وتجريد التوحيد لله تعالى والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكانت بينه وبين علماء عدن من الصوفية القبورية مصادمات وخصام بسبب ذلك، ولعله من أوئل الدعاة المعاصرين السلفيين في الشطر الجنوبي من اليمن سابقاً.
غير أني لم أجد له ترجمة ماعدا النبذة اليسيرة التي قدّم بها العلامة البيحاني لمنظومته: "هداية المريد" [3] ولئن تجاهله المترجمون فلن يتجاهله رب العالمين - سبحانه -، أسأل الله أن يكتبه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً.
(2)
(3) أثره في مواجهة القبورية:
(4) الأثر الوحيد المكتوب للعبّادي هو منظومته "هداية المريد إلى سبيل الحق والتوحيد" ، وهي منظومة متوسطة كلها في العقيدة والدعوة إلى التوحيد والاتباع، والتحذير
(1) المصدر السابق ص (275 - 276) .
(2) انظر: مقدمة هداية المريد إلى سبيل الحق والتوحيد لتلميذه العلامة محمد بن سالم البيحاني ص (3 - 5) .
(3) المصدر السابق.
من الشرك والابتداع، والرد على المخرفين والدجاجلة، كما وصفهم الشيخ البيحاني [1] - رحمه الله - في التعليق عليها.
(5) وقد افتتحها بمقدمة أبان فيها منهجه وغرضه منها، فهي في اعتقاد السلف ونصيحة لإخوانه في الله، يحذرهم فيها من البدع والمحدثات [2]، ثم عرّف العلم، وحث عليه لا سيما علم التوحيد، فهو المقدم على كل العلوم، ثم معرفة حقيقة الإيمان بما يجب الإيمان به، ثم معرفة الفروع، وحذر من الجهل بالتوحيد ثم الجهل عموماً [3]، ثم ابتدأ في شرح العقيدة عموماً، وبدأ بتوحيد الأسماء والصفات، ثم انتقل إلى شروط التوحيد، ثم حذر من الاعتقادات الباطلة، وركز على قول من قال: "لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه" ، وحذره من هذا القول، وبيّن أن الأصنام إنما عبدت بهذا الاعتقاد، ثم استمر في شرح مراده حتى وصل إلى نقطة مهمة في مسيره، هي التحذير من الشرك، وبين قبحه وسوء عقابه في الدنيا والآخرة، وعدد هنا بعض المكفرات، ثم وقف مع بعض ما يفعله القبورية عند القبور من أنواع العبادات كالاستغاثة وحلق الرأس، والطواف والاعتكاف عند القبور [4]، ثم حذر من تكفير المسلم بغير بينة [5].
ثم انتقل إلى الدعوة إلى السنة والتحذير من البدعة، وأطال في هذا الفصل، وتعرض لرد بعض الشبهات التي يوردها المبتدعة؛ لإثبات بدعهم، مثل جمع الناس على صلاة التراويح في زمن عمر
(1) هداية المريد ص (5) .
(2) المصدر السابق ص (6 - 7)
(3) المصدر السابق ص (7 - 8) .
(4) المصدر السابق ص (23 - 25) ..
(5) المصدر السابق ص (23 - 25) .
والأذان الثالث للجمعة في زمن عثمان، وأبان أن ذلك قد أقره الصحابة؛ وبذلك يصير سنة بإجماعهم، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلاها جماعة في حياته فلا حجة للمبتدعة [1]، ثم تعرض للحقيقة والشريعة، وأبان أن الحقيقة هي ماجاء بها الكتاب والسنة، لا ماجاء بها الصوفية المبتدعة، ثم انثنى عليهم في السماع الصوفي المبتدع والأوراد والأذكار البدعية، وفنّد ذلك، وسخِر منهم في رقصهم ووجْدهم؛ لأنهم إنما يفعلون ذلك عندما يذكر التشبيب والتغزل وتشبيه المرأة بغصن البان، ثم يزعمون أن ذلك من محبة الله، ثم أرشد إلى الذكر المشروع الذي جاء به كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - [2]، ثم نهى عن الغلو المذموم [3]، وبعده حذر من التكييف والتشبيه في صفات الله تعالى، ثم تعرض لحكم البناء على القبور، وحذر من ذلك، وبين زيارة القبور الشرعية، وحث عليها والزيارة البدعية، وحذر منها، وما يترتب عليها من الغلو في أرباب القبور وما يحدث في تلك الزيارات من مفاسد عقدية وأخلاقية، وخلص إلى مشايخ الطرق وما يكيدون به الناس من الحيل والمكايد، لأجل ابتزازهم وأخذ ما في أيديهم والضحك على عقولهم [4]، وانتهى بيان التصوف المحمود، ويعني به الزهد والورع وتخليص القلب من أمراضه، والذي يكون مبنياً على العلم النافع جالباً للعمل الصالح، وعدّد الأعمال الصالحات والآداب الحسنة التي يتحلى بها سالك هذا السبيل، وما ينبغي له من مداومة ذكر الله تعالى على الصفة الشرعية لا البدعية. [5]
(1) المصدر السابق ص (26 - 31) .
(2) هداية المريد ص (32 - 36) .
(3) المصدر السابق ص (40 - 44) .
(4) المصدر السابق ص (47 - 56) .
(5) المصدر السابق ص (56) إلى آخر المنظومة.
هذه هي منظومة العلامة العبّادي، وقد علق عليها العلامة البيحاني - رحمه الله - تعليقات مهمة نافعة، وقد طبعت مرتين، الطبعة الأولى لم أطلع على تاريخها، ثم طبعت مرة أخرى عام (1389 هـ) مع نفس التعليقات التي وضعت على الطبعة الأولى.
العَلم الثالث
من أعلام هذه المنطقة
الإمام العلامة محمد بن سالم بن حسين الكدادي المشهور "بالبيحاني"
هو الداعية السني الكبير محمد بن سالم بن حسين الكدادي البيحاني، مؤسس المعهد الإسلامي بعدن، ولد - رحمه الله - "ببيحان" سنة (1326 هـ) ، وعند بلوغه الرابعة عشر من عمره أرسله والده إلى تريم بحضرموت؛ ليتعلم هناك في رباطها المشهور الذي يقوم عليه السيد عبدالله بن عمر الشاطري، فمكث أربع سنوات، ثم عاد الى بيحان، فمكث فيها سنتين، ثم توجه إلى عدن سنة (1346 هـ) ، فلازم الشيخ أحمد بن محمد بن عوض العبّادي، وتزوج ابنته، ثم رحل إلى مصر، للالتحاق بالأزهر، فدرس في بعض معاهده، ثم في كلية الشريعة فيه، غير أنه ما لبث إلا سنة دراسية واحدة، اضطر بعدها إلى العودة إلى عدن حيث استقر في مدينة كريتر، وأسس فيها مسجد العسقلاني، الذي عُرف بالشيخ، وعرف الشيخ به، ومكث هناك يدعو إلى الله، ويقيم الدروس العلمية والوعظية، وينشر السنة المطهرة ويحارب البدع والخرافات والشركيات، كما كان على وعي سياسي جيد، فكان ينبه قومه إلى خطورة الاستعمار والانسياق وراء ثقافته ومبادئه الكافرة، ويدعو للتخلص منه.
ومن أبرز مآثره المعهد الإسلامي الذي أسسه هناك على نفقة جمع من المحسنين، والذي أُمم في أيام الإشتراكيين، وأصبح مقراً لوزارة الداخلية، كما أنه كان نشيطاً في التأليف، فألّف أكثر من اثنين وعشرين كتاباً من أشهرها كتاب "إصلاح المجتمع" الذي لقي قبولاً واسعاً، وانتشر في أقطار المسلمين عموماً، وتعددت طبعاته.
وقد أصبح الشيخ علماً بارزاً لا في محيط اليمن وحدها، ولكن على مستوى العالم العربي والإسلامي، وكانت شهرة الشيخ بدعوته للكتاب والسنة ومحاربة الجهل والشرك والبدعة والخرافة، يشهد بذلك مترجموه، وتنطق به كتبه، فقد تعرض في إصلاح المجتمع في أكثر من مناسبة إلى ماكان شائعاً من البدع والشركيات، ودعا إلى التخلص منها، وقد سبق نقل شيء من كتابه إصلاح المجتمع في الباب التمهيدي.
كما ظهر توجهه ذلك ناصعاً جلياً في تعليقاته على منظومة شيخه أحمد العبّادي، الموسومة "هداية المريد إلى سبيل الحق والتوحيد" فقد نقد الشركيات، ونعى على أربابها، وطالب بإزالتها، بل صرح أنه قام بمحاولة لدى حكومة عدن؛ لإزالة مايحدث من الشرور في الزيارات مثل "زيارة العيدروس والهاشمي" وغيرها، وكادت أن تنجح تلك المساعي، لولا اعتراض بعض الجهال وسدنة القبور [1].
كما بين البدع العملية مثل السماع الصوفي وبدع الأذكار، وفنّد الكرامات الزائفة التي يروجها الصوفية، ويلبسون بها على العوام قال: (يزعم بعض أهل حضرموت أن دابة الفقيه المقدم كانت تعرفُ طرق السماء، وأن زوجته سئلت عن حالها، فقالت: (لسنا بخير بعد الفقيه، وقد كانت أخبار السماء في حياته تأتينا صباح ومساء) ، وفي "المشرع الروي" من هذه الخرافات مالا يحصى كثرة، فليته لم يبرز
(1) هداية المريد إلى سبيل الحق و التوحيد بتعليق الشيخ البيحاني ص (50) .
إلى حيز الوجود، أو ليتها أكلته دابة الأرض التي أكلت عصا سليمان بن داود، والويل لمن كذّب بشيء من هذه الكرامات المكذوبة، فإنه يعد في نظر القوم كافراً ملحداً زنديقاً، وكان التصديق بها أعظم شأناً من التصديق بالمعجزات، فنسأل الله حماية الإسلام وصيانته من هذه الخزعبلات والخرافات. [1].
وقد لاقى في سبيل دعوته تلك كثيراً من المحن والمصاعب، فصبر، وصابر، وكانت دعوته مفتاحاً من مفاتيح الصحوة المباركة في جنوب اليمن آنذاك، وبعد الاستقلال ومجيء الاشتراكيين إلى عدن لاقى من الإهمال والتهميش، بل من المضايقة والتهديد مالا يطاق، ففر إلى الشطر الشمالي كما كان يسمى ذلك الوقت، فاستقر في مدينة تعز معززاً مكرماً من الدولة والشعب، واحتضنه محبوه فيها، وأغدقوا عليه، وأجلوه، وأكرموه بما لا مزيد عليه، وفي عام (1392 هـ) حج حجته الأخيرة، ثم عاد إلى تعز وبعد عودته بيوم واحد انتقل إلى جوار ربه، رحمه الله رحمة واسعة، وكانت وفاته في (10/ 12/ 1972 م) في تعز [2].
الأثر الخاص بمواجهته القبورية من آثار البيحاني - رحمه الله -.:
أما الأثر الخاص بمواجهة القبورية من آثار البيحاني- رحمه الله - فهو "الصارم القرآني في الرد على درر المعاني" ،ودرر المعاني اسمه الكامل "درر المعاني في الرد على العبّادي وتلميذه البيحاني" وهو رد على منظومة العلامة العبادي المسماة هداية المريد، والتي عرفت بها سابقاً، وكان العلامة
(1) التعليق على هدية المريد ص (35) .
(2) انظر ترجمته في أنباء الزمان فيمن رحل من علماء بيحان ص (81 - 92) خلال قرنين من الزمان تأليف عبدالله عبدالقادر العليمي باوزير الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م. ... .
البيحاني قد علق عليها تعليقات مهمة وقوية، فانزعج القبورية للمنظومة والتعليقات عليها انزعاجاً كبيراً، فردوا بذلك الكتاب، فقام الشيخ البيحاني - رحمه الله - بالرد عليهم بكتابه الصارم القرآني.
والكتاب ما يزال مخطوطاً عند أحد أقارب الشيخ لم يطبع بعد، ولم استطع الاطلاع عليه غير أنني بعد محاولات حصلت على صورة لفهرس الكتاب وأربع صفحات منه فقط، وبالنظر إلى الفهرس يمكن أن نتعرف على صورة مجملة للكتاب، فقد صدّر الكتاب بقصيدة للقاضي الإرياني، ولم يبين أي القضاة من بني الإرياني هو، ولكن ظني أنه القاضي عقيل بن يحيى، والقصيدة هي التي ختم بها "السيف الباتر لأعناق عباد المقابر" والتي مطلعها:
قل الحق واصدع بالذي فيه تؤمر ولا تخش غير الله والله أكبر
ومن أبياتها القوية في مهاجمة القبورية قوله:
لحا الله عبَّاد القبور فإنهم لقد بدلوا دين الإله وغيروا [1].
ثم بعد الخطبة تكلم عن مصادر الكتاب، ثم تعرض للكلام عن الكتاب المردود عليه "درر المعاني" وذكر، أنه مدح الصحابة والسلف الصالح؛ متوصلاً بذلك إلى ذم شيخ الإسلام ابن تيمية، والتهكم به وبمن يتابعه، ثم إن الخصم تعرض لهداية المريد، وهاجمها فعلق الشيخ على ذلك، ثم ذكر أن الخصم كذب عليهم، لعله يريد نفسه وشيخه العبّادي، ثم ذكر عقائدهم في الله وصفاته وملائكته ورسله وأولياء الله وصفتهم وخوارق العادات، وبين بعد ذلك من هو الولي، ثم تعرض لتاريخ الدعوة وإلى من ينتسب مذهب الوهابية، وفي أي عصر ظهر، وكيف كان ظهوره، ثم ألمح لخيانة الخصم في النقل، بعد ذلك عرَّف بشيخ الإسلام ابن تيمية، وثناء الناس عليه، وما قيل فيه من الرثاء.
(1) مجموعة رسائل في علم التوحيدص (275 - 276) .
ثم جاء عنوان "نقد وتحليل" ، ولعله موضوع رسالة الخصم، ثم تعرض لكتاب "كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب" وهو لمؤلف شيعي من العراق اسمه "محسن الأمين العاملي" [1]، وتعرض كذلك لكلام ابن حجر "وهو المكي الهيتمي" في ابن تيمية ورد عليه، وذكر أن الخصم استعان في رده بشواهد الحق "للنبهاني" ، وأنه تشبث بالصواعق الإلهية لسليمان بن عبدالوهاب أخي الشيخ، كما عرج على الشطي أحد خصوم الدعوة الوهابية، ويظهر أن الشيخ رد على الجميع، ثم ذكر اتفاق الشيخين ابن الأمير ومحمدبن عبدالوهاب في العقيدة، ثم عاد بعد ذلك؛ ليذكر كلام الناظم "العبّادي" والمعلق "البيحاني" في عموم المسلمين، وبعد ذلك تكلم عن الحلف والذبح لغير الله، ثم نصوص زعماء الوهابية في عموم المسلمين، واستعرض بعد ذلك نصوص الكتاب والسنة الناهية عن دعاء المخلوق، وبعده عنوان "كلام المغالين في أصحاب القبور" ثم جهل الخصم بما يقول وكذبه على الصحابة والتابعين وجرأته في ذلك، ثم بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبعد ذلك كله تعرض لتهمة الخصم له ولشيخه بكراهة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم تكلم على طلب الشفاعة وأدلة الخصم عليها، خلص بعده إلى الكلام عن التوسل ما يجوز منه وما لايجوز، وأبطل أدلة الخصم، ثم نقل كلام الشيخ محمد عبدُه المصري في التوسل ودعاء الصالحين، ثم أوضح كلام الناظم والمعلق في الاستغاثة واحتجاج الخصم بالمجاز العقلي والأحاديث الضعيفة والرد عليه في ذلك، وتوالت العناوين: ( "استدلاله بالقرآن" وكلام العلماء "الشرك بالله والاستعانة بغيره" الحياة البرزخية "غلط الخصم ومغالطته" رفع القبور والبناء عليها "نصوص العلماء وأقوالهم" هدم المساجد والقباب المبنية على القبور، دفاع الخصم عن التماثيل "إنكاره على ابن القيم" شرقه بحديث أبي الهياج "" دفاعه عن رفع القبور "" شد
(1) انظر: دعاوى المناوئين ص (56) لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. تأليف: عبدالله محمد بن عبداللطيف، طبع دار الوطن، الرياض الطبعة الأولى (1412 هـ)
الرحال لزيارة القبور "كلام الناظم والمعلق في النذر" واحتجاج الخصم بما لا يفهم "الكلام على إهداء ثواب القراءة للميت" ).
هذه عناوين الكتاب ومنه يعرف مضمونه، فهو في الرد على القبورية فيما يعتقدون في القبور من العقائد الضالة، وفيما يأتون عندها من الأعمال القبيحة، وما يوجهونه من تهم وافتراءات لخصومهم دعاة التوحيد، ودفاع عن أولئك الدعاة ورد عن أعراضهم وتبرئة لمناهجهم من الانحراف الذي رماها به القبورية، هذا هو ما ظهر لي من ملامح الصارم القرآني للشيخ البيحاني عليه رحمة الله.
وفي نفس السياق تأتي رسالته الصغيرة "زوبعة في قارورة" فجهود البيحاني في مواجهة القبورية ومواقفه منهم هي اللائقة بالعالم السني المتابع لمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
ولعل في رسالة الدكتور أحمد هجوان عن "الإمام البيحاني" ما يكشف مزيداً من هذه المواقف ولكني للأسف لم أطلع عليها.
المطلب الثالث: جهود علماء تهامة في مواجهة القبورية:
لقد تميز علماء وفقهاء تهامة بموقفهم الصلب والقوي من أصحاب وحدة الوجود، وأما موقفهم من القبورية العامة التي أبرز سماتها تعظيم القبور وأصحابها، فلم يكن بذلك الموقف القوي والواضح، وإن كنا لم نلمس من علمائهم الذين لم يتأثروا بالصوفية ذلك الانسياق وراء القبورية، كالذين تأثروا بالصوفية من أمثال المحدث "أحمد بن أحمد بن عبداللطيف الشرجي الزبيدي صاحب التجريد الصريح" [1] فإن الشرجي له كتاب "طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص" ملأه بالخرافات، ونقل
(1) الشرجي المذكورهو أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الشرجي الزبيدي، ولد سنة (812 هـ) بزبيد، ومات بها سنة (893 هـ) ، وهو من أشهر محدثي زبيد وله "التجريد الصريح مختصر صحيح البخاري" وغيره من الكتب، كما له في المقابل "طبقات الخواص" الذي تحدثت عنه في الأصل، وهذا من التناقض العجيب، كما ذكر له كتاب آخر بعنوان "الفوائد في الصلات والعوائد" قال الحبشي في مقدمته للطبقات: (وهو مجموع من الأحاديث والأدعية المأثورة، إلا أنه شابَهُ بكثير من الطلاسم والأوفاق المدسوسة، قال: وقد طبع بالقاهرة سنة (1344 هـ) ، وأعادت طبعه عدة مرات مكتبة الحلبي بالقاهرة) الطبقات ص (6) ،هذا هو الشرجي رحمه الله، لم ينفعه علم الحديث حين تأثر بأفكار وعقائد الصوفية.
فيه من الطامات ما يلحقه بركب الشعراني المشهور بنقل الطامات والهلوسة الصوفية، والشلي الحضرمي صاحب المشرع الروي الذي ملأه بالخرافات والدجل، بحيث يعجب القارئ كيف بلغت الجرأة به إلى هذا الحد، والاستخفاف بعقل القاريء إلى هذه الدرجة، فالشرجي لا يكاد يقل عنهما في كتابه "طبقات الخواص" .
أقول: إن علماء تهامة الذين حاربوا أصحاب وحدة الوجود مع حسن ظنهم بالكثير من القبورية إلا أنهم لما يوافقوهم على الكثير من شطحهم وخرافاتهم، وكثيراً ما يجد القاريء لكتبهم - مثل كتب العلامة الحسين بن عبدالرحمن الأهدل - نقدهم في بعض أمورهم وتصرفاتهم، ولكن لم تظهر المواجهة إلا بعد انتشار الدعوة السلفية التي قادها "الإمام ابن الأمير والإمام الشوكاني، رحمهما الله" ووصول دعاة وجنود الدعوة النجدية إلى تهامة في القرن الثالث عشر، فمنذ تلك الفترة، ظهر من يحارب القبورية بقوة وجرأة وعلم وبصيرة، ومع ذلك فموقفهم من القبورية إذا قورن بموقفهم من أصحاب وحدة الوجود عد ضئيلاً، وإذا قورن عدد من تصدى للقبورية بمن تصدى لأصحاب وحدة الوجود كان قليلًا، وأنا أكتفي بعلَم واحد من أعلام تهامة هو:.
العلاّمة حسين بن مهدي النُّعمي التهامي ثم الصنعاني
قال عنه السيد محمد بن محمد زبارة في "نشر العرف" : (السيد العلامة النبيل التقي الفهامة الحسين بن مهدي النعمي التهامي ثم "الصنعاني" [1]، ولد كما يظهر بمدينة "صبيا" من أرض تهامة، ثم وفد إلى صنعاء للأخذ عن علمائها في حياة الإمام الصنعاني - رحمه الله - وصار من جملة أصحابه، حتى لقد اتهم هو والإمام الصنعاني بمخالفة مذهب الهادي والتظاهر بذلك [2]، وقد ذُكر عنه العمل بالسنة وإحياء ما اندثر منها [3]،ورغم ذلك فقد استمر العلامة النعمي في دعوته وتعليمه للسنن ومحاربة البدع مجللاً محترما ً [4]،حتى أن إمام العصر "المهدي" قد أذن له في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المخالف من خاصة المهدي، وقرأ "الإمام" على المترجم له أياماً في "شرح العمدة لابن دقيق العيد" [5]، وتوفي - رحمه الله - سنة (1187 هـ) ، هذا هو العلامة النعمي لم يحفل به المترجمون، ولكن كتابه العظيم الذي سنعرض له، يشهد بعظمته وسعة علمه، ويصور لنا منهجه الذي هو منهج السلف الصالح، منهج التجديد الذي عرفناه من ابن الأمير والشوكاني رحمهما الله.
أثره في مواجهة القبورية:
أثره المطبوع المتداول في مواجهة القبورية هو كتاب "معارج الألباب في مناهج الحق والصواب" هذا هو الاسم المختصر للكتاب، وقد وُجد على طرة النسخة الخطية مايلي:
(1) مقدمة معارج الألباب في منهج الحق والصواب للنعمي ص (17) ، تحقيق محمد حامد الفقي تخريج علي حسن عبد الحميد، طبع مكتبة المعارف الرياض، الطبعة الرابعة 1407 هـ - 1987 م. و كل ما في ترجمتي له مأخوذة عنه حيث لم أعثرله على ترجمة في موضع آخر والجزء الأول من نشر العرف ليس متوفراً هذه الأيام.
(2) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب ص (18) .
(3) المصدر السابق ص (18) .
(4) المصدر السابق ص (18) .
(5) المصدر السابق ص (18) .
(معارج الألباب، في مناهج الحق والصواب لإيقاظ من أجاب بحسن بناء المشاهد والقباب، ونسي ما تضمنته من المفاسد وهي، عجب من الخطوب عجاب، وأحال أخذ الحكم من دليله في هذه الأعصار فَسدَّ باب الحكمة وفصل الخطاب، وعطّل الانتفاع في هذه الأزمان بعلوم السنة والكتاب، إلى غير ذلك مما يأتيك بيانه وتحقيقه - إن شاء الله - بأحسن تحرير وجواب) [1].
هذا ماكتب على طرة الكتاب وهو معرِّف به، مبين عن وجهته، مشير إلى السبب الدافع إلى تأليفه، وهو الرد على من أجاب باستحسان تلك المشاهد والقباب على قبور الأولياء، وقد نص على هذا السبب في مقدمته الكافية فقال: (وبعد، فلما كان في شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وسبعين ومائة وألف من الهجرة النبوية، وقفت على صورة سؤال، وغير ماجواب في شأن ما يسر الله هدمه، وافتقاده من المشاهد والقباب، وإزالة ما أزيل منها بالتدمير والخراب؛ لما تفاحشت خطوب مفاسدها في هذا الزمان، وضاهت رسوم الجاهلية الجهلاء النافية للتوحيد والإيمان، مع كون وضع القباب أمراً صادم المأثور الصحيح من النهي الصريح، فهو بمجرده ممنوع شرعاً، كما قد شرحت ماجاء فيه ضمن رسالة مستقلة وجيزة، أسفرت عن وجهة الصبيح واسمها: "مدارج العبور علىمفاسد القبور" .
وكان قبل هذا التاريخ بمدة يسيرة، ألقى إليّ بعض أعيان الزمن بمدينة صنعاء اليمن - حاطها الله وسائر بلاد الإسلام من طوارق المحن والفتن - كتاباً ورد عليه من مكة المشرفة، ذكر فيه ما حاصله:
أنه وصل إلى هنالك سؤال في هذه المسألة، وأنه أجاب فيه مفتو الأربعة المذاهب، بما يتضمن التشنيع على من دل على هدم القباب والمشاهد، وأشار بتخريب تلك المعاقل والمعاهد [2]. وبعد أن
(1) معرج الألباب ص (14) .
(2) معارج الألباب ص (26 - 27) .
أبان خواء ذلك الجواب، وعدم استناده إلى سنة ولا كتاب، وإنما (أجابوا: بأنه صرح به في المنهاج وشرحه، وهو الذي فهمه ابن عبد الحق من عبارة الروضة بالجواز) [1]. كر على المجيبين، وندد بأصلهم الذي عليه يعتمدون، وإليه يرجعون، وهو التقليد المحض والمنع من إعمال النظر في الأدلة، وقد شنع عليهم، وأطال النفس في ذلك، شأنه شأن مشايخه وزملائه من المدرسة السلفية في اليمن، وقد استغرق ذلك باقي المقدمة.
أما الباب الأول: فجعله في أبحاث متفرقة تتعلق بتلك الأجوبة، منها الرد عليهم في أخبار استدلوا بها، وقد أخلّوا بشروط الاستدلال إما دراية أو رواية، فالدراية كونهم لم يستدلوا بها على وجهها كاستدلالهم بحديث (( من آذى لي ولياً )) على حرمة المشاهد والقبور.
وقد حاكمهم أولاً إلى أصلهم و (على جواز أخذ الحكم من دليله وإمكان الاجتهاد في هذه الأعصار) فكيف يجيزون لأنفسهم خلاف ما أصلوه، ثم ناقشهم في الجزم بكون هذا المدفون ولياً، وأبان جانباً مما ينسب إلى من يوصفون بالولاية من الشطح والتخريف، وكيف يكون هدم هذه القباب إيذاءاً لأولياء الله وهو امتثال لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ثم رد عليهم حديث: (( مارآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )) وأن ذلك لايثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [2]، وأخذ يبدي ويعيد في موضوع الاجتهاد والتقليد إلى نهاية الفصل [3]، وهكذا في الفصل الذي يليه، رد على من قال منهم: (ولا يدعي الاجتهاد
(1) المصدر السابق ص (29) .
(2) معارج الألباب ص (39 - 49) .
(3) المصدرالسابق ص (45 - 101) .
في زماننا هذا إلا من جهل شروط الاجتهاد وعريَ عن أصول الفقه)، واستمر في رده إلى نهاية الباب الأول [1].
أما الباب الثاني: فجعله (في ذكر جملة شافية من الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة، الشاهدة بأن وضع القباب والبناء على القبور من أصله وتشريفها والكتابة عليها وتجصيصها واتخاذها مساجد وما يتصل بذلك: أمر تقرر في الشرع منعه، وسبق الحكم الجازم بالنهي عنه) ، وبعد أن نقل من ذلك جملة كثيرة علّق على بعضها، ونقل نقلاً طويلاً عن ابن القيم من "إغاثة اللهفان" ، ثم علّق على بعض كلام ابن القيم وانتهى الباب) [2].
أما الباب الثالث: فجعله للرد المباشر على تلك الأجوبة حيث يذكر جملة من الجواب، ثم يرد عليه، وقد استغرق هذا الباب بقية الكتاب، ولم يقتصر على تفنيد شبههم المتعلقة بالمشاهد والقباب، وإنما تطرق إلى ضلالات المتصوفة، وأنواع الشرك التي تُرتكب عند المشاهد والقبور، وما يجب على المسلمين والعلماء تجاه ذلك، وهو نقاش قوي ومنهج سوي مفيد لطالب العلم في رد شبه القبورية.
فرحم الله العلامة النعمي، وغفرله، وجزاه خير الجزاء على ما قدم، وله أثر ثانٍ أخص في الموضوع بعنوان "مدارج العبور على مفاسد القبور" ذكره في مقدمة المعارج (27) ، ولا أعلم عن وجوده شيئاً، وأما مضمونه فهو في النهي عن البناء على القبور، وما يلحق بذلك حسب إشارة المؤلف ..
المؤلفات المفردة في مواجهة القبورية لعلماء تهامة:
ولغير من تقدم مؤلفات ورسائل مفردة تعنى بمواجهة القبورية في بعض الجوانب، و إليك جدولاً بأسماء هؤلاء العلماء وأسماء مؤلفاتهم:
(1) المصدر السابق ص (101 - 118) .
(2) المصدر السابق ص (120 - 156) .
1) محمد بن أحمد الأهدل المتوفى سنة (1271 هـ) ، وله رسالة بعنوان "تحذير الإخوان المسلمين من تصديق الكهان والعرافين" ووجه كونها في مواجهة القبوريين أن بعض القبوريين هم الذين يقومون بالكهانة والعرافة باعتبار ذلك من الكرامات، المرجع هجر العلم (4/ 2015) .
2) حسن بن خالد الحازمي: المتوفى سنة (1234 هـ) أو (1235 هـ) ، له رسالة بعنوان "قوت القلوب بمنفعة توحيد علام الغيوب" واضح من العنوان أنها في الدعوة إلى التوحيد وقطعاً في التحذير مما يضاده من عقائد وأعمال القبورية، المرجع هجر العلم (3/ 1224) .
3) الحسين بن عبدالرحمن الأهدل المتوفى سنة (855 هـ) له رسالة بعنوان "القول النضر على الدعاوي الفارغة بحياة الخضر) يرد بهاعلى عقيدة مشهورة من عقائد القبورية وهي القول بحياة الخضر وزعم الالتقاء به والأخذ عنه. المرجع هجر العلم (1/ 46) ."
4) قادري بن أحمد الأهدل مازال حياً - حفظه الله -له منظومة بعنوان "بهجة القلوب بتوحيد علام الغيوب" وهي مطبوعة مع هداية المريد للعبّادي، وقد تناول فيها الكثير من انحرافات القبورية، وأبان ضلالها وكشف عوارها.
المطلب الرابع: جهود علماء حضرموت في مواجهة القبورية:
لم تترسخ القبورية في أي ناحية من نواحي اليمن كما ترسخت في حضرموت، حيث سيطر القبورية فيها على كل شيء، سيطروا على الحكام، ووجّهوا السلاطين وسعوا لجلب الاستعمار، وكان لهم عنده مكانة مرموقة، وأمسكوا بزمام القيادة العلمية والروحية في البلد بقبضة حديدية، لم تترك لسواهم وسوى الدائرين في فلكهم متنفساً؛ لذلك لا نرى تلك المعارضة للفكر الصوفي في حضرموت مثل ما عورض في زبيد وصنعاء أو غيرهما من أنحاء اليمن، وحتى كتابة التاريخ فقد احتكروها بين قادة التصوف وأنصارهم، فجاء تاريخ حضرموت كما يشاؤون لا كما هو في الحقيقة، لذلك لا غرابة
أن يقل أو ينعدم المواجهون للقبورية فيها، ومن ظهر فإنما ظهر بعد أن حصلت للقبورية الهزات العنيفة بفعل الدعوة السلفية في صنعاء وفي نجد؛ حيث وصلت الجيوش النجدية إلى قلب وادي حضرموت، والتقى دعاتها بالناس، فتأثر بهم رجال من شتى الطبقات حتى من السادة العلويين [1]، ثم دعوة الإرشاد باندونيسيا،
ومن هؤلاء الذين برزوا:
العَلَم الأول
الشيخ علي بن أحمد باصبرين
وهو العلامة الفقيه المحدث الأديب الداعية علي بن أحمد باصبرين - رحمه الله - لم يُعرف تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بالتحديد؛ ولكن العلامة الشيخ علي سالم بكيّر يرجح أنه (عاش في النصف الأخير من القرن الثالث عشر الهجري وأوائل القرن الرابع عشر) [2]، وكان هذا الإمام متميزاً بالشجاعة متظاهراً بحمل السلاح يقول عنه علوي بن طاهر الحداد: (كان شجاعاً ذا عزم لايزال متمنطقاً بمسدس أو مسدسين) [3].
وكان ذا غيرة شديدة حملته على إنكار الكثير من المنكرات والعمل على تغيير بعضها باليد، يقول الحداد: (وأحسب أن له يداً في الثورة التي وقعت بجده على قناصل الدول وهي واقعة مشهورة، وقد
(1) انظر إدام القوت ص (225 - 226) .
(2) رجال وكتب للشيخ علي سالم بكيّر باغيثان طبع دار حضرموت للدراسات والنشر ص (109) .
(3) الشامل (1/ 135) وانظر إدام القوت ص (110) .
تمكن من الفرار فسلم، وهو الذي أثار العوام على الأبنية التي جعلت على الجمرات الثلاث بمنى فهجموا عليها وأخربوها) [1].
كما كان مبرزاً في العلم متفوقاً فيه، وصفه أحد العلويين بقوله: (وهو إمام في كل العلوم) [2]، وكان عاملاً بعلمه داعياً إلى ماهو مقتنع به، لم يجمد على ما كان عليه أهل مصره وعصره؛ بل دعا إلى التوحيد وحذر من الشرك وزيف الخرافات وحارب المنكرات؛ ومن أجل ذلك حاربه علماء حضرموت ونازعوه وحذروا منه، يقول ابن عبيدالله: (وجرت بينه وبين علماء تريم منازعات في عدة مسائل، منها التوسل والاستغاثة ومنها ثبوت النسب بمشجّرات العلويين المحررة، وكان الشيخ يبالغ في إنكار ذلك وألِّفت رسائل من الطرفين [3]، ونقل مستنكراً ما قاله أحمد بن حسن العطاس عن هذا الإمام فقال: (وفي مجموع كلام العلامة السيد أحمد بن حسن العطاس أن بعض العلماء المصريين قال له:: "نعرف من الحضارم حدة الطبع، وأنت بعيد عنها" قال له: "من عرفت من الحضارم؟" قال له: "عرفت الشيخ علي باصبرين، وجلست معه في الحرمين سنين، فرأيت من حدته ما لا مزيد عليه" ، فقال السيد أحمد: "ذاك رجل من أهل البادية، وتلقى شيئاً من العلم، وقد حجر سلفنا وأشياخنا على المتعلقين بهم الأخذ عنه؛ لأنه ليس بأهل للإلقاء ولا للتلقي، ولا يخفى عليكم ما في طباع البادية من الغلظة والجفاء" ، انتهى. وفي هذا غض من مقام الشيخ علي لايليق بالإنصاف، وقد علمت أن السيد عمر بن حسن الحداد قرأ عليه وهو من مراجيح العلويين) [4].
(1) الشامل (1/ 135) .
(2) إدام القوت (110) .
(3) إدام القوت (111)
(4) إدام القوت ص (110 - 111) .
ويبرز اتجاهه التجديدي من خلال بعض مؤلفاته ومنها: "إرشاد صالحي العبيد لتحقيق إخلاص كلمة التوحيد" ذكرها في المسألة التاسعة من "المهمات الدينية" المتعلقة بالنهي عن قول العوام (ياولي الله جئنا إليك وحططنا الذنب بين يديك) بعد أن علق عليها قال: (ومن أراد توضيح ما في المقام فعليه برسالتي المسماة "رشاد صالحي العبيد لتحقيق إخلاص كلمة التوحيد" [1].
وهذه الرسالة لم نعثر عليها، ولكنا عثرنا على المهمات وسوف يأتي الحديث عنها حين نتكلم عن أثر هذا العالم في مواجهة القبورية، وله مؤلفات أخرى منها خمسةكتب في الفقه الشافعي، وكتاب عن أنساب السادة العلويين سماه "حدائق البواسق المثمرة في بيان صواب أحكام الشجرة" فرغ من تأليفه سنة (1298 هـ) قاله ابن عبيد الله [2]، ورسالة في الرد على بعض من اعترض عليه في رسالة الشجرة المذكورة. [3] إضافة إلى تلك الكتب هناك كتاب مخطوط في مكتبة الحرم المكي بعنوان "إتحاف الناقد البصيربخصوص صحيح الجامع الصغير" ذكره شيخنا الألباني في مقدمة كتابه صحيح الجامع الصغير وقال: إنه اطلع عليه في مكتبة الحرم المكي، وقد نقد المؤلف حيث أنه يتابع السيوطي على تصحيحه دون تحقيق من قبله [4].
هذه نبذة عن الشيخ علي باصبرين رحمه الله وهو مترجم في "الشامل في تاريخ حضرموت" ، و "إدام القوت أو معجم بلدان حضرموت" ، "وتاج الأعراس" وكلها تراجم موجزة.
(1) المهمات الدينية ص (6) .
(2) إدام القوت ص (111 - 112) وانظر لمزيد الفائدة تعليق ابن عبيدالله بذكر مادار بين الشيخ علي وبعض السادة حول الرسالة المذكورة وفيه كلمة للمحضار لفظها (وبعض الناس قوله وبوله سواء) وهي تدل على مبلغ العنجهيةلدى هؤلاء الناس.
(3) ذكرها ابن عبيد الله في نفس الموضع السابق.
(4) صحيح الجامع الصغير طبع المكتب الإسلامي (1/ 14 - 15) الطبعة الثانية (1406 هـ - 1986 م) .
أثر هذا العلم في مواجهة القبورية
كان الأولى أن أدرس رسالة "إتحاف صالحي العبيد" التي أشرت إليها سابقاً ولكنها مفقودة؛ لذا لجأت إلى الرسالة الأخرى وهي: "المهمات الدينية في بعض المرتكب من المناهي الربانية" .
وهي رسالة صغيرة حصر فيها المؤلف مجموعة من المناهي التي قد ارتكبها الناس، ولم يتقيد بباب من أبواب العلم، وإنما نوعها بحسب أهمية تلك المناهي المرتكبة، فاشتملت الرسالة على خمس وسبعين مسألة، قال في مقدمتها: (ولقد جمعت في هذه العجالة خمساً وسبعين مهمة من مهمات الدين مما عم الابتلاء بالتلبس بها، وقد أرسلت منها نسخاً عديدة لكل كبير بلد أو قرية، كل هذا خروجاً من عهدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ الجهد في بذل النصيحة لهذه الأمة المباركة، لعل وعسى أن ينتفع بها مؤمن صالح، ويرتدع بها وينيب غاوٍ بجهالته طالح) [1].
وقد مضى في تلك المهمات إلى أن قال: (التاسعة) مما يحرم ما يقال عند إقبال الزائرين إلى المزور:
(ياوليّ الله جئنا إليك وحططنا الذنب بين يديك)
وقد علق على ذلك وبين مافيه من الغلو، وأنه لايغفر الذنوب إلا الله، ثم أحال على رسالته السابق ذكرها، ومضى إلى المهمة (الثامنة عشر) وفيها تعرض لما عند بعض جهات حضرموت أنهم: (إذا ميزوا زكاة أموالهم بنحو حَجْر والرِّيَد [2] يقولون: (هذا لله وللشيخ سعيد أو حق الله وحق الشيخ سعيد مثلاً) [3]، ثم تكلم عن ذلك من الناحية الاعتقادية والناحية الفقهية، وقد حكم أن هذا القول خلاف الصواب، وأنه مبني على اعتقاد أنهم (إذا فعلوا ذلك يأمنون عاهات أموالهم وإلا فيصابون
(1) المهمات ص (3) .
(2) هما جهتان معروفتان من جهات حضرموت.
(3) المهمات ص (8)
بعاهة في أنفسهم وأموالهم، أو من الله إذا أغضبوا الشيخ بمخالفة عادتهم من إعطائهم مالا يستحقه، مع نسبة الآثار إلى مايتوهم الجاهل أنه منه، وذلك خلاف الصواب والحق أن موجد الآثار وأسبابها هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد القائل سبحانه: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولاخلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا} ) [1]، والحق أنه لم يشبع المسألة وربما كان ذلك لأجل الاختصار، وفي المهمة (العشرون) تحدث عن النذر وأنه (لايصح إلا إن كان لمن يملك - ومنه المسجد- طاعة لله وقربة بها يتقرب إليه تعالى لا لميت وبهيمة ما لم يرد غيرهما المعتبر، ولا معصية أو مكروهاً أو مباحاً لآدمي أو جني أو معظم ما غير الله الواحد الأحد الفرد الصمد، لرجاء مالم يقضهِ الله له لو لم يشفع له هذا المعظم، أو دفع ما قد قضاه الله وأبرمه عليه في سابق علمه، فهذا محرم بل كفر في حق العالم والجاهل الذي أخبره بمقتضى ما يتضمن ذلك من هو من أهل الإخبار والتعليم [2].
والشيخ قد أبان جانباً مهماً من الحق في هذه المسألة؛ وهو تحريم النذر للأموات، وأنه متى صاحبه ذلك الاعتقاد صار كفراً في حق العالم والجاهل الذي قد أخبره به من هو أهل للإخبار، ولكن هنا أمران:
الأمر الأول: تصحيح النذر عند إرادة المعتَبَر ممن له علاقة بالقبر فإن هذا موهم جداً ومغرٍ للعوام بالنذر لتلك المشاهد والقباب ومن فيها، وتَرتُب الاعتقاد إن لم يكن موجوداً حال النذر والغالب أنه لاينذر لها ولم يقصد من عندها من الزوار وغيرهم إلا مع وجود الاعتقاد فيهم، ولذلك فقد انتقد هذا المسلك الشيخ أبو بكر الخطيب في فتاواه معللاً بأن (الغالب أنهم يقصدون تعظيم ذات الولي أو
(1) الكهف (51) .
(2) المهمات ص (9) .
قبره أو مشهده وذلك باطل والله أعلم بالصواب) [1]، وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما نذر الرجل أن يذبح إبلاً ببوانه سأله: (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا قال: فأوف بنذرك ) ) [2]، وهذا يدل على أن النذر لو كان لمكان فيه وثن أو عيد لما أجازه؛ لئلا يظن ظان أن ذلك لتعظيم تلك البقعة، وهكذا هنا فإن قصد تعظيم ذلك المشهد والقبر هو الغالب، فكان الواجب سد هذه الذريعة وعدم تصحيح النذر من أصله.
الأمر الآخر: جعل النذر شركاً -إن وجد الاعتقاد والتعظيم- هذا فيه قصور، إذ النذر عبادة لله تعالى وليس كما يفهمه بعض الفقهاء مجرد هبة أو عطية، ولذلك فجعله لهذا المشهد أو القبر هو في حد ذاته قربة وعبادة، وصرف ذلك لغير الله شرك، ولولم يوجد التعظيم؛ لأن الحامل عليه هو الخوف أو الرجاء كما ذكره الشيخ آنفاً، بخلاف ما لو نذر لحي فإنه في عرف الفقهاء بمعنى العطية أو الهبة، وعلى ذلك درج الناس فيما يتعاطونه بينهم فيقول قائلهم نذرت لابني أو أخي أو فلان بكذا أي وهبته، فما كان من هذا القبيل فلا يمنع إلا أن قارنه التعظيم والتقرب والله أعلم.
أما المهمة (الحادية والعشرون) ففيها يقرر المؤلف أنه لايتقرب ولايعظم بالصلاة والنسك "الذبح" إلا لله تعالى، ولاينسب الإحياء والإماته إلا لله تعالى، وهذه أمور معلومة لا إشكال فيها وإن كان من الناحية العملية بعض القبورية أو جلّهم يخالفون في الذبح فيجيزونه لغير الله، ويتأولون ما يفعل من ذلك عند العوام، والذي لاعلة له إلا "تعظيم من ذبح له" يتأولون ذلك بتأويلات باطلة، وكذا الإحياء والإماتة، هذا أصل من الناحية النظرية متفق عليه، أما من الناحية العملية فالصوفية ينسبون لأوليائهم الإحياء والإماتة -كما جاء في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم من المشرع وغيره - وقد تقدم
(1) الفتاوى النافعة ص (249)
(2) تقدم تخريجه في الباب التمهيدي ص (29) .
إثبات اعتقادهم لذلك في الباب الثاني، وذلك غاية الإلحاد والعياذ بالله، ثم يرتب على ما تقدم تحريم العقيرة [1]، لكونها يهل بها لغير الله ولغير ذلك من المحظورات التي تترتب على ذلك، ويأتينا هنا بفائدة جديدة جليلة وهي أن الزامل [2] الذي يكون غالباً مصاحباً لزيارات الأولياء هو: (لتعظيم المقبور له بمنزلة تلبية وفد الله تعالى بالحج والعمرة وهذا من أعظم المنكرات وأعظم منها سكوت أهل العلم عنهم فيما لو فرض سكوتهم فضلاً عن رضى عاقل بذلك) [3]، وهذه النكتة لم أعرف من نبه عليها غيره ولكن لا استبعد صحة ما قرر في ذلك إذ أنّ هذا هو الشأن في معظم الزيارات إن لم يكن فيها جميعاً وهذا أولاً، وثانياً: أنها فعلاً تعتبر تعظيماً للولي وذلك برفع الرايات التي هي شعاره واشتمالها غالباً على أبيات شعرية في مدحه أو دعائه والاستغاثة به. وثالثاً: أن خليفة ذلك الولي المسمى عندنا "منصب مقامه" يعطى في هذه الزيارات من التعظيم والتفخيم وإظهار مقامه وقدره شيئاً عظيماً كما نبه عليه "الصبان" في كتابه زيارات وعادات "زيارة نبي الله هود" [4]، فرحم الله الشيخ باصبرين.
والمهمة (الثانية والعشرون) يقرر فيها أن الحلف بغير الله تعالى وصفاته وأسمائه شرك، ثم قسم الشرك إلى جلي وخفي، وأن الجلي هو المخرج من الملة والخفي لايخرج من الملة، ثم تعرض لصيغ من الحلف وتكلم عنها، ثم فرق بين ماكان المقصود به تعظيم المحلوف به كتعظيم الله أو يخاف منه
(1) قال في القاموس و (العقيرة ما عقر من صيد أو غيره) ص (569) وفي العرف هي جمل أو ثور يسوقه الزوار عند زيارتهم للولي: إما إرضاءاً له لما قد يظنون أنه ساخط عليهم أو تقرباً لطلب حاجة منه.
(2) الزامل في العرف هو نوع من الرجز يؤتى به عند المناسبات كالأفراح ونحوها وكذا في الزيارات.
(3) المهمات ص (9 - 10) .
(4) زيارات وعادات "زيارة نبي الله هود" ص (40 - 41) تأليف عبد القادر محمد الصبان، طبع المعهد الإمريكي للدراسات اليمنية.
كخوفه، أو يرجى منه نفع لم يقضه الله، أو يدفع عنه ضر قد كتبه الله فهو الحرام الكفر اتفاقاً، أما إذا سلمت العقيدة من ذلك فلا كفر جلي وفي الخفي خلاف والورع تركه مطلقاً) [1] وهذا تفصيل جيد،,أجود منه لو صرح بتحريم النوع الثاني وإن لم يكن شركاً.
والمهمة (الستون) : قال لايجوز لأحد حكاية ماصورته منكر، وإن صدر عن بعض الأكابر محمول على أنه مؤول عنده بتأويل غير متبادر للعامة؛ أو أنه صدر حال غيبة عن تعقل مقوله بوجه من الوجوه أو أنه من قول غيرٍ كجني كما قال بعضهم:
أنا عرشها والكرسي أنا للسما بانيها
ولولا الحيا من جدي نار الجحيم أطفيها [2]
والنهي عن ذلك في محله، وأما التأويل لذلك فبعيد وقد تقدم إيضاح ذلك [3]
المهمة (الحادية والستون) : قال فيها (من المحرمات قول بعض المعتقدة جواباً لقول المعتقد ادعُ الله لي بالجنة "أنت في الغدفة أو ضماني" ) [4]، وهذا القول يتكرر كثيراً من بعض أقطاب القوم في مناسبات مختلفة وهو محرم كما ذكر الشيخ إن كان مجرد جرأة عن غير اعتقاد، أما من اعتقد أنه يملك ذلك فهذا طاغوت لأنه زعم لنفسه حقاً من خالص حق الله تعالى.
هذه هي المهمات التي تعرض فيها الشيخ للقبورية ونقد بعض عقائدهم وأعمالهم، وأما بقية المهام فإنها منكرات يقع فيها الكثير من الناس وهي معاصي لاعلاقة لها بالقبورية.
(1) المهمات ص (10) .
(2) المهمات ص (16) .
(3) المهمات ص (16)
(4) المهمات ص (16) .
والشيخ -رحمه الله تعالى- قد تحرر من غل التقليد لمعلميه والتأثر بمجتمعه إلى حد كبير، وحسبه ذلك مادام مجتهداً باحثاً عن الحق جاداً في العمل به والدعوة إليه، وقد بقي لديه بعض آثار مدرسة حضرموت لم يستطع التخلص منها وهي قليلة في جانب ما حقق من إصابة للحق، فرحمه الله وغفر له.
العَلَم الثاني
من أعلام المواجهين للقبورية في حضرموت
الشيخ محمد بن علي بافضل رحمه الله تعالى
للأسف لم أعثر لهذا الشيخ على ترجمة مكتوبة، ويقال أن هناك ترجمة كتبها هو لنفسه بعنوان "حياتي" غير أنني لم أتحصل عليها، وهي عند بعض أولاده كما أخبرني بعض أقاربه، فلذلك أكتب ملامح عامة عنه فأنا أعرفه، وقد جالسته وحضرت درساً من دروسه في مدينة "القَطْنْ" بلده الذي ولد وعاش فيه معظم حياته.
كانتدراسته الأولى في رباط تريم على يد شيخه الشهير عبدالله بن عمر الشاطري، ثم هاجر إلى الصومال ومكث هناك ردحاً من الزمن، ولعله هناك التقى ببعض المصريين من أنصار السنة وبذلك تحول إلى الاطلاع على كتب الإمامين ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله وأئمة الدعوة السلفية في مختلف العصور حتى صار بذلك من أعلام الدعوة السلفية.
يقول فضيلة الشيخ "السيد السيد رجب" المدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في تقديمه لكتابه "دعوة الخلف إلى طريقه السلف" وهو يتكلم عن أعلام الدعوة الذين أشعلوا المشاعل لينيروا الطريق وليوضحوا السبيل ليسترشد الحائر ويهتدي السائر: (ومن هؤلاء العالم الفاضل، والشيخ الوقور، والمربي الأمين، والقدوة الطيبة والمجاهد المكافح الذي صابر وثابر وأفنى شبابه وصحته في سبيل الدعوة وإبلاغ الحجة وأداء الأمانة وإيقاظ الغافلين، والأخذ بيد العاملين، والذي نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، ذلكم هو الشيخ "محمد علي بافضل" ، بارك الله فيه وأطال عمره ونفع به وجزاه بكل خير، فقد جاهد وناضل في سبيل عقيدته، في كل
مكان حل به وأقام فيه، ومن يذهب إلى الصومال يجد مسجداً فخماً سمي باسمه، أقامه وشيد أركانه، وكان إمامه وخطيبه ومدرس العلم والمعرفة لرواده وأحبابه وإخوانه ومعارفه، فهذا درس التفسير، وذاك درس الحديث، وهذا درس الفقه، بل كان يدرس النحو والصرف وهكذا.
وكلٌّ حسب منهج دراسي منظم، ومستويات علمية متباينة، فربّى رجالاً فاهمين عالمين عاملين، جمعوا بين طلب الدنيا والدين، والشباب والشيوخ من حوله ملتفون، كان لهم العالم والمرشد والأخ والصديق والأب والرفيق، يلتفون حوله ويستجيبون لنصحه، ويعملون بتويجهاته ويستشيرونه في أخص أمورهم، وإن أنس لا أنسى ليلة وداعه وهو مغادر الصومال بعد إقامته فيه مدة طويلة إلى موطنه العزيز والجموع محتشدة في ذلك المسجد بمقديشو والرجل يفيض على الجميع من علمه وتجاربه ونصائحه وكانت كلماته مشوبة بأنفاس كبد محترق تلفح الآذان، والناس في حزن عميق وألم للفراق شديد، ثم يحمِّلني تبعة القيام بالمسجد ويعهد إلي بتحمل الأمانة ولكن أنّى لي ولأمثالي أن نملأ هذا الفراغ ونقوم بذلك العمل الكبير والمجهود العظيم فجزاه الله خير الجزاء) [1] هذه لمحة عن حياة الشيخ وجهده في المهجر.
وأما في الوطن فأنا أسجل ما بلغني عنه وما شاهدته منه مباشرة:
فلقد سمعت بالشيخ وجهوده ودعوته إلى الكتاب والسنة في آخر حياته رحمه الله، حوالي عام اثنين أو ثلاثه وتسعين وثلاثمائه وألف هجرية، حيث وصف بالدعوة إلى التوحيد والسنة ومحاربة البدع والشركيات وبيان خرافات الصوفية وتزييفها، وماكان قائماً به من نشر العلم والإفتاء في مدينته القطن، ثم شاء الله بعد مدة أن أزور القطن وأصلي المغرب والعشاء في مسجدها الجامع، حيث يدرس الشيخ وقد كنت ذاهلاً عن الشيخ ودعوته التي وصفت لي من قبل، فلما كان بين العشائين
(1) دعوة الخلف إلى طريقة السلف التقديم ص (ج - د) .
فإذا بالشيخ يتصدر الحلقة العلمية ليدرس طلابه من كتاب فقه السنة "للسيد سابق" وفي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا أذكر ما هو الكتاب الذي كان يدرس فيه وقتها، فجلست في الدرس وسمعت كلاماً قيماً غريباً على ما هو معروف في الأوساط العلمية الحضرمية آنذاك، وبعد انتهائه من الدرس أردت أن أتأكد مما سمعت، فسألته عن بعض الأمور المتعلقة بالبدع والشركيات المنتشرة في البلاد، فأجاب جواباً صريحاً واضحاً بما يشفي غليل محب السنة والتوحيد، فاطمأننت إليه واقتربت منه وتعرفت عليه وعرفته على نفسي، فقال لي: (لقد أجبتك على تلك الأسئلة بما سمعت لأنني هنا في القطن ولوكنت من شبام وحدرا لسبطونا على تلك الأجوبة) هكذا بهذه اللهجة الدارجة ومعناها: أنه لما أجابني بما أجابني لأنه في بلد القطن الذي قد استجاب أهله للدعوة السنية وآمنوا بها، ولو أنه كان في مكان آخر من بلد شبام أو ما كان شمالاً عنها لضرب على تلك الإجابة لما عليه أهل تلك الديار من التعصب والخرافة، وعندها عرفت أنه ذلك العالم السلفي الذي حُدَّثْتُ عنه من قبل، ثم دعاني إلى منزله فاعتذرت فواعدني من اليوم الثاني حيث أخذني إلى مسجد جديد كان يقوم على عمارته وفي أثناء تجولنا في المسجد كان يشكو إلي سوء الأوضاع في البلاد ومحاربة النظام الشيوعي للدين وأهله وما يلاقيه هو من رقابة ومتابعة شديدة، ثم إنه رحمه الله سافر إلى المملكة العربية السعودية، حيث وافاه الأجل في مدينة جده حوالي عام (1404 هـ) ، وقد ترك أثراً طيباً في بلده وكان له طلاب ومحبون فيها وفي غيرها، كلهم سائر على نهجه ومقتبس من طريقته - رحمه الله رحمةواسعة -.
الأثر الذي خلّفه "دعوة الخلف إلى طريقة السلف" :
وواضح من عنوانه أنه دعوة إلى العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم في جميع الأمور من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات وسائر شؤون الحياة، ولقد لخص موضوع الكتاب المؤرخ الشهير سعيد عوض باوزير في المقدمة التي قدم بها للكتاب فقال: (آمنت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً) هذا هو موضوع الكتاب الذي جمعه المؤلف من أوثق المصادر.
دعوة إلى التوحيد الخالص دون إشراك، وإيمان برسالة خاتم الأنبياء دون انحراف، وتمسك بتعاليم مستقاة من أصولها الصحيحة دون ابتداع، في ميدان الاعتقاد يدعو الكتاب إلى إصلاح كل ما أفسدت البدع والأباطيل من جوهر العقيدة، وفي ميدان السلوك والعبادة يدعو إلى رفض كل زيادة ليست في كتاب الله الكريم ولا في سنة رسوله المطهرة [1].
وبعد كلام عام عن أزمة المسلمين وأن لاحلَّ لها إلا بالرجوع الحق إلى الإسلام قال المقدم: (ربما تثير بعض النقاط التي عالجها الكتاب حساسيات بعض الناس، أو تصطدم بوجهات نظر خاصة بهم، ولكنني واثق بأن المؤلف لم يكتب ما كتب عن هوى أو غرض وإنما كان يصدر عن عقيدة امتزجت بروحه وقلبه، يدافع بها عن دين الله الحق، طالما تحدث بها لسانه، قبل أن يتناولها قلمه، فالمؤلف من خطباء الحضارم الموهوبين وأساتذتهم المستنيرين، تعرفه المنابر والحفلات، كما تعرفه فصول الدراسة، وقاعات المحاضرات [2]. والكتاب قد جعله المؤلف على طريقة السؤال والجواب:
وقد شمل توحيد الربوبية والألوهية وتوحيد الأسماء والصفات وما يضاد ذلك من الإلحاد والشرك، وقد ركز على توحيد الربوبية بعض الشيء لوجود التشكيك فيه في تلك الفترة، فترة انتشار الإلحاد في العالم كله، وعندنا في حضرموت بسبب النظام الشيوعي الذي كان جاثماً على صدر البلاد وأهلها، ثم
(1) دعوة الخلف، المقدمة ص (5 - 6)
(2) دعوة الخلف المقدمة ص (5 - 6) .
تكلم على السنة ومايتعلق بها ومايضادها من البدع، كما عرج على الفكر الصوفي الحضرمي ونقد بعض خرافاته، وأبان بعض ما يحتوي عليه من الشعوذةوالدجل، وخصص بعض البدع التي تتفرد بها حضرموت مثل "صلاة الخمسة فروض" التي تؤدى آخر جمعة من رمضان، حيث يصلون الفرائض الخمسة الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء في آن واحد وذلك بنية قضاء ما فات أثناء السنة الماضية
وأول من أحدثها في حضرموت "الشيخ أبو بكر بن سالم العلوي صاحب عينات" ، ولذلك فإن أكثرمن يتعصب لها هم المنسوبون إليه، ولاتزال مستمرة بشكل رسمي وبطقوس واعتقادات، خاصة في بلده عينات إلى اليوم، كما تعرّض لبعض الأمور التي دعا الواقع إلى طرقها؛ كمسألة المرأة في الإسلام، وتعدد الزوجات، وموضوع الإسلام والرق، هذا مجمل ما اشتمل عليه ذلك الكتاب فهو مهم جداً ومفيد للغاية فرحم الله مؤلفه وأجزل له الثواب.
العَلَم الثالث
العلامة القاضي عبدالله بن عوض بكير
وهو العلامة الكبير والقاضي الشهير، داعية السنة في وقت تَغَلُّب البدع، ورافع راية التوحيد في مجتمع تجوس خلاله أنواع من الشرك، ويتصدر فيه دعاة الخرافة الشيخ عبدالله عوض بكير.
ولد رحمه الله في مدينة "غيل باوزير" سنة (1314 هـ) [1]،قرأ القرآن في أحد كتاتيب قرية "القارة" من ضواحي الغيل، وبعد مرحلة من العمل والكدّ، التحق بركاب الشيخ عمرمبارك بادبَّاه في
(1) القضاء في حضرموت في ثلث قرن لابن المترجم العلامة عبدالرحمن عبدالله بكير النسخة الخطية ص (14) .
قرية "الصداع" ، وأقام لطلب العلم لديه نحواً من خمسة عشر عاماً، قرأ خلالها عدداً من الفنون حتى تقدم على أقرانه وأصبح شيخه يوكل إليه بعض المهام؛ من تعليم طلاب وإمامة مسجد وردٍ على فتاوى) [1].
ثم انتقل إلى رباط الغيل فترة، ثم ارتحل إلى بلاد الصومال "جيبوتي" و "مقديشو" مرتين لتحصيل العلم ولقمة العيش معاً، وهناك التقى ببعض علماء الأزهر [2]، ثم عاد واستقر إماماً لمسجد النور بالقارة، وقد حصل من العلم حظاً كبيراً مكَّنَه من أن يكون مرجعاً لمجتمعه الصغير، عليه يعرضون أسئلتهم وإليه يرجعون في حل مشاكلهم، ويراجعونه فيما يقع لهم من قضايا، ومنها ما قد يصدر لهم أو عليهم من أحكام قضائية وفتاوى شرعية، فكان يعلق عليها بما يراه الحق، وبذلك انتشر خبره وسار ذكره حتى وصل (مجالس العلماء ودخل مكاتب الحكام واستمع إلى آرائه الوزراء والسلاطين، فتوجهت إليه الأنظار ترقبه وتراقبه) [3]، (وبالإضافة إلى قوة عارضته الفقهية في المناظرات الشفوية والكتابية، مما أكسبه سمعة علمية طيبة، وحنكة في معالجة القضايا الفقهية، وإبراز خفاياها ودقائقها .. بالإضافة إلى ذلك كان صريحاً في الحق لايماري ولايداري، نزيهاً لا تمتد عينه إلى متع غيره، محارباً للبدع أياً كان القائم بها، لاتأخذه في الله لومة لائم، فقد كتب الرسائل وألقى الخطب، وكاتب من يتوسم فيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشنعاًعلى كثير من البدع التي تعمل باسم الدين، وأظهر وأبان وجه الحق في كثير مما يُتخذ تحت شعار الدين، بينما هو في حقيقته باطل وجاهلي فألَّف من بين ماألَّف:
(1) المصدر السابق ص (26 - 28) .
(2) القضاء في حضرموت ص (28 - 29) .
(3) المصدر السابق ص (31 - 32) .
1) مثالب المزار: وهي رسالة في منكرات زيارات القبور. وأن زيارة القبور مشروعة كما شرعها الدين الإسلامي، وبغير ذلك تعتبر منكراً يجب إنكاره وتجب إزالته وتغييره.
2) تطهير الفؤاد من سيّء الاعتقاد: وهي رسالة توضح كثيراً من المعتقدات الفاسدة الشائعة في الجهة سواء كانت مما يتعلق بالموتى أو بالأحياء أو بالجمادات أحياناً، ومايفعل باسم كبراء الجن، كما يقول أرباب تلك المعتقدات.
3) الدفوف في المساجد: وتلك رسالة أوضح فيها حكم ضرب الدفوف في بيوت الله التي يجب أن تُنَزَّه عن مثل هذه المعازف والملاهي، ولقد ترسم فيها طريقة السلف الذين سبقوه وعنهم نقل مانقل) [1].كان هذا من الشيخ رحمه الله في عهد اشتدت فيه الخصومات بين الإرشاديين والعلويين في مهجرهم في أندونيسيا وسنغافورة، وألقت تلك الصراعات بظلالها على الوطن، وأصبح مَن يصنف أنه مِن الإرشاديين أو يتهم بذلك منبوذاً، بل مُعرّضاً لأنواع من الأذى، ولذلك فقد اتهم بالإرشادية كما اتهم بالوهابية، وإن لم يكن كما يقول ابنه الشيخ عبدالرحمن ملتزماً لواحدة من الطائفتين، بل قد يؤديه اجتهاده إلى موافقته إحداهما في أمور ومخالفتها في أمور أخرى، ولكن الإرهاب الفكري الكبير الذي كان يمارس لايرضى بأنصاف الحلول ولا يعرف للاجتهاد معنى، "وإنما كُن معنا أوأنت ضدنا" ، ولكن الشيخ - رحمه الله - ما بالى بذلك بل صمد في وجه كل تلك الزوابع، ولكن لما شاع عن الشيخ من سعة في العلم وبصيرة في الرأي ونزاهة في المعاملة وعدل في الخصومة وقوة في الموقف، كل ذلك أرغم معاصريه على احترامه، وحَمَل المسؤولين على أن يخطبوا وده، وأن يطالبوه بتحمل مسؤولية القضاء الشرعي، والقرب من السلطان للاستفادة منه في الرأي والمشورة، وقد نفر من ذاك بادئ الأمر، ولكنه
(1) المصدر السابق ص (32 - 33) .
رضخ له بعد إلحاح وبعد تأمل في المصالح والمفاسد، ودخل سلك القضاء وتدرج فيه بعد أن عُرف عدله ونزاهته وقوة إدراكه ونفوذ بصره حتى أصبح رئيس القضاء، وعضو مجلس الدولة، ولقد قام من خلال منصبه ذلك بإصلاحات قضائية وإدارية جبارة، سبق بها عصره وتفردت بها حضرموت عن سائر البلدان المجاورة، كما أصلح القضاء وطوره وحافظ على تحكيم الشريعة، فإن له بصمة أخرى عظيمة هي رئاسة لجنة الشؤون الدينية والتي كان من مهامها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراقبة الآداب الإسلامية، والدعوةإليها، والتنفير من كل مفسدة خلقية، والدعوة إلى السنة ومحاربة البدع في الدين) [1]، (فحاربت من البدع ما حاربت ونجحت ولاحقت من المفاسد الخلقية ما لاحقت وأصلحت) [2]،ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثقيل على أصحاب الشهوات، ومحاربة البدع شديد على أرباب الهوى والشبهات، وإلغاء بعض ما في البدع والزيارات البدعية مضر بالسدنة ومن يجنون من ورائها أنواع الثمرات، وحرك إبليس جنده؛ فحوربت هذه اللجنة من قبل أشخاص لهم في البدع والمحافظة عليها قَدَمُ راسخ، أَوْلَهُم في طقوس هذه البدع مصالح مادية ومصالح روحية، بل إن لهم في البدع مصالح رهيبة، وهي في نفس الوقت تمثل المخدِّر العام للشعب كي ينصرف عنهم ولايلاحقهم في بدعهم وأهوائهم، وبالمحافظة عليها وباستمرارها سيكون الشعب متلهيا بها منصرفاً إليها، غير متطلع لمستقبل، ولا عابئ بحاضر، كيف لا وهي تملأ أكثر أيام العام، ولاتنتهي مناسبة بدعة حتى تبدأ مناسبة جديدة لأخرى، ويتبع هذه البدع من المفاسد والمناكر والمحرمات مايندي له جبين الدين ويتصبب له عرقاً وجه الأخلاق ... بل وتتبعها مفاسد اجتماعية تصل إلى حد التفريق بين الزوج وزوجه، والابن وأبيه.
(1) القضاء في حضرموت ص (183) .
(2) المصدر السابق ص (183) .
وما أكثر البدع اليوم وما أكثر مروِّجيها والمغشوشين بها، وأشدها شؤماً وأكثرها لؤماً؛ هو بدعة مايسمى بالزيارات لما يؤتى فيها من المنكرات، والصد عن دين الله بعبادات أعمق جاهلية؛ لأنها
باسم. [1] تقام وباسم الدين تتحدث. والزيارات بدعة في الدين، وبدعة في حضرموت، وبحسبك أن تعلم أنها لاتستند لسند في العادات والتقاليد حضرمي أصيل.
وقدكان للجنة الشؤون الدينية في عهد السلطان صالح مع هذه البدعة بصورة خاصة، مواقف خاصة، مما جعل السلطان عليه - رحمة الله - اقتناعاً منه بمضارها، يوقفها ويأمر بإلغاء طقوسها ومراسمها أياً كانت، ولكن القوم - هداهم الله - وغفر لهم ولنا، أعلنوا عدم تمسكهم بدينهم إذا كان يقف في طريق ما ألفوه، وأنت عليم بما يترتب على هذا من حكم شرعي) [2].
وقد أخبرني أحد معاصري الشيخ رحمه الله، أنه منع الحضرة التي كانت تقام عند القبر الذي تحت مسجد عمر ويسمى قبر "علوية" أيام وجوده في القضاء، وأقفل المكان وعزم على تأجيره مستودعات أو نحو ذلك، ولكنه لم يتمكن من تأجيره، وإنما بقي مقفلاً مدة طويلة، ولكن بعد وفاته أعيد فتحه وأعيدت الحضرة التي تعمل له، وهاهو اليوم وصمة عار على جبين المكلا وأهل المكلا، وبقعة سوداء يطالعها كل من يزور هذه المدينة من الغرباء، فيحكم على أهلها الطيبين محبي السنة أنهم من المخرفين والخاضعين لسلطان الدجل والشعوذة ولامنكر، بل المنكرون كثير ولكن من يستجيب لهم؟؟
كما أنه كان قد أبطل الحضرة التي كانت تقام في مسجد الروضة بالمكلا، وقد أعادها القبوريون هذه الأيام، وكما كان الشيخ رحمه الله عالماً وقاضياً ومصلحاً؛ كان كذلك شاعراً وأديباً مرهف الحس قوي
(1) كذا في الأصل.
(2) القضاء في حضرموت ص (183 - 184) .
العارضة، وبعد عمر طويل قضاه في التعلم والتعليم والإصلاح، انتقل إلى رحمة ربه في يوم الاثنين السابع عشر من جمادى الثانية عام ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعين للهجرة؛ رحمه الله رحمة واسعة، وقد ترجمه الأستاذ سعيد عوض باوزير في الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي [1].
(4) آثاره في محاربة القبورية:
كما سبق فإن للشيخ ثلاثة آثار في مواجهة القبورية وسيكون الكلام هنا عن اثنين منها، وأما الثالث فسأذكره مع قائمة المؤلفات المفردة لأهل حضرموت.
الأثر الأول: هو "رفع الخمار عن مثالب المزار" وهو عبارة عن رسالة صغيرة أجاب فيها فضيلته على سؤال من محب كما يقول؛ بعد أن تردد في الإجابة عليه لما في زمانه من الانتكاس ثم عزم فأجاب وأجاد وبين أن المزار المعروف في الجهة، أي جهة حضرموت، محرم لأنه يشتمل على جملة من المفاسد العقدية والاخلاقية، وقد أورد جانباً من الأحاديث الناهية عن الابتداع وطبقها على هذه الزيارات، ثم ذكر أنواعاً من المفاسد الأخلاقية مثل الاختلاط بين الرجال والنساء والذي قد تصل نتائجه إلى الزنا وقد يحصل اللواط كذلك، مع ما فيها من الملاهي التي هي مقصد أكثر الزوار وليس مقصدهم الاعتبار وتذكر الموت، وقد شن حملة على من يحضرها من المتزيين بزي العلم مع سكوتهم على تلك المناكر وقال: (إنهم أشرار لا أخيار) ، وأجاب على شبهة يطرحها البعض وهي: أن هناك خيراً في هذه الزيارات، مثل الموالد التي تقام فيها والمواعظ، فأبان أن الموالد هنا لا تكون مشروعة أصلاً، ولو فرض أنها سائغة لكان الواجب تنزيهها عن هذه الأماكن التي يظهر فيها الفساد عياناً، وعلى افتراض أن في ذلك شيئاً من الخير؛ فإنه قليل لايساوي ما فيها من الشر.
(1) الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي ص (181 - 183) تأليف سعيد عوض باوزير 1381 هـ -1961 م.
ثم ذكر داهية من دواهي المخرفين التي لقنوها العوام وهي: اعتقاد بعضهم (أن من حضر سبع مرات عند قبرٍ؛ على مثل تلك الحال فكأنما حج البيت الحرام) قال: (وهذا عين المحادة لله بل ربما كان كفر) [1].
وقد كانت عاطفة الشيخ وغيرته بادية واضحة، وحرقته على ما يفعل قومه قوية بارزة، فها هو يصل به الانفعال إلى أن يقول: (وبعض الجهلة يوقِف على مثل هذه الجرائم وقائف، ويجعلها باسم المقام، ولاشك أن مثل هذا المقام، مقام أئمة النار فيحرم الوقف عليه، وتحرم الصدقة، لكون ذلك إعانة على المعصية، ولاتجوز الإعانة على مثل ذلك، فمن أعان فيه بشيء فهو من جملة العاصين الممقوتين) [2].
والرسالة لم تتعرض لبعض الأشياء المهمة الحاصلة في تلك الزيارات، ومنها الاعتقادات الباطلة والأعمال الشركية، وليس ذلك لأن الشيخ لايرى ذلك من المخالفات ففي الأثر الثاني سيظهر قوله فيها ولكن الذي يظهر أن الرسالة مبتورة أوضائع منها بعض الأوراق، ويشهد لذلك قول ابنه الشيخ "عبدالرحمن بكير" في خاتمة الرسالة: (انتهى ما وجدناه بخط الوالد وبقلمه، عليه رحمة الله، وربما كان للموضوع بقية فلنحتفظ بالموجود ولنبحث عن المفقود، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه) [3].
أما الأثر الثاني: للشيخ بكير فهو "تطهير الفؤاد من سيء الإعتقاد" ، وهي رسالة صغيرة لازالت مخطوطة، اطلعت عليها بخط ابن المؤلف الشيخ عبد الرحمن عبد الله بكير، نسخها من خط والده،
(1) رفع الخمار ص (25 - 26) .
(2) المصدر السابق في نفس الموضع.
(3) المصدرالسابق ص (32) .
وفرغ من نسخها يوم (24) من شهر شعبان عام (1391 هـ) ، وقد كان الشيخ عبد الله رحمه الله كتبها عام (1343 هـ) ، وتقع في حوالي (40) صفحة، بدأها بعد المقدمة بتعريف الإيمان ثم التأكيد على الإيمان بالقضاء والقدر، ثم عنون (وجوب الاعتماد على الله وحده) وأورد تحت هذا العنوان الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، ثم ثنّى بـ (لايجوز سؤال غير الله ولا دعاؤه) وأورد كذلك ما في الباب من الآيات والأحاديث واستمر على هذا المنوال يبرز العنوان المناسب ثم يسوق تحته من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم ويعلق على ذلك بما يناسبه، ومما يؤكد حرقته وغيرته على التوحيد والاتباع كثرة شكواه من المتزيين بزي أهل العلم الذين يرون المنكر فلا ينكرونه، بل يشارك بعضهم فيه، والبعض الآخر يُري العامة طريق الابتداع ويحثهم عليه.
وكان من عناوين هذه الرسالة غير ما ذكر: (من يتوكل على الله فهو حسبه) [1]، و (الاستعانة لا تكون إلا بالله) [2]، و (دعاء غير الله شرك) [3]، و (ألفاظ شركية تلفظها العامة) [4]، و (اعتقادات شركية تعتقدها العامة) [5]، و (يجب التحذير من كل ما يجر إلى الشرك) [6]، و (وجوب تصحيح الاعتقاد وتصفية الباطن) [7]، واستمر متعرضاً للعلماء المفتونين، ثم انتقل إلى البدع وركز على بدعة الحضرات التي تقام في المساجد وغيرها، وما يصاحبها من دعوات شركية مع السماع الصوفي واستخدام الدفوف في المساجد، كما أخذ يكرر العناوين الدالة على كفر وشرك من يدعو غير الله وأن ذلك من الكفر
(1) تطهير الفؤاد من سيء الاعتقاد مخطوط ص (4) .
(2) المصدر السابق ص (6) .
(3) المصدر السابق ص (7) .
(4) المصدر السابق ص (8) .
(5) المصدر السابق ص (8) .
(6) المصدر السابق ص (9) .
(7) المصدر السابق ص (9) .
الصريح، كما فرق بين التوسل والدعاء، وذكر أن التوسل مشروع عند أهل السنة والجماعة كما جاء في الأحاديث الصحيحة لكن ينبغي الدخول من بابه) [1]، وبين دعاء غير الله الذي عبر عنه بأنه إحداث دين لم يكن، ثم عاد ليقرر أن المبتدعين جهلة غير مؤتمنين على الشريعة [2]، وبعده تعرض لبداية عبادة الأصنام وأنها كانت بسبب الغلو في الصالحين، ثم عنون (البدع في الدين ابتداءً وسيلة من وسائل الشرك انتهاءاً) [3]، وهكذا يمضي مع البدع ليقول: (نهي الإسلام عن البدع حسم لوسائل الشرك) [4]، و (جميع بدع القبور منافية للدين) [5]، ثم ذكر أن الفعل المفضي إلى المفسدة ممنوع، ثم يأتي للقوم من الباب الذي لايستطيعون سده فيقول: (مع الشيخ ابن حجر في بدع القبور) [6]، ومن المعلوم أن ابن حجر المكي هو عمدتهم في الفقه، وبعد ذلك يعنون: الصلاة عند القبور والوقف والنذر عليها أو لها) [7]، ويواصل تحت هذا العنوان النقل عن ابن حجر، ثم يحذر من الحلف بغير الله وأنه من الشرك أو الكفر به، ثم يتعرض لفعل الموالد عند القبور لإنه إذا منعت الصلاة عندها مع أن المصلي لا يقصد إلا الله وحده وإنما يخشى من أن يجره التبرك بذلك القبر إلى الشرك، فإن الموالد أولى من ذلك لإنها إنما أقيمت للتبرك بصاحب القبر وتعظيمه [8]، ثم يختم بنقد الزيارات القبورية وقد سبق تفصيل رأيه في ذلك عند الكلام على "رفع الخمار عن مثالب المزار" ،ويطيل حتى ينهي الرسالة بذلك.
(1) المصدر السابق ص (16) .
(2) المصدر السابق ص (18) .
(3) المصدر السابق ص (21) .
(4) المصدر السابق ص (22) .
(5) تطهير الفؤاد ص (23) .
(6) تطهير الفؤاد ص (25) .
(7) المصدر السابق ص (29) .
(8) المصدر السابق ص (32)
بقي شيءٌ لفت نظري وهو نقده على من نسب كثيراً من البدع القبورية للسيد علي بن محمد الحبشي، واعتباره غير راض عن ذلك لما عرف عنه من العلم والورع والتمسك بما كان عليه سلفه من علماء آل باعلوي بحضرموت، وهذا إحسان ظن من الشيخ بالسيد علي المذكور، ربما لأنه لم يطلع على كتاب "كنوز السعادة الأبدية" والذي جمعه أحد طلاب علي الحبشي من كلامه، والذي يحوي من الخرافات ما لامزيد عليه، وكذلك نقل بعض صور القبورية والعقائد الضالة على وجه الاستحسان، بل في معرض التعليم للناس والحث على تلك البدع والأعمال والعقائد.
ظني والله أعلم أن الشيخ عبد الله لو اطلع على هذا الكلام لغيّر رأيه، ولم يدافع هذا الدفاع الكبير عن علي حبشي والله أعلم.
المؤلفات المفردة في الرد على القبورية لعلماء حضرموت:
1) العلامة الشيخ محمد بن عمر العماري وله رسالتان في مواجهة القبورية إحداهما "فتوى حول الاستغاثة بغير الله" مطبوعة وهي رسالة قصيرة، والثانية رسالة بعنوان "دق بالمسمار على الضاربين بالطار أو نصيحة وإنذار" وموضوعها الاعتراض على السماع الصوفي أو مايسمى عندنا في حضرموت "الحضرات" في المساجد والمشاهد.
2) العلامة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بكير عضو هيئة الافتاء الشرعية، من المعاصرين حفظه الله وله رسالة بعنوان: "شن الحروب على مقبرة الشيخ يعقوب" وهي رسالة كان الباعث عليها الهجمة الوقحة التي شنها رجال ومسؤولو الجبهة القومية أيام حكمها على مقابر المسلمين ودكها للبناء عليها وتمرير الطرق فيها دون مبرر، وقد تعرض فيها للزيارات الشرعية والبدعية.
2) العلامة الشيخ الفقيه أبوبكر أحمد بن عبدالله الخطيب الأنصاري التريمي الحضرمي الشافعي المتوفى سنة (1356 هـ) ،له رسالة صغيرة اسمها: "نصيحة الإخوان عن إتيان السحرة والكهنة وأهل الجان" توجد ضمن مجموع فتاواه المسمى "الفتاوى النافعة في مسائل الأحوال الواقعة" جمع سالم بن حفيظ ابن عبدالله بن حسين بن الشيخ أبي بكر بن سالم، من (301 - 321) من ذلك المجموع.
الفصل الثاني تعظيم القبور
Bab Dua: Pemujaan Makam
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول
اعتقادهم تعظيم قبور مخصوصة
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: اعتقادهم تعظيم وبركة مقابر مخصوصة:
منذ أن بدأ المتصوفة تعلقهم بالقبور وقالوا قولتهم المشهورة: (قبر معروف الكرخي الترياق المجرب) وهم يتوسعون في الانحراف، ويتيهون في الضلال، ويضيفون الجديد من الدجل والخرافة، ينسبون بهما الفضائل والفواضل إلى قبور أوليائهم، فحيناً تعم البركة مقابر بأكملها، وحيناً تخص قبوراً معينة، وهناك مقابر قد عممَّ قبورية اليمن البركات عليها وأعطوها القداسة والتعظيم.
فمن تلك المقابر مقبرة المِسْدَارة بقرية المخادر محافظة إب، قال الجندي في ترجمة علي بن أبي بكر التباعي: (وقبره بمقبرة المخادر وتعرف بالمسدارة بخفض الميم بعد ألف ولام وسكون السين المهملة وفتح الدال المهملة ثم ألف ثم راء مفتوحة ثم هاء، وهي من المقابر المشهورة بالبركة، إذ رأى بعض الصالحين النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في طرفها يزور، وجماعة يسألونه الشفاعة فقال هذا خاتمي ذمام على أهل المسدارة من النار ولما كان مستفيضاً لم يكد أحد من أهل القرية ونواحيها يحب أن يقبر إلا فيها تعلقاً
بهذا الأثر) [1]، فانظر إلى هذه الرؤيا كيف أثرت في الناس فصدقوها وعملوا بمقتضاها، حتى إن أهل تلك النواحي لا يقبرون إلا فيها.
ومنها مقبرة الكثيب الأبيض بأبين، قال اليافعي: (وهو كثيب يزوره أهل تلك البلاد وما حولها من البلدان في كل سنة في وقت معلوم في رجب ... ويقال في ذلك المكان قبور بعض الصالحين) [2].
وقد ذكره كذلك الجندي بشيء من البسط فقال: (وقد تطلع النفوس إلى خبر الكثيب: أما الشأن فيه فهو موضع في أبين عدن وهو أحد المواضع المباركة في اليمن على ما ذكر الثقة فيما رواه الرازي مقدم الذكر أن في اليمن أربعة مواضع مباركة بالاتفاق منها الكثيب الأبيض عند وادي يرامس أرض أبين، ومنها الجند، ومنها زبيد، ومنها نجران، ولم يزل الناس ينتابون الكثيب لاسيما في رجب ويجتمعون فيه ليلة سبع وعشرين من الشهر ويزعمون أنها سنة العلماء المتقدمين [3]، سُئل بعض فقهاء تلك الناحية من المتأخرين هل يذكر شيئاً من فضله؟ فقال: لا أعلم إلا أني رأيت وسمعت الإجماع منعقد على قصده وزيارته وما يكون مجاناً عن باطل) . [4]
ومنها مقابر تريم الثلاث: زنبل، والفريط، وأكدر والتي يجمعها اسم شامل هو "بشار" للثلاث التُربَ، وهذه المقابر قد بلغ فيها الغلو مبلغاً لم تبلغه أي مقبرة أخرى في اليمن، واسمع إلى فضلها من مؤرخ القوم وناشر مناقبهم وفضائلهم بغثها وسمينها وعُجرها وبُجرها المؤرخ الشلي في مشرعه: (وأما مقابر مدينة تريم فأعظمها وأحقها بالتقديم مقبرة "زَنْبَل" بفتح الزاي وسكون النون وفتح الموحدة
(1) السلوك (2/ 183) ، وطبقات الخواص ص (212) .
(2) مرآة الجنان (4/ 354) .
(3) في الأصل. المتقدمون وهو خطأ.
(4) السلوك (2/ 615) .
آخرها لام، وهي مقبرة السادة الأشراف وفيها من العلماء العاملين والأولياء والصالحين ما لا يحصى، وكان الشيخ عبدالرحمن السقاف يقول: "فيها من أكبر الأولياء أكثر من عشرة آلا ف وفيها ثمانون قطباً من الأشراف" ، ونحو ذلك حكى عن الشيخ الولي سعد بن علي، ويقال أن فيها عصبة من الصحابة - رضي الله عنهم - أرسلهم الصديق الأكبر - رضي الله عنه - لقتال أهل الردة مع زياد بن عبيد [1] الأنصاري فمات كثيرون منهم بتريم ولم نعرف قبورهم، لكن حكى عن الشيخ عبدالرحمن السقاف أنه قال: إن قبورهم شرقى قبر الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم بنحو رمية حجر، وذلك بقرب مشهد العارف بالله أبي بكر باشميلة - رضي الله عنه - ونفعنا بهم، (وبالجملة) فهي بقعة تأرجت بطيب تربها وأشرقت أرضها بنور ربها.
(الثانية) مقبرة الفريط تصغير فرط وهو كما في القاموس: الجبل الصغير أو رأس الاكمة والعلم المستقيم يهتدي به جمعه أفرط وأفراط سميت باسم الجبل الذي بقربها وهى مقبرة آل بافضل والخطباء وغيرهم من مشايخ تلك الجهة، وفيها أيضاً من العلماء والفضلاء والأولياء ما لا يحصى وحكى عن الشيخ عبدالرحمن السقاف أن فيها أكثر من عشرة آلاف ولى وقد شاهد كثير من أهل الكشف أن الرحمة أول ما تنزل من السماء على هذه المقبرة ثم تعم سائر الجهات.
وحكى عن عبدالرحمن السقاف وحكاه السيد الجليل عبد [2] بن أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن الأستاذ الأعظم عن بعض مشايخه بمكة أنهما قالا: إن تحت الفريط الأحمر روضة من رياض الجنة، وحكى عن غير واحد من الأولياء أنه شاهد نوراً ساطعاً على قبور الخطباء لاحقا بعنان السماء، وعن الشيخ حسن الورع بن علي أنه قال: من نظر منارة الجامع والفريط حتى سفر [3] عليه لم يكتب
(1) كذا في الأصل والمعروف زياد بن لبيد.
(2) كذا في الأصل.
(3) كذا في الأصل.
عليه ذنب، وكان بعض الأولياء العارفين يقول: من وقع ظل الفريط عليه لم تمسه النار؛ ولأجل هذا يحرص أهل البلدان على أن تكون مقابرهم حذاء الفريط المذكور حيث يقع ظله عليها.
(الثالثة) مقبرة أَكْدَر بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح المهملة فراء، وتسمى هذه المقابر الثلاث "بشَّار" بفتح الموحدة وتشديد المعجمة آخره راء وهو اسم الواقف، لها وهذه المجنات مشهورة بالبركات في كل واحدة منها جم غفير من الأولياء العارفين ظاهرين ومستورين، من آل بصرى وجديد وعلوي، ومن آل بافضل، والخطباء، وآل باحرمي، وآل بامحسون، وآل بامروان، وآل باعيسى، وآل باعبيد، وغيرهم، إلا أن كثيرا منهم لا يعرف عين قبره بل ولا جهته؛ لأن المتقدمين كانوا يجتنبون البناء والكتابة على القبور وإنما استحسنه المتأخرون لأمور منها: أن يعرف الميت هل بُلي أو لا؟ لأن المشهور عندهم أن الميت لا يبلى إلا بعد أربعين سنة أو نحوها، ومنها أن يعرف صاحب القبر ليزار، ويتبرك به، ويدفن عنده أقاربه، ونحو ذلك من المقاصد الحسنة، وكان الشيخ محمد بن أفلح يقول: مِنْ مسجد عبد الله بن يماني إلى آخر زنبل كلها قبور، ومن ثم يقع لكثير من المشايخ أنه يخلع نعليه إذا جاوز المسجد المذكور، وقد كان كثير من أهل الكشف يشاهدون البركات الظاهرة والأنوار الباهرة في هذه الجنان، وشاهد غير واحد منهم أنهم على غاية من النعيم والنور الجسيم، ورأى جماعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورهم، وكذا الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وحكي أن الشيخ أبا سعيد قرأ سورة هود فلما بلغ قوله تعالى: {فمنهم شقي وسعيد} [1]، جعل يردد الآية ويتفكر، ثم قال يأهل القبور ليت شعري من الشقي منكم ومن السعيد؟ فأجابه الإمام العارف بالله تعالى أحمد بن محمد
(1) هود (105) .
بافضل من قبره بقوله: أمض يا سعيد في قراءتك ليس فينا شقي، وقيل إن الذي أجابه هو الشيخ مسعود بن يحيى باحرمي ولعل الواقعة تعددت.
وحكى عن الشيخ الزاهد الورع السيد حسن بن علي، وكان من أهل الكشف أنه قال: سأل رجل من أهل الفريط رجلاً من أهل زنبل عن أهل مقبرته فقال: خيلنا تحمل رجلنا، وسأله عن أهل مقبرته فقال: زنادقتنا [1] حشو جنتنا.
وللشيخ الإمام علي بن أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف:
وكم بدور بذاك الحي قد برزت تمد زوارها من فيضها الزخر
وكم عز بيته الأسرار قد غمرت بفضل هطالها الزوار كالمطر
وذات دن دنت ترمي يحس بها زوارها في سواد الليل والسحر
وذات أكدر للأكدار مجلية تشفى بمرهمها الزوار عن ضرر
وارجع إلى ذكر وتوحيد ومعرفة خصوا بها صفوة صُفُّوا عن الكدر
وامنحوا من عظيم الفضل كم منح وكم عطايا وكم جود وكم غمر
وكم حقائق توحيد لها وهبوا وكم جواهر أنوار وكم درر
وكم مواقيت أسرار ومعرفة وكم تماكين تصريف وكم قدر
شيوخنا في بحار من حقائقها قد مكنوا الكل بالأسرار والسير
حظوا وخصوا بجاه لا يحد له وسع ولافضلهم يحصى بمستطر
رسوخ أقدامهم يحكي رواسيها أسود نهام تحمي الجار عن ضرر
(1) زنادقتنا هنا ليس على أصلها المعروف عند العلماء ولكن المقصود الظرفاء والمهرّجون.
بحور علم شموس في دياجرها تهدي الضوائل والسلاك في السفر
أئمة الدين آل المصطفى فلهم مكارم عدها يربو على الزهر
وراث طه على التحقيق أن لهم محاسن أدهشت الباب ذي الفكر
أولو الصفا والوفا أجناد خالقهم أولو العبودة حقاً صفوة البشر
هم عمدة الكون أحبار العلوم بهم باهى المهيمن للأملاك في الخبر
فلا مزيد على مدح الإله لهم وذكره فضلهم في الآي والسور
فالقحط عنا مع البلوى يزال بهم أيضاً وفي الجدب نسقي وابل المطر
وهم بدور لنا في كل مظلمة وهم لنا عمدة في اليسر والعسر
قوم إلى الله طاروا عن هياكلهم حق دنوا من رياض القدس والقدر
أهل التقى والنقى طابت مغارسهم فأينعت بثمار القصد والظفر
فحسِّن الظن واعتمد يا أخي بهم كي في معاد تفز بالأمن والوطر
واقصد رضى الله في الدنيا بحرمتهم لعل تحظى بحور الخلد والظفر
وقال الشيخ أبو بكر بن عبدالله العيدروس:
في جنان بشَّار خيامهم قد طنبت والأخدار
وكم بها من أقمار [1] تلألأت أنوارهم بالأقطار
وقال: ولم يزل عني الكد ر إلا إذا زرت آل أكدر
وأهل الفريط المشتهر وقبر الشيخ المنور
(1) في الأصل "قمار" .
العيدروس بحر الدرر ليث الضراغيم الغضنفر [1]
فانظر إلى هذه الخصائص والفضائل وما جعل فيها من كرامات ينالها الزوار ويحصل عليها الراغبون، أفلا يحمل ذلك ضعاف العقول على التعلق بهذه المقابر ومَنْ فيها واعتقاد النفع والضر فيهم؟.
وغير مقابر تريم هناك مقابر أخرى في حضرموت مباركة مجربة - هكذا يزعمون -، يقول الشلي: (والمقابر المشهورة في حضرموت أربع: مقبرة تريم، ومقبرة شبام، ومقبرة الهجرين، ومقبرة الغيل الأسفل) [2].
المطلب الثاني: اعتقاد بركة قبور معينة بركة عامة:
لن أستطيع ولن يستطيع أي باحث حصر وإحصاء القبور التي أطُلِْق عليها المدح والثناء، ونسبت إليها البركات، وما يضئ منها من الأنوار، وما يفوح منها من الروائح العطرية والمسكية، وما يتحقق لزائرها من الأنس والارتباط، ثم نجاح الحاجات وتفريج الكربات، إن إحصاء ذلك أمر غير متيسر قطعاً ولكنني سأكتفي بذكر بعض ذلك ومن أماكن متفرقة من اليمن.
وأول تلك الأماكن "زبيد" فقد ذُكر عن كثير ممن قُبِرَ بها من الصالحين الثناء على قبره ونسبة الكثير من الفضائل إليه، وأكثر ما ذكر من ذلك عن قبور بمقبرة "باب سهام" ، ومقدمو تلك المقبرة سبعة نفر، قال الشرجي في ترجمة إبراهيم الفشلي: (وقُبره بمقبرة باب سهام، من مدينة زبيد من القبور المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك، وهو أشهر السبعة الذين يعتقد أهل زبيد أن من زارهم سبعة أيام متوالية قضيت حاجته، وهم هذا الفقيه إبراهيم والشيخ أحمد الصياد، والفقيه عمر بن رشيد، والشيخ مرزوق بن حسن، والشيخ علي بن أفلح، والشيخ علي المرتضى، وفي السابع اختلاف، فمن الناس
(1) المشرع (1/ 146 - 148) .
(2) المشرع (1/ 148) .
من يجعله أحد بني عقامه ومنهم من يجعله الشيخ أحمد المعترض، ومنهم من يقول غير ذلك، والله أعلم) [1].
وقد نظم هؤلاء السبعة بعضهم فقال:
بباب سهام سبعة من مشايخ لقاصدهم ذخر وكنز لمقلل
فيونس إبراهيم مرزوق جبرتي [2] وأفلح صياد كذا ابن الرضى علي
زيارتهم نجح لكل حوائج وفي الخلد سكنى للذى زار مقبل [3]
ولأن هذه مفخرة عند القوم لمدينة زبيد قد تسمو بها على غيرها من المدن لم يرتضِ أهل تريم ذلك، بل عارضوهم بذكر ما في مقابر تريم من فضائل وفضلاء، قال الشلي بعد أن نقل تلك الأبيات: (فعارضه الإمام مبدي العلوم الغريبة والأخبار العجيبة الشيخ على بن أبي بكر فقال:
تريم بها منهم ألوف عديدة بساحة بشار شموس الورى قبل
زيارة كل منهم صح أنها لما شئت من جلب ودفع تحصل
وإن قيل ترياق ببغداد جربا ففي ربع بشار شفا كل معضل
ويا حبذا ذاك الفريط وظله فكم قد حوى من كامل السر منهل
فكم معدن كم مورد كم معظم وكم حبر تحقيق وشيخ مدلل
وبلبل قلبي نفح مسك بزنبل بها من كنوز السر كم من مجلل
وكم جهبذ فيها بنوا كدر بها بهم ينزل الله الغيوث لممحل
(1) طبقات الخواص ص (45) .
(2) كذا في الأصل ولست أدري من يعني.
(3) المشرع (1/ 148) وقد اختلفت بعض الأسماء ولا أراه يضر إذ المقصود إثبات العقائد الضالة في ذلك وليس تعيين الأسماء.
فلا تحتقرها رب أشعث خامل سما سره فضلا على كل معضل) [1]
وإليك بعض القبور المفردة التي ذكرت لها بعض البركات والأسرار وتعلق بها الناس واعتقدوا فيها العقائد الضالة:
ومن مدنية زبيد أيضاً: قال الشرجي: (ومن ذلك رجل بمقبرة باب النخل يقال له المُلَبّك، بضم الميم وفتح اللام وتشديد الباء الموحدة وآخره كاف، ما كان يعرف ولا سمعنا به إلا في هذا الزمان، ذكر رجل من عوام أهل زبيد أنه نبهه عليه إنسان وهو في المنام وقال له: إن صاحب هذا القبر من الأولياء وإن من لازمه في حاجة قضيت، وشاع هذا في أهل البلد، حتى صار لهم فيه معتقد عظيم، يزورونه ويتبركون به، لاسيما العوام والنساء فإنهم يخرجون في ذلك عن الحد) [2].
وكذلك يقول الشرجي في ترجمة عثمان بن أبي القاسم بن أحمد بن إقبال: (وقبره هنالك مشهور يزار ويتبرك به) ، ثم ترجم لولد له وقال في آخر ترجمته: (ودفن عند والده وقبره يزار، ويتبرك به، على تربتهم أنس ظاهر وبركة) [3]، وفي ترجمةإسماعيل بن إبراهيم الجبرتي قال: (ودفن بمقبرة باب سهام من مدينة زبيد، وله هنالك مشهد عظيم لم يكن في تلك المقبرة أعظم منه، عليه أثر النور والبركة ظاهر) . [4]
نماذج من القبور المعظّمة في محافظة تعز:
(1) المشرع ص (1/ 148) .
(2) الطبقات ص (418) .
(3) المصدر السابق ص (195) .
(4) المصدر السابق ص (106) .
قال الشرجي في ترجمة أحمد بن علوان: (ودفن في قريته قرية "يَفْرُس" بفتح الياء المثناة من تحت وسكون الفاء وضم الراء وآخره سين مهملة، وهي على نحو مرحلة من مدينة تعز، وقبره بها ظاهر معروف مقصود للزيارة والتبرك من الأماكن البعيدة لا سيما في آخر جمعة من شهر رجب، فإن أهل تلك النواحي يقصدونه من كل موضع، أهل تعز وغيرهم، ويخرجون بالنساء والأولاد، وقرية الشيخ المذكور محترمة، ومن استجار بها لا يقدر أحد أن يناله بمكروه) [1].
وفي ترجمة الفقيه الإمام زيد بن عبدالله اليفاعي قال الشرجي: (وقبره بالمقبرة القريبة من مدينة الجند مشهور مقصود للزيارة والتبرك، قال الجندي: "لم أرَ في اليمن تربة تتجدد معرفتها ويكثر زوارها كتربة الفقيه زيد، ولا تكاد تخلو تربته من زائر، وقلما قصدها ذو حاجة إلا قضيت حاجته، قال: ولقد أخبرني جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب بأخبار يطول شرحها في ذلك نفع الله به وبسلفه آمين" ) [2].
قلت: هل يقصد الجندي أن ذلك متواتر بالمعنى الاصطلاحي إن كان كذلك فممن أخذ هذا الجمع؟ إنه في الغالب عن جماعة من تجار الخرافة والكرامات.
وفي ترجمة أبي عبدالله محمد بن ظفر الشميري قال الجندي: (وقد بلغتُ تربته قاصداً للزيارة، فأقمت عنده أياماً وإلى جنبه قبر امرأته المذكورة، قال: وببركته لم تزل تربته محترمة ما قصدها أحد بسوء إلا خذله الله تعالى، ولم أجد بتلك الناحية مزاراً أكثر من تربته قصداً للزيارة وقضاء الحوائج
(1) المصدر السابق ص (71) .
(2) الطبقات ص (138) .
التي تطلب من الله تعالى وكثرة النذور وغير ذلك، وفي ليلة الرغائب من شهر رجب يجتمع عندها خلق ناشر قال: وتراب تربةِ الفقيه يشم منه ريح المسك نفع الله به) [1].
قلت: أما رائحة المسك التي تكررت ولا تزال في ترب كثير من المقدسين فإنها لعبة من لعب السدنة، يصبون الروائح العطرية على التراب ليوهموا الزوار بأن ذلك من ريح التربة والقبر المقدس.
نماذج من قبور إب:
منها قبر الشيخ علي بن عمر قال الجندي في ترجمته: (وتربته من الترب المشهورة في البركة واستجابة الدعاء، ومن عجيب بركتها ما أخبرني بعض الثقات من أهل العناية والبحث عن أحوال هذا الرجل وأمثاله أنه كان على قبره شجرة سدر يتبرك بها الناس، ويأخذ أصحاب الحموات من أوراقها يطلون بها رؤوسهم فيبرأون، واستفاض ذلك في جهات كثيرة حتى كان يؤتى لذلك من الأماكن البعيدة، ويُعْتمد في الأمراض الشديدة، ومن عادات أهل إب في غالب الأعياد أن يحصل بينهم وبين أهل باديتهم حروب كثيرة كما هو متحقق فلا يألو من ظفر منهم بصاحبه غير مفكر بالأذية بقتل أو غيره، فحصل في بعض الأعياد حرب انتصر بها أهل البادية فانهزم أهل إب إلى البيوت، ووصل أهل القرية إلى قريتهم ولم يطيقوا دخولها فقال بعض شياطينهم اذهبوا بنا إلى هذه الشجرة التي يعبدونها، ولنعقرها عليهم فلا ينتفعوا بها فنهاهم العقلاء، وأسرع إلى ذلك الجهلاء، فضربوا العلبة بفأس حتى أوقعوها الأرض، وألقى الله بقلوب أهل المدينة القوة والأنفة فخرجوا مسرعين نحوهم فهزموهم هزيمة شنيعة وقتلوا منهم جمعاً أولهم عاقر الشجرة، وحين وقع هبّروه بالسيوف تهبيراً عظيماً، وتعرف هذه التربة بتربة من سمع النداء بالصلاة عليه في الحرم ولم ير المنادي) [2].
ومنها قبر محمد بن عبدالله الهمداني بناحية السحول، قال في ترجمته الشرجي: (وقبره في الرباط المذكور مقصود للزيارة واستنجاح الحوائج) [3].
(1) السلوك (2/ 263) وانظر: طبقات الخواص (302) .
(2) السلوك (1/ 356 - 357) .
(3) الطبقات ص (319) .
ومنها قبر يحيى بن أبي الخير الإمام المشهور قال الشرجي في ترجمته: (وكانت وفاه الشيخ يحيى بقرية ذي السفال كما قدمنا سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وقبره هنالك من القبور المشهورة في اليمن المقصودة للزيارة والتبرك واستنجاح الحوائج، وله عند أهل الجبال كافة مكانة عظيمة، ولهم فيه معتقد حسن، ويروون له كرامات كثيرة، ويتوجهون به في مهماتهم ويستغيثون به في ضروراتهم، وهو كذلك وفوق ذلك رحمه الله تعالى ونفع به) [1].
من قبور لحج وأبين:
منها قبر الحسن علي بن الحسن الأصابي قال الشرجي في ترجمته: (تُوفي سنة سبع وخمسين وستمائة بقرية المحْفَد بفتح الميم والفاء وسكون الحاء المهملة بينهما وآخره دال مهملة، وقبره هنالك مشهور يزار ويتبرك به، ويوجد منه رائحة المسك خصوصاً ليلة الجمعة، ذكر ذلك الجندي رحمه الله) . [2]
ومنها قبر عبدالله بن علي بن حسن بن الشيخ علي، قال الشلي: (ولقي ربه سنة سبع وثلاثين وألف في قرية الوهط الشهيرة، وقبره بها كالشمس وقت الظهيرة مقصود بالزيارات وقضاء الحاجات ونيل المطلوبات ومن استجار به نجا من جميع المخاوف والردى، وعمل الباشا محمد باشا على قبره قبة عظيمة) [3].
من قبور عدن:
منها قبر أبي عبدالله محمد بن عبدالله بن أبي الباطل الصريفي، قال الشرجي في ترجمته: ( ... حتى توفي بها - عدن - وتربته هنالك من الترب المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه، ولأهل عدن فيه معتقد عظيم، وله عندهم محل جسيم، وهو فوق ذلك رحمه الله تعالى ونفع به) [4].
ومنها قبر الشيخ عبدالله بن أحمد العراقي، قال الشرجي في ترجمته: (ولأهل عدن فيه معتقد حسن، وله هنالك تربة معظمة) [5].
(1) المصدر السابق ص (365) .
(2) المصدر السابق ص (213) .
(3) المشرع (2/ 193) .
(4) الطبقات ص (283) .
(5) المصدر السابق ص (419) .
ومنها قبر الشيخ جوهر بن عبدال له، قال الشرجي في ترجمته: (وتربته هنالك من أكبر الترب المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه، ومن تعدى إلى ذلك عوقب عقوبة معجلة، وقد جرب ذلك غير مرة، ولم أتحقق تاريخ وفاته - رحمه الله تعالى - ونفع به آمين) [1].
من قبور شبوه:
قبر الشيخ محمد بن عمر الحباني (وهو يقع على مكان مرتفع في المقبرة الحبانية القديمةفوق طين الجديدة وبجانبية بعض أولاده وأحفاده وقبورهم منورة ومقصودة بالزيارة) [2].
قبر الشيخ أبي بكر بن إسماعيل بن محمد بن عمر الحباني (وهو في مجري السيل في شعب الشقب، ويمر الماء من حواليه دون أن يأخذ منه شيئاً، وقد كان أهل البلاد أيام الاستسقاء يتوسلون به إلى الله، ولا يأتي الليل إلا ويأتيهم الغيث بأذن الله، وقد حضرنا هذا مراراً ونحن صغار) [3].
قبر الفقيه علي بن محمد بن عمر الحباني صاحب الحوطه، قال المحضار: (ودفن بجوار المسجد وقد كانت علية قبة وانهد مت) [4]، وقال قبل ذلك (أخبرني الثقة من أهل الحوطة أن السيد الصوفي محسن ابن عبد الله بن عبد القادر المحضار صاحب مرخة جاء إلى الحوطة وكان يزروها دائماً، وليلة دخل إليها بعد العشاء فقدم المسجد بعد أن خرج المصلون، وكان جائعاً ودق على التابوت إلى أن خرج إليه قرص حار ولحمه فأكل نصف القرص واللحمة، ومع الفجر جاء أحد المشايخ الكرام .. وقال للسيد محسن أعطني من عشاء الشيبة فأعطاه النصف الباقي) [5].
من قبور حضرموت:
ومنها قبر عبدالله بن شيخ العيدروس، قال الشلي في ترجمته: (وعمل عليه قبة حسنة الباطن والظاهر والنور في أرجائها لائح وباهر) [6]، ومنها قبر الشيخ أبي بكر بن سالم، قال الشلي في
(1) المصدر السابق ص (121) .
(2) ما جاد به الزمان من أخبار مدينة حبان تأليف السيد محمد بن عبد الله بن محمد الحوت المحضار بدون تاريخ ولا سنةطبع.
(3) المصدر السابق ص (25 - 26)
(4) المصدر السابق ص (35)
(5) المصدر السابق ص (34) .
(6) المشرع (2/ 177) .
ترجمته: (وتربته بها مشهورة كالشمس وسط النهار، تقصده الزوار من جميع الأقطار، بأنواع الأنذار، ومن استجار بقبره المأنوس أمسى وهو محروس، لا يقدر أحد أن يناله ببؤس، وبني عليه قبة عالية البناء عظيمة القدر حساً ومعنى) [1]، ومنها في مدينة الشحر قبر شيخ بن إسماعيل بن إبراهيم السقاف، قال الشلي: (ومشهده في الشحر مشهور وبالأنوار مغمور وبالزيارة معمور) [2]، ومنها قبر الفقيه المقدم، قال الشلي في ترجمته: (وقبر الأستاذ بمقبرة زنبل المشهورة، وبالزيارة والقراءة معمورة، وقبره بها كالبدر ليلة الكمال، وكالشمس وقت الزوال، مقصود بالزيارة من كل البلاد، ويهرع إليه عند النوائب من كل ناد، ويسعى الناس كل يوم لزيارته سعياً حثيثاً، ويستسقى به قديماً وحديثاً، وكان حفيده الشيخ الإمام عبدالله باعلوي كثير الزيارة له وينشد عنده:
يا دار إن غزالاً فيك هيمني لله درك ما تحويه يا دار
لو كنت أشكو إليها حسن ساكنها إذن رأيت بناء الدار ينهار
وكان يقول إذا رآه "كل الصيد في جوف الفراء" وكان الشيخ محمد بن أبي بكر باعباد يزوره كثيراً وإذا رأى القبر الشريف قبله، فقيل له: كيف تقبله وأنت تنهى عن تقبيل القبور فقال ما صبرت عنه) [3].
قبور من نواحٍ مختلفة:
فمن كمران قبر الفقيه محمد بن الحسن بن عبدربه، قال الشرجي في ترجمته: (حتى توفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة، ودفن إلى جنب مسجده في الجزيرة المذكورة، وتربته هنالك من الترب المشهورة، مشهورة الفضل، وآثار الفقيه وبركته ظاهرة على ذلك الموضع المبارك، وهو مأوى لعباد الله الصالحين المختفين والظاهرين، وقد تقدم في ترجمه الشيخ أحمد الصياد ما يدل على ذلك نفع الله بهم أجمعين) [4].
(1) المصدر السابق (2/ 29) .
(2) المصدر السابق (2/ 115) .
(3) المصدر السابق (2/ 10 - 11) .
(4) الطبقات ص (278) .
ومن قبور بلاد الزيدية قبر الإمام المهدي أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم المعروف بأبي طير، قال الأكوع في ترجمته: (وقبره معروف يزار ويتبرك به، وقد اندفع عوام الناس يعتقدون فيه اعتقادات باطلة حتى أخرجوه من آدميته، كما ذكر الإمام الشوكاني في رسالته "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" ص (12) جاء فيها ما يلي:
(وروي لنا أن بعض أهل جهات القبلة وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذي بين رحمه الله فرآها وهي مسرجة بالشمع، والبخور ينفح في جوانبها، وعلى القبر الستور الفائقة فقال عند وصوله إلى الباب: أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين ") [1]."
ومنها قبر الإمام يحيى بن حمزة بذمار، قال الإمام الشوكاني في ترجمته: (ومات في سنة 705 خمس وسبعمائة بمدينة ذمار ودفن بها وقبره الآن مشهور مزور، ومما شاع على الألسن أنه إذا دخل رجل يزوره ومعه شيء من الحديد لم تعمل فيه النار بعد ذلك، وقد جربت ذلك فلم يصح، وكذلك اشتهر أنه إذا دخل شيء من الحيات قبته مات من حينه) [2]، ونقل المعلق على الكتاب هذه الأبيات التي كتبت على قبته وهي:
نور النبوة والهدى المتهلهل أرسى كلاكله ولم يتحول
في قبة نصبت على خير الورى وأشرف في الفخار وأفضل
وعلى الإمامة والزعامة والندا والجود والمجد الأثيل الأكمل
وعلى السماحة والرجاحة والنهى وعلى المليك الأوحد المتطول
والعالم المتوحد المترهب المتعبد المتنفل المتبتل
يحيى بن حمزة نور آل محمد لب اللباب من النبي المرسل
كشاف كل عظيمة وملاذ كل ملمة ورجاء كل مؤمل
يا زائراً ترجو النجاة من الردى عن قبره وضريحه لا تعدل
لذ بالضريح وقف به متضرعاً واطلب رضاك من المهيمن واسئل
تحيى بكل فضيلة ووسيلة وتنال خيراً من علو المنزل
شرفت ذمار بقبر يحيى مثلما شرفت مدينة يثرب بالمرسل
(1) هجر العلم (2/ 743) .
(2) البدر الطالع (2/ 333) .
فليهنأ أهل ذمار حسن جواره فيما مضى وكذاك في المستقبل [1]
المطلب الثالث: اعتقادهم استجابة الدعاء عند بعض القبور:
تقدم اعتقاد القوم في مقابر معلومة اعتقاداً شاملاً لها كما تقدم اعتقادهم في بعض القبور، وإسباغ الفضائل عليها بدون تخصيص نوع معين من الكرامات التي تدرك لديها، وفي هذا المطلب أذكر إن شاء الله بعض القبور التي قيل أن الدعاء عندها مستجاب، وما دام أن الأمر مخصوص باستجابة الدعاء فإنني سأقتصر على ذكر القبر واسم صاحبه مع المرجع فقط طلباً للاختصار إلا ما رأيت في غير إيراد نص كلام المترجم فائدة فإنني سأذكره.
فمن تلك القبور:
- قبر أبي الخير الشماحي بزبيد ذكره الشرجي [2].
- قبر علي بن الحسن الأصابي بأبين (المحفد) ذكره الشرجي [3].
- وقبر محمد بن علي مولى الدويلة بتريم ذكره الشلي [4].
- وقبر أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن الأستاذ ذكره الشلي [5].
- وقبر عبدالله با علوي ذكره الشلي [6].
- وقبر عبد الله بن محمد بن علي صاحب الشبيكة بمكة ذكره الشلي [7].
- وقبر عقيل بن عمر أبي المواهب بالرباط قرب ظفار ذكره الشلي [8].
- وقبر محمد بن عبدالرحمن السقاف ذكره الشلي في كيفية زيارة مقابر تريم. [9].
(1) المصدر السابق (2/ 333) .
(2) الطبقات ص (84) .
(3) المصدر السابق ص (213) .
(4) المشرع (1/ 202) .
(5) المصدر السابق (2/ 47 - 48) .
(6) المصدر السابق (2/ 73) .
(7) المصدر السابق (2/ 201) .
(8) المصدر السابق (2/ 205)
(9) المصدر السابق (1/ 149) .
المطلب الرابع: اعتقادهم قضاء الحوائج لدى بعض القبور:
ومن تلك الاعتقادات الباطلة التي يعتقدها القبورية في قبور أوليائهم أن صاحب الحاجة إذا لزم تلك القبور قضيت حاجته، وكأنها هي الواهبة لها أو الواسطة فيها، وكلا الأمرين مبني على ولاية أصحاب تلك القبور وما أعطوا من التصرف في الكون والتوسط بين الله وبين خلقه في إعطاء ما ينفع الناس.
فمن تلك القبور قبر محمد بن عبدالله بن يحيى الهمداني، قال الشرجي في ترجمته: (وقبره بالرباط المذكور مقصود للزيارة واستنجاح الحوائج) [1]، ومنها قبر مرزوق بن حسن الصريفي، قال الشرجي: (قلما قصده ذو حاجة إلا وقضيت) [2]، ومنها قبر الإمام زيد بن عبدالله اليفاعي، قال الشرجي: (ولا تكاد تخلو تربته من زائر، وقلما قصدها ذو حاجة إلا قضيت) [3]،ومنها قبر صاحبي عواجة محمد بن أبي بكر الحكمي ومحمد بن حسين البجلي، قال الشرجي في ترجمة البجلي: (وقبره بقرية عواجة إلى جنب قبرصاحبه الشيخ محمد الحكمي، تستنجح بهما الحوائج ويستنزل بهما القطر) [4]، ومنها قبر محمد العيدروس بن عبدالله بن شيخ بالهند، قال الشلي في ترجمته: (ومن زاره بحسن نية وسلامة طوية أعطي سؤاله ونال مأموله ونواله) [5]، ومنها قبر أبي الحسن على بن قاسم العيلف بن هيش بن عمر بن نافع الحكمي، قال الشرجي: (يروى أنه من قرأ عند قبره سورة ياسين إحدى وأربعين مرة لم يقطع بين ذلك بكلام قضيت حاجته كائنة ما كانت، وقد جربتُ ذلك وصح والحمد لله على ذلك) [6]، ومنها قبر أبي الحسن علي بن عبد الملك بن أفلح، قال الشرجي في ترجمته: (وقبره بمقبرة باب سهام من القبور المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك واستنجاح الحوائج والمطالب) [7]، ومنها قبر أبي بكر بن عيسى بن عثمان الأشعري، قال الشرجي
(1) الطبقات ص (319) .
(2) المصدر السابق ص (339) .
(3) المصدر السابق ص (138) .
(4) المصدر السابق ص (269) .
(5) المشرع (1/ 186) .
(6) الطبقات ص (208) .
(7) المصدر السابق ص (209) .
في ترجمته: (وقبره هنالك مشهور يزار ويتبرك به، ويروى أن من قرأ عند قبره سورة ياسين (إحدى وأربعين) مرة قضيت حاجته كائنة ما كانت وقد جرب ذلك وصح) [1]، ومنها قبر القاضي أحمد بن محمد باعيسى، قال الشلي وهو يتحدث عن كيفية زيارة مقابر تريم: (كالقاضي أحمد بن محمد بن محمد باعيسى حكي عنه أنه قال: من زارني بنية صادقة وطلب حاجة ضمنت له قضاءها أو كما قال - رضي الله عنه -) [2].
المطلب الخامس: اعتقادهم أن بعض القبور أمان للخائفين:
من القضايا المسلَّمة عند القوم أن بعض من ينسبون إلى الصلاح تظل مقابرهم محترمة مبجلة يأمن فيها الملتجئ إليها سواء كان محقاً في التجائه أو مبطلاً، وسواء كان طالبه والباحث عنه محقاً أو مبطلاً، مادام الاثنان مؤمنين بقداسة تلك البقعة، معتقدين لولاية صاحبها وكراماته التي فيها تأمين اللاجئين إليه، ولكن عندما يأتي من لا يؤمن بقداسة ذلك المحل خصوصاً الطالبين ولا يعتقدون ما يعتقده عامة الأمة فيه فإنه لا يحصل شيء من ذلك، فابن علوان وأبو الغيث بن جميل والعيدروس وعلي بن حسن العطاس وغيرهم كثير قيل في تراجمهم أن تربتهم مأوى اللاجئين وأمان الخائفين من التجأ إليها أمن ومن تعدّى عليها عوجل بالعقوبة، ويحكون حكايات كثيرة فمنها وقائع وقعت لمن تعدى على حرمة تلك الترب حتى قالوا إن علي بن حسن العطاس يحمي الناس من شهر ربيع الأول ولو قبل الوصول إلى مشهده، وذلك بأن يقتل من أقارب المعتدي بعدد الأيام التي مضت من الشهر، فإن مضى يومان وحصل الاعتداء قتل اثنان وإن كان في الرابع منه قتل أربعة وهكذا [3].
إذن فالأمر محقق عند القوم بينما نجد أن هناك اعتداءات (بحسب تعبيرهم) سافرة وقعت لا على الملتجئين إليهم بل عليهم أنفسهم فلم يدفعوا عن أنفسهم ولم يحصل على الجاني أي شيء فما السر؟.
السر والله أعلم عدة أمور:
(1) المصدر السابق ص (378) .
(2) المشرع (1/ 149) .
(3) انظر: تاج الأعراس (1/ 209) .
الأمر الأول: الحالة النفسية لأولئك المتعلقين فهم عندهم الاستعداد النفسي لقبول أي شيء من قبل هذه القبور، وهذا يضعف المقاومة ويهيئ السبيل لوقوع تلك الأحوال التي يعدونها عقوبات لمنتهك حرمة ذلك المقام، وهذا أمر شائع ومعروف، فالمجتمع الذي يكثر الحديث عن الجن ويسرد القصص الكثيرة يصيبه من أذى الجن مالا يصيب المجتمع المُعِْرض عن ذلك الذي لا يلتفت إليه، وكذلك قل في العين والطيرة ونحو ذلك ولعل القرآن أشار إلى ذلك في قول الله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً} [1]، فحينما وجد الجن ذلك الضعف من الإنس نحوهم زادوا من أذيتهم.
والأمر الثاني: وجود خدم لبعض الأضرحة من الجن هم كما صرحوا هم بذلك وسيأتي بيان هذا في موضع آخر إن شاء الله.
والأمر الثالث: حيل السدنة ومكرهم ودهاؤهم الذي يجعلهم يفعلون أفعالاً بطرق خفية وملتوية يتوهم من لا يعرف حقيقة الحال أن تلك الأفعال صادرة عن الولي بينما هي من أفعال السدنة.
والأمر الرابع: وجود فئات من القبائل ترى أنها ملتزمة لذلك الولي وذريته وأن حمايته وحماية ذريته واللائذين به من واجباتهم، فهم يقومون بالانتقام ممن أخفر ذمة ذلك الولي أو أحد ذريته أو محبيه اللائذين به، فيقومون بذلك طبيعياً ثم يشاع أنه عقوبة من الولي، بينما نجد أن الذين لا يفكرون في تلك العقوبات والتصرفات المنسوبة إلى الولي لا يضرهم شيء، فالجيش النجدي الموحَّد المتوكل على الله حين هاجم حضرموت ضرب تلك القبب وأزال توابيتها وسواها كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يحصل عليهم شيء، ولم ينتقم منهم أولئك الأولياء بشيء بل عادوا إلى بلادهم سالمين وإن حصل عليهم هزيمة في معركة ما فشأن الحروب فر وكر ونصر وهزيمة والعاقبة للمتقين.
وكذلك ما فعله الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين بقبري ابن علوان وابن العجيل وغيرهما لم يصبه من أثره شيء، وأوضح من ذلك وأقرب ما فعله الشباب المحتسب بعد حرب الانفصال (ربيع الأول 1415 هـ) من تسوية القبور المعظمة في عدن ومنها قبر العيدروس لم ينتج عنه شيء عليهم، وهذا كله دليل على بطلان تلك المزاعم وعلى صحة التفسير الذي تقدم والله أعلم.
(1) الجن (6) .
ومن تلك القبور، قبر عيسى بن إقبال الهتار، قال عنه الشرجي: (ودفن بقرية التريبة بضم التاء المثناة من فوق تصغير تربة، قرية من قرى الوادي زبيد وقبره هنالك مشهور يقصد للزيارة والتبرك من الأماكن البعيدة، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يتعرض له بمكروه، ومن تعدَّى ذلك عوجل بالعقوبة والقرية كلها محترمة ببركته) [1]، ومنها قبر أبي الغيث بن جميل، قال الشرجي: (ودفن بقريته بيت عطاء المشهورة، وتربته هنالك من الترب المشهورة المعظمة قلَّ أن يوجد لها نظير في اليمن، لا تكاد تنقطع من الزوار من كل ناحية، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه من أهل الدولة والعرب وغيرهم) [2]، ومنها قبر أحمد بن عجيل، قال الشرجي في ترجمته: (ومن استجار به سلم من جميع المخاوف بل مَنْ وصل إلى قريته لم يقدر أحد أن يتعرض له بمكروه، وليس للملوك وغيرهم على أهل قريته تصرف ولا ولاية كما في سائر القرى كل ذلك ببركته) [3]، ومنها قبر أحمد بن علوان، قال الشرجي في ترجمته: (وقرية الشيخ المذكور محترمة، ومن استجار بها لايقدر أحد أن يناله بمكروه) [4]، ومنها قبر سفيان بن عبدالله الأبيني، قال الشرجي في ترجمته: (وتربته هنالك من الترب المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه أبداً، ومن تعدَّى شيئاً من ذلك عوقب أشد العقوبة من غير إمهال، وقد جرب ذلك غير مرة) [5]، ومن تلك القبور في عدن قبر محمد بن عبدالله الصريفي، قال الشرجي في ترجمته: (ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه، ولأهل عدن فيه معتقد عظيم وله عندهم محل جسيم وهو فوق ذلك رحمه الله تعالى ونفع به) [6]، ومنها في حضرموت قبة عبدالله بن شيخ العيدروس، قال الشلي في ترجمة سقاف العيدروس: (ودفن بقبة جده عبدالله بن شيخ، وقبره مشهور عند الناس، ومن استجار به أمن من كل بأس) [7]، ومنها كذلك قبر الشيخ أبي بكر بن سالم صاحب عينات، قال الشلي في ترجمته: (ومن استجار بقبره المأنوس أمسى وهو محروس لا
(1) الطبقات ص (251) .
(2) المصدر السابق ص (410) .
(3) المصدر السابق ص (63) .
(4) المصدر السابق ص (71) .
(5) المصدر السابق ص (149) .
(6) المصدر السابق ص (283) .
(7) المشرع (2/ 139 - 140) .
يقدر أحد أن يناله ببؤس) [1]، ومنها قبر علي بن حسن العطاس، بالمشهد بحضرموت، قال صاحب "تاج الأعراس" ضمن حكاية ساقها: (قلت: وقول الحبيب هادون لجده الحبيب علي "وهز الرمح" لما اشتهر من أن الحبيب علي كان يلقب بأبي حربة، وسبب تلقيبه بذلك أنها تواترت الأخبار من المعادين للحبيب علي في حياته وأهل الجرأة على مقام المشهد بعد وفاته أنهم يرونه في مناماتهم يطعنهم بحربته فيخبرون قراباتهم بذلك موقنين بالموت ويموتون في الحال بإذن الله القائل: "من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" ،لا سيما الذين يعتدون على غيرهم في شهر المشهد أي ربيع الأول؛ لأن الحبيب علي قد جعله عُرضة بضم العين أي أماناً مؤبداً في كل سنة ... الخ) [2]، فهذه عدد من الأمثلة على ذلك الاعتقاد من مواطن مختلفة من اليمن.
المطلب السادس: اعتقادهم بعض القبور متخصصة في قضاء حاجات معينة:
للناس عند زياراتهم لبعض القبور حاجات كثيرة يستغيثون بها من أجل الحصول على الولد والاستسقاء والاستشفاء وسيأتي ذلك تفصيلاً في السطور التالية:.
الحصول على الولد:
سبق في فروع الاعتقاد بتصرف الأولياء في الكون أن من الناس من يعتقد بأن فلاناً يعطي الولد، وذكرنا هناك أمثلة لذلك وبعض القبور التي يعتقد ذلك في أصحابها، ومن تلك القبور قبر الشيخ القرشي في مقبرة الفريط بتريم حتى أنهم يسمونه صاحب الذرية، وليس الأمر مجرد دعاء عند قبره ذلك ولكن فقط وضع "حصاة" عند القبر [3].
الاستسقاء:
(1) المصدر السابق (2/ 29) .
(2) تاج الأعراس (1/ 208 - 209) .
(3) انظر: ص (239 - 241) .
كذلك مرَّ في فروع عقيدة التصرف في الكون أنهم يعتقدون في بعض الأولياء، أنهم ينزلون الغيث وذكرنا أمثلة على ذلك.
ومن القبور التي ذكرناها هناك قبر الشيخ جنيد باوزير صاحب النقعة، وذكرنا قصة علي بن جعفر العطاس وقوله لأهل حريضة: با نجيكم بسيل من عند الشيخ جنيد باوزير إن شاء الله [1]، كما ذكرت قصة باسليمان واعتماده على الشيخ سعيد بن عيسى العمودي في إنزال الغيث [2]، وذكر الجندي في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أكدر قال: (أخبرني الثقة من أهل تلك الناحية أنهما يزاران ومتى عطش أهل حضرموت واشتد بهم الجهد وصلوا قبرهما واستسقوا بهما فما يلبثون أن يسقوا) [3].
الاستشفاء:
سبق أيضاً في فروع عقيدة التصرف بعض الأمثلة في الاستشفاء، نضيف هنا أمثلة أخرى منها ما ذكره صاحب تذكير الناس: (قال سيدي: ولما خرج الحبيب أحمد بن محمد المحضار من دوعن، لزيارة تريم وعينات، ووادي ابن راشد، بات ليلة بذي أصبح عند السادة آل البحر، فاشتدت الحمى بابنه محمد، حتى غاب عن إحساسه، فأشفق عليه والده منها، فخرج ليلاً إلى ضريح الحبيب حسن ابن صالح، وكان شيخ فتحه، ووقف تجاهه، وقال: وعزة المعبود، إن لم تذهب الحمى من ولدي محمد لأصبح في خشامر، عند بن علي جابر، فلما كان آخر الليل، عرق ابنه محمد وخرجت منه الحمى، وطلب الأكل، وأصبح: كأنما [4] نشط من عقال، وسرحوا من يومهم) [5].
ومنها ما قاله عبدالقادر العيدروس: ( ... وذلك أن بعض الأصحاب من أهل حضرموت أهدى لي طيباً فقلت: هلا أهديت لي من تراب قبر سيدي الشيخ سعد بن علي - رضي الله عنه -؟ فإنَّ ذلك عندي من أشرف الهدايا، وأفخر أنواع الطيب، ثم أنشدت في هذا المعنى:
(1) انظر: ص (243) .
(2) انظر: ص (244) .
(3) السلوك (1/ 462) .
(4) في الأصل (كما نما) .
(5) تذكير الناس ص (220) .
سألت العرفا عن طب دائي فقالوا تراب ذلك الجناب الأقدس
على الخبير سقطت فاغنم داؤك وربي إنه درياق أنْفَسُ
داوني يا سعد وأدرك قبل تِلافي وحقك أنني لك عبد أكيسُ
فأرسل إليَّ من العام القابل قليلاً من تراب ذلك الضريح الشريف في قارورة زجاج ولله الحمد ... ) [1].
وقد جاء في ترجمة عمر المحضار: (مات - رضي الله عنه - وهو ساجد في صلاة الظهر، يوم الاثنين ثاني عشرة في شهر ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وقبره بتريم يزار ويتبرك به، ترياق مجرب يعرف استجابة الدعاء وكذلك مسجده) [2].
(1) النور السافر ص (427) .
(2) شرح العينية ص (195) ، والغرر ص (198) .
المبحث الثاني
ظاهرة البناء على القبور وإسراجها وإلباسها
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: القبور المعظمة الثابتة لأصحابها:
أقصد بهذا المطلب إعطاء صورة تقريبية للحالة التي وصل إليها القوم من نشر لمظاهر القبورية على الرغم من النهي الصحيح الصريح عن البناء على القبور واتخاذها مساجد وإسراجها والكتابة عليها ورفعها وإنارتها ... الخ، وقد مرّ ذلك كله في الباب التمهيدي.
ومع ذلك النهي وتقريره في كتب علماء الإسلام ومنهم علماء الشافعية والهادوية الذين صرحوا إما بالتحريم أو بالكراهة، بل إن ابن حجر المكي -وهو عمدة علماء اليمن الشافعية في الفقه- عدَّ ذلك كله من كبائر الذنوب، ولو أنني فصّلت في هذا المطلب وتتبعت جميع القبور المعظّمة لطال جداً بل لاستغرق مجلداً كاملاً، ولكن الأمر لا يحتاج إلى حشد الكثير من الأدلة لظهور ذلك للعيان واستطاعة كل إنسان أن يرى تلك المشاهد والقباب والقبور المجصصة والشواهد الكبيرة ذات الكتابات الواضحة الحاملة لمناقب ومزايا أصحابها في كل مكان، فما من مدينة أو قرية في اليمن إلا ولها نصيب من ذلك يقل أو يكثر وكلما كانت المدينة أعرق في التصوف والتشيع كان حظها أكبر كزبيد وعدن وتريم والشحر وصعدة وغيرها من المدن والقرى على امتداد الساحة اليمنية.
وحتى يسهل الوقوف على ذلك سوف أستعرض ذلك محافظةً محافظة وليس من شرطي الاستقصاء والإحاطة وإنما إعطاء فكرة فقط كيفما تيسر.
محافظتي الحديدة وزبيد:
وأبدأ من حيث بدأت القبورية وانتشرت وفاقت غيرها وسبقت سواها سبقاً زمنياً وسبقاً من حيث الكثرة والكثافة من "تهامة" ،وسأذكر الأسماء فقط دون أي إعتبار للترتيب لا من حيث الزمن ولا من حيث المكان ولا حتى من حيث ترتيب الأسماء على حسب الحروف:
- (أحمد بن موسى بن عجيل / بيت الفقيه) - (إبراهيم بن علي الفشلي/ زبيد)
- (أحمد بن محمد الرديني / قرية عازب الحلى) - (أحمد بن عمر الزيلعي / اللحية) - (إسماعيل بن محمد الحضرمي / الضَّحِى) - (أحمد بن أبي بكر الرداد / زبيد)
- (بكر بن محمد بن حسن بن مرزوق / زبيد) - (إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي / زبيد)
- (سليمان بن أبي القاسم الهاجري / المهجم) - (سعد بن محمد العرضي/بيت حسين)
- (طلحة بن عيسى الهتار / التريبة) - (علي بن عبدالله الطواشي / حلى)
- (علي بن محمد المعروف بابن الغريب / قرية السلامة) - (علي بن المرتضى الحضرمي / زبيد) - (علي بن الحسين بن رطاس / زبيد) - (عمر بن محمد بن رشيد / زبيد) - (محمد بن أبي بكر الحكمي / عواجة) - (محمد بن حسين البجلي / عواجة) - (محمد بن عمر بن حُشَيبر / بيت الفقيه) (محمد بن يعقوب أبو حربة / وادي مدرر) - (أحمد بن أبي بكر بن يحيى المساوى /حرض) - (علي بن أبي بكر الأجحف / الحرجة) - (عثمان بن أبي القاسم بن أحمد بن إقبال / القرتب) - (مسعود بن عبدالله الحبشي / رمع)
- (أحمد بن عبدالله بن أحمد الصريدح / المدالهه) - (أحمد بن أبي الخير الشماحي / زبيد)
- (عثمان بن هاشم الحجري / بيت حسين) - (محمد بن عمر النهاري / سهام)
- (أبو القاسم بن عثمان بن أبي القاسم / القرتب) - (علي بن قاسم العليف الحكمي/ زبيد)
- (علي بن عبدالملك بن أفلح / زبيد) - (علي بن نوح بن علي الأبوي / زبيد)
- (علي بن أبي بكر بن شداد / زبيد) - (عيسى بن إقبال الهتار / التريبة)
- (عيسى بن حجاج العامري / بيت حسين) - (عيسى بن مطير الحكمي/ بيت حسين)
- (محمد بن عبدالله الحقيص / زبيد) - (محمد بن إبراهيم بن دحمان / زبيد)
- (محمد بن عمر بن محمد بن شوعان / زبيد) - (محمد بن أبي بكر الزوقرى / زبيد)
- (محمد بن أبي بكر بن شييح / العامرية) - (محمد بن أحمد الزجاجي / زبيد)
- (مفتاح بن عبدالله الأسدي / بيت مفتاح) - (مهدي بن محمد المنسكي / المهجم) - (يوسف بن علي الأشكل / وادي سردد) - (محمدبن أبي بكرالأشكل/وادي سردد)
- (أبو بكر بن عيسى بن عثمان الأشعري / زبيد) - (يوسف بن عمر المعتب/ حد القحرية)
- (أبو بكر محمد بن حسان المضري / التحيتا) - (أحمد الجندح / المثينة)
- (أبو القاسم بن محمد السهامي/ زبيد) ... - (عبلة ورزم / زبيد)
- (رجل يقال له ابن سيرين / زبيد) - (الشيخ البكاء / زبيد)
- (أبوبكر السلاسلي / القرتب) - (الملبك /زبيد)
- (محمد بن يوسف الضجاعي / وادي رمح) - (الصديق بربش/زبيد)
- (محمد بن عبدالله المؤذن / قرية الغصن من وادي مور) - (محمد بن مهنا القرشي / وادي مور)
- (محمد بن إسماعيل المكدش / قرية الأنفة وادي سهام) - (محمد بن مهنا الشريف / قرية البرزة)
- (محمد بن أبي مليكه / وادي سردد) - (مرزوق بن حسن الصريفي / زبيد)
- (أبوبكر بن محمد بن علي الجندح / حيس) - (أبوبكر بن محمد الحداد / زبيد)
- (الفيروزآبادي صاحب القاموس / زبيد) - (أبو الغيث بن جميل / بيت عطاء)
- (قراء ياسين العشرة / زبيد) - (الشيخ يونس / زبيد)
- (الحجب / التريبة) - (عمر بن أبي القاسم الخزان / القطيع)
- (الشيخ صديق / الحديدة) - (علي بن عمر الأهدل / المراوعة)
- (الساكت / القطيع) - (المقدم / القطيع)
- (حباك الماء/ التريبة) - (أحمر العين / المنيرة)
- (الشيخ أدهل / الزيدية) - (حامي الحمى / القناوس)
- (سود بن الكميث / الفاشق) - (طاهر أبو الغيث / حرض)
محافظة تعز:
- (أبو العباس أحمد بن محمد الصبعي / سهفنه) - (محمد بن عبدالله بن الخطيب / موزع)
- (عبدالملك بن محمد بن أبي ميسرة اليافعي / الجوه) - (السروي / منطقة جبا)
- (أحمد بن محمد الشكيل / المخلاف) - (أحمد بن محمد الجماعي / سهفنه)
- (عبدالرحمن بن عقيل بن محمد صاحب المخا / المخا) -
- (الواسطي / الجند) - (محمد بن ظفر الشميرى/ الجند)
- (أبو السرور بن إبراهيم / الدملوة) - (الشيخ سلمان / حبيل سلمان تعز)
- (عفيف الدين سليمان بن عمر / تعز) - (أحمد بن علوان / يفرس)
- (زيد بن عبدالله اليفاعي / الجند) - (علي بن أحمد الرميمة / صبر تعز)
- (علي بن عمر الشاذلي / المخا) - (عمر بن عبدالرحمن / صاحب الحراء)
- (أحمد بن محمد الضبعي / سهفنه) - (محمد بن عبدالله الخطيب / موزع)
- (أبوبكرمحمد بن ناصر الحميري/ الذنينتين قرب الجند) - (الحساني / جبل حيشي) - (عبدالله بن محمد العباس الحجاجي الشاكري / الجند) - (ابن ردمان / الصراهم) - (علي بن يوسف صاحب المجرية/ جبل شمير) .
محافظة إب:
- (الحسين بن محمد بن الحسين السحولي / السحول) - (عمر بن عبدالرحمن بن حسان / الذهوب)
- (أبو موسى عمران الصوفي / جبلة) - (يحيى بن أبي الخير العمراني / ذي السفال)
- (علي بن أبي بكر التباعي / المخادر) - (عمر بن سعيد الهمداني / ذي عقب)
محافظة لحج والضالع:
- (عبدالله بن علي بن حسن بن الشيخ / الوهط لحج) - (سفيان بن عبدالله / سفيان لحج)
- (عبدالله بن حسن الجوهري / المحلة لحج) - (عمر بن علي/ الوهط)
- (حسن البحر / الحمراء لحج) - (طهرور / قرية طهرور)
- (بهية بنت موسى / عيديد لحج) - (موسى بن حسين / الجفاية لحج)
- (مزاحم / لحج) - (سعيد بن عيسى / مقيبرة لحج)
- (علي بن زين/ الشرج) - (عبدالله بن حسن الجوهري / المحلة)
محافظات عدن وأبين وشبوة:
- (ريحان بن عبدالله العدني / عدن) - (علي بن حسن الأصابي / المحفد أبين)
- (عبدالله بن محمد بن عبدويه / كمران) - (أحمد بن علي الحرازي / عدن)
- (أحمد بن محمد بامعبد / رضوم شبوة) - (محمد بامعبد / عين بامعبد / شبوة)
- (جوهر بن عبدالله الصوفي / عدن) - (علي بن أحمد بن قيدار القريضي / عدن)
- (أبو بكر بن عبدالله العيدروس / عدن) - (أبان بن عثمان بن عفان / عدن) [1]
- (العثماني / الشيخ عثمان عدن) - (الهاشمي / الشيخ عثمان عدن)
محافظة حضرموت:
(1) قال بامخرمه في تاريخ ثغر عدن: (وأظنه أبان بن عثمان بن عفان) ص (33) طبع دار الجيل بيروت - ودار عمار الأردن، تحقيق علي بن حسن عبد الحميد.
هي أكبر المحافظات تلوثاً بالقبورية بعد تهامة، بل ربما زادت على تهامة خصوصاً هذه الأيام فإن حركة إحياء القبورية فيها قائمة على قدم وساق في شتى مناحيها من حيث إشادة وترميم المشاهد وإحياء الزيارات والشعائر القبورية، ونشر كتب الخرافة والدجل، وتأليف الرسائل لتأصيل تلك الخرافات أوالرد على المعترضين عليها.
- (عبدالرحمن بن محمد يعرف بـ "سقاف العيدروس" / تريم) - (أبو بكر أكدر / تريم)
- (عبدالله بن عبدالرحمن الشهير بالنحوي/ روغه) - (عبدالله بن أبي بكر العيدروس / تريم)
- (عبدالله بن شيخ بن عبدالله العيدروس / تريم) - (عبدالرحمن السقاف / تريم)
- (أبو بكر بن سالم صاحب عينات / عينات) [1] - (محمد بن علي الفقيه المقدم / تريم)
- (أحمد بن حسين بن عبدالله العيدروس / تريم) - (أحمد بن محمد الشهير بالحبشي / الحسيسة)
- (أحمد بن الأستاذ الأعظم / العجز) - (حسين بن عبدالله العيدروس / تريم)
- (محمد بن حسن المعلم أسد الله جمل الليل / تريم) (سالم بن بصرى / تريم)
- (أحمد بن عبدالرحمن المشهور بـ (شهاب الدين/تريم) - (محمد بن علوي بن أحمد بن الأستاذ / تريم)
- (عبدالله باعلوي / تريم) - (حسن بن علي بن محمد مولى الدويلة/ تريم)
- (علوي بن الأستاذ الفقيه المقدم / تريم) - (عبدالله بن الأستاذ الفقيه / تريم)
- (علي بن محمد صاحب مرباط / تريم) - (محمد بن عبدالله باعلوي / تريم)
- (علي بن عبدالله باعلوي / تريم) - (محمد بن علي عيديد / تريم)
- (علي بن علوي خالع قسم / تريم) - (الشيخ عمر المحضار / تريم)
- (علي بن أبي بكر السكران / تريم) - (حسن الورع / تريم)
- (سالم بن فضل / تريم) - (فضل بن محمد بافضل / تريم)
- (أحمد بايحيى واسع وعمه / تريم) - (إبراهيم بن يحيى بافضل / تريم)
- (أبو بكر بن الحاج / تريم) - (علي بن أحمد بامروان / تريم)
- (علي بن عمر القرشي / تريم) - (أحمد بن محمد بافضل / تريم)
- (علي بن محمد الخطيب / تريم) - (عبدالرحمن بن يحيى الخطيب / تريم)
- (أحمد بن علي الخطيب / تريم) - (أحمد بن محمد بن أبي الحب / تريم)
(1) هذه البلدة تحتوي على عدد كبير من الأضرحة أشهرها سبعة ولها قداسة ومكانة عظيمة عند قبورية حضرموت).
- (سعيد بن علي بامدحج / المشهور بالسويني / تريم) - (يحيى بن سالم بافضل/ تريم)
- (محمد الغريب / تريم) - (القطب عبدالله بن علوي الحداد / تريم)
- (محمد بن علي خرد / تريم) - (محمد بن علي مولى الدويلة/تريم)
- (أبوبكر بن عبد الله الشهير بالإمام / تريم) - (أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن الأستاذ/تريم)
- (عباد بن بشر الصحابي رضي الله عنه / القرية) - (أحمد بن عيسى المهاجر إلى الله / الحسيسة)
- (سلطانه بنت علي الزبيدية / حوطة سلطانه قرب سيئون)
- (علي بن محمد الحبشي / سيئون) ... - (عمر بامخرمة / سيئون)
- (عيدروس بن عمر الحبشي / الغرفة) - (أحمد بن زين الحبشي / حوطة أحمد بن زين)
- (الحسن بن صالح البحر / ذي أصبح) - (أحمد بن عبد الله القديم باعباد / الغرفة)
جرب هيصم مقبرة شبام تحتوي على عشرات القبور المعظمة والقباب والمشاهد.
- (الهدار / القطن)
- (وفي بلد النقعه بالقرب من حورة قبر الشيخ جنيد باوزير) - (وقبر الشيخ علي بن سالم باوزير)
وأما حريضة ففيها عدد كبير جداً من القباب والمشاهد على قبور آل العطاس منها:
قبر السيد عمر بن عبد الرحمن العطاس، وقبر طالب بن حسين العطاس، وقبر أبي بكر بن عبد الله العطاس، وقبر أحمد بن حسن العطاس وغيرهم.
وفي وادي عمد أكثر من عشرين قبراً معظماً أشهرها: صالح بن عبد الله العطاس، وصالح بن عبد الله الحامد، وقبر عمر بن حسين العطاس بنفحون.
ثم بقية قرى الوادي لا تكاد قرية واحدة تكون خالية من قبة أو مشهد أو قبر مجصص يزار في السابق، ولدي قائمة بأكثر تلك القبور آثرت عدم كتابتها للاختصار.
وهناك مناطق لم تذكر وقبور كثيرة تركتها كذلك حيث القصد التمثيل وليس الحصر.
الباب الثاني
آثار القبورية
ويشتمل على مدخل وأربعة فصول
المدخل
وفيه بيان نشأة العقائد الضالة عن الغلو في الصالحين
الفصل الأول
عقائد القبورية الضالة
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: عقيدة القطبية والتصرف في الكون.
المبحث الثاني: عقيدة الرجعة وإمكان الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة.
المبحث الثالث: الاعتقاد بحياة الخضر واللقاء به.
سبق في الباب التمهيدي تعريف القبورية وأنها (طائفة غلت في أصحاب القبور واعتقدت فيهم عقائد ضالة، حملتها على تعظيم قبورهم وآثارهم، والتقرب إليهم بأنواع من العبادات حتى صيّرتهم أنداداً لله تعالى) .
فهذه الطائفة أهم سماتها الغلو وهو مجاوزة الحد في هؤلاء الناس الذين زَعَمَتْهُم أولياء لله تعالى، مما نتج عنه عقائد ضالة، بعض هذه العقائد شرك وبعضها دون ذلك، وبناءً على تلك العقائد نشأ تعظيم القبور والآثار المنسوبة إلى أولئك الأولياء، وبهذا التعظيم غرست بذور من بذور القبورية في نفوس هؤلاء القبورية ومقلديهم من العوام، مثل المحبة والخوف المتجاوزَيْن حدود الطبيعة الذَين أوجبا التذلل والانكسار أمام هؤلاء الأولياء أحياءً وأمواتاً، وحملا على التقرب إليهم بما لا يُتقرب به إلا إلى الله سبحانه من النذر والذبح والطلب منهم ما لا يجوز طلبه إلاّ من الله تعالى وهو الدعاء، وبناءً على
كل ذلك نشأت في الأمة أمراض فتاكة مثل السحر والكهانة والدجل والخرافة والتمايز الطبقي وتجهيل الأمة.
من هذا المنطلق سيكون تناولي لآثار القبورية، وهناك آثار كثيرة لن أتكلم عنها لضعف أو خفاء ارتباطها بالقبورية التي حددتُ معالمها في هذا التعريف، والتي قد يكون لها بواعث أخرى غير الغلو في أصحاب القبور، ومن أمثلة ذلك عقيدة وحدة الوجود وإضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الصوفية والسماع الصوفي، فهذه الثلاثة النماذج وغيرها قد يتطلع القارئ لبحثها ودراستها ولكنني لن أخوض فيها لخروجها عما رسمته وحددته لنفسي، ولضيق المساحة المحددة لهذا البحث.
الفصل الأول
عقائد القبورية الضالة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عقيدة القطبية والتصرف في الكون
وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول: تعريف القطب:
قال الجرجاني في تعريف القطب: (وقد يسمى غوثاً باعتبار التجاء الملهوف إليه وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم, وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحق، وعلم الحق يتبع الماهيات الغير المجعولة، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس لا من حيث إنسانيته، وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوة الدافعة فيها) . [1]
(1) التعريفات ص (177 - 178) .
هذا هو القطب، وهو مأخوذ عن الإسماعيلية كما سبق عن ابن خلدون [1]، والإسماعيلية أخذته عن الفلاسفة، وما النفس الناطقة إلا إحدى مراتب الألوهية عند الفلاسفة.
المطلب الثاني: اعتماد ما تقرر من تعريف القطب عند قبورية اليمن:
ما اشتمل عليه تعريف القطب السابق هو ما اعتقده صوفية اليمن ودانوا به، يقول اليافعي [2] بعد أن ذكر حديث الأبدال الموضوع: (( وله واحد قلبه على قلب إسرافيل )) قال: (والواحد المذكور في هذا الحديث هو القطب، وهو الغوث ومكانته من الأولياء كالنقطة من الدائرة التي هي مركزها به يقع صلاح العالم) [3].
وقال الحداد: (والقطب الغوث هو: إمام الأولياء أهل الدائرة والتصريف، وهم المعدودون في الأخبار والآثار الواردة فيهم) . [4]
وتلك الصفات التي يتحلى بها القطب قد أسبغها قبورية اليمن على أوليائهم، وبهذا وصف الشيخ علي الأهدل صاحبي عواجة البجلي والحكمي فقال أثناء حكاية ساقها الشرجي عن اليافعي في
(1) هو المؤرخ المشهور وواضع علم الاجتماع عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الاشبيلي توفي سنة (808 هـ) اشتهر بالتاريخ الذي سماه العبر وديوان المبتدئ والخبر ومقدمته التي تعد من أصول علم الاجتماع، ترجم نفسه في آخر التاريخ وترجمه الكثير من الباحثين، انظر ترجمته في أخر كتاب التاريخ (7/ 365) وما بعده، والضوء اللامع للسخاوي ... (4/ 145) ، الأعلام للزركلي (3/ 330) ،انظر: مقدمة التاريخ طبعه دار إحياء التراث العربي.
(2) عبد الله بن أسعد اليافعي توفي سنة (786 هـ) أحد أقطاب صوفية اليمن فقيه مؤرخ صاحب كتاب روض الرياحين في ذكر حكايات الأولياء والصالحين ومرآة الجنان في التاريخ، انظر: طبقات الخواص ص (162) ، البدر الطالع (1/ 378) .
(3) روض الرياحين في حكايات الصالحين ص (16) تأليف عبد لله بن أسعد اليافعي، وبذيله عمدة التحقيق في بشائر الصديق للشيخ إبراهيم العبيدي المالكي، نسخة مصورة بدون تاريخ.
(4) النفائس العلوية في المسائل الصوفية ص (148) لعبدالله بن علوي الحداد طبع دار الحاوي الطبعة الأولى (1414 هـ -1993 م) .
بعض مصنفاته: (يا أبا الغيث هذان في مقام التولية والعزل، يوليان ويعزلان ويميتان ويحييان بإذن الله تعالى وسوف أرثهما وترثني أنت) [1].
وبذلك وصف محمد بن أحمد باجرفيل الدوعني أبابكر العيدروس حينما استفسره محمد بن عمر بحرق عن تصرفات مالية تصرفها العيدروس على غير الوجه الشرعي فقال: (أنا أشهد أنه أمير المؤمنين المالك للتولية والعزل والحل والعقد والتصرفات كلها، وأشهد أنه أفضل أهل الأرض ظاهراً وباطناً) [2].
ووُصف بها الشيخ عبدالرحمن السقاف، قال عبدالرحمن الخطيب: (الحكاية السابعة والثلاثون بعد الثلاثمائة وهي السادسة والتسعون من مناقب السقاف - رضي الله عنه - عن عبدالرحيم بن علي الخطيب -رحمه الله تعالى - قال: كنت يوماً في مجلس شيخنا الشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه - فتكلم الشيخ في الشيخ أبي الغيث بن جميل اليمني [3] ثم قال في أثناء مدحه: أتى فقهاء اليمن إلى الشيخ أبي الغيث وقالوا له: يا أبا الغيث ما عرفنا إيش مذهبك أخبرنا إيش مذهبك أنت شافعي أم مالكي أم حنبلي أم حنفي؟ فقال لهم: (لا أنا شافعي ولا مالكي ولا حنبلي ولا حنفي، فقالوا له: (فإيش أنت فقال: جنداري من جنادرة السلطان، ثم سكت الشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه - ساعة ثم همز نفسه ومد يديه في الهواء وقال بأعلى صوته: أنا جنداري من جنادرة السلطان، قال عبدالرحيم ثم بعد ذلك بأيام قلت للشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه: وما جنداري السلطان، فقال: ما هذا معناه، هو الذي يدخل على السلطان من غير إذن ولا عليه حجاب، ويأمر
(1) طبقات الخواص ص (266) .
(2) مواهب القدوس في مناقب العيدروس ضمن المجموعة العيدروسية ص (14) .
(3) توفي سنة (651 هـ) انظر هِجَر العلم (1/ 219) ، السلوك (1/ 184) .
وينهى ولا أحد يعارضه فيما يريد، وإذا دخل بلداً أو مكاناً لم يبق لأحد معه من أهل تلك الديار والمكان أمر لا أمير ولا وزير ولاغيرهما، بل الأمر أمر الجنداري والحكم حكمه ما شاء فعل ولا معقب لأمره ولا مرد له ... ) [1].
قلت: وقبل هذه الحكاية حكايات أخرى ساقها صاحب الجوهر فيها تأكيد وشواهد على ما تضمنته هذه الحكاية من اعتقاد القطبية للسقاف التي تجعله في مقام التصرف التام والتولية والعزل.
وإليك نص حكاية منها، وهي الحكاية الخامسة والثلاثون بعد الثلاثمائة عن عمر المحضار بن عبدالرحمن السقاف [2] قال: (كنت نائماً أظنه قال في مسجد مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال: فلم أشعر إلا برجل من الصالحين قد وكزني برجله فرفعت رأسي فقال: ما أجرأك تنام هنا وبطن أبيك ملانة كرعان [3] [كم واحد قال سلبه ثم ولى عني ولم أعرفه فسأل الشيخ عمر - رضي الله عنه - عن معنى قول الرجل بطن أبيك ملانة كرعان] [4] فقال أخذ الخلق كلهم في بطنه يولي من يشاء ويعزل من يشاء رضي الله تعالى عنه) [5].
وقال أحمد بن حسن العطاس في أثناء حكاية (فقال: إني صاحب الوقت وأتصرف في أهله وأنت فلان ابن فلان، وإن كنت تريد أن تنظر إلى بلدكم تريم فأدخل رأسك في كمي فبهت من ذلك ولم أفعل، ثم قال لي: أتريد أن أتصرف في قلب الباشا بأن يقوم؟ وكان جالساً في الحرم فبمجرد قوله ذلك
(1) الجوهر الشفاف (1/ 81 - 82) .
(2) نقيب العلويين في زمانه وأحد أشهر أقطاب حضرموت توفي سنة (833 هـ) انظر الغرر ص (192) ، المشرع ... (2/ 241) .
(3) هي قوائم الدابة انظر القاموس مادة كرع ص (980) .
(4) ما بين القوسين من الحاشية معلم عليه أنه ساقط من الأصل.
(5) الجوهر الشفاف (2/ 80) .
قام الباشا وأتباعه وذهبوا خارجين من الحرم، فلما قاربوا الخروج منه قال لي: أتريد أن أتصرف فيه بأن يرجع فيطوف؟ فبمجرد ذلك رجع هو وأتباعه وطافوا، ثم قال لي: أتريد أن أتصرف في قلب الشريف عبدالمطلب بأن يرجع الخمسة الديواني فتسلك في السوق وتمشي؟ فبمجرد قوله ذلك نادى المنادي بأعلى صوته يقول لكم الشريف عبدالمطلب لايمتنع أحد من الخمسة الديواني). [1]
فانظر إلى هذا الذي إن صدق النقل عنه فهو ساحر كيف يدعي هذه الرتبة من مراتب الأولياء عند الصوفية وأنه يتصرف حتى في قلوب الناس ومقاصدهم ويحملهم على فعل ما يشاء دون اختيار منهم، وكيف يقص هذا العالم القدوة من علماء صوفية حضرموت لأتباعه ومريديه هذه القصة مسلماً بها مريداً منهم أن يصدقوها ويعتقدوها، أليس هذا هو التطبيق العملي لعقيدة القوم في القطب الذي مر تعريفه؟
المطلب الثالث: التصرف في الكون أهم وظائف القطب:
اتضح من تعريف القطب بأنه هو المفوَّض من قبل الله تعالى في التصرف في الكون، وربما أطلقوا على مرتبة القطبية (الخلافة العظمى) [2]، والمعنى: أن يكون القطب خليفة الله تعالى في تصريف الكون.
ولمعرفة ما يشمله ذلك التفويض لدى القوم نذكر بعض النصوص من كتبهم تبين سعة ذلك التفويض وشموليته من حيث الزمان والمكان ومن حيث الدنيا والآخرة.
نقل السيد علي بن محمد الحبشي [3] -أحد أقطاب حضرموت- على سبيل الإقرار والاستحسان عن عبدالعزيز الدباغ قوله: (إن تصرفي يصل حتى إلى الجنان، وإن الحور ما يفعلن شيئاً إلا بأمر مني) ،
(1) تذكير الناس ص (216)
(2) أنظر مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية (2/ 619) .
(3) علي بن محمد الحبشي العلوي الحضرمي صاحب سيؤن ومنشئ رباط العلم بها المسمى باسمه "رباط الحبشي" من أشهر علماء زمانه ومربي جيله تتلمذ عليه الكثير من الطلاب الذين نبغوا وأصبحوا من العلماء والأدباء غير أنه مع علمه قد نقل عنه من الخرافات والهذيان مالا مزيد عليه وذلك ما حواه كتاب كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية كتبه من إملائه ... تلميذه محسن بن عبد الله السقاف وهو أيضاً صاحب زيارة الحول المشهورة بحضرموت توفي رحمة الله سنة (1312 هـ) انظر تاريخ الشعراء الحضرميين (4/ 128) تأليف المؤرخ عبدالله بن محمد السقاف الناشر مكتبة المعارف الطبعة الثالثة سنة (1418 هـ) الطائف، ولوامع النور (1/ 197) .
وكان يقول لمريده: (إن كنت تعتقد أن الْبِسَّ في جميع أقطار الأرض يأكل الفأر بغير إذن مني فما أحسنت الأدب معي) ، ثم يعقب الحبشي على ذلك فيقول: (انظر إلى هذا الفناء العظيم وأين اليوم هذا الاعتقاد) [1].
فانظر إلى هذه الدعوى التي شملت التصرف في الدنيا والآخرة وجميع أقطار الأرض وجميع العوالم من عالم الحور العين إلى عالم الْبِسَّ والفأر.
وإليك صورة أخرى للتصرف الشامل في الحياة وبعد الموت، قال الشلي: (وقال بعض العارفين: الفقيه المقدم تصرف على المشايخ الذين تصرفوا بعد موتهم كتصرفهم في حياتهم وهم القطب الرباني الشيخ عبدالقادر الجيلاني والشيخ معروف الكرخي والشيخ عقيل المنبجي وحيوة بن قيس) ثم استشهد على ذلك بهذه الأبيات لمحمد بن علي خرد باعلوي [2] صاحب الغُرر:
تصرّف شيخ في الوجود معظّم ٌ على السادة الأشياخ أهل المعارف
على السيد الشيخ الفتى عبد قادر ومعروفٍ الكرخي منجٍ لتالف
وقيسٌ عقيل المنبجي وشيخنا لتصريفه لا يصرفون الصارف
(1) كنوز السعادة الأبدية ص (179) الذي قام بطبعه علي بن عيسى الحداد.
(2) صاحب غرر البهاء الضوي توفي سنة (760 هـ) انظر ترجمته في الغرر ص (3 - 11) ، وتاريخ الشعراء الحضرميين ... (1/ 142) .
وتصريفهم في كل شيء محقق سوى في جمال الدين عين لواقف [1]
وتأكيداً لذلك تجدهم في الحضرات وبعض الموالد ينشدون إلى اليوم:
ربي اسألك باسرار الفقيه المقدم والذي قد حوى التصريف من قبل آدم
ويقول صاحب شرح العينية: (وكان سيدنا الفقيه من الممكنين في التصريف بعد موتهم، قال المشايخ العارفون: ما صلينا على جنازة إلا والفقيه محمد بن علي بعد موته يصلي معنا عليها) [2]،فانظر الشمول الزماني لهذا التصريف من الأزل إلى الأبد! بل زاد في الأنموذج اللطيف أن قال بعد ما ذكر صلاته على الأموات بعد موته: (فلا شك أنه ممن صلى على نفسه بنفسه) [3]
وفي مناقب عبدالرحمن السقاف يقول محمد بن علي خرد: (ومنها ما روي عن السيد عبدالرحمن بن علوي بن محمد بن الشيخ المذكور، قال كنت في عدن، وقد أصابني في عيني وجع، ولقيت الفقيه العالم القاضي محمد بن سعيد كبن، وأريته إياها وكان عارفاً بعلم الطب، وقيل، إنه كان يعرف اثني عشر علماً سوى العلوم المتداولة بين الناس معرفتها، ما يسأله أحد عن شيء منها، وقلت له يافقيه: أعطني لها دواء، فلما نظرها قال: (هذا مرض تسميه الأطباء الماء الأخضر وليس عندنا دواء حتى يكمل عماؤها، وإن أردت لها دواءاً قبل ذلك دللناك عليه فقلت: ما هو؟ فقال: اقصد جدك الشيخ عبدالرحمن، وقل له: يسلم عليك محمد بن سعيد كبن، وقل له: في عيني وجع أريدك تزيله بإذن الله فإنه يزول، فقلت له: تحولني على ميت؟ فنهض من مقعده وارتعش، ثم قال: والله، ثم والله
(1) المشرع الروي (2/ 6 - 7) ، وقال بعد أبيات (قوله: وقيس صوابه حيوة) .
(2) شرح العينية ص (161) نظم عبدالله بن علوي الحداد تأليف العلامة أحمد بن زين الحبشي باعلوي طبع مطبعة كرجاي المحدودة سنغافورة، الطبعة الأولى (1407 هـ - 1987 م) .
(3) الأنموذج اللطيف في مناقب الغوث للأستاذ الأعظم الفقيه محمد بن علوي باعلوي دفين تربة تريم ص (213) مع البرقة المشيقة للسيد علي بن أبي بكر السكران طبع في مصر سنة (1347 هـ) .
ثم والله، إني أعتقد في الشيخ المذكور أنه يتصرف في مماته، كتصرفه في حياته، وأنه انتقل إلى الآخرة ولم تنتقل دولته، وفي رواية عن الفقيه الولي الصالح الشيخ سهل بن عبدالله باقشير، ما أخبرني عنه السيد شيخ بن عبدالله بن الشيخ عبدالرحمن، قال: لما رأى الفقيه عين عبدالرحمن رآها عمياء لكتيبة حصلت فيها هذا من أمر القدرة ما يزيل أمر القدرة إلا أهل القدرة، وجدك من أهل القدرة فأحاله عليه، فقال عبدالرحمن: ثم بعد مدة رأيت الشيخ في المنام على سرير فقلت له: إن الفقيه ابن كبن قال لي إنك تتصرف بعد وفاتك كتصرفك في حياتك، فأخذ بإذني وقال لي: (أنا ابن محمد بن علي، ما تصدق إلا إن قال: لك ابن كبن؟ أنا كذلك وأزْيَد وأزْيَد، - رضي الله عنه - ونفع به) [1]، فهذا لا يقتصر على التصرف في الكون في حياته وبعد مماته بل هو كذلك وأزيد وأزيد) ولا أدري ما هو الأزيد من ذلك؟!.
وهناك مثال عملي للتصرف في الكون مع تأويل له من أحد كبار أقطاب صوفية اليمن: (من عجائب الآيات وغرائب الكرامات ما وقع بين الشيخين العارفين السيفين القاطعين أعني أبا عيسى واسمه سعيد وأحمد ابن أبي الجعد المذكورَين، وذلك أنه ورد الشيخ أحمد المذكور في جمع من أصحابه على الشيخ سعيد في وقت جاءوا إلى زيارة القبور الشريفة في حضرموت، فوافقه الشيخ سعيد وأصحابه على الزيارة ومشوا، فلما بلغوا بعض الطريق بدا للشيخ سعيد أن يرجع في هذا الوقت ويزور في وقت آخر، فرجع هو وأصحابه إلى موضعهم واستمر الشيخ أحمد على عزمه حتى انتهى إلى مقصده فزار ورجع، والشيخ سعيد مكث أياماً ثم خرج هو وأصحابه إلى الزيارة المذكورة فالتقى الشيخان وأصحابهما في الطريق فقال الشيخ أحمد للشيخ سعيد: توجه عليك حق الفقراء في رجوعك
(1) الغرر ص (398) .
فقال: لا ما توجه علي حق، فقال له الشيخ أحمد: بلى قد توجه عليك الحق فقم وأنصف، فقام الشيخ سعيد وقال: من أقامنا أقعدناه، فقال الشيخ أحمد: ومَنْ أقعدنا ابتليناه، وأصاب كل واحد منهما ما قاله صاحبه، فصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي الله تعالى، وصار الشيخ سعيد مبتلى في جسمه ببلاء قطع جسمه حتى لقي الله تعالى رضي الله تعالى عنهما.
وهذه لعمري أحوال تَكِلُ في جَبِّ بعضها السيوف القاطعة، وإنما يقطع الحالان معاً إذا كان صاحباهما متكافيين أو قريباً من التكافي، فإن لم يكونا كذلك قطع القوي منهما الضعيف، وقد يقطع السابق دون المسبوق فيما يظهر والله أعلم.) [1].
ومنهم من يدَّعي ذلك لنفسه كما قال الشيخ أبو بكر بن سالم صاحب عينات:
(أنا أعزل أنا اللي ولي أنا شيخها قاضيها) [2].
وقال أحمد بن حسن العطاس قال: (فزعت مرة من أحد الناس فلما جئت إلى الحبيب أبي بكر بن عبدالله قال لي: لا تخف من حي ولا من ميت عاد المفاتيح إلا كلها بيدي) ،وقال أيضاً: (قال الحبيب أبوبكر بن عبدالله انسدحت مرة في بندر الشحر في مسجد الحبيب أحمد بن أبي بكر بن سالم بعد صلاة الصبح فأتوا بشيء كالبيضة وفيه شيء ونكتوه عند رأسي فإذا هو مختلف الألوان الأبيض والأسود والممتزج فقلت: لعله عالم الذر قال: نعم، فقلت لعله لما ولوكم عليه؟ قال: نعم) [3]، وهذا واضح أن الرجل يدّعي أنه بيده مفاتيح الكون ولا أحد يقدر على عمل شيء بغير إذنه هذا في
(1) مرآة الجنان لليافعي (4/ 352 - 354) .
(2) من قصيدة شهيرة للشيخ المذكور ما زالت متداولة إلى اليوم ينشدها الصوفية في موالدهم وحضراتهم وضمن مولد الديبعي ص (93 - 95) .
(3) الحكايتان في مجموع كلام الحبيب أحمد بن حسن العطاس رواية محمد بن عوض بافضل ص (25) وهو مخطوط مصور عند بعض الأصدقاء.
الحكاية الأولى، وأما الحكاية الثانية ففيها أنه ولي على عالم الذر أي الخلق الذين لم يخرجوا إلى الحياة بعد.
وقضية القطبية واعتقادها عند أهل اليمن مبثوثة في كتبهم فلا يكاد أحد من كبارهم لا يوصف بها، حتى لقد قال عبدالرحمن بن محمد السقاف باعلوي [1]: (في تربة تريم ثمانون قطباً كلهم أشراف - رضي الله عنهم -) [2] فهؤلاء فقط في تربة تريم، فكم في باقي ترب اليمن، والسقاف توفي عام (819 هـ) فكم جاء بعده من الأقطاب، وهذا كله في اليمن إلى ذلك التاريخ فكيف ببقية بلاد الله منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا، لاشك أن عدد الأقطاب لا يمكن أن يأتي عليه الحصر رغم أنهم يقولون إن القطب واحد فقط ولا يولي غيره حتى يموت.
وعلى كل حال فإننا سنلمس الأثر الكبير لعقيدة القطبية بالمفهوم الصوفي فيما يأتي من المطالب حيث تتوالد العقائد الضالة بعضها من بعض.
وكما شارك صوفية اليمن بقية الصوفية في عقيدة القطبية شاركوهم كذلك في اعتقادهم بدولة الأولياء وديوان شورا هم، يقول أحمد بن حسن العطاس: (وعقد أي الديوان مرة في قبة الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس ورأيت الحبيب أبا بكر ارتفع من قبره وفرشوا له فوق القبر حقه، وكان رئيس المجلس الحبيب أبوبكر، ورأيت بالجانب البحري من القبة، رجلاً فسألته: من هو؟ فقال: نقيب الأولياء بالقدس، والذي ظهر لي أن النوبة بقيت مع الحبيب أبي بكر مدة بعد موته، قال سيدي: والرجال الذين هم رجال ما يطلبون مقام القطبية، ولا غيرها ويفرون منها، ومثالها مثال مَنْ قال لك: (هذه البلدة ونفقة أهلها، وخرج معاشهم ودوابهم، وأعطاك ما يحتاجون إليه ماذا ترى لنفسك؟) .
(1) جد آل السقاف انظر ترجمته في المشرع الروي ص (2/ 141)
(2) 3 الغرر ص (96)
وقال أيضاً: (وفي ليلة وفاة الحبيب أبي بكر عبدالله العطاس، اجتمع الأولياء أهل الظاهر والباطن، وجلست أنا بالقرب منهم، وكان ذلك في جامع حريضة، فكان رئيس المجلس الشيخ عبدالقادر الجيلاني فدعاني الشيخ عبدالقادر فقلت له: أنا ما فيَّ طاقة لشيء إن معكم شيء لي اطرحوه في القرآن، فطلع أحد من الأولياء لم أعرفه إلا من بعد، ولما انقضت نوبته اجتمعوا بأعلى شبام، بالقرب من العقّاد، وجعل الأمر بين اثنين، واحد على المعالي وواحد على المسافل) [1].
المطلب الرابع: فروع عقيدة التصرف في الكون:
الفرع الأول: درجة الكونية:
والمراد بها أن الولي قادر على أن يقول للشيء كن فيكون، وهذا مما اختَصَّ الله به، ولم يقم دليل على أن الله تعالى منحه أحداً من خلقه، ولم يدّعه أحد من رسل الله فضلاً عن غيرهم من البشر، ولكن الصوفية حينما ادّعوا لأنفسهم خلافة الله في تصريف الكون ساغ لهم ذلك الادعاء الكاذب المبني على الادعاء الكاذب الأول.
ومن أدلة ادعائهم ذلك لأنفسهم وإقرارهم من ادعاه ما ورد في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم من المشرع قال: (وحُكي أن الشيخ عبدالله باعباد سأل صاحب الترجمة عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال: (ظهر لي ثلاث أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء كن فيكون، وأعرف ما سيكون فقال الشيخ عبدالله: نرجو فيك أكثر من هذا) [2].
(1) نظر الحكايتين في: تذكير الناس ص (206 - 207) .
(2) المشرع (2/ 211) وقد اعتمد القوم هذه المنقبة له حتى قال صاحب النور السافر عنه ص (281) : (يقول للشيء كن فيكون بإذن الله) ، وانظر الغرر ص (372) .
وأعجب من ذلك ما ذكره صاحب الجوهر في ترجمة الشيخ إبراهيم بن يحيى بن أحمد بن محمد بافضل: (وقال في بعض مصنفاته وردت إليَّ رقعة من الفقيه ابن العربي - رضي الله عنه - فإذا فيها ورد علينا فقير وقال لنا: الفقير يحيي ويميت بإذن الله تعالى، والفقير يقول للشيء كن فيكون بإذن الله تعالى والفقير لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فأشكل علينا مافيها [1] فقال الشيخ إبراهيم بن يحيى - رضي الله عنه - شعراً:
إذا لم أفتكم بصريح علم فلا من بعدها تستفتيوني
بما في محكم القرآن أفتي وإلا بعد هذا كذبوني
ثم أجاب عن الكل بجواب فايق عجيب وأتى على كل مسألة بدليل من القرآن) [2]. وحسبك بهذا إقرار لهذه العقائد الخبيثة وأخذ بها.
الفرع الثاني: الإحياء والإماتة:
مما تضمنه توحيد الربوبية من الصفات التي لاشريك له سبحانه فيها الإحياء والإماتة، وقد جمع الله سبحانه بين هاتين الصفتين في آيات كثيرة جداً، أقتصر على ثلاث منها، ففي آل عمران يقول تعالى: {والله يحي ويميت والله بما تعملون بصير} [3]، وفي التوبة يقول تعالى: {إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير} [4]، وفي يونس يقول الله تعالى: {هو يحيي ويميت وإليه ترجعون} [5]، ولما كانت هاتان الصفتان من أكبر البراهين على ربوبية الله تعالى احتج بهما إبراهيم على خصمه فقال وهو يحاج ذلك الطاغية: {ربي الذي يحيي ويميت} فعاند
(1) هذه الكلمة غير مفهومة في الأصل وأظنها فيها.
(2) الجوهر الشفاف (1/ 146 - 147) .
(3) آل عمران (156) .
(4) التوبة (116) .
(5) يونس (56) .
الطاغية وكابر فقال: {أنا أحيي وأميت} قال المفسرون: فلما رأى إبراهيم سفهه وسخافة دعواه عدل إلى دليل آخر أكثر ظهوراً ولا يستطيع أن يغالط فيه سفهاء الأحلام ممن حوله فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} [1]،وقد عد المفسرون هذا الطاغية مدّعياً للربوبية بذلك وجعلوه مثل فرعون الذي صرح بذلك حين قال: {أنا ربكم الأعلى} [2] وقال: {ما علمت لكم من إله غيري} [3].
وهذا كله يدل بجلاء على أن من ادعى هاتين الصفتين فقد ادعى الربوبية، ومع ذلك فإن الصوفية القبورية يدعون ذلك لبعض أوليائهم، أو يدعيها بعضهم فيقرونه عليها، وإذا أردنا أن نعتذر لهم نقول: إنهم لم يدّعوا ذات الربوبية ولكنهم ادعوا الخلافة العظمى عن الحق سبحانه، ومن جملة وظيفة الخليفة التي فوضها إليه الرب سبحانه هذه الصفة وغيرها من الصفات التي يزعمونها لأوليائهم، وأما ادعاؤهم ذلك فثابت لاشك فيه، ومن الأدلة على ذلك ما مر من ادعاء علوي بن الفقيه المقدم لذلك فيما حكاه الشلي كما في الفرع الأول.
الفرع الثالث: علم الغيب:
(1) البقرة (258) .
(2) النازعات (24) .
(3) القصص (38) .
من مسلَّمات العقيدة الإسلامية اختصاص الله تعالى بعلم الغيب وأنه لا يشاركه فيه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} [1]، وأنه سبحانه عنده وحده مفاتيح الغيب كما قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} [2]، وقد بينها سبحانه وحصر علمها عنده، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطرأحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله )) . [3]
بهذه النصوص وغيرها قطع علماء المسلمين أن علم الغيب مما اختص الله به، وأن من ادعاه فقد كذب [4] وأنه طاغوت [5].
ومع ذلك فقد ادعاه الصوفية القبورية لبعض أوليائهم أو ادعاه بعضهم وأقروه عليه وعدّوه من كراماته ومناقبه.
ومن الأدلة على ذلك ما مر في الفرعين الأول والثاني مما ادعاه علي بن الفقيه المقدم وذكر في مناقبه أنه: (يحيي ويميت ويقول للشيء كن فيكون ويعلم ما سيكون) .
ومن ذلك ما جاء في ترجمة أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف أنه يقول: (أعرف من الفرش إلى العرش) [6]، وفي ترجمة أخيه حسن بن عبدالرحمن السقاف: (كان يقول: أنا أعرف السعيد والشقي وأعرف
(1) الجن (27) .
(2) الأنعام (59) .
(3) 6 رواه البخاري من حديث ابن عمر كتاب التفسير باب قوله (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام) ... (4/ 1733)
(4) انظر: فتح القدير للشوكاني (2/ 123) .
(5) 2 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 282) .
(6) 3 المشرع (2/ 33) .
الصالحين بالشيم) [1]، وفي ترجمة أخيهما الثالث شيخ: (وقال والده عبدالرحمن السقاف: ولدي شيخ كعشرة شيوخ، وما سميته شيخاً إلا أني رأيته في اللوح المحفوظ شيخاً) [2].
وسأقتصر على هذه النماذج مع أن هناك دعاوى كثيرة من هذا القبيل.
الفرع الرابع: إعطاء الولد:
هذه الخصلة (إعطاء الولد) هي كذلك من خصائص الله تعالى كما قال - عز وجل: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير} [3].
ولو قيل: إن صالحاً من الصالحين الأحياء دعا ربه لأحد من الناس بالولد فرزق بتلك الدعوة ولداً ماكان عليه من نكير، ولكن أن ينسب إلى الولي ذاته إعطاء الولد حياً كان أو ميتاً فذلك الذي فيه ادعاء ما هو من خصائص الربوبية، والقبورية يدعون ذلك لأنفسهم أو لأوليائهم أحياءً وأمواتاً، والدليل عليه ما جاء في تذكير الناس قال جامعه: (وأهدى بعض السادة شيئاً لسيدي - رضي الله عنه - فدعا له بأن يرزقه الله ولداً وقال له: حولناك على الحبيب أحمد بن علي الهدار، وهذا الحبيب كان من أهل الأحوال العظيمة، وكان إذا جاءه أحد وسأله الدعاء بالذرية يقول له: بايأتيك ولد، أو اثنان أو أكثر فاعترض عليه أحد بقلبه فكاشفه الحبيب أحمد وقال له: يا فلان إن الذين قسمتهم من بحر الشيخ
(1) 4 المصدر السابق (2/ 89)
(2) المصدر السابق (2/ 116) .
(3) الشورى الآية (49 - 50) .
أبي بكر بن سالم سبعة آلاف ولد، وأنت يأتيك نصف ولد، فأتاه نصف ولد على رِجل واحدة ويد واحدة وناصفة وجه، نسأل الله العافية.) [1]
ويظهر من هذه الحكاية بشكل جلي أن الرجل لم يدعُ الله، وإنما يقول على جهة الوعد (بايأتيك ولد) وهذا باللهجة الحضرمية معناه سوف يأتيك ولد، فليس فيه أي معنى من معاني الدعاء، ويؤكد ذلك إنكار العامي وغضب الحبيب من ذلك الإنكار، ثم تصريحه بأنه قسّم، وقسّم من أين؟ قسَّم من بحر الشيخ أبي بكر بن سالم، فأبوبكر بن سالم عنده القدرة والإمكانية الواسعة جداً المشبهة بالبحر، وهذا ولده أخذ يقسَّم من ملك جده، أليس هذا صريح في أنهم يدَّعون القدرة الكاملة على ذلك وأنه من جملة ما يملكونه.
وبناءً على ترسخ هذه العقيدة لديهم نجدهم يطلبون ذلك فعلاً من أوليائهم، قال صاحب تذكير الناس: (قال سيدي: وزرنا مرة تربة الفريط بتريم نحن والأخ حامد بن أحمد المحضار، ولما كنا عند الشيخ القرشي صاحب الذرية أخذ الأخ حامد حصاة كبيرة ووضعها عند قبر الشيخ وقال: -والحاضرون يسمعون - شف نحنا نبغي ولداً لفاطمة عبوده بنت عبدالله بن عمر القعيطي، وكانت مسنة في ذلك الوقت ومستبعدٌ أن تحمل فقدّر الله أنها حملت بولد وعاش) [2].
وصاحب هذه الحكاية من كبار أقطاب القوم وعلمائهم ومع ذلك يروي هذه الحكاية مقراً لها، و "حامد المحضار" من كبارهم أيضاً وقد رفع صوته يطلب ذلك أمام العامة وأقره من حضر من الأكابر، إذاً هي قضية مسلّمة يربّون عليها أتباعهم.
(1) تذكير الناس ص (321) .
(2) المصدر السابق ص (322 - 323) .
ويقول آخر من كبارهم وُصف بأنه: "العالم الجليل نسخة السلف وقدوة الخلف" في رحلته الموسومة بـ "النفحة الشذية إلى الديار الحضرمية وتلبية الصوت من الحجاز وحضرموت" في نفس الموضوع: (ولما وقفنا على قبر الشيخ عمر بن علي القرشي ويروى أن من طرح عند قبره حجرة يرزق ولداً، وقيل: لنا أن الحبيب علي بن محمد الحبشي زاره وبصحبته الحبيب عمر بن عيدروس العيدروس فأخذ الحبيب عمر ملا ثوبه حصى ليطرحه عند القبر، فقال له الحبيب علي: كثّرت جم، فقال: أريد نسمات تذكر الله أو قال تعبد الله، فأخذت أنا حصاتين وطرحتهما عند القبر على هذه النية) [1]، فإذا كان هذا فعل علمائهم فماذا يا ترى يصنع عوامهم وجهالهم؟.
الفرع الخامس: إنزال المرض ورفعه:
القول في هذا الفرع كالقول في بقية الفروع فالمرض لا يصيب به إلا رب العالمين، قال تعالى حاكياً عن إبراهيم أنه قال لقومه وهو يدعوهم ويبين لهم حقيقة دعوته وعقيدته: {وإذا مرضت فهو يشفين} [2]، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم: (( لا عدوى ولا طيرة )) [3]،وقد صرح العلماء بأنه ليس المقصود نفي العدوى من أصلها بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم: (( لا يورد ممرض على مصح )) [4]، لأنه واضح أن في ذلك اعتبار العدوى ولكنه نفى على المعنى الذي كانت الجاهلية تفهمه وهو أن الأمراض تعدي بذاتها فتنسب إلى الأمراض،
(1) النفحة الشذية إلى الديار الحضرمية، وتليه رحلته تلبية الصوت من الحجاز وحضرموت ص (175 - 176) ، تأليف ... العالم نسخة السلف وقدوة الخلف الحبيب عمر بن أحمد بن سميط، طبع على نفقة أحد المحبين من المحسنين (1397 هـ) .
(2) الشعراء آية (80) .
(3) البخاري في صحيحه (5/ 2158) ، كتاب الطب باب الجذام، ومسلم في صحيحه (4/ 1743) ، كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.
(4) مسلم في صحيحه (4/ 743) في الكتاب والباب السابقين، كلاهما من حديث أبي هريرة.
فحسم - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الباطل بهذا اللفظ العام ليكون أبلغ وأشمل [1]، فكيف يأتي بعد ذلك من يقول أنه يضع المرض على من شاء وأنه يرفعه عمن يشاء، إن ذلك لاشك ادَّعاء لخاصة من خصوصيات الربوبية وتعليق للخلق بغير الحق وهذا أيضاً مضاد ومناقض لما تدعيه الصوفية من تجريد قلوب الناس من سوى الله تعالى.
وإليك الدليل على زعمهم وضع الأمراض على أناس ورفعها عن آخرين، فقد ذكر الشرجي في ترجمة إسماعيل الجبرتي قال: (ومن ذلك ما يروى عن رجل من أهل مكة يقال له الفقيه عبدالرحيم الأميوطي أنه قال: (كنت لا أعتقد الشيخ إسماعيل، وكنت أحط منه، فبينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، وإذا بي أرى الشيخ قد دخل عليّ في جماعة، فسمعته وهو يقول لآخر: هات الوجع الفلاني فجاء به فوضعه عليَّ ثم قال: هات الوجع الفلاني فجاء به فوضعه علي، ثم مازال يقول هات الوجع الفلاني ويضعه عليّ، حتى وضع عليّ قدْرَ عشرين وجعاً حتى كدت أموت، وخرج، قال: (فبقيت تلك الأوجاع عليّ باقي ليلتي ويومي ذلك إلى العصر، فأرسلت إليه واستعطفت خاطره، فجاء إليَّ فرفع ذلك كله عني، وقمت كأن لم يكن بي شيء فتبت إلى الله تعالى، وحسّنت عقيدتي في الشيخ نفع الله به) . [2]
إذاً فالذي لا يعتقد فيهم ذلك فهو مهدد بالمرض من قبلهم، فهذا عمر المحضار يروي عنه صاحب المشرع ( ... وكان إذا غضب على أحد أصابه الجذام وغيره من الأسقام بعد ثلاثة أيام، فقيل له:
(1) انظر: (10/ 160 - 162) من الفتح.
(2) طبقات الخواص ص (103) .
أما تخشى أن ينالك بهذا شيء فقال: إني لم أدعُ على أحد، ولكني إذا غضبت على أحد وقع في باطني نارٌ لا تنطفئُ إلا بعد ما يصيبه ذلك المرض أو يتوب). [1]
الفرع السادس: إنزال المطر:
الآيات في تفرد الله تعالى بإنزال المطر كثيرة جداً، منها قوله تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} [2]، فلو كان أحد من الخلق قادراً على ذلك فهل سيكون هذا التحدي صحيحاً؟ والجواب: لا قطعاً فعلم أنه لا ينزل المطر إلا الله، بل حتى علم الوقت الذي ينزل فيه المطر ومكان نزوله قبل نزوله لا يعلمه إلا الله: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [3]، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز أن ننسب إنزال المطر إلى عبد من عباد الله، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حسم الأمر بشكل أوضح، وأبعد المؤمنين عن توهم ذلك أو التلفظ بلفظ يؤدي إلى ذلك الفهم الخاطئ، ففي صحيح البخاري من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: (( صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ) ) . [4]
(1) المشرع (2/ 242 - 243) .
(2) الواقعة الآية (68 - 69) .
(3) لقمان الآية (34) .
(4) البخاري في صحيحه (1/ 290) كتاب صفة الصلاة باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، ومسلم (2/ 59 - 60) مع النووي كتاب الإيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.
ومن الأدلة على أن القوم يعتقدون في أوليائهم إنزال المطر ما جاء في ترجمة أحمد بن عمر الزيلعي من طبقات الخواص حيث قال: (وكان للفقيه أيضاً ولد يقال له علي، كان من الصالحين، وكان لا يُلازم في المطر إلا ويحصل سريعاً حتى عرف بذلك، وكان يقال له صاحب الماء) [1]، وقد كان ذكر في ترجمة الجد حكايات تدل على أنه ينزل الغيث منها: (أنه وصل من اللحية إلى قرية المحمول وقد أجدبوا مدة طويلة، فعند أن وصل إليهم جاءت إليه بهيمة وجعلت تخور بين يديه، فدخل المسجد ودعا الله تعالى ثم قال: (يا ميكائيل كل، فاجتمع السحاب للفور من كل ناحية ومطروا مطراً عظيماً بإذن الله تعالى) [2].
ومنها قول صاحب الطبقات: (وكان أهل الوادي خُلَب بضم الخاء المعجمة وفتح اللام وآخره باء موحدة يصحبونه ويعتقدونه، فجاء إليهم مرة وهم مجدبون فجعلوا يلازمونه في السيل فقال لفقيرٍ له: (اذهب إلى رأس الوادي وقل له: يقول لك الفقيه سل الآن، ففعل الفقير ذلك، فسال الوادي من ساعته وسقوا سقياً هنيئاً بفضل الله تعالى) [3]، فلاحِظْ أمره لميكائيل في الحكاية الأولى وأمره للوادي في الحكاية الثانية، هل يدل على أن الأمر مجرد دعاء؟ كلا لا يدل إلا على أنه هو المالك لذلك والمتصرف فيه.
وفي تذكير الناس: (قال سيدي: ووقع بحريضة في بعض السنين قحط شديد، فسار الحبيب علي بن جعفر العطاس إلى النقعة، وهي قرية بقرب حريضة وقال لأهل البلد: سنجيئكم بسيل من عند
(1) طبقات الخواص ص (77) .
(2) المصدر السابق ص (75) .
(3) المصدر السابق ص (75) .
الشيخ جنيد باوزير إن شاء الله، فلما وصل إليها زار قبر الشيخ جنيد والشيخ علي بن سالم ورجع فسال وادي حريضة تلك الليلة). [1]
وأوضح من هذا ما ذكره، أيضاً في تذكير الناس قال: (قال سيدي وبلغنا أن الشيخ عبدالله بن أحمد بلعفيف كان من أولياء الله المستجابة دعوتهم، ويقال له بياع السيول، وصل إلى تريم في بعض زياراته، فاجتمع ببعض السادة آل العيدروس فقال له أنت: بلعفيف بياع السيول، فقال له الشيخ: نعم حاجة خدمة، فقال له الحبيب: نعم مرادنا سيل، فقال الشيخ لا بأس، بكم تشتري؟ فقال له الحبيب بالذي تريده، فقال الشيخ: نبيع لك سيل بكبش سمين، وخمس قهاول [2] برُ، فقال الحبيب: لا بأس تم الكلام، فقال الشيخ تبغي السيل لأي أرض؟ قال الحبيب: للشرج الفلاني حقي، فقال الشيخ: هات الكبش والبر وأخرج رُعّاضك لشرجك، فأتى الحبيب بالبر والكبش وخرج الرُّعَّاض [3] وشرب الشرج بإذن الله وبركة أولياء الله) [4].
قلت: وحكى لي جدي - رحمه الله - أن في قرية مجاورة لنا رجلاً يقال له "فلان باسليمان" وكان حراثاً عارفاً بقوانين الحراثة ومتى يكون السيل أفضل للأرض، فكان ربما جاء السيل في غير الوقت الذي يراه مناسباً فلا يسقي أرضه فعوتب في ذلك لأنه ربما إذا لم يسق لم يأت سيل آخر، فيقول: (ما بيني وبين السيل إلا صاع طحين) يعني أنه يتزود صاعاً من الطحين ويزور الشيخ سعيد بن عيسى
(1) تذكير الناس ص (187) .
(2) القهاول مقدار من الكيل يساوي ثلاثة أصواع تقريباً.
(3) الرَّعَّاض جمع راعض وهو الذي يعدِّل السيل في الحقول.
(4) المصدر السابق ص (188) .
فيأتي السيل، فهل يشك أحد في اعتقاد هذا العامي وأمثاله أن الشيخ سعيد بن عيسى يملك إعطاء السيل؟!.
الفرع السابع: إجابة الداعي وإغاثة المستغيث:
إن هذا الفرع في الحقيقة هو النتيجة الحتمية لتلك العقائد بل الثمرة المرة الخبيثة لها، فإن المريد الصوفي أو العامي من عوام المسلمين حينما يتكرر على سمعه أن فلاناً من الأولياء هو القطب الغوث الذي أعطي الخلافة العظمى في هذا الكون والتولية والعزل فيه، واعتباره الواسطة بين الله وبين عباده فلا يصل خير إلى العباد إلا بواسطته، وأنه قد فوِّض إليه تصريف الكون، وأن تصريفه نافذ على كل شيء من العرش إلى الفرش وحتى البِسْ لا يأكل الفأر في جميع أقطار الأرض إلا بإذنه، وأنه يعطي ويمنع ويشفي ويمرض بل يميت ويحيي ويُنزل الغيث ويهب الولد، إلى آخر ما ينسب إليهم من القدرات، ماذا سيتصور ذلك المسكين، هذا الولي؟ لاشك أنه سيتصور أنه هو السميع المجيب وأنه على كل شيء قدير، وبموجب هذا التصور سيهرع إليه كلما نزلت به نازلة أو أصابته حاجة، فإنه لا رجاء في حصول أي مطلوب أو دفع أي مرهوب إلا بالالتجاء إليه، وهذا هو الذي يحصل في كثير من الأحيان والأحوال ولدى أكثر الناس من القرون التي سيطر فيها فكر القبورية على الناس.
وهم لم يكتفوا بما مضى من دفع الناس إلى ذلك الاعتقاد والتصور الخاطئ، بل صرح الكثير من أوليائهم بأنهم يسمعون من ناداهم ويجيبونه ويغيثون من استغاث بهم وينقذونه مما هو فيه، ويروون مئات القصص التي تحكي كيف نزل الضر بفلان فاستغاث بالقطب فأغاثه، بصور وأساليب متنوعة كلها تتآزر على شيء واحد هو تعميق الاعتقاد في ذلك الشخص بأنه يفعل ويفعل، وأن على الجميع الالتفات إليه والاعتماد عليه وإنزال حوائجهم به.
وهذا هو الشرك بالله تعالى، ولكنني لن أخوض في الرد عليه في هذا الموضع، وإنما سوف أنقل بعض النماذج عنهم في ذلك لإثبات أنهم يعتقدون في أهل الولاية منهم أحياءً وأمواتاً أنهم يجيبون الداعي ويغيثون المستغيث، وليس الأمر كما يقوله من يروج تلك العقائد ويدافع عن الموروث الذي كان عليه الآباء والأجداد من أن ذلك مجرد توسل بهم إلى الله وإن كان بلفظ الدعاء والاستغاثة.
وإليك النصوص الصريحة والوقائع الواضحة الشاهدة على ما نقول:
أول ما نورد في ذلك تقرير عميد القوم وحجتهم وإمامهم في العلم والتصوف من يسمونه (قطب الدعوة والإرشاد عبدالله بن علوي الحداد) وهذا التقرير في قصيدة من أشهر قصائده لدى القوم وهي العينية حيث يقول فيها في صفة الولي:
من كل طود في العلوم وفي الحجا متبحر متفنن متوسع
داع إلى الله العظيم بفعله ومقاله والحال غير مضيع
ذي عفة وفتوة وأمانة وصيانة للسر أحسن من يعي
وزهادة وعبادة وشهادة منه الغيوب بمنظر وبمسمع
جمع الرياضة والكشوف ولم يزل يرقى إلى أن يستجيب إذا دعي [1]
إذاً فهي حقيقة مسلّمة عند القوم أن الولي ما يزال يترقى حتى يصير ممن يستجيب إذا دعي [2]، فعند القوم أن الولي "يُدعى" وليس فقط يتوسّل به و "يجيب إذا دُعي" وليس الله - عز وجل - يجيب من دعاه متوسلاً به.
(1) شرح العينية ص (ب) من المقدمة.
(2) انظر: شرح هذا البيت في العينية ص (17 - 18) .
وبناءً على تلك الحقيقة المعروفة لديهم منذ عرف التصوف المنحرف في اليمن والتي عبر عنها الحداد في عينيته، تجد الدعوى متواصلة لأوليائهم بإغاثة من استغاث بهم.
ومن ذلك ما ذكره شارح العينية المذكورة في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم حيث قال: (وكان - رضي الله عنه - سريع الغوث لمن استغاث به، قال السيد الجليل العلامة المحدث الإمام محمد بن علي علوي خرد باعلوي في كتابه "الغُرر" أخبرني الشيخ عبدالرحمن بن علي أن العارفين قالوا: (ثلاثة من آل باعلوي لا تزال خيل حميتهم وإجابتهم مسرجة ملجمة من دعا بهم أُجيب وهم علوي المذكور وابنه علي والشيخ عمر المحضار، وقال صاحب كتاب الغرر المذكور في ذلك شعراً:
إذا خفت أمراً أو توقّعت شدة فنوِّه بهم كي يدركوك ويحضروا
فنوِّه بعلوي الفتى وابنه علي كذا عمر فيما يجل ويعسر
فغارتهم تنجيك من كل شدة وعُسرٍ وضيقٍ أو بصدرك يكبر [1]
ولا يقتصر الأمر على أناس ينسبون إلى الولي أنه يغيث من يستغيث به، ولكن الولي يدّعي ذلك لنفسه ويفخر به، فهذا عمر المحضار يقول في قصيدة مازالوا إلى اليوم ينشدونها في حضرة السقاف.
إني سريعُ الغوث في كل الشدائد فاهتف
باسمي تجدني أسرِعُ
قل يا شهاب الدين إن يعروك خطب يا فطن
فأنا لخطبك أدفعُ
(1) شرح العينية ص (174) وانظر أيضاً: المشرع الروي (2/ 212) .
وقال شارح العينية في ترجمة عبدالرحمن السقاف: (وكان يرد على من غلط في مسجده وهو بالعجز [1] ويسمعه الغالط، وكان يقلب التراب دراهم بإذن الله تعالى، وكان يظهر لمن استغاث به جهاراً في الأماكن البعيدة بحراً وبراً) [2].
وفي كتاب "تاج الأعراس" في مناقب الحبيب القطب صالح بن عبدالله العطاس، قال المؤلف: (ومما أكرم الله به صاحب المناقب، وخصه به من سنيات المراتب، وكان ينفرد به دون أقرانه من أهل المظاهر والمناصب، أنه يحضر عند من ناداه وتوسل به إلى الله بصدق نية وصفاء طوية) [3].
وتقول الشيخة سلطانة الزبيدية كما في ترجمة السقاف من المشرع: (ما رأيت أحداً أسرع إجابة عند الاستغاثة من السيد محمد بن السقاف، وكانت تقول: إذا حدث أمر واستغثت بالأولياء فأول من يغيثني هو) [4].
وقال صاحب "تاج الأعراس" في ترجمة صالح بن عبدالله العطاس: (وممن أثنى على صاحب المناقب واعترف له بمقام الغوثية شيخ مشايخ تلك العصور، وعالمها وإمامها المشهور، شيخ الإسلام ببلد الله الحرام السيد أحمد بن زيني دحلان قال: (إنه حصل عليَّ حال بمكة وكربتُ لذلك كرباً شديداً فاستغثت بالحبيب صالح بن عبدالله العطاس صاحب عمد وهو إذ ذاك بحضرموت ودعوته بثلاثة أصوات، فإذا هو حاضر عندي في الحرم المكي، راكباً على جواد أخضر اللون ومعه أربعون جندياً كلهم مسلحون، فحين رأيته ذهب عني ذلك الكرب وانشرحت انشراحاً كاملاً ببركته) [5].
(1) العَجُز: بفتح العين وضم الجيم قرية شرق تريم تبعد منها مسافة.
(2) شرح العينية ص (188) .
(3) تاج الأعراس ص (1/ 94) .
(4) المشرع الروي ص (1/ 184) .
(5) تاج الأعراس (1/ 104) .
وقال كذلك في ترجمة هادون بن هود العطاس: (ومن كرامات الحبيب هادون أيضاً ما أخبرتني به والدتي الشريفة العفيفة شيخة بنت الجد علي بن حسين بن هود العطاس الآتي ذكرها في ترجمة والدي من الباب السادس عن والدتها الشريفة العفيفة زينة بنت الحبيب هادون المذكور قالت: لما كان والدي يجدد عمارة بعض المساكن بالمشهد وعنده جملة من العمال أصبحنا ذات يوم وليس عندنا في الدار ما يفطر به الصائم من أنواع الطعام، فلما رجع والدي من المسجد الإشراق كعادته أخبرناه بالحال فقال: لا بأس، ولكنكم أوقدوا ناراً في المطبخ كعادتكم ليستشعر العمال بأن غداهم يطبخ كالعادة، ثم خرج والدي إلى عند العمال وألقى بيتاً من الشعر الحميني ارتجالاً على الذين ينقلون المدر منهم وأمرهم أن يرتجزوا به، وكان قد استنجد فيه بجده الحبيب علي بن حسن العطاس صاحب المشهد وهو قوله:
مع هادون يا بو حسن والخير واصل وهز الرمح لا تعمد [1] القبة وغافل
قالت: فلم نلبث إلا يسيراً وإذا نحن بقافلة أي عير مرسلة لمقام المشهد من أهل حجر بن دغار وفيها الذرة والتمر والدهن وغير ذلك، وبمعية العير أناسٌ من تلك الجهة أيضاً قاصدين زيارة الحبيب علي بن حسن ومعهم ثلاثة أكباش سمان للمقام، فذبحنا وقدحنا وكان ذلك اليوم من أسعد أيام العمال عليهم انتهى.
قلت [2]: وقول الحبيب هادون لجده علي (وهز الرمح) لما اشتهر من أن الحبيب علي كان يلقب بأبي حربة وسبب تلقيبه بذلك أنها تواترت الأخبار من المعادين للحبيب علي في حياته وأهل الجرأة على مقام المشهد بعد وفاته أنهم يرونه في مناماتهم يطعنهم بحربته فيخبرون قراباتهم بذلك موقنين بالموت
(1) هذه الكلمة باللهجة الحضرمية معناها (لا تبقى) أي لا تبقى في القبة غافلاً عنا.
(2) الكلام ما زال لصاحب تاج الأعراس.
ويموتون في الحال بإذن الله القائل: (( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) لاسيما الذين يعتدون على غيرهم في شهر المشهد أي ربيع الأول؛ لأن الحبيب علي قد جعله عُرضه بضم العين أي أماناً مؤبداً في كل سنة بين المحاربين من قبائل تلك الجهة وأخذ عليهم العهد في ذلك ليأتي كل منهم وهو مطمئن البال إلى المشهد لحضور قصة مولد نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وسماع شمائله الشريفة وما يضاف إلى ذلك من المواعظ الدينية، فكان مما أكرم الله به الحبيب علي وعظم به شهر المولد النبوي أن من اعتدى فيه بالقتل ونقض العهد يعجل الله له العقوبة بإهلاك عدد من أولاده وقبيلته بمقدار الأيام الماضية من ذلك الشهر، فمن قتل فيه في اليوم الخامس مثلاً يهلك الله خمسة من رجاله في أسرع وقت، ومن قتل فيه في اليوم السابع يهلك الله منهم سبعة وهكذا حتى صار ذلك عند قبائل الجهة من المجربات التي لا خلاف فيها) [1].
وأعتذر للإطالة بنقل الحكاية كاملة وذلك لما فيها من دلالات كثيرة يجدها المتأمل وليعرف كيف يسخِّر القبوريون الناس لمصالحهم ويبنون على حطام عقائدهم مجدهم الموهوم.
وأسألُ صاحب التاج وكل من ينشر هذه الحكايات ويغرس بها تقديس هؤلاء الناس في نفوس عوام المسلمين أين كان الحبيب علي وحربته يوم هجم الجيش النجدي على المشهد فأخربه وهدّم قببه وكسّر توابيته؟.
ومن ذلك أيضاً ما ذكره صاحب مقدمة ديوان العيدروس قال: (وأخبرني السيد الفقيه محمد الظمطاوي المكي وقد رويتها عن المريد الصادق نعمان بن محمد المهري أنه قال: (كنا في سفينة سائرين إلى الهند فحصل في السفينة خرق عظيم فأيقن أهل السفينة بالهلاك فضجُّوا بالدعاء
(1) تاج الأعراس (1/ 207 - 209) .
والتضرع إلى الله تعالى وهتفوا بالمشايخ، فقال نعمان: فهتفت بشيخي أبي بكر بن عبدالله العيدروس، فأخذتني ِسنة فرأيت شيخي وهو داخل السفينة وبيده منديل أبيض متيمماً نحو الخرق، فانتبهت فرحاً مسروراً وناديت بأعلى صوتي يا أهل السفينة أبشروا فقد جاء الفرج، فقالوا لي: ماذا رأيت، فقلت لهم: رأيت شيخي - رضي الله عنه - دخل السفينة الساعة وبيده منديل فسد به الخرق فافتقدوه فوجدوا الخرق مسدوداً بمنديل أبيض). [1]
وفي نفس الكتاب في آخره قال: (وأخبرني الأمير مرجان بن عبدالله عبد السلطان عامر بن عبدالوهاب قال: كنا في محطة صنعاء الأولى فحصل علينا ما حصل، وأنا إذ ذاك في جماعة، فحمل علينا العدو ففر أصحابي ووقع في فرسي جملة أكوان [2] فسقط بي، فزار بي العدو من كل جانب وأنا أهتف بالصالحين، ثم ذكرت الشيخ الأجل أبابكر بن عبدالله العيدروس فهتفتُ به فإذا هوقايم فو الله العظيم لقد رأيته نهاراً وعاينته جهاراً أخذ بنا صيتي وناصية فرسي وشلني من بينهم حتى أوصلني إلى المحطة السعيدة فعند ذلك مات الفرس ونجوت ببركات الشيخ نفع الله به وأعاد علينا من بركاته) [3].
فهذه النماذج إن شاء الله كافية لإثبات أن القوم يعتقدون في أوليائهم أنهم يسمعون استغاثاتهم، وأنهم يغيثونهم عند ذلك، فحيناً يحضرون بأنفسهم، وحيناً يحصل المطلوب بدون حضورهم، وعليه فإن دعاءهم لأوليائهم ليس مجرد توسل إذ التوسل إنما هو دعاء لله تعالى مع ذكر المتوسَّل به وسؤال الله
(1) مقدمة ديوان العيدروس المسمى (محجة السالك وحجة الناسك) ص (242) , تأليف الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن باوزير ضمن المجموعة العيدروسية.
(2) أي جراح.
(3) المصدر السابق ص (247) .
سبحانه أن يحقق المطلوب بجاه أو ببركة ذلك المتوسَّل به، ولذلك فإن الذين يعرفون حقيقة التوسل ويقتصرون عليها لا يجيزون دعاء المتوسل بهم ويصرحون بأنهم لا يدعون ولا يجيزون دعاء غير الله، وإنما يذكرونهم في ضمن دعائهم لله للتبرك بذكرهم وليكونوا سبباً في عطاء الله.
الفصل الأول أساليب القبورية في محاربة مخالفيها
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول:
أسلوب الاحتواء والاختراق
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: محاولة احتواء المخالف:
إن رواد القبورية في الأمة الإسلامية وهم الباطنية الشيعة، ومن جاء بعدهم من الصوفية، إنما هم تلاميذهم وأتباعهم والناقلون لعقائدهم وأساليب دعوتهم وطرق تثبيت دولتهم، مع شيء من التطوير الذي يتناسب مع وضعهم بين أهل السنة، ولا يخفى على من قرأ التاريخ براعة الباطنية في احتواء المخالف، والتأثير عليه بالطرق والأساليب الملتوية الكثيرة، وسنرى في هذا المطلب صورة منها، وهكذا تلاميذهم الصوفية استخدموا تلك الطرق والأساليب مع مخالفيهم هنا في اليمن، وإليك بعض الأدلة على ذلك:
سبق عند الحديث عن الإسماعيلية بيان طرقهم في الدعوة، وكيفية الوصول إلى إقناع المدعو، والترقي به درجة درجة حتى يصل إلى القناعة التامة بما هم عليه، وهناك صورة واضحة في طريقة الاحتواء وتحويل الخصم إلى أن يصبح من أقوى المناصرين لهم، وهي احتواء علي بن محمد الصليحي الذي كان أبوه قاضياً من علماء أهل السنة خصوم الإسماعيلية، وكيف استطاع داعية الإسماعيلية احتواء ابنه علي حتى كان هو الذي أسس دولة الإسماعيلية الفاطمية في اليمن، قال الخزرجي:
(أجمع علماء التاريخ ورواة الأخبار من أهل اليمن أن القاضي محمد بن علي الصليحي والد الأمير علي بن محمد الصليحي كان فقيهاً عالماً سنيّ المذهب، وكان قاضياً في بلده حسن السيرة مرضي الطريقة، وكان أهله وجماعته يطيعونه ولا يخرجون عن أمره، وكان الداعي عامر بن عبدالله الزواحي يلوذ به، ويركب إليه كثيراً؛ لرياسته وسؤدده وصلاحه وعلمه، فرأى يوماً ولده علياً فلاحت له فيه مخايل النجابة، وكان يومئذ دون البلوغ، وكان الداعي عامر بن عبدالله الزواحي كلما وصل إلى القاضي يتحدث مع ولده علي المذكور، ويخلو به، ويطلعه على ما عنده حتى استماله، وغرس في قلبه ولبِّه ما غرس من علومه وأدبه ومحبة مذهبه، وقيل: كانت عند الداعي عامر بن عبدالله الزواحي حلية الصليحي في كتاب "الصور" ، وهي من الذخائر القديمة، فأوقفه منه على مستقبل حاله وشرف مآله، وأطلعه على ما أطلعه عليه سراً من أبيه القاضي محمد وأهله جميعاً، ثم مات الداعي عامر بن عبدالله الزواحي، فأوصى له بجميع كتبه، وأعطاه مالاً جزيلاً قد كان جمعه من أهل مذهبه، وقد كان رسخ في ذهن الصليحي ما رسخ، فعكف على الدرس، وكان ذكياً فلم يبلغ الحلم حتى تضلع في معارفه التي بلغ بها، وبالجد السعيد تدرك غاية الأمل البعيد، فكان فقيهاً في مذهب الإمامية، متبصراً في علم التأويل، ثم صار يحج بالناس دليلًا على طريق السراة، ولم يزل كذلك نحواً من خمس عشرة سنة، وكان الناس يقولون له: بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره، فكره ذلك، ونكره على من يقوله مع كونه قد شاع على ألسنة الخاصة والعامة، فلما كان في سنة تسع وعشرين وأربعمائة ثار في رأس مسار وهو أعلى جبل في تلك الناحية) [1].
(1) العسجد المسبوك ص (56) ، وانظر: قرة العيون ص (173 - 174) .
تلك صورة من صور الاحتواء الإسماعيلي للمخالفين، وفي تاريخ الصوفية الكثير من تلك الصور، من ذلك قصة الصوفي عبدالرحمن بن عمر باهرمز مع الفقيه عمر بن عبدالله بامخرمة، فقد كان الصوفي باهرمز له طريقة قبيحة في تصوفه، وهو أنه عندما يرد عليه الحال - كما يقولون - يجمع النساء الحسان متزينات بأحسن الزينة فيغنين ويرقصن حتى يذهب ما به، وهذا أمر منكر لا إشكال فيه، وقد سمع عمر بامخرمة بذلك فأنكره، وعزم على الذهاب إليه للإنكار عليه، فرحل أول مرة، ثم رجع من الطريق، ثم عزم وصمم حتى دخل عليه فلما رآه الشيخ كاشفه بنيته وعزمه وقال له: (عاد وقتك ما جاء) ، فرجع إلى بلاده، ثم عاد الثالثة، وعند دخوله عليه أمر بعض النساء الحسان اللاتي يرقصن عنده أن تعتنقه، قال العيدروس: (فما هو إلا أن فعل به ذلك خر مغشياً عليه، فلما أفاق تلمذ للشيخ، وحكمه في ذلك الوقت، وفتح الله عليه ببركة الشيخ، وصار من كبار العارفين المربين، وقيل: إن الفقيه لما طلب التحكيم من الشيخ قال: له: صلِّ ركعتين إلى المشرق، فامتثل، فلما أحرم رأى الكعبة تجاه وجهه) [1].
المطلب الثاني: محاولة اختراق صفوف المخالفين وبث الفتنة في أوساطهم:
إن البدع في الغالب تكون مخالفة للفطرة، مناقضة لأدلة الشرع وأصوله، يرفضها العقل السليم الذي لم يتلوث بأمراض الشبهات؛ ولهذا لم يبق أمام دعاة البدع إلا الكيد والمكر وأساليب اللف والدوران لمقاومة الخصوم والتغلب عليهم، وقبورية اليمن من أولئك المبتدعة، لم يدعوا أسلوباً من أساليبهم إلا اتبعوه، ومن ذلك أسلوب الدس والمكيدة وبث الفتنة في صفوف المخالفين، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:0
(1) النور السافر ص (59) .
المثال الأول: ما فعله والي الدولة الصليحية على الجند من بث الفتنة بين فقهائها حتى يسلم هو وأهل نحلته من انصرافهم لمقاومتهم والعمل على إزالة دولتهم، قال الجندي في ترجمة الفقيه الإمام زيد ابن عبدالله اليفاعي: (وكانت مدرسة الفقيه عن يمين المنبر، وربما اتكأ وقت التدريس على المنبر، وكان أصحابه فوق ثلاثمائة متفقه، في غالب الأيام يقوم بإعالتهم قوتاً وكسوة، وكانوا يملئون ما بين الباب والمنبر كثرة، وكان الفقيه أبو بكر شيخه يقرئُ في الزاوية التي تحت جدار بئر زمزم [1]، وكان أصحابه في غالب الأحوال نحو خمسين طالباً، هكذا ذكر بعض معلقي أخبارهم، ولم يزل ذلك من شأنهم حتى تمت الحيلة من المفضل [2] في التفريق بينهم، وذلك أنه مات ميت من أهل الجند، فخرج الإمام زيد والإمام أبو بكر بن جعفر في أصحابهما يقبرون، وعليهم الثياب البيض لبس الحواريين، والمفضل يومئذ بقصر الجند فحانت منه نظرة إلى المقبرة، فرأى فيها جمعاً عظيماً مبيضين، فسأل عن ذلك، فقيل: قُبرانُ ميتٍ، غالب من حضره من الفقهاء، فعرض بذهنه ما فعله ابن المصوع [3] مع أخيه حيث قتله، وقال: هؤلاء يكفروننا ولا نأمن خروجهم علينا مع القلة، فكيف مع الكثرة؟ ثم قال لحاضري مجلسه: انظروا كيف تفرقون بينهم، وتدخلون البغضاء عليهم بالوجه اللطيف، فجعلوا يولّون القضاء بعض أصحاب الإمام زيد أياماً، ويعزلونه، ويولّون مكانه من أصحاب الإمام أبي بكر بن جعفر، ثم يولّون إمامة الجامع كذلك، ثم النظر في أمر المسجد كذلك حتى ظهر السباب بين الحزبين، وكاد يكون بين الإمامين، فعلم الإمام زيد ذلك، فارتحل مهاجراً إلى مكة) [4].
(1) بئر في مسجد الجند يسمى بذلك.
(2) المفضل والي الصليحين على الجند.
(3) ابن المصوع أحد فقهاء أهل السنة ثار في جماعة على أخي المفضل أحد أمراء الصليحين فقتلوه واستولوا مدة على قصره ثم أمسك بهم.
(4) السلوك (1/ 263) .
فانظر كيف لجأ هذا الباطني الإسماعيلي إلى الدس بين هؤلاء الفقهاء الطيبين! وكيف استطاع بخبثه وطيبتهم أن يفرقهم، وأن يملأ صدورهم حقداً على بعضهم البعض حتى قضى على دعوتهم!.
المثال الثاني: ما ذكره الأستاذ صلاح البكري في "تاريخ الإرشاد بإندونيسيا" من عمل القبورية أصحاب الرابطة العلوية لزرع الفتنة بين أصحاب الإرشاد- لولا أن سلم الله - وقُضيَ على الفتنة قبل استفحالها.
قال الأستاذ البكري تحت عنوان "أول مؤامرة ضد جمعية الإرشاد" : (من الأحداث الخطيرة التي قام بها دعاة العنصرية، تلك المؤامرة ضد حياة جمعية الإرشاد الإسلامية، فقد اتصل بعض آل باعلوي وأنصارهم برئيس الجمعية الشيخ سالم بالوعل، وسيطروا على عواطفه بأوهام فارغة، وهيمنوا على أفكاره حتى صار كالآلة الصماء في أيديهم، ولا غرابة، فهو أمي ساذج أو كما يقول الحضارم: "على تَوّه" ، واقترحوا عليه إبدال اسم "جمعية الإرشاد" بالجمعية الكثيرية؛ ليدخل في الإدارة أعضاء من قبيلته آل كثير؛ ليفوزوا بالأكثرية عند اجتماع الإدارة، وأزمع الشيخ بالوعل على ذلك، ثم أعلن لجميع الإرشاديين في العاصمة وفي خارجها ليجتمعوا في جاكرتا (بتافيا) ، وأقبل الإرشاديون أفراداً وجماعات من العاصمة ومن خارجها، فشك البوليس الهولندي في هذا التجمع الذي لم يسبق له مثيل، فاتصلوا بنقيب العرب الشيخ عمر منقوش، يستفسرون منه الأمر حتى اطمأنوا، ولما رأى الشيخ بالوعل قدوم الإرشاديين أعلن تأجيل الاجتماع إلى أجل غير مسمى. ولكن وفود الإرشاد قررت إقامة الاجتماع كما نُشر في الصحف، وفعلاً اجتمعوا في دار الجمعية وأحضروا كاتب عدل ومحامياً، وتقرر في هذا الاجتماع فصل الرئيس الشيخ سالم بالوعل من الإدارة ومن الإرشاد، وتكونت إدارة جديدة للإرشاد من كبار الشخصيات وهم:
الشيخ غالب بن سعيد بن تبيع رئيساً
الشيخ محمد عبيد عبود كاتباً
الشيخ عبدالله بن عبدالقادر بن هرهرة أميناً للصندوق
الشيخ سالم عمر بالفاس مستشاراً
كان ذلك عام 1920 م.
بذلك سلمت جمعية الإرشاد من المكيدة التي دبرها المرجفون والرجعيون ودعاة العنصرية ومن على شاكلتهم من الأغبياء والمخدوعين.
أما الشيخ بالوعل فقد اعتبر فصله من إدارة الإرشاد ومن عضويتها إهانة شنيعة؛ لذلك رفع دعوى ضد جمعية الإرشاد هي والأعضاء الجدد الذين أدخلهم في العضوية قبيل حضور الوفود، وذهب بهم إلى دار الجمعية فوجدها تحت حراسة البوليس، فعاد إلى منزله بزملائه الأعضاء، وهناك قرروا إبطال قرار الفصل وحل جمعية الإرشاد، ثم رفع دعوى ضد الإدارة الجديدة بأنها غير شرعية، ولكن أراد الله لجمعية الإرشاد أن تزدهر ويتألق نجمها في إندونيسيا، ثم أُسدل الستار على الدعوتين إلى الأبد) [1].
المبحث الثاني
الإرهاب الفكري من أقوى أسلحة القبورية
(1) تاريخ الإرشاد في إندونيسيا ص (22 - 23) تأليف صلاح عبد القادر البكري، الإدارة المركزية لجمعية الإرشاد الإسلامي، جاكرتا - إندونوسيا ط الأولى (1992 م) .
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تربية المجتمع على التسليم المطلق لأوليائهم وأقطابهم:
وهذه سمة أخرى من سمات الباطنية أن يربوا المجتمع بشكل عام على التسليم لهم وعدم معارضتهم، وأن المعارضة سبيل إلى الحرمان، وما أفلح من اعترض، والفوز والقبول في التسليم للقادة والأئمة والأولياء؛ وذلك أن علومهم الباطنة المزعومة لا يمكن إقامة الحجة عليها، فلا كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عقل يمكن أن يدل عليها، فما بقي إلا أن يسلّم السامع، وأن يلغي عقله حتى لا يحرم، وكذلك تصرفاتهم المخالفة للشرع والعقل لا يمكن تبريرها إلا بذلك، ولو ذهبتُ أبحث عن الأمثلة، وأحصرها لضاقت عنها مساحة هذا المطلب، ولكن أضرب أمثلة قليلة تدل على أمثالها وأشكالها:
المثال الأول: في كتاب "السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية" التي ألقاها صاحبها (علي الحبشي) في مجالسه التي كان يعقدها؛ لتعليم الناس وإرشادهم؛ ولتدريس وتربية طلابه، وتلقاها وجمعها أحد طلابه وهو (محسن بن عبدالله بن الحبيب الإمام محسن بن علوي السقاف) ، وردت هذه الحكاية، قال: (وأورد الشيخ عبد العزيز الدباغ كلاماً في حسن الظن وكونه نافعاً، وإن لم يكن المعتقَد فيه متصفاً بذلك، فقال: كان رجل تاجراً وله مال كثير، فاشتاقت نفسه إلى ما مع الرجال أهل الكمال، وعزم أن يتجرد إلى الله، وينقطع إليه، وكان في البلد رجل مشهورٌ بالصلاح وتربية المريدين، وهو في الباطن على خلاف ذلك، فكان إذا رجع إلى خلوته يأتون إليه ناس من أصحابه على طريقته، فيلهون ويسكرون، فباع الرجل التاجر جميع ما معه وصيره نقداً، ثم سار إليه ومعه ذلك المال؛ ليتحكم له ويوصله إلى الله، فصادف وقت خلوته، فلما دق الباب أشرفت جارية، فقالت: من بالباب؟ فقال: عبدالعال، وكان واحد من أصحابه أهل الملاهي اسمه عبدالعال، فلما أخبرت الشيخ باسمه ظن أنه صاحبه، فقال لها: افتحي له الباب، فطلع الرجل، فوجد الجواري والشراب وآلات اللهو عنده، فما التفت إلى شيء قط بل جثا بين يدي الشيخ، فخجل لما رآه غير
صاحبه، وهو يظهر الصلاح، فقال له: يا سيدي، أنا رجل أريد الطريق إلى الله، وأريد أن تسلّكني، وتدلني على الله، وهذا ما معي من المال، فلما وضعه بين يديه تقاصرا لخجل، فقال: إن الوظائف جميعها مشغولة إلا عمل في حديقة لنا بعيدة، خذ المكتل والمسحاة، وسر إليها، واشتغل فيها إلى أن يفتح الله عليك، فامتثل أمره، ولم يغير حسن ظنه فيه ما شاهده عنده، وحين وصل إلى الحديقة، ابتدأ في العمل، ومات أحد الأبدال في تلك الليلة، فاجتمعوا هم والقطب، فقالوا: من يصلح بدله؟ فقالوا: فلان، يعنون ذلك الرجل الذي في الحديقة؛ بسبب حسن ظنه، فدعوا منه، وقالوا له: خذ هيل بلا كيل، واتصل بربه، فاطلع على حالة شيخه، فقال: أنا قد أدركت مطلوبي، وهو يصطلح هو وربه) [1].
هذه هي التربية التي يربون بها أتباعهم، وينشئون عليها أجيالهم، فهل سيكون لدى خريج هذه المدارس أي غيرة أو نخوة تدفعه لإنكار منكراتهم، والاعتراض على أي شيء يقدمون عليه من أقوال أو أفعال مهما بلغت في القبح والسوء؟! وليس هذا هو المثال الوحيد، ولكن الأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
المثال الثاني: ما ذكره الشلي، وهو يتحدث عن كرامات الأولياء ووجوب التسليم لهم فيها، وإن ظهر منهم أي مخالفة، فإنهم لاشك أن لهم في الباطن ما يسوِّغ ذلك، قال: (وأنا أورد قصة، فيها أبلغ زجر وآكد ردع من الإنكار على أولياء الله تعالى وأتمّ حث على اعتقادهم والتأدب معهم وحسن الظن بهم ما أمكن، وهي ما حكاه إمام الشافعية في زمنه "أبو سعيد عبدالله بن أبي عصرون" قال: دخلت بغداد في طلب العلم، فرافقت ابن السقاء بالنظامية، وكنا نزور الصالحين، وكان ببغداد رجل
(1) كنوز السعادة ص (374 - 375) .
يقال له الغوث يظهر إذا شاء، فقصدنا زيارته، ومعنا الشيخ عبدالقادر الجيلاني، وهو يومئذ شاب، فقال ابن السقاء: لأسأله مسالة لا يدري جوابها، وقلت: لأسأله مسألة، وأنظر ما يقول، وقال الشيخ عبدالقادر: معاذ الله أن أسأله شيئاً وأنا بين يديه أنتظر بركته، فدخلنا عليه، فلم نره إلا بعد ساعة، فنظر إلى ابن السقاء مغضَباً، وقال: ويحك يا ابن السقاء تسألني مسألة لا أدري جوابها، وهي كذا وجوابها كذا، إني لأرى نار الكفر تتلهب فيك، ثم نظر إليّ وقال: يا عبدالله تسألني؛ لتنظر ما أقول فيها وهي كذا وجوابها كذا، لتخران [1] عليك الدنيا إلى شحمة أذنيك بإساءة أدبك، ثم نظر إلى الشيخ عبدالقادر، وأدناه منه، وأكرمه، وقال له: يا عبد القادر، لقد أرضيت الله ورسوله بأدبك كأني أراك ببغداد، وقد صعدت الكرسي متكلماً على الملأ، وقلت: قدمي هذه على رقبة كل ولي، وكأني أرى الأولياء في وقتك، وقد حنوا رقابهم؛ إجلالاً لك، ثم غاب عنا، فلم نره بعد. قال: فأما الشيخ عبدالقادر فقد ظهرت أمارات قربه من الله، وأجمع عليه الخاص والعام، وقال: قدمي هذه على رقبة كل ولي، فأجابه في تلك الساعة أولياء الدنيا، قال جماعة: وأولياء الجن، وطأطأوا رؤوسهم وخضعوا إلا رجلاً بأصبهان فسُلِب حاله، وممن طأطأ رأسه أبو النجيب السهروردي، وأحمد الرفاعي، وأبو مدين، والشيخ عبدالرحيم القناوي، قال ابن أبي عصرون: وأما ابن السقاء فإنه اشتغل بالعلوم حتى فاق أهل زمانه، واشتهر بقطع من يناظره في جميع العلوم، وكان ذا لسان فصيح، وسمت مليح، فأدناه الخليفة، وبعثه رسولاً إلى ملك الروم، فأعجب به، وجمع له القسيسين، وناظرهم، فأفحمهم، وعظُم عند الملك، فأراد فتنته فتراءت له بنت الملك، فافتتن بها، فسأله أن يزوجها له، فقال: لا إلا أن تتنصر، فتنصر والعياذ بالله، وتزوجها، ثم مرض، فألقوه بالسوق يسأل
(1) كذا في الأصل.
القوت، فمر عليه من يعرفه، فقال له: ما هذا؟ فقال: فتنة حلّت بي بسببها ما ترى، فقال: هل تحفظ القرآن؟ قال: لا إلا قوله تعالى: {رُبَما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [1]، ثم جاز عليه وهو في النزع، فقلبه إلى القبلة، فاستدار عنها، فعاد فاستدار عنها، فخرجت روحه لغير القبلة، وكان يذكر كلام الغوث، ويعلم أنه أصيب بسببه. قال ابن أبي عصرون: وأما أنا فجئت إلى دمشق، فأحضرني السلطان نور الدين الشهيد، وأكرهني على ولاية الأوقاف، فوليتها، وأقبَلت علي الدنيا إقبالاً كثيراً، فقد صدق الغوث فينا كلنا انتهى.
فهذه الحكاية التي كادت تتواتر في المعنى بكثرة ناقليها وعدالتهم فيها أبلغ زجر عن الإنكار على أولياء الله تعالى خوفاً أن يقع المنكر فيما وقع فيه ابن السقاء نعوذ بالله من ذلك) [2].
قلت: هذه من خرافات القوم ولا يرهبنا وصفه لها بأنها كادت أن تتواتر، فأين أسانيده بذلك؟ ثم لو فرض تواترها، فلا تعدو أن تكون من أخبار الكهنة الذين يخبرون ببعض المغيبات، ويصدقون في بعضها؛ لأن الولي الحق ليس من شأنه أن يظهر متى شاء، ويختفي عن الأبصار متى شاء، وليس من شأنه أن يبشّر عبدالقادر بذلك العلو والاستكبار الذي يجعله يتحدى الأولياء ويقول: (قدمي على رقبة كل ولي) ، ولكن الرجل قد بلغ بعض ما يريد من إقناع قرّائه بالتسليم للأولياء وعدم الاعتراض عليهم؛ لما يترتب على التسليم من الفوز والفلاح، وعلى الاعتراض من الطرد والحرمان.
المثال الثالث: ما نقله الشرجي عن أبي بكر بن أحمد بن دعسين في ترجمته أنه: (كان يقول: أقل درجات الإيمان أن تسلم للأولياء أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، فإن لم تعرف معناها، ولا اهتديت إليه، فاحمل جميع أمورهم على أحسن الأشياء وأعدلها، وما صح عنهم فسمع وطاعة وحب وكرامة) [3].
(1) سورة الحجر (2) .
(2) المشرع (1/ 167) .
(3) الطبقات ص (390) .
قلت: هذه أقل درجات الإيمان فما أعلاها يا ترى؟.
المثال الرابع: ما ذكره صاحب تذكير الناس، قال: (وقال سيدي أحمد: وقد أمدّ الله الوقت للشيخ عمر أبا مخرمة من بعد العصر إلى المغرب ثلاثين ألف سنة، فاستشكل بعضهم هذا، فقال له سيدي: أما في بالك حديث يوم القيامة طوله خمسون ألف سنة، وأنه يكون على المؤمن كأخف صلاة صلاها في الدنيا وهذا منه، فقيل له: وكيف صارت تلك المدة ليالي أو أياماً أو غير ذلك، فقال: هذا علم تصديق وإيمان، ما هو علم ها توه أشوفه) [1]. فقوله: (هذا علم تصديق وإيمان ما هو علم هاتوه أشوفه) ، واضح جداً أنه ليس من علم الدليل والحجة التي يصح أن يطالب بها السامع، وإنما هو علم تصديق وإيمان لا اعتراض وانتقاد، وقوله: (هاتوه أشوفه) يعني أرني إياه حتى أنظر إليه.
المثال الخامس: من قواعدهم المسلّمة وكلماتهم الدارجة المنتشرة، قول عبدالله بن علوي الحداد:
وسلِّم لأهل الله في كل مُشْكِلٍ لديك، لديهم واضحٌ بالأدلةِ [2]
وقول الآخر:
وإذا لم تر الهلال فسلِّم لأناسٍ رأوه بالأبصار
هذه خمسة أمثلة تدل كلها على ما عنونا له في هذا المطلب، وهو تربية الأمة على الرضوخ والاستسلام وإلغاء العقول وتجاوز القواعد والأصول الشرعية؛ لأجل أن يمشي ما يريده القوم، ويسلم لهم ما يأتون من أقوال وأفعال دون حاجة إلى أدلة شرعية أو عقلية، وقد اقتصرتُ على هذه الأمثلة الخمسة مع وجود الكثير من الأمثلة في تراث صوفية اليمن، أما صوفية البلاد الأخرى فلا أخال قواعدها في هذا الموضوع خافية على المتابع لتواريخهم.
المطلب الثاني: استخدام الخرافة [3] والشعوذة [4] والاستعانة بالجن لإرهاب المخالف:
(1) تذكير الناس ص (125) .
(2) الدر المنظوم لذوي العقول والفهوم لعبدالله بن علوي الحداد ص (41) ،طبع مطبعة المدني بالقاهرة سنة (1388 هـ - 1968 م)
(3) تقدم تعريف الخرافة في الباب الثاني ص (364)
(4) الشعوذة: خفة في اليد وأخذ كالسحر، يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين، وهو مُشعْوِذ، ومشعوَذ. انظر: القاموس المحيط ص (427) .
لقد سعى الصوفية والباطنية لترسيخ وتعميق القدرات الخارقة للأئمة والأولياء، حتى لقد بالغوا في ذلك، فوصفوهم بعلم الغيب وتصريف الكون والقدرة على إظهار الخوارق التي لم يُظهر مثلها الأنبياء، وأنهم قادرون على أن يتجزءوا بأجسادهم، وأن يكون الواحد منهم في عدة أماكن في آن واحد، وكل ذلك قد مر، حتى أصبح حكم الناس على صلاح الشخص هو إظهاره تلك الخوارق مع ادعاء الولاية، وعندما ترسَّخ ذلك في أذهان المجتمع، وتربى عليه، بادروا بافتراء الأكاذيب ورواية الخرافات عمن يريدون أن يسبغوا عليهم صفة الولاية حتى يقنعوا الناس بولايتهم، كما بادر طلاب الجاه والمناصب في الرياضات الموصلة إلى خرق العادات، وتعلموا أنواعاً من علوم السحر، حتى أتقنوا ذلك، وعملوا به، وعقدوا الصلح مع الجن؛ ليقوموا لهم بأعمال خارقة يطلعونهم على مغيبات واقعة، ثم جعلوا ذلك كله سلاحاً يشهرونه في وجه كل من يخالفهم، وينكر عليهم، وهذه عدة أمثلة توضح ذلك وتثبته:
المثال الأول: ما ذكره الشلي في ترجمة محمد بن علي مولى الدويلة، قال: (وتواجد يوماً بحضرة عمه الشيخ الإمام عبدالله بن علوي حتى غُشي عليه، ثم أقيمت الصلاة، فصلى معهم، فلما فرغوا، قال العارف بالله علي بن سلم لعمه عبدالله: صلى ابن أخيك بلا وضوء؛ لأنه زال عقله، فأخبره عمه بقول الفقيه علي بن سلم فقال: وعزة الحق إني توضأت، وشربت من الكوثر، ونفض لحيته، فتقاطر منها الماء، ثم قال: يا فقيه، نزل علينا شيء لو نزل على الجبال لدكت، ثم أنشأ يقول:
الحب حبي والحبيب حبيبي والسبق سبقي قبل كل مجيب
نوديت فأجبت المنادي مسرعاً وغطست في بحر الهوى وغدي بي
لي تسعة وثلاثة مع تسعة والعقد لي وحدي وعلا نصيبي
ما تعلموا أني المقدم في الملا ليلة سرى باليثربي سرى بي) [1].
فانظر إلى هذه الدعوى العريضة والتي برهانها أنه نفض لحيته، فتقاطر الماء منها، ولو كان ذلك الماء من ماء الكوثر، هل سيذهب هكذا هدراً ولا يعرف له ميزة عن غيره من المياه، ولا تظهر له رائحة، ولا يبقى في موضعه؟ إلى آخر ما يمكن أن يظهر من الدلائل، ثم أعجبُ لهذا الفقيه وسرعة تصديقه وتسليمه واقتناعه بما حكى هذا الرجل عن نفسه!.
(1) المشرع (1/ 200 - 201) .
المثال الثاني: ذكر الشلي في ترجمة الشيخ عمر المحضار أنه قال: (قال لابن أخيه الشيخ عبدالله العيدروس: أن رجلاً يغضب لغضبه جبار السماوات، وأشار إلى نفسه) [1]، ثم استدل الشلي على إثبات ذلك بقوله: (وكان إذا غضب على أحد أصابه الجذام وغيره من الأسقام بعد ثلاثة أيام، فقيل له: أما تخشى أن ينالك بهذا شيء؟ فقال: إني لم أدعُ على أحد، ولكني إذا غضبت على أحد، وقع في باطني نار لا تنطفئ إلا بعد ما يصيبه ذلك المرض، أو يتوب) [2]. هذه الحكاية الله أعلم بصحتها ولكن على فرض صحتها، فإنها رادع قوي لكل من يفكر أن يخالف هذا الشيخ، وربما كان ذلك من السحر إذ الصحيح أن الساحر قد يصيب المسحور بعوار واختلال في عقله أو في بدنه، والقصة بغضِّ النظر عن صحتها أو عدم صحتها فالغرض منها حاصل حين تُروى، ويتداولها الناس، فإنه يترتب عليها هيبة عظيمة من التعرض لإغضاب من يدّعي الولاية.
المثال الثالث: ما قدمناه في الباب الثاني في مطلب التصرف في الكون [3] عن "مرآة الجنان" [4] في قصة أحمد ابن أبي الجعد وسعيد بن عيسى العمودي، حيث ذكر أنه عندما أقام ابن أبي الجعد الشيخ سعيد؛ للإنصاف من نفسه، قال: (من أقامنا أقعدناه فقال الشيخ أحمد: ومن أقعدنا ابتليناه، فأصاب كل واحد منهما ما قال لصاحبه، وصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي الله تعالى، وصار الشيخ سعيد مبتلىً في جسمه حتى لقي الله تعالى) ، وهذه الحكاية تصب في نفس الغرض، وهو إرهاب الناس من التعرض للأولياء ومخالفتهم.
المثال الرابع: ما ذكره صاحب "تذكير الناس" عن أحمد بن حسن العطاس أنه ذكر حكاية طويلة منها أن عبدالرحمن بن مصطفى العيدروس دخل مصر، قال: (وحصلت بينه وبين أهل مصر مناظرة في الإمامة، وقال لهم: أنا أحق بها منكم؛ لِمَا اجتمعَ فيَّ من الشرف والعلم والتبرع، فقالوا له: لا نسلم لك إلا بدليل، فتوجه بحاله إلى القناديل التي في المسجد فابتلعها، فقالوا له: هذه ولاية، ومسلّمون لك فيها) [5].
(1) المصدر السابق (2/ 242) .
(2) المصدر السابق (2/ 242 - 243) .
(3) انظر: ص (235) .
(4) وانظر أيضاً: طبقات الخواص ص (73) .
(5) تذكير الناس ص (129 - 130) . و انظر: تاج الأعراس (1/ 342 - 343) .
والحكاية ظاهرة الدلالة على أن برهان الولاية هو هذه الخوارق التي لا يبعد أن تكون من السحر.
المثال الخامس: ما حكاه الشلي في ترجمة محمد بن علي مولى الدويلة، قال: (وأكثر أعماله قلبيات، وكان يخفي أعماله عن أصحابه حتى عن أهله، وربما اعترض عليه بعض من اتصف بالعلم وليس من أهله، حتى إن بعضهم قام يصلي، والسيد عنده نائم، فقال في نفسه: أنا ساجد وقائم وهذا مضطجع نائم، ويدّعون أنه قدوة للعالم. فلما سجد عجز عن رفع رأسه، فتاب عما وقع له في نفسه، فأمر صاحب الترجمة بعض من عنده بأن يرفع رأسه من السجود، ولما فرغ اعتذر إليه، وعاهده على أن لا يعود) [1].
فانظر إلى ما لقي هذا العالم من العقوبة والتأديب لقاء اعتراضه على هذا الولي، ثم كيف سلَّم له ولايته، وتاب من الاعتراض عليه.
المثالان السادس والسابع: ما تقدم [2] نقله عن "تاج الأعراس" في مطلب استخدام الجن حيث نقلنا هناك حكاية سالم العطاس الذي كان له جني، اسمه "مزنقب" ، وكيف سلطه على تلك القبيلة التي أبت أن تستقبل الركب العطاسي حسب تعبير المؤلف: (فصرخ بهم مزنقب صرخات، روّع بها نساء القبيلة وأطفالها؛ مما اضطر رجال القبيلة إلى الرضوخ لآل العطاس واسترضائهم والاعتذار إليهم وضيافتهم) .
وحكايته مع شريف مكة وكيف فجّر "مزنقب" الماء في مجلس الشريف مما اضطره للتسليم له كذلك.
(1) المشرع (1/ 200) .
(2) انظر ما تقدم ص (351) .
المبحث الثالث
استخدام القوة في محاربة الخصم
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: اللجوء إلى السلطان:
اللجوء إلى السلطان شأن المبتدعة والباطنية في كل زمان ومكان؛ لفقدهم الدليل المقنع، فيلجَئون إليه، يداهنونه، ويطْرُونه، ليدافع عنهم وعن باطلهم، ويدفع خطر خصومهم
لا يفزعون إلى الدليل وإنما في العجز مفزعهم إلى السلطان
ويقول العلامة الحسين بن عبدالرحمن الأهدل في كلامه عن الصوفية: (فإن عادة هذه الطائفة أعني "ابن عربي" وأتباعه التحبب إلى الدولة وإيراد أحاديث وروايات في فضائلهم، حتى يجعلوا السلطان
الجائر من الأبدال [1] والعادل هو القطب، وربما ألقوا في سمعه أن له درجة التحكيم والتفويض فيما فعله بلا حرج؛ ولذلك لم يكد يتبع [2] إنكار العلماء من قديم الزمان وهذا من مكرهم، قاتلهم الله) [3]، وكلام الأهدل هذا هو الذي استفاض، بل تواتر معناه، وهناك مواقف كثيرة جداً للصوفية في التزلف إلى السلاطين والتمكين لأنفسهم لديهم منذ نشأة الصوفية إلى اليوم، والذي يعنينا هم صوفية اليمن وقبوريتها، فإليك بعض تلك المواقف: من ذلك تبشيرهم بالمُلك أو بخلوده في أعقابهم، ومنه ما ذكره الخزرجي في "العسجد" في ابتداء أمر الدولة الرسولية، قال: (قال صاحب السيرة المظفرية: أخبرني الشيخ الصالح سليمان بن منصور بن حزينة قال: لما وصل الملك المسعود [4]، وعبر طريق خبت القحرية، وكان على قارعة الطريق شيخان من مشايخ الصوفية الصالحين، يسمى أحدها المغيث، والآخر الهدس، فقال أحدهما للآخر: هل ترى ما أرى؟ فقال له: وأي شيء تراه؟ قال: أرى شخصاً إن سار سار العسكر جميعه. فقالوا: لعله الملك المسعود فقال: لا، بل هو الملك المنصور عمر بن علي بن رسول، والملك في عقبه إلى آخر الدهر) [5].
ومن ذلك بشارة صاحبَي عواجة محمد بن أبي بكر الحكمي ومحمد بن حسن البجلي مؤسس الدولة الرسولية عمر بن علي بن رسول المذكور سابقاً بانتقال الملك إليه وتقوية عزمه عليه.
(1) في الأصل (الأنذال) وهو غلط واضح وقد صححه كذلك عبدالله الحبشي عند نقله في الصوفية والفقهاء (74) .
(2) كذا هو يتبع، وهو محتمل، ومحتمل أن يكون (ينفع) هو الصحيح
(3) كشف الغطاء ص (218) .
(4) آخر ملوك الأيوبيين في اليمن.
(5) العسجد ص (192) .
قال الأستاذ عبدالله الحبشي تحت عنوان "تاريخ الصوفية في عهد بني رسول" : (ولعل بداية تاريخ الصوفية مع الرسوليين يبتدئ ببداية هذه الدول، بل قبل البداية بسنوات عدة، فالمؤرخون يذكرون تلك الصداقة الوطيدة بين مؤسس الدولة الرسولية الملك المنصور عمر بن علي بن رسول.- حكمه من 629 - 647 هـ - وبين الفقيه الصوفي محمد بن أبي بكر الحكمي سنة 617 هـ وصاحبه الصوفي محمد بن حسين البجلي المتوفى سنة 621 هـ وهما من كبار الصوفية في اليمن. ويقال أنهما اللذان قويّا عزمه في الاستيلاء على الحكم بعد مشاهدتهما تضعضع الدولة الأيوبية وتنافس أمرائها فيما بينهم على الحكم. ونحن إذا أدركنا أن موت الحكمي كان قبل قيام الرسولي بالحكم بنحو عشر سنوات، ندرك مدى العلاقة التامة بين الصوفية ودولة بني رسول، ولندع الباحث المعاصر الأستاذ محمد بن أحمد العقيلي، يشرح هذه المسألة، فيقول: (عرف ذلك الشاب المتطلع لملك اليمن عمر بن علي الرسولي وهما قد تنبآ له بالملك ما يمكن لطموحه المتطلع من الاستفادة من نفوذهما الروحي، فأخذ في تقديرهما، وكانا عند قدوم مساح الأرض الزراعية لتقدير الخراج على المزارع، يكتبان أغلب أراضي أهل جهاتهما، فلما جاء دور الفقيهين لمسح أراضيهما وأخذ الضرائب عنهما، عفا عنهما الأمير عمر بن علي الرسولي وقد بلغ ذلك نحو خمسة عشرة ألف دينار، وأدركا بلا شك مطمعه البعيد، فأخذا يروجان مقالتهما السابقة بملك اليمن له ويشيعان ذلك سراً، ثم يذيعانه مقدماً؛ لتهيئة النفوس والعقول لوثبته، وشاعت كلمتهما، فتقبلها الناس بالترقب) [1].
إذاً فالدولة الرسولية، تدين للصوفية بوجودها بعد أن مهدوا لها عند الناس، وأصبحت مما ينتظر وقوعه. ولا أحتاج إلى تعليق على ما قرره الأستاذان الحبشي والعقيلي.
(1) التصوف في تهامة ص (119) ، الصوفية والفقهاء ص (45 - 46) .
ومن تلك البشارات بشارة الصوفي إبراهيم بن الحسن بن أبي بكر الشيباني للملك المظفر، قال الشرجي في ترجمته: (وكانت له كرامات ظاهرة، من ذلك أنه زاره الملك المظفر في أيام والده الملك المنصور ابن رسول، ولازمه في الملك بعد أبيه، فضرب الفقيه بيده على كتف المظفر، وقال له: المُلك لك ولذريتك لا أسد الدين ولا فخر الدين، يعني بني عمه. وكان المظفر يخاف أن ينازعوه في الملك بعد أبيه، فكان كما قال: تولى الملك المظفر وذريته من بعده وبطل أسد الدين وفخر الدين، فلما صار الملك إلى الملك المظفر، سامح الفقيه في خراج أرضه وأراضي أهله، ولم يزالوا على الجلالة والاحترام مدة المظفر وبعده) [1].
ومن تلك البشارات بشارة إسماعيل الجبرتي للملك الأشرف بانهزام جند قصدوه، فكان كما قال الشوكاني: (وصارت له عنده منزلة وكلمة لا ترد) [2]. ذلك بعض ما لدى صوفية تهامة، ولدى صوفية حضرموت ما يشابهه، أو يزيد عليه، من ذلك ما ذكره صاحب "تاريخ الدولة الكثيرية" في ترجمة بدر أبي طويرق تحت عنوان "نسبه واهتمام العلويين به" قال: (تصدّى جماعة من السادة العلويين في أوائل ظهوره للبحث والتنقيب عن سلسلة نسبه، ثم أسفرت نتائج بحوثهم عما يأتي:
هو بدر بن عبدالله بن جعفر بن عبدالله بن علي بن عمر بن جعفر بن بدر بن محمد بن علي بن عمر ابن كثير بن ظنة بن عبدالله بن حرام بن عمر بن سبأ الأكبر، ثم ينتهي النسب إلى يشجب بن يعرب ابن قحطان بن هود - عليه السلام -.
هكذا جاء في دشتة العلامة زين العابدين بن عبدالله بن شيخ العيدروس العلوي، قال: ولما أن تحققوا صحة هذه النسبة ذهب سبعة منهم إلى ضريح النبي هود على نبينا وعليه أفضل الصلاة
(1) الطبقات ص (47 - 48) .
(2) البدر الطالع (1/ 139) وسيأتي كلام الشوكاني كاملاً في هذا المطلب.
والسلام، واعتكفوا هناك متضرعين إلى الله سبحانه، أن يقيض هذا السلطان؛ لحفظ القطر كله. قال وظهرت آثار الإجابة في السنة نفسها، إذ طرق بدر جميع الجهة الحضرمية، واستولى عليها من عين با معبد غرباً إلى ظفار شرقاً، وذلت له رقاب أهلها في بضعة شهور، ولم يبق بها إلا مواضع حقيرة، استكملها فيما بعد، كما سيأتي) [1]. فالقوم عندما لاحظوا أمارات النجاح وعوامل النصر واستعداد هذا السلطان، لتكوين سلطنة قوية واسعة ذات نفوذ، أحبوا أن يكون لهم عنده يد، فمثلوا هذه الرواية، وأحكموا فصولها، وأقنعوا بها السلطان، وكسبوا وده.
وقريباً من ذلك فعل بعضهم مع منصب آل عمودي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبو ست، قال علوي بن طاهر الحداد، وهو يتكلم عن نسب آل العمودي الذي أثبته محمد بن ياسين باقيس إلى أبي بكر الصديق في كتاب له باسم "النبذة" : (وفي هذه النبذة التصريح بنسبهم على ما يقوله السادة الأشراف العلويون وهو مخالف، لما يقوله المؤرخون، وسيأتي بسط القولين ومستندهما في بابه قال: قال: "أي الحبيب عبدالله الحداد" فزرنا الشيخ العارف بالله معروف باجمال مؤذن بضرفون [2] ومن في تربته، وطلعنا بضة، واجتمعنا فيها بكثير من أهل الفضل من آل العمودي وغيرهم. منهم السيد عمر باعقيل باعلوي وزوجته الصالحة بنينة ومن آل العمودي الشيخ عبدالقادر والشيخ مطهر والشيخ عبدالرحمن والشيخ سعيد أولاد الشيخ الكبير الشهير عبدالله بن عبدالرحمن بوست، وهو والي منصب آل العمودي أعني الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن، وسمي بوست؛ لأن له في كل يد ست أصابع لأنه شبيه، بعبد الله بن عبدالرحمن ابن سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؛ لأنه جدهم، وينسبون إليه على ما ذكره بعض سادتنا آل أبي علوي، نفع الله بهم في بعض مكاشفاته، ولا تكون إلا حقيقة؛
(1) تاريخ الدولة الكثيرية ص (36) .
(2) موقع بالقرب بضة بوادي دوعن.
لأن الكشف الصادق إخبار عن عين اليقين وهو، حق وصدق، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ بأقوال الصالحين في الأثر المروي عنه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا منه) [1]، ثم قال: وأما ما ذكره الشيخ محمد بن ياسين عن الحبيب عبدالله الحداد عند ذكر الشيخ عبدالرحمن ابن عبدالله أبو ست وانتساب آل العمودي إلى أبي بكر الصديق، وقوله: "على ما ذكره بعض سادتنا آل أبي علوي، نفع الله بهم" فمراده بالبعض المذكور السيد الشريف أستاذ الفقهاء والمتكلمين، وإمام الزهاد الورعين أحد الأولياء المعتقدين عبدالرحمن بن علي بن أبي بكر السكران بن عبدالرحمن السقاف، له كتاب فيه الوقائع التي وقعت له في اليقظة والمنام وما بينهما، وهي إطلاعات روحية، تتمثل لهم فيها المعاني والأرواح، ذكر أنه اجتمع بروح الشيخ الكبير سعيد بن عيسى، وسأله عن نسبه، فذكرله سلسلة نسبه إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، والقصة أطول مما ذكرنا، وقد رأيناها بقلم بعض أشياخ آل العمودي) [2]، ثم قال: (وقد نقل الشيخ عبدالرحمن بن عثمان - الآنف الذكر - تلك الواقعة، وكتبها في مصحفه، ومنه نقلتها، وهي: وذكر الشريف عبدالرحمن بن علي: أن عبدالله بن عبدالرحمن بن الإمام أبي بكر الصديق كان له ست أصابع، السادسة على صورة الإبهام تليها. وكان ذا فراسة وفهم في الأمور. كان إذا دخل البلد، لا يستطيع أحد من أهل البلد، أن يكذب خشية أن يعرفه، ويسمع كذبه بفراسته. وكان يقول له والده عبدالرحمن: سيخرج من صلبك ولدٌ اسمه كاسمك، وصورته كصورتك، والله إني أنظر إلى أصبعه الزائدة تتحرك عند حركتك، وتكون له فراسة كفراستك، وفهم كفهمك ووالله لولا أنه في غرة كل موجود ليس كمثله شيء، لقلت أنك هو، وهو أنت. وكان الشيخ محمد بن عمر باعفيف يقول لشيخه الشيخ عبدالرحمن: يا سيدي، أهو قد ظهر؟ فيقول. لا، إلا أنه قريب الظهور انتهى.
(1) الشامل ص (163) .
(2) المصدر السابق ص (165 - 166) .
والحبيب السيد الشريف عبدالرحمن بن علي المنسوب إليه هذه الواقعة الكشفية الروحية ولد سنة (850) ، وتوفي سنة (923 هـ) . وقد تحققتْ بولادة الموعود به الشيخ المعمر عبدالله بن عبدالرحمن المذكور في أواخر القرن العاشر، وتوفي سنة (1072 هـ) ، وكان له في كل يد ست أصابع، الزائدة على صورة الإبهام تليها. وهذه الحكاية من أغرب ما يروي) [1]،وقد كان عبدالرحمن أبوست العمودي حاكماً على منطقة دوعن مدة طويلة.
وهذه النماذج وغيرها كثيرة كافية للدلالة على منهج القوم في استرضاء السلاطين والحكام؛ لكسب تأييدهم، وضمان وقوفهم معهم ضد مخالفيهم، ولم ينتهِ هذا المنهج أو يتغير، فصوفية اليوم هم صوفية الأمس، وإن ما حدث أيام حرب الانفصال - ربيع الأول 1415 هـ من صوفية حضرموت لكافٍ في الدلالة على ذلك. فقد وقفوا مع الانفصاليين بكل ما أوتوا من قوة، وقد تبارى خطباؤهم في تأييد حركة الانفصال، وأصدروا البيانات المؤيدة لها، وأفتوا بأن القتال في صفوف الاشتراكيين جهاد في سبيل الله؛ لأنه دفاع عن الأنفس والأعراض والأموال إلى غير ذلك من المواقف، بل إن بعض من يكتب اليوم في التنظير للصوفية والدفاع عنها قد قَبِل أن يكون وزيراً للأوقاف في حكومة الاشتراكيين الانفصاليين، ولكن سرعان ما تغيرت المواقف، وتبدل الولاء، وتناقضت الخطب والبيانات بمجرد انتصار القوات (الحكومية) وأصبحوا يتظاهرون بتأييدها، وأنهم كانوا مؤيدين لها طيلة المحنة التي مرت بها البلاد، ولا أدري كيف يثق الحكام بمن هذه مبادؤهم ومواقفهم؟! أم أنها مناورات من الطرفين على حد قول الأول: (كلانا عالمٌ بالترهات) .
وإليك أخي القارئ الكريم بعض المواقف التي استعان فيها الصوفية بالحكام ضد مخالفيهم:
(1) المصدر السابق ص (166) .
الموقف الأول: ما ذكره الخزرجي في ترجمة الفقيه حسين بن أبي بكر السودي، قال: (وكان فقيهاً صالحاً فاضلاً مشهوراً بالفقه والصلاح، وشهدت له كرامات كثيرة، وكان معظماً عند الناس، ولكن بلغ الملوك عنه أنه يتصل بإمام الزيدية في عصره، وهو محمد بن مطهر، فكرهوه، وهموا بأذيته، فكان لا يستقر في موضع ينالونه فيه، وكان ينكر على الفقراء الرقص والسماع؛ فلذلك أجمع الفقراء والفقهاء عليه، ولم يزل حذراً من السلطان حتى توفي في السنة المذكورة سنة "704 هـ" ) [1].
الموقف الثاني: ذكره شيخ الإسلام الشوكاني - رحمه الله - في ترجمة إسماعيل الجبرتي، قال: (وكان أول ظهور أمره أنه بشر السلطان الأشرف بانهزام جند قصدوه، وكان الأمر كذلك. وصارت له بذلك عنده منزلة وكلمة لا ترد، وكان منزله ملجأ لأهل العبادة ولأهل البطالة وأهل الحاجات، فأهل العبادة يحضرون للذكر والصلاة، وأهل البطالة للسماع واللهو، وأهل الحاجات لوجاهته، فأنه تتلمذ له أحمد بن الرداد، ومحمد المزجاجي، فجالسا السلطان، وكان مغرى بالسماع والرقص داعياً إلى نحلة ابن عربي حتى صار من لا يحصل نسخة من الفصوص، تنقص منزلته عنده، واشتد البلاء على العلماء الصادعين بالحق، بسببه وفيه يقول بعض الأدباء، وكان منحرفاً عنه ومعتقداً لصلاح صالح المصري:
صالح المصري قالوا: صالح ولعمري إنه للمنتخب
كان ظني أنه من فتية كلهم إن تمتحنهم تختلب
رهط إسماعيل قطاع الطر يق إلى الله وأرباب الريب
سفل حمقى رعاع غاغة أكلب فيهم على الدنيا كلب
(1) العقود اللؤلؤية (1/ 302) .
وقد كان قام صالح المصري هذا على صاحب الترجمة، فتعصبوا له حتى نفوه إلى الهند، ثم كان الفقيه أحمد الناشري عالم زبيد يقوم عليه وعلى أصحابه، ولا يستطيع أن يغيرهم عما هم فيه؛ لميل السلطان إليه) [1]. فانظر كيف استُغِلَّ نفوذ هذا الصوفي على السلطان إلى هذه الدرجة من الظلم والاضطهاد للخصوم، وهناك مواقف كثيرة سيجدها المتتبع لو بحث عنها.
ولصوفية حضرموت مواقف تندرج في نفس هذا المسلك الدنيء، وتسير على ذات المنهج الرديء، وكان أبرزها في أثناء الصراع الذي نشب في إندونيسيا بين العلويين والإرشاديين:
فمن ذلك سعيهم لدى حكومة بريطانيا وإقناع قنصلها في العاصمة الإندونيسية بتافيا (جاكرتا) بأن الإرشاد، تعمل ضد السياسة البريطانية، قال صلاح البكري: (وقد تأثر القنصل لجهله حقيقة الإرشاد، فأرسل إلى الحكومتين القعيطية والكثيرية؛ ليأخذوا حذرهم من كل إرشادي يدخل حضرموت، ويرسل المسؤولون في الحكومتين منشوراً على كافة الحضارم بإندونيسيا) [2]. ثم ذكر نص البلاغ الذي يتهدد ويتوعد كل من بقي في جماعة الإرشاد، ويصفه بأنه عدو لوطنه ولمواطنيه عاقاً لهم مخالفاً لجماعتهم في كل مقوماتهم ساعياً في تسميم عقولهم وأفكارهم [3]، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تحول إلى اضطهاد حقيقي للإرشاديين في بلدهم الأصلي حضرموت، قال البكري: (لم يكتف آل باعلوي وغيرهم من المعارضين لثورة الإرشاد الدينية الحرة عند هذا الحد، فاتجهوا بوشاياتهم إلى حضرموت، واستطاعوا أن يؤثروا على السيد حسين بن حامد المحضار وزير الحكومة القعيطية بمدينة
(1) البدر الطالع (1/ 139 - 140) وقد ذكر طرفاً من قصة صالح المصري الخزرجي في العقود اللؤلؤية (2/ 225) في حوادث سنة (797 هـ) ، وعبد الله الحبشي في الصوفية والفقهاء ص (118) .
(2) تاريخ الإرشاد ص (79) .
(3) المصدر السابق ص (81) .
المكلا. فقد كان هذا الوزير يتلقى الرسالة تلو الرسالة من قريبه السيد محمد المحضار ببندووسو بجاوه، يحرضه على عرقلة كل إرشادي يأتي من إندونيسيا إلى وطنه بحضرموت. وقد تأثر الوزير بتلك الرسائل إلى حد كبير، فأخذ يضطهد كل إرشادي قادم إلى حضرموت، وأسهم في ذلك والي دوعن عمر بن أحمد باصرة، أسهم في التعذيب؛ إرضاء لوزير الحكومة القعيطية) [1].
ولم يكتفوا بالتنكيل بالمنتمين إلى جمعية الإرشاد فحسب، بل تعدى الضرر والاضطهاد إلى أسرهم وأقربائهم للضغط عليهم وحملهم على إخراج أقاربهم من جمعية الإرشاد، وقد شرح ذلك الأستاذ البكري، وأوضح أن نائب السلطنة بدوعن، تولى ذلك، وأورد على ذلك دليلاً هو رسالة من أحد أقرباء عضو من أعضاء الإرشاد. هذا نصها:
(الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
إلى جناب الأكرم المكرم المحترم العزيز الأخ سالم بن أحمد با مصفّر سلمه الله تعالى آمين. وعليه مني السلام وأزكى التحية والإكرام ورحمة الله وبركاته على الدوام. صدر المرقوم من قيدون، والعلم خير ولطف وعافية، نرجو الله الكريم أنك وكافة المعارف بخير وعافية.
قد سبقت إليك جملة كتب وفيها من الحقائق كفاية، وعرفناك أن نحن بغيناك تخرج من هذه الجمعية "جمعية الإرشاد" ؛ الله الله لحيث المشقة ضاوية علينا، وقد وصّالنا المقدم، وبتينا إلى عنده، وأعطى لنا مهلة لما شهر شعبان، من خرج من هذه الجمعية يخبر الحبيب محمد بن أحمد المحضار ولعاد عليه شيء، ومن لا خرج بايوصي المقدم لأهله، وأنت بُصْرك. الله الله في الجواب مطلوب وأما فينا فما تحتاج إلى وصاه والسلام.
(1) المصدر السابق ص (84) .
حرر في 12 ربيع الثاني سنة: 1338 هـ
طالب الدعاء
محمد بن أحمد بامصفر) [1]
ولم يكتف العلويون بذلك، بل ذهبوا إلى أبعد منه حيث وشوا إلى شريف مكة، وحذروه هؤلاء الإرشاديين، ووصفوهم له بأنهم نواصب، يبغضون آل البيت، ولديهم أفكار سامة، يريدون منعهم من الحج والعمرة ودخول أراضي الحجاز؛ حرصاً على سلامة أهله وسائر الحجاج من انتقال عدوى هذه الأفكار إليهم؛ ومنعاً من أن يلتقي هؤلاء الخوارج بإخوانهم الذين على شاكلتهم، يعنون أتباع الدعوة النجدية، وقد أورد البكري نص الرسالة المتضمنة لذلك [2].
هذه بعض الأدلة على لجوء القبوريين إلى السلطان أياً كان هذا السلطان مسلماً أو كافراً، مادام أن الالتجاء إليه سيحقق لهم غرضاً.
وقد لفت نظري سقاف بن علي الكاف في مؤلفه "حضرموت عبر أربعة عشر قرناً" . حين أرخ لهذه الحوادث، وقد حاول أن يضبط نفسه، وأن يقاوم مشاعره، فلم يتحامل تحاملاً ظاهراً على أصحاب الإرشاد، ولكنه أورد رسالتهم إلى وزارة الخارجية البريطانية ليومئ إلى القارئ أن هؤلاء القوم حملهم بغضهم لخصومهم وهواهم المتبع على أن يلجئوا إلى العدو الكافر، ويستعينوا به على خصومهم وقد نسي أن أصحابه قد فعلوا أكبر من ذلك وأكثر وليس فقط مع بريطانيا، بل مع بريطانيا
(1) تاريخ الإرشاد ص (121) .
(2) المصدر السابق ص (82 - 83) .
وهولندا وغيرهما من دول المسلمين والكفار وأن بريطانيا استجابت لطلب العلويين وجارتهم على رغبتهم، وضايقت الإرشاديين في بعض مستعمراتها [1].
المطلب الثاني: اللجوء إلى القبائل وحملها على إخضاع خصومهم:
تقدم بيان ما وصلت إليه الصوفية القبورية من سلطة ونفوذ على القبائل، والإشارة إلى أنها تستخدم ذلك النفوذ ضد كل من يخالفها، وتسخرها؛ لتهديد وأذية خصومها، وقبل أن نذكر تسخير الصوفية للقبائل في ضرب الخصوم الأباعد، نذكر قصة طريفة تؤدي الغرض، وتظهر مدى استخدامهم لذلك النفوذ والزج بالقبائل في فتن لا ناقة لهم فيها ولا جمل، قال محمد بن هاشم تحت عنوان "قضية التابوت" : (الذي يظهر أن نفسيات السراة والزعماء من السادة وغيرهم من أهل ذلك القرن قاسية متصلبة، لا تعرف المرونة، ولا تجنح إلى المجاملة. وربما تغلّب على القوم التعسف الأناني، والتعصب الأعمى الذي تنكره العقول، وتمجه الأذواق، وتقف الطباع السليمة حسرى دون شأوه. وقضية التابوت يستنتج منها ما ذكرناه، ويعلم منها مبلغ التخبط السياسي الذي تعانيه حضرموت في ذلك العهد وإليك ما قالوه عنها، قالوا: "وفي سنة 1161 هـ كانت واقعة التابوت الذي أرسله الشيخ العمودي لضريح الحداد، وهو شبيه التابوت الذي على قبر المحضار" . فاختلف رأي السادة فبعضهم رضي ذلك كالحبيب أحمد بن علي ابن الشيخ أبى بكر بن سالم ومنهم من لم يرض كالسادة آل العيدروس، وكذلك اختلف رأي القبائل على هذا حتى وقعت الحرب على وضعه. وأصابت رصاصة رأس السيد صالح بن علي بن أحمد ونفذوا به إلى عينات حيث قضى نحبه. وبقي التابوت موضوعاً في بعض الديار بأمر من يافع أشهرهم أحمد غرامة البعسي، وصمم الحبيب أحمد بن علي على وضعه على الضريح فجاء الرتبة من يافع ووضع بحضورهم قيل على رضى من آل همام ممزوج بخداع.
(1) قد يقول قائل: وأنت فعلت نفس الشيء، فذكرت ما صدر عن العلويين، ولم تذكر ما صدر عن الإرشاديين. قلت: ... لا سواء، فالكاف مؤرخ لحضرموت ومن المفترض أن يكون عادلاً منصفاً لكل أهل حضرموت، وأما أنا فقد حددت منهجي وهو الكلام عن الصوفية فقط ناقداً وكاشفاً عن حقيقتها، ولست مجرد مؤرخ ناقل للأحداث.
وبعد وضعه قام السادة آل العيدروس وعظم عليهم الأمر واستنجدوا بالشنافر وساروا على أحيائهم فصار بعد ذلك ما صار من حريق التوابيت كلها التي على القبور. ثم تراجع الناس واجتمع الرأي على إرجاع التوابيت فأعيدت على حالها وأصلحن بأعواد هندية مصهرة) [1].
ومما يظهر نفوذ أولئك الصوفية وتسخيرهم للقبائل ما قاموا به إزاء الحملة النجدية على حضرموت، والتي استهدفت وادي حضرموت من المشهد جنوباً غربياً إلى عينات في الشمال الشرقي، أو إلى قبر هود شرق عينات، فبعد الكر والفر والأخذ والعطاء، وحينما همَّ النجديون بدخول وادي عمد والذي أول مُدنهِ مدينة حريضة، جمع آل العطاس قبائل تلك المنطقة وكونوا منهم جيشاً كبيراً تصدى للنجديين وكسروهم وذلك عندما بدأ الضعف يَدبُّ فيهم بسبب هجوم محمد علي باشا على عاصمتهم الدرعية وقد فصل ذلك صاحب تاج الأعراس في عدة مواضع [2]، ومما قال وهو يتحدث عن القائد العام لجيش حضرموت علي ابن جعفر العطاس: (ومما أكرمه الله به من دقة النظر، فمن فطانته ودقة سياسته أنه جعل على كل قبيلة من تعتقده وتحترمه من السادة المتقدم ذكرهم زيادة على غيره) [3]، وكانت القبائل التي جمعها آل العطاس وقادوها بأنفسهم قبائل الجعدة قال: (ومما يجدر بالذكر هنا أن المقدم عمر بن علي باصليب المشجري لما بلغه الخبر بهجوم الوهابيين على بلد حريضة جاء إليها في ثلاثمائة رامي من قومه آل باصليب سكان حالة باصليب والمعقل بوادي عمد منجداً
(1) تاريخ الدولة الكثيرية ص (115 - 116) . وانظر: جواهر تاريخ الأحقاف (ج 2/ 218 - 219) .. تأليف العلامة محمد بن علي بن عوض باحنان, طبع مكتبة الفجالة الجديدة، القاهرة (1382 هـ-1963 م) .
(2) انظر: (1/ 174) و (1/ 230 - 231) و (1/ 234)
(3) تاج الأعراس ص (233 - 234) .
للسادة آل العطاس وقبائل الجعدة ففرحوا بهم ومنهم وشكر الحبيب علي بن جعفر المقدم باصليب وقومه .. الخ) [1].
وهذا نموذج آخر من استخدام القبائل للحفاظ على مصالح آل باعلوي وإلا فالجيش النجدي ما كان يريد إلا أن يطهر البلاد من أدران القبورية، وأن يصلح ما أفسده الصوفية والقبورية من عقائد الناس، وصاحب المصلحة الحقيقية في ردعه وصده هم القبوريون أما سائر الأمة فكان من صالحهم أن ينتصر وأن يزيل مظاهر القبورية التي أفسدت عقائد الناس وأن يعلموهم دينهم كما حصل في المناطق التي استولوا عليها في كثير من أرجاء الجزيرة العربية كما قرر ذلك شيخ الإسلام الشوكاني في ترجمة "الشريف غالب بن مساعد" من البدر الطالع قال وهو يتكلم عن حروبه مع صاحب نجد "عبدالعزيز بن سعود" : (فإن صاحب نجد تبلغ عنه قوة عظيمة لا يقوم لمثلها صاحب الترجمة. فقد سمعنا أنه قد استولى على بلاد الحسا والقطيف وبلاد الدواسر وغالب بلاد الحجاز. ومن دخل تحت حوزته أقام الصلاة والزكاة والصيام وسائر شعائر الإسلام، ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعده غالبهم إما رغبة وإما رهبة، وصاروا مقيمين لفرائض الدين بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئاً ولا يقومون بشيء من واجباته إلا مجرد التكلم بلفظ الشهادتين على ما في لفظهم بها من عوج. وبالجملة فكانوا جاهلية جهلاء كما تواترت بذلك الأخبار إلينا، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاتها، ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلاً تحت دولة صاحب نجد وممتثلاً لأوامره خارج عن الإسلام) [2].
(1) المصدر السابق (1/ 234) .
(2) البدر الطالع (2/ 5) .
وقد أكد ما قلت عن الجيش النجدي العلامة ابن عبيد الله في مادة المحيضرة من "إدام القوت" حيث قال: (ولم يفسد حرثاً ولا أهلك نسلاً، وإنما هدم القباب، وسوى القبور المشرفة، وألقى القبض على المناصب وأهانهم، وأتلف قليلاً من الكتب، كثره بعض العلويين، كصاحبنا الفاضل السيد علوي ابن سهل بدون مبرر من الدليل) [1].مع أن أهل حضرموت في تلك الفترة بأمس الحاجة إلى من يعلمهم أمر دينهم ويبصرهم بما هم عليه من أخطاء في العقائد والأعمال. فكان قيام تلك القبائل تضحية بمصالحها الحقيقية للحفاظ على مصالح سادتهم، ولما لم يكن هناك مقاومة تذكر من علماء حضرموت تستحق التصدي القوي لها باستخدام القبائل لم أر شيئاً واضحاً في ذلك إلا في الصراع العلوي الإرشادي، فقد حاول آل باعلوي أن يستفيدوا من نفوذهم الروحي على قبائل يافع، فكاتبوهم يحرضونهم على مواجهة الإرشاديين وقمعهم ولكن الأحوال قد تغيرت، والعقول قد تفتحت، والعقائد التي كانوا يعتقدونها فيهم قد ظهر زيفها، فلم يسعفوهم ولم يستجيبوا لمطالبهم، بل سخروا بها وإليك بعض رسائلهم إلى قبائل يافع لذلك الغرض:
الرسالة الأولى: من محمد بن أحمد المحضار إلى علي بن حسن بن نقيب اليافعي قال فيها: (الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله مهدي السلام الخاص من الشيخ المكرم والمحب المحترم علي بن حسن ابن نقيب وعلى من بقي له اتصال بالحبيب والشيخ مولى الكثيب [2] وأما من خرج عن دائرة أهل البيت فيأكله الكلب أو الذئب، وماله في الأمر من نصيب وكتاب الشيخ علي وصل وفرحنا به
(1) إدام القوت ص (122 - 123) الحلقة (40) المنشور في مجلة العرب.
(2) مولى الكثيب هو أبو بكر بن سالم صاحب عينات سمي مولى الكثيب لأنه عندما قربت وفاته حاول بعضهم أن يستخلفه فأبى وقال: (إذا ما لحقنا حد متأهل با نطرحه في كثيب عينات) فاشتهر الكثيب منذ ذلك الوقت وقالوا عنه أنه ترياق مجرب ودواء ناجع للأمراض المستحكمة المعدية) ... الخ، انظر: الجواهر في مناقب الشيخ أبي بكر تاج الأكابر ص (117) .
وزواج الأولاد صالح وصالح مبارك وقدوم إلى خير وبودنا أن نرسل واحداً من الأولاد ولكنهم معذورون وبالنية حاضرون، والسلام وسلموا على الخال طالب عوض وسمعنا بعزمه إلى الحج والزيارة وربح التجارة وفرحنا له، ومن الله على الجميع، والسلام منا ومن الأولاد عليكم ولأهل الوداد أما أهل الفساد "يعني الإرشاديين" فلهم الإبعاد وأشد من بعد عاد والمولى بالمرصاد والشفيع سيد الرسل يوم الميعاد والتناد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. وبلغنا أن الإمام "يحيى إمام اليمن" مجهز على يافع، ويافع لا يصلح الأمر ويطفي الجمر إلا الأخ محمد بن علي الحييد لأن الإمام يكاتبه ويافع قد هم حقه [1] أن بغيته يعزم أجمعوا على الذي يليق به من الخرج والفتح على يده، وخبر الإمام واجب الانتباه له - يعني إمام اليمن - لأن الأمر مهم جم جم، ومعه قصد - لعل الكاتب يقصد من سؤاله غزو حضرموت - لا يقدرون يافع ولا غيرهم بمقاومته وهو هزم التركي ومعه دولة كبيرة والله يختار.
حرر في بندووسو في 7 جمادى الآخرة سنة 1338 هـ
الداعي / محمد بن أحمد المحضار. [2]
والرسالة الثانية:- أيضاً من المحضار ذاته (الحمد لله ونسأله بالاسم الأعظم والحبيب الأكرم - صلى الله عليه وسلم - ومحبهم يغنم نخص المحبين بني مالك لا يزالون ملوك الممالك مازال الكل في مسلك المصطفى سالك، والشيخ أبو بكر ضامن لهم بذلك وفوق ما هناك [3] ونهدي السلام للجميع ونخص منهم الشيبان
(1) قوله: "قدهم حقه" أي إنما هم حقه أي ملكه وهذه العبارة كثيراً ما يطلقها السادة على أتباعهم والمتعلقين بهم أنهم حقهم أو فقراؤهم أو عسكرهم وهكذا.
(2) تاريخ الإرشاد ص (118 - 119) .
(3) انظر: هذه العبارة وقارنها بكلام دعاتهم اليوم الذين يقولون إنهم موافقون لخصومهم بأن من أعتقد الضر والنفع لغير الله فهو مشرك فأي نفع أعظم من هذه الضمانة باستمرار السلوك على سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والشبان، جاء العزم إليكم بعد مولد ربيع الأول، والحذر شيء يدخل عليكم مما دخل على الكثير من أهل الزمان الذين استحوذ عليهم الشيطان وخرجهم من الأمان وسيخرجهم من الإيمان. بلغنا أنه وصل عندكم باعشر العشير وحمار الحمير وخنزير الخنازير قطعوا حباله وصفعه بالنكير وخبث الحديد ما يصفيه إلا الكير وشنو النكير. وإن بلغنا دخول شيء المكان تركنا كليران (بومي أيو) والله المستعان.
محمد بن أحمد المحضار) [1]
وقد علق الأستاذ البكري على هذه الرسائل فقال: (لم يستطع السيد المحضار الوقوف أمام تيار النهضة الفكرية ولم تؤثر رسائله في يافع فلم يقيموا لكلامه وزناً ولا لتهديداته ثمناً، بل كان الأمر بالعكس، كانوا يهزءون برسالته كل الهزء) [2].
المطلب الثالث: اعتماد التصفية الجسدية للخصوم:
مرّ بنا الأذية الكبيرة التي قام بها إسماعيل الجبرتي وأعوانه ضد الذي كان ينكر عليهم في زبيد "صالح المصري" [3]، وقد ذكر الشوكاني العجائب من ذلك مما يحاول القبورية والمنحرفون فعله بدعاة السنة كما في كتابه أدب الطلب سواء ما وقع للإمام محمد بن إسماعيل الأمير أو له شخصياً أو لغيرهما، وقد تناقل الناس ذلك في أنحاء اليمن في الجبال والتهائم وحضرموت وما بين ذلك ومما تناقلوه: الضرب ومحاولة القتل بالسلاح واستخدام السم ولكني في مثل هذه القضايا لا أعول على ما كان
(1) تاريخ الإرشاد ص (119 - 120) .
(2) المصدر السابق (120) .
(3) تقدم في هذا المبحث.
متداولاً بين الناس دون أن يكون مكتوباً وعليه فإنني أقتصر على ما ذكره صلاح البكري مما حدث ضد أصحاب الإرشاد بإندونيسيا. فقد قال تحت عنوان "محاولة اغتيال رائد النهضة الدينية" :
(حاول جماعة من آل باعلوي اغتيال الشيخ أحمد محمد السوركتي، وذلك بدس السم داخل فاكهة تسمى "بلمنبنق" وكان الشيخ مولعاً بأكلها فابتاع منها كمية وأكلها وبعد لحظات شعر بمغص شديد وأخذ يئن من شدة الألم فاستدعى طبيباً، وبعد الفحص قرر الطبيب أنه مسموم، ولولم يسعفه الطبيب بالدواء لذهب الشيخ إلى رحمة ربه، وهكذا أراد الله تعالى للشيخ أن يعيش ليستمر في تأدية رسالة الإسلام. وفي مدينة بوقور هاجم جماعة من العلويين وأنصارهم الشيخ عبد العزيز الكويتي ضيف إندونيسيا ومؤيد الحركة الإرشادية الحرة وضربوه بآلة حادة في رأسه ولكن عناية الله أحاطت به وأنقذته من الموت.) [1].
وهناك حادثة أخرى ذكرها ابن عبيد الله وهو يتحدث عن حاكم تريم، فيقول: (وكان ينكر بطبعه غلوا القبوريين، فوافقته آراء الوهابية، وأكثر التعليق بوحيد عصره، وفريد دهره، مقدم الجماعة، وشيخ الصناعة، الذي انتهت إليه رياسة العلم بتريم، العلامة الجليل السيد أبي بكر بن عبد الله الهندوان، المتوفى بتريم سنة 1248 هـ، وقد اتهمه العلويون بأنه هو الذي يعلم عبدالله عوض غرامة آراء الوهابية، ويحثه على الالتزام بها، ومؤاخذة الناس بمقتضاها، فتآمروا على قتاله، فهرب إلى بيت جبير) [2].
وأما الإمام الشوكاني فقد طالت شكواه من الخصوم الجهلة والمتعصبة القبورية وغيرهم وذكر أنواعاً من الأذى الذي حاولوا أن يلحقوه به وبغيره من دعاة السنة والتوحيد، فقال - رحمه الله: (ومن
(1) تاريخ الإرشاد ص (135) .
(2) إدام القوت ص (122) .الحلقة (40) من مجلة العرب.
عجيب ما أشرحه لك أنه كان في درس الجامع بعد صلاة العشاء الآخرة في صحيح البخاري يحضره من أهل العلم الذين مقصدهم الرواية وإثبات السمع جماعة، ويحضره من عامة الناس جمع جم لقصد الاستفادة بالحضور، فسمع ذلك وزير رافضي من وزراء الدولة وكانت له صولة وقبول كلمة بحيث لا يخالفه أحد وله تعلق بأمر الأجناد، فحمله ذلك على أن استدعى رجلاً من المساعدين له في مذهبه فنصب له كرسياً في مسجد من مساجد صنعاء، بمكان يسرج له الشمع الكثير في ذلك المسجد حتى يصير عجباً من العجب فتسامع به الناس وقصدوا إليه من كل جانب لقصد الفرجة والنظر إلى ما لا عهد به، والرجل الذي على الكرسي يملي عليهم في كل وقت ما يتضمن الثلب لجماعة من الصحابة صانهم الله، ثم لم يكتف ذلك الوزير بذلك حتى أغرى جماعة من الأجناد من العبيد وغيرهم بالوصول إليَّ لقصد الفتنة، فوصلوا وصلاة العشاء الآخرة قائمة ودخلوا الجامع على هيئة منكرة وشاهدتهم عند وصولهم، فلما فرغت الصلاة قال لي جماعة من معارفي إنه يحسن ترك الإملاء تلك الليلة في البخاري فلم تطب نفسي بذلك، واستعنت بالله وتوكلت عليه، وقعدت في المكان المعتاد، وقد حضر بعض التلاميذ وبعضهم لم يحضر تلك الليلة لمَّا شاهدَ وصول أولئك الأجناد، ولما عقدت الدرس وأخذت في الإملاء رأيت أولئك يدورون حول الحلقة من جانب إلى جانب ويقعقعون بالسلاح ويضربون سلاح بعضهم في بعض، ثم ذهبوا ولم يقع شيء بمعونة الله تعالى وفضله ووقايته. ثم أن ذلك الوزير أكثر السعاية إلى المقام الإمامي هو ومن يوافقه في هواه ويطابقه في اعتقاده من أعوان الدولة واستعانوا برسائل بعضها من علماء السوء، وبعضها من جماعة من المقصرين الذين يظنهم من لا خبرة له في عداد أهل العلم. وحاصل ما في تلك الرسائل إني قد أردت تبديل مذهب أهل البيت عليهم السلام، وأنه إذا لم يتدارك ذلك الخليفة بطل مذهب آبائه ونحو هذا من العبارات المفتراة
والكلمات الخشنة والأكاذيب الملفقة. ولقد وقفت على رسالة منها لبعض أهل العلم ممن جمعني وإياه طلب العلم ونظمنا جميعاً عقد المودة وسابق الألفة فرأيته يقول فيها مخاطباً لإمام العصر: إن الذي ينبغي له ويجب عليه أن يأمر جماعة يكبسون منزلي ويهجمون مسكني، ويأخذون ما فيه من الكتب المتضمنة لما يوجب العقوبة من الاجتهادات المخالفة للمذهب، فلما وقفت على ذلك قضيت منه العجب، ولولا أن تلك الرسالة بخطه المعروف لديَّ لما صدقت، وفيها من هذا الزور والبهت الكلمات الفظيعة شيء كثير، وهي في نحو ثلاثة كراريس، وعند تحرير هذه الأحرف قد انتقم الله منه فشَّردَه أمام العصر إلى جزيرة من جزائر البحر مقروناً في السلاسل بجماعة من السوقة وأهل الحرف الدنيئة وأهلكه الله في تلك الجزيرة، ولا يظلم ربك أحداً) [1].
المطلب الرابع: تشويه صورة الخصم بالإشاعات الكاذبة:
هذا مسلك لأهل الباطل قديم، فأعداء الرسل قد استخدموه وقريش قد أكثرت منه لتشويه صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت "ساحر" و "شاعر" و "مجنون" و: كذاب "و {إنما يعلمه بشر} [2] الخ تلك الألقاب الكاذبة والإشاعات المغرضة المضللة، ومازال ذلك شأنهم مع العلماء القائمين مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - والوارثين له، وهو نفسه يتكرر مع علماء اليمن ودعاته كلما واجهوا جهّال ومنحرفي قومهم في سائر أنحاء"
(1) أدب الطلب ص (32 - 33) للإمام محمد بن علي الشوكاني، تحقيق مركز الدراسات والأبحاث اليمنية صنعاء.
(2) النحل (103) .
اليمن، فأئمة التجديد قد عانوا أشد المعاناة من ذلك المسلك الظالم لدى خصومهم، وعبروا عنه بأساليب مختلفة، يقول العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير حاكياً ما لقيه من متعصبة عصره: (وإني لما تمسكت بعروة السنن الوثيقة، وسلكت سنن الطريقة العتيقة، تناولتني الألسنة البذيئة من أعداء السنة النبوية، ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة، وأمور غير ذلك كثيرة حرصاً على ألا يُتَّبَع ما دعوت إليه من العمل بسنة سيد المرسلين والخلفاء الراشدين والسلف الصالحين، فصبرت على الأذى وعلمت أن الناس مازالوا هكذا:
ما سلم الله من بريته ولا نبي الهدى فكيف أنا) [1]
ثم جاء دور المقبلي ولقي من الأذى ما لقي حتى أنه حين قال بيته المشهور:
قبَّح الإلهُ مفرِّقاً بين الصحابة والقرابة
أجابه أحد غلاة الزيدية فقال:
أطرق كرا يامقبلي فلأنت أحقر من ذبابة
وقال الآخر:
المقبلي ناصبي أعمى الشقا بصره
فرق ما بين النبي وأخيه حيدره
لا تعجبوا من بغضه للعترة المطهرة
فأمه معرفة لكن أبوه نكره [2]
والبيت الأول فيه وقاحة وخسة، والأبيات الأخرى فيها قذف له ولأمه. وقد أعرب الإمام العلامة محمد بن إسماعيل عن ذلك وشكى منه أمر الشكوى قال في قصيدته النجدية:
(1) من مقال محمد بن إبراهيم الوزير وكتابه العواصم و القواصم للقاضي إسماعيل الأكوع (1/ 21 - 22) .
(2) هجر العلم (1/ 271) .
وأقبح من كل ابتداع سمعته وأنكاه للقلب الموفق للرشد
مذاهب من رام الخلاف لبعضها يعض بأنياب الأساود والأسد
(5) يصب عليه سوط ذم وغيبة ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد
ويعزى إليه كل مالا يقوله لتنقيصه عند التهامي والنجدي
فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد
وليس له ذنب سوى أنه غدا يتابع قول الله في الحل والعقد
ويتبع أقوال النبي محمد وهل غيره بالله في الشرع من يهدي
لئن عدّه الجهال ذنباً فحبذا به حبذا يوم انفرادي في لحديد [1]
وأما الشوكاني فقد جمع إلى همه هموم المتقدمين عليه، وشكى مما أصابه وأصابهم وحل به وبهم، وهو لاشك أصدق تعبيراً فالنائحة الثكلى ليست كالمستأجرة، وقد تقدم كلامه في المطلب الثالث فأرجع إلية
وعندما نشب الخلاف بين العلويين وأصحاب الإرشاد في إندونيسيا تفنن العلويون في تشويه سمعتهم وإطلاق الألقاب المنفرة عليهم فكان مما أطلقوا عليهم من ألقاب: (أنهم وهابيون، ونصارى، وأنهم يعملون ضد مصالح هولندا وإنجلترا والقعيطي والكثيري، وأنهم خوارج يبغضون أهل البيت) [2].
وهذه عبارة مقتطعة من رسالة محمد بن أحمد المحضار إلى يافع في منطقة "يومي أيو" في إندونيسيا يقول أثناءها عن أحد الإرشاديين: (وصل عندكم باعشر العشير وحمار الحمير وخنزير الخنازير
(1) ديوان الأمير الصنعاني ص (167) طبع منشورات المدينة الطبعة الثانية (1407 هـ - 1986 م) .
(2) الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في حضرموت ص (152) .
قطعوا حباله وصفعه بالنكير وخبث الحديد ما يصفيه إلا الكير وشنوا النكير) [1]. وقد وصفوهم في رسالتهم إلى شريف مكة بما يلي: (وينهون إلى مقامكم السامي أنها نجمت من مدة قريبة من الخوارج في هذه البلاد، عقيدتها بغض أهل البيت الطاهر وتحقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وبث الدسائس وإيقاد الفتن، ولهم من النشرات الجمة ما يبين خبيث قصدهم) [2] هذه شذرات مما صدر عن القوم من تشويه وطعن لخصومهم.
(1) تاريخ الإرشاد ص (120) .
(2) المصدر السابق ص (82) .
المبحث الثالث
الردود الوارده على القبورية في كتب الفنون المختلفة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الردود على القبورية في كتب التاريخ:
إن جميع من له إدراك وفهم - ولوكان بسيطاً - يدرك بسهولة ضلالات القبورية وانحرافاتها، وقد تناثر نقد العلماء وردهم على تلك الضلالات والخرافات في ثنايا ماكتبوا من شتى الفنون، وأنقل إليك جملة مما ظفرت به من كلامهم:
فمن المؤرخين القاضي العلامة محمد بن علي الأكوع رحمه الله يقول في مقدمة السلوك للجندي منتقداً عليه شدة ولوعه بتتبع الكرامات والزيارات ومايقال عن المقابر وما لها من فضائل: (ومؤرخنا رحمه الله ولوع بشدة وبشكل جدي وكبير بذكر كرامات الأولياء والمنامات والمرائي الخلابة التي هي أغرب من الخيال وتلحق بقسم المستحيل وبحديث خرافة.
وكان يصدر أحكامه بتلك الكرامات عن عقيدة راسخة لاتقبل الجدل والمناقشة وعن نفس مؤمنة بذلك خصوصاً إذا تلقاها عن الثقات فإنها تصير عنده من القطعيات.
والحق أن أكثرها بالخرافات أشبه وبخرق العادات اعلق، وبالبله السذج ألصق، لأن البعض منها يخرجها عن حد المعقول إلى حيز المحال والتجديف، على أنا لاننحي باللائمة على مؤرخنا الجندي الذي انساق وراء هذه العاطفة الروحانية الزايفة لأن الوسط الذي كان يعيش فيه الجندي كان ملغماً
بهذه الخرافات، ومنغمساً في هذا الجو القدسي في نظرهم كما سبقه إلى هذا غيره، وسير الأئمة وغيرهم مليئة بهذه الحكايات.
خدعة الملوك:
ومما يستغرب أن الملوك والرؤساء انجرفوا وراء هذه الظاهرة ومع السواد الأعظم وفي هذا المسار كما يحكي لنا الجندي في بعدة مواقف عن ملوك عصره ومن قبلهم.
وأعتقد جازماً أن انسياق الملوك والرؤساء وراء هذه الروحانية الزائفة "خدعة سياسية" لاتمت إلى عقيدتهم بصلة، كيف لا وبعض الملوك مهزوز العقيدة مضطرب في الإلهيات. وإنما يقصدون من وراء ذلك تضليل العامة وجعلهم في متاهة الجهالات وحتى يبتعدوا عن تتبع مساوئ الحكام والبحث عن كبائر جرائمهم وقد يكون البعض منهم صادقاً في ذلك والله من وراء العلم.
ويبدو أن هذه الظاهرة وهذه البلوى عمت جميع الأقطار الإسلامية، وما السيد البدوي والدسوقي والسيدة زينب وأضرابهم في القطر المصري والشيخ عبدالقادر الجيلاني والبسطامي وغيرهم في بغداد والنابلسي وابن عربي بالشام وقل في المغرب العربي وإفريقية المسلمة وإيران وغير ذلك إلا من هذا القبيل.
أما كرامة أولياء بلادنا اليمن الأعلى فهم الأولياء المسلحون الذين يحملون السيف والرمح ويجالدون على الإمامة ويقاتلون دونها، وذلك مثل الإمام الهادي والإمام أحمد بن الحسين صاحب ذي بين وسيل الليل أحمد حسن وغيرهم، والعجب أن تخرج من ثنايا هذا الصراع الدموي كرامات وعجائب وغرائب. وتعليل هذه الظاهرة والموجه العارمة التي نزلت في بلاد الإسلام، هو ابتعاد المسلمين عن روح الدين الحنيف الصحيح الذي جاء عن محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه السلف الصالح من
الصحابة والتابعين، وبما أدخله أعداء الإسلام من الشوائب والبدع التي صدأت جوهره الصافي النقي وولدت مثل هذه القضايا وكانت سبباً لتأخر المسلمين كما قيل.
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه )) [1] هذا وليس هنا بسط القول عن هذه المسألة، فمن شاء معرفة ذلك فعليه بكتب ابن تيمية وكتب تلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، وفي كتاب الله جل شأنه مافيه مقنع، وحسبنا ذلك) [2]. وهكذا نرى هذا العلامة المؤرخ ينتقد هذه الظواهر، ويحللها، وبيبن موقف الحكام منها، ويربط بين تبنيهم لها وسياسة الملك التي يعمبلون على تثببيتها وأنهم ما جاروا القبورية إلا للاستفادة منهم في ذلك.
المؤرخ الثاني: القاضي العلامة إسماعليل بن علي الأكوع وهو أخو القاضي محمد وقد تعرض للقبورية في عدة مواضع من كتابه "هجر العلم" منها ما في بيت الفقيه في ترجمة "أحمد بن موسى بن العجيل" حيث قال في معرض الترجمة: (وكان على قبره تابوت وقبة أزالهما الإمام أحمد بن الإمام يحيى حميد الدين سنة 1348 هـ حينما كان ولياً للعهد بعد أن تغلب على معارضة قبيلة الزرانيق -التي كانت تعرف من قبل بالمعازبة - لامتداد نفوذ الإمام يحيى إلى بلادها، ودخولها تحت حكمه. كما أزال الإمام أحمد كذلك التابوت من على قبر أحمد بن علوان في يَفْرُس من ناحية جبل حبشي سنة 1362 هـ لاعتقاد جهلة العامة في صاحبي القبرين الضر والنفع، وتالله لقد أحسن الإمام أحمد صنعاً في كلتا الحالين ولو أن يده امتدت إلى سائر القباب والتوابيت الأخرى التي يعتقد عامة الناس في أصحابها الضر والنفع لأجزل الله مثوبته وأحسن إليه، ولاسيما القبور التي يلتمس عندها العامة الخير
(1) تقدم تخريجه ص ( ... ) .
(2) مقدمة السلوك للجندي (1/ 27 - 28)
والبركة، ويرجون منها النفع، ودفع الضر والشر) [1]، ثم ذكر كلام الشوكاني في وصف قبة الإمام "أحمد بن الحسين" نقلاً عن الدر النضيد وتقدم ذلك النقل [2]، ثم ذكر رسالتين مهمتين لإمامين من أئمة الزيدية يأمران فيهما ببناء مشاهد على قبور بعض المقربين إليهما ثم قال حفظه الله: (وكان الواجب على الإمام أحمد هدم القبور التي يلتمس العامة منها الخير والبركة امتثالاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بهدم القبور، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: "قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ألا أبعثك علىمابعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" [3]. وأفضل التشيع بالإمام علي رضي الله عنه الاقتداء به، والعمل بسيرته التي هي مقتبسة من سيرة المشرّع العظيم رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم - إذ لايكفي المحبة باللسان والمخالفة في العمل) [4].
وفي ذي الجنان "قرية أحمد بن علوان" قال في ترجمة ابن علوان: (وقد فتن به العامة في عهده وبعد وفاته وحتى اليوم فقبره مقصود للزيارة وكنت أعتقد أن افتتان الناس به إنما حدث بعد وفاته) [5]، وبعد أن ذكر موضوعاً عن الزبيري وقصيدة له فيهدم قبر ابن علوان وستأتي إن شاء الله في موضعها ثم قال: (ولكن الأخ القاضي فضل بن علي الأرياني أطلعني على قصيدة لأحمد بن علوان تدل على أنه كان يدعي لنفسه أموراً خارقة للعادات، نذكرها هنا، ونذكر كذلك جواب الفقيه علي المقصري السرددي عليها ومن يطلع عليهما لا بد أن يحكم عليه بأنه كان يزعم لنفسه كرامات أختص بها وأن
(1) هجر العلم (1/ 222 - 223) .
(2) انظر: ص ( ... ) .
(3) تقدم تخريج الحديث ص ( ... ) .
(4) هجر العلم (1/ 225) .
(5) المصدر السابق (2/ 750) .
أتباع طريقته قد فتنوا به في حياته. نسأل الله الهداية والتوفيق إلى اتباع أحكام كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي يرضاه) [1]. وهذا كله يدل على توجه الرجل وحرصه على سلامة المعتقدة ومقته للقبورية والقبوريين.
المؤرخ الثالث: الأستاذ صلاح البكري وهو من مؤرخي حضرموت المنتمين إلى جمعية الإرشاد بإندونيسيا وقد عنون في كتابه "تاريخ حضرموت السياسي" هذا العنوان "الخرافات" عدّد تحته الكثير من تلك الخرافات المتعلقة بالقبور وبالاعتقاد بالجن وتقديم ما يدفع شرهم من ذبائح أو كسر بيض على باب الدار لئلا يحتلها الجن وأبان من يقف وراء تلك الخرافات، ولا أطيل فهذا نص كلامه: (ولقد ابتنى بعض العلويين قباباً كثيرة لبعض موتاهم رحمهم الله، ووضعوا على أجداثهم التوابيت، ودعوا الناس لزيارتها، والتبرك بها، والتوسل إليها لقضاء الحاجات واستنزال البركات، وقد يوجد في القبة خزانة "تيحه" في داخلها إناءان: أحدهما للنقود والآخر للزيت الذي يقدمه المريض لطلب الشفاء، وأقرباء الميت هم الذين يتمتعون بهذه القرابين والنذور، وقد يبالغ بعض المرضى في الضلال فيأكلون قليلاً من تراب ذلك القبر لطلب الشفاء، وإني لأذكر أني حينما كنت في حضرموت وأنا يومئذ لم أبلغ سن الرشد أصبت بحمى، فذهبت إلى قبة المرحوم عمر بن محمد الهدار العلوي الواقعة على مقربة من حوطة أحمد ناصر، وأكلت قليلاً من تراب قبره ' وقبلت تابوته، وتوسلت إليه ليذهب الآلام، ويعيد إلي صحتي كاملة غير منقوصة، ووضعت في الخزانة أوقية وربعاً، وعدت إلى البيت وأنا أرتعد من حمى الورد، ومن حسن حظي أني في اليوم الثاني شفيت من مرضي، ولكن من سوء حظي أن ازداد اعتقادي في الهدار واعتمادي عليه من دون الله، فذهبت في الحال إلى السوق
(1) هجر العلم (2/ 751) .
وابتعت رطلاً من زيت السمسم، ثم ذهبت إلى قبة الهدار، ووهبت له الزيت في الخزانة، وهكذا ذكرت صاحب القبة في السراء والضراء خفية وجهرة، وهو لاينفعني بشيء، ولم أذكر الله عزوجل، الذي هو أقرب إلي من حبل الوريد، وبيده كل شيء.
ويوجد في الروحانيين وبوجه أخص في العلويين من يصنع التمائم والعزائم للمرضى وغيرهم من طلاب الحاجات، ويبالغ بعض الدجالين من أصحاب السلطة الروحية فيسقون المريض ماءً ممزوجاً ببزاقهم للشفاء، ويتجرع هذا المريض "المغفل" ذلك البزاق القذر، وهو مسرور كل السرور متوهماً أن الشفاء آت لاريب فيه.
وهناك كتب ألفت ورسائل دونت كان لها أثرها السيء في عقلية الشعب، وتسميم أفكاره، وإفساد عقيدته، وفي مقدمة هذه الكتب "المشرع الروي" لصاحبه الشيخ محمدبن أبي بكر الشلي المشحون بالكفريات والخزعبلات، ثم كتاب: "الجوهر الشفاف" وغيرهما.
ويقسم كثير من الناس بالأضرحة ويخافونها إذا حنثوا في أيمانهم أكثر مما يخافون الله، فقد يطلب المشتكي من خصمه أن يقسم على ضريح مقدس خيراً من أن يقسم بالله أو بالقرآن، ويعتقدون أن لتلك الأضرحة قوة الانتقام إذا كان المقسم حانثاً، وأهم الأضرحة التي يقسمون بها هي:
الاسم ... المكان ... الاسم ... المكان
أحمد بن زين الحبشي العلوي ... حوطة أحمد بن زين ... الشيخ أبو بكر بن سالم العلوي ... عينات
عبدالله العيدروس العلوي ... تريم ... سعيد بن عيسى العمودي ... قيدون
عمر بن محمد الهدار العلوي ... حوطة أحمد ناصر ... معروف باجمال ... بضة
علي بن حسن العطاس العلوي ... المشهد ... عيدروس بن عمر الجيشي العلوي ... الغرفة
حسن بن صالح البحر العلوي ... ذي أصبح ... عمر المحضار العلوي ... تريم
وفي زعمهم أنه إذا أراد الشخص أن يأتيه كساء من أبيه أو من أحد أقربائه المهاجره في جاوة أوفي غيرها، فما عليه إلا أن يذهب إلى إحدى القباب ويقطع جزءاً صغيراً من ثوبه، ويربطة باللعاب، ويقذف به في الحائط، ولا تمضي سنة إلا وقد نال مطلوبة ولذلك تظهر الحيطان في بعض القباب كأنها مغطاة بطبقة من الورق المزخرف أو زينت بنقوش مختلفة الألوان.
وبعض المرضى وبالأخص إذا كان صغيراً يُطاف حوله حَمَل مراراً، ثم يقطع جزءً من أذنه ويعلقه في ذراع المريض، ويذبح ذلك الحمل ويوزع لحمه على الجيران بعد أن يأخذ الدجال الذي أشار لهم بتلك
العملية جزءً كبيراً منه. وأول ما يعمله الشخص الذي يريد أن يبني بيتاً أن يدق أربعة أوتاد في البقعة التي سيبني فيها المنزل لطرد عين السوء، وذلك بعد أن أخذ رأي أحد الروحانيين، وعندما يتم بناء البيت يذبح حملاً على عتبته كما يفعل الفرنجة عند الاحتفال بإنزال السفينة لأول مرة في البحر بكسر زجاجة خمر، وفي بعض أجزاء حضرموت يذبح صاحب البيت شاة، ويأخذ من دمها بيده ويخضب الباب. وبعضهم في أثناء عملية البناء ويأكل البناؤون لحمها، ويريقون دمها على الحيطان، وعندما يدخل صاحب البيت لأول مرة يكسر بيضتين على عتبة الدار، وأخريين على الدرج، وأخريين عند الطابق العلوي) [1]
والمؤرخ الرابع: الذي نستشهد ببعض كلامه هو الأستاذ كرامه سليمان بامؤمن صاحب كتاب "الفكر والمجتمع في حضرموت" وهو كتاب حديث تناول موضوعاً مهماً جداً وجانباً حساساً من جوانب الحياة في حضرموت، هو جانب الفكر مرتبطاً بالمجتمع، وقد كشف أسراراً وأبان مخبآت لم يرق للبعض ظهورها ولذلك فالكتاب ومؤلفه مستهدفان بالتشهير وهذا أقل ما يمكن أن أقوله، وإلا فيمكن أن يكون أكثر من التشهير، وإليك نموذجاً واحداً من ألصق ما ا حتوى عليه الكتاب بموضوعنا "القبورية" قال - حفظه الله - تحت عنوان "نقد الفكر الصوفي ماله وماعليه" : (الإنسان كما أشرنا سابقاً مكون من جسم وروح لايفترقان إلا عند الموت. والتوازن بين نشاطهما هو مادعا إليه الإسلام. والتصوف جنوح نحو نشاط الروح مقتبساً فلسفته من ثقافات الأمم السابقة للإسلام، خاصة الثقافة المسيحية التي سنت الرهبنة والتنسك والخلوة في الكهوف والأديرة، وترك طيبات الحياة المباحة كعدم الزواج عند الرهبان والراهبات قال الله تعالى: وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية
(1) تاريخ حضرموت السياسي (119 - 121) .
ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها "الحديد: 27" ، والاعتدال في التصوف قولاً وعملاً والإلتزام بالكتاب والسنة دون تأويل ومغالاة لا يخرج المتصوف عن عقيدته التوحيدية وشريعته الإسلامية. وكم من هؤلاء الصوفية المستقيمين قد عرفهم العالم الإسلامي واليمن وحضرموت. وقد وقفوا في وجه الغلو والانحراف الصوفي واستنكروا ما صدر من المغالين من شذوذ وانحراف ومحذور قولاً وعملاً. ومما يعقّد مشكلة التصوف الضعف البشري أمام حالات مذهلة تتراءى للمتصوفة فتفقدهم توازنهم ولايثبت إلا الراسخون في العلم والعقيدة. ولاسيما أن كثيراً من مثل هذه الأحوال وخوارق العادات تحصل للبر والفاجر وللمسلم وغير المسلم. ناهيك عن أن للشيطان أحابيله لغواية الإنسان كما أن للعلم والسحر دورهما في كثير مما يصوره بعض الصوفية أنه كرامات كما تستغل الصدف والفراسة للإدعاء بالكرامات. ولا تقتصر الخطورة في غلو الصوفية وانحرافاتهم وشذوذهم، عليهم أنفسهم فحسب فهذه أمرها سهل ومحصور. وإنما الخطر كل الخطر في التأثير على الناس والمجتمع وخاصة على العوام والسذّج لأنهم أكثر فئات المجتمع تأثراً وانصياعاً لمؤثرات الفكر الصوفي المنحرف. ويجب أن ننظر إلى المتصوف وأحواله حالة خاصة به وحده. أما أن يجعل من أحواله وتصرفاته منهاجاً يقتدى بها - وأمامنا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحاب رسول الله والتابعين ومن اهتدى بهديهم- فهذا مما يجب أن لا يكون ولايصح إطلاقاً أن نجزئ القرآن الكريم والحديث الشريف الصحيح إلى ظاهر للعامة وباطن للخاصة يؤلون معاني ألفاظ القرآن الكريم كما نزلت من عند الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وألفاظ السنة كما تحدث بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعامة المسلمين ويطلقون عليها علوم الشريعة وفي تقديرنا إن أخطر وأوسع ثغرة فكرية تهدد بنيان الإسلام وتشوه عقيدة المسلم هو هذا المدخل في تجزئة القرآن الكريم والسنة إلى ظاهر وباطن وإلى
شريعة وحقيقة. ولا تقف الخطورة عند تجزئة الإسلام إلى منهاجين وعلمين أحدهما للخاصة والآخر للعامة، بل تتعداها إلى تقسيم المجتمع الإسلامي إلى طبقتين أو فئتين اجتماعيتين هما فئة التعالي وهي فئة الخاصة المحدودة في المجتمع وفئة الأتباع- وهي فئة العامة العريضة في المجتمع -, ويتمادى التمييز الاجتماعي في غيه عندما تكون فئة الخاصة هي المدبرة والمسيرة لحياة ومعاش وسعادة فئة العامة من خلال سلطتها الروحية المطلقة التي يمثلها الديوان المصرفي وجهازه التنفيذي الهرمي اللذان تطرقنا إليه فيما سبق.
وإذا رجعنا إلى آداب وتراث الفكر الصوفي الحضرمي؛ نجده مليئاً بحالات التصرف المطلق من قبل الأقطاب والأولياء والأحياء والأموات في حياة الناس من شفاء الأمراض، ورزق الأطفال، وغفران الذنوب، ورد الكوارث، وتأديب المتطاولين، وقتلهم أحياناً بالقدرة، واستئناف حياة الأموات من جديد واللقاء بالأحياء. يقول السيد علي بن حسن العطاس (من قام لله بالقدرة كلامه يتم) . وهناك من يقول تأكيداً لمقولة العطاس هذه: (إن بعضهم كان يكلم الصوفي الشهير بدوعن الشيخ سعيد بن عيسى العمودي بعد موته ويشاوره) . في أموره. كما يروي البعض الآخر أنه كان يخاطب الفقيه المقدم أمام قبره بل ويخرج الفقيه المقدم من قبره ليتناول مع زائره القهوة، ويتبادل أطراف الحديث.
إن عودة الروح مسألة قديمة وكان فراعنة مصر يعتقدون بعودة الروح إلى الجسد بعد الموت. ولهذا كانوا يهيئون مدافنهم كالأهرامات كل ما سيحتاجه الميت من أدوات ومأكولات وغيرها. ينما يروي لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن روح المؤمن بعد وفاته تُعَلَّق على [1] شجر الجنة ولا تعود إلى الجسد إلا عند البعث. وفي الواقع إن كيفية حياة الإنسان بين الموت والبعث وعلاقة الروح بالجسد وعذاب القبر ونعيمه،
(1) الصحيح "تعلق في" والمعنى أنها تأكل.
وتلاقي الأرواح هي من الغيبيات، ونكتفي بالتسليم بما جاء نصه في القرآن والحديث ولا نزيد. ويعلمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً أنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ورثه لعلماء ينفعون به الناس، وصدقة جارية تصدق بها قبل مماته، وابن صالح يدعو في حياته لأبيه الميت. إن التطرف في تمجيد الأولياء والأقطاب يؤذي الأولياء أنفسهم ويخرجهم عن بشريتهم. وقد تبرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الغلو في الدين. أو طلب شيء منه لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {قل إنما أنا بشرمثلكم يوحى ألي أنما إلهكم إله واحد} "الكهف -110" ) [1].
ونقد المؤرخين لهذه العقائد والأعمال ليس مختصاً بمؤرخي أهل السنة والمعارضين للقبورية، ولكن بعض المؤرخين المحسوبين على القبوريين هم كذلك ينقدون هذه الأمور ويحذرون منها، وقد تقدم كلام المؤرخ العلوي علوي بن طاهر الحداد في مباحث الزيارات القبورية وقد كان شديد الانتقاد لهم مصرحاً بأن بعض تلك العقائد والأعمال هي كفر بالله تعالى فارجع إلى هناك [2].
المطلب الثاني الٍردود على القبورية التي جاءت على ألسنة الشعراء
وهذا الباب واسع جداً فقد تفنن الشعراء في الرد على القبورية من جوانبها المختلفة، فمن ناقد لبعض العقائد، ومن ناقد لبعض البدع والأعمال كالسماع ونحوه، ومنهم من ينتقد المتظاهرين بالولاية ممن هم في الحقيقة من المحتالين على خلق الله، ومنهم من يصف القبور المعظمة وما يفعل عندها من مناكر وضلالات، وهذه بعض تلك القصائد:
(1) الفكر والمجتمع (228 - 230) .
(2) ص ( ... ) .
وأبدأ بشاعر من شعراء حضرموت وكبير من كبرائها العلامة الشاعر الصوفي المتشيع أبوبكر بن شهاب الدين العلوي المتوفى سنة (1341 هـ) ، وله قصيدتان الأولى في كشف مخاريق من يدعي الولاية ويتظاهر بمظاهرها ويتقمص لباسها، ثم من وراء ذلك يختل الغافلين ويصطاد أموال الجاهلين، بل ويتعدى الأمر إلى النساء ومايفعل تجاههن باسم الدين والولاية.
قال جامع ديوانه (وقال نفع الله به في وصف دجاجلة المتصوفة بزماننا:
هل للغرائب من حكيم عاقل ... أو عالم يقضي بحكم فاصل
أمِنَ الذئاب المُعط صنفٌ ناطق ... في صورة البشر السوي الكامل
أأقول: كلا والعيان مكذبي ... كلا بل المفتي أسير السائل
معط الذئاب الناطقات هم الأُلى ... جعلوا التصوف صنعة للداجل
فترسموا برسومه كي يحسبوا ... صوفية مثل الفضيل الفاضل
يضعون للتمويه والتغرير في ... مشكاة نور الحق نار الباطل
لبسو العبايا والمسابح والحبى ... والطيلسان يدار فوق الكاهل
والمظهرين البر والتقوى وإد ... مان التنسك خدعة للجاهل [1]
و إذا خلوا عكفوا على شهواتهم ... من لاعب أو شارب أو آكل
هجروا كتاب الله واستغنوا بألـ ... حان السماع ورقصه المتداول
زعماً بأن الطار والمزمار والـ ... أوتار تنعش كل قلب ذاهل
(1) في الأصل للجافل.
أيقوم دين الله بالسفهاء من ... ذي مزهر أو زامر أو طابل
بئس الطوائف لا مرام لهم ولا ... مرمى سوى جمع الحطام الزائل
ولهم حبائل لاجتلاب المال لم ... تدرك غوائلها لغير الفاتل
ويطوف أطراف البلاد دعاتهم ... ودهاتهم من كل صل صائل
ممن يبيع ولايبالي دينه ... بيع المزاد ولو بشاة شائل
في كل واد لاتطيش سهامهم ... مع كل حاف يَحْفِدون وناعل
ويذيع كل ما افترى من نعت شيـ ... خهم الغوي ولو خرافة هازل
من صومه وصلاته وقيامه ... جنح الظلام وزهده في العاجل
يروون عنه خوارقاً للرسل ما ... وقعت ولا اتفقت لساحر بابل
ولأجل نفي الريب مهما حدثوا ... حلفوا لسامع إفكهم والقابل
وهنالك الأستاذ يجهد فكره ... في سلب ثروة كل غر غافل
يترقب الفرص التي فيها قطيـ ... ـع الصيد يبدو مكثباً للنابل
يثني على أهل الثراء مصوباً ... أفعالهم مستدرجاً للفاعل
زيدٌ ربيعُ نَدى وعمروٌ في مقا ... مِ كذا وبكرٌ في الرعيل الواصل
ويشير رمزاً في الحديث بأن ما ... يحكيه من إلهام غيب نازل
حتى إذا اعتقدوا علو مقامه ... ومشت عليهم حيلة المتحائل
غمروه جوداً واستزاروه التما ... ساً للتبرك في المقر العائلي
ولمسحه رأس الصغير ووضعه ... يده الكريمة فوق بطن الحامل
ومتى تحكَّم مصلحاً في حالة ... جعل البخيل فريسة للباذل
وتراه يصدع بالمواعظ خاطباً ... في القوم بهرة كل جمع حافل
يملي زخارف زوره متأوهاً ... متباكياً ليرق قلب الناكل
طوراً يرغب في الثواب وتارة ... أخرى يندد باللئيم الباخل
وإذا رأى في الجمع من أكياسه ... ملأىمن التبر الوفير الطائل
أوحى إلى أحد الشياطين الأُلى ... منهم تعوذ كل غول غائل
فيقول: يامسكين زر شيخ الشيـ ... ـوخ تنل به أقصى أماني الآمل
وإذا أتى ألفاه في المحراب في ... جد وشغل بالعبادة شاغل
ويقال بعد الانتظار هنيهةً: ... أدخل فأنت اليوم أسعد داخل
ولك البشارة إن رزقت ولاءه ... بالانتشال من الحضيض السافل
فإذا تقدم قال شيخ السوء أهـ ... ـلاً يابني ومرحباً بالواصل
إني لرؤيتك ابتهجت ولست أد ... ري سر هذا الابتهاج الحاصل
فلعل في لوح السوابق بيننا ... سر اتصال بالأواصر واغل
ولعل حالك في أمور الدين والد ... نيا على دعة ولطف شامل
إن كنت محتاجاً فخذ ما تبتغي ... تقوى به وتقيم ميل المائل
لا تخشَ إملاقاً عليَّ ولا عليـ ... ـك فنحن في كنف الرسول الكافل
أعلمتَ أني بعد ختم وظيفتي ... سحَراً أعرتني غفوة المتثاقل
فرأيته صلى عليه الله مبـ ... ـتسماً يقول وكان أصدق قائل
أبشر فأنت وتابعوك بذمتي ... ورعايتي لمقيمكم والراحل
نِب عن نبيك في مواساة العفا ... ة المعوزين وفي عظاة الجاهل
جُد بالنوافل ما استطعت على اليتا ... مى والأيامى والفقير العائل
خذ ما تشاء من امرئٍ سبقت له الـ ... ـحسنى ولم يعبأ بعذل العاذل
وأنا الضمين لمن يعينك بالغنى ... طول الحياة وفي الجنان مخاللي
فيصدِّق المسكين كاذبَ قصة ... ممزوجة بزعاف سمٍّ قاتل
فيشاطر الأستاذ خالص تبره ... لسداد ذي عوزٍ ورفد أرامل
ولكَم لهم في السر غامض حيلة ... إبليس لم يطمع لها بمماثل
ولهم من الجنس اللطيف لطائف ... أبَتِ المروؤة شرحها للناقل
لكن على الأزواج عار المرسلا ... ت فهم أشد بلادة من باقل
هذي طرائقهم وهذا شأنهم ... تعساً لهم من خائن ومخاتل
أفهكذا كانت طريق مشايخ الـ ... إسلام أرباب السلوك العادل
كالتستري وكالسري والكالجنيـ ... ـد الحبر والشبلي أو كالشاذلي
كلا وحاشى بل هم عمد الهدى ... وسحائب الفيض العميم الهاطل
الزاهدون المتقون العارفون ... بربهم من كل بر عامل
وهم البراء من الأُلى كذبواعلى ... حضراتهم وخصومهم في الآجل
فإليك ربي المشتكى وبك العيا ... ذ من انتقامك والعذاب الهائل
واسمح بإرشاد الجميع إلى طريـ ... ـق الحق واصفح عن خطايا الخاطل
وتغش بالرحمات روح المصطفى ... والمرتضى تعداد طش الوابل
ضاعف صلاتك والسلام عليهما ... وبنيهما مدد الوجود الشامل
والصحب من بسيوفهم ثلت عرو ... ش الشرك واندرست رسوم الباطل
ما تاب ذو خطأٍ وآب مفرط ... وأناب عبد في العتيم الحائل) [1]
وهذه القصيدة تجسد حال الكثير ممن يدعي الولاية على امتداد الأرض اليمنية، بل على امتداد البلاد الإسلامية وللأسف الشديد، وهؤلاء لاشك يخرجون من تحت عباءة المتصوفة والشيعة القبورية.
وهناك قصيدة أخرى لهذا الشاعر في نفس المعنى أضيفها هنا.
قال جامع ديوانه: (وقال نفع الله به:
العلم والمجد رضيعا لبان والجهل يرمي ربّه بالهوان
لايدعي العلم امرؤ جاهل يخاف أن يفضحه الامتحان
فهو لدى أشكاله باسل ... و إن جرى البحث الشرودُ الجبانُ
بلى يقول الجاهل المدعي ... العلم نور مشرق في الجنان
العلم سر الله إلهامه ... في القلب لا لقلقة باللسان
العلم إما ظاهر وهو في الـ ... ـكتب وللأحكام فيه البيان
أو باطن يعرفه أهله ... وهو لديهم واجب أن يصان
(1) ديوان ابن شهاب (193 - 196) طبع مكتبة التراث الإسلامي صعدة، ودار التراث اليمني صنعاء، الطبعة الثانية سنة ... (1417 هـ - 11996 م) .
يومي بما يملي إلي أنه ... في أشرف القسمين رب العنان
وقد علت أصوات أمثاله ... بمثل هذا فالأمان الأمان
نشكو إلى الرحمن من هذه الـ ... ـغوغاء شكوى من رماه الزمان
من ماكر ذي سبحة أو مرا ... ء قارئ همساً وذي طيلسان
ورامز بالغيب في حيلة ... يلفظ بالقول الكثير المعان
رواد صيد كلهم حاذق ... في الرمي لايصطاد إلا السمان
شباكهم دعوى الكرامات والـ ... ـكشف وتزوير المرائي الحسان
هذا يرى المختار في نومه ... وذاك يستخبره بالعيان
كأنه من بعض أتباعهم ... يحضر في كل مكان وآن
ومنهم المخبر عن برزخ الـ ... ـموتى شقي أو سعيد فلان
وقد أراني الله شيخاً له ... جماعة رجلاه مصفرتان
فقلت: ماذا نابه؟ قيل: من ... وطء حشيش الجنة الزعفران
أف لقوم همهم كيدهم ... وجمعهم للمال من حيث كان
بالمال تلقاهم سكارى كما ... يسكر من يشرب خمر الدنان
إن أحسن الظن بتلبيسهم ... مُثْرٍ رأوا تطهيره بالختان
من كل ما الإنسان يخشاه من ... مستقبل الدارين يعطي الضمان
وإن رأوا في عقله خفةً ... باعوه في الدنيا قصور الجنان
وكم وكم قد موهوا زائفاً ... فظنه البله ثمين الجمان
يارب يامنان أنت السريـ ... ـع الغوث والمفزع والمستعان
وفق رجال الدين للصدق والـ ... إخلاص والإعراض عن كل فان
ونزه الإسلام عن غش أهـ ... ـل المكر والتدليس كيلا يهان
واغفر ذنوب الكل واصفح ومن وصل أزكىماتصلي على ... قلوبنا اغسل كل ريب وران
والآل أهل المجد والصحب ما ... من أشرقت من نوره الخافقان
أمالت الريح الغصون اللدان) [1]
وللشاعر الأديب والعالم الثبت - مفتي حضرموت في زمانه والشاعر المبرز على أقرانه العلامة عبدالرحمن ابن عبيدالله السقاف - نقد لاذع وبيان ساطع في نقد دجاجلة الصوفية والمتاجرين بالولاية حسب تعبيره، إليك بعضاً منه وهو مقدمته لإحدى قصائده في الموضوع: (وقد اتفق لي في شرخ الشباب أن أفضت في درسي كجاري عادتي في النعي على الخرافيين وتفنيد مزاعمهم وأنكرت قول بعضهم: إن أتان الفقيه المقدّم - قدّس سره - كانت تعرج الى السماء وتأتي بخبرها طرفي النهار، مع أن البراق لا يقدر على ذلك، فلو أنها حضرت ليلة المعراج لأغنت عنه؛ لأن البراق لم يجاوز إيلياء على الأصح، وقول بعض آخر عن بعض العلويين: إنه كانت له زوجة شريفة مضى لحملها ستة أشهر فتزوج فلاحة، فنشزت الشريفة؛ فخيرها بين الرجوع أو يأخذ الحمل من بطنها إلى بطن الفلاحة، ولما أصرت فعل ما تهدَّدها به، وولدت الأخيرة لثلاثة أشهر من حين الدخول! وقول آخر أن أحد الأولياء مات عن زوجة صالحة من غير ولد فاشتد حزن تلك الصالحة وعظم وجدها عليه فكان يتردد عليها من ضريحه حتى أحَبَلها بعد موته، فجاءت بولد نسبوه إليه.!
(1) ديوان ابن شهاب ص: (237 - 238) .
وطالما أنكرتُ مثل هذه الأضاليل التي لها يتذمر الإسلام، وتنتكس الأعلام، وتكل عن عد شرها الأقلام، فما حصلتُ إلا على الملام، وذلك هو الذي استغرق جهدهم في تشويه سمعتي والتمضمض بعرضي والتقول عليّ والسعاية بي - لولا وقاية الله.
ومع هذا فلا يتظنّى امرؤ أني أحط من مراتب الأولياء السامية، أو أغمط من فضائلهم النامية، كلا والله فانني أتبرك بمواطئ أقدامهم وأتشرف بأن أعدّ في جملة خدّامهم، وبحمد الله قد حصل لي الحظ الأوفى من اعتنائهم، والنصيب الأكبر من صدق ولائهم، أولئك الذين لا اعتراض للشرع عليهم بحال. ولا للنقد في طريقهم أبداً مجال، ومن زعم أن بين الشريعة والحقيقة تخالفاً وقع في الضلال، وقد قال الشعراني سمعت المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام العلم والمعرفة حتى يرى الحقيقة مؤيدة للشريعة وأن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية وإنما هو عينها، وقال سمعت الخواص يقول مراراً: ومن ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أوعكسه فقد جهل. انتهى.
وجاء عن غير واحد من العارفين أن الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخلّ بحكم واحد من الشريعة فقولوا إنه زنديق، والأدلة في هذا عن الصوفية فضلاً عمن سواهم من الفقهاء لا يضبطها الحصر.
ولئن اشترط القشيري الحفظ للأولياء فالعصمة بالاتفاق لا تكون إلا للأنبياء، وقد أثر عن إمام دار الهجرة أنه كان دائماً يقول: كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر الأعطر.
ويعجبني من الآلوسي تأويله ما ذكره ابن عربي "الطائي" من حياة أربعة من الأنبياء وأنهم لايزالون في الأرض وقوله بعد ذلك ما معناه: حسب الشيخ منا أن نؤول كلامه حتى يتفق مع كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأما العكس فمما لا سبيل إليه إذ الدين يصير بذلك لعبة لعّاب انتهى بمعناه) [1].
وقال في القصدة الرابعة عشرة: (وهذه في وصف بعض حال المموِّهين ووجوب الاعتماد على والإطراح لما عداها.
سوق الفضيلة في أيامنا رخصا ... كأن ما فيه من درّ الكمال حصى
لا حظّ إلا لأبناء السفاح ومن ... نمته أم حصان كابد الغصصا
ما زالت الناس قبلي يشتكون لما ... يلقون من قلة الأحرار والخلصا
واليوم أطلب إنسان فأعوزني ... ولم أجد غير وحش تلبس القمصا
فهل حقيقة هذا الجيل ثابتة ... أم لا فإشكال هذا الأمر قد عوصا
ما للزمان قد استشرى الفساد به ... والخير فيه على أعقابه نكصا
غنيمة المرء بعد الناس عنه فلا ... تفرح بآت ولا تحزن لمن شخصا
ولا يغرّك زي النسك من أحد ... فكم تنسك دجال ليقتنصا
يمشي الهوينا بشئ في عمامته ... كأنه الرّوق لكن في امتداد عصا
كأنما هو حاو لا تفارقه ... رقطاء يغوي بها من عقله نقصا
مموّه يذكر الأخيار منتهزاً ... بذكرهم من صغار الأنفس الفرصا
(1) ديوان ابن عبيد الله (258 - 259) .
يروي غريب كرامات بلا سند ... وربما اختلق الأخبار والقصصا
خلوا الخرافات والأحلام إن لنا ... ديناً قويماًمن الأوهام قد خلصا
ما في شريعتنا وهم ولا شبه ... لكن عزائم صدق مازجت رخصا
وهذه سيرة الهادي وسنته ... من حاد عنها ولو قيد البنان عصى
خير النبيين من شباكه لنهى ... أهل النهى قد غدا من حبه قفصا
له وللمرتضى منّا التحية ما ... غنّى الحمام وما بان النّقا رقصا
وما هدي الركب بالريح النسيم وما ... انضى الدليل بأنواعه الحدا القلصا) [1]
الأستاذ الزبيري:
وللأستاذ الشاعر محمد محمود الزبيري مشاركة في نقد القبورية قالها حينما أمر الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين بإزالة قبر ابن علوان وتسويته ونقل رفاته إلى مكان مجهول، فأهتبل الزبيري هذه الفرصة وأنشأ قصيدة طويلة مدح الإمام فيها ببيتين أو ثلاثة ثم أخذ في نقد القبورية فقال:
(كذلك المجد إما رافعاً علماً ... أو باعثاً أمماً أو هادماً صنما
يا من يجدد من آثار أمته ... مالو رأى جده المختار لابتسما
جرح على كبد الإسلام متسع ... وضعت فيه ذباب السيف فالتأما
خديعة للجماهير التي زعمت ... بأن من دينها أن تعبد الوهما
(1) ديوان ابن عبيد الله (238 - 239) .
قالوا له كتب في القبر يكتبها ... ينهى ويأمر أنى شاء محتكما
فليت شعري أسحر ذاك يزعمه ... أم أنه اتخذ القرطاس والقلما
أم أنه اتخذ القبر المقيم به ... عرشاً يدبر فيه اللوح والأمما [1]
كاد ابن علوان إذ بَرَّدتَ مضجعه ... يسعى بأكفانه للعرش مستلما
يشكو إليك أناساً أحدثوا بدعا ... ما كان وصاهم فيها ولا علما
جاؤوه وهو رهين القبر منتظرٌ ... هول السؤال يخاف الويل والنقما
يعتد منطقه كي يستجاب له ... وقتاً تضيع فيه الألسن الكلما
فبينما هو يخشى هفوةً سلفت ... صغيرةً فيه فيما قال أو زعما
إذا به يجد الدهماء تعبده ... جهراً وتجعله رباً، وإن رغما
فظل يرجف من خوف ومن خجل ... وبقرع السن من أعدائه ندما
فكاد يهرب من مولاه معتذراً ... إليه لو أنه أحيى له قدما
ربّاه، إنيَ لم أرض الذي صنعوا!! ... وكيف أرضى ربي عندك التهما
قد عشت عبداً فلما آن منقلبي ... إليك صيّرني أهل الهوى صنما
ما كان أخلص توحيدي لو أنهم ... ترسموا الدين والآيات والحكما
وكيف تخلق حلقاً ثم أسألهم ... عبادتي دون من أولاهم النعما
وكيف أطلب حقاً أنت مالكه الـ ... ـقهار تأخذ من ناواك واجترما
وكيف أجعل نفسي ندّ من خلق الـ ... أفلاك والشمس والأقمار والديما
(1) مجلة الإكليل (39) مقال لعبدالله البردوني.
لو كنت أدفع عن نفسي لما وجدت ... للموت طعماً ولا ذاقت له ألما
لو كنت أزعمها رباً لما دفنت ... بين التراب وصارت جيفة ودما
ما كنت آمرهم إلاّ بما أمرت ... به الأناجيل والقرآن والحكما
مادمت فيهم فقد كنت الشهيد لهم ... وكنت أزجر من ثنّى ومن ظلما
لما توفيتني كنت الرقيب على ... ما يصنعون، وكنت الشاهد الحكما
وأنت أعلم من نفسي بما صنعت ... نفسي وأعدل من جارى ومن حكما) [1]
وقد أطال الزبيري الاعتذار عن ابن علوان وأنه غير راض عما يعمله الناس عند قبره، ولكن القاضي الأكوع كما سبق في المطلب الذي قبل هذا قد صرّح أنه وجد من كلام ابن علوان نفسه ما يدل على افتتان الناس به في حياته وادعائه تلك الخوارق التي تحمل الناس على التعلق به، وهذا شأن كثير من أقطاب الصوفية.
وفي نفس الحادث يقول الشاعر المناضل زيد الموشكي:
(ياعين هذا الصنم الأكبر ... وهذه "يفرس" والمنكر
هذا ابن علوان وذا قبره ... يعبده العالم لا يفتر
ياعين هذا هبل آخر ... وقد يفوق الأول الآخر) [2]
وأما علي أحمد باكثير الشاعر الكبير والأديب الشهير ففي مسرحيته "همام، أو في بلاد الأحقاف" قد شخص لنا الولي "ولي الله" الذي عرفه مجتمعه الحضرمي تلك الحقبة من الزمن الذي لم يبق علم
(1) هجر العلم (2/ 750 - 751) .
(2) مجلة الإكليل مقال البردوني (39)
ولا تصوف كما يصرح بذلك جمع من عقلاء تلك البلاد في ذلك الزمن، وإنما رسوم ومظاهر وراءها نفوس فارغة من الصلاح، وقلوب خاوية من الإيمان، وعقول مردت على الكيد والاحتيال، وياليت القوم كانوا عصابة سرقةٍ أو قطعِ طريق أو شبه عصابات "المافيا" إذن لهان الأمر إذ يوجد ذلك في كل مكان، ويأخذ الناس حذرهم منهم، وتتحمل السلطات مسؤولية ملاحقتهم، ولكن باسم الدين وباسم الولاية وباسم الكرامات هذا ما لا يطيقه مسلم عرف الإسلام، لذلك جاء نقد الأديب باكثير عنيفاً وفي صورة صارخة من السخرية والهزء بهذا النوع من الناس فاسمعه يصف الولي المحتال:
(ولي الله ذو الحبو ... ة والأردية الخضر!
وذو والعمَّة المسواك ... قد أربى على الشبر! [1]
ورب السبحة الغار ... ق في التسبيح والذكر
بها يذكر في الناس ... ولا يذكر في السر
ومن يمشي بعكازين ... من أتباعه الكُثر
يطأطئ رأسه للأر ... ض كالباحث عن سر) [2]
وبعد أن كشف باكثير عن شخصية الولي الحي الذي يعتقد الناس فيه الصلاح وهو يمكر بهم ويحتال عليهم، يتجه اتجاهاً آخر إلى ولي ميت وماذا يدور حول قبره وأثناء زيارته، وماذا يريد الناس منه، ثم ختم المشهد بغضب همام وثورته على هذه الخرافات وهذا الجهل والتجهيل، وقد صرح بذلك في وجه داعية الخرافة:
(1) في الأصل تقديم المسواك والصواب ماذكر.
(2) همام أو في بلاد الأحقاف لعلي أحمد باكثير ص (47) منشورات الصبان وشركاه، الطبعة الثانية (1385 - 1965) .
فهذا همام بطل المسرحية يسأل محمداً أحد أشخاصها قائلاً:
(محمد هات عن قيدو ... ن ماذا كان من أمر؟
وما شاهدت في الموسم ... من عرف ومن نكر؟
وهل وفقت في الإنكار ... والتذكير والزجر؟
فيجيبه محمد:
توافى الناس أفواجاًً ... إلى قيدون كالذر
فمِن سا عِيَة تمشي ... ومن راكبة الحمر
هناك الساحة الكبرى ... تحاكي ساحة الحشر
بها ما شئت من لهو ... ومن لغو ومن هذر
وقد غصت بأشتات ... من الآساد والعفر!
تبارت ثم في ... الحلية ... والأبراد والخمر
وقد يقتلن بالمعصـ ... ــــم ... أو بالنظر السحري!!
من الظهر إلى العصر ... إلى منبلج الفجر!
هناك الخسر في الدين ... وحسب الناس من خسر
ولا يربح في تلك الـ ... ـزيارات سوى التجر
وأما سادن القبة ... فهو الرابح المثري!
تساق لداره الأكيا ... س من حب ومن تمر
و "للصندوق" ما يبا ... ع من ورق ومن تبر!
*
ولما حضر الوقت ... تداعوا كضحى النفر
وأمُّوا نحو قبر الشيـ ... ـخ بالطبل وبالزمر
يصيحون ولي الله ... جئناك إلى القبر!
أتيناك لكي تحمل ... عنّا ثقل الوزر
وكي تسبل ياقطب ... علينا ضافي الستر
وفي الأنفس حاجات ... بها ياسيدي تدري!
أتيناك لكي تقضى ... ونحظى منك بالسر
*
ولما وصلوا القبة ... داروا دورة الحمر
وأهوت راح ذاك الجمـ ... ـعِ في التابوت بالنقر
فلا تسمع إلاَّ ما ... يصيب السمع بالوقر
هناك الناس غير ... الناس ... في الإخبات والذكر!
فهذا خاضع شاك ... وهذا دمعه يجري
وهذا ينشج النشجة ... تستعصي علىلصدر!
وهذا يرعد الرعد ... ة في أعضائه تسري!
وهذا ينذر النذر ... وهذا جاء بالنذر
وهذا صائح يا ... سيدي ... عطفاً على فقري
على عجزي وإهمالي ... على ضعفي على ضري
وقدجُلِّلَت القبة ... بالزينة والستر
وبيضات من البلو ... ر علقت على الجدر!
فمن حمر إلى صفر ... إلى زرق إلى خضر
ومصباح كبير الضوء ... مثل الكوكب الدري
وللتابوت معنى من ... جلال العتق والقدر [1]
قد اسود من التقبيل ... في مختلف العصر!
عليه ضبب الفـ ... ضة ... في أسود كالحبر
فتبدو كثغور الزنـ ... ـج إذ تضحك من أمر!
فثم الضم و ... التقبيل ... بالثغر وبالنحر
تلاقى فيه دمعا ... الشاب ... والجارية البكر
*
ولما سكن الجمع ... سكون الموج في البحر
تراءى الناس شيخاً ذا ... شقاشق فيهم هدر
(1) العتق: القدم.
ينادي أيها الناس إهـ ... ـنأوا بالفوز والنصر
بهذي النعمة العظمى ... بنيل الفضل والفخر
قصدتم باب ذي عطف ... وذي جود وذي بر
وأنَّ الشيخ لا يترك ... من زار بلا أجر!
عليكم بخلوص ... القصد ... في السر وفي الجهر
وبالتسليم للأقطا ... ب والخدمة والصبر
وإيّاكم وسوء الظـ ... ــن بالصوفية الغر
فأهل الله هم جازوا ... مناط النهي والأمر
ملوك لهم التصر يـ ... ــف في البر وفي البحر
*
سمعنا أن في (حدرى) ... تبا شير من الكفر [1]
تصدى ناشيء غر ... بلاه الله من غّر!
يربي الشعر كالفسا ... ق إذ يعنون بالشعر
تلقى من فنون العلـ ... ــم مازاد على القدر
فأغواه وأرداه ... وجاء النفع بالضر
ومن شقوته استحلى ... حميم الأدب المزري
(1) تطلق حدرى على ما سفل من حضرموت كشبام وسيئون وتريم، وعلوى على ما علا منها كدوعن وعمد ووادي العين.
جرى القلب لايعبـ ... ــأُ بالتهديد والزجر
يبث السم في الجا هـ ... ــل والعلامة الحبر
يسيء الظن بالأقطا ... ب أهل المدد السري!
له أتباع سوء كلـ ... ـهم يدعو إلى الشر
*
هنا قمت وقد ضاق ... بي الواسع من صدري
وما باليت بالغوغا ... ءِ في عسكرها المجر
وقلت اسكت عجوز السو ... ءِ يا داعية النكر
عدو الله والإصلا ... ح! هل تهذي ولا تدري؟
أتدعو الناس للنكر ... وتهجو داعي الخير
فصا ح الشيخ غولوه ... فذا من شيعة الغر
فلولا أن تسللت ... من الجمهور بالفر
لكانوا أعدموني مهـ ... ـجتي بالضرب والدفر [1]
*
همام يضحك ويقوم إ لى محمد ويضرب على كتفيه:
حماك الله من سوء ... وقاك الله من شر
لقد قمت مقاماً لا ... يوازي عظمة شكري
ولا بد لذي الإصلا ... ح من عزم ومن صبر!) [2]
(1) الدفر: الدفع في الصدر.
(2) همام (48 - 52) .
هذه بعض القصائد في نقد القبورية العامة، وهناك قصائد أخرى كثيرة في هذا الباب ولكنني أكتفي بما سبق لئلا يطول هذا المطلب.
المطلب الثالث نقول عن بعض من يعتقدهم القبورية في نقد عقائدهم وأعمالهم
الباطل لايمكن الإجماع عليه لأنه لو حصل ذلك للبَّس على الناس دينهم ولبطلت خصيصة من خصائص هذه الأمة، وهو أنها "لا تجتمع على ضلالة" ، فالطائفة المنصورة دائماً ظاهرة في مخالفة الباطل وإنكار المنكر في أي جانب كان.
وفوق ذلك فإن من المحبين لأهل الباطل الواثقين بهم المقلدين لهم من هو من أهل الخير والصلاح، ولو رجع إلى نفسه ودرس الأمر بعيداً عن المؤثرات لميز الحق من الباطل ولظهر له خطأ كثير مما استصوبه أصحابه، فلذلك عندما تتاح لهذا النوع من الناس تلك السوانح فإنهم يقتنصونها وتظهر على أقوالهم وأفعالهم، وهناك من هو متمكن في الضلال ولكن يأبى الله إلا أن يجري كلمة الحق على لسانه أو قلمه، فمن أجل ذلك كله عقد هذا المطلب لإيراد نماذج من تلك الفتاوى والتقريرات التي وردت إما من القبورية أو ممن هو محسوب من أنصارهم وأتباعهم من علماء وفقهاء اليمن، ولن أخوض في نوايا أولئك الناس أو أحكم عليهم بضلال أو هداية، إذ المقصود هنا فقط هو تأييد الحق الذي يعرفه أهل السنة، ويقررونه ويستدلون عليه بالأدلة الشرعية المعتمدة بما يقوله من يحسب القبورية أنه منهم أو من أنصارهم وأشياعهم.
النموذج الأول:
فتوى السيد عبدالله بن محفوظ الحداد مفتي ساحل حضرموت في زمنه [1] إذ سأله بعض أهالي تريم عن الاستغاثة بالأموات: وماحكم تلفظ القائل عند حدوث مكروه، مثل سقوط طفل: يالله ياشيخ سعيد أو يالله يامحضار، وأحياناً يقول: يامحضار احضر الخ.
فأجاب: (الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد، إن مثل هذه العبارات من العبارات الشركية التي يجب على المسلم أن يتنزه عنها. فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن قال: ماشاء الله وشئت: "أجعلتني لله نداً" وهذه الاستغاثات ممنوعة لأنها موهمة وتؤدي إلى خلل في العقيدة خصوصاً العامي الذي يعتقد أن لهؤلاء الأولياء تصرفاً وأنهم يحضرون عند الاستغاثه بهم - وإنما يستغاث بـ الله جل جلاله - لا بغيره من الملائكة أو الرسل أو الأولياء والصالحين فكل مما يجب منعه ومحاربته. ومع الأسف فإن هذه الألفاظ يكررها العوام، والعلماء يسمعون فلا ينهونهم ولا ينبهونهم على خطرها
(1) السيد عبدالله بن محفوظ الحداد وهو ممن عاصرته مدة وعملت معه في بعض الدورات الشرعية التي أقامتها وزارة الأوقاف والإرشاد بحضرموت، والرجل درس في رباط تريم ثم سافر مبتعثاً إلى السودان وتخرج من هناك وعاد ليتولىرئاسة محكمة الاستئناف بالمكلا ثم رئاسة القضاء بحضرموت واستمر فيه إلى عام 1970 م ثم استقال منه.
وهو قد استفاد من تفرغه أيام الحزب الاشتراكي في أول عهده وعهد الجبهة القومية فقرأ كثيراً ومما قرأ فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنه مع ذلك ظل متمسكاً بالأشعرية على طريقة الغزالي، وكان يكره الخوض في مجال البدعة بل إن له كتاباً أيد فيه أصل الابتداع في الأمور العملية ورد على صاحب كتاب "السنن والمبتدعات" وكان يغضب عندما يسأل عن حكم القباب التي على القبور، ثم بعد اشتداد موجة التصوف تعاطف مع المتصوفة أكثر وكان يقول إن علي بن حسن السقاف - صاحب الأردن الذي ألف رسائل في تأييد بعض البدع ورد على الشيخ الألباني وابن تيمية وغيرهما - يقول عنه أنه مجدد هذا القرن. ومع ذلك كان يفتي هذه الفتاوى في أن الاستغاثه بغير الله شرك إلى آخر حياته - رحمه الله -.
لأنها تتصل بالعقيدة. فالله هو النافع الضار المحيي المميت مالك الملك لاشريك له، ليس لأحد معه شرك ولا تصرف.
قال في "بغية المسترشدين" : "مسألة ك [1]" جعل الوسائط بين العبد وربه فإن صار يدعوهم كما يدعو الله في الأمور ويعتقد تأثيرهم في شيء من دون الله فهو كفر، وإن كان نيته التوسل بهم إلى الله في قضاء مهماته مع الاعتقاد أن الله هو النافع الضار المؤثر في الأمور دون غيره، فالظاهر عدم كفره وإن كان فعله قبيحاً أ. هـ.
قلت: فإن قوله الظاهر عدم كفره أن ذلك حرام لأنه يؤدي إلى الكفر خصوصاً من العوام الذين أصبحوا يعلنون مثل ذلك في كلامهم وحتى عند الجنائز - فأهل السوق يقولون: يامحضار، وأهل النويدره يقولون: ياشهاب الدين - وهذا إن لم يكن كفراً صريحاً فهو قريب منه، ويجب على العلماء التنبيه عليه والتحذير منه ومنع إعلانه في المجتمعات كالجنائز ونحوها من الحريق وغيره، وليأخذوا بالسبيل القويم الأسلم. وإذا كنا نعذر بعض العلماء مما ورد في أشعارهم لأنهم علماء يعلمون مايقولون فإذا نادى ميتاً فإنما لأجل مدحه لا للاستغاثة به. وإن كان فيه استغاثة حملناه على المحمل السليم لعلمه، أما أن نترك العامة يأخذون الألفاظ ويعلنونها كأنها من الأذكار فهذا مالا يجوز قطعاً. والساكت عن الحق شيطان أخرس. والله المستعان) [2].
ولما انتشرت هذه الفتوى ومضت مدة لانتشارها شكك البعض فيها فعاد أحد طلابه إليه وذكر له ذلك فأصر على صواب تلك الفتوى، وأصدر فتوى أخرى فرق فيها بين الاستغاثة التي يحرمها
(1) حرف الكاف رمز للشيخ العلامة محمد بن سليمان الكردي مفتي الشافعية في زمانه معزو إلى فتاواه.
(2) هذه الفتوى صدرت بخطه وتوقيعه وختمه ثم طبعت في ورقة أخرى ووزعت في حياته ولازالت النسختان محفوظتين.
ويعتبرها من الشرك وبين التوسل المعروف بالأولياء بأشخاصهم أو بأعمالهم وهو ممن يجيز التوسل، وهذا نص الفتوى الثانية: (إن المتوسل متوجه بطلبه إلى الله، وذكر المتوسل به على سبيل التحبب، وأما الاستغاثة فيمكن اعتبارها توسلاً ظنياً لمن يفهم وينوي طلب الدعاء، وإلاّ فإنها ممنوعة وبالذات للعوام الذين قد يعتقدون في المستغاث به القدرة على تحقيقها استقلالاً، ولهذا فهي محرمة على العوام وعلى إظهارها الفتوى بها، ونعذر العلماء الذين جاءت في أشعارهم لعلمنا بصحة عقيدتهم وأنهم إنما يقصدون التوسل بالمستغاث به وطلب دعائه) [1].
وهذه الفتوى وسابقتها للعلامة الحداد لم تصل إلى المستوى المطلوب أو لم تخلُ من بعض المآخذ ولكن المراد من إثباتها هنا إثبات أن مبدأ اعتبار الاستغاثة بغير الله شرك شائع ومعروف عند كل من خلع ربقة الهوى والتقليد ومن تعصب بدون بصيرة، وإن اختلفت العبارات وتفاوت مستوى التحقيق والتدقيق في الفتاوى.
ويقرب من ذلك ما قرره العلامة عبدالله بن أحمد باسودان - رحمه الله - وهو من أكابر فقهاء حضرموت في وقته، ومن المنطوين في السادة العلويين؛ بل يعتبر شيخاً للكثير منهم في كتابه "ذخيرة العباد شرح راتب الحداد" (وقد فشت في العامة اعتقادات فاسدة في أولياء الله، فإن مرضوا، قالوا: هذا صدر من فلان، وإن شفوا؛ قالوا: بركة سيدي فلان، فلما اعتقدوا ضرهم ونفعهم؛ حلفوا بهم ونذروا لهم من دون الله، واستشفوا بهم من دون الله، فإن أجرى الله سبحانه الوادي؛ قالوا: شيء لله يافلان، وإن قبض الله عليهم المطر؛ قالوا: قبضها فلان .. والله سبحانه القابض الباسط المحيي المميت وكل شيء بيده في ملك ملكوت، ولو ذهبنا لما في الكتاب والسنة من التحذير
(1) وهذه الفتوى حررت يوم الاثنين 12 صفر 1416 هـ وهي كذلك محفوظة بخظ المفتي وتوقيعه.
في ذلك لعرف الناس أنهم قد هلكوا، وأكثر هؤلاء بل كلهم أتباع الدجال نعوذ بالله من الضلال، ويقع من هؤلاء في زيارة قبور الأولياء أو غيرهم كثيرٌ من الجهالات والمآثم المتكررة، هذا ما قاله الشيخ عبدالخالق المزجاجي الزبيدي.) [1].
والمهم في هذا النقل قوله: (فلما اعتقدوا ضرهم ونفعهم حلفوا بهم ونذروا لهم من دون الله واستشفوا بهم من دون الله) ، وهذا هو الرد الحاسم على المزايدين من المعاصرين، الذين يقولون: إن تلك الأفعال التي يفعلها العامة [2] إنما هي مجرد أعمال لاتقوم على اعتقاد ضر ولانفع، ولو صح أن هناك اعتقاد ضر أو نفع لقلنا بشركهم، فهذا العالم الذي تعتبرونه من أجل علمائكم يصرح بأن هذه الأعمال ما صدرت إلا عن اعتقاد.
أما نحن فنقول: إن مجرد فعل هذه الأعمال وصرفها لغير الله شرك ولولم يصحبه اعتقاد وانظر ما قرره الإمام الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة في الدر النضيد. [3]
ويشبه ذلك - أيضاً - ما نقله علوي بن طاهر الحداد عن "الإمام" الحداد المشهور "عبدالله بن علوي" حيث قال: (وأما الغلو في الأولياء فسببه الجهل وقلة المعرفة بعقائد الدين وقد ينتهي ببعض الناس إلى أن يثبت لهم القدرة على الضر والنفع كما يثبت لله عزوجل، وهذا انتكاس على أم الرأس
(1) ذخيرة العباد شرح راتب الحداد (124 - 125) بواسطة طريقة الساده العلويين نقلاً عن كتبهم (7 - 8) كتبها مجموعة من الشباب كنوا عن أنفسهم بـ (مخلصون) وقدم لها السيد عبدالله بن محفوظ الحداد وهي مخطوطة لدى.
(2) إن هذا القول إنما هو تنصل من الحقيقة وإلا فهو قول العامة وكثير من الخاصة ولئن كان العامي تربى على ذلك واعتقده تقليداً، فإن بعض من يحسب من الخاصة من يقوله ويدافع عنه ويقيم الحجج بزعمه على صحته، ثم عند المناظرة يراوغ ويقول إنما هذا فعل العامة ومن اعتقد الضر والنفع في غير الله فقد أشرك، فله مذهبان مذهب عند الأتباع هو تأصيل ذلك وتأييده ومذهب عند الخصوم هو المراوغة والتقية وإسكات الخصم بما يوافقه وإن كان خلاف مايعتقده ذلك المناظر.
(3) الدر النضيد ص (110) .
وفقد لحقيقة الإيمان والإسلام: قال الإمام العارف بالله محيي الطريق وداعي الفريق الحبيب عبدالله بن علوي الحداد العلوي: التصرف الحقيقي الذي هو التأثير والخلق والإيجاد لله تعالى وحده لاشريك له ولا تأثير للولي ولا غيره في شي قط لاحياً ولاميتاً، فمن اعتقد أن للولي أو غيره تأثيراً في شيء فهو كافر بالله تعالى انتهى). [1]
وهو كالذي قبله يثبت أن للعامة اعتقاداً منحرفاً في الأولياء بفقد حقيقة الإيمان والإسلام وأن (من اعتقد أن للولي أوغيره تأثيراً في شيء فهو كافر بالله تعالى)
وفي مسألة الذبح لغير الله قال العلامة عبدالرحمن المشهور في "بغية المسترشدين" "مسألة ب" [2]: (القنيص المعروف بحضرموت من أكبر البدع المنكرات والدواهي المخزيات، لكونه خارجاً عن مطلوبات الشرع، ولم يكن في زمن سيد المرسلين والصحابة والتابعين - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، ومن بعدهم من الأئمة ولم يرجع إلى أساس ولم يبن على قياس، بل من تسويلات الرجيم وتهويسات ذي الفعل الذميم والعقل الغير المستقيم؛ لأن من عاداتهم أنه إذا امتنع عليهم قتل الصيد قالوا: بكم ذيم. [3] فيذبحون رأس غنم على الطوع - يعني العود الذي تمسك به الشبكة - تطهيراً للقنيص من كل شك ووسواس فالذبح على هذه الصفة لايعجل قتل مالم يَحْضُر أجله، إذ الأجل كالرزق والسعادة والشقاوة له حدّ ووقت مقدر كما قال تعالى: {لكل أجل كتاب} [4]، وفي الحديث: "فرغ الله من أربع: من الخلق والأجل والرزق والخلق" ثم الذبح علىمثل هذه الحالة يتنوع إلى ثلاثة أمور: إما أن يقصد به التقرب
(1) عقود الألماس بمناقب الإمام العارف بالله الحبيب أحمد بن حسن العطاس (1/ 47)
(2) يعني أن هذه المسألة فتاوى عبدالله بن الحسين بن عبدالله بافقيه كما في مقدمة العينية (2) .
(3) (الذيم) يظهر أنه اصطلاح خاص بالقوم ولم يفسره المصنف ولعله مانع من موانع حصول الصيد بسبب معين.
(4) سورة الرعد (38) .
إلى ربه، ولم يشرك معه أحداً من الخلق، طامعاً في رضاه وقربه وهذا حسن لابأس به، وإما أن يقصد به التقرب لغير الله تعالى كما يتقرب إليه معظماً له كتعظيم الله كالذبح المذكور بتقدير كونه شيئاً يتقرب إليه ويعول في زوال الذيم عليه فهذا كفر والذبيحة ميتة، وإما أن لا يقصد ذا ولا ذا بل يذبحه على نحو الطوع معتقداً أن ذلك الذبح على تلك الكيفية مزيل للمانع المذكور، من غير اعتقاد أمر آخر فهذا ليس بكفر ولكنه حرام والمذبوح ميتة أيضاً وهذا هو الذي يظهر من حال العوام؛ كما عرف بالاستقراء من أفعالهم، كما مقت هذه الصور الثلاث أبو مخرمة فيمن يذبح للجن) [1] والشاهد في النص اعتبار الذبح لغير الله على سبيل التعظيم شرك بالله تعالى، وتصريح هؤلاء الثلاثة العلماء الكبار به وهم من مشاهير علماء حضرموت المحسوبين من قدوات الصوفية: بامخرمة، وبافقيه، والمشهور.
وفي نفس الموضوع يقول ابن عبيدالله مفتي حضرموت في وقته: (ولنضرب مثلاً بأولياء الرحمن فإن من استخف حقهم وأنكر خصوصيتهم اقتحم الغلط وأتى بأكبر شطط ومن طلب منهم مالا يطلب إلا من جبار السماوات واعتقد أن لهم تأثيراً من دون الله فقد وقع في صريح الإشراك) [2].
وفي الحلف بغير الله يقول عبدالله بن حسين بن طاهر: (وأحذركم الحلف بالله في جميع شؤونكم (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) [3]، وأما الحلف بالآباء والجدود وبكل مخلوق - وإن عظم - فهو محذور
(1) بغية المسترشدين في تلخيص فتاوى بعض الأئمة من العلماء المتأخرين تأليف عبدالرحمن بن محمد باعلوي طبعة دار الفكر بدون تاريخ ص (255 - 256) .
(2) مذكرة طريقة السادة العلويين كتبها مجموعة من الشباب كنوا عن أنفسهم بـ (مخلصون) وقدم لها السيد عبدالله بن محفوظ الحداد وهي مخطوطة لدى ص (10) عن رسالتي (المساواة والملكية) للسيد عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف.
(3) البقرة (224)
ويختلف الحكم فيه باختلاف المقصود فبعض صوره قادح في التوحيد ومادون ذلك فمكروه؛ للنهي الشديد وأشدّ من ذلك الحلف بالأمانة فالمحتاط من كف عن ذلك لسانه) [1]
والشاهد جعله بعض صور الحلف قادحاً في التوحيد ولعله يقصد إذا قصد الحالف تعظيم المحلوف به.
وهذا ظاهر عند الذين يصرون على ألا يقبلوا الحلف إلا بالولي ويرفضون الحلف بالله وكذلك الذين يتهيبون من الحلف بالولي ولا يتهيبون الحلف بالله
وفي النذر قد سبق ما قاله العلامة أبو بكر الخطيب وموضع الشاهد قوله: (أقول وأنت خبير بأن العامي الجاهل الصرف يخفى عليه ملاحظة أن هذا التصدق لايعتقد إلا في القرب ومعرفة ما هو قربة، فليتنبه لما يجيئون به للولي أو قبره أو مشهده وهو ميت فإن الغالب أنهم يقصدون به تعظيم ذات الولي أو قبره أو مشهده وذلك باطل؛ كما تقدم والله أعلم بالصواب) [2]، أقول والذي تقدم قوله: (الذي تحصل للفقير من كلام أئمتنا الشافعية - رحمهم الله تعالى - ملخصاً من كلام طويل لهم في مثل هذه المسألة أن ما تصدق به على النبي أو الولي الميتين أو على قبرهما أو مشهدهما مثلاً سواءاً كان بنذر أو وقف، ومثل ذلك الأمل [3] المعروف بالجهة عندنا أنه قصد به تمليك الميت أو القبر أو المشهد بطل؛ لعدم صحة تمليك من ذكر وكذا لو نوى بذلك التقرب إلى من ذكر؛ لأن القرب إنما يتقرب بها إلى الله تعالى لا إلى خلقه ومثل ذلك ما إذا كان المتصدق به شمعاً أو زيتاً، ومثله السليط والقاز عندنا وقصد به الإسراج للتنوير تعظيماً للبقعة أو القبرأو التقرب إلى من دفن فيها أونسبت إليه كما يعتقده
(1) المجموع لعبدالله بن حسين بن طاهر ص (237) بواسطة طريقة السادة العلويين ص (8 - 9) .
(2) الفتاوى النافعة ص (249) .
(3) الأمل يشبه نذر المكافأة كأن يقول إن شفي مريضي فللولي الفلاني كذا كذا.
بعض العامة فإنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات بنفسها ويرون أن التصدق عليها مما يندفع به البلاء .. ) [1] أقول واضح من هذا النقل أن هذا الفقيه يوافق في قوله هذا القول الصحيح من أن النذرلغير الله شرك إذا كان عن اعتقاد في المنذورله، وهذا على قول من يجعل النذر بمعنى الهبة أو العطية، وأما من يقول إن النذر لايسمى نذراً إلا إذا كان عبادة؛ فإنه يكون النذر - على قولهم - وعلى من نذر على هذا الوجه - شركاً ولولم يصحبه تعظيم.
يقول السيد عبدالرحمن المشهور في التفريق بين الكرامة والسحر والإشارة إلى أن بعض من يدعي الولاية قد يكون من السحرة المشعوذين والتنصيص على بعض المجاذيب من أتباع الرفاعي أو أحمدبن علوان أن بعضهم إنما يفعل ذلك بطريق السحر وتأكيده على أن الكرامة لا تكون على يد فاسق ولا يتعلم من حصلت على يده سببها ولا يسعى إليها وأن من التشبه بأصحاب الكرامات من ليسوا منهم من يستعملون الجان يقول في ذلك كله: "مسألة ى" [2] (خوارق العادة على أربعة أقسام: المعجزة المقرونة بدعوى النبوة المعجوز عن معارضتها الحاصلة بغير اكتساب وتعلم، والكرامة وهي ما تظهر على يد كامل المتابعة لنبيه من غير تعلم ومباشرة أعمال مخصوصة، وتنقسم إلى ما هو إرهاص وهو ما يظهر على يد النبي قبل دعوى النبوة، وما هو معونة وهو ما يظهر على يد المؤمن الذي لم يفسق ولم يفتر به' والاستدراج وهو مايظهر على يد الفاسق المغتر، والسحر وهو ما يحصل بتعلم ومباشرة سبب على يد فاسق، أو كافر، كالشعوذة وهي خفة اليد بالأعمال وحمل الحيات ولدغها له، واللعب بالنار من غير تأثير، والطلاسم والتعزيمات المحرمة، واستخدام الجان وغير ذلك. إذا عرفت ذلك علمت أن ما يتعاطاه الذين يضربون صدورهم بدبوس أو سكين أو يطعنون أعينهم أو يحملون النار أو
(1) المصدر السابق ص (248 - 249) .
(2) أي أن هذا النقل عن الشيخ عبدالله بن عمر بن أبي بكر بن يحيى كما في المقدمة (2) .
يأكلونها وينتمون إلى سيدي أحمد الرفاعي أو سيدي أحمد بن علوان أو غيرهما من الأولياء أنهم إن كانوا مستقيمين على الشريعة قائمين بالأوامر تاركين للمناهي عالمين بالغرض العيني من العلم عاملين به لم يتعلموا السبب المحصل لهذا العمل فهو من حيز الكرامة وإلا فهو من حيز السحر إذ الإجماع منعقد على أن الكرامة لا تظهر على يد فاسق وأنها لاتحصل بتعلم أقوال وأعمال وأن ما يظهر على يد الفاسق من الخوارق من السحر المحرم تعلمه وتعليمه وفعله ويجب زجر فاعله ومدعيه، ومتى حكمنا بأنه سحر وضلال حرم التفرج عليه؛ إذ القاعدة أن التفرج على الحرام حرام؛ كدخول محل الصور المحرمة، وحرم المال المأخوذ عليه، والفرق بين معجزة الأنبياء وكرامة الأولياء وبين نحو السحر أن السحر والطلسمات والسيمياء وجميع هذه الأمور ليس فيها شيء من خوارق العادة؛ بل جرت بترتيب مسببات على أسباب، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس، بخلاف المعجزة والكرامة فليس لهما سبيل في العادة، وإن السحر مختص بمن عمل له، حتى أن أهل هذه الحرف إذا طلب منهم الملوك مثلاً صنعتها طلبوا منهم أن يكتب لهم أسماء من يحضر ذلك المجلس فيصنعون ذلك إن سمي لهم فلو حضر آخر لم ير شيئاً وأن قرائن الأحوال المفيدة للعلم القطعي المحتفّة بالأنبياء والأولياء من الفضل والشرف وحس الخلق والصدق والحياء والزهد والفتوة وترك الرذائل وكمال العلم وصلاح العمل وغيرهما، والساحر على الضد من ذلك) [1].
وهذا تفصيل حسن لخوارق العادات وتمييز للمعجزة عن الكرامة من الاستدراج والسحر. والفائدة الكبيرة والقاعدة العظيمة التي تجلي الفرق بين الكرامة والسحر، أن الكرامة لا تكون بتعلم لما يحدث ذلك الأمر فإن كان ذلك الخارق ناتجاً عن سبب ظاهر وتعلم له، كان الخارق من حيز السحر لا من
(1) بغية المسترشدين ص (298 - 299) .
حيز الكرامة ولو أننا مع الصوفية جميعاً وقفنا عند هذه القاعدة وطبقناها تطبيقاً حاسماً وسليماً لاتضح أن معظم ما تطفح به كتب الصوفية في مناقب أوليائهم مما صح نسبته إليهم من باب السحر لا من باب الكرامة لأن جماعات منهم اشتهروا أو ثبت عنهم تعلم السمياء أو علم الحروف وذلك من السحر كما في هذا النقل وغيره، فمن ثبت أنه عالم بذلك مستعمل له فاسم الفسق قد وقع عليه، ثم ذلك الخارق قد أصبح صادراً عن تعلم فانتفى أن يكون من حيز الكرامة ولم يبق إلا أن يكون من حيز السحر وكذلك من يتعاطى الرياضة التي هي في صورة عبادات لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن تلك الرياضة سبب يتوصل به إلى إظهار خوارق للعادات، وقد نص الشعراني على أن بعض النصابين يمارسون الرياضات ليوهموا الناس أنهم من الأولياء ذوي الكرامات [1]
فاتضح أن هناك فارقين أساسيين بين الكرامة والسحر أوالاستدراج وهما: التعلم واتخاذ الأسباب، فمتى وجد هذا الفرق حكم على الخارق بأنه سحر، ولو كان على يد من يظهر عليه سيما الصلاح؛ لأنه قد يكون في الباطن بخلاف ذلك. وأما الفرق الثاني: وهو الاستقامة للكرامة، والفسق للسحر والاستدراج؛ فإنه قد تحايل عليه الصوفية ولم يبق له أثر لديهم ولا لدي أتباعهم؛ حيث قرروا أصلاً خطيراً وهو أن الولي يتجزأ ويظهر بمظاهر مختلفة وأن ما تراه لديه مما ظاهره الفسق فإنه في الباطن شيء آخر، بل إن الخمر إذا رأيته يشربها فإما أنها خمر لَدُنِّية من الحضرة الربانية وإما أنها مشروب آخر ظهر لمصلحة في صورة الخمر، وكل ذلك قد ضربت عليه أمثلة، وأيضاً نقلت عنهم كيف يعتذرون لمن لم ير يصلي قط وأنه فحص فظهر أن له عشر صور، صورة واحدة هي التي رآها المعترض لا تصلي بينما تسع صور دائبة في العبادة وصدقهم من رأى ذلك ونقل الحادث على أنه
(1) انظر الطبقات الكبرى (1/ 108) .
كرامة من أشهر وأكبر كرامات ذلك الولي. فلنتأمل هذا الفرق ثم نحكم بموجبه على كل خارق من الخوارق على يد من كان من الناس.
شهادة حق من أصحاب وحدة الوجود:
قلت في مبحث سابق إنني لم أجد لعلماء حضرموت قولاً فاصلاً واضحاً في أصحاب وحدة الوجود مع عموم إحسان الظن بهم واعتبارهم من الأولياء، ولكني اطلعت أخيراً على نقل نقله علوي بن طاهر الحداد عن الشيخين الشافعيين الشهاب الرملي وابن حجر المكي يدل على أنه موافق لها فيه، وهذا النقل مهم جداً خصوصاً عن ابن حجر المكي الذي اشتهر عنه التأويل لأصحاب وحدة الوجود يقول الحداد:
(وسئل الشيخ أحمد الرملي عن القائل بوحدة الوجود فقال: يقتل هذا المرتد وترمى جيفته للكلاب؛ لأن قوله هذا لايقبل تأويلاً. وكفره أشد من كفر اليهود والنصارى، واستحسن الشيخ ابن حجر منه هذه الفتوى، وكان قبل ذلك يتمحل لبعض المتصوفة القائلين بها ويؤول كلامهم فرجع عن التأويل.) [1]
وأخيراً طعنة من الحداد في صميم دعاوى قومه:
قال جامع كتاب النفائس العلوية في المسائل الصوفية: (وسأله بعض الأصحاب أيضاً عن الكبش الذي يعتاد أهل الغيل تركه في بيوتهم ويسمونه مسايراً. فأجاب رضي الله عنه ونفعنا به: أما الكبش الذي يعتاد تركه أهل الغيل في بيوتهم ويسمونه "مسايراً" وكلما ذهب أبدلوه بغيره. فهذا والعياذ بالله من الشرك بالله والشرك ظلم عظيم، وهو وأمثاله سبب تسلط الشيطان وجنوده على العاملين به. فإن الله تعالى قد سلط الشيطان على من يتبعه من بني آدم، وهذا من الاتباع له قال الله تعالى:
(1) عقود الألماس (1/ 104) .
(إن عبادي ليس لك عليهم سبلطان إلا من اتبعك من الغاويين) [1] [2] موضع الشاهد أنه جعل اتخاذ هذا الكبش شركاً. ومن المعلوم ضرورة أن متخذه لم يعتقد أنه يضر وينفع من دون الله قطعاً؛ لأنه يعرف هذا الكبش ويعرف حقيقته ومن أين جاء، وكيف يموت وينتهي، ومع ذلك كان اتخاذه شركاً. إذن فكيف لايكون من يدعو غير الله مشركاً إلا إن كان يعتقد استقلاله بالضر والنفع من دون الله، وصورة الدعاء لغير الله أظهر في الإشراك من صورة اتخاذ هذا الكبش؟
المطلب الرابع: فتاوى وبيانات جماعية للتحذير من عقائد وأعمال القبورية:
لكي يعلم القاريء الكريم أن موقف علماء اليمن المعاصرين هو موقف أسلافهم الكرام الرافض للقبورية بعقائدها وأعمالها، أسوق في هذا المطلب عدداً من الفتاوى والبيانات الجماعية، التي انتقد كاتبوها والموقعون عليها أعمالاً من أعمال القبورية أو أيدوا خلافها وهي تتناول البناء على القبور وبعض الزيارات والشعائر القبورية وادعاء علم الغيب.
الفتوى الأولى: كانت رداً على سؤال بعث به أحد القائمين على بعض القباب في جهة تهامة ونص السؤال هو: (ماقولكم سادتي العلماء رضي الله عنكم في قضية عظيمة الخطر هي مايمارس الناس من أعمال، فهم يقربون الذبائح إلى القبور وينذرون لها ويذبحون لها ويستعيذون بها ويعتقدون فيها النفع والضر والحياة والموت "ورأس برأس" فهل هذا يرضاه الإسلام ياعلماء الإسلام، وهل ارتفاع القبور والقباب من الإسلام في شيء، وهل يؤجر عليها فاعله، فأنا منصوب قبة الشيخ داود بن الزين والناس يأتون إلي بريالات وكباش وعجلان وأشياء أخرى يقولون هذه حق الشيخ داود وإذا نهيتهم
(1) الحجر (42) .
(2) النفائس العلوية في المسائل الصوفية ص (127 - 128) لعبدالله بن علوي الحداد طبع دار الحاوي الطبعة الأولى ... (1414 هـ - 1993 م) .
قالوا الولي سيضرك، أولئك كانوا يعملون ويقبلون، فلماذا لا تسير على ما ساروا عليه، قولوا لنا كلمة الإسلام في الموضوع - وفقكم الله -، والسائل مستفيد وهناك قباب كثيرة ومناصيب أخرى والعمل هو العمل ويأتي جهلة بدوان ويقومون بحركات ورعشات، أفتونا لا خلا عنكم الوجود؟
وقد جاءت الفتوى هكذا (الحمد لله حيث كان الحال ماشرحه السائل، فالتقرب بالذبائح إلى القبور والأولياء والإستعانة بهم والنذر لهم دائر بين أمرين خطيرين، إما كفر بواح، وإما وسيلة إلى الكفر، ذلك أنه إذا صدر هذا الفعل الشنيع ممن نشأ في دار الإسلام عالماً بأحكام الشرع في مثل هذا معتقداً النفع والضر من الولي يكفر فاعله، فتجري عليه أحكام الردة جميعها وإن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ في غير دار الإسلام، أو في دار الإسلام نائياً عن أماكن المعرفة، فيكون هذا الفعل في حقه وسيلة من وسائل الكفر، فيجب تعليمه وتبيين الأدلة له وإقامة الحجة عليه فإن انتهى بعد ذلك منها وإلا فحكمه أن يكفر.
فعلى كل يجب على ولاة الأمر الردع من مثل هذه الأمور والأخذ بيد من حديد، لكل من يقدم على هذا المنكر الفظيع ولو أدى ذلك إلى هدم القباب الموضوعة على القبور سداً للذرائع، هذا ما نعتقده في هذا الموضوع والله على ما نقول وكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) .
وقد كتب الفتوى أحد كبار علماء زبيد المعاصرين وهو الشيخ أسد بن حمزة بن عبدالقادر وصادق عليها جمع من علماء زبيد وغيرها، ومنهم: محمد بن محمد بن سليمان الأهدل، محمد بن علي البطاح الأهدل، أحمد بن عبدالقهار بن صالح، محمد بن عبد الجليل العزي، عبدالجليل بن علي خليل، محمد ابن عبدالله بازي، محمد بن عيدروس علوي، عبد المجيد بن عزيز الزنداني، عمر بن أحمد سيف، علي ابن محمد واصل، حامد بن مختار شرف، محمد بن أحمد كديش "عضو محكمة"
الحديدة التجارية "، محمد بن علي مكرم، حسين بن محمد عثمان الوصابي، أحمد بن عبدالله سعيد الضافري، عبدالله بن قاسم الوشلي، أحمد بن محمد عامر، وعلي بن محمد الوشلي، محمد بن محمد عزيز القديمي، وإبراهيم ابن حسين صائم الدهر، عبدالرحمن الوشلي، عبدالرحمن بن عبدالله الأهدل، هذة الأسماء التي تبيَّنْتُها وهناك أسماء لم أتبيّنها."
وقد علق حاكم زبيد السابق - رحمه الله - عبدالله الأنباري على الفتوى فقال: (أنا أقرر ما قرره الأئمة السادة العلماء بمنع كل بدعة قبيحة تخالف منهج الشريعة المطهرة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، فالضر والنفع بيدالله سبحانه وتعالى، والذبح لغير الله لايجوز، ومن ثبت تعاطيه لذلك فيمنع ويضبط حتى يتوب. وفق الله الجميع لخدمة كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاهتداء بهدية وجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.) [1]
الفتوى الثانية: كما وزعت فتوى أخرى على شكل ملصق علق في المساجد وغيرها يحتوي على فتوى مقاربة للفتوى السابقة ملخصة من مجموع ما أفتى به العلماء، وإليك نص السؤال وملخص الجواب:
نص السؤال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فإن في بلادنا قبور رجال صالحين، مرفوعة ببناء فوق الأرض، فيها حفرة صغيرة، بداخلها تراب يتبرك به ويستشفى به، وتقام لهذه القبور زيارات سنوية موسمية في شهر رجب الحرام وغيره،، يذبح فيها الكباش لأصحاب القبور، ويجتمع عندها الرجال والنساء والباعة والألعاب، ويحتفل بهذه الزيارات كالاحتفال بيوم العيد، وتهان فيها القبور أيما إهانة.
(1) لدي صورة طبق الأصل من هذه الفتوى وقد وردت ضمن كتيب بعنوان "الفتاوى اليمنية في تحريم رفع القبور والزيارات البدعية والشركية" وهو من سلسلة باسم (السلسلة الدعوية) رقم (9) ويوزع مجاناً بدون تاريخ.
فما هو قول السادة العلماء والأئمة الفضلاء في رفع القبور بالبناء؟ وما حكم هذه الزيارات؟ وهل هي الزيارات الشرعية التي حث عليها أبو القاسم محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ أفتونا مأجورين. نفع الله بكم الإسلام والمسلمين.
وقد تفضل أصحاب الفضيلة العلماء بالإجابة على هذا الاستفتاء. ننشر هنا خلاصة إجاباتهم:
أولاً: أوضح العلماء في فتاواهم على أنه لا أحد من الخلق لا ملك ولا نبي ولا ولي يضر أو ينفع، وأن الأموات لا ينفعون الأحياء ولا يغنون عنهم من الله شيئاً بل الأموات بحاجة إلى دعاء الأحياء لهم، والاستغفار لهم، وإذا كان سيد الأولين والآخرين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف يملك ذلك غيره ممن هو دونه، وعليه فلا يجوز اعتقاد النفع والضر في أصحاب القبور مطلقاً، لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام.
ثانياً: أوضح العلماء أن شد الرحال إلى القبور بدعة محدثة منكرة وقد جاء الشرع بالنهي عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم: (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى )) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
ثالثاً: أكد العلماء على حرمة رفع القبور أكثر من شبر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: (( لاتدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته )) أخرجه مسلم.
رابعاً: أكد العلماء على حرمة البناء على القبور مطلقاً، وتجصيصها، والكتابة عليها، والقعود عليها، لحديث جابر بن عبدال له: (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد على القبر، وأن يجصص أو يبنى عليه )) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وفي رواية: (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب على القبر شيء )) أخرجه أبو داود وابن ماجه.
خامساً: بيّن العلماء الفرق بين الزيارة الشرعية للقبور، التي تكون للعظة، والاعتبار، وتذكر الآخرة، والدعاء والاستغفار للميت. وبين الزيارات البدعية والشركية التي يتقرب فيها إلى أصحاب القبور، بالذبائح، والنذور، والاستغاثات، وما إلى ذلك من أمور الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام، وأن هذه الأمور لا تكون إلا لله - عز وجل - وحده لا شريك له، لقوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} ولقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم: (( لعن الله من ذبح لغير الله )) أخرجه مسلم.
سادساً: أكد العلماء على أن وضع حفرة على القبر وجعل التراب فيها للتبرك والاستشفاء به من وسائل الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام.
سابعاً: أكد العلماء على تحريم، وخطورة ما يجري في هذه الزيارات، من الاختلاط بين الرجال، والنساء، وخروج الباعة، والطبول، ومايجره من الفتن، والفواحش والموبقات، علماً أن النبي - صلى الله عليه وسلم: (( لعن زوَّرات القبور )) أخرجه أحمد والترمذي.
ثامناً: أوضح العلماء تحريم تخصيص شهر من السنة، لزيارات قبور الأولياء، خاصة في شهر رجب الحرام، وأن ذلك وسيلة من وسائل الشرك، الذي لايغفره الله - عز وجل - إن مات صاحبه عليه - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا تجعلوا قبري عيداً )) أخرجه أبو داود.
وإليك أسماء بعض العلماء والمشايخ الذين أفتوا ووقعوا على هذه الفتوى.
(1) محمد بن إسماعيل العمراني (2) مقبل بن هادي الوادعي (3) د. إبراهيم القريبي (4) د. عبدالوهاب الديلمي (5) محمد الصادق مغلس (6) عبد المجيد الزنداني (7) عبدالعزيز الدبعي (8) عبدالمحسن ثابت (9) عبدالمجيد الريمي (10) عقيل المقطري (11) محمد بن عبدالوهاب
الوصابي (12) د. أحمد محمد زبيلة (13) أحمد حسن المعلم (14) إسماعيل العنسي (15) محمد المهدي (16) عبدالرحمن ابن عبدالله شميلة (17) حسين بن محفوظ (18) عمر أحمد سيف (19) عبدالقادر الشيباني (20) صالح الوادعي (21) طارق عبدالواسع (22) عبدالله الحاشدي (23) ناصر الكريمي (24) عيسى شريف (25) أحمد حسان (26) علي بارويس (27) علي بن فتيني (28) عبدالله الحميري (29) أحمد أهيف (30) أمين جعفر (31) عمّار ناشر (32) محمد الوادعي (33) عارف أنور (34) علي مقبول الأهدل (35) محمد سالم الزبيدي (36) محمد سعد الحطامي (37) حسن صغير الأهدل (38) مراد القدسي (39) إسماعيل عبد الباري (40) حسن الزومي (41) حاكم زبيد عبدالكريم النعماني (42) محمد المعمري (43) عبدالله فيصل الأهدل (44) عمر سقيم.
الفتوى الثالثة: نص السؤال: ما حكم الشرع في هذه النتيجة التي يصدرها هذا الرجل، والتي يذكر فيها ما سيحدث للأشخاص والبلدان، وكذلك مختلف الأحداث والتغيرات السياسية والاقتصادية والكوارث وغير ذلك، معتمداً كما يقول على علم الجفر والنجوم وغيرها؟ وهل يجوز إصدارها أو بيعها وشراؤها؟
وقد تفضل أصحاب الفضيلة بالإجابة عن التساؤل، ننشر هنا خلاصة تلك الإجابات، آملين أن نتمكن مستقبلاً من نشر إجابات العلماء مفصلة .. والله الموفق.
ركز العلماء على أن عمل هذا الرجل هو ادعاء لعلم الغيب، وأن من أصول العقيدة الإسلامية المقررة عند أهل الملة أن الله استأثر بعلم الغيب فلا يعلمه أحد سواه، وأدلة ذلك جدّ كثيرة، ومنها:
1 - قوله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} "النمل 65"
2 - وقوله تعالى: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} "آل عمران 179"
3 - وقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو.} "الأنعام 59" .
4 - وقوله تعالى: {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله} "يونس 20" .
5 - وقوله تعالى: {ولله غيب السموات والأرض} "النحل 77" .
6 - وقوله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً} "الجن 26" .
وعلى هذا فعلم الغيب محجوب عن جميع الخلق، بما في ذلك الملائكة والنبيين، قال الله تعالى حكاية عن الملائكة: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} "البقرة 32" . وقال الله حكاية عن محمد - صلى الله عليه وسلم: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} "الأعراف 188" . وقال الله آمراً نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} "الأنعام 50" ، وقال الله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} "الجن 26" . وقال الله عن الجن: {فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} "سبأ 14" ، ويقول تعالى: {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت} "لقمان 34" .
فالله قد حجب علم الغيب عن أكرم خلقه وهم الأنبياء والملائكة إلا ما أعلمه الله لهم، أبعد هذا يأتي هذا ويدعي معرفة الغيب؟!. إن من ادعى علم الغيب قد نازع الله، وكذب القرآن، وفارق هذه الملة.
ركز العلماء في إجابتهم على أن هذا العمل من الكهانة التي جاء الإسلام بتحريمها؛ إذ أن الكاهن هو الذي يدعي معرفة علم الغيب، وما سيقع من أحداث مستقبلية، وأن صاحب هذا العمل كاهن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( ليس منا من تطيّر أو تُطيِّر له أو تكهَّن أو تُكهِّن له )) رواه البزار والطبراني.
وأن من أتى كاهناً، فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين يوماً، كما جاء في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما إن سأله وصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد، كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنن أبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في الإرواء "2006" ،هذا في السائل فما بالك بالمسؤول.
- علم النجوم الذي يدّعي صاحب هذه النتيجة الاعتماد عليه في معرفة علم الغيب - يقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم: (( من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد )) . رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني في السلسلة "793" .
وقد جاء في البخاري عن قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة السماء، وعلامات يهتدى بها، ورجوم للشياطين، فمن تأوّل فيها غير ذلك، أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
وقال الإمام الخطابي في معالم السنن: (علم النجوم المنهي عنه هو: ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدعون أن لها تأثيراً في السفليات، وهذا منهم تحكّم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر الله به، فلا يعلم الغيب سواه) .
- وأما علم الجفر (وأنه العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر والذي يحتوي على ما كان ويكون وأن الرسول خَصّ به علياً وذريته من بعده) ، فأمر وهمي لا حقيقة له. وأدلة ذلك كثيرة ويكفي منها:
ما جاء عند البخاري من سؤال أبي جحيفة لعلي - رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن أو ليس عند الناس؟. فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهماً يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر. وما جاء عند مسلم برقم "1987" عن علي قوله: (ما خصنا رسول الله بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا) وأخرج صحيفة مكتوب فيها: (( لعن الله من ذبح لغير الله ... )) .
فعلم الجفر باطل، وما بني على باطل فهو باطل.
وبناءً على ما سبق؛ فقد أكد العلماء على أنه لا يجوز التصريح بإصدارها، كما أنه لا يجوز طبعها، ولا بيعها، ولا شراؤها، ولا تداولها. وأنه يجب على الجهات المختصة مصادرتها والأخذ على يد صاحبها ومحاكمته، وأنه يجب عليه التوبة إلى الله والابتعاد عن هذه الضلالات، وأنه يجب إسداء النصيحة لكل من يقتنيها أو يطلع عليها، وتبيين مخاطر ذلك على العقيدة والتوحيد لعموم المسلمين. تلك هي بعض أهم النقاط التي ركز عليها العلماء سارعنا في إخراجها؛ إقامة للحجة؛ وتوضيحاً للحق؛ ونصحاً للخلق.
أما العلماء الذين تكرّموا بالإجابة على هذا التساؤل فهم:
محمد بن إسماعيل العمراني، عمر أحمد سيف، عبد المجيد الريمي، محمد الصادق، حسين عمر محفوظ، محمد المؤيد، حسن حيدر الوصابي، على العديني، مراد القدسي، أحمد حسان، عارف أنور عمار بن ناشر، عبدالله بن أحمد المرفدي، أحند مقبل بن نصر، عبد الرحمن قحطان، عقيل المقطري، عبد الله سيف، عبد الله سنان، طارق عبد الواسع، عبد الملك داود، عبد القادر
الشيباني، فاضل محمد عبدالله، يحيى الجهراني، د 0 حسن الأهدل، أمين عبدالله جعفر، د 0 عبد الله الأهدل، محمد سعيد الحطامي، عمر علي سقيم، حسن صغير الأهدل، عبد الرحمن عبد الله الأهدل، أحمد حسن المعلم، عبده عبدالله الحميدي، حميد عقيل، محمد المهدي، القاضي علي البعداني، محمد بن علي الرحبي، عبد الله بن غالب الحميري، عبد الرحيم الشرعبي، عبد الله عبده الإِبي، يحيى السوسوة.
كما تم الاعتماد على فتوى حول الموضوع لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ومعه لجنة الافتاء الدائمة المكونة من كل من:، عبد العزيز آل الشيخ، صالح الفوزان، بكر أبو زيد، عبد الله الغديان.
الفتوى الرابعة: السؤال: ما حكم شد الرحال إلى الجند من قبل الرجال والنساء؟ وما صحة ما ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك؟
- ما حكم الموالد التي تقام داخل المسجد ليلة ذلك اليوم؟ وما حكم ما يفعله المجاذيب من طعن الرؤوس؟
- ما حكم اختلاط الرجال بالنساء داخل المسجد؟
- ما صحة ما يشاع من أن الذهاب هو حج الفقراء؟
وقد تفضل أصحاب الفضيلة العلماء بالإجابة على تلك الأسئلة. ننشر هنا خلاصة إجاباتهم، آملين أن نتمكن من نشرها كاملة ومفصلة.
أولاً: أكد أصحاب الفضيلة على شد الرحال إلى الجند بقصد التقرب والتعبد بدعة محدثة منكرة. وقد جاء الشرع بالنهي عن الابتداع. فالنص النبوي يقول: (( وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ويقول: (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) . وفي رواية: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
هذا وقد جاء نص نبوي آخر له صلة بحرمة شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم: (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا )) ، وأما ما يردده بعض الجهال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إلى أربعة مساجد )) بإضافة مسجد الجند، فكذِب على النبي - صلى الله عليه وسلم - والرسول يقول: (( ومن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار )) .
ولا يخفى على أحد خطورة الابتداع في الدين، ويكفي في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم: (( إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدعها )) حسنه الألباني.
ومما يزيد النكارة، ويشدد الحرمة ممارسة منكرات أخرى في ليلة ذلك اليوم في ذلك المكان، ومنها: (السحر الذي يفعله المجاذيب، وامتهان المسجد باختلاط الرجال والنساء - وهو منكر في حد ذاته - ومضغ القات وغير ذلك ..
ثانياً: أكد العلماء على أن تخصيص أول جمعة من رجب، هو بدعة أخرى لا دليل عليها، وكذلك اتخاذ ذلك المكان بعينه في ذلك الوقت ومن باب اتخاذه عيداً، مع العلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن اتخاذ قبره عيداً، فهذا المكان من باب أولى.
ثالثاً: أكد العلماء على أهمية محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أنها من الأمور الواجبة على كل مسلم، بل لا يتم إيمان المرء حتى يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، كما أكدوا على أهمية تدارس سيرته وتعلمها وتعليمها، وليس من ذلك إقامة الموالد، سواء في تلك المناسبة أو في غيرها، بل الموالد أمر محدث لم ينص عليه كتاب ولا سنه، ولم يفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد صحابته الكرام، ولا في عهد التابعين، ولا في عهد الأئمة الأربعة، وهم أكمل الناس حباً لرسول الله، وأكثرهم تعظيماً له وقد كمّل الله دينه، وأخبر عن ذلك بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} وليست هذه الموالد من الدين الذي أكمله الله، بل تدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم: (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) .
رابعاً: أكد العلماء على أن ما يحصل ممن يُسمَّون بالمجاذيب هو نوع من السحر المعلوم حُرْمته، ومعلوم ما جاء في صحيح البخاري أن عمر كتب إلى ولاته: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة) وقوله تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} الآية وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} الآية.
خامساً: أكد أصحاب الفضيلة على حرمة الاختلاط في ذلك المكان وفي غيره، وعلى النكارة الشديدة لشد الرحال من قبل النساء إلى ذلك المكان، فإذا كانت المرأة لا ينبغي لها أن تخرج من بيتها للصلاة جماعة؛ إذا ترتب على خرجوها فتنة، فهذا من باب أولى.
والاختلاط أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات وسبب في كثرة الفواحش.
سادساً: أشار العلماء إلى أنه لم يثبت في فضل رجب أو في فضل العمل فيه رجب شيءٌ، وأنه كغيره من الشهور. غير أنه فقط من الأشهر الحرم، وقد ألف الحافظ ابن حجر رسالة في ذلك ..
سابعاً: ذكر بعض الباحثين ممن أجاب على السؤال: أن مسألة بناء معاذ لمسجد في الجند بحاجة إلى مزيد من البحث والتحري وحتى لو ثبت ذلك فليس في ذلك أدنى دليل على ما يفعل من شد الرحال إلى هناك، فالصحابة بنوا العديد من المساجد في الشام والعراق ومصر وغيرها، ولم يكن ذلك البناء مدعاة إلى شد الرحال إليها.
ثامناً: أكد العلماء على أهمية دور العلماء والمرشدين في إنكار مثل هذه البدع؛ قياماً بواجب النصيحة (( الدين النصيحة )) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم: (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ... ))
وأكدوا على أهمية دور أصحاب السلطات في ردع المنتفعين من ذلك؛ لما يقومون به من التغرير بالعامة والتلبيس عليهم، وأكدوا - أيضاً - على أهمية تظافر الجهود في إزالة هذا المحدث وغيره من المحدثات.
تاسعاً: أكد العلماء على أن القول بأن الذهاب إلى هناك يعدل حجة هو من الكذب على الله، ومعلوم قوله تعالى: {لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاعٌ قليل ولهم عذاب اليم} .
عبد الله سيف الحيدري، أحمد حسن المعلم، عقيل بن محمد المقطري، عبد الله بن غالب الحميري، محمد بن محمد المهدي، عبده عبد الله الحميدي، علي بن علي البعداني، عبد الرحيم الشرعبي، محمد بن علي الرحبي، علي بن يحيى شمسان، حميد قاسم عقيل، عبد الملك داود عبد الصمد، عبد القادر الشيباني، يحيى بن محسن الجهراني، فاضل محمد عبدالله، عبد العزيز الدبعي، سعيد بن سعيد حزام، أحمد مقبل
ابن نصر، عبد الله سنان، د 0 حسن شبالة، عبد الله بن فيصل الأهدل، عبد المجيد الريمي، عبد الرحمن سعيد البريهي، عبد الله بن سعيد الحاشدي، كمال بن عبيد القادر بامخرمة، محمد الصادق مغلس ن عبدالله علي صعتر، عبد المجيد الزنداني ن عبد الوهاب لطف الديلمي، صالح الضبياني، علي ابن عبد الله العديني، حسن بن محمد حيدر الوصابي، مراد بن أحمد القدسي، مهيوب بن حسين المعولي، د 0 علي مقبول الأهدل، عبد الله عبده الإبي، القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني، محمد عبد الرحمن غنيم، د 0 صالح صواب، حسين عمر محفوظ ن محمد بم على الوادعي، صالح ابن علي الوادعي، أحمد حسان، محمد بن علي المؤيد، طارق بن عبد الواسع، عبد العزيز البرعي.
الفتوى الخامسة: فتوى بمنع ما يسمى "زف الختاميات" التي يقيمها القبورية في بعض مدن حضرموت كالمكلا والشحر وغيرها، والزف هو السير الجماعي من المسجد الذي يقام فيه الحفل "حفل ختم القرآن" إلى قبر ومشهد معين, ويصحب ذلك السماع الصوفي بالدفوف والطبول وأنواع من الملاهي ويحتشد لحضوره جمع كبير من الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً, ويحصل فيه مفاسد كبيرة، يقول أخونا الشيخ أحمد برعود في كتابه "الأضواء المضيئة على بعض العادات الحضرمية" وهو يتكلم عن تلك العادة "البدعة" بدعة الختاميات: (ولقد أمليت على هذه الفتوى وكتبتها بيدي ووقع عليها المشايخ المذكورون في نفس الجلسة عدا السيد عباس حامد الحداد لم يكن حاضراً، كما زكى الفتوى السيد عبدالله بن محفوظ الحداد. فإليك أخي القارئ نص الفتوى:
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين وبعد: فقد اتفق طلبة العلم بمدينة الشحر على أن تمنع زفوف الختاميات بعد نهاية الصلاة والقرآن لما"
يترتب على ذلك من المفاسد والمنكرات التي لاتتفق مع الشرع الشريف، فعليه نطلب من حكومتنا الموقرة أن تمنع وأن تلاحظ من يخالف هذا الأمر؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) ، كما نطلب من السيد الفاضل عبدالله بن محفوظ الحداد في هذا الموضوع أن يصدر فتوى لمنع الزفوف منعاً لما يحصل بسببها من المنكرات والمفاسد، وبعد هذه الفتوى ينبغي ويلزم كل مسلم أن يمنع أهله من الحضور لمثل هذه المجموعات التي تحصل فيها المنكرات حصولاً ظاهراً, ومع العلم أنه ليس هناك ختم حقيقي للقرآن الكريم كما كان السلف يقرأون من أوله في الصلاة ثم يختمونه في إحدى اليالي ويدعون اللعه بعد الختم ويحضره الناس في المسجد ثم يتفرقون إلى بيوتهم هذا وبالله التوفيق.
وكذلك نعلم حكومتنا الموقرة أن هذه الليالي من رمضان يجتمعن كثير من النساء في الأسواق لشراء حوائجهن، فيجتمع بسببهن كثير من السباب فيحتكون بالنساء احتكاكاً متعمداً يأباه الشرع الحكيم وأهل النفوس الزكية، فالمطلوب من حكومتنا الموقرة أن تقوم بملاحظة هؤلاء الناس، ودفعهم عن النساء وهم المسؤولون بين يدي الله سبحانه وتعالى. والله الموفق
21/ رمضان 1411 هـ
التوقيع:
"الشيخ عبد الكريم عبدالقادر الملاحي، الشيخ سالم خميس حبليل، الشيخ السيد عباس حامد الحداد" .
الحمد لله وأنا بدوري أزكي ما قاله مشايخ الشحر وعلماؤها وأضم صوتي إلى صوتهم لتقوم الحكومة بمنع هذه المنكرات المحدثه.
التوقيع:
عبد الله بن محفوظ الحداد) [1].
بيان بشأن أحداث تسوية القبور بعدن بعد انتهاء حرب الانفصال سنة (1415 هـ/1994 م)
وقد صدرت ردود فعل كثيرة تجاه تلك الحوادث معظمها كانت في معرض النقد والاستهجان لذلك العمل منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي إسلامي أو غير إسلامي كما صدرت عدة بيانات تعبر عن مواقف أصحابها منه ومعظمها إما رسمي يراعي سياسة الدولة التي كانت في موقف محرج أمام الجهة الإعلامية التي جوبه بها الحدث أو كانت منطلقة من منطلق حزبي تعبر عن الموقف الرسمي للحزب فلذا لم يبرز فيها الحكم الشرعي كما هو عند علماء الشرع السالمين من تلك الضغوط والحسابات الأخرى وما رأيت في تلك البيانات والكلمات والمواقف ما يمثل الحكم الشرعي الصريح الا هذا البيان الذي وقعه مجموعة من خيرة من علماء اليمن ونشرته مجلة المنتدى التي كانت تصدر تلك الفترة من صنعاء في عددها.
وهذا نص البيان وأسماء الموقعين عليه: (الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين محمد ابن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فقد تابع العلماء الموقعون على هذا البيان الأحداث الأخيرة في عدن:
(1) الأضواء البهية على بعض العادات الحضرمية تأليف أحمد بن علي برعود ص (37) .، الطبعة الأولى: (1421 - 2001) .
الأول منها نتج عنه تسوية القباب والقبور التي تعلق بها عوام الناس من قديم حتى أضفوا عليها من القداسة والتعظيم إلى درجة عبادتها من دون الله تعالى متمثلة في دعائها لكشف الضر وتفريج الكرب والذبح والنذر لها.
والحدث الثاني وهوحدث لا صلة له بالأول ألا وهو اشتباك مسلح بين رجال الأمن وبعض الشباب وذلك حول مقر ما يسمى بمليشيا الحزب الاشتراكي وسببه خلاف في ملكية المنزل.
كما تابع العلماء البيانات السياسية والمقالات الصحفية ورأوا أن الحقيقة الشرعية ضاعت بين دهاء سياسي وسبق صحفي، وكلا الأمرين لم ينطلقا من ضوابط شرعية وثوابت عقدية في ديننا الإسلامي.
لهذا رأى الموقعون على هذا البيان أن يبينوا الحكم الشرعي في هذه القضية حتى لا يشملهم قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} ، كما أن هذا البيان ينطلق من قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم من حديث أبي سعيد [1] الخدري (( الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا لمن يارسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) .
الشرك وخطره:
من المعلوم من الدين بالضرورة ومن قطعيات الشريعة ويقينياتها خطورة الشرك وأنه مخرج من ملة الإسلام وموجب لصاحبه عدم المغفرة وحبوط العمل؛ قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
(1) االصحيح أن لحديث من رواية أبي رقية تميم بن أوس الداري
ما دون ذلك لمن يشاء، وقال تعالى: {أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} ، وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} .
وإن أصل دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام قام على محاربة الشرك وتأسيس التوحيد، قالى تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} ، وإن من وسائل الشرك التي ابتليت بها الأمة تعظيم الصالحين ونصب القباب لهم فكانت نتيجة ذلك الغلو أن دعوهم من دون الله بحجة أنهم أولياء صالحون، وهذا من تزيين الشيطان وإضلاله، لأن الغلو في التعظيم يجر إلى العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله تعالى.
نعم الواجب توقير أولياء الله ومحبتهم وإثبات الكرامات لهم؛ ولكن لا يجوز دعاؤهم والاستعانة بهم والذبح والنذر لهم كما يفعله الخرافيون.
والزيارة الشرعية لأموات المسلمين سنة لأنها تذكرهم بالآخرة، أما الزيارات المبتدعة التي تكون موسمية ويجتمع لها الرجال والنساء ولاعبو القمار ويحدثون حول تلك القبور من المفاسد البدعية والشركية والسلوكية ما لا يرضى بها عاقل، بل هي من المنكرات والصور التي شوهت جمال الإسلام وصفاءه، ويجب على العلماء إنكارها والبراءة منها.
وقد أنكر العلماء قديماً وحديثاً هذه الظواهر، وهذه أقوالهم:
1 - قال ابن حجر الهيتمي المكي:
(وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه نهى عن ذلك وأمر - صلى الله عليه وسلم - بهدم القبور المشرفة وتجب
إزالة كل قندل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره) اهـ.- الزواجر عن اقتراف الكبائر "1/ 149" .
2 - الإمام الشوكاني:
وقال في الدر النضيد ص 22: (وروي لنا أن بعض أهل جهات القبلة وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب "ذي بين" رحمه الله فرآها وهي مسرجة بالشمع والبخور ينفح في جوانبها وعلى القبر الستور الفائقة فقال عند وصوله إلى الباب: "أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين" .
3 - قال الإمام الصنعاني في "تطهير الاعتقاد" :
(وكذلك تسمية القبر مشهداً ومن يعتقدون فيه ولياً لا تخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بهم طواف الحجاج ببيت الله الحرام ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية من قولهم: "على الله وعليك" ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها.
فأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه يقولون: يا زيلعي يابن العجيل، وأهل الجبال: يا أبا طير، وأهل اليمن: يابن علوان).
4 - فتوى دار الإفتاء المصرية:
هذا وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ عبد المجيد سليم بتاريخ "2/ 7/1928 م" ، ونصها: (اعلم أنه يحرم رفع البناء على القبر ولو للزينة ويكره للإحكام بعد الدفن بل تكره الزيادة العظيمة من التراب على القبر لإنه بمنزلة البناء وهو منهي عنه لما في صحيح
مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يبنى عليه. انتهى من الدر المختار وحاشية رد المحتار.
وحين نقول يجب إنكار الشرك ومظاهره فلا يعني ذلك إعطاء الفرصة للذين يصطادون في الماء العكر ولكن لا بد من الحكمة في ذلك واتخاذ الوسائل الناجحة في استئصال كل المظاهر التي تسيء إلى ديننا وأمتنا ومراعاة المصالح والمفاسد وهدم كل مظاهر الشرك من النفوس والقلوب أولاً بواسطة نشر الوعي بين المسلمين بالوسائل المشروعة حتى يتيسر هدمها في الواقع، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوكل إلى خالد ابن الوليد بعد أن استقر في قلبه هدم العزى، حتى قال خالد - رضي الله عنه:
ياعزُ كفرانك لا غفرانك إني رأيت الله قد أهانك
ولقد حرص الحزب الاشتراكي على دعم الخرافيين الذين تحالفوا معه وأيدوه في قرار الإنفصال وذلك سعياً منهم في طعن الإسلام وتدميره باسم الإسلام.
وإنه من ما ينبغي التنبيه عليه ان الحامل لبعض الشباب المسلم على تسوية القبور التي قدست من دون الله هو ما قدمنا من مسلمات الدين وضرورياته، وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،أنه قال: (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) - متفق عليه -.
وروى مسلم في صحيحه أن علياً - رضي الله عنه - قال لأبي الهياج الأسدي: (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته .. )) .
إلا أن بعض الساعين إلى الفتنة والحاقدين على وحدة الأمة استغل الحدث أبشع استغلال بغية ضرب المسلمين بعضهم ببعض وشق صفهم ولبس الحق بالباطل، وتشويه الحقائق حتى صيروا المنكر معروفاً والمعروف منكراً.
وأدخلت قضيتان في بعضهما مع أن كلاً منهما منفصلة عن الأخرى، فقضية تسوية القبور كانت يوم الجمعة 27 ربيع الأول 1415 هـ وما قبلها من أيام ومرت بسلام.
وقضية الصراع حول مركز المليشيا كانت يوم السبت 28 ربيع الأول 1415 هـ وهي القضية المؤسفة جداً التي أدت إلى سفك دماء الأبرياء سواء من الأمن أو الشباب، فسفك الدماء بهذه الطريقة يدل على عدم مسؤولية وتصرف أرعن يجب التحقيق المنصف لمعرفة المتسبب لهذه الحادثة، وحتى لا يكون بداية سيئة وخطرة يستغلها أعداء شعبنا لتفجير صراعات داخلية واستغلالها سياسياً في الخارج وتلك هي أمنية الانفصاليين.
وعلى ضوء ما تقدم نوصي بالتالي:
1 - على ولاة الأمر والعلماء القيام بواجبهم الشرعي في محاربة الشرك ومظاهره واتخاذ الوسائل الشرعية لذك وتكوين هيئة للأمر بالمعروف والنهي لتتولى محاربة جميع ظواهر الفساد، وهذا يسد أبواب الفوضى والاضطراب.
2 - اتحاد كلمة العلماء وخصوصاً في مثل هذه المواقف الخطرة وأن يصدروا عن مواقف مشتركة ومنسقة تخدم دين الله - عز وجل -.
3 - على الشباب الرجوع إلى العلماء والالتفاف حولهم وأن لا يقدموا على عمل دون الرجوع إلى العلماء ومعرفة توجيهاتهم والحكم الشرعي في ذلك، مع العلم أن ما حصل في عدن لم يكن بمشاورة العلماء مما أدى إلى هذه النتيجة غير المرضية.
4 - أن يتم تغيير المنكرات بالحكمة ومراعاة الواقع وقاعدة المصالح والمفاسد.
5 - أن يحذر المسلمون الفرقة والتنازع لأن هذا مما يضعفهم ويقر عيون أعداء الإسلام.
6 - تشكيل لجنة من العلماء والالتقاء بالشباب لمعرفة ملابسات الحادث والعمل على إطلاق سراحهم.
7 - أن يقوم ولاة الأمر برعاية مصالح الأمة وشبابها وصيانة دينها فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
8 - يجب عدم إعادة الأضرحة وتشييدها وخاصة بعد معرفة الحكم الشرعي في ذلك ويجب إنفاق الأموال المرصودة لذلك للمتضررين من الحرب وخاصة في المحافظات الجنوبية.
والله من وراء القصد
صادر عن مجموعة من علماء اليمن بتاريخ 11 ربيع الآخر 1415 هـ
العلماء الموقعون على البيان هم:
عقيل المقطري، عمار بن ناشر، طارق عبد الواسع، عبد العزيز الدبعي، عبد القادر الشيباني، أحمد علي معوضة، علي محمد بارويس، عارف أنور، أحمد الشيباني، عبد الكريم الضراسي، زيد بن ثابت، عبد الله سنان، مجاهد الوصابي، علي صالح عنان محمد، عبد المجيد الريمي، محمد عبد الله الإمام، يحيى الجهراني، د. عبد الوهاب الديلمي، حمود علي ناصر السعيدي، علي العديني، عبد الله الحاشدي، مراد القدسي، يحيى علي محمد جغمان، صالح الوادعي، محمد الوادعي، أحمد مقبل، خالد أحمد سعيد.
المبحث الرابع
الجهود العملية لمواجهة القبورية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أثر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب على القبورية:
(4) التعريف:
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوة تجديدية، هدفها إعادة الأمة إلى ماكان عليه الأمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، وذلك بالدعوة إلىلتوحيد الخالص، وتنقية عقائد الأمة مما داخلها من عقائد ومفاهيم منحرفة، أدت إلى الشرك بالله تعالى، ودعوة للاتباع الكامل للنبي - صلى الله عليه وسلم -،وتنقية عبادات الأمة مما ألصق بها من البدع والمحدثات، والمجاهدة؛ لإقامة الشرع في حياة الأمة وإزالة ما يخالفه. هذا ملخص ما يمكن أن تُعرَّف به دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى.
نشأتها:
نشأت الدعوة السلفية التي جددها الشيخ محمد بن عبدالوهاب "دعوة الإسلام الأولى" في ذهنه، بعد أن بدأ في طلب العلم، وبدأ يقارن بين ما يتعلمه من مبادئ الشرع وأحكامه وما يرى عليه الناس، ثم بدأ فعلاً عندما عاد من رحلاته إلى بلده، ولكن الدعوة راوحت مكانها بل كاد أن يُقضى عليها بالقضاء على الشيخ نفسه، حينما عزم أمير العيينة على تصفيته جسدياً [1]، فهاجر من العيينة إلى الدرعية وفيها نشأت الدعوة النشأة الأخيرة العملية، ومنها انطلقت حينما وجد الشيخ المناصرة الكاملة من قبل أميرها محمد ابن سعود -رحمه الله -وذلك سنة (1157 هـ) .
وبعد أن تقبلت الدرعية وأهلها دعوة الشيخ وآمنت بها، وصَدَقتْ في ولائها، انطلق دعاتها حاملين مبادئها إلى ما حولها من ديار نجد، ثم إلى الإحساء والمناطق الشرقية، وإلى الحجاز وسائر أرجاء الجزيرة العربية، وكان بعض ذلك في حياة الشيخ والإمام محمد بن سعود وبعضه بعدموتهما في أيام عبد العزيز ابن محمد بن سعود على يد ابنه سعود، وكان من فضل الله على عباده أنه في زمن قصير تحقق
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد ص (11) تأليف عثمان بن بشر - طبع مكتبة الرياض الحديثة - بدون تاريخ.
للدعوة نجاح كبير، وطُهِّرت نجد وما حولها من البدع والشركيات ووسائلها، ثم أخذ أئمة الدعوة من أبناء وأحفاد الإمامين يسيرون في الأرض دعاة مجاهدين، فمن أجاب قبلوا منه، ومن أبى قاتلوه.
المآخذ على الدعوة النجدية:
وعندما تكاثر الأتباع والأنصار حدث من بعضهم حوادث غير مرضية، وقضايا على خلاف مقتضى الشرع.
وهذا طبيعي فليس كل الجند بل ولا كل القادة هم من العلماء العاملين والدعاة المخلصين، وإنما هناك من يركب الموجة، وهناك من يطمع في الغنيمة، وهناك أصناف من الناس مختلفو المقاصد وجرائرهم كلها تلقى على كاهل الشيخ ودعوته، ولقد صار لتلك الدعوة صدىً واسع، وانتشر لجيوشها رعب كبير بين الناس، وخاف كل ذي سلطة على سلطته من أمراء وأشراف وشيوخ طرق، كلهم رأوا أن الدعوة تهددهم، فبدأت الحرب بشتى وسائلها، الحرب العسكرية والحرب الدعائية، وغيرها من أنواع الحروب، وكان الذي تولى كبر ذلك الدولة العثمانية بإسطنبول، وذلك لأمرين أساسيين:
الأمر الأول: السياسة، إذ خشيت على أجزاء كبيرة من أطراف مملكتها، ومن أهم تلك الأطراف الحجاز بما فيه مكة والمدينة، أن تخرج عن سيطرتها.
الأمر الآخر: إن الصوفية الاتحادية، كانت هي المسيطرة على الخلفاء، وهم أعدى أعداء هذه الدعوة للاختلاف العقدي بينهما.
فمن هناك طارت الدعايات، وانتشرت الشائعات ضد دعوة الشيخ -رحمه الله تعالى- وكانت كما وصفها الشيخ الإمام ابن الأمير (وأتتنا فيها جوابات من مكة المشرفة ومن البصرة وغيرهما، إلا أنها
جوابات خالية عن الإنصاف [1] واستغل خصومها بعض الهفوات التي يقع فيها بعض المحسوبين على الدعوة فضخموها، وزادوا فيها، واتخذوها أدلة على ضلال الدعوة وانحرافها، ولكن ذلك كله مازاد الدعوة التجديدية هذه إلا رسوخاً وانتشاراً وقبولاً في الأرض؛ خصوصاً بعد أن دخلت الحجاز، وحكمت الحرمين، والتقى دعاتها بالحجاج من كل مكان مباشرة، فعرف الناس الحقيقة، وتبين لهم زيف الدعايات التي كانوا يسمعونها، فحملوا هذه الدعوة إلى بلادهم، ونشروها بين أهليهم وإخوانهم، وهاهي الدعوة "الوهابية" كما سميت وشاع ذلك عنها، هاهي لا يخلو بلد من بلدان المسلمين من حاملين لها فيه، وكم من علماء وجمعيات وهيئات علمية ودعوية تسير على الخط السلفي الذي جدده الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى- في مشارق الأرض ومغاربها، رغم أن الدولة العثمانية وبواسطة واليها على مصر محمد علي باشا قد حاولوا القضاء عليها، وتمكنوا من القضاء على الدولة والقوة العسكرية والكيان السياسي، ولكنهم لم يتمكنوا من القضاء على ما أشربته قلوب الناس من الحق، فما خرج الجنود الغزاة من نجد حتى عادت الدعوة والقوة والدولة بشكل قوي، ربما أقوى من ذي قبل، وهاهي قائمة إلى اليوم في أوسع مداها وأقصى انتشارها.
علاقة الدعوة النجدية باليمن:
من الطبيعي أن الداعية الموقن بصحة ما يدعو إليه المخلص لمبادئه محب الخير لأمته، لا تقف همته عند حد، ولا يكتفي في نشر دعوته ببلد دون بلد؛ لذا فإنه قد كان اليمن كل اليمن مستهدفاً للدعوة مُعرّضاً لدعاتها وجيوشها، ولقد شقت جيوشها الطريق إلى اليمن من جهتين، من الغرب عبر الحجاز وجبال السراة حتى وصلت إلى مناطق عسير جبالها وتهائمها، فكانت القاعدة لها بعد أن انضم
(1) الديوان ص (172) .
أهلها إليها، وفتنوا بمبادئها، ودخل بعض أشرافها وأمرائها مع النجديين، وآزروهم على نشر الدعوة حتى وصلوا إلى الحديدة، بل إلى زبيد وحيس وما حولها [1].
وحينما بلغت الدعوة النجدية تلك المكانة من الاستيلاء على البلاد ودخول القبائل معها والقبول بما تدعو إليه، تجاوبت القبائل اليمنية لذلك، وشعرت بضعف دولة صنعاء في عهد الإمام "المنصور" أحد الأئمة الذين عاصرهم الإمام الشوكاني، وتقدمت تلك القبائل حتى حاصرت صنعاء بعد عام (1216 هـ) [2]، وكانت الرسل في أثناء ذلك ترد إلى صنعاء من الدرعية بالدعوة إلى التوحيد وهدم القباب والمشاهد، وحينما أحس الإمام المتوكل بالضغط الشديد شاور من بحضرته في هدم تلك القباب والمشاهد، فقالوا له: إن كان هذا الهدم لوجه الله وتنفيذاً للشريعة فنعمَّا هو، وإن كان إنما هو مجاملة لأصحاب نجد فلا فائدة [3]، قال الشوكاني: (ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها وفي جهة ذمار وما يتصل بها) [4]،كما أنني لا أشك أنهم عندما مروا بمدن وقرى تهامه قد أزالوا ما فيها من مشاهد وقباب وسووا ما فيها من قبور مشرفة؛ لأن هذه هي عادتهم في كل مكان يستولون عليه، وإن لم أظفر بذلك في مرجع خاص، والفرقة الأخرى من جهة الصحراء حتى وصلت حضرموت.
وصول الدعوة النجدية إلى حضرموت:
(1) البدر الطالع - ترجمة الشريف حمود بن محمد صاحب أبي عريش (1/ 240 - 241) .
(2) فرجة الهموم والحزن للواسعي ص (234) و الشوكاني حياته وفكره ص (55) .
(3) حوليات يمانية ص (22 - 23) .
(4) البدر الطالع (1/ 262 - 263) .
وصلت الدعوة النجدية إلى حضرموت رسمياً بوصول الجيش النجدي الذي يقوده ناجي بن قملا وكان ذلك في سنة (1224 هـ) ، فاستولوا على الكسور، وفيها حورة وهينن وحواليهما، وصَالَحَ ابن قملا القبائل اليافعية والنهدية والشنفرية، وهدم غالب رؤوس القباب المبنية على القبور من دوعن غرباً إلى قبر هود على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام شرقاً [1]، ولم يكن التأثير مقتصراً على هدم القباب فقط، بل وصل إلى إقناع القبائل وجماعات من أبناء حضرموت بهذه الدعوة وحملهم لها ورفضهم للخرافات والعقائد القبورية التي كانت سائدة في البلاد، ومن تلك القبائل قبيلة "آل علي جابر" ببلد خشامر وما حولها في منطقة العقّاد بين القطن وشبام، وحتى بعض رجال السادة العلويين تابعوهم على ذلك، كما ذكر ابن عبيدالله في "إدام القوت" عند كلامه على الحوطه "حوطة أحمد ابن زين" [2] وبشكل أوسع في منطقة "المحيضرة" إحدى ضواحي تريم وهو يتكلم، عن السلطان عبدالله عوض غرامة، فقد قال: (وكان ينكر بطبعه غلو القبوريين، فوافقته آراء الوهابية، وأكثر التعلق بوحيد عصره وفريد دهره مقدم الجماعة، وشيخ الصناعة والذي انتهت إليه رياسة العلم بتريم، العلامة الجليل السيد أبي بكر بن عبدالله الهندوان، المتوفى بتريم سنة (1248 هـ) ،وقد اتهمه العلويون بأنه هو الذي يعلم عبدالله عوض غرامة آراء الوهابية، ويحثه على الالتزام بها، ومؤاخذة الناس بمقتضاها، فتآمروا على قتاله، فهرب إلى بيت جبير، ولم يقدر عبدالله غرامة على حمايته بتريم؛ لأن غرامة لا يملكها كلها، وفي أيامه كان وصول الوهابية إلى تريم سنة (1224
(1) تاريخ حضرموت المسمى بـ (العدة المفيدة) (1/ 321) للشيخ العلامة سالم بن محمد بن سالم بن حميد الكندي. تحقيق عبدالله محمد الحبشي. مكتبة الإرشاد. صنعاء (الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م) ، وتاج الأعراس (1/ 174) .
(2) انظر إدام القوت لابن عبيدالله ص (227) .
هـ)،بقيادة الأمير علي [1] بن قملا، فطوى بهم حضرموت، ولم يفسد حرثاً، ولا أهلك نسلاً، وإنما هدم القباب، وسوى القبور المشرفة، وألقى القبض على المناصب، وأهانهم، وأتلف قليلاً من الكتب، كثره بعض العلويين، كصاحبنا الفاضل السيد علوي بن سهل، بدون مبرر من الدليل، وأقاموا بتريم نحو أربعين يوماً، وعاهده عبدالله عوض غرامة، وعبدالله بن أحمد بن يماني على أن يكف الأذى عن بلادهما، على شرط أن يقوما بنشر دعوته، التي لاقت هوى من نفوسهم وقبولاً من خواطرهم) [2].
إذاً فهذا إمام كبير وعلامة شهير من سادة تريم، كان يوافق أهل نجد على منهجهم، وقد اتهم بنشر هذا المنهج وتعليمه لهذا السلطان، حتى أن السلطان عبدالله عوض غرامة أرسل رسالة عزاء في قتيل قتل في مشاجرة بغير قصد، جاء فيها: (إننا لا نريد ذلك ولانحبه، وإنما كان قتله على غير اختيار منا، ولكن شؤم أعمالكم والتفاتكم إلى غير الله وعبادتكم للأموات والقبور هو الذي جر عليكم المصائب، وسيجر عليكم ما هو أعظم) ، قال ابن عبيدالله: (ويقال أن هذه المكاتبة كانت من إنشاء إمام تريم لذلك العهد المتقدم، ذكره السيد أبي بكر بن عبدالله الهندوان، والله أعلم) [3]، بل هناك نص أوضح وأصرح في استجابة الكثير من قبائل حضرموت وبعض السادة العلويين للدعوة الوهابية، بل وطلبهم وصول دعاتها إلى حضرموت، يقول ابن عبيد الله في ترجمة أحمد بن سالم منصب عينات: (وفي أيامه كان وصول الوهابية إلى حضرموت، بطلب من بعض السادة وآل كثير، ولم يكن لهم عسكر كثير، وإنما كانوا ينشرون دعوتهم، ويستجيب لهم الناس، وكان ممن استجاب لهم آل
(1) كذا قال والصواب ناجي بن قملا.
(2) إدام القوت الحلقة (40) في مجلة العري التي تصدر في الرياض.
(3) إدام القوت ص (123) .
علي جابر بخشامر، غربي شبام، وبعض السادة وبعض آل كثير وعبدالله عوض غرامة بتريم) [1]، ولكن وجود النجديين في حضرموت لم يدم طويلاً حيث كان وصولهم إليها في آخر عمر الدولة السعودية الأولى، والتي انتهت بوصول القوات المصرية إلى الدرعية سنة (1233 هـ) [2]، وكانت جيوشهم قد وصلت إلى ساحل ينبع سنة (1226 هـ) [3]، وما بين هذين التاريخين كان أهل نجد مشغولين بقتال القوات المصرية، ومن هنا قلّت إمداداتهم إلى جيوشهم التي تقاتل في أطراف الجزيرة العربية ومنها الجيش الذي بحضرموت؛ ولذلك فقد هزم هذا الجيش بالقرب من حريضة على يد قبائل الجعده وقيادة السادة آل العطاس [4]، ورجعوا إلى بلادهم.
ولكن آثار دعوتهم مازالت موجودة، وكان أشهر بلد استقرت على مبادئ هذه الدعوة هي بلد خشامر وأهلها آل علي جابر؛ لذلك كانت من النوادر أن أحداً إذا أراد من وليٍّ كرامة فلم تحصل يهدَّده باللجوء إلى آل علي جابر في خشامر، كما ذكر في تذكير الناس قول الذي قال في زيارة المشهد:
زوار جينا بانزورك ياعلي لي تكرم القاصد وترحب بالغريب
إن شيء كرامة با تقع ذا حلها والا رجعنا لا قَدَا صالح حبيب [5]
أي إذا لم تكرمنا فإننا سنذهب إلى صالح حبيب شيخ آل علي جابر الوهابيين، وقول الآخر حينما جاء إلى الحسن بن صالح البحر، وله ولد مريض، فخاطبه بقوله: (وعزة المعبود إن لم تذهب الحمى من
(1) إدام القوت ص (43) .
(2) عنوان المجد (ص 191 - 214) .
(3) المصدر السابق ص (157) .
(4) انظر تاج الأعراس (1/ 230 - 237)
(5) تذكير الناس ص (219) .
ولدي محمد لأصبح في خشامر عند بن علي جابر) [1]. وكل ذلك قد تقدم.
ومالبث الناس بعد ذهاب النجديين إلا يسيراً، فنشأت جمعية الإرشاد بإندونيسيا، فتواصل التأثير، ولله الحمد، حتى جاء الله بهذه الصحوة التي هي سلفية سنية منابذة للقبورية متمسكة بمنهج السلف الصالح رضوان الله، عليهم نسأل الله أن يتم نوره، ويعلي كلمته، ويهدي الجميع للتمسك بما يرضيه
المطلب الثاني: دعوة الإرشاد بإندونيسيا وأثرها على القبورية في اليمن:
من خلال العوامل التي أدت إلى قيام دعوة الإرشاد يمكننا أن نتعرف على أهم ملامحها، فالعوامل التي أدت إلى قيامها هي:
1) الجهل المركّب الذي يسود العرب في إندونيسيا.
2) تمادي العنصريين في استعلائهم على الناس واستغفالهم لهؤلاء ماديّا واجتماعيّا.
3) كثرة البدع والخرافات. [2]
من خلال هذه العوامل يتضح أن هذه الدعوة كانت ثورة على الجهل الذي كان يسود العرب في مهجرهم، ووسيلة إزالته العلم، وثورة على التعالي العنصري، والمطلوب هو التساوي والعدل الذي جاء به الإسلام، وثورة على البدع والخرافات، وسبيل ذلك هو نشر التوحيد والاتباع وتعلم الإسلام الصحيح من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن مجموع ذلك نتعرف على جمعية الإرشاد الإسلامية بإندونيسيا، فنراها تقوم على ثلاثة أصول:
(1) تذكير الناس ص (220) .
(2) تاريخ الإرشاد ص (6) .
1) نشر العلم وإفشائه بين سائر الطبقات.
2) المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع الشرائح في المجتمع.
3) محاربة البدع والخرافات ونشر ضدها من التوحيد والاتباع.
وهذه الأصول كلها نقض لبعض أركان القبورية في اليمن، وقد سبق ذكرها مفصلة في الباب الثاني في آثار القبورية.
وقد وصلت هذه الدعوة إلى اليمن وإلى حضرموت بوجه خاص موطن، مؤسسي هذه الجمعية، وكان لها أثرها الطيب؛ حيث تنبه الناس من غفلتهم واستيقظوا من رقدتهم، فهرعوا إلى العلم، ورفضوا التمايز الطبقي، ودعوا إلى التوحيد والسنة ورفض البدع والخرافات والشركيات، وقام بعضهم بتسوية بعض القبور في مناطقهم، وأذكر أن أحدهم في قريتنا عَمَدَ إلى ثوب كان يكسى به صناديق مكتبة الشيخ عمر بن أحمد العمودي الشهيرة والمعروفة عند المؤرخين بـ "المكتبة الشُعبية" وعند العوام بخزانة
الشيخ عمربن أحمد، قام بأخذ هذا الثوب الذي تكسى به صناديق الكتب -على جهة التعظيم- وألقاه في بئر معطلة بالقرب من الخزانة، وذلك الرجل هو الشيخ عبدالرحيم ابن محمد المهجوس العمودي رحمه الله، وكان أول من أعلن الدعوة إلى السنة ومحاربة البدع والشركيات في ذلك البلد.
وهكذا لم يبق وادٍ أو منطقة من مناطق حضرموت إلا ووجد فيها مثل ذلك الرجل، وفي كثير من الأماكن كان لهؤلاء أنصار وأعوان، يحملون هذه الدعوة ولو في أنفسهم وأقاربهم.
ومما يدل على وجود هذا الأثر ضجة القبوريين من هذه الدعوة والشكوى منها ونشر الدعاية ضدها، من ذلك ما هو مكتوب، ومنه ما هو على الألسنة.
المطلب الثالث: جهود أئمة وعلماء اليمن الأعلى في المواجهة العملية للقبورية:
إن القبورية لم تترسخ في اليمن الأعلى مثلما ترسخت في بقية مناطق اليمن، وذلك أن الفرقة الزيدية والمذهب الهادوي ليس فيهما من الغلو ما في مذاهب أهل الرفض والباطنية من الإسماعيلية والصوفية الغلاة، لذلك؛ لم يكن في أصل المذهب الهادوي ترخيص في البناء على القبور، ولا في عقائد الزيدية اليمنية الأولى شيء من ذلك، وإنما طرأت تلك الأقوال في القرن السابع عندما توافد الصوفية على اليمن وحينما بنى بنو أيوب المشاهد على قبور سلاطينهم، وميزوها عن قبور الناس، عند ذلك سرت العدوى إلى ديار الزيدية، وبقيت محصورة على الأئمة الحاكمين وأسرهم ومقربيهم، فهي فتوى سياسية أكثر منها شرعية واعتماد على إلحاح الواقع لا على أدلة الشرع؛ ولذلك فليس هناك تعظيم للقبور التي في ذلك الجزء من اليمن كما هو في بقية الأجزاء الأخرى، وليس هناك فلسفة لزيارتها كما يوجد عند الصوفية؛ لذلك كله كان من السهل على علماء تلك البلاد وبعض حكامها أن يدركوا الحكم الصحيح لتلك المشاهد وأن يتمكنوا من هدمها وإزالتها بيسر أكثر مما عليه الحال في مناطق الصوفية، كذلك فقد كانت هناك جولات لبعض العلماء وبعض الأئمة وجهود عملية؛ لإزالة بعض تلك المشاهد وتسوية القبور المعظمة عند بعض العامة، وقد اطلعت على جولتين من تلك الجولات.
الجولة الأولى: على عهد الإمام المهدي العباس بن الحسين بن القاسم المولود (1131 هـ) والمتوفى سنة (1189 هـ) والذي كان معاصراً للإمام ابن الأمير الصنعاني رحمه الله المتوفى (1182 هـ) ، فقد قام هذا الإمام بهدم كثير من تلك المشاهد والقبور المعظمة بتحريض جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: (وقد تكلم جماعة من أئمة أهل البيت -رضوان الله عليهم- ومن أتباعهم رحمهم الله، في هذه المسألة بما يشفي ويكفي، ولا يتسع المقام لبسطه، وآخر
من كان منهم نكالاً على القبوريين، وعلى القبور الموضوعة على غير الصفة الشرعية، مولانا الإمام المهدي العباس بن الحسين ابن القاسم رحمه الله، فإنه بالغ في هدم المشاهد التي كانت فتنة للناس وسبباً لضلالهم، وأتى على غالبها، ونهى الناس عن قصدها والعكوف عليها فهدمها، وكان في عصره جماعة من أكابر العلماء ترسلوا إليه برسائل، وكان ذلك الحامل له على نصرة الدين بهدم طواغيت القبوريين [1].
(1) الدر النضيد ص (126 - 127) .
أما الجولة الثانية: فقد تم فيها إزالة القباب والمشاهد في اليمن الأعلى بجهود علماء صنعاء وحث أئمة الدعوة النجدية، قال الإمام الشوكاني -رحمه الله- في ترجمة سعود بن عبدالعزيز بن محمد ابن سعود في البدر الطالع: (ومازال الوافدون من سعود يفدون إلينا إلى صنعاء إلى حضرة الإمام المنصور، وإلى حضرة ولده الإمام المتوكل بمكاتيب إليهما بالدعوة إلى التوحيد وهدم القبور المشيدة والقباب المرتفعة، ويكتب إليّ أيضاً مع ما يصل من الكتب إلى الإمامين، ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء وفي كثير من الأماكن المجاورة لها وفي جهة ذمار، ومايتصل بها) [1].
وقد ورد هذا الخبر مزيداً ومفصلاً في كتاب "حوليات يمانية" الذي حققه ونشره السيد عبدالله الحبشي حيث قال: (وفي سنة (1229 هـ) تهيأ المتوكل على خروجه على النجدي على تهامة، وعلى الشريف وعاهد الإمام القاضي عبدالله العِكام، ووصل وقد رحل المتوكل من صنعاء إلى ذمار، وبقي خارج ذمار، وطلب المغلَّبات من الإمام، ولم يتم منه بشيء ونهب محل اليهود في ذمار لا رحمه الله، وتعدى إلى الطريق المسبلة، ورحل خارج اليمن، وتبعه المتوكل وجرت بينهم حروب.
وفيها وقعة السرايم خارج جبلة، وخاب السعي من النفوذ على تهامة، فكلما هيأهم المتوكل للتحضير على المخالفين طلبوا المغلَّبات، وما مقصدهم إلا الفساد، ووقع لهم شيء من المال ورجعوا بلادهم، ورجع الإمام إلى صنعاء، ورجح مكاتبة النجدي ومداهنته، حتى وصل من الدرعية المطاوعة الآخرون الأمير محمد، ويوسف القرماني وجماعة معهم، وخاطبوا المتوكل في خراب المشاهد والقباب المنصوبة على قبور الصالحين والأئمة الهادين، فجمع الإمام أعيان دولته وعلماء حضرته، وأجاب عليه العلماء بأنه إذا كان العمل بالشريعة حقيقة لا على أنها مداهنة للنجدي
(1) البدر الطالع (1/ 262 - 263) .
وقبول قوله فهذه القباب ورفع القبور بدعة لاعلى الوجه المشروع، كما روي عن أمير المؤمنين بهدمها وتسويتها بالأرض، فرجح المتوكل الأمر بهدمها وهدمت الذي في صنعاء وما حولها قبة صلاح الدين، وقبة المنصور حسين في الأبهر، وقبة الفليحي، وسدة قبة المهدي العباس التي فيها القبر، ولم يبق إلا قبة المتوكل للصلاة، وهدمت قبة أحمد بن أحسن في الغراس وأرسل على بقية النواحي بهذا [1].
ومن هذا النص نفهم أن أصحاب نجد قد شددوا على الإمام في صنعاء في هذا الأمر وقد وجد الإمام نفسه مضطراً لقبول ضغوطهم والعمل بمايدعون إليه، ولكن أراد أن يحمل المسؤولية العلماء بدل أن يتحملها بمفرده، وكان العلماء يتحينون هذه الفرصة؛ لأنها تحقق جزءاً مهماً من دعوتهم، ولذلك كان جوابهم: (بأنه إذا كان العمل بالشريعة حقيقة لا على أنها مداهنة للنجدي، وقبول لقوله فهذه القباب ورفع القبور بدعة على الوجه المشروع، كما روي عن أمير المؤمنين بهدمها وتسويتها بالأرض، فرجح المتوكل الأمر بهدمها) [2]. فهذا جهد كبير كان الدافع له دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتنفيذه برغبة وقناعة تامة من علماء اليمن، والنتيجة هي هدم تلك القباب وتسوية تلك القبور المشرفة وإن كانت قد أعيدت إلى سالف عهدها فيما بعد، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
ونموذج آخر قام به أحد الأئمة ولكن، هناك شكوك في دوافعه، تلك الجهود هي التي قام بها الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين حينما كان ولياً للعهد في أيام أبيه وحاكماً للواء تعز، فقد قام بهدم قبة أحمد ابن موسى بن العجيل في مدينة بيت الفقيه عام (1348 هـ) ، وتحطيم تابوت أحمد ابن علوان
(1) حوليات يمانية ص (22 - 23) .
(2) هنا في التعليق على الكتاب ص (22) رقم (7) قلت: وفي هذه المناسبة ألف العلامة محمد بن علي الشوكاني رسالة (شرح الصدور في تحريم رفع القبور) .
وإخراج رفاته ثم دفنه في مكان مجهول عام (1372 هـ) ، وهذا العمل من حيث أنه تحقق به أمر مطلوب شرعاً فهو جيد، ولكن الشكوك ساورت الناس حينما اقتصر على هدم مشاهد البلاد الشافعية بينما البلاد الزيدية فيها مشاهد كثيرة، ومنها ما قد فتن به بعض الناس، ومع ذلك لم يمسها بشيء من ذلك، قال القاضي إسماعيل الأكوع في "هجر العلم" بعد أن ذكر هدم الإمام أحمد لهذين المشهدين: (وتالله لقد أحسن الإمام أحمد صنعاً في كلتا الحالين، ولو أن يده امتدت إلى سائر القباب والتوابيت الأخرى التي يعتقد عامة الناس في أصحابها الضر والنفع لأجزل الله مثوبته وأحسن إليه، ولاسيما القبور التي يلتمس عندها العامة الخير والبركة، ويرجون منها النفع ودفع الضر والشر [1]، ثم استطرد في الموضوع إلى أن قال: (وكان الواجب على الإمام أحمد هدم القبور التي يلتمس العامة منها الخير والبركات؛ امتثالاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) [2].
قلت: وفي هذا إشارة إلى أن الإمام أحمد ما فعل ما يجب عليه، وما كان مقصده تطبيق أمر الشرع بشكل خالص؛ وإلا لعمم ذلك، وربما يعتذر له بأن هذه المشاهد تحت سلطته بينما غيرها ليس له عليها سلطة، فقد مر أن أباه كان يؤيد تلك المشاهد التي على قبور الأئمة، وقد أمر ببناء واحد منها في منطقة أرحب على قبر الإمام أحمد بن هاشم الويسي المتوفى سنة (1269 هـ) والمدفون في (دار أعلا من أرحب للتبرك به، وهددهم بأنهم إن لم يفعلوا ذلك فإنه سينقل رفاته إلى مكان آخر، فما كان من أهل أرحب إلا أن بنوا له قبة، ووضعوا على قبره تابوتاً) [3].
(1) هجر العلم (1/ 223) .
(2) المصدر السابق (1/ 225) .
(3) المصدر السابق (1/ 225) .
والخلاصة أن هناك جهوداً عملية قام بها أئمة وعلماء في هذه المناطق، وقضوا ما عليهم، وقاموا بما أمروا به، فمن كان منهم مخلصاً فأجره على الله، ومن كان له مقصد آخر؛ فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى.
المطلب الرابع: الجهود العملية المختلفة التي قام بها أناس مختلفون في سائر أنحاء اليمن:
إن الجهود العملية لتسوية القبور المشرفة كانت من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تزال إلى اليوم، وقد مر في الباب التمهيدي حديث علي -رضي الله عنه- حين قال لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) [1]، وهو يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذل جهوداً في محاربة القبور المشرفة، وكذلك علي -رضي الله عنه- في أيام خلافته وقبل ذلك في أيام عثمان حيث كان يتفقد المقابر بنفسه، ويأمر بتسويتها، وقد مر هناك.
ثم مازال ولاة الأمور يتابعون هدم ما بني في المقابر، كما صرح الإمام الشافعي -رحمه الله- بذلك في الأم ونقلته في الباب التمهيدي، وإنما تخاذل ولاة الأمر في ذلك بعد تمكن الباطنية من مقاليد الأمر في القرن الرابع كما مر كذلك، وفي القرون المتأخرة أصبح السلاطين يؤيدون القبورية؛ لأغراض سياسية فعمقوها وجذروها في الأمة، وأصبحت الجريمة ليست هي بناء المساجد والمشاهد على القبور، وإنما هدم وإزالة تلك الأبنية.
وبالمناسبة أقول: إنه لدينا في اليمن تجري السلطة على نفس منهج السلاطين المتقدمين من مجاراة للقبورية ومداهنة لهم، ونتوهم أنهما بذلك يكسبونهم ويكسبون الأمة من ورائهم، وهذا وهم كاذب، فالصوفية لا تحب هذا النظام أوتنصح له، وأكبر دليل ما حصل منها أثناء حرب الانفصال وكل الناس
(1) انظر الباب التمهيدي ( ... ) .
يعرفون موقفها من ذلك، وعندما يقوم فرد أو مجموعة من الغيوريين بتنفيذ أمر سول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسوون قبراً أو يهدمون مشهداً، تقوم عليهم الدنيا ولا تقعد ويساقون إلى السجون، وتشهر بهم الصحف المأجورة، ويتناولهم بأنواع السباب والشتائم من لا علم ولادين ولاخلق له، والعلة في ذلك حسب زعمهم هي: إثارة العوام، وإثارة القلاقل، والإخلال بالأمن، واحتمال وقوع الفتن والقتل، ونحو ذلك من العلل.
وأقول: إنه قد يحصل شيء من هذا، لكن أليس ما يقوم به القبورية اليوم على مرأى ومسمع من الجميع من بناء مشاهد جديدة وترميم وإصلاح المشاهد القديمة وبعث العادات والبدع القبورية الميتة، أليس هذا كله يستفز الأمة التي قد وعت وعرفت أن ذلك حرام ووسيلة من وسائل الشرك؟ وجميع المسؤولين والمهاجمين لمعارِض القبورية معترفون به، فإذن لِمَ تجوز الإثارة من قبلهم ولا تجوز من قبل معارضيهم؟ مع أنهم على باطل ومعارضوهم على حق باعتراف قيادات الأمن وقضاة المحاكم وأساطين الصحافة؟ هل لأن الدعاة لا يلجأون للإثارة وتهييج الجموع؟ والقبورية يتقنون ذلك؟ أم أن هناك إيحاءً بذلك من جهات لا نعرفها؟ يجب أن نسمع جواباً شافياً على هذا التساؤل وعدلاً وإنصافاً مع الأطراف المختلفة والتخلي عن محاباة طرف على حساب الآخر.
ويجب أن يزول كذلك وهم أن الصوفية القبورية ومن على شاكلتهم قادرون على أن يحققوا لبعض الأحزاب أهدافها، فوالله ماهم بفاعلين؛ لأنهم إنما يسعون لمصلحة مبادئهم ومناهجهم لالمصلحة أحد سواهم، ولو فرض إرادتهم نفع هذا الحزب أو ذاك فلم يعودوا قادرين عليه؛ لأن الأمة قد سحبت ثقتها منهم ولم يعد نفوذهم يسيّرها.
نماذج من تلك الجهود:
بعد هذه المقدمة التي أطلت فيها حيث لم أستطع تجاوز هذا الموضع بدونها أقول: (إن هناك نماذج مشرقة في مواجهة القبورية في اليمن مواجهة فعلية، وتقدم قريباً ما فعل علماء صنعاء عندما واتت الفرصة لهم، كما سبق في مبحث من مباحث هذا الباب، ما فعله القاضي العلامة عبدالله عوض بكير وزملاؤه أعضاء لجنة الشؤون الدينية حينما قامت اللجنة الشرعية وأعطي لها الصلاحيات من إزالة الكثير من مناكر الزيارات القبورية، وكذلك ما فعله بحكم منصبه القضائي من إغلاق لمشهد "علوية" بمدينة المكلا ومنع إقامة الحضرة فيه.
ولقد تساند بعض القضاة الصالحون مع بعض مسؤولي النواحي في -ما كان يعرف بالشطر الشمالي من اليمن- فقاموا بجهود مشكورة ومساندة للدعاة لإزالة بعض المشاهد وتسوية بعض القبور المعظمة وهاك مثالاً على ذلك وهو ما أخبرني به الأخ الشيخ محمد بن علي الغيلي من احتساب، قام به الشاب الغيور الداعية إلى الله في بلاد المحابشة من محافظة حجة الأستاذ الشهيد -إن شاء الله- "أحمد بن أحمد الأمين" مع مجموعة من إخوانه طلبة العلم والدعاة حيث قرروا إزالة هذه المشاهد وما يترتب عليها من مفاسد، وبدأوا بالتوعية والتهيأة لذلك، ثم اتصلوا بالعلماء فوجدوهم مجمعين على أن ذلك من البدع المنكرة، غير أنهم ما كان بمقدورهم الإفصاح عن ذلك، ثم اتصلوا بالمسؤولين "العامل والقاضي ومسؤول الأوقاف" ، وقد وافقهم الجميع، ثم أخذوا أمراً من القاضي "محمد بن علي الخزان" حاكم القضاء، هذا نصه:
(نأمر المذكورين المحررة أسماؤهم بالعزم بمعية الولدين محمد علي الغيلي، وأحمد الأمين لهدم مشهد "الصوفرة" ليزول الاعتقاد والفساد لدى العوام وفي ذلك عمل صالح تخدمون به الإسلام والعقيدة الحقة، اعتمدوا هذا.
11/شعبان سنة 1394 هـ حاكم القضاء
محمد بن علي الخزان
وذكر أسماء المكلفين بذلك، وقد نفذت العملية صبيحة يوم الرابع عشر من شعبان عام (1394 هـ) وذلك من قبل الشباب المذكورين، ومعهم عدد من الجنود المسلحين، ولم يحدث شيء يذكر من فتنة ولاغيرها ثم قضى على بقية المشاهد في المنطقة، والحمد لله رب العالمين.
هذا ملخص ما حكاه الشيخ محمد الغيلي حفظه الله، وصورة أمر القاضي موجودة لدي،
وإليك مثالاً ثانياً على المواجهة العملية للقبورية في اليمن من محافظة شبوة حيث قام مجموعة من المهاجرين إلى الحجاز الذين جالسوا علماء مكة والمدينة وعرفوا منهم الحق في موضوع القبورية قاموا بعمل ملفت حيث اتفقوا مع الشيخ الجليل والداعية المعروف الشيخ محمد بن عبدالوهاب البناء المصري أحد أعضاء جماعة أنصار السنة المحمدية، والذي كان مقيماً في المدينة حيناً وفي مكة حيناً آخر، اتفقوا أن يصحبوه إلى بلادهم للدعوة إلى الله عزوجل ونشر السنة والتوحيد وإصلاح ما أفسدته القبورية، فارتحل معهم وذلك قبيل استقلال البلد عن الاستعمار البريطاني بقليل، حتى وصلوا إلى بلادهم والتي كانت تسمى "سلطنة الواحدي" ومكثوا مدة طويلة فيها، يدعو الشيخ ويعلم الناس، وتلك المجموعة تناصره وتحميه، وقد اتصل بالمسؤولين والعلماء وكبار الناس في المنطقة، وكان لدعوته أثر طيب، منه قيام أولئك النفر ومن تأثر بهم بهدم بعض القباب والمشاهد وتسوية بعض القبور
المعظمة، ومنها القبر المزعوم والمنسوب إلى من قالوا أنه النبي (دانيال ابن هادون بن هود) ،ولا أدري كيف أجازوا إضافة نبي لم يخبر به كتاب ولاسنة ولا أثر صحيح، المهم اكتُشف القبر ورسخ في عقول ونفوس الناس أنه قبر هذا النبي "المزعوم" ، فصار مشهداً تقام له زيارة سنوية في رجب، وتحصل فيها اجتماعات وكرامات، هذا القبر الذي فتن الناس به، هدمه أولئك الرجال جزاهم الله خيراً [1].
ومن العجب -وكل أمر القبورية عجب- أن بعض الإخوة الذين عاصروا هدم ذلك القبر أخبرني أنه عندما هدمت القبة، وأزيل ما على القبر لم يوجد به أي قبر وإنما وجدوا صفاة صماء لا حفر فيها ولا أي أثر يدل على أنه قد دفن فيه أحد.
ومثال ثالث أخير على المواجهة العملية وهو من محافظة عدن، وهي الحادثة التي كان من نتائجها تسوية القبور المشرفة، وهدم القباب المرتفعة، وتحطيم التوابيت التي على قبور من يدعون أنهم أولياء، فيفتتن بهم عامة المسلمين، تلك الحادثة وقعت في عدن عقب انتهاء حرب الانفصال في عام (1415 هـ) والتي قام بها مجموعة كبيرة من شباب الصحوة من سائر فصائل العمل الإسلامي، بعد أن رتبوا أو على الأقل أبلغوا الجهات الأمنية ولم تجد معارضة لفعلهم، غير أنه وبعد يومين من بداية الحملة انعكس توجه الحكومة ويبدو أن ذلك كان تحت ضغوط داخلية وخارجية كبيرة، وبدأوا يلاحقون الشباب الذين شاركوا في تلك الحملة، وزجوا بمجموعة كبيرة منهم في السجون، وقد ضخمت تلك الحادثة في وسائل الأعلام تضخيماً كبيراً، ووصف القائمون بذلك العمل بشتى الأوصاف القبيحة من إرهابيين ومجرمين وجبناء وغير ذلك، وكان من نتيجة ذلك هدم قبة الهاشمي وتسوية ما بداخلها من القبور المشرفة وكذلك قبة العثماني وكلاهما في الشيخ عثمان، وتحطيم تابوت
(1) انظر ما جاد به الزمان من أخبار مدينة حبان تأليف السيد / محمد بن عبدالله بن محمد بن أبي بكر الحوت المحضار لم تذكر له دار نشر وتاريخ ص (33) .
العيدروس وما بجواره من القبور المشرفة، وعددها حوالي اثني عشر قبراً، ثم إخراج القبور من المساجد وهي قبر العراقي من مسجد حسين، وقبر مجاور للمسجد، وقبر المهدلي وقبر حسين الأهدل وقبر في مسجد العلوي بالقطيع وقبر الحامد من مسجد بالزعفران وتسوية قبر أو قبرين بـ (صيره) .
وربما كان هناك أخطاء في تلك الحملة قبل البدء فيها حيث لم ينظر بدقة إلى عواقب الأمر، وما سيترتب على ذلك العمل من نتائج وفي ظل أجواء مشحونة بالتوتر ووجود فئات مهزومة، لم يبقَ لها إلا سلاح الدعاية والإشاعات الخبيثه، وتوجه إعلامي كامل نحو اليمن إثر الحرب التي انتهت قبل أيام.
كما حصل أثناء الحملة بعض الأخطاء، مثل: الحفر عن بعض القبور، وإخراج جثث الموتى منها، ولا أدري في أي مكان دفنت بعد ذلك، فهذه بعض المفاسد وهي طفيفة، وأما المصالح فكانت كثيرة فمنها: امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخاص بتسوية القبور المشرفة، ومنها: إزالة أماكن المنكر والفتنة التي يضل بها فئام من الناس كل حين، ومنها: إقامة البرهان على كذب الدعاوى العريضة التي كان سدنة تلك المشاهد يرددونها حول الكرامات الخارقة التي يزعمونها لأولئك الأولياء، ومنها: هذه الكرامة التي ينسبونها للعيدروس حيث يقولون: (إن القطب أبابكر العيدروس كان يمازح الولي الشهير سعد السويني، والعيدروس بعدن، والسويني بحضرموت، إذ ضجر السويني من ممازحة العيدروس، فرماه بمسواكه فأقبل المسواك "كالصاروخ سكود" فاكتشفه العيدروس وأمر طلابه بأن يخفضوا رؤوسهم حتى لايصيبهم، ولكن المسواك ارتفع عن المسجد ومن فيه ووقع في الجبل القريب منهم فأحدث فتحة كبيرة، لاتزال موجودة إلى اليوم) ، هكذا يقولون للسذج من الناس ويصدقهم الكثير منهم، ويلغون عقولهم فلا يفكرون في إمكانية ذلك من عدم إمكانيته، فلما كسر التابوت وحطم أجزاء من المباني
حوله بل وحفر القبر ورفع الرفات المتبقي من تلك الجثة، أيقن العقلاء أن ذلك هراء ودجل صريح، فهذه الفائدة كبيرة جداً، وإن كان بعض المخدوعين مازالوا يعتقدون بتصرف العيدروس في الكون حياً وميتاً، ولم يعدم السدنة والمضللون من القبورية حيلاً يبررون بها ما جرى، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولعمري لقد أدى أولئك الشباب واجباً، وقاموا بفرض تخلى عنه الآخرون، فجزاهم الله خير الجزاء، وغفر لهم ما فيه من أخطاء.
ولقد تباينت ردود الأفعال كثيراً حول تلك الحادثة، وقال كلٌّ بما أراد أن يقول، إما عن اجتهاد أو هوى، وقد صدرت على إثر ذلك الحادث بيانات وكتبت مقالات، كان الغالب عليها مراعاة الحالة السياسية والوضع الذي تمر به البلاد والتأثر بما قامت به وسائل الإعلام العالمية من هجوم ضد منفذي هذه العملية، ولم أر من تلك البيانات والمقالات أكثر تجرداً، ولا أوضح تناولاً، ولا أنصح من بيان العلماء الذي سبق نقله في المبحث الثالث من هذا الفصل؛ لأن الموقعين عليه من العلماء العاملين والدعاة المخلصين والمتجردين من الضغوط والأهواء المختلفة، فهو بحق يمثل الموقف الشرعي الصحيح إزاء ذلك الحادث، ويعتمد على الأدلة الصحيحة والبراهين الناصعة، فجزى الله من أصدره خير الجزاء.
الخاتمة
الحمد لله الذي أتم عليَّ نعمه، ووالى عليَّ مننه، وأعانني فأكملت هذا البحث بهذه الصورة التي أرجو أن أنال بها رضاه، وأن يكون البحث نافعاً محققاً للغرض منه، وقد توصلت من خلاله إلى عدة نتائج من أهمها:
1. أن بني آدم كانوا على التوحيد الكامل حتى طرأ عليهم الشرك وذلك بالغلو في الصالحين ولم يعرف شرك في البشرية قبل ذلك.
2. أن اليهود والنصارى واليونان كانوا قبورية متعلقين بالقبور معظمين لها معتقدين فيها عقائد باطلة وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأمة ستتبعهم في ذلك.
3. أن العرب كانوا موحدين على ملة أبيهم إبراهيم، حتى حرفهم عمرو بن لحي الخزاعي وكان من أسباب انحرافهم الغلو في بعض البشر، كما حصل عندما أحبوا (اللات) وعظموا موضعه، ثم اتخذوه إلهاً، وبالغلو في آثار الأنبياء حتى عظموا الحرم وحملوا حجارته معهم تعظيماً له، ثم أنهم عبدوا تلك الأحجار بعد مدة.
4. أن الشرك بعد ذلك عمّ جزيرة العرب والعالم كله حتى مقتهم الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب ومعهم عدد قليل من حنفاء العرب.
5. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت إلا وقد طهر الجزيرة العربية من الشرك وعلم أمته طرق حماية التوحيد وحذرهم من الشرك ووسائله أبلغ تحذير.
6. أن القرون المفضلة كانت خالية من جميع مظاهر القبورية، وأن الصحابة والتابعين وأتباعهم من علماء وأمراء عملوا على إزالة أي مظهر من مظاهر القبورية المتمثلة في البناء على القبور، وتعظيمها بأي نوع من أنواع التعظيم حتى أن الخلفاء والأمراء كانوا يتولون ذلك بأنفسهم أو بوكلائهم، وأن ما يستدل به القبورية على وجود مبان وقبور مرتفعة في ذلك الوقت إنما هو مجرد شبه لا وزن لها
7. أن الشيعة كانوا يحاولون منذ زمن مبكر إنشاء مبان على قبر الحسين - رضي الله عنه - وإقامة مراسيم بدعية له، ولكن الخلفاء كانوا يمنعونهم من ذلك، ويشددون في المنع، ويزيلون ما يحدث في حين الغفلة، وأن ذلك كان بدافع الحرص على منع الابتداع في الدين وليس كما يقول الرافضة بسبب بغض الحسين وأهل بيته.
8. أن الشيعة الغالية من رافضة وإسماعيلية وباطنية هم الذين أنشأوا المظاهر القبورية في العالم الإسلامي ضمن بدع كثيرة ابتدعوها حينما حكموا بلاد المسلمين أواخر القرن الثالث وسائر القرن الرابع وبعض الخامس وأن تلك المظاهر قد ألفها المسلمون منذ ذلك الحين ولذلك فإن الدول السنية التي جاءت بعدهم قد قلدتهم في ذلك ونشرت تلك المظاهر في البلاد التي لم تصلها الدولة الشيعية.
9. أن الصوفية المتأخرة القائمة على الفلسفة هي نبته غريبة على الإسلام ولا علاقة لها بالزهد الذي حث الشرع عليه، وليس لها قدوة من صحابي أو تابعي أو إمام معتبر من أئمة المسلمين.
10. لقد أخذت باطنية الشيعة جملة من العقائد عن الفلاسفة وغيرهم من الأمم الكافرة وطبقتها على أئمتها وصاغتها صياغة تناسب ملتها ثم نشرتها بين اتباعها وحملتهم عليها ثم إن المتأخرين من الصوفية أخذوا ذلك عنهم ودمجوه في منهجهم وعملوا به واعتقدوه ومن ذلك عقيدة القطبية والتصرف في الكون التي انبثقت عنها معظم العقائد الضالة في الأولياء والكرامات.
11. كما أخذت الباطنية الشيعية والصوفية بعلة الزيارة التي قررها الفلاسفة وأصبحوا يزورون القبور بمقتضاها لا بمقتضى العلة الشرعية التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته وتلك العلة المأخوذة عن الفلاسفة هي الاستشفاع والاستمداد من أرواح الأموات المزورين واعتقاد أنها تمد من استمد منها
12. إن الصوفية الغالية الحريصة على إظهار الخوارق وعدها كرامات تدل على ولاية من جرت على يديه قد اخذوا بعدد من علوم السحر واستخدموها ونشروها في الأمة ومنهم من كان يعاني أنواعاً من الرياضات للوصول للكشف وخرق العادة على طريقة سحرة الهند وغيرهم.
13. ليس ما ذكرته عن الصوفية منطبقاً على كل من انتمى إليهم أو وصف بولاية منهم، بل ممن نسب إليهم مَن هو برئ مما نسب إليه، وهناك من اعتقد عقائدهم وعمل ببدعهم؛ تقليداً لهم وإحساناً للظن بهم، فهؤلاء أمرُهم إلى الله، وأما ما نسب إليهم من ذلك فهو باطل وانحراف وهو إدانة للمنهج الصوفي ودليل على بطلانه؛ لأن الصوفية هم الذين نسبوا ذلك إلى شيوخهم ونشروه مرتضين له، بل يعدونه من أعظم فضائلهم.
14. أثبتت هذه الدراسة أن أهل اليمن كانوا على منهاج السلف الصالح في عقيدتهم وأحكامهم وأن مصادر علمهم هي كتب السنة قبل دخول الكتب الفقهية والمذاهب المختلفة وكتب الفرق المخالفة لذلك المنهج، وأن منهج السلف الصالح ظل قائما ًحتى بداية القرن الثامن في البلاد الشافعية وأنه ما كاد يغلب على تلك البلاد المذهب الأشعري حتى قام منهج السلف الصالح في البلاد الزيدية على يد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير وأتباعه وهذا المنهج ما زال قائماً إلى اليوم والحمد لله.
15. كما عرفنا أن جميع المذاهب المخالفة لمذهب السلف الصالح إنما هي وافدة على اليمن وليست أصيلة فيه وأن الصوفية القبورية لم تعرف بفلسفتها المبتدعة في اليمن إلا منذ القرن السادس ولم تستقر ولم تنتشر إلا في القرن السابع.
16. أن جميع ما لدى صوفية العالم الإسلامي من عقائد ضالة وبدع باطلة ومخالفات ظاهرة أو خفية أو دعاوى وشطح كل ذلك قد قلدهم فيه صوفية اليمن في وقت ما أو مكان ما.
17. كما أظهرت الدراسة أن لسلاطين اليمن السنيين وأئمته الزيديين دوراً كبيراً في نشر القبورية وتعميقها في البلاد
18. كما أظهرت الدراسة أن لوجود القبورية وانتشارها آثاراً سيئة كثيرة منها:
أ) إفساد عقائد كثير من الناس بالشرك الأكبر والأصغر لتعلقهم بالأولياء وإيهامهم أنهم يمدون من استمد منهم، ويعطون من دعاهم، وينفعونهم ويضرونهم بما لا يقدر عليه إلا الله.
ب) نشر الخرافة في الأمة حتى أصبحت جزءاً من حياتها.
ج) نشر السحر واستخدامه باسم الكرامة والولاية، حتى أصبحت تقرأ عن أولياء يوصفون بأوصاف جليلة جداً، وتنسب إليهم كرامات عظيمة، وربما في نفس الترجمة يوصف بأنه يتقن علم أسرار الحروف والأوفاق والرمل وما أشبه ذلك، ويتصرف بها وهي من علوم السحر والكهانة مما يجعل الباحث في شك كبير من غالب أولئك الأولياء وتلك الكرامات لاختلاط الكرامة بالسحر والكهانة وعدم التقيد في صفة الأولياء بالضوابط الشرعية.
د) كما أنه ترتب على ذلك نقص العلم الشرعي وتجهيل الأمة وحصر التعلم في فئات محدودة.
هـ) وترتب على ذلك أيضاً وجود تمايز طبقي وترفّع بعض الفئات على بعض مما كان له نتائج سيئة على المجتمع.
19. واجه علماء اليمن القبورية وتصدوا لها رغم ما كانت تقوم به من أساليب كثيرة لمواجهة هؤلاء العلماء، منها اللجوء إلى السلطان، وتسخير القبائل لضرب من ينازعها واستخدام الاختراق والاحتواء والتشويه للخصم، وقد يصل الأمر إلى التصفية الجسدية أو الضرب المبرح.
19. لعلماء اليمن مؤلفات قيمة نافعة في مواجهة القبورية كتبها علماء من سائر الجهات اليمنية. 020 لقد كان لحركات التجديد السنية أثرها البالغ على القبورية في اليمن من حيث كبح جماحها،
وتبصير الناس بمعايبها، وصدهم عن متابعتها، والحركات التي كان لها بالغ الأثر هي مدرسة
التجديد والاجتهاد التي ابتدأها ابن الوزير وتبعه عليها ابن الأمير والشوكاني وغيرهم من علماء
اليمن ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، ودعوة الإرشاد بإندونيسيا، وقد ترتب على
ظهور هذه الدعوات هدم الكثير من المشاهد والقباب المقامة على أضرحة الأئمة والأولياء في
فترات مختلفة.
هذه أهم النتائج التي خرجت بها، ولا شك أن هناك فوائد ونتائج أخرى سيلمسها القارئ من خلال مطالعته لهذه الرسالة، أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، سالمة من الأغراض والأهواء، نافعة لي ولإخواني المسلمين إنه سميع مجيب، والحمد لله أولاً وآخراً.
