Kitab Al-Risalah Imam Syafi'i Juz 3

Kitab Al-Risalah Imam Syafi'i Juz 3 الحجة في تثبيت خبر الواحد [باب الإجماع] : [القياس] [باب الاجتهاد] [باب الاستحسان] [باب الاختلاف] [أقاويل الص

Kitab Al-Risalah Imam Syafi'i Juz 3

Nama kitab: Al-Risalah
Penulis, pengarang:   Imam Syafi'i
Judul kitab asal:   الرسالة   للإمام المطلبي محمد بن ادريس الشافعي 
Lahir: Tahun 150 H, Gaza, Palestina
Wafat: 204 H, di Kairo, Mesir.
Bidang studi: Usul Fiqih madzhab Syafi'i  


  الرسالة

للإمام المطلبي محمد بن ادريس الشافعي 150 - 204

عن أصل بخط الربيع بن سلمان كتبه في حياة الشافعي

(( لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني، لانني رأيت رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له. ))

عبد الرحمن بن مهدي

بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر

Daftar Isi

  1. Al-Muqaddidmah
  2. Al-Juz al-Awwal 
  3. Al-Juz al-Thani (Tsani)
  4. ِAl-Juz al-Salis (Tsalits, Thalith) 
  5. Download Kitab Al-Risalah versi Arab (تحميل الرسالة للشافعي) 
  6. Download Terjemah Al-Risalah  

 الجزء الثالث

الحجة في تثبيت خبر الواحد

[باب الإجماع] :

[القياس]

[باب الاجتهاد]

[باب الاستحسان]

[باب الاختلاف]

[أقاويل الصحابة]

[منزلة الإجماع والقياس] 

 

قال "أبو القاسم عبد الرحمن بن نصر" قال: نا "أبو علي الحسن بن حبيب"

قال: نا "الربيع بن سليمان" قال: أنا الشافعي:

بسم الله الرحمن الرحيم

قال: ولمْ يُحْظَرْ أن يجوزَ أقلُّ مِن ذلك، فأجَزْنَا ما أجاز المسلمون، ولم يكن هذا خِلافاً لِلْقرآن.

قلنا: فهكذا قلْنَا في تثبيت خبر الواحد، استدلالاً بأشياءَ كلُّها أقْوَى مِن إجازة شَهادَةِ النِّساء.

فقال: فهل مِن حُجَّةٍ تُفَرِّقُ بين الخبر والشهادة سِوى الاتِّباع؟

قلتُ: نعم، ما لا أعْلَمُ مِن أهل العلم فيه مُخالِفًا.

- [391] - قال: وما هو؟

قلت: العدْلُ يكون جائزَ الشهادَة في أمورٍ، مَرْدُودُهَا في أُمور.

قال: فأيْنَ هو مَرْدُودُها؟

قلت: إذا شَهِدَ في مَوْضعٍ يَجُرُّ به إلى نَفْسِه زيادةً، مِنْ أيِّ وَجْهٍ ما كان الجَرُّ، أو يَدْفَع بها عن نفسه غُرْمًا أو إلى ولَده أو والِده، أو يدْفَع بها عنْهما، ومواضِعِ الظِّنَنِ سِواها.

وفيه في الشهادة: أنَّ الشاهِد إنما يَشْهَدُ بها على واحِدٍ لِيُلْزِمَهُ غُرْمًا أو عُقُوبةً، وللرجل ليُؤْخَذَ له غُرْمٌ أو عقوبة، - [392] - وهو خَلِيٌّ مما لَزِمَ غيْرَه مِن غُرْم، غيرُ داخِل في غُرْمِه ولا عقوبته، ولا العارِ الذي لزمه، ولعله يجرُّ ذلك إلى مَن لَعَلَّهُ أن يكون أشدَّ تَحامُلاً له منه لوَلَده أو والِده، فيُقْبَلُ شهادتُه، لأنه لا ظِنَّةَ ظاهِرةًٌ كظِنَّته في نفْسِه وولده ووالده، وغيرِ ذلك مما يَبِينُ فيه مِن مَواضع الظِّنَنِ.

والمُحَدِّثُ بما يُحِلُّ ويحرِّم لا يجرُّ إلى نفسه ولا إلى غيره، ولا يَدْفع عنها ولا عن غيره، شيئاً مما يَتَمَوَّلُ الناسُ، ولا مما فيه عقوبةٌ عليهم ولا لهم، وهو ومَنْ حدَّثه ذلك الحديث من المسلمين: سواءٌ، إن كان بأمرٍ يُحِلُّ أو يُحرِّم فهو شريكُ العامَّة فيه، لا تختلف حالاته فيه، فيكونَ ظَنِينًا مرَّةٍ مَرْدُودَ الخبر، وغيرَ ظنينٍ أُخْرَى مَقْبُولَ الخبر، كما تختلف حال الشاهِد لعوامِّ المسلمين وخواصِّهِمْ.

- [393] - وللناس حالاتٌ تكون أخبارُهم فيها أصحَّ وأحْرَى أن يَحْضُرَها التَّقْوَى منها في أُخرى، ونِيَّاتُ ذوي النِيَّات فيها أصحُّ، وفِكرُهم فيها أدْوَمُ، وغفلتُهم أقلُّ، وتلك عند خوْف الموْت بالمرض والسفر، وعند ذِكْرِه، وغير تلك الحالات من الحالات المُنَبِّهَةِ عَن الغفْلة.

فقلتُ له: قد يكون غيرُ ذي الصِّدْق مِن المسلمين صادقاً في هذه الحالات، وفي أن يُؤْتَمَنَ على خبر، فيُرَى أنه يُعْتَمَدُ على خبره فيه، فيَصْدُقُ غايَةَ الصِّدْقِ، إن لم يكن تقْوى فحَيَاءً مِن أن يُنْصَبَ لأمانَة في خبر لا يَدْفَعُ به عن نفسه ولا يَجُرُّ إليها: ثم يَكْذِبُ بعْدَه، أو يَدَعُ التحَفُّظَ في بعض الصدق فيه.

- [394] - فإذا كان موجوداً في العامة وفي أهل الكذب الحالاتُ يَصْدُقون فيها الصدقَ الذي تَطِيب به نفسُ المحدثين: كان أهل التقوى والصدق في كل حالاتهم أولى أن يتحفظوا عند أولى الأمور بهم أن يتحفظوا عندها، في أنهم وُضِعُوا مَوْضِع الأمانة، ونُصِبُوا أعْلامًا لِلدين، وكانوا عالِمِين بما ألْزَمَهُم اللهُ مِن الصدق في كلِّ أمْر، وأن الحديث في الحلال والحرام أعْلى الأمور وأبْعَدُها مِن أن يكون فيه موضعُ ظِنَّةٍ، وقد قُدِّمَ إليهم في الحديث عن رسول الله بشيء لم يُقَدَّم إليهم في غيره، فوُعِدَ على الكذب على رسول الله النارُ.

"عبد العزيز" عن "محمد بن عَجلان" عن "عبد الوهَّاب بن - [395] - بُخْتٍ" عن "عبد الواحد النَّصْرِي" عن "واثلة بن الأسْقَعِ" عن النبي قال: "إنَّ أَفْرَى الفِرَى مَنْ قَوَّلَنِي مَا لَمْ أَقُلْ، ومَنْ أرَى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَى، وَمَنِ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ" (1) .

- [396] - "عبد العزيز" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" أنَّ رسول الله قالَ: "مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (2) .

"يحيى بن سُلَيْمٍ" عن "عبيد الله بن عمر" عن "أبي بكر بن سالم" عن "سالم" عن "ابن عمر" أن النبي قال: "إنَّ الَّذِي يَكْذِبُ عَلَيَّ يُبْنىَ لَهُ بَيْتٌ فِي النَّارِ" (3) .

- [397] - حدثنا "عمرو بن أبي سلمة" عن "عبد العزيز بن محمد" عن "أُسِيدٍ بن أبي أُسيد" عن أمه قالتْ: قلتُ "لأبي قتادة" : مَا لَكَ لاَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسثولِ اللهِ كَمَا يُحَدِّثُ النَّاسُ عَنْهُ؟ قالت: فقال: "أبو قَتادةَ" سمعت رسول الله يقول: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلْتَمِسْ لِجَنْبِهِ مَضْجَعًا مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَمْسَحُ الأَرْضَ بَيَدِهِ" (4) .

"سفيان" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" أنَّ رَسُولُ اللهِ قَالَ: "حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، - [398] - وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ" (5) .

وهذا أشدُّ حديثٍ رُوِيَ عن رسول الله في هذا، وعليه اعْتَمدنا مع غيره في أنْ لا نقبَلَ حديثًا إلاَّ مِنْ ثِقة، ونعْرِفَ صدقَ مَنْ حَمَلَ الحديثَ مِن حينِ ابْتُدِئَ إلى أن يُبْلَغَ به مُنْتَهَاه.

(1) رواه البخاري كتاب المناقب. باب: نسبة اليمن إلى إسماعيل. رقم 3318، وأحمد في مسند الشاميين 4/106 والشافعي في المسند 650.

(2) هذا حديث متواتر روي بألفاظ كثيرة عن عدد من الصحابة.

(3) إسناده صحيح ورواه أحمد من هذا الطريق رقم 4742 - 5798 - 6309

(4) ذكره في كنز العمال وعزاه للشافعي والبيهقي في المعرفة (29226)

(5) روي عن عدد من الصحابة بأسانيد صحاح رواه أحمد عن أبي هريرة 11108 ومواضع.

فإن قال قائل وما في هذا الحديث من الدلالة على ما وصفت؟

قيل: قد أحاط العلم أن النبي لا يأمر أحداً بحال أبداً أن يكذب على بني إسرائيل، ولا على غيرهم، فإذ أباح الحديث - [399] - عن بني إسرائيل أن يقبلوا الكذب على بني إسرائيل أباح، وإنما أباح قبول ذلك عن من حدَّث به ممن يُجهل صدقه وكذبه.

ولم يُبِحْه أيضاً عن من يُعرف كذبه لأنه يُروى عنه أنه "مَن حدَّث بحديث، وهو يُرَاه كذباً فهو أحد الكاذِبَين" (1) ومَن حدَّث عن كذاب لم يبرأ من الكذب؛ لأنه يرى الكذاب في حديثه كاذباً

ولا يُستدل على أكثرِ صدق الحديث وكذبه إلا بصدق اُلمخبِر وكذبه، إلا في الخاصِّ القليل من الحديث، وذلك أن يُستدل على الصدق والكذب فيه بأن يُحَدِّث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أَثبتُ وأكثرُ دلالاتٍ بالصدق منه.

- [400] - وإذ فرق رسول الله بين الحديث عنه، والحديث عن بني إسرائيل فقال: "حدثوا عني ولا تكذبوا علي" : فالعلم - إن شاء الله - يحيط أن الكذب الذي نهاهم عنه هو الكذب الخفي. وذلك الحديث عمن لا يُعرف صدقه؛ لأن الكذب إذا كان منهياً عنه على كل حال، فلا كذب أعظم من كذبٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحجة في تثبيت خبر الواحد

قال "الشافعي:" فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنصِّ خبر أو دلالةٍ فيه أو إجماعٍ.

فقلت له أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: "نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يَُغِلُّ - [402] - (1) عليهن قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، والنصيحةُ للمسلمين، ولزوم، جماعتهم، فإنّ دعوتهم تحيط من روائهم" . (2)

فلما نَدَب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظِها وأدائها امرأً يؤديها، والامْرُءُ واحدٌ: دلَّ على أنه لا يأمر - [403] - أن يُؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يُؤدَّى عنه حلال وحرام يُجتَنَب، وحدٌّ يُقام، ومالٌ يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دينٍ ودنيا.

ودل على أنه قد َححمل الفقهَ غيرُ فقيه، يكون له حافظاً، ولا يكون فيه فقيهاً.

وأمْرُ رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يُحتج به في أن إجماع المسلمين - إن شاء الله - لازمٌ.

أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال: قال النبي: "لا أُلفِيَنَّ أحدكم متّكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما نهيت عنه - [404] - أو أمرت به، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (3)

قال ابن عيينة: وأخبرني محمد بن المنكدر عن النبي بمثله مرسلاً.

وفي هذا تثبيتُ الخبر عن رسول الله وإعلامُهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا له نصَّ حكمٍ في كتاب الله، وهو موضوع في غير هذا الموضع.

أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أن رجلاً قبَّل امرأته وهو صائم، فَوَجَد من ذلك وجْداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أمِّ المؤمنين، فأخبرتها، فقالت أم سلمة: إن رسول الله يقبِّل وهو صائم. فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثلَ رسول الله، يُحِل الله لرسوله ما شاء. فرجعت المرأة إلى - [405] - أم سلمة فوجدت رسول الله عندها، فقال رسول الله: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة، فقال: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرتْه فزاده ذلك شراً، وقال: لسنامثل رسول الله، يُحل الله لرسوله ما شاء. فغضب رسول الله ثم قال:

والله إني لأتقاكم لله، ولأعلمكم بحدوده ""

وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذِكر مَن وصله. (3)

(1) يغل بفتح الياء وضمها مع كسر العين فالفتح من الغل وهو الحقد، والضم من الإغلال وهو الخيانة.

(2) رواه البيهقي في المدخل. ورواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت. كما في مشكاة المصابيح.

(3) وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء عن رجل من الأنصار وأحمد في المسند 5/434 وانظر مجمع الزوائد 3/166

قال "الشافعي:" في ذكر قول النبي صلى الله عليه: "ألَّا أخبرتيها أني أفعل ذلك" دلالةٌ على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي إلا وفي خبرها ما تكون الحجةُ لمن أخبرتْه.

وهكذا خبرُ امرأته إن كانت من أهل الصدق عنده.

أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "بينما الناس بقُباءٍَ في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال: إن رسول الله قد أُنزل عليه قُرَآن وقد أُمر أن يستقبل القبلة فاستقبَِلوها وكانت وجوههم إلى الشأْم فاستداروا إلى الكعبة"

وأهلُ قباءٍَ أهلُ سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلةٍ فرض الله عليهم استقبالها.

- [407] - ولم يكن لهم أن يَدَعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله، ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعاً من رسول الله ولا بخبر عامّةٍ، وانتقلوا بخبر واحد، إذا كان عندهم من أهل الصدق: عن فرضٍ كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي أنه أَحدث عليهم من تحويل القبلة.

ولم يكونوا ليفعلوه - إن شاء الله - بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبُت بمثله، إذا كان من أهل الصدق.

- [408] - ولا ليُحدثوا أيضاً مثل هذا العظيم في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثَه.

ولا يدعون أن يخبروا رسول الله بما صنعوا منه.

ولو كان ما قَبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة، وهو فرض: مما يجوز لهم، لقال لهم - إن شاء الله - رسول الله: قد كنتم على قبلةٍ، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة من سماعكم مني، أو خبرِ عامةٍ أو أكثرَ من خبر واحد عني.

أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة - [409] - عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجرَّاح وأُبيَّ بن كعب شراباً من فضيخٍ (1) وتمرٍ، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حُرِّمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجِرار فاكسرها، فقمت إلى مِهْراسٍ (2) لنا، فضربتُها بأسفلِه حتى تكسَّرت ". (3) "

وهؤلاء في العلم والمكان من النبي وتَقَدُّمِ صحبته بالموضع الذي لا يُنكِره عالم.

وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة - وهو مالك - [410] - الجرار - بكسر الجرار، ولم يقل هو، ولاهم، ولا واحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله مع قربه منا أو يأتينا خبر عامَّة.

وذلك أنهم لا يُهرِيقون حلالاً، إهراقُه سَرَفٌ، وليسوا من أهله.

والحال في أنهم لا يدَعون إخبار رسول الله ما فعلوا، ولا يَدَع - لو كان قبِلوا من خبر الواحد ليس لهم: أن ينهاهم عن قبوله.

وأمر رسول الله أنيساً أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زَنَت، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها.

وأخبرنا بذلك مالك وسفيان عن الزهري - [411] - عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وساقا عن النبي. وزاد سفيان مع أبي هريرة وزيد بن خالد: شِبْلاً. (4)

أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد عن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزُّرَقي عن أمه قالت: "بينما - [412] - نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جملٍ يقول: إن رسول الله يقول: إن هذه أيامُ طعام وشراب، فلا يصومنَّ أحد، فاتبع الناسَ وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك."

ورسول الله لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبرُه عن النبي، بصدقه عن المنهيين عن ما أخبرهم أن النبي نهى عنه.

ومع رسول الله الحاجُّ، وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافهَهُم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق.

وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمةٌ بقبول خبره عن رسول الله.

(1) شراب يُتّخذ من البسر المشدوخ.

(2) حجر مستطيل منقور يُتَوضأ منه ويدقّ فيه.

(3) رواه البخاري: في الأشربة، وفي خبر الواحد، ومسلم: في الأشربة.

(4) شِبل بن معبد وقيل: ابن خليد وقيل: غير ذلك. وانفرد بذكر (شبل) ابن عيينة. قال ابن حجر في التهذيب: (( ولم يتابع على ذلك. رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال النسائي: الصواب الأول، قال: وحديث ابن عيينة خطأ، وروى البخاري حديث ابن عيينة فأسقط منه شبلاً ))

فإذا كان هكذا مع ما وصفتُ من مقدرة النبي على بعثه جماعةً إليهم: كان ذلك - إن شاء الله - فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم، وأمكن فيهم: أولى أن يَثبت به خبر الصادق.

أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن خالٍ له - إن شاء الله - يقال له: يزيد بن شيبان قال: كنا في موقف لنا بعرفة يُباعده عمروٌ من موقف الإمام جداً، فأتانا ابن مِرْبَع الأنصاري فقال لنا: أنا - [414] - رسول رسول الله إليكم: يأمركم أن تقفوا على مشاعركم، فإنكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم.

وبعث رسول الله أبا بكر والياً على الحج في سنة تسع، وحضره الحج من أهل بلدان مختلفة، وشعوب متفرقة، فأقام لهم مناسكهم، وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم.

وبعث عليَّ بن أبي طالب في تلك السنة، فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من {سورة براءة} ، ونبذ إلى قوم على سواءٍ وجعل لهم مدداً، ونهاهم عن أمور.

- [415] - فكان أبو بكر وعليٌّ معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان من جَهِلَهما أو أحدَهما من الحاجّ وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما.

ولم يكن رسول الله ليبعث إلا واحداً الحجةُ قائمة بخبره على من بعثه إليه، إن شاء الله.

وقد فرَّق النبي عمّالًا على نواحي، عرفنا أسماءهم، والمواضع التي فرّقهم عليها.

فبعث قيسَ بن عاصم والزِّبرقانَ بن بدر وابن نُوَيرة إلى عشائرهم بعلمهم بصدقهم عندهم.

- [416] - وقدِم عليهم وفد البحرين، فعرفوا من معه، فبعث معهم ابن سعيد بن العاص.

وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وأمره أن يقاتل مَن أطاعه مَن عصاه، ويعلِّمهم ما فرض الله عليهم، ويأخذ منهم ما وجب عليهم لمعرفتهم بمعاذ، ومكانِه منهم وصدقِه.

وكل من ولَّى فقد أمره بأخذ ما أوجب الله على من ولَّاه عليه.

ولم يكن لأحد عندنا في أحدٍ ممن قدِم عليه من أهل - [417] - الصدق: أن يقول: أنت واحد وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يذكر أنه علينا.

ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي التي بعثهم إليها بالصدق: إلا لِمَا وصفتُ من أن تقوم بمثلهم الحجةُ على من بعثه إليه.

وفي شبيهٍ بهذا المعنى أمراءُ سرايا رسول الله: فقد بعَث بَعْث مؤتةَ فولَّاه زيدَ بنَ حارثة، وقال: فإن أصيب فجعفرٌ، فإن أصيب فابنُ رواحة. وبعث ابنَ أُنيس سريَّةً وحدَه.

وبعث أمراء سراياه، وكلُّهم حاكم فيما بعثه فيه؛ لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة، ويقاتلوا من حلَّ قتاله.

وكذلك كلُّ والي بعثه أو صاحبِ سريَّة.

- [418] - ولم يزل يمكنُه أن يبعث واليين وثلاثة وأربعة وأكثر.

وبعث في دهرٍ واحد اثنى عشر رسولاً إلى اثنى عشر ملكاً، يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة، وقامت عليه الحجة فيها، وألاّ يكتب فيها دلالاتٍ لمن بعثهم إليه على أنها كتُبُهُ.

وقد تحرّى فيهم ما تحرى في أمرائه: من أن يكونوا معروفين، فبعث دَِحْية إلى الناحية التي هو فيها معروف.

ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول كان عليه طلبُ علمِ أن النبي بعثه ليستبرىء شكَّه في خبر رسول الله، وكان على الرسول الوقوفُ حتى يستبرئه المبعوثُ إليه.

- [419] - ولم تزل كتب رسول الله تَنْفُذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته تركُ إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقاً عند من بعثه إليه.

وإذا طلب المبعوثُ إليه عِلمَ صدقه وَجَدَه حيث هو.

ولو شك في كتابه بتغييرٍ في الكتاب أو حالٍ تدل على تهمةٍ، من غفلة رسولٍ حَمَلَ الكتابَ: كان عليه أن يطلب علم ما شك فيه حتى يُنفِذَ ما يَثبت عنده من أمر رسول الله.

وهكذا كانت كتب خلفائه بعده وعمالُهم، وما أجمع المسلمون عليه: من أن يكون الخليفة واحداً والقاضي واحدٌ، والأمير واحدٌ، والإمامُ.

فاستخلفوا أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمرَ، - [420] - ثم عمرُ أهلَ الشورى ليختاروا واحداً، فاختار عبدُ الرحمن عثمانَ بن عفان.

قال: والولاة من القضاة وغيرهم يقضون، فتَنفُذُ أحكامهم، ويقيمون الحدود، ويُنفِذُ مَن بعدهم أحكامهم، وأحكامُهم أخبارٌ عنهم.

ففيما وصفتُ من سنة رسول الله، ثم ما أجمع المسلمون عليه منه: دلالةٌ على فرقٍ بين الشهادة والخبر والحكم.

ألا ترى أن قضاء القاضي على الرجل للرجل إنما هو خبر يخبر به عن بينة تثبت عنده، أو إقرار من خصمٍ به أقر عنده، - [421] - وأنفذ الحكم فيه، فلما كان يلزمه بخبره أن يُنفِذَهُ بعلمه كان في معنى المخبِرِ بحلال وحرام، قد لزمه أن يُحِلَّه ويحّرمه بما شهد منه.

ولو كان القاضي المخبرُ عن شهودٍ شهدوا عنده على رجل لم يُحاكَم إليه، أو إقرارٍ من خصم لا يلزمه أن يحكم به، لمعنى أنْ لم يُخاصَم إليه، أو أنه ممن يُخاصَم إلى غيره، فحكم بينه وبين خصمه ما يلزم شاهداً يشهد على رجل أن يأخذ منه ما شُهِدَ به عليه لمن شُهِدَ له به: كان في معنى شاهدٍ عند غيره، فلم يقبل - قاضياً كان أو غيرَه - إلا بشاهد معه كما لو شهد عند غيره لم يقبله إلا بشاهد، وطلب معه غيره، ولم يكن لغيره إذا كان شاهداً أن يُنفِذَ شهادته وحده.

- [422] - أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيَّب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمسَ عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست.

قال "الشافعي" : لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبي قضى في اليد بخمسين وكانت اليد خمسة أطراف مختلفةِ الجمال والمنافع: نزَّلها منازِلَها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقَدْره من دية الكفِّ، فهذا قياس (1) على الخبر.

فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم فيه: أن رسول الله قال: وفي كل إصبع مما هنالك عشرٌ من الإبل صاروا إليه.

ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم -- [423] - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله.

وفي الحديث دلالتان: أحدهما: قبول الخبر، والآخر: أن يُقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمضي (2) عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا.

- [424] - ودلالةٌ على أنه مضى أيضاً عملٌ من أحد من الأئمة، ثم وَجَدَ خبراً عن النبي يخالف عملَه لترك عمله لخبر رسول الله.

ودلالةٌ على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده.

ولم يقل المسلمون قد عَمِل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافَه ولا غيرُكم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم، من قبول الخبر عن رسول الله، وترك كل عمل خالفه.

ولو بلغ عمرَ هذا صار إليه - إن شاء الله - كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله وتأديته الواجبَ عليه، في اتباع أمر رسول الله، وعلمه وبأنْ ليس لأحد مع رسول الله - [425] - أمرٌ، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله.

(1) أي استنباط مبني على التعليل، وليس معناه القياس الاصطلاحي.

(2) هكذا بإثبات الياء وقدّمنا مراراً توجيهه.

فإن قال قائل: فادلُلْني على أن عمر عمل شيئاً، ثم صار إلى غيره بخبرٍ عن رسول الله.

قلت: فإن أوجدْتُكَهُ؟

قال: ففي إيجادكَ إياي ذلك دليل على أمرين: أحدهما: أنه قد يقول من جهة الرأي إذا لم توجد سنة، والآخر: أن السنة إذا وُجدت وجب عليه ترك عمل نفسه، ووجب على الناس ترك كل عمل وُجدت السنة بخلافه، وإبطالُ أن السنة لا تثبت إلا بخبرٍ بعدها، - [426] - وعُلم أنه لا يُوهِنُها شيء إن خالفها.

قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً. حتى أخبره الضّحّاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يُوَرِّث امرأة أَشْيَمَ الضِّبَابيِّ من ديته، فرجع إليه عمر.

وقد فَسَّرت هذا الحديث قبل هذا الموضع. (1)

سفيان عن عمرو بن دينار وابن طاوس عن - [427] - طاوس: أن عمر قال: أُذَكِّرُ اللهَ امرأً سمع من النبي في الجنين شيئاً، فقام حَمَلُ بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي - يعني ضرتين - فضربت إحداهما الأخرى بِمِسْطَح (2) فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله بِغُرَّةٍ (3) . فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره.

وقال غيره: إن كِدْنا أن نقضي في مثل هذا برأينا. (4)

- [428] - فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضّحّاك إلى أن خالف حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لَقَضَى فيه بغيره، وقال: إن كِدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.

قال "الشافعي" : يخبر - والله أعلم - أن السنة إذا كانت موجودة بأن في النفس مائةً من الإبل، فلا يعدو الجنين أن يكون حياً فيكونَ فيه مائةٌ من الإبل، أو ميتاً فلا شيء فيه.

فلما أُخبر بقضاء رسول الله فيه سَلَّمَ له، ولم يجعل لنفسه إلا اتِّبَاعه، فيما مضى بخلافه، وفيما كان رأياً منه لم يبلغه عن رسول الله فيه شيء، فلما بَلَغَه خلاف فعله صار إلى حكم رسول الله، - [429] - وترك حكم نفسه، وكذلك كان في كل أمره.

وكذلك يلزمُ الناسَ أن يكونوا.

أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم: أن عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس عن خبر عبد الرحمن بن عوف.

قال "الشافعي" : يعني حين خرج إلى الشام، فبلغه وقوع الطاعون بها.

- [430] - مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عمر ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لَسَمِعت رسول الله يقول: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب. (5)

سفيان عن عمرو: أنه سمع بَجَالَةَ يقول: ولم - [431] - يكن عمر أخذ الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذها من مجوس هَجَرٍَ.

(1) يريد في كتاب الأم 6/77 والحديث رواه أحمد 3/452 وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

(2) المسطح: عود من أعواد الخباء والفسطاط الذي يُخبز به.

(3) الغرة العبد أو الأمة.

(4) إسناد الشافعي هنا مرسل فطاوس لم يدرك عمر والحديث رواه أبو داود والنسائي ورواه متصلاً أحمد وأبو داود وابن ماجه عن طاوس عن ابن عباس عن عمر.

(5) رواه مالك في الموطأ 1/264 وهذا إسناد منقطع؛ لأن محمداً لم يلقَ عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. لكن معناه متصل من وجوه حسان. انظر شرح الزرقاني على الموطأ 2/73 وفتح الباري 6/186

قال "الشافعي" وكل حديث كتبته منقطعاً، فقد سمعته متصلاً أو مشهوراً عن من رُوي عنه بنقل عامةٍ من أهل العلم يعرفونه عن عامةٍ، ولكني كرهت وَضع حديثٍ لا أتقنه حفظاً، وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظتُ، فاختصرت خوف طول الكتاب، فأتيت ببعض ما فيه الكفايةُ دون تقصِّي العلم في كل أمره.

فقبل عمر خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس، فأخذ منهم وهو يتلو القُرَآن {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} ، ويقرأ القُرَآن بقتال الكافرين حتى يسلموا، وهو لا يعرف فيهم عن النبي شيئاً، وهم عنده من الكافرين غيرِ أهل الكتاب، فقبل خبر عبد الرحمن في المجوس عن النبي فاتبعه. - [432] - وحديث بَجَالة موصول، قد أدرك عمر بن الخطاب رجلاً، وكان كاتباً لبعض ولاته.

فإن قال قائل: قد طلب عمر مع رجل أخبره خبراً آخر؟

قيل له لا يطلب عمر مع رجلٍ أَخبَرَه آخرَ إلا على أحد ثلاث معاني:

- [433] - إما أن يحتاط فيكونَ، (1) وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد، فخبر اثنين أكثر، وهو لا يزيدها إلا ثبوتًا.

وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد مَن يطلب معه خبراً ثانياً، ويكونُ في يده السنة من رسول الله من خمس وجوه فَيُحَدِّثُ بسادس فيكتبُهُ، لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان أثبتَ للحجة، وأطيبَ لنفس السامع.

وقد رأيت من الحكام مَن يَثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثةُ، فيقول للمشهود له: زدني شهوداً وإنما يريد بذلك أن يكون أطيبَ لنفسه، ولو لم يَزِده المشهود له على شاهدين لَحَكَمَ له بهما.

ويحتمل أن يكون لم يعرف المخبر فيقفَ عن خبره حتى يأتي مخبرٌ يعرفه.

- [434] - وهكذا ممن أخبر ممن لا يُعرف لم يُقبل خبره. ولا يُقبل الخبر إلا عن معروف بالاستئهال له، لأن يُقبل خبره.

ويحتمل أن يكون المخبر له غير مقبول القول عندَه، فيَرُدُّ خبره حتى يجد غيره ممن يَقبل قولَه.

(1) خبر يكون محذوف للعلم به من السياق، والمعنى: فيكون أوثق عنده. وربما تكون الجملة بعدها هي الخبرَ.

فإن قال قائل: فإلى أي المعاني ذهب عندكم عمر؟

قلنا: أما في خبر أبي موسى فإلى الاحتياط، لأن أبا موسى ثقة أمين عنده، إن شاء الله.

فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟

قلنا: قد رواه مالك بن أنس عن ربيعة عن غير - [435] - واحد من علمائهم حديثَ أبي موسى، وأن عمر قال لأبي موسى: وأَمَا إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يَتَقَوَّلَ الناس على رسول الله.

فإن قال: هذا منقطع.

فالحجة فيه ثابتة، لأنه لا يجوز على إمام في الدين - عمرَ ولا غيرِهِ: أن يقبل خبر الواحد مرة، وقبولُه له لا يكون إلا بما تقوم به الحجة عنده، ثم يَرُدُّ مثله أخرى. ولا يجوز هذا على عالم عاقل أبداً، ولا يجوز على حاكم أن يقضي بشاهدين مرة، ويمنع بهما أخرى، إلا من جهة جَرحهما أو الجهالَةِ بِعَدلهما. وعمر غايةٌ في العلم والعقل والأمانة والفضل.

وفي كتاب الله تبارك وتعالى دليل على ما وصفتُ:

قال الله: {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه} [نوح 1]

وقال: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} [هود 25 والمؤمنون 23 والعنكبوت 14]

وقال: {وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل} [النساء 163]

وقال: {وإلى عاد أخاهم هوداً} [الأعراف 65 وهود 50]

وقال: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} [الأعراف 73 وهود 61]

وقال: {وإلى مَدْينَ أخاهم شعيباً} [الأعراف 85 وهود 84 والعنكبوت 36]

وقال: {كذَّبت قومُ لوطٍ المرسلين. إذ قال لهم أخوهم لوطٌ: ألا تتقون. إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون} [لشعراء 160 - 163]

وقال لنبيه محمد صلى الله عليه: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} [النساء 163]

وقال: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران 144]

فأقام جل ثناؤه حجته على خلقه في أنبيائه في الأعلام التي باينوا بها خلقه سواهم، وكانت الحجة بها ثابتة على من شاهد أمور الأنبياء ودلائلهم التي باينوا بها غيرهم، ومَن بعدهم، وكان الواحد في ذلك وأكثرُ منه سواءً، تقوم الحجة بالواحد منهم قياماً بالأكثر.

قال: {واضرب لهم مثلاً أصحابَ القرية إذ جاءها المرسلون. إذ أرسلنا إليهم اثنين، فكذبوهما، فَعَزَّزنا بثالث، فقالوا: إنا إليكم مرسلون. قالوا: ما أنتم إلا بشرٌ مثلُنا، وما أنزل الرحمن من شيءٍ. إن أنتم إلا تَكْذبون} [يس 13 - 15]

قال "الشافعي" : فَظَاهَرَ الحُجَجَ عليهم باثنين، ثم ثالثٍ، وكذا أقام الحجةَ على الأمم بواحد، وليس الزيادة في - [438] - التأكيدِ مانعةً أن تقوم الحجة بالواحد، إذ أعطاه ما يبايِنُ به الخلْق غيرَ النبيين.

أخبرنا مالك عن سعد بن إسحاقَ بن كعبِ بن عُجْرَةَ عن عمته زينبَ بنتِ كعبٍ: أن الفُرَيْعةَ بنت مالك بن سنانٍ أخبرَتْها أنها جاءت إلى النبي تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرَةَ، فإن زوجها خرج في طَلَبِ أَعْبُدٍ له، حتى إذا كان بِطَرَفِ القدوم لَحِقَهُم، فقتلوه، فسألتُ رسول الله أن أَرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكنٍ يملكه، قالت: فقال رسول الله: نعم. فانصرفْتُ، حتى إذا كنتُ في الحُجرة أو في المسجد دعاني، أو أمر بي فَدُعِيت له، فقال: كيف قُلتِ؟ فَرَدَدْتُ عليه القصة التي - [439] - ذكرت له من شأن زوجي، فقال لي: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجلَهُ. قالت: فاعتددت فيه أربعةَ أشهر وعشراً، فلما كان عثمانُ أرسل إلي، فسألني عن ذلك، فأخبَرْتُهُ، فاتَّبَعَهُ، وقضى به. (1)

وعثمان في إمامته، وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.

(1) رواه في الأم أيضاً 5/208 ورواه أبو داود والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك انظر شرح الزرقاني.

أخبرنا مسلم عن ابن جُريج قال: أخبرني الحسن - [440] - بن مسلم عن طاوسٍ قال: كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت: أَتُفتي أن تَصْدُِرَ الحائض قبل أن يكون آخرُ عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: إما لى (1) فاسأل فلانة الأنصارية: - [441] - هل أمرها بذلك النبي؟ فرجع زيد بن ثابت يضحك، ويقول ما أراك إلا قد صدقت. (2)

قال "الشافعي" : سمع زيدٌ النهي أن يَصْدُِر أحد من الحاجِّ حتى يكون آخرُ عهده بالبيت، وكانت الحائض عنده من الحاجِّ الداخلين في ذلك النهي، فلما أفتاها ابن عباس بالصَّدَر إذا كانت قد زارت بعد النحر: أنكر عليه زيد، فلما أخبره عن المرأة أن رسول الله أمرها بذلك فسألها فأخبرته، - [442] - فصدَّق المرأة، ورأى عليه حقاً أن يرجع عن خلاف ابن عباس، وما لابن عباس حجة غيرُ خبر المرأة.

(1) أصلها: (إما لا) ، وأصل (إما) : (إن ما) فأُميلت (لا) إمالة صغرى لتضمّنها معنى الجملة فالقاس أن الحروف لا تُمال والإمالة لغة قريش وهي لغة الشافعي. ومعناها: إن لم يكن هذا فاسأل فلانة ... ومعناه عامةً: إن لم تفعل هذا فليكن هذا.

(2) روى الحديث الشيخان وغيرهما وروى القصة أحمد رقم 1990 و 3256 والبيهقي 5/163

سفيان عن عمرو عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفً البَِكَاليَّ يزعم أن موسى صاحبَ الخضر ليس موسى بني إسرائيل؟ فقال ابن عباس: كذب عدو الله! أخبرني أبيّ بن كعب قال: خطبنا رسول الله، ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحبُ الخضر.

فابن عباس مع فقهه وورعه يُثبت خبر أبي - [443] - بن كعب عن رسول الله حتى يُكَذِّبَ به امرأ من المسلمين، إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحبُ الخضر.

أخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج أن طاوساً أخبره أنه سأل ابن عباس عن الرَّكعتين بعد العصر؟ فنهاه عنهما (1) ، قال طاوس: فقلت له: ما أدعهما، فقال ابن عباس: {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكونَ لهم الخِيَرَةُ من أمرهم، ومَن يَعْصِ اللهَ ورسوله، فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب 36]

- [444] - فرأى ابن عباس الحجةَ قائمةً على طاوس بخبره عن النبي، ودَلَّهُ بتلاوة كتاب الله على أن فرضاً عليه أن لا تكونَ له الخِيَرَةُ إذا قضى الله ورسوله أمرًا.

وطاوس حينئذ إنما يَعلم قضاء رسول الله بخبر ابن عباس وحده، ولم يدفعه طاوس بأن يقول: هذا خبرك وحدك، فلا أُثبته عن النبي، لأنه يمكن أن تنسى.

فإن قال قائل: كره أن يقول: هذا لابن عباس؟!

فابن عباس أفضل من أن يَتَوَقَّى أحد أن يقول له حقاً رآه، وقد نهاه عن الركعتين بعد العصر، فأخبره أنه لا يدعهما، - [445] - قبل أن يُعْلمه أن النبي نهى عنهما.

(1) ظاهر هذا أن ابن عباس نهى طاوساً من نفسه أي برأيه وبهذا لا يكون ثمة حجة على طاوس مع استشكال إيراد الآية على لسان ابن عباس! لكن عند البيهقي 2/453 من طريق آخر أن ابن عباس قال: (( إنه قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاةٍ بعد العصر )) وعلى لا إشكال.

سفيان عن عمرو عن ابن عمر قال: كنا نُخَابِرُ، (1) ولا نرى بذلك بأساً، حتى زعم رافع أن رسول الله نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك.

فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابَرة، ويراها حلالاً، ولم يتوسع، إذ أخبره واحد لا يتهمه عن رسول الله أنه نهى عنها: أن يُخَابِرَ بعد خَبَرِهِ، ولا يستعملَ رأيه مع ما جاء عن رسول الله، ولا يقولَ: ما عاب هذا علينا أحد، ونحن نعمل به إلى اليوم.

- [446] - وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي إذا لم يكن بخبر عن النبي لم يُوهِن الخبر عن النبي عليه السلام.

(1) المخابرة: مُزارَعَة الأرض بجزء منها، كالثلث أو الربع أو بجزء معين من الخارج وفيها خلاف منتشر تُنظَر في مظانِّها.

أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سِقَايةً من ذهب أو وَرِق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأساً! فقال أبو الدرداء: مَن يَعذِرُني من معاوية! أُخبره عن رسول الله، ويخبرني عن رأيه؟! لا أساكنك بأرض. (1)

- [447] - فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره، ولما لم يَرَ ذلك معاوية فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها، إعظاماً لِأَنْ تَرَكَ خبر ثقة عن النبي.

(1) الحديث رواه النسائي مختصراً عن مالك. قال الزرقاني في شرح الموطأ 3/115 (( قال أبو عمر: لا أعلم أن هذه القصة عَرَضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، إنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت، والطرق متواترة بذلك اهـ والإسناد صحيح والجمع ممكن ))

وأُخبرنا أن أبا سعيد الخدري لقي رجلاً، فأخبره عن رسول الله شيئاً، فذكر الرجل خبراً يخالفه، فقال أبو سعيد: والله لا آواني وإياك سقف بيت أبداً.

قال "الشافعي" : يرى أن ضَيِّقاً على المخبر أن لا يقبل خبره، وقد ذكر خبراً يخالف خبرَ أبي سعيد عن النبي، ولكنْ في خبره وجهان: أحدهما: يحتمل به خلافَ خبر أبي سعيد، والآخر: لا يحتمله.

- [448] - أخبرنا من لا أتهم عن ابن أبي ذئب عن مَخلد بن خُفَاف قال: ابتعت غلاماً، فاستغللته، ثم ظَهَرتُ منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي بِرَدِّهِ، وقضى علي بِرَدِّ غَلَّتِه، فأتيت عروة، فأخبرته، فقال: أروح عليه العَشِيَّة، فأُخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله قضى في مثل هذا أن الخراج بالضّمان، فَعَجِلت إلى عمر، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي، فقال عمر: فما أَيسرَ عليَّ من قضاء قضيتُه، الله يعلم أني لم أُرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة رسول الله، فأَرُدُّ قضاء عمر، - [449] - وأُنَفِّذ سنة رسول الله. فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له. (1)

(1) رواه البهقي في السنن 5/321 من طريق الشافعي. وحديث (( الخراج بالضمان )) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد.

أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا بن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيتُ به؟ فقال له ربيعة: قد اجتهدتَ، ومضى حكمك، فقال سعدٌ: واعَجَبَا! أُنْفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردُّ قضاء رسول الله؟! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية فَشَقَّه وقضى للمقضيِّ عليه.

قال "الشافعي" : أخبرني أبو حنيفة بن سمِاك بن الفضل الشهابي قال حدثني ابن أبي ذئب عن المقْبُري عن أبي شريح - [452] - الكعبي أن النبي قال عام الفتح: (( من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخَذَ العقلَ، وإن أحب فله القَوَدُ )) (1) قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري، وصاح علي صياحاً كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله، وتقول تأخذ به؟! نعم آخذ به. وذلك الفرض عليَّ، وعلى من سمعه، إن الله اختار محمداً من الناس، فهداهم به، وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له، وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخِرين، لا مَخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت.

- [453] - قال: وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث، يكفي بعضُ هذا منها.

ولم يزل سبيل سلفنا والقرونِ بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل.

وكذلك حُكي لنا عمن حُكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان.

(1) رواه أحمد وابن ماجه وروي عن ابي هريرة معناه رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة. والعقل الدية والقود القصاص.

قال "الشافعي" : وجدنا سعيدً (1) بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي في الصَّرف (2) فَيُثَبِّت حديثه سنّةً. ويقول: حدثني أبو هريرة عن النبي، فيُثَبت حديثه سنّةً، ويروي عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سنّةً.

ووجدنا عروة يقول: حدثتني عائشة: (( أن رسول الله قضى أن الخراج بالضمان )) (3) فَيُثَبِّته سنَّة، ويروي عنها عن النبي شيئاً كثيراً فيثبتها سنناً يُحِل بها ويحرم.

- [454] - وكذلك وجدناه يقول: حدثني أسامة بن زيد عن النبي. ويقول: حدثني عبد الله بن عمر عن النبي وغيرُهما، فيُثَبِّت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة.

ثم وجدناه أيضا يَصير إلى أن يقول: حدثني عبد الرحمن بن عبدٍ القاريُّ عن عمر، ويقول: حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر. ويثبت كلَّ واحد من هذا خبرً عن عمر.

ووجدنا القاسم بن محمد يقول: حدثتني عائشة عن النبي، ويقول في حديث غيره: حدثني ابن عمر عن النبي. ويثبت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة.

ويقول حدثني عبد الرحمن ومجمِّع ابنا يزيد بن جاريةَ عن خنساءَ بنت خِدَامِ عن النبي. فيثبت خبرها سنة، وهو خبر امرأة واحدة.

- [455] - ووجدنا علي بن حسين يقول: أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي قال: "لا يرث المسلم الكافر" . (4) فيثبتها سنة، ويثبتها الناس بخبره سنة.

ووجدنا كذلك محمد بن علي بن حسين يخبر عن جابر عن النبي، وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي. فيثبت كل ذلك سنة.

ووجدنا محمد بن جبير بن مطعم، ونافع بن جبير بن مطعم، ويزيدَ بن طلحة بن رُكَانة، ومحمد بن طلحة بن ركانة، ونافعَ بن عُجَير بن عبد يزيدَ، وأبا أسامة بن عبد الرحمن، وحُميدَ - [456] - بن عبد الرحمن، وطلحةَ بن عبد الله بن عوفٍ، ومصعبَ بن سعد بن أبي وقاص، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك، وعبد الله بن أبي قتادة، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وغيرهم من محدثي أهل المدينة: كلُّهم يقول: حدثني فلان لرجل من أصحاب النبي عن النبي، أو من التابعين عن رجل من أصحاب النبي. فنُثَبِّت ذلك سنة.

ووجدنا عطاءً، وطاوسً، ومجاهدً، وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعبد الله بن باباه، وابن أبي عمارٍ، ومحدثي المكيين، ووجدنا - [457] - وهب بن مُنَبِّهٍ هكذا، ومكحولً بالشأم، وعبد الرحمن بن غنم، والحسن، وابن سيرين بالبصرة، والأسود، وعلقمة، والشعبي بالكوفة، ومحدثي الناس، وأعلامَهم بالأمصار: كلُّهم يُحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله، والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه، ويقبله عنه مَن تحته.

ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أحمع المسلمون قديما وحديثاً على تثبيت خبر الواحد، والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبَّته جاز لي.

ولكنْ أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين - [458] - أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفتُ من أن ذلك موجوداً (5) على كلهم.

(1) هكذا بالتنوين من غير ألف وقدمنا مراراً أنه فصيح.

(2) تقدم ص 276

(3) تقدم ص 448

(4) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي.

(5) تقدم توجيه نحوه وأنه على لغة من ينصب معمولي (أن) وهو قليل.

قال: فإن شُبِّه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي حديث كذا، وحديث كذا، وكان فلان يقول قولاً يخالف ذلك الحديث.

فلا يجوز عندي عن عالم أن يُثبت خبر واحد كثيراً، ويُحِل به، ويحرم، ويردَّ مثله: إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه، أو يكونَ ما سمع ومَن سمع منه أوثقَ عنده ممن حدَّثه خلافه، أو يكونَ من حدثه ليس بحافظ، أو يكونَ متهماً عنده، أو يَتَّهِمَ من فوقه ممن حدثه، أو يكونَ الحديث محتملا - [459] - معنيين، فيتأوّلَُ فيذهبَُ إلى أحدهما دون الآخر.

فأما أن يتوهَّم متوهِّم أن فقيهاً عاقلاً يُثبت سنة بخبر واحد مرةً ومراراً، ثم يدعُها بخبرِ مثلِهِ وأوثق بلا واحدٍ من هذه الوجوه التي تُشَبَّه بالتأويل كما شُبِّه على المتأولين في القُرَآن، وتُهَمَةِ المخبِر، أو علمٍ بخبر خلافه، فلا يجوز إن شاء الله.

فإن قال قائل: قلَّ فقيه في بلد إلا وقد روى كثيراً يأخذ به وقليلاً يتركه؟

فلا يجوز عليه إلا من الوجه الذي وصفتُ - [460] - ومن أن يروي عن رجل من التابعين أو مَن دونهم قولاً لا يلزمه الأخذ به، فيكونَ إنما رواه لمعرفة قوله، لا لأنه حجة عليه وافقه أو خالفَه.

فإن لم يسلك واحداً من هذه السبل فيُعذرَ ببعضها، فقد أخذ خطأ لا عذر فيه عندنا والله أعلم.

فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك: حجة؟

قيل له: إن شاء الله نعم.

فإن قال: فَأَبِنْ ذلك؟

قلنا: أما ما كان نصَّ كتاب بيِّن أو سنةٍ مجتمع عليها فيها مقطوع، ولا يسع الشكُّ في واحد منهما، ومن امتنعَ من قبوله استُتِيب.

فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد: فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم ردُّ ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطةٌ كما يكون نص الكتاب وخبرُ العامة عن رسول الله.

ولو شك في هذا شاكّ لم نقل له: تب، وقلنا: ليس لك - إن كنت عالماً - أن تشك، كما ليس لك الا ان تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم.

فقال: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على مَن علمه؟ وهل يختلف المنقطع؟ أو هو وغيره سواءٌ؟

قال "الشافعي" : فقلت له: المنقطع مختلف:

فمن شاهدَ أصحاب رسول الله من التابعين، فحدَّث حديثاً منقطعاً عن النبي: اعتُبر عليه بأمور:

- [462] - منها: أن ينظر إلى ما أَرسل من الحديث، فإن شَرِكَه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه الى رسول الله بمثل معنى ما روى: كانت هذه دلالةً على صحة مَن قبل عنه وحفظه.

وإن انفرد بإرسال حديث لم يَشركه فيه من يُسنده قُبِل ما ينفرد به من ذلك.

ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسِل غيره ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟

فإن وُجد ذلك كانت دلالةً يَقوى له مرسلُه، وهي أضعف من الأولى.

وإن لم يُوجَد ذلك نُظر إلى بعض ما يُروى عن بعض أصحاب رسول الله قولاً له، فإن وُجد يُوافق ما روى عن - [463] - رسول الله كانت في هذه دلالةٌ على أنه لم يأخذ مرسَلَه إلا عن أصل يصح إن شاء الله.

وكذلك إن وُجد عوامُّ من أهل العلم يُفتون بمثل معنى ما روى عن النبي.

قال "الشافعي" : ثم يُعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسمِّي مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحته فيما روى عنه.

ويكون إذا شَرِك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه وُجد حديثه أنقصَ: كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه.

- [464] - ومتى ما خالف ما وصفت أضرَّ بحديثه، حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله

قال: وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله.

ولا نستطيع أن نزعُم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالموتَصِل. ِ

وذلك أن معنى المنقطع مُغَيَّب، يحتمل أن يكون حمُل عن من يُرغب عن الرواية عنه إذا سُمّي وإن بعض المنقطعات - وإن وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحداً، من حيث لو سمي لم يُقبل، وأن قول بعض أصحاب النبي - إذا قال برأيه لو وافقه - يدل على صحة مَخرج الحديث، دلالةً قوية إذا نُظر فيها، - [465] - ويمكن أن يكون إنما غلِط به حين سمِع قول بعض أصحاب النبي يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء.

فأما مَن بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله: فلا أعلم منهم واحداً يُقبل مرسله لأمور: أحدها: أنهم أشد تجوّزاً فيمن يروون عنه، والآخر: أنهم يوجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه. والآخر: كثرةُ الإحالة. كان أمكن للوَهَم وضعفِ مَن يُقبل عنه.

- [466] - وقد خَبَرْت بعض من خَبَرْتُ من أهل العلم، فرأيتهم أُتُوا من خصلة وضدِّها:

رأيت الرجل يَقْنع بيسير العلم، ويريد إلا أن يكون مستفيداً إلا من جهة قد يتركه من مثلها أو أرجحَ، فيكون من أهل التقصير في العلم.

ورأيت من عاب هذه السبيلَ، ورغب في التوسع في العلم، مَن دعاه ذلك الى القبول عن من لو أمسك عن القبول عنه كان خيراً له.

ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم، فيقبلُ عن من يَردُّ مثله وخيراً منه.

ويُدخَل عليه، فيقبلُ عن من يعرف ضعفه، إذا وافق قولاً يقوله! ويردُّ حديث الثقة إذا خالف قولاً يقوله!

ويُدخَل على بعضهم من جهات.

- [467] - ومن نظر في العلم بخِبْرة وقلةِ غفلة، استوحش من مرسَلِ كلِّ مَن دون كبار التابعين، بدلائل ظاهرة فيها.

قال: فلمَ فرَّقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله، وبين من شاهد بعضهم دون بعض؟

فقلت: لبعد إحالة من لم يشاهد أكثرهم.

قال: فلم لم تقبل المرسَل منهم، ومن كل فقيه دونهم؟

قلت: لما وصفت. ُ

قال: وهل تجد حديثاً تبلغ به رسولَ الله مرسلاً عن ثقة لم يقل أحداً من أهل الفقه به؟

قلت: نعم، أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر: أن رجلاً جاء الى النبي، فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وعيالاً، وإن لأبي مالاً وعيالاً، وإنه يريد أن يأخذ مالي، فيُطعِمَهُ عياله. فقال رسول الله: "أنت ومالك لأبيك" . (1)

- [468] - فقال: أما نحن فلا نأخذ بهذا، ولكن من أصحابك من يأخذ به؟

فقلت: لا، لأن مَن أخذ بهذا جعل للأب الموسر أن يأخذ مال ابنه.

قال: أجل، وما يقول بهذا أحد. فلمَ خالفه الناس؟

قلت: لأنه لا يَثبت عن النبي، وأن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه، فجعله كوارثٍ غيرِه، فقد يكون أقلَّ حظاً من كثير من الورثة: دلَّ ذلك على أن ابنه مالكٌ للمال دونه.

قال: فمحمد بن المنكدر عندكم غاية في الثقة؟

قلت: أجل، والفضلِ في الدين والورع، ولكنا لا ندري عن من قَبِل هذا الحديث.

وقد وصفت لك الشاهدين العدلين يشهدان على - [469] - الرجل فلا تُقبل شهادتهما حتى يُعَدِّلاهما أو يُعدلهما غيرهما.

انظر الجامع الصغير 2712 ورواه أحمد في المسند من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده 2/179، 214، 204

قال: فتذكرُ من حديثكم مثل هذا؟

قلت: نعم، أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب: "أن رسول الله أمر رجلاً ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة" .

فلمْ نَقبل هذا، لأنه مرسل.

ثم أخبرنا الثقة عن مَعْمَر عن بن شهاب عن سليمان بن أرقَمَ عن الحسن عن النبي: بهذا الحديث

وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثِقةِ الرجال، إنما يُسمي بعض أصحاب النبي، ثم خيارَ التابعين، ولا نعلم محدثا يسمي أفضل ولا أشهر ممن يحدِّث عنه ابن شهاب.

قال: فأنى تُرَاه أتى في قبوله عن سليمان بن أرقم؟

- [470] - رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فَقَبِل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله مَعْمر عن حديثه عنه، فأسنده له.

فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب: لم يُؤمَن مثل هذا على غيره.

قال: فهل تجد لرسول الله سنة ثابتة من جهة الاتصال خالفها الناس كلهم؟

قلت: لا، ولكن قد أجد الناس مختلفين فيها: منهم من يقول بها، ومنهم من يقول بخلافها. فأما سنةٌ يكونون مجتمعين على القول بخلافها، فلم أجدها قط، كما وجدت المرسَل عن رسول الله.

قال "الشافعي" : وقلت له: أنت تسأل عن الحجة - [471] - في رد المرسل وترده، ثم تجاوز فتردُّ المسنَدَ الذي يلزمك عندنا الأخذ به!!

[باب الإجماع] :

قال "الشافعي" : فقال لي قائل: قد فهمتُ مذهبك في أحكام الله، ثم أحكام رسوله، وأن من قَبِل عن رسول الله، فعن الله قَبِل، بأن الله افترض طاعة رسوله، وقامت الحجة بما قلتَ بأن لا يحلَّ لمسلم عَلِمَ كتاباً ولا سنة أين يقول بخلاف واحد منهما، وعلمتُ أن هذا فرضُ الله. فما حجتك في أن تَتْبع ما اجتمع الناس عليه مما ليس فيه نص حكم لله، ولم يحكوه عن النبي؟ أتزعُمُ ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبداً إلا على سنة ثابتة، وإن لم يحكوها؟!

- [472] - قال: فقلت له: أمَّا ما اجتمعوا عليه، فذكروا أنه حكاية عن رسول الله، فكما قالوا، إن شاء الله.

وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكون قالوا حكايةً عن رسول الله، واحتمل غيره، ولا يجوز أن نَعُدَّه له حكايةً، لأنه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعاً، ولا يجوز أن يحكي شيئاً يُتَوَهَّم، يمكن فيه غير ما قال.

فكنا نقول بما قالوا به اتباعاً لهم، ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تَعزُبُ عن عامتهم، وقد تعزُبُ عن بعضهم. ونعلم أن عامّتهم لا تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله، ولا على خطأ، إن شاء الله.

فإن قال: فهل من شيء يدل على ذلك، وتشدُّه به؟

قيل: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن رسول الله قال: "نَصَّرَ الله عبداً" (1)

أخبرنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد عن ابن سليمان بن يسار عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب خطبَ الناسَ - [474] - بالجابية، فقال: إن رسول الله قام (2) فينا كمَقَامي فيكم، فقال: أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى إن الرجل لَيَحْلف ولا يُستحلف، ويَشهد ولا يُستشهد، ألا فمن سرَّه بَحبَحَة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفَذّ وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلُوَنَّ رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهم، ومن سَرَّته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن" (3) .

- [475] - قال: فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟

قلت: لا معنى له إلا واحد.

قال: فكيف لا يحتمل إلا واحداً؟

قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحدٌ أن يلزم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرقين، وقد وُجِدَت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفُجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.

ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ - [476] - بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفُرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافةً غفلةٌ عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، إن شاء الله.

(1) سبق ص 401

(2) في الأصل (( قام الله فينا )) !

(3) الحديث مرسل فسليمان بن يسار لم يدرك عمر والحديث صح عن عمر رواه أحمد 1/18، 26 والطيالسي ص 7 والترمذي، أبواب الفتن، باب لزم الجماعة، والحاكم 1/113 - 115

[القياس] (1)

قال: فمن أين قلت: يقال بالقياس فيما لا كتابَ فيه ولا سنةَ ولا إجماعَ؟ أفالقياس نصُّ خبٍر لازمٍ؟

قلت: لو كان القياس نصَّ كتاب أو سنة قيل في كل ما كان نصَّ كتاب "هذا حُكمُ الله" ، وفي كل ما كان - [477] - نصَّ السنة "هذا حكم رسول الله" ، ولم نَقُل له: "قياس" .

قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟

قلت: هما اسمان لمعنىً واحد.

قال: فما جِماعهما؟

قلت: كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم، أو على سبيل الحقِّ فيه دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: اتباعُه، وإذا لم يكن فيه بعينه طُلِب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهادُ القياسُ. 0

قال: أفرأيت العالمين إذا قاسوا، على إحاطةٍ هم من أنهم أصابوا الحقَّ عند الله؟ وهل يسعهم أن يختلفوا في القياس؟ وهل - [478] - كُلفوا كل أمر من سبيل واحد، أو سبل متفرقة؟ وما الحجةُ في أن لهم أي يقيسوا على الظاهر دون الباطن؟ وأنه يسعهم أن يتفرقوا؟ وهل يختلف ما كُلفوا في أنفسهم، وما كُلفوا في غيرهم؟ ومن الذي له أن يجتهد فيقيس في نفسه دون غيره؟ والذي له أن يقيس في نفسه وغيره؟

فقلت: له العلم من وجوه: منه إحاطةٌ في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر.

فالإحاطة منه ما كان نصَّ حكم لله أو سنة لرسول الله نقلها العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يُشهد بهما فيما أُحل أنه حلال، وفيما حُرم أنه حرام. وهذا الذي لا يَسَع أحداً عندنا جَهْلُه ولا الشكُّ فيه.

وعلمُ الخاصة سنةً من خبر الخاصة يعرفها العلماء، - [479] - ولم يُكَلَّفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو في بعضهم، بصدق الخاص المخبِرِ عن رسول الله بها. وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا إليه، وهو الحق في الظاهر، كما نقتل بشاهدين. وذلك حق في الظاهر، وقد يمكن في الشاهدين الغلطُ.

وعلمُ إجماع.

وعلمُ اجتهادٍ بقياسٍ، على طلب إصابة الحق. فذلك حق في الظاهر عند قايِسِه، لا عند العامة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه إلا الله.

وإذا طُلب العلم فيه بالقياس، فقيس بصحةٍ: اِيْتَفَقَ المقايسون في أكثره، وقد نجدهم يختلفون.

(1) هذا العنوان زاده الشيخ أحمد شاكر.

والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون الشيء له في الأصول أشباهٌ، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرِها شَبَهاً فيه. وقد يختلف القايسون في هذا.

قال: فأوجِدني ما أعرف به أن العلم من وجهين: أحدهما: إحاطةٌ بالحق في الظاهر والباطن، والآخر إحاطةٌ بحق في الظاهر دون الباطن: مما أعرفُ؟

فقلت له: أرأيت إذا كنا في المسجد الحرام نرى الكعبة: أَكُلِّفْنا أن نستقبلها بإحاطة؟

قال: نعم.

قلت: وفُرِضَت علينا الصلوات والزكاة والحج، وغير ذلك: أَكُلِّفنا الإحاطةَ في أن نأتي بما علينا بإحاطةٍ؟

قال: نعم.

قلت: وحين فُرِض علينا أن نجلدَ الزاني مائة، ونجلدَ القاذف ثمانين، ونقتلَ مَن كَفَرَ بعد إسلامه، ونقطع من سرق: أَكُلِّفْنا أن نفعل هذا بمن ثبت عليه بإحاطةٍ نعلم أنا قد أخذناه منه؟

قال: نعم.

- [481] - قلت: وسواءٌ ما كُلِّفنا في أنفسنا وغيرِنا، إذا كنا ندري من أنفسنا بأنّا نعلم منها ما لا يعلم غيرنا، ومن غيرنا ما لا يدركه علْمُنا كإدراكنا العلمَ في أنفسنا؟

قال: نعم.

قلت: وكُلِّفْنا في أنفسنا أين ما كُنا أن نَتَوَجه إلى البيت بالقبلة؟

قال: نعم.

قلت: أفتجدنا على إحاطةٍ من أنا قد أصبنا البيت بتوجهنا؟

قال: أما كما وجدتكم حين كنتم ترون فلا، وأما أنتم فقد أدَّيتم ما كُلِّفتم.

قلت: والذي كُلفنا في طلب العين المغيَّب غيرُ الذي كُلِّفنا في طلب العين الشاهد. ِ

- [482] - قال: نعم.

قلت: وكذلك كُلفنا أن نقبل عدل الرجل على ما ظهر لنا منه، ونناكحَه ونوارثَه على ما يظهر لنا من إسلامه؟

قال: نعم.

قلت: وقد يكون غير عدل في الباطن؟

قال: قد يمكن هذا فيه، ولكن لم تُكَلفوا فيه الا الظاهر.

قلت: وحلالٌ لنا أن نناكحه، ونوارثه، ونجيز شهادته، ومحرمٌ علينا دمه بالظاهر؟ وحرامٌ على غيرنا إن عَلم منه أنه كافر إلا قتلَه ومنعَه المناكحةَ والموارثةَ وما أعطيناه؟

قال: نعم.

قلت: وُجِدَ الفرض علينا في رجل واحد مختلفاً على مبلغ علمنا وعلم غيرنا؟

- [483] - قال: نعم، وكلكم مؤدي ما عليه على قدر علمه.

قلت: هكذا قلنا لك فيما ليس فيه نص حكم لازمٍ، وإنما نطلب باجتهادِ القياسِ، وإنما كُلفنا فيه الحقَّ عندنا.

قال: فتجدُك تحكم بأمر واحد من وجوه مختلفة؟

قلت: نعم، إذا اختلفت أسبابه.

قال: فاذكر منه شيئاً.

قلت: قد يُقِرّ الرجل عندي على نفسه بالحق لله، أو لبعض الآدميين، فآخذه بإقراره، ولا يقر، فآخذه بِيَنِّة تقوم عليه، ولا تقوم عليه بينة، فَيُدَّعى عليه، فآمره بأن يحلف ويَبرَْأَ، فيَمتنعُ، فآمر خصمَه بأن يحلف، ونأخذُه بما حلف عليه خصمه، إذا أبى اليمين التي تُبرِئه، ونحن نعلم أن إقراره على نفسه - بِشُحِّه على - [484] - ماله، وأنه يُخاف ظَلمُه بالشحِّ عليه: أصدَقُ عليه من شهادة غيره، لأن غيره قد يَغلِط ويكذب عليه، وشهادةُ العدول عليه أقربُ من الصدق من امتناعه من اليمين ويمينِ خصمه، وهو غيرُ عدل، وأُعطي منه بأسبابٍ بعضُها أقوى من بعض.

قال: هذا كله هكذا، غيرَ أنا إذا نَكِل عن اليمين أعطينا منه بالنكول.

قلت: فقد أعطيتَ منه بأضعفَ مما أعطينا منه؟

قال: أجل، ولكني أخالفك في الأصل.

قلت: وأقوى ما أعطيتَ به منه إقرارُه، وقد يمكن أن يُقِر بحق مسلم ناسياً أو غلطاً، فآخذُه به؟

قال: أجل، ولكنك لم تُكَلف إلا هذا.

- [485] - قلنا: فلستَ تراني كُلِّفت الحقَّ من وجهين: أحدهما: حقٌّ بإحاطةٍ في الظاهر والباطن، والآخر: حق بالظاهر دون الباطن؟

قال: بلى، ولكن هل تجد في هذا قوةً بكتاب أو سنة؟

قلت: نعم، ما وصفتُ لك مما كُلفت في القبلة وفي نفسي وفي غيري.

قال الله: {ولا يحيطونَ بشيء من علمِهِ إلا بما شاءَ} [البقرة 255] فآتاهم من علمه ما شاء، وكما شاء، لا مُعَقِّبَ لحُكمه، وهو سريعُ الحساب.

وقال لنبيه: {يسئلونك عن الساعة أَيَّانَ مُرْساها فيمَ أنتَ من ذِكراها إلى ربك مُنْتَهَاها} [النازعات 42 - 44]

سفيانُ عن الزُّهري عن عُروة قال: "لم يَزَل رسول الله يَسأل عن الساعة، حتى أنزل الله عليه {فيم أنت من ذكراها} فانتهى" .

- [486] - وقال الله: {قل لا يعلمُ من في السماوات والأرضِ الغيبَ إلا اللهُ} [النمل 65]

وقال الله تبارك وتعالى: {إن الله عنده عِلمُ الساعةِ، ويُنزِّلُ الغيث، ويَعلمُ ما في الأرحامِ، وما تَدري نفسٌ ماذا تَكْسِبُ غداً، وما تدري نفس بأيِّ أرض تموت، إن الله عليمٌ خبير} [لقمان 34]

فالناس مُتَعَبَّدون بأن يقولوا ويفعلوا ما أُمروا به، وينتهوا إليه، لا يُجاوزونَه، لأنهم لم يُعطوا أنفسَهم شيئاً، إنما هو عطاء الله. فنسأل الله عطاءاً مؤدِّياً لحقه، موجِباً لمزيده.

[باب الاجتهاد]

قال: أفتجد تجويز ما قلت من الاجتهاد، مع ما وصفتَ فتذكرَه؟

قلت: نعم، استدلالاً بقول الله: {ومن حيثُ خرجْتَ فَوَلِّ وجهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ، وحيث ما كنتم فولُّوا وجوهَكم شَطْرَهُ} [البقرة 150]

قال: فما شطره؟

قلت: تلقاءَه قال الشاعر:

إن العسيبَ بها داءٌ مُخامِرُها فشَطْرَها بَصَرُ العَينين مَسجُورُ (1)

- [488] - فالعلم يحيط أن مَن تَوَجه تلقاء المسجد الحرام ممن نَأَت داره عنه: على صواب بالاجتهاد للتوجه الى البيت بالدلائل عليه، لأن الذي كُلف التوجُّهُ إليه، وهو لا يدري أصاب بتوجهه قصْدَ المسجد الحرام أم أخطأه، وقد يَرَى دلائل يعرفها فيَتَوجه بقدر ما يعرف [ويعرف غيره دلائل غيرها، فيتوجه بقدر ما يعرف] وإن اختلف توجههما.

قال: فإن أجزتُ لك هذا أجزتُ لك في بعض الحالات الاختلافَ.

قلت: فقل فيه ما شئتَ.

قال: أقول. لا يجوز هذا.

قلت: فهو أنا وأنت، ونحن بالطريق عالمان، - [489] - قلت: وهذه القبلةُ، وزعمتَ خِلافي على أيِّنا يتبع صاحبه؟

قال: ما على واحد منكما أن يتبع صاحبه.

قلت: فما يجب عليهما؟

قال: إن قلتُ لا يجب عليهما أن يصليا حتى يعلما بإحاطة: فهما لا يعلمان أبداً المغيَّب بإحاطة، وهما إذاً يَدَعان الصلاة، أو يرتفع عنهما فرضُ القبلة، فيصليان حيث شاءا، ولا أقول واحداً من هذين، وما أجد بُدَّاً من أن أقول: يصلي كل واحد منهما كما يرى، ولم يُكَلفا غير هذا، أو أقولَ كُلف الصوابَ في الظاهر والباطن، ووُضع عنهما الخطأ في الباطن دون الظاهر.

قلت: فأيَّهما قلتَ فهو حجة عليك، لأنك فرَّقت بين حكم الباطن والظاهر، وذلك الذي أنكرتَ علينا، وأنت: تقول إذا اختلفتم قلتُ ولا بد أن يكون أحدهما مخطئً؟

قلت: أجل.

قلت: فقد أجزتَ الصلاة وأنت تعلم أحدَهما - [490] - مخطئً، وقد يمكن أن يكونا معاً مخطئين.

وقلت له: وهذا يلزمك في الشهادات وفي القياس.

قال: ما أجد من هذا بُدَّاً، ولكن أقول: هو خطأ موضوع.

فقلت له: قال الله: {ولا تقتلوا الصيدَ وأنتم حُرُم، ومَن قَتَلَه منكم متعمداً، فَجَزاءٌ مثلُ ما قَتَل من النَّعَم، يحكمُ به ذَوَا عَدْلٍ منكم، هَدْياً بالغَ الكعبةِ} [المائدة 95]

فأمرهم بالمِثل، وجعل المثل الى عدلين يحكمان فيه، فلما حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً كانت لِدَوَابِّ الصيد أمثالٌ على الأبدان.

فحَكَمَ مَن حَكَمَ من أصحاب رسول الله على ذلك، - [491] - فقضى في الضَّبُع بكَبْشٍ، وفي الغزال بعَنْز، وفي الأرنب بعَنَاق، وفي اليَربوع بجَفْرَةٍ. (1)

والعلم يحيط أنهم أرادوا في هذا المثلَ بالبدن، لا بالقِيَم، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان وفي الأزمان، وأحكامُهم فيها واحدة.

والعلم يحيط أن اليربوع ليس مثل الجَفرة في البدن، ولكنها كانت أقربَ الأشياء منه شَبَهَاً، فجُعلت مثله، وهذا من القياس يَتَقَارب تقاربَ العنز والظَّبي، ويَبعد قليلاً بُعْد الجفرة من اليربوع.

ولما كان المثل في الأبدان في الدوابِّ من الصيد دون الطائر: لم يَجُز فيه إلا ما قال عمر - والله أعلم - من أن يُنظر الى المقتول من الصيد، فيُجزى بأقرب الأشياء به شَبَهَاً منه في البدن، - [492] - فإذا فات منها شيئاً (2) رُفِع إلى أقرب الأشياء به شَبَهَاً، كما فاتت الضَّبُع العنز، فرُفِعت الى الكبش، وصَغُرَ اليربوع عن العَنَاق فخُفِضَ الى الجَفْرة.

وكان طائر الصيد لا مثل له في النَّعَم لاختلاف خِلقته وخلقته، فجُزِي خبراً وقياساً (3) على ما كان ممنوعاً لإنسان فأتلفه إنسان، فعليه قيمته لمالكه.

قال "الشافعي" : فالحكم فيه بالقيمة يجتمع في أنه يُقَوَّم قيمةَ يومه وبلده، ويختلف في الأزمان والبلدان، حتى يكون الطائر ببلد ثمنَ درهمٍ، وفي البلد الآخر ثمنَ بعضِ ردهم.

(1) العَنَاق: ما لم يتم له سنة من أنثى أولاد المعز. والجَفْرة: ما بلغ أربعة أشهر وفُصل عن أمه وأخذ في الرعي.

(2) أي جاوز شيئاً.

(3) أي فجزي استدلالاً بالخبر والقياس.

وأمرنا بإجازة شهادة العدل، وإذا شُرط علينا أن نقبل العدل ففيه دلالة على أن نردَّ ما خالفه.

وليس للعدل علامة تفرِّق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يُختَبر من حاله في نفسه.

فإذا كان الأغلب من أمره ظاهرَ الخير: قُبِلَ، وإن كان فيه تقصير عن بعض أمره، لأنه لا يُعَرَّى أحد رأيناه من الذنوب.

وإذا خَلَطَ الذنوب والعمل الصالح، فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره، بالتمييز بين حَسَنه وقبيحه، وإذا كان هذا هكذا، فلا بد من أن يختلف المجتهدون فيه.

وإذا ظهر حَسَنه فقبلنا شهادته، فجاء حاكم غيرُنا، فعلم منه ظهور السّيّء كان عليه ردُّه.

- [494] - وقد حكم الحاكمان في أمر واحد برَدٍّ وقبولٍ، وهذا اختلاف، ولكن كلٌّ قد فعل ما عليه.

قال: فتذكر حديثاً في تجويز الاجتهاد؟

قلت: نعم، أخبرنا عبد العزيز عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بُسْر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر"

- [495] - أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة (1)

فقال: هذه رواية منفردة، يردُّها علي وعليك غيري وغيرك، ولغيري عليك فيها موضعُ مطالبة.

قلت: نحن وأنت ممن يثبتها؟

قال: نعم.

قلت: فالذين يردونها يعلمون ما وصفنا من تثبيتها وغيرِه.

- [496] - قلت: فأين موضعُ المطالبة فيها؟

فقال: قد سمى رسول الله فيما رويتَ من الاجتهاد "خطأً" و "صواباً" ؟

فقلت: فذلك الحجةُ عليك.

قال: وكيف؟

قلت: إذ ذكر النبي أنه يثاب على أحدهما أكثرَ مما يُثاب على الآخر، ولا يكون الثواب فيما لا يسع، ولا الثواب في الخطأ الموضوع.

لأنه لو كان إذا قيل له: اجتهد على الخطأ، فاجتهد على - [497] - الظاهر كما أُمر كان مخطئا خطأ مرفوعاً، كما قلت: كانت العقوبة في الخطأ - فيما نُرى والله أعلم - أولى به، وكان أكثرَُ أمره أن يُغفر له، ولم يُشبه أن يكون له ثواب على خطأ لا يسعه.

وفي هذا دليل على ما قلنا: أنه إنما كُلف في الحكم الاجتهادَ على الظاهر دون المغيَّب، والله أعلم.

قال: إن هذا ليحتمل أن يكون كما قلتَ، ولكن ما معنى "صواب" "خطأ" ؟

قلت له: مثل معنى استقبال الكعبة، يصيبها من رآها بإحاطة، ويتحراها من غابت عنه، بَعُدَ أو قَرُبَ منها، فيصيبها بعضٌ ويخطئها بعضٌ، فنفس التوجه يحتمل صواباً وخطأ، إذا قَصَدتَ بالإخبار عن الصواب والخطأ قَصْدَ أن يقول: فلان أصاب - [498] - قَصْد ما طلب فلم يخطِئْه، وفلان أخطأ قصد ما طلب وقد جهِد في طلبه.

فقال: هذا هكذا، أفرأيت الاجتهاد، أيقال له "صواب" على غير هذا المعنى؟

قلت: نعم على أنه إنما كُلف فيما غاب عنه الاجتهادَ، فإذا فعل فقد أصاب بالإتيان بما كُلف، وهو صواب عنده على الظاهر، ولا يعلم الباطن إلا الله.

ونحن نعلم أن المختلفَين في القبلة، وإن أصابا بالاجتهاد إذا اختلفنا يريدانِ عيناً: لم يكونا مصيبَين للعين أبداً، ومصيبان في الاجتهاد. وهكذا ما وصفنا في الشهود وغيرهم.

قال: أفتوجدني مثل هذا؟

قلت: ما أحسِب هذا يُوضَح بأقوى من هذا!

قال: فاذكر غيره؟

قلت: أحل الله لنا أن ننكح من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيماننا، وحرّم الأمهات والبنات والأخوات.

قال: نعم.

قلت: فلو أن رجلاً اشترى جارية، فاستبرأها أَيحَلُّ له إصابتها؟

قال: نعم.

قلت: فأصابها وولَدَت له دهراً، ثم علم أنها أختُه، كيف القول فيه؟

قال: كان ذلك حلالاً حتى علم بها، فلم يَحِل له أن يعود إليها.

قلت: فيقال لك في امرأة واحدة حلالٌ له حرامٌ - [500] - عليه، بغير إحداث شيء أحدثه هو ولا أحدثَتْه؟

قال: أما في المغيَّب فلم تزل أختَه أولاً وآخراً، وأما في الظاهر، فكانت له حلالاً ما لم يعلم، وعليه حرامٌ حين علم.

وقال: إن غيرنا ليقول: لم يزل آثماً بإصابتها، ولكنه مأثَم مرفوع عنه.

فقلت: الله اعلم، وأيَّهما كان، فقد فرَّقوا فيه بين حكم الظاهر والباطن، وألغوا المأثم عن المجتهد على الظاهر، وإن أخطأ عندهم، ولم يُلغوه عن العامد.

قال: أجل.

وقلت له: مَثَلُ هذا الرجل ينكح ذاتَ مَحرَم منه، ولا يعلم، وخامسةً وقد بلغته وفاة رابعة كانت زوجة له، وأشباهٌ لهذا.

- [501] - قال: نعم أشباه هذا كثير.

فقال: إنه لَبَيِّن عند من يثبت الرواية منكم أنه لا يكون الاجتهاد أبداً إلا على طلب عينٍ قائمة مُغَيَّبة بدلالة، وأنه قد يسع الاختلاف مَن له الاجتهاد.

فقال: فكيف الاجتهاد؟

فقلت: إن الله جل ثناؤه مَنَّ على العباد بعقول، فدلهم بها على الفَرْق بين المختلف، وهداهم السبيل إلى الحق نصاً ودلالةً.

قال: فَمَثِّل من ذلك شيئاً؟

قلت: نَصَبَ لهم البيت الحرام، وأمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه، وتَأَخِّيه إذا غابوا عنه، وخَلَقَ لهم سماء وأرضاً وشمساً وقمرا ونجوماً وبحاراً وجبالاً ورياحاً.

- [502] - فقال: {وهو الذي جَعَلَ لكم النجومَ لتهتدوا بها في ظلمات البر ِّوالبحرِ} [الأنعام 97]

وقال: {وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يهتدون} [النحل 16]

فأخبر أنهم يهتدون بالنجم والعلامات.

فكانوا يعرفون بمنِّه جهة البيت بمعونته لهم، وتوفيقه إياهم، بأن قد رآه من رآه منهم في مكانه، وأخبر من رآه منهم من لم يره، وأبصر ما يُهتَدَى به إليه، من جَبَل يُقصد قَصده، أو نجمٍ يُؤْتمّ به وشمال وجنوبٍ، وشمسٍ يُعرف مَطلِعُها ومَغرِبها، وأين تكون من المصلَّى بالعشي، وبحورٍ كذلك.

وكان عليهم تَكَلف الدلالات بما خلق لهم من العقول التي رَكَّبها فيهم، ليقصدوا قصد التوجه للعين التي فرض عليهم استقبالها.

- [503] - فإذا طلبوها مجتهدين بعقولهم وعلمهم بالدلائل، بعد استعانة الله، والرغبةِ إليه في توفيقه، فقد أدَّوا ما عليهم.

وأبان لهم أن فرْضَه عليهم التوجُّه شطر المسجد الحرام، والتوجه شطره لا إصابةُ البيت بكل حال.

ولم يكن لهم إذا كان لا تُمْكنهم الإحاطة في الصواب إمكانَ مَن عايَنَ البيت: أن يقولوا نتوجه حيث رأينا بلا دلالة.

[باب الاستحسان]

قال: هذا كما قلتَ، والاجتهاد لا يكون إلا على مطلوب، والمطلوب لا يكون أبداً إلا على عين قائمة تُطلب بدلالةٍ - [504] - يُقصد بها إليها، أو تشبيهٍ على عين قائمة، وهذا يبين أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسانُ الخبرَ، والخبرُ - من الكتاب والسنة - عينٌ يتأخَّى معناها المجتهدُ ليصيبه، كما البيتُ يتأخَّاه مَن غاب عنه ليصيبه، أو قَصَدَه بالقياس، وأن ليس لأحد أن يقول إلا من جهة الاجتهاد، والاجتهادُ ما وصفتَ من طلب الحق. فهل تجيز أنت أن يقول الرجل: أستحسنُ بغير قياس؟

فقلت: لا يجوز هذا عندي - والله أعلم - لأحد، وإنما كان لأهل العلم أن يقولوا دون غيرهم، لأن يقولوا في الخبر باتباعه فيما ليس فيه الخبرُ بالقياس على الخبر.

- [505] - ولو جاز تعطيلُ القياس جاز لأهل العقولِ من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الاستحسان.

وإن القول بغير خبر ولا قياس لَغَير جائز، بما ذكرتُ من كتاب الله وسنة رسوله، ولا في القياس.

فقال: أما الكتاب والسنة فيدلان على ذلك، لأنه إذا أمر النبي بالاجتهاد، فالاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلبُ الشيء لا يكون إلا بدلائل، والدلائلُ هي القياس، قال: فأين القياس مع الدلائل على ما وصفتَ؟

قلت: ألا ترى أن أهل العلم إذا أصاب رجل - [506] - لرجل عبداً لم يقولوا لرجل: أقم عبداً ولا أمةً إلا وهو خابرٌ بالسوق، ليُقيم معنيين: بما يُخبر كَم ثمنُ مثله في يومه؟ ولا يكون ذلك إلا بأن يَعتبر عليه بغيره، فيقيسه عليه، ولا يقال لصاحب سلعة: أقم إلا وهو خابرٌ.

- [507] - ولا يجوز أن يقال لفقيه عدلٍ غيرِ عالم بقِيَم الرقيق: أقم هذا العبدَ، ولا هذه الأمةَ ولا إجازةَ هذا العاملِ، لأنه إذا أقامه على غير مثال بدلالةٍ على قيمته كان متعسفاً.

فإذا كان هذا هكذا فيما تَقِلّ قيمته من المال ويَيْسُرُ الخطأ فيه على المُقَام له والمقام عليه: كان حلالُ الله وحرامه أولى أن لا يقال فيهما بالتعسُّف والاستحسان.

وإنما الاستحسان تلذُّذ.

ولا يقول فيه إلا عالم بالأخبار، عاقلٌ للتشبيه عليها.

وإذا كان هذا هكذا، كان على العالم أن لا يقول إلا من جهة العلم، - وجهةُ العلم الخبر اللازم - بالقياس بالدلائل - [508] - على الصواب حتى يكون صاحب العلم أبداً متبعاً خبراً، وطالبَ الخبر بالقياس، كما يكون متبعَ البيت بالعِيان، وطالبً قصْدَه بالاستدلال بالأعلام مجتهداً.

ولو قال بلا خبر لازم وقياسٍ كان أقربَ من الإثم من الذي قال وهو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم جائزاً

ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهةُ العلمِ بعدُ الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والآثارُ، وما وصفتُ من القياس عليها.

ولا يقيس إلا من جمع الآلةَ التي له القياسُ بها، - [510] - وهي العلم بأحكام كتاب الله: فرضِه، وأدبِه، وناسخِه، ومنسوخِه، وعامِّه، وخاصِّه، وإرشاده.

ويَستدل على ما احتمل التاويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماعٌ فبالقياس.

ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب.

ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرِّق بين المشتبه، ولا يَعْجَلَ بالقول به دون التثبيت.

ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه، لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزدادُ به تثبيتاً فيما اعتقده من الصواب.

- [511] - وعليه في ذلك بلوغُ غاية جهده، والإنصافُ من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك.

ولا يكون بما قال أَعنَى منه بما خالفه، حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك، إن شاء الله.

فأما مَن تمَّ عقله، ولم يكن عالماً بما وصفنا، فلا يحلُّ له أن يقول بقياس، وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه، كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه.

ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة: فليس له أن يقول أيضاً بقياس، لأنه قد يذهب عليه عَقْل المعاني.

وكذلك لو كان حافظاً مقصِّرَ العقلِ، أو مقصِّراً عن علم لسان العرب: لم يكن له أن يقيس من قِبَلِ نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس.

ولا نقول يَسَع - هذا والله أعلم - أن يقول أبداً إلا اتباعاً ولا قياساً.

فإن قال قائل: فاذكر من الأخبار التي تقيس عليها، وكيف تقيس؟

قيل له إن شاء الله: كل حكم لله أو لرسوله وُجِدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حُكِم به لمعنى من المعاني، فنزلت نازلة ليس فيها نص حكمٍ: حُكم فيها حكمُ النازلة المحكومِ فيها، إذا كانت في معناها.

والقياس وجوه يجمعها "القياس" ، ويتفرَّق - [513] - بها ابتداءُ قياسِ كل واحد منهما، أو مصدرُه، أو هما، وبعضُهما أوضحُ من بعض.

فأقوى القياس أن يحرِّم الله في كتابه أو يحرم رسول الله القليل من الشيء، فيُعْلمَ أن قليله إذا حُرِّم كان كثيره مثلَ قليله في التحريم أو أكثرَ، بفضل الكثرة على القلة.

وكذلك إذا ُحمِد على يسير من الطاعة، كان ما هو أكثرُ منها أولى أن ُيحمد عليه.

وكذلك إذا أباح كثيرَ شيء كان الأقل منه أولى أن يكون مباحاً.

فإن قال: فاذكر من كل واحد من هذا شيئاً يبين لنا ما في معناه؟

- [514] - قلت: قال رسول الله: "إن الله حرّم من المؤمن دمه وماله، وأن يُظَن به إلا خيراً" (1)

فإذا حرّم أن يُظن به ظناً مخالفاً للخير يُظهره: كان ما هو أكثر من الظن المُظهَر ظناً من التصريح له - [515] - بقول غير الحق أولى أن يحُرَّم، ثم كيف ما زِيد في ذلك كان أحرَم. َ

قال الله: {فمَن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ خيراً يَرَهُ، ومَن يعملْ مثقالَ ذرَّة شراً يَرَهُ} [الزلزلة 7، 8]

فكان ما هو أكثر من مثقال ذرة من الخير أحمَدَ، وما هو أكثر من مثقال ذرةٍ من الشر أعظمَ في المأثم.

وأباح لنا دماءَ أهل الكفر المقاتِلين غيرِ المعاهَدين، وأموالهَم، ولم يحَظُرْ علينا منها شيئاً أذكرُهُ، فكان ما نِلْنا من أبدانهم دون الدماء، ومن أموالهم دون كلِّها: أولى أن يكون مباحاً.

(1) (به) نائب فاعل (يُظن) وهو جائز عند الكوفيين ولا يجيزه الجمهور وسيأتي نظائر هذا في كلام الشافعي نستغني بالإشارة هنا عن إعادتها.

وقد يمتنع بعض أهل العلم من أن يسمي - [516] - هذا "قياساً" ويقول: هذا معنى ما أحل الله، وحرم، وحمِد، وذمّ، لأنه داخل في جملته، فهو بعينه، ولا قياسٌ على غيره.

ويقول مثل هذا القول في غير هذا، مما كان في معنى الحلال فأُحل، والحرام فحُرم.

ويمتنع أن يُسمَّى "القياس" إلا ما كان يحتمل أن يُشَبَّه بما احتمل أن يكون فيه شَبَهاً (1) من معنيين مختلفين، فَصَرَفَه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخر.

ويقول غيرهم من أهل العلم: ما عدا النصَّ من الكتاب أو السنة، فكان في معناه فهو قياس، والله اعلم.

(1) استعمل الشافعي هنا وفي مواضع اسم كان منصوباً إذ تقدم عليه الجار والمجرور.

فإن قال قائل: فاذكر من وجوه القياس ما يدل على اختلافه في البيان والأسبابِ، والحجة فيه سوى هذا الأولِ، الذي تدرِك العامة علمه؟

قيل له إن شاء الله: قال الله: {والوالداتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَولين كاملين لمن أرادَ أن يتمَّ الرَّضاعةَ وعلى المولودِ له رزقُهنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف} [البقرة 233]

وقال: {وإن أردتم أن تَسترضعوا أولادَكم، فلا جُناحَ عليكم إذا سَلَّمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة 233]

فأمر رسول الله هندَ بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدَها - وهم ولده - بالمعروف بغير أمره.

قال: فدلَّ كتاب الله وسنة نبيه أن على الوالد رَضاعَ ولده، ونفقتَهم صغاراً.

- [518] - فكان الولد من الوالد فجُبر على صلاحه في الحال التي لا يُغني الولد فيها نفسه، فقلت: إذا بلغ الأب ألا يغني نفسه بكسبٍ ولا مالٍ، فعلى ولده صلاحُه في نفقته وكسوته قياساً على الولد.

وذلك أن الولد من الوالد، فلا يضيِّع شيئاً هو منه، كما لم يكن للولد أن يضيع شيئاً من ولده، إذ كان الولدُ منه، وكذلك الوالدون وإن بَعُدُوا، والولدُ وإن سَفَلُوا في هذا المعنى، والله أعلم، فقلت: ينفق على كل محتاج منهم غيرِ محترِف، وله النفقة على الغني المحترف.

وقضى رسول الله في عبدٍ دُلِّس للمبتاع فيه بعيب - [519] - فظهر عليه بعد ما استغلَّه أن للمبتاع ردَّه بالعيب، وله حبسُ الغلّة بضمانه العبد. َ

فاستدللنا إذا كانت الغلة لم يقع عليها صفقةُ البيع، فيكونَ لها حصة من الثمن، وكانت في ملك المشتري في الوقت الذي لو مات فيه العبد مات من مال المشتري: أنه إنما جعلها له لأنها حادثة في ملكه وضمانه، فقلنا: كذلك في ثمر النخل، ولبن الماشية وصوفها وأولادها، وولدِ الجارية، وكلِّ ما حدث في مِلك المشتري وضمانه، وكذلك وطءُ الأمة الثيِّب وخدمتُها.

قال: فتفرَّق علينا بعض أصحابنا وغيرُهم في هذا.

فقال بعض الناس: الخراجُ والخدمة والمتاع غيرُ الوطء من المملوك والمملوكةِ لمالكها الذي اشتراها، وله ردُّها بالعيب، وقال: لا يكون له أن يردَّ الأمة بعد أن يطأها، وإن كانت ثيباً، ولا يكون له ثمر النخل، ولا لبن الماشية، ولا صوفها، ولا - [520] - ولد الجارية، لأن كل هذا - من الماشية والجارية والنخل والخراج: ليس بشيء من العبد.

فقلت لبعض من يقول هذا القول: أرأيت قولك: الخراجُ ليس من العبد، والثمرُ من الشجر، والولدُ من الجارية: أليسا يجتمعان في أن كل واحد منهما كان حادثاً في ملك المشتري، لم تقع عليه صفقة البيع؟

قال: بلى، ولكن يتفرقان في أن ما وصل إلى السيد منهما مفترق، وتمر النخل منها، وولد الجارية والماشية منها، وكسبُ الغلام ليس منه، إنما هو شيء تحَرَّف فيه فاكتسبه.

- [521] - فقلت له أرايت إن عارضك معارض بمثل حجتك فقال: قضى النبي أن الخراج بالضمان، والخراج لا يكون إلا بما وصفت من التحرُّف، وذلك يشغله عن خدمة مولاه، فيأخذ له بالخراج العِوَض من الخدمة ومن نفقته على مملوكه، فإن وُهِبَت له هبة، فالهبة لا تشغله عن شيء: لم تكن لمالكه الآخر، ورُدَّت إلى الأول؟

قال: لا، بل تكون للآخِر الذي وُهبت له، وهو في ملكه.

قلت: هذا ليس بخراج، هذا من وجه غير الخراج.

قال: وإنْ، فليس من العبد.

قلتُ: ولكنه يفارق معنى الخراج، لأنه من غير وجه الخراج؟

- [522] - قال: وإن كان من غير وجه الخراج، فهو حادث في ملك المشتري.

قلت: وكذلك الثمرة والنِّتاج حادث في ملك المشتري، والثمرة إذا باينت النخلة، فليست من النخلة، قد تباع الثمرة، ولا تتبعها النخلة، والنخلةُ ولا تتبعها الثمرة، وكذلك نِتاجُ الماشية. والخراجُ أولى أن يُرد مع العبد، لأنه قد يُتكلف فيه ما تبعه من ثمر النخلة، ولو جاز أن يُرد واحد منهما.

وقال بعض أصحابنا بقولنا في الخراج، ووطء الثيب، وثمر النخل، وخالفنا في ولد الجارية.

وسواءٌ ذلك كله، لأنه حادث في ملك المشتري، لا يستقيم فيه إلا هذا، أو لا يكون لمالك العبد المشتري شيء - [523] - إلا الخراجُ والخدمة، ولا يكون له ما وُهب للعبد، ولا ما التَقط، ولا غيرُ ذلك من شيء أفاده من كَنز ولا غيره، إلا الخراجُ والخدمة، ولا ثمرُ النخل، ولا لبن الماشية، ولا غير ذلك، لأن هذا ليس بخراج.

ونهى رسول الله عن الذهب بالذهب، والتمر بالتمر، والبُرِّ بالبر، والشعير بالشعير إلا مثلاً بمثل يداً بيد.

فلما خَرَجَ رسول الله في هذه الأصناف المأكولة التي شَحّ الناس عليها، حتى باعوها كيلاً: بمعنيين: أحدهما: أن يباع - [524] - منها شيء بمثله أحدُهما نقد، والآخر دَين، والثاني: أن يُزاد في واحد منهما شيء على مثله يداً بيد: وكان ما كان في معناها محرّما قياساً عليها.

وذلك كل ما أُكل مما بيع موزوناً، لأني وجدتها مجتمعةَ المعاني في أنها مأكولة ومشروبة، والمشروبُ في معنى المأكول، لأنه كلَّه للناس إما قوت وإما غذاء وإما هما، ووجدت الناس شَحّوا عليها حتى باعوها وزناً، والوزنُ أقربُ من الإحاطة من الكيل، وفي معنى الكيل، وذلك مثل العسل والسمن والزيت والسكر وغيره، مما يؤكل ويُشرب ويباع موزوناً.

فإن قال قائل: أفيحتمل ما بيع موزوناً أن يقاس - [525] - على الوزن من الذهب والوَرِق، فيكونَ الوزن بالوزن أولى بأن يقاس من الوزن بالكيل؟

قيل - إن شاء الله - له: إن الذي منعنا مما وصفتَ - من قياس الوزن بالوزن - أن صحيح القياس إذا قِست الشيء بالشيء أن تحكم له بحكمه، فلو قست العسل والسمن بالدنانير والدراهم، وكنت إنما حرّمت الفضل في بعضها على بعض إذا كانت جنساً واحدا قياساً على الدنانير والدراهم: أكان يجوز أن يُشترى بالدنانير والدراهم نقداً عسلاً وسمناً إلى أجل؟

فإن قال: يجيزه بما أجازه به المسلمون.

- [526] - قيل إن شاء الله: فإجازة المسلمين له دلتني على أنه غير قياس عليه، لو كان قياساً عليه كان حكمُه حكمَه، فلم يحل أن يباع إلا يداً بيد، كما لا تحل الدنانير بالدراهم إلا يداً بيد.

فإن قال: أفتجدك حين قسته على الكيل حكمتَ له حكمه؟

قلت: نعم، لا أفرّق بينه في شيء بحال.

قال: أفلا يجوز أن تشتري مُدّ حِنطة نقداً بثلاثة أرطال زيت إلى أجل.

- [527] - قلت: لا يجوز أن يُشترى، ولا شيءٌ من المأكول والمشروب بشيء من غير صنفه إلى أجل.

حكمُ المأكول المكيلِ حكمُ المأكول الموزون. ِ

قال: فما تقول في الدنانير والدراهم؟

قلت: محرَّمات في أنفسها، لا يقاس شيء من المأكول عليها، لأنه ليس في معناها، والمأكولُ المكيلُ محرَّم في نفسه، ويقاس به ما في معناه من المكيل والموزون عليه، لأنه في معناه.

فإن قال: فافرُق بين الدنانير والدراهم؟

قلت: لم أعلم مخالفاً من أهل العلم في إجازة أن يُشترى بالدنانير والدراهم الطعامُ المكيلُ والموزون إلى أجل، وذلك لا يحل في الدنانير بالدراهم، وإني لم أعلم منهم مخالفاً في أني لو علمت مَعدِناً فأدّيت الحق فيما خرج منه، ثم أقامت فضته أو ذهبه عندي دهرِي: كان علي في كل سنة أداءُ زكاتها، ولو حصدت - [528] - طعامَ أرضي، فأخرجت عُشره أقام عندي دهرَه: لم يكن علي فيه زكاة، وفي أني لو استهلكت لرجل شيئاً قُوِّم علي دنانيرَ أو دراهمَ، لأنها الأثمانُ في كل مالٍ لمسلم إلا الديات.

فإن قال: هكذا.

قلتُ: فالأشياء تتفرق بأقل مما وصفت لك.

ووجدنا عامّاً في أهل العلم أن رسول الله قضى في جناية الحر المسلم خطأً بمائة من الإبل على عاقلة الجاني وعامَّاً فيهم أنها في مُضِيّ ثلاث سنين، في كل سنة ثلثُها، وبأسنانٍ معلومة.

فدَلَّ على معاني من القياس، سأذكر منها - إن شاء الله - بعض ما يحضرني:

إنا وجدنا عاماً في أهل العلم أن ما جنى الحرُّ المسلم من جنايةِ عمدٍ أو فسادِ مال لأحد على نفس أو غيره: ففي ماله دون عاقلته، وما كان من جنايةٍ في نفسٍ خطأً فعلى عاقلته.

ثم وجدناهم مجمعين على أن تَعقل العاقلة ما بلغ ثلث الدية من جناية في الجراح فصاعداً.

ثم افترقوا فيما دون الثلث: فقال بعض أصحابنا: تعقل العاقلة الموضِحَة (1) وهي نصف العشر فصاعداً، ولا تعقل ما دونها.

فقلت لبعض من قال: تعقل نصف العشر، ولا تعقل ما دونه: هل يستقيم القياس على السنة إلا بأحد وجهين؟

- [530] - قال: وما هما؟

قلت: أن تقول: لما وجدت النبي قضى بالدية على العاقلة قلت به اتباعاً، فما كان دون الدية ففي مال الجاني، ولا تقيس على الدية غيرها، لأن الأصل: الجاني أولى أن يَغْرَمَ جنايته من غيره، كما يغرمها في غير الخطأ في الجراح، وقد أوجب الله على القاتل خطأً ديةً ورقبةً، فزعمت أن الرقبة في ماله، لأنها من جنايته، وأخرجت الدية من هذا المعنى اتباعاً، وكذلك أتَّبع في الدية، وأصرف بما دونها إلى أن يكون في ماله، لأنه أولى أن يَغرم ما جنى من غيره، وكما أقول في المسح على الخفين: رخصةٌ: بالخبر عن رسول الله، ولا أقيس عليه غيرَه.

(1) الموضحة: الجرح الذي يبدي وضح العظم أي بياضه.

أو يكونَ القياس من وجه ثاني؟

قال: وما هو؟

- [531] - قلت: إذ أخرج رسول الله الجناية خطأً على النفس مما جنى الجاني على غير النفس، وما جنى على نفس عمداً، فجعل على عاقلته يضمنونها، وهي الأكثر: جَعَلْت على عاقلته يضمنون الأقل من جناية الخطأ، لأن الأقل أولى أن يضمنوه عنه من الأكثر، أو في مثل معناه.

قال: هذا أولى المعنيين أن يقاس عليه، ولا يُشْبهُ هذا المسحَ على الخفين.

فقلت له: هذا كما قلت - إن شاء الله - وأهل العلم مجمعون على أن تغرم العاقلة الثلث وأكثر، وإجماعهم دليل على أنهم قد قاسوا بعضَ ما هو أقلُّ من الدية بالدية!

قال: أجل.

فقلت له: فقد قال صاحبنا: أحسنُ ما سمعت أن تَغرم العاقلة ثلث الدية فصاعداً، وحكى أنه الأمرُ عندهم، أفرأيت إن احتجّ له محتجّ بحجتين؟

قال: وما هما؟

قلت: أنا وأنت مجمعان على أن تغرم العاقلة الثلث فأكثر، ومختلفان فيما هو أقل منه، وإنما قامت الحجة بإجماعي وإجماعك على الثلث، ولا خبر عندك في أقلَّ منه: ما تقول له؟

قال: أقول إن إجماعي من غير هذا الوجه الذي ذهبتَ إليه، إجماعي إنما هو قياس على أن العاقلة إذا غَرِمت الأكثر ضَمنَت ما هو أقلُّ منه، فمن حَدّ لك الثلث؟ أرأيت إن قال لك غيرك: بل تغرم تسعةَ أعشار، ولا تغرم ما دونه؟

قلت: فإن قال لك: فالثلث يَفدح مَن غَرِمه، - [533] - قلت: يُغرم معه أو عنه لأنه فادح، ولا يُغرَم ما دونه غيرُ فادح.

قال: أفرأيت من لا مال له إلا درهمين، أما يَفدحه أن يَغرم الثلث والدرهمَ، فيبقى لا مال له؟ أرأيت من له دنيا عظيمةٌ، هل يفدحه الثلث؟

فقلت له: أفرأيت لو قال لك: هو لا يقول لك "الأمر عندنا" إلا والأمر مجتمَعٌ عليه بالمدينة.

- [534] - قال: والأمر المجتَمَع عليه بالمدينة أقوى من الأخبار المنفردة؟! قال: فكيف تَكلّفَ أن حكى لنا الأضعفَ من الأخبار المنفردة، وامتنع أن يحكيَ لنا الأقوى اللازمَ من الأمر المجتَمَع عليه؟!

قلنا: فإن قال لك قائل: لقلة الخبر وكثرة الإجماع عن أن يحُكى، وأنت قد تصنع مثل هذا، فتقول: هذا أمر مجتَمَع عليه!

قال: لستُ أقول ولا أحدٌ من أهل العلم "هذا مجتمع عليه" : إلا لما تَلْقى عالماً أبداً إلا قاله لك وحكاه عن من قبله، كالظهرُ أربعٌ، وكتحريم الخمر، وما أشبه هذا، وقد أجده - [535] - يقول: "المجمع عليه" وأجد من المدينة من أهل العلم كثيراً يقولون بخلافه، وأجد عامة أهل البلدان على خلاف ما يقول: "المجتمع عليه"

قال: فقلت له: فقد يلزمك في قولك "لا تعقل ما دون الموضِحَة" مثلُ ما لزمه في الثلث.

فقال لي: إن فيه علةً بأن رسول الله لم يقض فيما دون الموضحة بشيء.

فقلت له: أفرأيت إن عارضك معارِض فقال: لا أقضي فيما دون الموضحة بشيء، لأن رسول الله لم يقض فيه بشيء؟

قال: ليس ذلك له، وهو إذا لم يقض فيما دونها بشيء، فلم يَهدُر ما دونها من الجِرَاح.

قال: وكذلك يقول لك: هو إذا لم يقل: لا تعقِل العاقلة ما دون الموضحة، فلم يحرِّم أن تعقل العاقلة ما دونها، ولو قضى في الموضحة، ولم يقضِ فيما دونها على العاقلة ما منع ذلك العاقلةَ أن تَغرَم ما دونها، إذا غَرِمت الأكثرَ غرمت الأقلَّ، كما قلنا نحن وأنت، واحتججتَ على صاحبنا، ولو جاز هذا لك، جاز عليك.

ولو قضى النبي بنصف العُشر على العاقلة: أن يقول قائل: تغرم نصف العشر والديةَ، ولا تغرم ما بينهما، ويكون ذلك في مال الجاني؟! ولكن هذا غيرُ جائز لأحد، والقول فيه أن جميع ما كان خطأ فعلى العاقلة، وإن كان درهماً.

وقلت له: قد قال بعض أصحابنا: إذا جنى الحر على العبد جنايةً فأتى على نفسه أو ما دونها خطأ، فهي في ماله دون - [537] - عاقلته، ولا تعقل العاقلة عبداً، فقلنا: هي جناية حر، وإذ قضى رسول الله أن عاقلة الحر تحمل جنايته في حر إذا كانت غُرْماً لاحقاً بجناية خطأ، وكذلك جنايتُه في العبد إذا كانت غُرْماً من خطأ، والله أعلم، وقلتَ بقولنا فيه، وقلتَ: من قال لا تعقل العاقلة عبداً احتمل قوله لا تعقل جناية عبدٍ، لأنها في عنقه دون مال سيده غيرِه (1) فقلتَ بقولنا، ورأيتَ ما احتججتُ به من هذا حجةً صحيحةً داخلة في معنى السنة؟

قال: أجل.

(1) (غيره) بدل من (سيده) .

قال: وقلتُ له: وقال صاحبك وغيره من - [538] - أصحابنا: جِرَاح العبد في ثمنه كجِرَاح الحر في ديته، ففي عينه نصفُ ثمنه، وفي موضحته نصفُ عشر ثمنه، وخالفْتَنَا فيه، فقلتَ: في جراح العبد ما نَقَصَ من ثمنه.

قال: فأنا أبدأ، فأسألك عن حجتك في قول جِرَاح العبد في ديته: أخبراً قلته أم قياساً؟

قلت: أما الخبر فيه، فعن سعيد بن المسيب.

قال: فاذكره؟

قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال: عَقْلُ العبد في ثمنه، فسمعته منه كثيراً هكذا، وربما قال: كجراح الحر في ديته، قال ابن شهاب: فإن ناساً يقولون: يُقَوَّم سلعةً.

فقال: إنما سألتك خبراً تقوم به حجَّتُك.

فقلت: قد أخبرتك أني لا أعرف فيه خبراً عن أحدٍ أعلى من سعيد بن المسيب.

قال: فليس في قوله حجة.

قال: وما ادعيتُ ذلك فتردَّه عليّ!

قال: فاذكر الحجة فيه؟

قلت: قياساً على الجناية على الحر.

قال: قد يفارق الحرَّ في أن دية الحر مؤقَّتة، - [540] - وديتُه ثمنُهُ، فيكونُ بالسِّلَع من الإبل والدواب وغير ذلك أشبهَ، لأن في كل واحد منهما ثمنَه. ُ

فقلت: فهذا حجة لمن قال: لا تعقل العاقلة ثمن العبد: عليك.

قال: ومن أين؟

قال: يقول لك: لمَ قلتَ تعقل العاقلة ثمن العبد إذا جنى عليه الحر قيمته، وهو عندك بمنزلة الثمن؟ ولو جنى على بعير جناية ضمِنها في ماله؟

قال: فهو نفسٌ محرمة.

قلت: والبعير نفس محرمة على قاتله؟

قال: ليست كحرمة المؤمن.

قلت: ويقول لك، ولا العبدُ كحرمة الحر في كل أمره.

- [541] - فقلت: فهو عندك مجُاَمِعُ الحرِّ في المعنى، أفتعقله العاقلة؟

قال: ونعم.

قلت: وحَكَمَ الله في المؤمن يُقتل خطأً بديةٍ وتحريرِ رقبة؟

قال: نعم.

قلت: وزعمتَ أن في العبد تحريرَ رقبةٍ كهي في الحر وثمنً، وأن الثمن كالدية؟

قال: نعم.

قلت: وزعمتَ أنك تقتل الحرَّ بالعبد؟

قال: نعم.

- [542] - قلت: وزعمنا أنا نقتل العبدَ بالعبد؟

قال: وأنا أقوله.

قلت: فقد جامَعَ الحرَّ في هذه المعاني عندنا وعندك، في أن بينه وبين المملوك قصاصاً في كل جُرح، وجامَعَ البعير في معنى أن ديتَه ثمنُهُ، فكيف اخترتَ في جراحته أن تجعلها كجراحة بعيرٍ، فتجعل فيه ما نَقَصَه، ولم تجعل جراحته في ثمنه كجراح الحر في ديته؟ وهو يجُامع الحر في خمسة معاني، ويفارقه في معنى واحد؟ أليس أن تقيسه على ما يجامعه في خمسة معاني أولى بك من أن تقيسه على جامعه على معنى واحد؟! مع أنه يجُامع الحر في أكثرَ من هذا: أن ما حُرم على الحر حُرم عليه، وأن عليه الحدودَ والصلاةَ والصوم وغيرها من الفرائض، وليس من البهائم بسبيل!!

قال: رأيتُ ديتَه ثمنَه؟

- [543] - قلت: وقد رأيتَ دية المرأة نصف دية الرجل، فما منع ذلك جراحَهَا أن تكون في ديتها، كما كانت جراح الرجل في ديته؟!

وقلت له: إذا كانت الدية في ثلاث سنين إبلاً أفليس قد زعمتَ أن الإبل لا تكون بصفة دَيناً؟ فكيف أنكرت أن تُشترى الإبل بصفة إلى أجل؟ ولم تقيسه (1) على الدية، ولا على الكتابة ولا، على المهر، وأنت تجيز في هذا كله أن تكون الإبل بصفة دَيناً؟! فخالفت فيه القياس، وخالفتَ الحديث نصاً عن النبي: أنه استسلف بعيراً، ثم أمر بقضائه بعد؟!

- [544] - قال: كرهه ابن مسعود.

فقلنا: وفي أحد مع النبي حجة؟!

قال: لا، إن ثبت عن النبي.

قلت: هو ثابت باستسلافه بعيراً وقضاه خيراً منه، وثابت في الديات عندنا وعندك، هذا في معنى السنة.

(1) (لم) إما أن تكون مهملة على لغة أو أن تكون عاملة والياء إشباع للكسرة.

قال: فما الخبر الذي يقاس عليه؟

قلت: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي رافع: "أن النبي استسلف من رجل بعيراً فجاءته إبل، فأمرني أن أقضيه إياه، فقلت: لا أجد في الإبل إلا جملاً خِياراً، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً" (1)

(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك في الموطأ.

قال: فما الخبر الذي لا يقاس عليه؟

قلت: ما كان لله فيه حكمٌ منصوص، ثم كانت لرسول الله سنة بتخفيفٍ في بعض الفرض دون بعض: عُمِلَ بالرخصة فيما رخَّص فيه رسول الله دون ما سواها، ولم يُقَس ما سواها عليها، وهكذا ما كان لرسول الله من حكم عام بشيء، ثم سَن سنة تفارق حكم العام.

قال: وفي مثل ماذا؟

قلت: فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة من نومه، فقال: {إذا قمتم إلى الصلاةِ، فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤسكم وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة 6]

فقصد قصْد الرجلين بالفرض، كما قَصَدَ قصْد ما سواهما في أعضاء الوضوء.

- [546] - فلما مسح رسول الله على الخفين لم يكن لنا - والله أعلم - أن نمسح على عمامة، ولا بُرْفُع، ولا قُفَّازين: قياساً عليهما، وأثبتنا الفرض في أعضاء الوضوء كلها، وأرخصْنا بمسح النبي في المسح على الخفين، دون ما سواهما.

قال: فتعدُّ هذا خلافاً للقُرَآن؟

قلت: لا تخالف سنة لرسول الله كتاب الله بحال.

قال: فما معنى هذا عندك؟

قلت: معناه أن يكون قَصَدَ بفرض إمساس القدمين الماءَ مَن لا خُفَّي عليه لَبِسَهما كاملَ الطهارة.

قال: أوَ يجوز هذا في اللسان؟

قلت: نعم، كما جاز أن يقوم إلى الصلاة من هو - [547] - على وضوء، فلا يكون المراد بالوضوء، استدلالاً بأن رسول الله صلى صلاتين وصلوات بوضوء واحد.

وقال الله: {والسارقُ والسارقةُ، فاقطعوا أيديَهما جزاءً بما كسبا نَكالاً من الله، والله عزيز حكيم} [المائدة 38]

فدلت السنة على أن الله لم يرد بالقطع كل السارقين.

فكذلك دلت سنة رسول الله بالمسح أنه قصد بالفرض في غسل القدمين من لا خُفَّي عليه لبسهما كاملَ الطهارة.

قال: فما مثلُ هذا في السنة؟

قلت: نهى رسول الله عن بيع التمر بالتمر إلا مِثْلاً بمثل "وسئل عن الرُّطَب بالتمر؟ فقال: أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ فقيل: نعم، فنهى عنه" . و "نهى عن المزابنة" ، وهي كل ما عُرِف كيلُه منه، وهذا كله مجتَمِع المعاني، "ورخص أن تُبَاع العرايا بخَرْصها تمراً يأكلها أهلها رُطَبَاً" (1)

- [548] - فرخَّصنا في العرايا بإرخاصه، وهي بيع الرطب بالتمر، وداخلةٌ في المزابنة بإرخاصه، فأثبتنا التحريم محرماً عاماً في كل شيء من صنف واحد مأكول، بعضُهُ جُزَاف وبعضه بكيل: للمزابنة، وأحللنا العرايا خاصة بإحلاله من الجملة التي حَرَّم، ولم نبطل أحد الخبرين بالآخر، ولم نجعله قياساً عليه.

قال: فما وجه هذا؟

قلت: يحتمل وجهين: أولاهما به عندي - والله أعلم - أن يكون ما نهى عنه جملةً أراد به ما سوى العرايا، ويحتمل أن يكون أَرْخص فيها بعد وجوبها في جملة النهي، وأيَّهما كان فعلينا طاعته بإحلال ما أحل، وتحريم ما حَرَّم.

(1) انظر ما مضى ص 331

وقضى رسول الله بالدية في الحر المسلم يُقتل خطأ مائة من الإبل، وقضى بها على العاقلة.

وكان العمد يخالف الخطأ في القَوَد والمأثَم، ويوافقه في أنه قد تكون فيه دية.

فلما كان قضاء رسول الله في كل امرئ فيما لزمه، إنما هو في ماله دون مال غيره، إلا في الحر يُقتل خطأ: قضينا على العاقلة في الحر يُقتل خطأ ما قضى به رسول الله، وجعلنا الحر يُقتل عمدا إذا كانت فيه دية: في مال الجاني، كما كان كل ما جنى في ماله غيرَ الخطأ، ولم نقس ما لزمه من غُرْم بغير جراح خطأٍ على ما لزمه بقتل الخطأ.

فإن قال قائل: ما الذي يَغرم الرجلُ من جنايته، وما لَزِمَه غيرُ الخطأ؟

- [550] - قلت: قال الله: {وآتوا النساءَ صَدُقَاتهنَّ نِحْلةً} [النساء 4]

وقال: {وأقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ} [البقرة 43]

وقال: {فإن أُحْصِرتم فما استيسرَ من الهَدْي} [البقرة 196]

وقال: {والذين يُظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحريرُ رَقَبَةٍ من قبل أن يَتَمَاسّا} [المجادلة 3]

وقال: {ومَن قَتَلَه منكم مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثلُ ما قتل من النَّعَم يحكُمُ به ذَوَا عدْلٍ منكم هَدْياً بالغَ الكعبةِ، أو كفَّارةٌ طعامُ مساكين، أو عَدْلُ ذلك صياماً ليذوقَ وبالَ أمرِه، عفا الله عما سَلَفَ، ومَن عاد فينتقمُ الله منه، والله عزيز ذو انتقام} [المائدة 95]

- [551] - وقال: {فكفَّارتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسط ما تُطعمون أهليكم، أو كِسوتهم أو تحريرُ رقبة، فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيام} [المائدة 89]

وقضى رسول الله على "أن على أهل الأموال حِفظَهَا بالنهار، وما أفسَدَت المواشي بالليل، فهو ضامن على أهلها" (1) .

فدل الكتاب والسنة وما لم يختلف المسلمون فيه: أن هذا كله في مال الرجل، بحقٍّ وجب عليه لله، أو أوجبه الله عليه للآدميين، بوجوهٍ لَزِمَته، وأنه لا يُكَلف أحدٌ غُرْمَه عنه.

ولا يجوز أن يجني رجل، ويَغرم غير الجاني، إلا في الموضع الذي سَنَّه رسول الله فيه خاصة من قتل الخطأ وجنايته على الآدميين خطأً.

- [552] - والقياس فيما جنى على بهيمة أو متاع أو غيره - على ما وصفت: أن ذلك في ماله، لأن الأكثر المعروفَ أن ما جنى في ماله، فلا يقاس على الأقل، ويُترك الأكثر المعقول، ويُخَص الرجل الحر يَقتل الحرَّ الخطأ، فتعقله العاقلة، وما كان من جناية خطأً على نفس وجُرح: خبراً وقياساً.

(1) رواه مالك في الموطأ 2/220 وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان وصححه الحاكم والبيهقي.

وقضى رسول الله في الجنين بغُرَّة عبد أو أمة، وقَوَّم أهلُ العلم الغرة خمساً من الإبل.

قال: فلما لم يُحكَا أن رسول الله سأل عن الجنين: أَذَكَر هو أم أنثى؟ إذ قضى فيه سَوَّى بين الذكر والأنثى - [553] - إذا سقط ميتا، ولو سقط حياً فمات جَعَلوا في الرجل مائة من الإبل، وفي المرأة خمسين.

فلم يجز أن يقاس على الجنين شيء من قِبَل أن الجنايات على من عُرِفَت جنايته مُوَقَّتاتٌ معروفات. مفروقٌ فيها بين الذكر والأنثى. وأن لا يختلف الناس في أن لو سقط الجنين حياً، ثم مات كانت فيه دية كاملة، إن كان ذكراً فمائةٌ من الإبل، وإن كانت أنثى فخمسون من الإبل، وأن المسلمين - فيما علمت - لا يختلفون أن رجلاً لو قَطَعَ الموتى لم يكن في واحد منهم دِيَة، ولا أرْش، والجنينُ لا يعدو أن يكون حياً أو ميتاً.

فلما حكم فيه رسول الله بحكمٍ فارق حكم النفوس، الأحياءِ والأمواتِ، وكان مغيَّبَ الأمر: كان الحكمُ بما حَكَمَ به على الناس اتباعاً لأمر رسول الله.

- [554] - قال فهل تعرف له وجهاً؟

قلت: وجهاً واحداً، والله أعلم.

قال: وما هو؟

قلت: يقال: إذا لم تُعرف له حياة، وكان لا يُصلى عليه، ولا يرث: فالحكمُ فيه أنها جناية على أمه، وقَّت فيها رسول الله شيئاً قوَّمه المسلمون، كما وقَّت في الموضِحة.

قال: فهذا وجه.

قلت: وجهٌ لا يُبين الحديثُ أنه حَكَمَ به له، فلا يصح أن يقال: إنه حكم به له، ومن قال: إنه حكم به لهذا المعنى قال: هو للمرأة دون الرجل، هو للأم دون أبيه، لأنه عليها جُنِي، ولا حكم للجنين يكون به موروثاً، ولا يُورَث مَن لا يَرِث.

قال: فهذا قول صحيح؟

- [555] - قلت: الله أعلم.

قال: فإن لم يكن هذا وجهَه، فما يقال لهذا الحكم؟

قلنا: يقال له: سنةٌ تُعُبِّد العبادُ بأن يحكموا بها.

وما يقال لغيره مما يدل الخبر على المعنى الذي له حُكم به؟

قيل: حُكْمُ سنة تُعُبِّدوا بها لأمر عرفوه بمعنى الذي تُعُبِّدوا له في السنة، فقاسوا عليه ما كان في مثل معناه.

قال: فاذكر منه وجهاً غيرَ هذا إن حضرك تجمع فيه ما يقاس عليه، ولا يقاس؟

- [556] - فقلت له: قضى رسول الله في المُصَرَّاة (1) من الإبل والغنم إذا حَلَبَها مشتريها: "إن أحبَّ أمسكها، وإن أحب ردَّها وصاعاً من تمر" (2) ، وقضى "أن الخراج بالضمان"

فكان معقولاً في "الخراج بالضمان" أني إذا ابتعت عبداً فأخذت له خَرَاجاً ثم ظهرْتُ منه على عيب يكونُ لي ردُّه: فما أخذت من الخراج والعبدُ في مِلْكي ففيه خصلتان: إحداهما: أنه لم يكن في ملك البائع، ولم يكن له حصة من الثمن، والأخرى: - [557] - أنها في ملكي، وفي الوقت الذي خرج فيه العبد من ضمان بائعه إلى ضماني، فكان العبد لو مات مات من مالي وفي ملكي، ولو شئتُ حبسته بعيبه، فكذلك الخراج.

فقلنا بالقياس على حديث "الخراج بالضمان" فقلنا: كل ما خرج من ثمرِ حائطٍ اشتريته، أو وَلَدِ ماشيةٍ أو جاريةٍ اشتريتها، فهو مثل الخراج، لأنه حدث في مِلك مشتريه، لا في ملك بائعه.

وقلنا في المُصَرَّاة اتباعاً لأمر رسول الله، ولم نقس عليه، وذلك أن الصفقة وقعت على شاة بعينها، فيها لبنٌ محبوس مغيَّب المعنى والقيمة، ونحن نحيط أن لبن الإبل والغنم يختلف، وألبانُ كل واحد منهما يختلف، فلما قضى فيه رسول الله بشيء مؤقَّت، وهو صاعٌ من تمر: قلنا به اتباعاً لأمر رسول الله.

- [558] - قال: فلو اشترى رجل شاة مُصَرَّاة، فَحَلَبها ثم رَضِيَهَا بعد العلم بعيب التصْرِيَة، فأمسكها شهراً حَلَبَها، ثم ظهر منها على عيب دلَّسه له البائعُ غيرِ التصرية: كان له ردُّها، وكان له اللبنُ بغير شيء، بمنزلة الخراج، لأنه لم يقع عليه صفقةُ البيع، وإنما هو حادث في مِلك المشتري، وكان عليه أن يرد فيما أخذ من لبن التَّصْرية صاعاً من تمر، كما قضى به رسول الله.

فنكونُ قد قلنا في لبن التصرية خبراً، وفي اللبن بعد التصرية قياساً على "الخراج بالضمان"

ولبنُ التصرية مفارقٌ لِلَّبن الحادثِ بعده، لأنه وقعت عليه صفقةُ البيع، واللبنُ بعده حادث في ملك المشتري، لم تقع عليه صفقة البيع.

(1) هي الشاة التي ُيحبس اللبن في ضرعها.

(2) رواه مالك في الموطأ 2/170 والشيخان.

فإن قال قائل: ويكون أمرٌ واحدٌ يؤخذ من وجهين؟

قيل له: نعم، إذا جمَعَ أمرين مختلفين، أو أموراً مختلفة.

- [559] - فإن قال: فَمَثِّل من ذلك شيئاً غيرَ هذا؟

قلت: المرأة تبلغها وفاة زوجها، فتعتد، ثم تتزوج، ويدخل بها الزوج، لها الصَّدَاق، وعليها العِدَّة والولد لاحق، ولا حَدَّ على واحد منهما، ويُفَرَّق بينهما، ولا يتوارثان، وتكون الفُرقة فَسخاً بلا طَلاق.

يُحكم له إذا كان ظاهره حلالاً حكمَ الجلال، في ثبوت الصداق والعدة ولحُوق الولد ودَرءِ الحد، وحُكِم عليه إذ كان حراماً في الباطن حُكم الحرام في أن لا يُقَرَّا عليه، ولا تحل له إصابتُها بذلك النكاح إذا علما به، ولا يتوارثان، ولا يكون الفسخُ طلاقاً، لأنها ليست بزوجة.

ولهذا أشباهٌ، مثلُ المرأة تَنكح في عدتها.

[باب الاختلاف]

قال: فإني أجد أهل العم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟

قال: فقلت له: الاختلاف من وجهين: أحدهما: محرم، ولا أقول ذلك في الآخر.

قال: فما الاختلاف المحرم؟

قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً: لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.

وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره: لم أقل أنه يُضَيَّق عليه ضِيقَ الخلاق في المنصوص.

- [561] - قال: فهل في هذا حجة تُبَين فرقك بين الاختلافين؟

قلت: قال الله في ذم التفرق: {وما تَفَرَّق الذين أوتوا الكتابَ إلا من بعد ما جاءتهم البينةُ} [البينة 4]

وقال جل ثناؤه: {ولا تكونوا كالذين تَفَرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران 105]

فَذَمَّ الاختلاف فيما جاءتهم به البينات.

فأما ما كُلِّفوا فيه الاجتهاد، فقد مَثَّلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها.

قال: فَمَثِّل لي بعض ما افترق عليه من رُوي قوله من السلف، مما لله فيه نصُّ حكم يحتمل التأويل، فهل يوجد على الصواب فيه دلالة؟

- [562] - قلت: قَلَّ ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دِلالة من كتاب الله أو سنة رسوله، أو قياساً عليهما، أو على واحد منهما.

قال: فاذكر منه شيئاً؟

فقلت له: قال الله: {والمطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهِنَّ ثلاثةَ قُرُوْء} [البقرة 228]

فقالت عائشة: "الأقراء الأطهار" ، وقال بمثل معنى قولها زيدُ بن ثابت، وابن عمر، وغيرهما.

وقال نفر من أصحاب النبي: "الأقراء الحيض" ، فلا يُحِلُّوا المطلقةَ حتى تغتسل من الحيضة الثالثة.

- [563] - قال: فإلى أي شيء ترى ذهب هؤلى وهؤلى؟

قلت: تجُمع الأقراء أنها أوقات، والأوقاتُ في هذا علامات تمرُّ على المطلقات، تحُبس بها عن النكاح حتى تستكملها.

وذهب من قال "الأقراء الحيض" - فيما نُرى والله أعلم - إلى أن قال: إن المواقيت أقلُّ الأسماء، لأنها أوقات، والأوقات أقل مما بينها، كما حُدُوُد الشيء أقلُّ مما بينها، والحيضُ - [564] - أقل من الطُّهر، فهو في اللغة أَولى للعِدَّة أن يكون وقتاً، كما يكونُ الهلال وقتاً فاصلاً بين الشهرين.

ولعله ذهب إلى أن النبي أمر في سَبيْ أوطاسٍ أن يُسْتَبْرَينَ قبل أن يُوطَينَ بحيضة، فذهب إلى أن العِدة استبراء، وأن الاستبراء حيضٌ، وأنه فرَقَ بين استبراء الأمة والحرة، وأن الحرة تُستبرأ بثلاث حِيَض كواملَ، تخرج منها إلى الطُّهر كما تُستبرأ الأمة بحيضة كاملة، تخرج منها إلى الطُّهر.

فقال: هذا مذهب، فكيف اخترتَ غيره، والآية محتملة للمعنيين عندك؟

- [565] - قال: فقلت له: إن الوقت برؤية الأهِلَّة إنما هو علامة جعلها الله للشهور، والهلالُ غير الليل والنهار، وإنما هو جِماع لثلاثين، وتسعٍ وعشرين، كما يكون الهلال الثلاثون والعشرون جماعاً يُستأنف بعده العدد، وليس له معنى هنا، وأن القُرْء وإن كان وقتاً فهو من عدد الليل والنهار، والحيضُ والطهر - [566] - في الليل والنهار من العدة، وكذلك شُبِّه الوقت بالحدود، وقد تكون داخلة فيما حُدَّت به، وخارجةً منه غيرَ بائن منها، فهو وقت معنى.

قال: وما المعنى؟

قلت: الحيض هو أن يُرخِيَ الرَّحمُ الدمَ حتى يظهر، والطُّهر أن يَقْري الرَّحِمُ الدمَ فلا يظهرُ، ويكون الطهر والقَرْي - [567] - الحبس لا الإرسال، فالطهر - إذ كان يكون وقتاً - أولى في اللسان بمعنى القُرء، لأنه حبْس الدم.

وأمر رسول الله عمرَ حين طلَّق عبدُ الله بن عمر امرأته حائضاً أن يأمره برَجعتها وحَبسِها حتى تطهر، ثم يطلِّقُها طاهراً من غير جماع، وقال رسول الله: "فتلك العِدَّةُ التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساءُ" (1) .

يعني قول الله - والله أعلم - إذا طلَّقتُمُ النساءَ فطلِّقوهنَّ لِعِدَِّتهِنَّ [الطلاق 1] ، فأخبر رسول الله أن العدةَ الطهرُ دون الحيض.

وقال الله: {ثلاثة قروء} وكان على المُطَلَّقة أن تأتي بثلاثة قروء، فكان الثالثُ لو أبطأ عن وقته زماناً لم َتحِلَّ حتى يكون، أو تُويَسَ من المحيض، أو ُيخافَ ذلك عليها، فتَعْتَدَّ بالشهور، لم يكن للغُسل معنى، لأن الغسل رابعٌ غيرُ ثلاثة، ويلزم مَن قال: "الغسل عليها" أن يقول: لو أقامت سنةً وأكثر لا تغتسل لم تحِلَّ!!

- [569] - فكان قول من قال "الأقراء الأطهار" أشبهَ بمعنى كتاب الله، واللسانُ واضح على هذه المعاني، والله أعلم.

- [571] - فأما أمر النبي أن يُستبرأ السَّبْي بحيضة فبالظاهر، لأن الطهر إذا كان متقدِّماً للحيضة ثم حاضت الأمة حيضة كاملة صحيحة بَرِئَت من الحَبَلِ في الطهر، وقد ترى الدمَ فلا يكون صحيحاً، إنما يصح حيضةً بأن تُكمل الحيضة فبأي شيء من الطهر كان قبل حيضة كاملة فهو براءة من الحَبَل في الظاهر.

(1) رواه مالك 2/96 والشيخان.

والمعتدة تَعْتدُّ بمعنيين: استبراءٌٍ، ومعنى غيرُِ - [572] - استبراءٍ مع استبراء، فقد جاءت بحيضتين وطُهرين وطهرٍ ثالث، فلو أريد بها الاستبراء كانت قد جاءت بالاستبراء مرتين، ولكنه أريد بها مع الاستبراء التَعَبُّد.

قال: أفتوجدوني في غير هذا ما اختلفوا فيه مثل هذا؟

قلت: نعم، وربما وجدناه أوضحَ، وقد بيَّنا بعض هذا فيما اختلفت الرواية فيه من السنة، وفيه دلالة لك على ما سألتَ عنه، وما كان في معناه إن شاء الله.

وقال الله: {والمطلقاتُ يَتَرَبَّصْن بأنفسهن ثلاثةَ قروء} [البقرة 288]

وقال: {واللائي يَئِسْن من المحيض من نسائكم إن ارتَبتُم، فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ، واللائي لم يحِضْنَ، وأولاتُ الأحمالِ أجلُهُنَّ أن يضعْنَ حملَهن} [الطلاق 4]

- [573] - وقال: {والذين يُتَوَفَّون منكم، ويَذَرون أزواجاً يَتَرَبَّصن بأنفسهن أربعةَ أشهر وعَشراً} [البقرة 234]

فقال بعض أصحاب رسول الله: ذكر الله المطلقاتِ أن عدة الحوامل أن يضعْن حملَهن، وذكر في المتوفَّى عنها أربعةَ أشهر وعشراً، فعلى الحامل المتوفى عنها أن تعتدَّ أربعة أشهر وعشراً، وأن تضع حمْلَها، حتى تأتي بالعدتين معاً إذا لم يكن وضعُ الحمل انقضاءَ العدة نصاً إلا في الطلاق.

كأنه يذهب إلى أن وضع الحمل براءةٌ، وأن الأربعة الأشهر وعشراً تَعَبُّدٌ، وأن المتوفى عنها تكون غيرَ مدخول بها، فتأتي بأربعة أشهر، وأنه وجب عليها شيءٌ من وجهين، - [574] - فلا تسقط أحدهما، كما لو وجبَ عليها حقَّان لرجلين لم يُسقط أحدُهما حقَّ الآخر، وكما إذا نَكَحَت في عدتها، وأُصيبت اعتدَّت من الأول، واعتدَّت من الآخِرِ.

قال: وقال غيره من أصحاب رسول الله: إذا وضعَتْ ذا بطنِها، فقد حَلَّت، ولو كان زوجها على السرير.

قال "الشافعي" : فكانت الآية محتملةَ المعنيين معاً، وكان أشبهَهَما بالمعقول الظاهرِ أن يكون الحملُ انقضاءَ العدة.

قال: فدلت سنة رسول الله على أن وضعَ الحمل آخرُ العدة في الموت، مِثلُ معناه الطلاق. ُ

أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن - [575] - عبد الله عن أبيه "أن سُبَيْعَةَ الأسلَمِية وضعت بعد وفاة زوجها بليالٍ، فمَرَّ بها أبو السَّنابل بن بَعْكَكٍ، فقال: قد تَصَنَّعتِ للأزواج! إنها أربعةَ أشهر وعشراً، فذكرت ذلك سُبَيعة لرسول الله، فقال: كذب أبو السنابل، أَو ليس كما قال أبو السنابل، قد حَلَلتِ فتزوجي" . (1)

(1) رواه الشيخان وأحمد وظاهره أنه مرسل لكن سياقه عند من ذكرت يرد ذلك فعند البخاري "أن ابن شهاب كتب إليه أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن أبيه أنه كتب إلى ابن الأرقم أن يسأل سبيعة الأسلمية ..."

فقال: أما ما دلت عليه السنة فلا حجة في أحد خالف قولُه السنةَ، ولكن اذكُرْ من خلافهم ما ليس فيه نصُّ سنة مما دل عليه القُرَآن نصاً واستنباطاً، أو دلَّ عليه القياس؟

فقلت له: قال الله: {للذين يُؤْلون من نسائهم - [577] - تَرَبُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا، فإن الله غفور رحيم، وإن عَزَمُوا الطلاقَ، فإن الله سميع عليم} [البقرة 226، 227]

فقال الأكثر ممن رُوي عنه من أصحاب النبي عندنا: إذا مضت أربعة أشهر وُقف المُولي، فإما أن يفيء، وإما أن يُطَلِّق.

وروي عن غيرهم من أصحاب النبي: عزيمةُ الطلاق انقضاءُ أربعة أشهر.

- [578] - ولم ُيحفظ عن رسول الله في هذا - بأبي هو وأمي - شيئاً (1) .

قال: فأي القولين ذهبتَ؟

قلت: ذهبت إلى أن المُولي لا يلزمه طلاقٌ، وأن امرأته إذا طلبت حقها منه لم أَعرِض له حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر قلت له: فِئ أو طلِّقْ، والفيئةُ الجماعُ.

قال: فكيف اخترتَه على القول الذي يخالفه؟

قلت: رأيته أشبه بمعنى كتاب الله وبالمعقول.

قال: وما دل عليه من كتاب الله؟

- [579] - قلت: لما قال الله: {للذين يُؤلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةَ اشهر} : كان الظاهر في الآية أن من أنظَرَه الله أربعة أشهر في شيء، لم يكن له عليه سبيل حتى تمضي أربعةُ أشهر.

قال: فقد يحتمل أن يكون الله عز وجل جعل له أربعة أشهر يفيءُ فيها، كما تقول: قد أجَّلتك في بناء هذه الدار أربعة اشهر تفرُغُ فيها منها؟

قال: فقلت له: هذا لا يتوهمه مَن خوطب به حتى يُشترط في سياق الكلام، ولو قال قد أجلتك فيها أربعة أشهر: كان إنما أجله أربعة أشهر لا يجد عليه سبيلاً حتى تنقضي ولم يفرُغ منها، فلا يُنسب إليه أن لم يفرغ من الدار، وأنه أخلف في الفراغ منها ما بقي من الأربعة الأشهر شيء، فإذا لم يبقَ منها شيء لَزِمَه اسم الخُلْف، وقد يكون في بناء الدار دلالةٌ على أن يقارِبَ - [580] - الأربعةَ، وقد بقي منها ما يحيط العلم أنه لا يبنيه فيما بقي من الأربعة.

وليس في الفيئة دلالةٌ على أن لا يفيء الأربعة إلا مُضِيُّها لأن الجماع يكون في طَرفة عين، فلو كان على ما وصفتَ تَزَايَلَ حاله حتى تمضي أربعة أشهر، ثم تَزَايل حاله الأولى، فإذا زايلها صار إلى أن الله عليه حقاً، فإما أن يفيء وإما أن يطلِّق.

فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على معناها غيرُ ما ذهبتَ إليه، كان قوله أَولاهما بها، لما وصفنا، لأنه ظاهرها.

(1) الشافعي يجعل الجار والمجرور نائباً للفاعل مع وجود المفعول وهي لغة.

والقُرَآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه أو سنة أو إجماع بأنه على باطن دون ظاهر.

- [581] - قال: فما في سياق الآية ما يدل على ما وصفتَ؟

قلت: لما ذكر الله عز وجل أن للمُولي أربعةَ أشهر، ثم قال: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} ، فذكر الحُكمين معاً بلا فصل بينهما: أنهما إنما يقعان بعد الأربعة الأشهر، لأنه إنما جَعَل عليه الفيئة أو الطلاق، وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد، فلا يتقدم واحد منهما صاحبه، وقد ذُكرا في وقت واحد، كما يقال له في الرهن افْدِهِ أو نبيعَه عليك بلا فصل، وفي كل ما خُيرِّ فيه: افعل كذا أو كذا، بلا فصل.

ولا يجوز أن يكونا ذُكرا بلا فصل، فيقالَ: الفيئة فيما بين أن يُولي أربعة أشهر وعزيمةُ الطلاق انقضاءُ الأربعة الأشهر، فيكونان حكمين ذكرا معاً، يُفسخ في أحدهما، ويُضيَّق في الآخر.

- [582] - قال: فأنت تقول: إن فاءَ قبل الأربعة الأشهر فهي فيئة؟

قلت: نعم، كما أقول: إن قضيتَ حقاً عليك إلى أجل قبل محله، فقد برئتَ منه، وأنت محسن متسرِّع بتقديمه قبل يحلَُّ عليك.

فقلت له: أرأيت من الإثم كان مُزمَعَاً على الفيئة في كل يوم إلا أنه لم يجامع حتى تنقضي أربعة أشهر؟

قال: فلا يكون الإزماع على الفيئة شيءً حتى يفيء، والفيئة الجماعُ إذا كان قادراً عليه.

قلت: ولو جامع لا ينوي فيئة خرج من طلاق الإيلَى، لأن المعنى في الجماع؟

- [583] - قال: نعم.

قلت: وكذلك لو كان عازماً على ان لا يفيء، يحلفُ في كل يوم ألا يفيء، ثم جامع قبل مُضِي الأربعة الأشهر بطرْفة عين: خرج من طلاق الإيلَى؟ وإن كان جماعه لغير الفيئة خرج به من طلاق الإيلى؟

قال: نعم.

قلت: ولا يصنعُ عزمُهُ على ألا يفيء؟ ولا يمنعه جماعه بلذَّة لغير الفيئة، إذا جاء بالجماع: مِن أن يخرج به من طلاق الإيلى عندنا وعندك؟

قال: هذا كما قلتَ، وخروجُهُ بالجماع على أي معنى كان الجماع.

- [584] - قلت: فكيف يكون عازماً على أن لا يفيء في كل يوم، فإذا مضت أربعة أشهر لزمه الطلاق، وهو لم يعزم عليه، ولم يتكلم به؟ أترى هذا قولاً يصح في العقول لأحد؟!

قال: فما يُفسده من قبل العقول؟

قلت: أرأيت إذا قال الرجل لامرأته: والله لا أقربُك أبداً: أهو كقوله: أنت طالق إلى أربعة أشهر؟

قال: إن قلتُ نعم؟

قلتُ: فإن جامع قبل الأربعة؟

قال: فلا، ليس مثلَ قوله: أنتِ طالق إلى أربعة أشهر.

قال: فتكلُّمُ المُولي بالإيلى ليس هو طلاقً، - [585] - إنما هي يمين، ثم جاءت عليها مُدة جعلتها طلاقاً، أيجوز لأحد يعقل من حيث يقولُ أن يقول مثل هذا إلا بخبر لازم؟!

قال: فهو يدخل عليك مثلُ هذا.

قلت: وأين؟

قال: أنت تقول إذا مضت أربعة أشهر وُقف، فإن فاء وإلا جُبر على أن يُطلِّق.

قلت: ليس من قِبَل أن الإيلى طلاق، ولكنها يمين جعل الله لها وقتاً مَنَعَ بها الزوجَ من الضِّرار، وحكم عليه إذا كانت أن جَعَل عليه إما أن يفيء، وإما أن يُطَلق، وهذا حكم حادث بمُضِي أربعة الأشهر، غيرُ الإيلى، ولكنه مؤتَنَف ُيجبر صاحبه على أن يأتي بأيهما شاء: فيئةٌٍ أو طلاقٌٍ، فإن امتنع - [586] - منهما أُخذ منه الذي يُقدر على أخذه منه، وذلك أن يُطلَّق عليه، لأنه لا يحل أن ُيجامَعَ عنه.

واختلفوا في المواريث، فقال زيد بن ثابت ومن ذهب مذهبه: يعطى كل وارث ما ُسمِّي له، فإن فَضَل فضل ولا عَصَبَة للميت ولا ولاءَ: كان ما بقي لجماعة المسلمين.

وعن غيره منهم: أنه كان يردُّ فضل المواريث على ذوي الأرحام، فلو أن رجلاً ترك أخته، ورثَتْه النصفَ ورُدَّ عليها النصفُ.

- [587] - فقال بعض الناس: لمَ لم تردَّ فضل المواريث؟

قلت: استدلالاً بكتاب الله.

قال: وأين يدل كتاب الله على ما قلت؟

قلت: قال الله: {إنِ امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصفُ ما ترك، وهو يرِثها إن لم يكن لها ولدٌ} [النساء 176]

وقال: {وإن كانوا أخوةً رجالاً ونساءً، فللذَّكر مثلُ حظِّ الأنثيين} [النساء 176]

فذكر الأخت منفردةً، فانتهى بها جل ثناؤه إلى النصف، والأخَ منفرداً، فانتهى به إلى الكلِّ وذكر الأخوة والأخوات، فجعل للأخت نصفَ ما للأخ.

وكان حكمه - جل ثناؤه - في الأخت منفردةً ومع الأخ سواءً، بأنها لا تساوي الأخَ، وأنها تأخذ النصف مما يكون له من الميراث.

فلو قلتَ في رجل مات، وترك أخته: لها النصفُ - [588] - بالميراث وأردُدُ عليها النصف: كنتَ قد أعطيتها الكل منفردة، وإنما جعل الله لها النصف في الانفراد والاجتماع.

فقال: فإني لست أعطيها النصف الباقي ميراثاً، إنما أعطيها إياه رداً.

قلت: وما معنى "رداً" أشيء استحسنته، وكان إليك أن تضعه حيث شئتَ؟ فإن شئتَ أن تعطيه جيرانه أو بعيدَ النسب منه، أيكون ذلك لك؟!

قال: ليس ذلك للحاكم، ولكن جعلتُهُ رداً عليها بالرَّحِم.

ميراثاً؟

قال: فإن قلتُه؟

قلت: إذن تكون ورَّثتها غيرَ ما ورَّثها الله.

- [589] - قال: فأقول: لك ذلك، لقول الله: {وأُولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال 75]

فقلت له: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} نزلت بأن الناس توارثوا بالحِلف، ثم توارثوا بالإسلام والهجرة، فكان المهاجر يرث المهاجر، ولا يرثه من ورثته مَن لم يكن مهاجراً، وهو أقرب إليه ممن وَرِثه، فنزلت {وأولوا الأرحام} الآية على ما فُرِضَ لهم.

قال: فاذكر الدليل على ذلك؟

قلت: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى - [590] - ببعض في كتاب الله} : على ما فُرِضَ لهم، ألا ترى أن من ذوي الأرحام من يرث، ومنهم من لا يرث، وأن الزوج يكون أكثرَ ميراثا من أكثر ذوي الأرحام ميراثاً؟ وأنك لو كنت إنما تُوَرِّث بالرحم كانت رحم البنت من الأب كرحم الابن؟ وكان ذوو الأرحام يرثون معاً، ويكونون أحقَّ من الزوج الذي لا رحم له؟!

ولو كانت الآية كما وصفتَ كنتَ قد خالفتها فيما ذكرنا، في أن يترك أخته ومَوَاليَه فتُعطيَ أخته النصف، ومواليه النصف، وليسوا بذَوِي أرحام، ولا مفروضًٍ لهم في كتاب الله فرضٌ منصوص.

واختلفوا في الجد، فقال زيد بن ثابت، وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود: يُوَرَّث معه الأخوة.

وقال أبو بكر الصديق وابن عباس، وروي عن عائشة وابن الزبير وعبد الله بن عُتبة: أنهم جعلوه أباً، وأسقطوا الإخوة معه.

فقال: فكيف صرتم إلى أن ثبَّتم ميراث الإخوة مع الجد؟ أَبِدِلالةٍ من كتاب الله أو سنةٍ؟

قلت: أما شيء مبيَّنٌ في كتاب الله أو سنةٍ فلا أعلمه.

قال: فالأخبارُ متكافئة، والدلائلُ بالقياس مع من جعله أباً وحَجَبَ به الأخوةَ.

قلت: وأين الدلائل؟

قال: وجدت اسم الأُبُوَّة تلزمه، ووجدتكم مجتمعين على أن تحجُبُوا به بني الأم، ووجدتكم لا تنقُصونه من السدس، وذلك كله حكمُ الأب.

فقلت له: ليس باسم الأبوة فقط نُوَرِّثه.

قال: وكيف ذلك؟

قلت: أجد اسم الأبوة يلزمه، ولا يرث.

قال: وأين؟

قلت: قد يكون دونه أبٌ، واسم الأبوة تلزمه، وتلزم آدمَ، وإذا كان دون الجد أبٌ لم يرث، ويكون مملوكاً وكافراً وقاتلاً فلا يرث، واسم الأبوة في هذا كله لازم له، فلو كان باسم الأبوة فقط يرث وَرِث في هذه الحالات.

- [593] - وأما حَجْبُنا به بني الأم، فإنما حجبنا به خبراً، لا باسم الأبوة، وذلك أنا نحجب بني الأم ببنت ابن ابنٍ مُتَسَفِّلةٍ.

وأما أنا لم نَنْقصه من السدس، فلسنا نَنقص الجدة من السدس.

وإنما فعلنا هذا كلَّه اتباعاً، لا أن حكم الجد إذ وافق حكم الأب في معنى كان مثلَه في كلِّ معنىً، ولو كان حكم الجد إذا وافق حكم الأب في بعض المعاني كان مثلَه في كل المعاني: كانت بنتُ الابن المتَسَفِّلة موافقةً له، فإنا نحجب بها بني - [594] - الأم، وحكمُ الجدة موافق له، فإنا لا ننقصها من السدس.

قال: فما حجتكم في ترك قولنا نحجُبُ بالجد الإخوة؟

قلت: بُعدُ قولكم من القياس.

قال: فما كنا نراه إلا بالقياس نفسه؟

قلت: أرأيت الجدَّ والأخَ؟ أيُدلي واحد منهما بقرابة نفسه، أم بقرابة غيره؟

قال: وما تعني؟

قلت: أليس إنما يقول الجد: أنا أبو أبي الميت؟! ويقول الأخ: أنا ابن أبي الميت؟!

قال: بلى.

قلت: وكلاهما يُدلي بقرابة الأب بقدْر موقعه منها؟

قال: نعم.

- [595] - قلت: فاجعلِ الأب الميت، وتَرَكَ ابنه وأباه، كيف ميراثهما منه؟

قال: لابنه خمسةُ أسداس، ولأبيه السدسُ

قلت: فإذا كان الابن أولى بكثرة الميراث من الأب، وكان الأخُ من الأب الذي يُدلي الأخُ بقرابته، والجدُّ أبو الأب من الأب الذي يُدلي بقرابته كما وصفتَ: كيف حجبتَ الأخ بالجد؟! ولو كان أحدهما يكون محجوباً بالآخر انْبَغَى أن ُيحجب الجد بالأخ، لأنه أولاهما بكثرة ميراث الذي يُدليان معاً بقرابته، أو ُتجعلَ للأخ خمسةَ أسداس، وللجد سدسًٌ.

قال: فما منعك من هذا القول؟

قلت: كلُّ المختلفين مجتمعون على أن الجد مع - [596] - الأخ مثلُه أو أكثر حظاً منه، فلم يكن لي عندي خلافُهم، ولا الذهابُ إلى القياس، والقياسُ مخرِج من جميع أقاويلهم.

وذهبتُ إلى اثبات الإخوة مع الجد، أَولى الأمرين، لما وصفتُ من الدلائل التي أوجدنيها القياسُ

مع أن ما ذهبتُ إليه قولُ الأكثر من أهل الفقه بالبلدان قديماً وحديثاً.

مع أن ميراث الإخوة ثابت في الكتاب، ولا ميراث للجد في الكتاب، وميراث الإخوة أَثبتُ في السنة من ميراث الجد.

[أقاويل الصحابة]

فقال: قد سمعت قولك في الإجماع والقياس، بعد قولك في حكم كتاب الله وسنة رسوله، أرأيت أقاويل أصحاب رسول الله إذا تفرقوا فيها؟

- [597] - فقلت: نصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو كان أصحَّ في القياس.

قال: أفرأيت إذا قال الواحد منهم القولَ لا ُيحفظ عن غيره منهم فيه له موافقةً، ولا خلافاً أتجد لك حجة باتباعه في كتاب أو سنة أو أمر أحمع الناس عليه، فيكونَ من الأسباب التي قلتَ بها خبراً؟

قلت له: ما وجدنا في هذا كتاباً ولا سنةً ثابتة، ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة، ويتركونه أخرى، ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم.

قال: فإلى أي شيء صرتَ من هذا؟

- [598] - قلت: إلى اتباع قول واحد، إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً في معناه ُيحكم له بحكمه، أو وُجد معه قياس.

وقلَّ ما يُوجَد من قول الواحد منهم، لا يخالفه غيره من هذا.

[منزلة الإجماع والقياس]

قال: فقد حكمتَ بالكتاب والسنة، فكيف حكمتَ بالإجماع، ثم حكمتَ بالقياس، فأقمتها مع كتابٍ أو سنة؟

فقلت: إني وإن حكمتُ بها كما احكم بالكتاب والسنة: فأصلُ ما أحكم به منها مفترقٌ.

قال: أفيجوز أن تكون أصولٌ مفرَّقة الأسباب - [599] - ُيحكم فيها حكماً واحداً؟

قلت: نعم، ُيحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، الذي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن.

وُيحكم بالسنة قد ُرويت من طريق الانفراد، لا يجتمع الناس عليها، فنقول حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث.

ونحكم بالإجماع ثم القياسِ، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلةُ ضرورة، لأنه لا يحل القياسُ والخبرُ موجودٌ، كما - [600] - يكون التيمم طهارةً في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارةً إذا وُجد الماء، إنما يكون طهارةً في الإعواز.

وكذلك يكون ما بعد السنة حجةً إذا أَعوَزَ من السنة.

وقد وصفتُ الحجة في القياس، وغيره قبل هذا.

قال: أفتجد شيئا شبهه.

قلت: نعم، أقضي على الرجل بعلمي أنَّ ما ادُّعي عليه كما ادُّعي، أو إقرارِه، فإن لم أعلم ولم يُقِرَّ قضيتُ عليه بشاهدين، وقد يغلِطان ويهِمَان، وعلمي وإقرارُه أقوى عليه من شاهدين، وأقضي عليه بشاهد ويمين، وهو أضعف من شاهدين، ثم أقضي عليه بنكوله عن اليمين ويمينِ صاحبه، وهو أضعف من شاهد ويمين، لأنه قد ينكُل خوفَ الشهرة واستصغارَ ما يحلف عليه، ويكون الحالف لنفسه غيرَ ثقة وحريصاً فاجراً.

آخر كتاب الرسالة والحمد لله وصلى الله على محمد. 

 

LihatTutupKomentar