Kitab Al-Risalah Imam Syafi'i Juz 1

Kitab Al-Risalah Imam Syafi'i Juz 1 باب: بيان ما نزل من الكتاب عاماً يُراد به العام، ويدخله الخصوص باب: بيان ما أنْزِل من الكتاب عامَّ الظاهرِ، وهو

Kitab Al-Risalah Imam Syafi'i Juz 1

Nama kitab: Al-Risalah
Penulis, pengarang:   Imam Syafi'i
Judul kitab asal:   الرسالة   للإمام المطلبي محمد بن ادريس الشافعي 
Lahir: Tahun 150 H, Gaza, Palestina
Wafat: 204 H, di Kairo, Mesir.
Bidang studi: Usul Fiqih madzhab Syafi'i  

  الرسالة

للإمام المطلبي محمد بن ادريس الشافعي 150 - 204

عن أصل بخط الربيع بن سلمان كتبه في حياة الشافعي

(( لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني، لانني رأيت رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له. ))

عبد الرحمن بن مهدي

بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر  

Daftar Isi

  1. Al-Muqaddidmah
  2. Al-Juz al-Awwal 
  3. Al-Juz al-Thani (Tsani) 
  4. Al-Juz al-Salis (Tsalits, Thalith) 
  5. Download Kitab Al-Risalah versi Arab (تحميل الرسالة للشافعي) 
  6. Download Terjemah Al-Risalah  

 الجزء الأول:  البيان  

 باب: بيان ما نزل من الكتاب عاماً يُراد به العام، ويدخله الخصوص

 باب: بيان ما أنْزِل من الكتاب عامَّ الظاهرِ، وهو يجمع العام والخصوص

 باب: بيان ما نزل من الكتاب عامَّ الظاهر، يراد به كلِّه الخاصُّ

باب: الصِّنْف الذي يُبَيِّن سياقُه معناه

الصنف الذي يدل لفظه على باطنه، دون ظاهره

باب: ما نزل عاماًّ، دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص

بيان فرضِ الله في كتابه اتباعَ سنة نبيه

 باب: فرض الله طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله، ومذكورة وحدها. 

 باب: ما أمر الله من طاعة رسوله

 باب: ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه، وما شهد له به من اتباع ما أمر به، ومن هداه، وأنه هاد لمن اتبعه.

ابتداء الناسخ والمنسوخ.

الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه، والسنة على بعضه.

باب: فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بعذر، وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية.

الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والإجماع.

باب: الفرائض التي أنزل الله نصا.

الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله معها.

الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنما أراد الخاص.

جمل الفرائض.

في الزكاة.

[في الحج] .

[في العدد] .

[في محرمات النساء] .  

  بسم الله الرحمن الرحيم


. . . الربيع بن سليمان قال:

بسم الله الرحمن الرحيم

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبدِ يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبيُّ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.

والحمد لله الذي لا يُؤدى شُكر نعمة من نِعَمِهِ؛

إلا بنعمة منه توجب على مؤدي ماضي نعمه بأدائها نعمةً حادثةً، يجب عليه شكره بها.

ولا يبلغ الواصفون كُنه عظمته. الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه.

أحمده حمداً كما ينبغي لكرم وجهه وعِز جلاله.

وأستعينه استعانةَ من لا حول له ولا قوة إلا به.

وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه.

وأستغفره لما أَزلفت وَأَخرت: استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.

بعثه والناس صنفان:

أحدهما: أهل كتاب بدّلوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كذبا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أَنزل إليهم.

فذكر تبارك وتعالى لنبيه من كفرهم، فقال: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.) (سورة آل عمران / 78)

ثم قال: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون) .

وقال تبارك وتعالى: (وقالت اليهود: عُزَيرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابنُ الله. ذلك قولهم بأفواههم. يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أنى يؤفكون؟! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم. وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون) (التوبة 30 - 31) .

وقال تبارك وتعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا:

هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لَعَنَهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً) (النساء 50 - 52)

وصنف كفروا بالله، فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وَخُشُبَاً، وَصُوَرَاً استحسنوا، ونبزوا أسماء افتعلوا، ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها، ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره، فعبدوه: فأولئك العرب.

وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من حوت، ودابة، ونجم، ونار، وغيره.

فذكر الله لنبيه جواباً من جواب بعض مَن عبد غيره من هذا الصنف، فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون.

وحكى تبارك وتعالى عنهم: (لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن وداً ولا سواعاً، ولا يغوث ويعوق ونسرا، وقد أضلوا كثيرًا) (نوح 23 - 24)

- [11] -

وقال تبارك وتعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم. إنه كان صدّيقاً نبياً إذ قال لأبيه: يا أبت! لم تعبد ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا؟!) (مريم 41 - 42)

وقال: (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال: هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم، أو يضرون؟!) (الشعراء 69 - 70)

وقال في جماعتهم، يذكّرهم مِن نِعَمِهِ، ويخبرهم ضلالتهم عامة، ومَنَّه على مَن آمن منهم: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (آل عمران 103)

قال: فكانوا قبل إنقاذه إياهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أهلَ كفر في تفرقهم، واجتماعهم. يجمعهم أعظم الأمور: الكفرُ بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله. تعالى عما يقولون علواً كبيراً. لا إله غيره، وسبحانه، وبحمده ربُّ كل شيء وخالقهُ. - [12] -

من حيَّ منهم فكما وَصَفَ حاله حياً: عاملاً قائلاً بسخط ربه مزداداً من معصيته.

ومن مات فكما وَصَفَ قولَه وعملَه: صار إلى عذابه.

فلما بلغ الكتاب أجله فَحَقَّ قضاء الله بإظهار دينه الذي اصطفى بعد استعلاء معصيته التي لم يرض: فَتَحَ أبواب سماواته برحمته، كما لم يزل يجري - في سابق علمه عند نزول قضائه في القرون الخالية: قضاؤه.

فإنه تبارك وتعالى يقول: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) (البقرة 213)

فكان خِيرتُهُ المصطفى لوحيه، المنتخبُ لرسالته المفضلُ على جميع خلقه، بفتحِ رحمته، وختمِ نبوته، وأعمِّ ما أرسل به مرسلٌ قبله المرفوعُ ذِكرُهُ مع ذِكرِه في الأولى، والشافعُ المشفَّعُ في الأخرى، أفضلُ خلقه نفساً، وأجمعُهُم لكل خُلُق رَضِيَهُ في دينٍ ودنيا. وخيرُهم نسباً وداراً محمداً عبدَه ورسولَه. - [13] -

وَعَرَّفَنَا وَخَلقَهُ [1] نِعَمَهُ الخاصةَ، العامةَ النَّفعِ في الدين والدنيا.

فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم) (التوبة 128)

وقال: (لتنذر أم القرى ومَن حولها) (الشورى 7) ، وأمُّ القرى: مكة، وفيها قومُه.

وقال: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء 214)

وقال: (وإنه لَذِكر لك ولقومك وسوف تُسألون) (الزخرف 44)

(1) أي عرفنا مع خلقه، والعطف على الضمير المتصل المنصوب من غير توكيد أو فصل جائز.

قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد في قوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) قال: يقال: ممن الرجل؟ فيقال: من العرب. فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش. - [14] -

قال الشافعي: وما قال مجاهدٌ من هذا بيّنٌ في الآية مستغنى فيه بالتنزيل عن التفسير.

فخص جل ثناؤه قومَه وعشيرَتَه الأقربين في النِّذَارة، وعمَّ الخلقَ بها بعدهم، ورفع بالقُرَآن ذِكر رسول الله، ثم خص قومه بالنِّذارة إذ بعثه فقال: (وأنذر عشيرتك الأقربين) - [15] -

وزعم بعض أهل العلم بالقُرَآن [1] أن رسول الله قال: يا بني عبد مناف! إن الله بعثني أَن أُنذرَ عشيرتي الأقربين، وأنتم عشيرتي الأقربون. [2] - [16] -

قال الشافعي: أخبرنا بن عيينة عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: (ورفعنا لك ذكرك) قال: لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدأ رسول الله.

يعني - والله أعلم - ذكرَه عند الإيمان بالله، والآذان. ويَحتمل ذكرَه عند تلاوة الكتاب، وعند العمل بالطاعة، والوقوف عن المعصية.

فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وَغَفَل عن ذكره الغافلون، وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضلَ وأكثرَ وأزكى ما صلى على أحد من خلقه. وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحداً من أمته بصلاته عليه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته، وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلاً عن من أُرسل إليه؛ فإنه أنقذنا به من الهلكة، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه. فلم تُمس بنا نعمة ظهرت ولا بَطَنَت، نلنا بها حظاً في دين ودنيا أو دُفِعَ بها عنا مكروه فيهما، وفي واحد منهما: إلا ومحمد صلى الله عليه سببها، القائدُ إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، الذائدُ عن الهلكة وموارد السَّوء في خلاف الرشد، المنبِّهُ للأسباب التي تورد الهلكة، القائمُ بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها. فصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد. - [17] -

وأنزل عليه كتابه فقال: (وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد) (فصلت 41 - 42) فنقلهم من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى، وبيَّن فيه ما أَحَلَّ: مَنَّاً بالتوسعة على خلقه، وما حَرَّمَ: لما هو أعلم به من حظهم في الكفِّ عنه في الآخرة والأولى. وابتلى طاعتهم بأن تَعَبَّدَهُم بقول، وعمل وإمساك عن محارمَ حَمَاهُمُوها، وأثابهم على طاعته من الخلود في جنته، والنجاة من نقمته: ما عَظُمَت به نعمته جل ثناؤه. - [18] -

وأَعلَمَهُم ما أَوجب لأهل طاعته.

وَوَعَظَهُم بالأخبار عمن كان قبلهم، ممن كان أكثرَ منهم أموالاً وأولاداً، وأطولَ أعماراً، وأحمدَ آثاراً، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم، فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آماله، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان، ويتفهموا بِجَلِيَّة التبيان، ويتنبهوا قبل رَين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة حين لا يُعتِب مذنب، ولا تؤخذ فدية، و (تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) (آل عمران 30) - [19] -

فكل ما أَنزل في كتابه - جل ثناؤه - رحمة وحجة، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله، ولا يجهل من علمه.

(1) قال الشيخ أحمد شاكر: ضبطناه هنا وفي كل موضع ورد فيه في الرسالة بضم القاف وفتح الراء محققة وتسهيل الهمزة. وذلك اتباعاً للإمام الشافعي في رأيه وقراءته. ا. هـ وانظر تاريخ بغداد 2/62

(2) ورد بمعناه في البخاري ومسلم وانظر الدر المنثور 5/95 - 98

والناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به.

فحقَّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدِهم في الاستكثار من علمه، والصبرُ على كل عارض دون طَلَبِه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه.

فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.

فنسأل اللهَ المبتدئَ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمَها علينا مع تقصيرنا في الإتيان إلى ما أوجب به من شكره بها، الجاعِلَنَا في خير أمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه، وقولاً وعملاً يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيدة. - [20] -

قال الشافعي: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها.

قال الله تبارك وتعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) (إبراهيم 1)

وقال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون) (النحل 44)

وقال: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين) (النحل 89)

وقال: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنتَ تدري ما الكتابُ، ولا الإيمانُ، ولكن جعلناه نوراً نَهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) (الشورى 52)

باب: كيف البيان؟

قال الشافعي: والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعةِ الأصول، متشعبةِ الفروع:

فأقلُّ ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة: أنها بيانٌ لمن خوطب بها ممن نزل القُرَآن بلسانه، متقاربة، الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدَّ تأكيدَ بيانٍ من بعض. ومختلفةٌ عند من يجهل لسان العرب.

قال الشافعي: فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تَعَبَّدَهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه: من وجوه.

فمنها ما أبانه لخلقه نصاً. مثلُ جمُل فرائضه، في أن عليهم صلاةً وزكاةً وحجاً وصوماً وأنه حرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ونصِّ الزنا [1] والخمر، وأكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فَرْضُ الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصاً. - [22] -

ومنه: ما أَحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه؟ مثل عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.

ومنه: ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه، فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل.

ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.

فإنه يقول تبارك وتعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين، ونبلوَ أخباركم) (محمد 31) - [23] -

وقال: (وليَبْتَلِيَ الله ما في صدوركم وليمحِّص ما في قلوبكم) (آل عمران 154)

وقال: (عسى ربكم أن يهلكَ عدوكم، ويستخلفَكم في الأرض فينظرَ كيف تعملون؟) (الأعراف 129)

قال الشافعي: فوجَّههم بالقبلة إلى المسجد الحرام، وقال لنبيه: (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلَنُوَلِّيَنَّك قبلة ترضاها، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (البقرة 144)

وقال: (ومن خرجت فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، لئلا يكونَ للناس عليكم حجةٌ) (البقرة 150) .

فَدَلهَّم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرَض عليهم منه، بالعقول التي رَكَّب فيهم، المميزةِ بين الأشياء، وأضدادها، والعلامات التي نَصَب لهم دون عين المسجد الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره. - [24] -

فقال: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) (الأنعام 97) ، وقال: (وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون) (النحل 16)

فكانت العلامات جبالاً وليلاً ونهاراً، فيها أرواح [2] معروفة الأسماء، وإن كانت مختلفة المَهابِّ. وشمسٌ وقمر، ونجوم معروفةُ المطالع والمغارب، والمواضعِ من الفلك.

ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصَفْتُ، فكانوا ما كانوا مجتهدين غيرَ مُزايِلين أمرَه جلَّ ثناؤه. ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يُصلُّوا حيث شاؤوا - [25] -

وكذلك أخبرهم عن قضائه فقال: (أيحسب الإنسان أن يُترَك سُدى) (القيامة 36) والسُّدى: الذي لا يُؤمر ولا يُنهى.

وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا، وفي العَدل، وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيءٌ يُحدِثه لا على مثالٍ سبق

فأمرهم أن يُشهدوا ذوَي عدل، والعدل: أن يعمل بطاعة الله، فكان لهم السبيلُ إلى علم العدل والذي يخالفه.

وقد وُضِع هذا في موضعه، وقد وضعت جملاً منه رجوت أن تدل على ما وراءها مما في مثل معناها. - [26] -

(1) أي ومثل النص الوارد في الزنا والخمر.

(2) الأرواح: جمع ريح. انظر الصحاح.

باب البيان الأول

قال الله تبارك وتعالى في المتمتع: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. تلك عشَرَة كاملة. ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجدِ الحرام) (البقرة 196)

فكان بيِّناً عند مَن خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج، والسبع في المَرجِع عشرةُ أيام كاملة.

قال الله: (تلك عشرة كاملة) فاحتملت أن تكون زيادةً في التبيين، واحتملت أن يكون أعلَمَهُم أن ثلاثة إذا جُمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة. - [27] -

وقال الله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة، وأتممناها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة) (الأعراف 142)

فكان بيِّنا عند من خوطب بهذه الآية أن ثلاثين، وعشراً أربعون ليلة.

وقوله: (أربعين ليلة) يحتمل ما احتملت الآية قبلها: من أن تكون: إذا جُمعت ثلاثون إلى عشر كانت أربعين، وأن تكون زيادة في التبيين.

وقال الله: (كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدودات، فمن كان منكم مريضا، أو على سفر فعدة من أيام أُخَرَ) (البقرة 183 - 184)

وقال: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القُرَآن هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر، فعِدَّة من أيام أخر) (البقرة 185)

فافترض عليهم الصومَ، ثم بيَّن أنه شهر، والشهر عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين، وتسعاً وعشرين. - [28] -

فكانت الدلالة في هذا كالدلالة في الآيتين، وكان في الآيتين قبله: في ابن جماعة (( زيادةٌ تبيِّن جماع العدد )) .

وأشبهُ الأمور بزيادة تبيين جُملة العدد في السبع، والثلاث، وفي الثلاثين والعشر: أن تكون زيادةً في التبيين؛ لأنهم لم يزالوا يعرفون هذين العددين وجماعة، كما لم يزالوا يعرفون شهر رمضان.

باب البيان الثاني

قال الله تبارك وتعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين، وإن كنتم جُنُبَاً فاطَّهروا) (المائدة 6)

وقال: (ولا جُنُبَاً إلا عابري سبيلٍ) (النساء 43) - [29] -

فأتى كتاب الله على البيان في الوضوء دون الاستنجاء بالحجارة، وفي الغسل من الجنابة.

ثم كان أقل غسل الوجه، والأعضاء مرة مرة، واحتمل ما هو أكثر منها، فبين رسول الله الوضوء مرة، وتوضأ ثلاثاً، ودل على أن أقل غسل الأعضاء يجزئ، وأن أقل عدد الغسل واحدة. وإذا أجزأت واحدة فالثلاث اختيار.

ودلت السنة على أنه يجزئ في الاستنجاء ثلاثة أحجار، ودل النبي على ما يكون منه الوضوء، وما يكون منه الغسل، ودل على أن الكعبين والمرفقين مما يغسل؛ لأن الآية تحتمل أن يكونا حدين للغسل، وأن يكونا داخلين في الغسل. ولما قال رسول الله (( ويل للأعقاب من النار )) دلَّ على أنه غسل لا مسح.

قال الله: (ولأبويه لكل واحد منهما السُدُسُ مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولدٌ وَوَرِثَه أبواه، فلأمه الثلث، فإن كان له أخوة فلأمه السدس) (النساء 11) - [30] -

وقال: (ولكم نصفُ ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنَّ ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربُع مما تركن من بعد وصية يُوصين بها أو دين، ولهن الربُع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمُن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دَين، وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأةٌ، وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدُسُ، فإن كانوا أكثرَ من ذلك، فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غيرَ مضارٍّ وصيةً من الله، والله عليم حليم) (النساء 12)

فاستُغنِي بالتنزيل في هذا عن خبرٍ غيرِه، ثم كان لله فيه شرطٌ أن يكون بعد الوصية والدَّين، فدل الخبر على أن لا يُجَاوَزَ بالوصية الثلثُ.

باب البيان الثالث

قال الله تبارك وتعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) (النساء 103)

وقال: (وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة) (البقرة 43)

وقال: (وأتموا الحج والعمرة لله) (البقرة 196)

ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض من الصلوات، ومواقيتَها وسننها، وعددَ الزكاة ومواقيتَها، وكيف عملُ الحج والعمرة، وحيث يزول هذا ويثبُتُ، وتختلف سننه وتَاتَفِقُ [1] ، ولهذا أشباهٌ كثيرة في القُرَآن والسنة. - [32] -

(1) ايتفق ياتفق فهو موتفق. في لغة أهل الحجاز.

باب البيان الرابع

قال الشافعي: كل ما سنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، من ذِكرِ ما مَنَّ الله به على العباد من تَعَلُّم الكتاب والحكمة: دليلٌ على أن الحكمة سنة رسول الله.

مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله، وبيَّن من موضعه الذي وضعه الله به من دينه: الدليلُ على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه.

منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره

ومنها: ما أتى على غاية البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله، فبين رسول الله عن الله كيف فرْضُهُ؟ وعلى من فرْضُهُ؟ ومتى يزول بعضه وَيَثبُتُ وَيَجِبُ؟ - [33] -

ومنها: ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب.

وكل شيء منها بيانٌ في الكتاب الله.

فكل من قَبِلَ عن الله فرائضه في كتابه: قَبِلَ عن رسول الله سننه بفرْض الله طاعةَ رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قَبِلَ عن رسول الله، فمن الله قَبِلَ لِمَا افترض الله من طاعته.

فيجمع القبول لما في كتاب الله، ولسنة رسول الله: القبولَ لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قُبِل بها عنهما، كما أحل وحرم، وفرض وحدَّ بأسباب متفرقة، كما شاء جل ثناؤه، (لا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون) (الأنبياء 23)

باب البيان الخامس

قال الله تبارك وتعالى: (ومن حيث خرجتَ فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (البقرة 150)

ففرض عليهم حيث ما كانوا أن يُوَلُّوا وجوههم شطره، وشطرُهُ جِهَتُهُ في كلام العرب. إذا قلتَ أقصد شطر كذا، معروف أنك تقول: أقصد قصدَ عَينِ كذا، يعني قصدَ نفسِ كذا، وكذلك (( تلقاءه )) جهتَهُ، أي أستقبل تلقاءه، وجهته، وإنَّ كلَّها معنىً واحدٌ، وإن كانت بألفاظ مختلفة.

وقال خُفَافُ بن نُدْبة:

ألا من مبلغ عَمراً رسولاً ... وما تغني الرسالة شَطر عمرو - [35] -

وقال ساعدة بن جُؤَيَّة:

أقول لأم زِنْبَاعٍ أَقيمي ... صدور العِيس شطر بني تميمِ

وقال لقيط الأيادي:

وقد أظلكُمُ من شطر ثغركُمُ ... هولٌ له ظُلَمٌ تغشاكُمُ قِطَعَا

وقال الشاعر:

إن العسير بها داءٌ مُخامرُها ... فشطرَها بَصَرُ العينين مسحورُ - [36] -

قال الشافعي: يريد تلقاءها بَصَرُ العينين، ونحوَها: تلقاءَ جهتها.

وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء قَصْدُ عين الشيء: إذا كان معايناً فبالصواب، وإذا كان مُغَيَّبَاً فبالاجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه. - [38] -

وقال الله: (جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) (الأنعام 97)

(وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون) (النحل 16)

فَخَلَقَ لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركَّبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات. وكل هذا بيان، ونعمة منه جل ثناؤه.

(وأشهدوا ذَوَي عدل منكم) (الطلاق 2) ، وقال: (ممن ترضون من الشهداء) (البقرة 282)

أبان أن العدلَ العاملُ بطاعته، فمن رأوه عاملاً بها كان عدلاً، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل.

وقال جل ثناؤه: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ، ومن قتله منكم متعمداً، فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النَّعَم، يحكمُ به ذوا عدل منكم هدياً بالغَ الكعبة) (المائدة 95) - [39] -

فكان المِثل - على الظاهر - أقربَ الأشياء شَبَهَاً في العِظَمِ من البدن. واتفقت مذاهب مَن تكلم في الصيد من أصحاب رسول الله على أقرب الأشياء شبهاً من البدن. فنظرنا ما قُتِلَ من دوابِّ الصيد: أيُّ شيء كان من النَّعَم أقربَ منه شَبَهَاً فديناه به.

ولم يحتمل المِثل من النَّعَم القيمةَ فيما له مِثلٌ في البدن من النعم: إلا مستكرهاً باطناً. فكان الظاهر الأعمُّ أولى المعنيين بها. وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الحاكم بالدلالة على المثل.

وهذا الصنف من العلم: دليلٌ على ما وصفْتُ قبلَ هذا على أنْ ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حلَّ ولا حرُم إلا من جهة العلم. وجهةُ العلم الخبرُ: في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس.

ومعنى هذا البابِ معنى القياس؛ لأنه يُطلب فيه الدليل على صواب القبلةِ، والعَدلِ، والمِثل.

- [40] - والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم، من الكتاب أو السنة؛ لأنهما عَلَمُ الحق المفتَرَضِ طَلَبُهُ، كطلب ما وَصَفتُ قبله، من القبلة والعدل والمثل.

وموافقته تكون من وجهين:

أحدهما: أن يكون الله أو رسوله حرم الشيء منصوصاً، أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنة: أحللناه أو حرمناه؛ لأنه في معنى الحلال أو الحرام.

أو نجد الشيء يشبه الشيءَ منه، والشيءَ من غيره، ولا نجد شيئاً أقربَ به شَبَهَاً من أحدهما: فنلحقه بأَولى الأشياء شَبَهَاً به، كما قلنا في الصيد.

قال الشافعي: وفي العلم وجهان: الإجماع والاختلاف. وهما موضوعان في غير هذا الموضع.

ومن جماع علم كتاب الله: العلمُ بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب.

- [41] - والمعرفةُ بناسخ كتاب الله، ومنسوخة، والفرْضِ في تنزيله، والأدبِ، والإرشادِ، والإباحةِ.

والمعرفةُ بالموضع الذي وضع الله به نبيه من الإبانة عنه، فيما أحكم فرضه في كتابه، وبينه على لسان نبيه. وما أراد بجميع فرائضه؟ ومن أراد: أكلَّ خلقه أم بعضهم دون بعض؟ وما افترض على الناس من طاعته، والانتهاء إلى أمره.

ثم معرفةُ ما ضرب فيها من الأمثال الدوالِّ على طاعته المبيِّنة لاجتناب معصيته، وتركُ الغفلة عن الحظ، والازديادُ من نوافل الفضل.

فالواجبُ على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا.

وقد تكلم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به، وأقربَ من السلامة له إن شاء الله.

فقال منهم قائل: إن في القُرَآن عربياً وأعجميًا

- [42] - والقُرَآن يدل على أنْ ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب.

ووجد قائل هذا القول مَن قَبِلَ ذلك منه تقليداً له، وتركاً للمسألة عن حجته، ومسألةِ غيره ممن خالفه.

وبالتقليد أغفلَ من أغفلَ منهم، والله يغفر لنا ولهم.

ولعل من قال: إن في القُرَآن غيرَ لسان العرب، وقُبِلَ ذلك منه ذَهَبَ إلى أن من القُرَآن خاصاً يجهل بعضَه بعضُ العرب.

ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه.

والعلمُ به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيءٌ.

- [43] - فإذا جُمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرّق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجوداً عند غيره.

وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره.

وليس قليلُ ما ذهب من السنن على من جمع أكثرَها: دليلاً على أن يُطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يُطلب عن نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله - بأبي هو وأمي - فيتفرَّد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وَعَوا منها.

- [44] - وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها. لا يذهب منه شيء عليها، ولا يُطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قَبِله عنها، ولا يَشرَكها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها.

وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله.

وعِلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من علم أكثر السنن في العلماء.

فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟

فذلك يحتمل ما وصفتُ من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجدُ ينطقُ إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه، فهو تبع للعرب فيه.

ولا ننكر إذ كان اللفظُ قِيل تعلماً، أو نُطِق (45) به موضوعاً: أن يوافقَ لسانُ العجم، أو بعضُها قليلاً من لسان العرب، كما يَاتَفِقُ القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبُعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها.

فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلِطُه فيه غيره؟

فالحجة فيه كتابُ الله قال الله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (إبراهيم 4)

فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بُعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟

- [46] - فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبَع على التابِع.

وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُهُ لسانُ النبي. ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسانٍ غيرِ لسانه في حرف واحد، بل كلُّ لسان تَبَع للسانه، وكلُّ أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه.

وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه:

قال الله: (وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء 192 - 193)

وقال: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً) (الرعد 37)

وقال: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى، ومَن حولها) (الشورى 7)

- [47] - وقال: (حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (الزخرف 1 - 3)

وقال: (قرآناً عربياً غيرَ ذي عِوَجٍ لعلهم يتقون) (الزمر 28)

قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كلَّ لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه.

فقال تبارك وتعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر. لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين) (النحل 103)

وقال: (ولو جعلناه أعجمياً لقالوا: لولا فُصِّلت آياته، أعجمي وعربي؟!) (فصلت 44)

قال الشافعي: وعرَّفَنَا نعمه بما خصَّنا به من مكانه، فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤفٌ رحيم) [التوبة 128]

وقال: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) " [الجمعة] .

وكان مما عرَّف اللهُ نبيَّه من إنْعامه، أنْ قال: "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (44) " [الزخرف] ، فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابه.

وقال: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) " [الشعراء] ، وقال: "لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (7) " [الشورى] ، وأمُّ القرى: مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذَرين عامة، وقضى أن يُنْذِروا بلسانهم العربي، لسانِ قومه منهم خاصة.

فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يَشْهَد به أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، ويتلوَ به كتابَ الله، وينطق بالذكر فيما افتُرِض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح، والتشهد، وغيرِ ذلك.

- [49] - وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَنْ خَتَم به نُبوته، وأنْزَلَ به آخر كتبه: كان خيراً له. كما عليه يَتَعَلَّمُ [1] الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيتَ، وما أُمِر بإتيانه، ويتوجه لِما وُجِّه له. ويكون تبَعاً فيما افتُرِض عليه، ونُدب إليه، لا متبوعاً.

- [50] - وإنما بدأت بما وصفتُ، من أن القُرَآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم مِن إيضاح جُمَل عِلْم الكتاب أحد، جهِل سَعَة لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِماعَ معانيه، وتفرقَها. ومن علِمه انتفَتْ عنه الشُّبَه التي دخلَتْ على من جهِل لسانَها.

(1) حذف (( أن )) في مثل هذا الموضع جائز قياساً والأكثرون على رفع الفعل حينئذ.

فكان تَنْبيه العامة على أن القُرَآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحةً للمسلمين. والنصيحة لهم فرضٌ، لا ينبغي تركه، وإدْراكُ نافلة خيْرٍ لا يَدَعُها إلاَّ مَن سفِهَ نفسَه، وترَك موضع حظِّه. وكان يَجْمع مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حقٍّ. وكان القيام بالحق، ونصيحةُ المسلمين من طاعة الله. وطاعةُ الله جامعة للخَير.

أخبرنا "سُفيان" عن "زِياد بن عِلاَقة" ، قال: سمعتُ "جَرير بن عبد الله" يقول: "بَايَعْتُ النَّبِيَّ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" [1] .

- [51] - أخبرنا "ابن عيينة" عن "سُهَيْل ابن أببي صالح" ، عن "عطاء بن يزيد" عن "تَمِيم الدَّارِي" ، أنَّ النَّبيَّ قال: "إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِنَبِيِّهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ" [2] .

(1) البخاري: كتاب الإيمان/55؛ مسلم: كتاب الإيمان/84.

(2) مسلم: كتاب الإيمان/82؛ النسائي: كتاب البيع/4138؛ أبوداود: كتاب الأدب/4293؛ الترمذي: كتاب البر والصلة/1849.

قال "الشافعي" : فإنما خاطب الله بكتابه العربَ - [52] - بلسانها، على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا، ظاهِرًا، يُراد به العام، الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه. وعاماً ظاهراً يراد به العام، ويَدْخُلُه الخاصُّ، فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه؛ وعاماً ظاهراً، يُراد به الخاص. وظاهراً يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرَه.

وتَبْتَدِئ الشيءَ من كلامها يُبَيِّنُ أوَّلُ لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظِها منه عن أوَّلِهِ.

وتكلَّمُ بالشيء تُعَرِّفُه بالمعنى، دون الإيضاح باللفظ، كما تعرِّف الإشارةُ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جَهَالتها.

وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة.

وكانت هذه الوجوه التي وصفْتُ اجتماعَها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها: مَعْرِفةً [1] واضحة - [53] - عندها، ومستَنكَراً عند غيرها، ممن جَهِل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتابُ، وجاءت السنة، فتكلَّف القولَ في علمِها تكلُّفَ ما يَجْهَلُ بعضَه.

ومن تكَلَّفَ ما جهِل، وما لم تُثْبِتْه معرفته: كانت موافقته للصواب - إنْ وافقه من حيث لا يعرفه - غيرَ مَحْمُودة، والله أعلم؛ وكان بِخَطَئِه غيرَ مَعذورٍ، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بيْن الخطأ والصواب فيه.

(1) أي معروفة.

باب: بيان ما نزل من الكتاب عاماً يُراد به العام، ويدخله الخصوص.

قال الله تبارك وتعالى: "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) " [الزمر] ، وقال تبارك وتعالى: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ - [54] - وَالْأَرْضَ (32) " [إبراهيم] ، وقال: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا (6) " [هود] ، فهذا عام، لا خاصَّ فيه.

قال "الشافعي" : فكل شيء، من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خَلَقَه، وكل دابة فعلى الله رزقُها، ويَعْلم مُستقَرَّها ومُسْتَوْدعها.

وقال الله: "مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ (120) " [التوبة] .

وهذا في معنى الآية قَبْلَهَا، وإنما أُرِيد به مَن أطاق الجهاد من الرجال، وليس لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي: أطاق الجهاد، أو لم يُطِقْه؛ ففي هذه الآية الخصوص والعموم.

وقال: "وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا (75) " [النساء] .

- [55] - وهكذا قول الله: "حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا (77) " [الكهف] .

وفي هذه الآية دلالةٌ على أنْ لم يستطعما كل أهل قرية، فهي في معناهما.

وفيها، وفي: "الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا (75) " [النساء] : خصوص، لأن كل أهل القرية لم يكن ظالماً، قد كان فيهم المسلم، ولكنهم كانوا فيها مَكْثُورِين، وكانوا فيها أقل.

وفي القُرَآن نظائر لهذا، يُكْتَفَى بها إن شاء الله منها، وفي السنة له نظائر، موضوعةٌ مَوَاضِعَهَا.

باب: بيان ما أنْزِل من الكتاب عامَّ الظاهرِ، وهو يجمع العام والخصوص.

قال الله تبارك وتعالى: "إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) " [الحجرات] ،

وقال تبارك وتعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (184) " [البقرة] ،

وقال: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] ،

قال: فبيَّنَ في كتاب الله، أنَّ في هاتين الآيتين العمومَ والخصوصَ:

- [57] - فأمَّا العموم منهما، ففي قول الله: "إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (13) " [الحجرات] ، فكل نفس خوطبت بهذا، في زمان رسول الله، وقبله وبعده، مخلوقةٌ من ذكر وأنثى، وكلها شعوب وقبائل.

والخاص منها في قول الله: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) " [الحجرات] ؛ لأن التقوى تكون على من عَقَلَها، وكان من أهلها من البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدوابّ سِواهم، ودون المغلوبين على عقولهم منهم، والأطفال الذين لم يبلغوا وعُقِل التقوى منهم.

فلا يجوز أن يُوصف بالتقوى وخلافها إلا من عَقَلها وكان من أهلها، أو خالفها فكان من غير أهلها.

والكتاب يدل على ما وصفتُ، وفي السنة دلالة - [58] - عليها، قال رسول الله: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَة: النَّائِمُِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، والصَّبِيُِّ حتى يَبْلُغَ، وَالمَجْنُونُِ حَتَّى يُفِيقَ" (1) .

وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة: على البالغين العاقلين، دون من لم يبلغ، ومن بلغ ممن غُلِبَ على عقله، ودون الحُيَّضِ في أيام حَيْضِهِنَّ.

(1) الترمذي: كتاب الحدود/1343؛ أبو داود: كتاب الحدود/3822؛ ابن ماجه: كتاب الطلاق/2031؛ مسند أحمد: مسند العشرة/940، 956، 1183، 1327؛ الدارمي: كتاب الحدود/2194.

باب: بيان ما نزل من الكتاب عامَّ الظاهر، يراد به كلِّه الخاصُّ.

وقال الله تبارك وتعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) " [آل عمران] .

- [59] - قال "الشافعي" : فإذْ كان مَن مع رسول الله ناسً (1) ، غيرَ مَن جمَعَ لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسً غيرَ مَن جمُع لهم، وغيرَ من معه ممن جمُع عليه معه، وكان الجامعون لهم ناساً، فالدلالة بيِّنة مما وصفت من أنه إنما جمع لهم بعضُ الناس دون بعض.

والعلم يحيط أنْ من لم يَجمع لهم الناسُ كلهم، ولم يُخبرهم الناسُ كلهم، ولم يكونوا هم الناسَ (2) كلَّهم.

ولكنه لما كان اسم الناس يقع على ثلاثة نفر، - [60] - وعلى جميع الناس، وعلى مَن بين جمعهم وثلاثةٍ منهم، كان صحيحاً في لسان العرب أن يقال: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ (173) " [آل عمران] ، وإنما الذين قال لهم ذلك أربعةُ نفر "إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ (173) " [آل عمران] ، يعنون المنصرفين عن أُحُدٍ.

وإنما هم جماعة غيرُ كثير من الناس، الجامعون منهم، غيرُ المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غيرُ الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غيرُ الجامعين، ولا المجموع لهم ولا المخبرين.

(1) هكذا رُسمت في الموضعين بغير ألف وهي منصوبة والرسم بغير ألف جائز وقد ثبت في أصول صحيحة عتيقة من كتب الحديث. انظر تعليق شاكر ص 59

(2) الصواب أن هذا الضمير للفصل لا محل له من الإعراب ويكون ما بعده خبراً.

وقال: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) " [الحج] .

قال: فمَخْرَجُ اللفظ عامٌّ على الناس كلهم. وبيِّنٌ عند أهل العلم بلسان العرب منهم: أنه إنما يُراد بهذا اللفظ العامِّ المخرجِ بعضُ الناس، دون بعض؛ لأنه لا يُخاطَب بهذا إلا من يدعو من دون الله إلَهًا، تعالى عما يقولون عُلُوًّا كبيرا؛ لأن فيهم من المؤمنين - [61] - المغلوبين على عقولهم، وغير البالغين ممن لا يدعو معه إلها.

قال: وهذا في معنى الآية قبلها عند أهل العلم باللسان، والآية قبلها أوضحُ عند غير أهل العلم، لكثرة الدلالات فيها.

قال "الشافعي" : قال الله تبارك وتعالى: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (199) " [البقرة] ، فالعلم يحيط - إن شاء الله - أن الناس كلهم لم يحضروا عرفة في زمان رسول الله، ورسول الله المخاطبُ بهذا ومَن معه، ولكنَّ صحيحاً من كلام العرب أن يقال: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ" ، يعني بعضَ الناس.

وهذه الآية في مثل معنى الآيتين قبلها، وهي عند العرب سواء. والآية الأولى أوضح عند من يجهل لسان العرب من الثانية، والثانيةُ أوضح عندهم من الثالثة، وليس يختلف عند العرب وضوح هذه الآيات معا؛ لأن أقل البيان عندها كاف من أكثره، إنما يريد السامعُ فَهْمَ قول القائل، فأقل ما يفهمه به كافٍ عنده.

- [62] - @ وقال الله جل ثناؤه: "وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (24) " [البقرة] ، فدل كتاب الله على أنه إنما وقودها بعضُ الناس، لقول الله: "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) " [الأنبياء] .

باب: الصِّنْف الذي يُبَيِّن سياقُه معناه.

قال الله تبارك وتعالى: "وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا، وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ. كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) " [الأعراف] .

فابتدأ - جل ثناؤه - ذِكرَ الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر، فلما قال: "إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت" الآية، دل على أنه إنما أراد أهلَ القرية؛ لأن القرية لا تكون عادِيَةً، ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بَلاَهم بما كانوا يفسقون.

وقال: "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً، وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) " [الأنبياء] .

وهذه الآية في مثل معنى الآية قبلها، فذَكَر قَصْمَ القرية، فلما ذكر أنها ظالمة بَانَ للسامع أن الظالم إنما هم أهلها، دون منازلها التي لا تَظلم، ولما ذكر القوم المنشَئِين بعدها، وذكر إحساسَهم البأسَ عند القَصْم، أحاط العلمُ أنه إنما أحسَّ البأس من يعرف البأس من الآدميين.

الصنف الذي يدل لفظه على باطنه، دون ظاهره.

قال الله تبارك وتعالى، وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم: "مَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) " [يوسف] .

فهذه الآية في مثل معنى الآيات قبلها، لا تختلف عند أهل العلم باللسان، أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير، لأن القرية والعير لا يُنْبِئَانِ عن صدقهم.

باب: ما نزل عاماًّ، دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص.

قال الله - جل ثناؤه: "وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ (11) " [النساء] .

- [65] - وقال: "وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ، وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) " [النساء] .

فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات، وكان عامَّ المخرج، فدلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج، دون بعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحداً، ولا يكون الوارث منهما قاتلاً ولا مملوكاً.

وقال: "مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ" .

فأبان النبي أن الوصايا مقتَصَرٌ بها على الثلث، لا يُتَعدى، ولأهل الميراث الثلثان؛ وأبان أن الدَّين قبل الوصايا - [66] - والميراث، وأن لا وصية ولا ميراث حتى يستوفي أهل الدَّين دينهم.

ولولا دلالة السنة، ثم إجماعُ الناس، لم يكن ميراثٌ إلا بعد وصية أو دين، ولم تعد الوصية أن تكون مُبَدَّاةً على الدين أو تكون والدين سواء.

وقال الله: "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (6) " [المائدة] .

فقصد - جل ثناؤه - قصْدَ القدمين بالغسل، كما قصد الوجه واليدين، فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل، أو الرأس من المسح؛ وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما، بعضُ المتوضئين دون بعض.

فلما مسح رسول الله على الخفين، وأمر به من أدخل رجليه في الخفين، وهو كامل الطهارة، دلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض.

وقال الله تبارك وتعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ (38) " [المائدة] .

- [67] - وسن رسول الله أن: "لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ" (1) ، وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار، فصاعداً.

(1) الترمذي: كتاب الحدود/1369؛ النسائي: كتاب قطع السارق/4874؛ أبو داود: كتاب الحدود/3815؛ مسند احمد: مسند المكثرين/15243؛ مالك: كتاب الحدود/1320؛ الدارمي: كتاب الحدود/2202.

وقال الله: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) " [النور] .

وقال في الإماء: "فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] .

فدل القُرَآن على أنه إنما أريد بجلد المائة: الأحرارُ، دون الإماء. فلما رجم رسول الله الثيب من الزناة، ولم يجلده: دلت سنة رسول الله على أن المراد بجلد المائة من الزناة: الحُرَّان البِكْرَان، وعلى أن المراد بالقطع في السرقة: من سرَق من حِرْز، وبلغت سرقته ربع دينار، دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا.

وقال الله: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ - [68] - فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (41) " [الأنفال] .

فلما أعطى رسول الله بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى: دلت سنة رسول الله أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهماً من الخمس: بنو هاشم وبنو المطلب، دون غيرهم.

وكل قريش ذو قرابة، وبنو عبد شمس مساويةُ بني المطلب في القرابة، هم مَعًا بنو أب وأم، وإن انفرد بعض بني المطلب بولادة من بني هاشم دونَهم.

فلما لم يكن السهم لمن انفرد بالولادة من بني المطلب دون من لم تصبه ولادة من بني هاشم منهم: دل ذلك على أنهم إنما أعطُوا خاصة دون غيرهم بقرابة جذم النسب، مع كَيْنُونَتِهِمْ معًا مجتمعين في نصر النبي بالشِّعْب وقبله وبعده، وما أراد الله - جل ثناؤه - بهم خاصًّا.

- [69] - ولقد وَلَدَتْ بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم أحد بولادتهم من الخمس شيئاً، وبنو نوفل مُسَاوِيَتُهُمْ في جِذْمِ النسب، وإن انفردوا بأنهم بنوا أم دونهم.

- [70] - قال الله: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ (41) " [الأنفال] .

فلما أعطى رسول الله السلَبَ القاتلَ في - [71] - الإقبال: دلَّت سنة النبي على أن الغنيمة المَخْمُوسَة في كتاب الله، غيرُ السلب، إذْ كان السلب مَغْنُوماً في الإقبال، دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال، وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمةٌ تُخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنة.

- [72] - ولولا الاستدلال بالسنة، وحُكْمُنا بالظاهر - [73] -: قطعنا من لزمه اسمُ سرقة، وضربنا مائةً كلَّ مَنْ زَنَى، حُراًّ ثيباً، وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي قرابة، ثم خلص ذلك إلى طوائف من العرب، لأن له فيهم وَشَايِجَ أرحام، وَخَمَسْنا السَّلَب، لأنه من المَغْنم مع ما سواه من الغنيمة.

بيان فرضِ الله في كتابه اتباعَ سنة نبيه.

قال: "الشافعي" : وضع الله رسوله من دينه وفرْضِه وكتابه، الموضعَ الذي أبان - جل ثناؤه - أنه جعله عَلَمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قَرَن من الإيمان برسوله مع الإيمان به.

فقال تبارك وتعالى: "فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا: ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ. إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ (171) " [النساء] .

- [75] - وقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ (62) " [النور] .

فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تَبَع له: الإيمانَ بالله ورسوله.

فلو آمن عبد به، ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً، حتى يؤمن برسوله معه.

وهكذا سَنَّ رسولُ الله في كل من امتحنه للإيمان.

أخبرنا "مالك" عن "هلال بن أسامة" عن "عطاء بن يسار" عن "عُمَر بن الحَكَم" قال: "أتَيْتُ رسولَ اللهِ بِجَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: ياَ رَسُولَ اللهِ، عَلَيَّ رَقَبَةٌ، أَفَأَعْتِقُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: أَيْنَ اللهُ؟ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: فَأَعْتِقْهَا" (1) .

- [76] - قال "الشافعي" : وهو "معاوية بن الحكم" ، وكذلك رواه غيرُ مالك، وأظن مالكً (1) لم يحْفَظ اسمَه.

قال "الشافعي:" ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله.

فقال في كتابه: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) " [البقرة] .

وقال جل ثناؤه: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) " [البقرة] .

- [77] - وقال: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) " [آل عمران] .

وقال جل ثناؤه: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) " [الجمعة] .

وقال: "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ (231) " [البقرة] .

وقال: "وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) " [النساء] .

وقال: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ - [78] - اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) " [الأحزاب] .

فذكر الله الكتاب، وهو القُرَآن، وذكر الحِكْمَة، فسمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرَآن يقول: الحكمة سنة رسول الله.

وهذا يشبه ما قال، والله أعلم.

لأن القُرَآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكرَ الله منَّه على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يَجُزْ - والله أعلم - أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنةُ رسول الله.

وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ، إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله.

لِمَا وصفنا، من أنَّ الله جَعَلَ الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به.

- [79] - وسنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله.

(1) موطأ مالك: كتاب العتق والولاء/1269؛ مسند أحمد: باقي مسند الأنصار/22645؛ سنن النسائي: كتاب الوصايا/3593.

(2) هكذا رُسم منصوباً بغير ألف وهو جائز على لغة بني ربيعة وقدمنا التعليق عليه ص 59

باب: فرْض الله طاعةَ رسول الله مقرونةً بطاعة الله، ومذكورةً وحدها.

قال الله: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) " [الأحزاب] .

وقال: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) " [النساء] .

فقال بعض أهل العلم: أولوا الأمر: أمراء سرايا رسول الله - والله أعلم - وهكذا أُخبرنا.

- [80] - وهو يُشْبِه ما قال - والله أعلم -، لأن كلَّ من كان حوْل مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنَف أن يُعْطِيَ بعضُها بعضا طاعةَ الإمارة.

فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يَصلح لغير رسول الله.

فأُمِروا أن يُطِيعوا أولي الأمر الذين أَمَّرَهم رسول الله، لا طاعةً مطلقة، بل طاعة مُسْتَثْناة، فيما لهم وعليهم، فقال: "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ (59) " [النساء] ، يعني: إن اختلفتم في شيء.

وهذا - إن شاء الله - كما قال في أولي الأمر، إلا أنَّه يقول: "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ" ، يعني - والله أعلم - هم وأُمَراؤهم الذين أُمِروا بطاعتهم، "فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ" ، يعني - والله اعلم - إلى ما قال الله - [81] - والرسول إن عرفتموه، فإن لم تعرفوه سألتم الرسولَ عنه إذا وصلتم، أو من وَصَلَ منكم إليه.

لأن ذلك الفرضُ الذي لا مُنَازَعَة لكم فيه، لقول الله: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36) [الأحزاب] ."

ومن تنازع (1) ممن بعد رسول الله رَدَّ الأمر إلى قضاء الله، ثم قضاء رسوله، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء، نصًّا فيهما ولا في واحد منهما، رَدُّوه قِياساً على أحدهما، كما وصفْتُ مِنُ ذكر القبلة والعدل والمثل، مع ما قال الله في غير آية مثلَ هذا المعنى.

وقال: "وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا (69) [النساء] ."

- [82] - وقال: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (20) " [الأنفال] .

(1) رسمت في النسخة المعتمدة بالياء وسكون آخره ورفعه، وبالتاء وفتح آخره وسكونه.

باب: ما أمر الله من طاعة رسوله.

قال الله - جل ثناؤه: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) " [الفتح] .

وقال: "مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (80) " [النساء] .

فأعْلَمَهم أنَّ بَيْعَتهم رسولَه بيعتُه، وكذلك أعْلمهم أنَّ طاعتَهم طاعتُه.

وقال: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) " [النساء] .

- [83] - نزلت هذه الآية فيما بلغنا - والله أعلم - في رجل خاصَمَ "الزُّبَيْر" في أرضٍ، فقضى النبي بها "للزبير" .

وهذا القضاء سنة من رسول الله، لا حُكْمٌ منصوص في القُرَآن.

والقُرَآن يدل - والله أعلم - على ما وصفْتُ، لأنه لو كان قضاءً بالقُرَآن كان حُكماً منصوصاً بكتاب الله، وأشبَهَ أن يكونوا إذا لم يُسَلِّموا لحكم كتاب الله نصًّا غيرَ مُشْكِل الأمر، أنَّهم ليسوا بِمُؤمنين، إذا رَدُّوا حكمَ التنزيل، إذا لم يسلموا له.

وقال تبارك وتعالى: "لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا - [84] -، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) " [النور] .

وقال: "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) . وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51) . وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ، فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (52) " [النور] .

فأعلم اللهُ الناسَ في هذه الآية، أنَّ دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم: دعاء إلى حكم الله، لأن الحاكم بيْنهم رسولُ الله، وإذا سلَّموا لحكم رسول الله، فإنما سلموا لحكمه بفرض الله.

وأنَّه أعْلَمَهم أن حكمَه: حكمُه، على معنى افتراضه حكمَه، وما سبق في علمه - جل ثناؤه - مِن إسْعاده بعِصْمته وتوفيقه، وما شَهِد له به من هِدايتِه واتباعِه أمْرَه.

- [85] - فأَحْكَمَ فرضَه بإلزام خَلْقِه طاعةَ رسوله، وإعْلامِهم أنها طاعتُه.

فَجَمَعَ لهم أنْ أعْلمَهم أنَّ الفرض عليهم اتباعُ أمره، وأمرِ رسوله، وأن طاعة رسوله: طاعتُه، ثم أعلمهم أنه فَرَضَ على رسوله اتباعَ أمرِه - جل ثناؤه -.

باب: ما أبان الله لخلْقه من فرضه على رسوله اتباعَ ما أَوْحَى إليه، وما شَهِد له به من اتباع ما أُمِرَ به، ومِنْ هُداه، وأنه هاد لمن اتبعه.

قال "الشافعي" : قال - الله جل ثناؤه - لنبيه: "يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) " [الأحزاب] .

وقال: "اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (106) " [الأنعام] .

- [86] - وقال: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) " [الجاثية] .

فأعْلَمَ اللهُ رسولَه منَّه عليه بما سبق في علمه، من عِصْمته إيَّاه من خلقه، فقال: "يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ (67) " [المائدة] .

وشهد له - جل ثناؤه - باستمساكه بما أمره به، والهدى في نفسه، وهدايةِ مَنْ اتبعه، فقال: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي: مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) " [الشورى] .

وقال: "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ - [87] -، وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) " [النساء] .

فأبان الله أنْ قدْ فرَضَ على نبيه اتباعَ أمره، وشهِدَ له بالبلاغ عنه، وشهد به لنفسه، ونحن نَشْهَدُ له به، تَقَرُّبًا إلى الله بالإيمان به، وتوَسُّلاً إليه بِتَصْديق كَلِمَاتِه.

أخبرنا "عبد العزيز" عن "عمرو بن أبي عمرو" مَوْلى "المُطَّلِب" عن "المطلب بن حَنْطَبٍ" أنَّ رسول الله قال: "مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أمَرَكُمْ اللهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمْ اللهُ عَنْهُ إلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ" (1) .

(1) مسند الشافعي: 673.

قال "الشافعي" : وما أعلمنا الله مما سبق في علمه، وحتْمِ قضائه الذي لا يُرَدُّ، من فضله عليه ونعمته: أنه منعه من أنْ يَهُمُّوا به أن يُضلُّوه، وأعلمه أنهم لا يضرونه من شيء.

- [88] - وفي شهادته له بأنه يهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله، والشهادة بتَأدية رسالته، واتباع أمره، وفيما وصفتُ من فرضه طاعتَه، وتأكيدِه إياها في الآي ذكرتُ: ما أقام الله به الحجة على خلقه، بالتسليم لحكم رسول الله واتباع أمره.

قال "الشافعي" : وما سَنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكمٌ، فبِحُكْم الله سنَّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ ... (53) " [الشورى] .

وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسنَّ فيما ليس فيه بعَيْنه نصُّ كتاب.

وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنُود عن اتباعها معصيتَه التي لم يعذر بها خَلْقاً، - [89] - ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مَخْرجاً، لما وصفتُ، وما قال رسول الله.

أخبرنا "سفيان" عن "سالم أبو النضْر" مولى "عُمَر بن عبيد الله" سمع "عبيد الله بن أبي رافع" يحدِّثُ عن أبيه، أنَّ رسول الله قال: "لاَ أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأُمْرُ مِنْ أمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ به، أَوْ نَهَيْتُ عنه، فيقولُ: لاَ أَدْرِي، ماَ وَجَدْنَا فِي كِتَاِب اللهِ اتَّبَعْناَهُ" (1) .

- [90] - قال "سفيان" : وحَدَّثَنِيه "محمد بن المُنْكَدِر" عن النبي مُرْسلاً.

قال "الشافعي" : الأريكة: السرير.

(1) الترمذي: كتاب العلم/2587؛ أبو داود: كتاب السنة/3989؛ ابن ماجه: المقدمة/13.

وسُنَنُ رسول الله مع كتاب الله وجهان: أحَدُهما: نص كتاب، فَاتَّبَعَه رسول الله كما أنزل الله، والآخر: جملة، بَيَّنَ رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرَضَها عامَّاً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد، وكلاهما اتبع فيه كتاب الله.

قال: فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سُنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين.

والوجهان يجْتَمِعان ويتفرَّعان: أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبَيَّنَ رسول الله مثلَ ما نصَّ الكتاب، والآخر: مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب، فبيَّن عن الله معنى ما أراد؛ وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.

والوجه الثالث: ما سنَّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب.

فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يَسُنَّ فيما ليس فيه نص كتاب.

ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سُنَّته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البُيُوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال: "لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (29) " [النساء] ، وقال: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) [البقرة] ، فما أحلَّ وحرَّم فإنما بيَّن فيه عن الله، كما بَيَّن الصلاة."

ومنهم من قال: بل جاءته به رسالةُ الله، فأثبتتْ سنَّتَه.

- [93] - ومنهم من قال: أُلْقِيَ في رُوعه كلُّ ما سَنَّ، وسنَّتُه الحكمةُ: الذي أُلقي في رُوعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنتَه.

أخبرنا "عبد العزيز" عن "عمرو بن أبي عمرو" عن "المطلب" قال: قال رسول الله: "إنَّ الرُّوحَ الأمِيَن قَدْ ألْقَى فِي رُوعِي أنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزُْقَهَا، فَأجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ" (1) .

- [103] - فكان مما ألقَى في روعه سنَّتَه (2) ، وهي الحكمة التي ذكَرَ اللهُ، وما نَزَل به عليه كتابٌ، فهو كتاب الله، وكلٌّ جاءه من نِعَمِ الله، كما أراد الله، وكما جاءته النِّعَم، تَجْمعها النعمة، وتَتَفَرَّقُ بأنها في أمورٍ بعضُها غيرُ بعض، ونسأل الله العصمة والتوفيق.

- [104] - وأيُّ هذا كان، فقد بيَّن الله أنه فرَضَ فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذراً بخلاف أمرٍ عرَفَه من أمر رسول الله، وأنْ قد جعل الله بالناس الحاجةَ إليه في دينهم، وأقام عليهم حجتَه بما دلَّهم عليه من سنن رسول الله مَعَاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم مَن عرَف منها ما وصَفْنا أن سنته - صلى الله عليه - إذا كانت سنة مبيِّنة عن الله معنى ما أراد من مَفْروضه فيما فيه كتابٌ يتْلونَه، وفيما ليس فيه نصُّ كتاب أخْرَى (3) ، فهي كذلك أيْنَ كانت، لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ - [105] - رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال.

وكذلك قال رسول الله في حديث "أبي رافع" الذي كتبنا قبْل هذا.

وسأذكر مما وصفنا من السنة مع كتاب الله، والسنةِ فيما ليس فيه نص كتاب، بعضَ ما يدل على جملة ما وصفنا منه، إن شاء الله.

(1) ابن ماجه: كتاب الجارات/2135؛ مسند الشافعي: 674.

(2) هكذا ضُبطت في الأصل وهو صحيح ويتوجه على أن (من) زائدة - وإنْ في الإثبات على مذهب من يجيز ذلك - و (ما) اسم كان و (سنته) خبرها.

(3) أي سنة أخرى.

فأوَّل ما نبدأ به من ذِكْر سنة رسول الله مع كتاب الله: ذِكرُ الاستدلال بسنته على الناسِخ والمَنْسوخ من كتاب الله، ثم ذِكر الفرائض المَنْصوصة التي سن رسول الله معها، ثم ذكر الفرائض الجُمَل التي أبان رسول الله عن الله كيف هي ومواقيتَها، ثم ذكر العام من أمر الله الذي أراد به العام، والعامَّ الذي أراد به الخاصَّ، ثم ذِكرُ سنته فيما ليس فيه نص كتاب.

ابتداء الناسخ والمنسوخ.

قال "الشافعي:" : إنَّ الله خلَق الخلْق لِما سَبَق في علمه مما أراد بخلقهم وبهم، لا مُعَقِّبَ لحُكْمه، وهو سريع الحِساب.

وأنزل عليهم الكتاب تِبْياناً لكل شيء، وهُدًى ورحمةً، وفرض فيه فرائض أثبتها، وأُخْرَى نسَخَها، رحمةً لِخَلْقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به مِن نِعَمه. وأثابَهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم: جَنَّتَه، والنجاة من عذابه؛ فعَمَّتْهم رحمتُه فيما أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه.

وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنةَ لا ناسخةٌ للكتاب، وإنما هي تَبَع للكتاب، يُمَثِّلُ ما نَزل نصاً، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً.

قال الله: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ - [107] - أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي؛ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) " [يونسٍ] .

فأخبر الله أنه فرَضَ على نبيه اتباعَ ما يوحَى إليه، ولم يجعل له تبديله مِن تِلْقاء نفسه.

وفي قوله: "مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي (15) " [يونس] ، بيانُ ما وصفتُ، مِن أنه لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه، كما كان المُبْتدىءَ لفرضه، فهو المُزيلُ المثبت لِما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه.

وكذلك قال: "يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) " [الرعد] .

وقد قال بعضُ أهل العلم: في هذه الآية - والله أعلم - دِلاَلة على أن الله جعَل لرسوله أنْ يقولَ مِن تِلقاء نفسه بتوفيقه فيما لم يُنْزِلْ فيه كتاباً، والله أعلم.

وقيل في قوله: "يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ... (39) " [الرعد] : يمحو فَرْض ما يشاء، ويُثبت فرض ما يشاء، وهذا يُشبه ما قيل، والله أعلم.

- [108] - وفي كتاب الله دِلالة عليه، قال الله: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) " [البقرة] .

فأخبر الله أنَّ نسْخَ القُرَآن، وتأخيرَ إنْزالِه لا يكون إلا بِقُرَآن مثلِه.

وقال: "وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ (101) " [النحل] .

وهكذا سنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله؛ ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه، غيَر ما سنَّ رسول الله: لَسَنَّ فيما أحدث الله إليه، حتى يُبَيِّنَ للناس أن له سنةً ناسخةَ لِلَّتي قّبْلَها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنته - صلى الله عليه وسلم -.

فإن قال قائل: فقد وجدنا الدِّلالة على أنَّ القُرَآن يَنْسخ القُرَآن، لأنه لا مثلَ للقرآن، فأوْجِدْنا ذلك في السنة؟

قال "الشافعي" : فيما وصفتُ مِن فرْضِ الله على الناس - [109] - اتباع أمر رسول الله: دليلٌ على أن سنة رسول الله إنما قُبِلَتْ عن الله، فَمَنْ اتبعها فبِكتاب الله تَبِعَها، ولا نجد خبراً ألزمه الله خلْقَه نصاً بَيِّناً إلا كتابَه ثم سنةَ نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شِبْهَ لها مِنْ قول خَلْقٍ من خلق الله: لَمْ يَجُزْ أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غيرُ سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له، بل فرَض على خلقه اتباعَه، فألزمهم أمره، فالخلْق كلهم له تبعٌ، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرِضَ عليه اتباعُه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم يقُمْ مَقامَ أنْ ينسخ شيئاً منها.

فإن قال: أفيَحْتَمِلُ أنْ تكون له سنة مأثورة قد نُسِخَتْ، ولا تُؤْثَرُ السنة التي نَسَخَتْها؟

فلا يحتمل هذا، وكيف يَحْتَمِلُ أنْ يُؤثر ما وُضِع فرضُه، ويُتْرَكَ ما يَلْزَم فرضُه؟! ولو جاز هذا خرجتْ عامةُ السنن من أيدي الناس، بِأنْ يقولوا: لَعَّلها مَنْسوخَة، وليس يُنْسَخُ فرضٌ أبداً إلا أُثْبِتَ مكانَه فرضٌ. كما نُسختْ قِبْلة بيْت المَقْدِس، فأُثْبِتَ - [110] - مكانَها الكعبةُ، وكلُّ منسوخ في كتاب وسنة هكذا.

فإن قال قائل: هل تُنْسَخ السنةُ بالقُرَآن؟

قيل: لو نُسخَت السنة بالقُرَآن، كانت للنبي فيه سنةٌ تُبَيِّنُ أنَّ سنته الأولى منسوخة بسُنته الآخِرة حتى تقوم الحجةُ على الناس، بأنَّ الشيء يُنْسَخ بِمِثْله.

- [111] - فإنْ قال: ما الدليل على ما تقول؟

فما وصَفْتُ مِنْ مَوْضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد بفرائضه، خاصاً وعاماً، مما وصفت في كتابي هذا، وأنه لا يقول أبداً لِشيء إلا بحُكْم الله. ولو نسخ الله مما قال حكْماً، لَسنَّ رسول الله فيما نسخه سنة.

ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ثم نسخ سنتَه بالقُرَآن، ولا يُؤْثَرُ عن رسول الله السنةُ الناسخةُ: جاز أن يقال فيما حرم رسول الله من البُيوع كلِّها: قد يحتمل أن يكون حرَّمَها قبل أن يُنزل عليه: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) " [البقرة] ؛ وفيمن رجَم مِن الزناة: قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخاً لقول الله: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) " [النور] ؛ وفي المَسْح - [112] - على الخُفَّيْن: نَسَخت آيةُ الوُضوء المسحَ؛ وجاز أن يقال: لا يُدْرَأُ عن سارق سرق من غير حِرْزٍ، وسرِقَتُهُ أقلُّ من ربع دينار، لقول الله: "السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (38) " [المائدة] ، لأن اسم {السرقة} يَلْزَم من سرَق قليلاً وكثيراً، ومن حِرز، ومن غيِر حرز؛ ولجاز رَدُّ كل حديث عن رسول الله، بأن يقال: لم يقله، إذا لم يَجِدْه مثلَ التنزيل؛ وجاز رد السنن بهذين الوجهين، فتُرِكَتْ كلُّ سنة معها كتابٌ جملةً تحتمل سنتُه أنْ تُوَاِفقه، وهي لا تكون أبداً - [113] - إلا موافِقة له، إذا احتمل اللفظ فيما رُوِي عنه خلافَ اللفظ في التنزيل بوجه، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه أكثرُ مما في اللفظ في التنزيل، وإنْ كان مُحتمِلا أن يخالفه من وجه.

وكتابُ الله وسنةُ رسوله تدل على خلاف هذا القول، وموافِقةٌ ما قلنا.

وكتاب الله البيانُ الذي يُشْفى (1) به من العَمى، وفيه الدلالة على موضع رسول الله من كتاب الله ودينه، واتباعِه له وقيامه بتَبْيِينِه عن الله.

(1) في النسخة المعتمدة بالياء والنون.

الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه، والسنة على بعضه.

قال "الشافعي" : مما نَقَل بعضُ مَن سمعتُ مِنه مِن أهل العلم، أن الله أنزل فَرْضاً في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، - [114] - فقال: "يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ القُرَآن تَرْتِيلًا (4) " [المزمل] ، ثم نَسَخَ هذا في السورة معه، فقال: "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ القُرَآن، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (20) " [المزمل] .

ولما ذكر الله بعد أمْره بقيام الليل نصْفِه إلا قليلاً، أو لزيادة عليه، فقال: "أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ (20) " [المزمل] ، فخَفَّفَ، فقال: "عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى" قرأ إلى: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20) " [المزمل] .

قال "الشافعي" : فكان بيِّناً في كتاب الله نسخُ - [115] - قيام الليل ونصفِه والنقصانِ من النصف، والزيادة عليه بقول الله: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20) " [المزمل] .

فاحتمل قول الله: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20) " [المزمل] : معنيين:

- أحدهما: أن يكون فرضاً ثابتاً، لأنه أزِيل به فرض غيره.

- والآخر: أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره، كما أُزيل به غيره، وذلك لقول الله: "وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) " [الإسراء] ، فاحتمل قوله: "وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ" ، أن يتهجَّد بغير الذي فُرِض عليه، مما تَيَسَّرَ مِنه.

قال: فكان الواجب طلبَ الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألاَّ واجب من الصلاة إلا الخَمسُ، فصِرنا إلى أن الواجب الخمسُ، وأن ما سواها من واجب - [116] - مِن صلاة قبلَها، منسوخ بها، استدلالاً بقول الله: "فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ (79) " [الإسراء] ، وأنها ناسخة لقيام الليل ونصفِه وثلثِه وما تيسر.

ولَسْنَا نُحِبُّ لأحد تركَ أن يتهجد بما يسره الله عليه من كتابه، مُصَلِّيًا به، وكيف ما أكْثَرَ فهو أحبُّ إلينا.

أخبرنا "مالك" عن عمه "أبي سُهَيْل بن مالك" عن أبيه، أنه سمع "طلحة بن عبيد الله" يقول: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الإسْلَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَة، قاَلَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَان، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غّيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُوُل اللهِ: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ" (1) .

- [117] - ورواه "عُبادة بن الصامِت" عن النبي، أنَّهُ قال: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اْسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ: كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا (2) أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ" (3) .

(1) البخاري: كتاب الإيمان/44؛ مسلم: كتاب الإيمان/12؛ النسائي: كتاب الصلاة/454؛

أبو داود: كتاب الصلاة/331؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/382.

(2) هكذا هي النصب وتقدم توجيه نحوها ص 103 غير أن ذاك التوجيه لا يصلح هنا وانظر توجيه الكلام في ص 158

(3) النسائي: كتاب الصلاة/457؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1210؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1391؛ أحمد: باقي مسند الأنصار/21635؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/248.

باب: فرض الصلاة الذي دلَّ الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بعذر، وعلى من لا تُكتب صلاته بالمعصية.

قال الله تبارك وتعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ؟ قُلْ: هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) " [البقرة] .

قال "الشافعي" : افترض الله الطهارةَ على المُصَلِّي، فِي الوُضوء والغسل مِن الجنَابَة، فلم تكن لغير طاهر صلاةٌ. وَلَمَّا - [118] - ذكر اللهُ المَحِيضَ، فأمَرَ باعتزال النساء حتى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ أُتِينَ: استدلَلْنا على أنَّ تَطَهُّرَهُنَّ بالماء: بعد زوال المحيض، لأن الماء موجود في الحالات كلها في الحَضَر، فلا يكون للحائض طهارة بالماء، لأن الله إنما ذكَرَ التَّطَهُّرَ بعد أنْ يَطْهُرْنَ، وَتَطَهُّرُهُنَّ: زَوالُ المحيض، في كتاب الله ثم سنة رسوله.

أخبرنا "مالك" عن "عبد الرحمن بن القاسم" عن أبيه، عن "عائشة" ، وذَكَرَتْ إحرامَها مع النبي، وأنَّها حاضتْ، فأمَرَها أن تَقْضي ما يقضي الحاجُّ: "غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي" (1) .

- [119] - فاستدللنا على أنَّ الله إنَّمَا أراد بفرض الصلاة مَنْ إذا تَوَضَّأ واغتسل طَهُرَ؛ فأما الحائض، فلا تَطْهر بواحد منهما، وكان الحيض شيئاً خُلِقَ فيها، لم تَجْتَلِبْهُ على نفسها فتكون عاصية به، فزال عنها فرض الصلاة أيام حيضها، فلم يكن عليها قضاءُ ما تركتْ منها في الوقت الذي يزول عنها فيه فرضُها.

(1) البخاري: كتاب الحيض/294؛ مسلم: كتاب الحيض/2115؛ أحمد: مسند باقي الأنصار/25139؛ مالك: كتاب الحج/821.

وقلنا في المُغْمى عليه، والمغلوب على عقله بالعارض من أمر الله، الذي لا جَنابة له فيه، قِياساً على الحائض، إن الصلاة عنه مرفوعة، لأنه لا يعْقِلها، ما دام في الحال التي لا يعقل فيها.

وكان عامًّا في أهل العلم أن النبي لم يأمر الحائض بقضاء الصلاة، وعاماً أنها أُمِرَتْ بقضاء الصوم، فَفَرَقْنَا بَيْنَ الفَرْضَيْنِ، استدلالاً بما وصفتُ مِن نقْل أهل العلم وإجماعهم.

- [120] - @وكان الصوم مفارقَ الصلاة في أن للمسافر تأخيرَه عن شهر رمضان، وليس له ترك يوم لا يصلي فيه صلاة السَّفر، وكان الصوم شهراً مِن اثني عشر شهراً، وكان في أحدَ عشر شهراً خَلِيًّا مِن فرض الصوم، ولم يكن أحد من الرجال - مطيقاً بالفعل للصلاة - خَلِيًّا من الصلاة.

قال الله: "لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (43) " [النساء] .

فقال بعض أهل العلم: نزلتْ هذه الآية قبْلَ تحريم الخمر (1) .

فدل القُرَآن - والله أعلم - على ألا صلاة لسكرانَ حتى يعلمَ ما يقول، إذْ بدأ بنهيه عن الصلاة، وذكر معه الجُنُبَ، فلم يختلف أهل العلم ألا صلاة لجُنُب حتى يَتَطَهَّرَ.

- [120] - وإن كان نَهْيُ السكران عن الصلاة قبل تحريم الخمر: فهو حين حُرِّم الخمرُ أَوْلى أن يكون منهياً، بأنه عاصٍ من وجهين: أحدهما: أن يُصَلِّيَ في الحال التي هو فيها مَنْهِيٌّ، والآخر: أنْ يَشْرَبَ الخمرَ.

والصلاة قول وعمل وإمساكٌ، فإذا لم يَعْقِل القول والعمل والإمساك، فلم يأت بالصلاة كما أُمر، فلا تُجْزئ عنه، وعليه إذا أفاق القضاءُ.

ويُفارق المغلوبُ على عقله بأمر الله الذي لا حِيلة له فيه: السكرانَ، لأنه أدخل نفسه في السُّكر، فيكون على السكران القضاء، دون المغلوب على عقله بالعارض الذي لم يَجْتَلِبْه على نفسه فَيَكون عاصياً باجتلابه.

(1) ثبت ذلك في حديثين عند أبي داود والترمذي والنسائي.

وَوَجَّهَ اللهُ رسوله للقبلة في الصلاة إلى بيت المقدس، فكانت القبلةَ التي لا يحلُّ - قبل نسخها - استقبالُ غيرها، ثم نسخ - [122] - الله قبلة بيت المقدس، ووجَّهَه إلى البَيْت، فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس أبداً لَمَكْتوبةٍ، ولا يحل أن يستقبل غير البيت الحرام.

قال: وكلٌّ كان حقًّا في وقته، فكان التوجه إلى بيت المقدس - أيامَ وجَّه اللهُ إليه نبيه - حَقًّا، ثم نَسَخَه، فصار الحقُّ في التوجه إلى البيت الحرام أبداً، لا يحل استقبال غيره في مكتوبة، إلا في بعض الخوْف، أو نافلةٍ في سفرٍ، استدلالاً بالكتاب والسنة.

وهكذا كلُّ ما نسخ الله، ومعنى (نَسَخَ) : تَرَكَ فَرْضَه: كان حقًّا في وقته، وترْكُه حقًّا إذا نسخه الله، فيكون من - [123] - أدرك فرضَه مُطيعاً به وبتركه، ومَن لم يُدْرِك فرضَه مُطيعاً باتِّباع الفرْضِ الناسِخ له.

قال الله لنبيه: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (144) " [البقرة] .

فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حُوِّلوا إلى قِبْلةٍ بعد قبلة؟

ففي قول الله: "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) " [البقرة] .

"مالك" عن "عبد الله بن دينار" عن "ابن عمر" - [124] - قال: "بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إذْ جَاءَهمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرَآن، وَقَدْ أَُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلىَ الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إلىَ الكَعْبَةِ" (1) .

"مالك" عن "يحيى بن سعيد" عن "سعيد بن المُسَيِّب" - [125] - أنه كان يقول: "صَلَّى رَسُولُ اللهِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ حُوِّلَتْ القِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ" (2) .

(1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4134؛ النسائي: كتاب القبلة/737.

(2) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4132؛ النسائي: كتاب الصلاة/484؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1000؛ أحمد: مسند بني هشام/2140؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/412.

قال: والاستدلال بالكتاب في صلاة الخوف قولُ الله: "فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (239) " [البقرة] ، وليس لِمُصَلي المكتوبةِ أن يُصَلِّيَ رَاكِبًا إلا في خوْف، ولم يذْكر الله أن يتَوجه القبلةَ. (1)

- [126] - وروى "ابن عمر" عن رسول الله صلاةَ الخوفِ، فقال في روايته: "فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبلِيهَا" (2) .

وصلى رسول الله النافلةَ في السَّفَرِ على راحلته أيْن تَوجَّهتْ به؛ حَفِظَ ذلك عنه "جابر ابن عبد الله" ، و "أنس بن مالك" وغيرهما، وكان لا يصلي المكتوبة مُسافِراً إلاَّ بالأرض مُتوجِّهاً للقبلة.

"ابن أبي فُدَيْك" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "عثمان بن عبد الله بن سُراقة" عن "جابر بن عبد الله" : "أنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُوَجِّهَةً بِهِ قِبَلَ المَشْرِقِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ" (3) .

(1) منصوب بنزع الخافض: إلى القبلة.

(2) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك كتاب النداء للصلاة/396.

(3) مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909 وروي من طرق عن جابر رواه أحمد والالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي يألفاظ مختلفة.

قال الله: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) " [الأنفال] .

ثم أبان في كتابه: أنه وضَع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة، وأَثْبَتَ عليهم أنْ يقوم الواحد بقتال الاثنين، فقال: "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) " بالأنفال] .

أخبرنا "سفيان" عن "عمرو بن دينار" عن "ابن عباس" قال: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:" إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ - [128] - يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (65) " [الأنفال] ، كُتِبَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يَفرَّ العِشْرِونَ مِنَ المِائَتَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ:" الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا "إلى:" يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ "، فَكَتَبَ أنْ لاَ يَفِرَّ المِائَةُ مِنَ المِائَتَيْنِ" (1) .

قال: وهذا كما قال "ابن عباس" إن شاء الله، وقد بيَّن اللهُ هذا في الآية، وليستْ تَحْتاج إلى تَفْسِيرٍ.

(1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4285؛ الشافعي: كتاب الجهاد/386.

قال: "وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ - [129] - يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا، فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) " [النساء] .

ثم نَسَخ الله الحبسَ والأذى في كتابه، فقال: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) " [النور] .

فدلت السنة على أن جلد المِائة للزَّانِيَيْنِ البِكْرَيْن.

أخبرنا "عبد الوهاب" عن "يونس بن عُبَيْد" عن "الحَسَن" عن "عُبادَة ابن الصامِت" ، أنَّ رسولَ الله قال: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ" (1) .

أخبرنا الثقة من أهل العلم، عن "يونس بن عُبَيْد" - [130] - عن "الحسن" عن "حِطَّانَ الرَّقَاشِيِّ" عن "عُبادة بن الصامت" ، عن النبي مِثْلَهُ.

- [131] - قال: فدلّتْ سنةُ رسول الله أنَّ جَلْدَ المائة ثابت على البِكْرين الحُرَّيْن، ومنسوخ عن الثَّيِّبَيْنِ، وأن الرجْمَ ثابِت على الثَّيِّبَيْنِ الحُريْن.

لأنَّ قولَ رسول الله: "خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ - [132] - لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ باِلبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ" ، أوَّلُ ما نَزَلَ، فنُسخ به الحبسُ والأذى عن الزانِيَيْن.

فلَمَّا رجَمَ النبي "ماعِزاً" ولمْ يجْلِده، وأمر "أُنَيْسًا" أن يَغْدُوَ على امرأة "الأسْلَمِي" ، فإنْ اعترَفَتْ رَجَمَهَا: دلَّ على نَسْخِ الجَلْد عن الزانيين الحُرَّيْن الثَّيِّبَيْنِ، وثبتَ الرجمُ عليهما، لأن كل شيء أبداً بعد أوَّلٍ فهو آخِرٌ.

- [133] - فدل كتاب الله، ثم سنة نبيه، على أن الزانيين المَمْلوكَيْن خارِجان من هذا المعنى.

(1) مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛ أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252.

قال الله - تبارك وتعالى - في المَمْلوكات: "فَإِذَا أُحْصِنَّ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] .

والنِّصْف لا يكون إلا من الجَلْدِ، الذي يَتَبَعَّضُ، فأما الرَّجْم - الذي هو قتل - فلا نصفَ له، لأن المرجوم قد - [134] - يموت في أوَّل حَجَرٍ يُرْمى به، فلا يُزاد عليه، ويُرْمى بألفٍ وأكثر فيُزادُ عليه حتى يموت، فلا يكون لهذا نِصف محدود أبداً.

والحدود مُوَقَّتة بإتْلاف نفْسٍ، والإتلاف مُوَقَّتٌ بِعَدَدِ ضَرْبٍ أو تحديد قطعٍ، وكل هذا معروف، ولا نصف للرجمِ مَعْروفٌ.

- [135] - وقال رسول الله: "إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا" (1) ، ولم يقل: (يَرْجُمْهَا) ، ولم يختلف المسلمون في ألاَّ رَجْمَ على مَمْلُوكٍ في الزِّناَ.

وإحصانُ الأمة إسلامُها.

وإنما قلنا هذا استدلالاً بالسنة وإجماعِ أكْثرِ أهْل العِلْم.

ولَمَّا قال رسول الله: "إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فَتَبَيًّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا" ، ولم يقل: (مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةً) ، استدللنا - [136] - على أنَّ قول الله في الإماء: "فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] ، إذا أسْلَمْنَ، لا إذا نُكِحْنَ فأُصِبْنَ بالنكاح، ولا إذا أَعتَقْنَ وإنْ لَمْ يُصَبْن.

فإن قال قائل: أراكَ تُوقِع الإحْصان على معاني مختلف؟

قيل: نَعَم، جِماعُ الإحصان أن يكون دون التحصين مانعٌ من تناول المُحَرَّم. فالإسلام مانع، وكذلك الحُرية مانعة، وكذلك الزوجُ والإصابةُ مانع، وكذلك الحبس في البيوت مانع، وكلُّ ما مَنَعَ أَحْصَنَ. قال الله: "وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ (80) " [الأنبياء] ، وقال: "لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ (14) " [الحشر] ، يعني: ممنوعة.

قال: وآخِرُ الكلام وأوَّلُه يَدُلان على أن معنى الإحصان، المذكورِ عامًّا في موضع دون غيره: أن الإحصان - [137] - هاهُنَا الإسلامُ، دون النكاح والحرية والتحصينِ بالحبس والعفاف. وهذه الأسماءُ التي يَجْمعها اسم الإحصان.

(1) البخاري: كتاب البيوع/2080؛ مسلم: كتاب الحدود/3215؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/7088.

الناسخ والمنسوخ الذي تدلُّ عليه السنة والإجماع.

قال الله - تبارك وتعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) " [البقرة] .

قال الله: "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ - [138] - أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) " [البقرة] .

فأنزل الله ميراثَ الوالِدَيْن ومن ورث بعدَهما ومَعَهما من الأقْرَبِين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجةِ من زوجها.

فكانت الآيتان محتملتين لأن تُثْبِتا الوصيةَ للوالدَيْن والأقربين، والوصيَّةَ للزوج، والميراثَ مع الوصايا، فيأخذون بالميراث والوصايا، ومحتملةً بأن تكون المواريث ناسخةً للوَصَايَا.

فلَمَّا احتملتْ الآيتان ما وصفنا كان على أهل العلم طَلَبُ الدِّلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصاً في كتاب الله، طَلَبُوه - [139] - في سنة رسول الله، فإن وَجَدوه فما قَبِلُوا عن رسول الله، فَعَنْ اللهِ قَبِلُوهُ، بما افْتَرَضَ مِن طاعته.

ووَجدْنا أهلَ الفُتْيَا، ومَنْ حَفِظْنَا عنه مِنْ أهل العلم بالمَغَازِي، مِنْ قُريش وغيرهمْ: لا يختلفون في أنَّ النبي قال عامَ الفَتْحِ: "لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ" ، ويَأْثُرُونه عَنْ مَنْ حَفظوا عنه مِمَّنْ لَقُوا من أهل العلم بالمغازي.

فكان هذا نَقْلَ عامَّةٍ عنْ عامَّة، وكان أقوى في بعض الأمْرِ من نقْلِ واحد عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مُجتمعين.

قال: ورَوَى بعضُ الشَّامِيِّين حديثاً ليس مما يُثْبِتُه أهل الحديث، فيه: أنَّ بعضَ رِجاله مجهولون، فَرَوَيْناه عن النبي منقطِعًا.

- [140] - وإنما قَبِلْنَاه بما وَصَفْتُ من نقْل أهل المغازي وإجماع العامة عليه، وإن كُنَّا قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديثِ أهل المغازي عامًّا وإجماع الناس.

أخْبَرنا "سفيان" عن "سليمان الأحْوَل" عن "مجاهد" ، أنَّ رسولَ الله قال: "لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" (1) .

- [142] - فاستدللنا بما وصفتُ، من نقْلِ عامَّة أهل المغازي عن النبي أن: "لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" ، على أنَّ المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المُنْقَطع عن النبي، وإجماعِ العامَّة على القول به.

وكذلك قال أكثرُ العامَّة: إن الوصية للأقربين - [143] - منسوخة زائلٌ فَرْضُها، إذا كانوا وارثين فبالميراث، وإن كانوا غَيْرَ وارثين فليس بِفَرض أنْ يُوصي لهم.

إلاَّ أنَّ "طاوسًا" وقليلاً معه قالوا: نُسِخت الوصية للوالدين، وَثَبَتَتْ للقرابة غير الوارثين، فَمَنْ أوْصَى لغير قرابة لم يَجُزْ.

فلَمَّا احتملت الآية ما ذهب إليه "طاوس" ، مِن أنَّ الوصيَّة للقرابة ثابتة، إذْ لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلاَّ أنَّ النبي قال: "لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" ، وَجَبَ عِندنا على أهل العلم طلبُ الدِّلالة على خِلاف ما قال "طاوس" أو مُوَافَقَتِه:

فوجدنا رسول الله حَكَمَ في سِتَّةِ مَمْلُوكِينَ كانوا لرجل لا مالَ له غيرُهم، فَأَعْتَقَهُم عند الموت، فَجَزَّأَهُم النبيُّ ثلاثةَ أجزاء، فَأَعْتَقَ اثنين، وَأَرَقَّ أربعةً.

- [144] - أخْبَرَنا بذلك "عبد الوهاب" عن "أيوب" عن "أبي قِلابَة" عن "أبي المُهَلَّبِ" عن "عِمران بن حُصَينٍ" عن النبي.

قال: فكانت دِلالة السنة في حديث "عِمران بن حُصَيْنٍ" بَيِّنَةً بأن رسول الله أَنْزَلَ عِتْقَهم في المرض وصيَّةً.

- [145] - والذي أعْتَقَهُمْ رجل من العَرَب، والعربيُّ إنَّما يَمْلِكُ مَن لا قَرابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِن العَجَم، ِ فأجازَ النبي لهم الوصيةَ.

فدلَّ ذلك على أن الوصية لو كانت تَبْطُلُ لِغير قرابة: بَطَلَتْ لِلْعبيد المُعْتَقين، لِأنَّهم ليسوا بِقَرَابة للمُعْتِق.

ودلَّ ذلك على أنْ لا وصيةَ لِمَيِّت إلا في ثُلُثِ ماله، ودل ذلك على أنْ يُرَدَّ ما جَاوَزَ الثلثَ في الوصية، وعَلَى إبْطال الاستسعاء، وإثْبَات القَسْمِ والقُرْعَة.

وبَطَلَتْ وصية الوالدين، لأنهما وارِثان، وثَبَتَ مِيراثُهما.

ومَن أوْصَى له المَيِّتُ مِن قَرَابةٍ وغيرِهِم، جَازَتْ الوصيةُ، إذا لم يكن وارِثاً.

وأحَبُّ إليَّ لوْ أوْصى لِقَرابَته.

(1) الترمذي: كتاب الوصايا/2046؛ النسائي: كتاب الوصايا/3581؛ أبو داود: كتاب الوصايا/2486؛ ابن ماجه: كتاب الوصايا/2704.

وفي القُرَآن ناسخٌ ومنسوخٌ غيرُ هذا، مُفَرَّقٌ في مَواضِعِهِ، في كتاب (أحكام القُرَآن) .

وإنما وصفتُ مِنه جُمَلًا يُسْتدل بها على ما كان في - [146] - معناها، ورأيت أنها كافِيَةٌ في الأصل مِمَّا سَكَتُّ عنه، وأسْألُ اللهَ العِصْمةَ والتوْفيقَ.

وأتْبَعْتُ ما كتبتُ منها علمَ الفرائض التي أَنْزلها الله مُفَسَّرَاتٍ وجُمَلًا، وسُنَنَ رسول الله معها وفيها لِيَعْلَمَ مَنْ عَلِم هذا مِن علم (الكتاب) ، الموضعَ الذي وَضَعَ الله به نَبِيَّه مِن كتابِه ودينِه وأهلِ دينِه.

ويَعْلمون أن اتِّباعَ أمْره طاعةُ الله، وأنَّ سُنَّتَه تَبَعٌ لكتاب الله فيما أنْزَلَ، وأنها لا تخالف كتاب الله أبداً.

ويَعْلَمُ مَنْ فَهِمَ (هذا الكتاب) أنَّ البيان يكون من وجوه، لا مِن وَجْهٍ واحد، يَجْمَعُها أنها عند أهل العلم بَيِّنَةٌ ومُشْتَبِهَةُ البَيَانِ، وعند مَن يُقَصِّرُ عِلْمُه مُخْتلفة البَيَانِ.

باب: الفرائض التي أنزل الله نصاً.

قال الله - جل ثناؤه: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) " [النور] .

قال "الشافعي" : فالمُحْصنَات هاهنا البَوَالِغ الحرائر. وهذا يدل على أن الإحصان اسم جامع لمعاني مختلفة.

وقال: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ (9) " [النور] .

- [148] - فلما فَرَقَ اللهُ بَيْن حُكم الزوجِ والقاذِف سِواه، فَحَدَّ القاذِفَ سِواه، إلا أنْ يَأْتِيَ بأربعة شُهَدَاء، على ما قال، وأخرجَ الزوجَ بالِّلعَان من الحَدِّ: دل ذلك على أنَّ قَذَفَةَ المُحْصَنات، الذين أُريدوا بالجلد: قذفةُ الحرائرِ البوالِغِ غير الأزْواجِ.

وفي هذا الدليلُ على ما وصفتُ، مِن أنَّ القُرَآن عَرَبي، يكون منه ظاهِرُه عامًّا، وهو يراد به الخاص، لا أنَّ واحِدَة من الآيتين نَسَخَتْ الأُخْرى، ولكن كلُّ واحدة منهما على ما حَكَمَ اللهُ به، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهما حيث فَرَقَ اللهُ، ويُجْمَعان حَيْث جَمَعَ اللهُ.

فإذا الْتَعَنَ الزوجُ خرج من الحد، كما يَخرج الأَجْنَبِيُّون بالشُّهود، وإذا لم يَلتعنْ - وزوجتُه حُرةٌ بالغة - حُدَّ.

قال: وفي "العَجْلَانِيِّ" وزوجتِهِ أُنزلت آيةُ اللَّعان، ولاَعَنَ النبيُّ بَيْنَهما، فَحَكَى اللعانَ بَيْنهما "سهل بن سعد الساعِدي" ، - [149] - وحَكاه "ابن عباس" ، وحَكَى "ابن عمر" حضورَ لِعانٍ عندَ النبيِّ، فَمَا حَكَى مِنهم واحد كيفَ لَفْظُ النبيِّ في أمْرِهما باللِّعانِ.

وقد حَكَوْا معًا أحكاماً لرسول الله ليست نصًّا في القُرَآن، منها: تَفْريقه بَيْن المُتَلاعِنين، ونَفْيُه الولدَ، وقولُه: "إنْ جَاءَتْ بِهِ هَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي يَتَّهِمُهُ" فَجاَءَتْ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَالَ: إنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ لَوْلاَ مَا حَكَى اللهُ "، وحكى" ابن عباس "أنَّ النبي قال عند الخامسة:" قَفُوهُ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ "(1) ."

فاستَدْلَلْنا على أنهم لا يَحْكُونَ بَعضَ ما يُحتاج إليه مِن الحديث، ويَدَعُون بعضَ ما يُحتاج إليه مِنه، وأَوْلاَهُ أنْ يُحْكَى مِن ذلك، كيْفَ لاَعَنَ النبيُّ بَيْنهما: إلاَّ عِلماً بأنَّ أحَداً قَرَأ كتابَ - [150] - الله، يَعْلم أنَّ رسولَ الله إنَّمَا لاَعَنَ كما أَنْزل اللهُ.

فَاكْتَفَوْا بإبانَةِ اللهِ اللعانَ بالعَدَد والشهادةِ لكلَّ واحدٍ مِنهما، دون حِكايةِ لفظِ رسول الله حِينَ لاَعَنَ بَيْنَهما.

قال "الشافعي" : في كتاب الله غايةُ الكِفَايَة عَن اللعانِ وعدَدِهِ.

ثم حَكَى بعضُهم عَن النبيِّ في الفُرْقَة بَيْنهما كما وَصَفْتُ.

وقد وصفْنا سننَ رسولِ الله مَعَ كتابِ اللهِ قَبْلَ هذا.

(1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4378؛ الترمذي: كتاب تفسير القُرَآن/3103؛

النسائي: كتاب الطلاق/3415؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1923.

قال الله: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ... (184) " [البقرة] ، "فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا (185) " [البقرة] .

ثم بَيَّن أيَّ شهر هو، فقال: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرَآن هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) " [البقرة] .

قال "الشافعي" : فما علمتُ أحداً مِن أهل العلم بالحديث - [158] - قَبْلنا تكلَّفَ أنْ يرْوِيَ عن النبي أنَّ الشهر المفروض صومه شهرُ رمضان الذي بَيْن شعبان وشوالٍ، لمعرفتهم بشهر رمضان مِن الشهور واكتفاءً منهم بأن الله فَرَضَهُ.

وقد تَكَلَّفوا حفظَ صومه في السفر وفطرِه، وتكلَّفوا كيف قَضَاؤه، وما أشبهَ هذا، مما ليس فيه نص كتاب.

ولا علمْتُ أحداً من غير أهل العلم احْتَاجَ في المسألة عن شهر رمضان: أيُّ شهرٍ هو؟ ولا: هل هو واجب أم لا؟

وهكذا ما أنزل الله من جُمَل فَرَائضه، في أنَّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجًا على مَنْ أطاقه، وتحريِمِ الزنا والقتل وما أشْبَهَ هذا.

قال: وقد كانت لرسول الله في هذا سُنَنًا (1) ليست - [159] - نصًّا في القُرَآن، أبان رسولُ الله عَنْ الله معنى ما أراد بها، وتكلَّم المسلمون في أشياءَ مِن فُروعها، لمْ يَسُنَّ رسولُ الله فيها سُنَّة مَنْصوصةً.

- فمِنها: قولُ الله: "فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا (230) " [البقرة] .

فاحتمل قولُ الله: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) : أن يتزوجها زوجٌ غيرُه، وكان هذا المعنى الذي يَسْبِق إلى مَنْ خوطب به: أنها إذا عُقِدَتْ عليها عُقْدةُ النكاحِ فقد نَكَحَتْ.

واحتمل: حتى يُصِيبها زوجٌ غيرُه لأن اسْم (النكاح) يَقَعُ بالإصابة، ويقع بالعقد.

فلَمَّا قال رسولُ الله لامْرأة طلَّقَها زوجُها ثَلَاثًا ونَكَحَها بَعْدَه رجلٌ: "لاَ تَحِلِّينَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ - [160] - وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" ، يعني: يُصيبك زوج غيره؛ والإصابة: النكاح.

فإن قال قائل: فاذْكر الخبَرَ عَنْ رسولِ الله بما ذكرْتَ.

قيل: أخبرنا "سفيان" عن "ابن شهاب" عن "عروة" عن "عائشة" : "أنَّ امْرَأةَ رِفَاعَةَ - [161] - جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ (2) ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" (3) .

قال "الشافعي" : فَبَيَّن رسولُ الله، أنَّ إحلالَ الله إيَّاها للزوج المُطَلِّقِ ثلاثاً بَعْدَ زَوْجٍ بالنكاح: إذا كانَ مَع النِّكاحِ إصابَةٌ مِن الزوجِ.

(1) هكذا ضُبط بالنصب ومضى نحو هذا ص 103 و 117 وسيأتي ص 174 وهذا يجعل تخطئته مجازفة كبيرة. قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على ص 174 (( والذي يبدو لي أن تكون هناك لغة غريبة لم تنقل إلينا ... والظاهر أنه بنصب معمولي كان )) وهو ما أميل إليه.

(2) شَبَّهتْ ذَكَرَه - في الاسترخاء وعدم الانتشار عند الإفضاء -، بهدبة الثوب. [المصباح المنير - الفيومي] .

(3) البخاري: كتاب الشهادات/2445؛ مسلم: كتاب النكاح/2587؛ النسائي: كتاب الطلاق/3356؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1965؛ الترمذي: كتاب النكاح/1037؛

ابن ماجه: كتاب النكاح/1922.

الفَرائض المَنْصُوصة التي سَنَّ رسول الله معها.

قال الله - تبارك وتعالى: "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ - [162] - وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (6) " [المائدة] .

وقال: "وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (43) " [النساء] .

فأبان أنَّ طهارَةَ الجُنُب الغُسْلُ دُون الوُضوء.

وسَنَّ رسولُ الله الوضوءَ كما أَنْزَلَ اللهُ: فَغَسَلَ وَجْهه ويَدَيْه إلى المِرْفَقَيْن، ومسح بِرَأسه، وغسَلَ رِجْليه إلى الكَعْبَيْن.

أخْبَرَنا "عبد العزيز بن محمد" عن "زيد بن أسْلَمَ" عن "عطاء بن يَسَارٍ" عن "ابن عباس" عن النبي: "أنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً" (1) .

أخْبَرنا "مالك عن عمرو بن يحيى" عن أبيه، أنه قال "لعبد الله بن زيد" ، وهو جد "عمرو بن يحيى" : "هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ - [163] - تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ" عَبْدُ اللهِ ": نَعَمْ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاه، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ" (2) .

- [164] - فَكان ظاهِرُ قولِ الله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، أقلَّ ما وَقع عليه اسم الغَسْل، وذلك مَرَّةٌ، واحْتَملَ أكثرَ.

فسَنَّ رسولُ الله الوُضوءَ مَرَّةً، فَوافَقَ ذلك ظاهرَ القُرَآن، وذلك أقلُّ ما يَقع عليه اسمُ الغَسْل، واحتمل أكثر، وسنَّهُ مَرَّتَيْن وثلاثاً.

فلمَّا سنَّهُ مرة استدللنا على أنَّه لوْ كانتْ مرَّةٌ لا تُجْزِئ: لم يتوضأْ مرةً ويُصَلي، وأنَّ ما جاوَزَ مرةً اخْتِيَارٌ، لا فرضٌ في الوضوء لا يجزئ أقلُّ مِنْه.

- [165] - وهذا مثلُ ما ذكرتُ مِن الفرائض قَبْله: لو تُرِك الحديث فيه اسْتُغْنِيَ فيه بالكتاب، وحين حُكِيَ الحديثُ فيه دلَّ على اتباعِ الحديث كتابَ الله.

ولعلَّهم إنما حَكَوُا الحديثَ فيه لأنَّ أكثرَ ما تَوَضَّأَ رسولُ الله ثلاثاً، فأرادوا أن الوضوءَ ثلاثاً اختيارٌ، لا أنه واجبٌ لا يجزئُ أقلُّ منه، ولما ذُكِرَ منه في أنَّ "مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءَه هَذَا - وَكَانَ ثَلاَثاً - ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا، غُفِرَ لَهُ" (3) ؛ فأرادوا طَلَبَ الفَضْل في الزيادة في الوضوء، وكانتْ الزيادةُ فيه نافِلَةً.

وغَسَلَ رَسُولُ الله في الوضوء المِرْفَقَيْنِ والكَعْبَين، وكانت الآية محتملةً أن يكونا مَغْسولين وأن يَكُونَ مغْسولاً إليهما، ولا يكونان مغسولَيْن، ولعلهم حَكَوا الحديثَ إبانَةً لهذا أيضاً.

وأشْبَهُ الأمريْن بظاهر الآية أن يكونا مغسولَيْن.

- [166] - وهذا بيانُ السُّنَّة مع بَيانِ القُرَآن.

وسَوَاءٌ البيانُ في هذا وفيما قَبْله، ومُسْتَغْنىً بِفرْضه بالقُرَآن عند أهْل العلْم، ومُخْتلِفان عند غيْرِهم.

(1) الترمذي: كتاب الطهارة/40؛ النسائي: كتاب الطهارة/79؛ أبو داود: كتاب الطهارة/119؛ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها/404؛أحمد: مسند العشرة المبشرين/144.

(2) النسائي: كتاب الطهارة/96؛ أبو داود: كتاب الطهارة/103؛ ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها/428؛ أحمد: مسند المدنيين/15836؛ مالك: كتاب الطهارة/29.

(3) البخاري: كتاب الوضوء/155؛ مسلم: كتاب الطهارة/332؛ النسائي: كناب الطهارة/83؛ أبو داود: كتاب الطهارة.

وسن رسول الله في الغسل من الجَنابَةِ غُسْلَ الفَرْج والوُضوءَ كوُضوءِ الصلاةِ ثم الغُسْلَ، فكذلك أحْبَبْنَا أنْ نَفْعلَ.

ولم أعلم مُخَالفًا حفظْتُ عنه مِن أهل العلم في أنَّه كيْف ما جاء بِغُسْلٍ وأتَى على الإسْباغ: أجْزَأهُ، وإنْ اختاروا غيْرَه، لأن الفرضَ الغُسْلُ فيه، ولم يُحَدَّدْ تحديدَ الوُضوءِ.

وسنَّ رسولُ الله فيما يَجِبُ منه الوضوءُ، وما الجنابةُ التي يَجِبُ بها الغُسْلُ، إذْ لم يكنْ بعضُ ذلك منصوصاً في الكتاب.

الفرْضُ المنصوص الذي دلَّتْ السنةُ على أنه إنما أراد الخاصَّ.

قال الله - تبارك وتعالى: "يَسْتَفْتُونَكَ. قُلْ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ (176) " [النساء] ،

وقال: "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) " [النساء] .

وقال: "وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً - [168] - مِنْ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ (12) " [النساء] .

وقال: "وَلَهُنَّ الرُّبُعُ (12) " [النساء] ، مع آيِ المَوارِيثِ كلِّها.

فدلَّتْ السنة على أن الله إنما أراد مِمَّنْ سمَّى له المواريثَ، من الإخوة والأخواتِ، والولد والأقارب، والوالدَيْنِ والأزواج، وجَمِيع مَنْ سمَّى له فريضةً في كتابه، خاصَّا مِمَنْ سمى.

وذلك أن يجتمع دينُ الوارثِ والمَوْروث، فلا يختلفان، ويكونان مِن أهْل دار المسلمين، ومن له عَقْدٌ من المسلمين يَأْمَنُ به على ماله ودَمِه، أو يكونان من المُشْركين، فيَتَوَارَثان بالشِّرْك.

أخْبَرَنا "سفيان" عن "الزهري" عن "علي بن حسين" - [169] - عن "عمرو بن عثمان بن أسامة بن زيد" ، أنَّ رسولَ الله قال: "لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ" (1) .

- [170] - وأن يكون الوارِثُ والمَوْرُوثُ حُرَّيْنِ مع الإسلام.

(1) البخاري: كتاب الفرائض/6267؛ مسلم: كتاب الفرائض/3027؛ الترمذي/2033؛

أبو داود: كتاب الفرائض/2521؛ ابن ماجه: كتاب الفرائض/2719.

أخبرنا "ابن عُيَيْنَة" عن "ابن شهاب" عن "سالم" عن أبيه، أنَّ رسولَ الله قال: "مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالُ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلاَّ أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ" (1) .

قال: فلما كان بَيِّنًا في سنة رسول الله أنَّ العبدَ لا يَمْلِكُ مالاً، وأن مَا مَلَكَ العبدُ فإنما يَمْلِكُهُ لِسَيِّدِهِ، وأن اسمَ المالِ له إنما هو إضافةُ إليه، لأنه في يَدَيْهِ، لاَ أنَّهُ مالكُ لَه، ولا يكون مَالِكًا له وهو لا يَمْلِك نفْسَهُ، وهو مملوكٌ، يُبَاعُ ويُوهَبُ ويُورثُ، - [171] - وكان الله إنما نَقَلَ مِلْكَ الموْتَى إلى الأحياءِ، فملكوا منها ما كان الموْتى مالكِينَ، وإنْ كان العبدُ أبًا أو غيرَه مِمَنْ سُمِّيَتْ له فَريضةٌ، فكان لوْ أُعْطِيَهَا مَلَكَها سيِّدُهُ عليه، لم يكن السيدُ بِأَبِي الميِّتِ ولا وارثاً سُميتْ له فريضةٌ، فَكُنَّا لو أعْطَيْنَا العبدَ بأنه أب، إنما أعْطَيْنَا السيدَ الذي لا فريضةَ له، فَوَرَّثْنَا غيرَ مَن وَرَّثَهُ اللهُ، فلم نُوَرِّثْ عبداً لِمَا وصفتُ، ولا أحداً لم تجتمعْ فيه الحُرِّيَّةُ والإسلامُ والبراءةُ من القتل، حتى لا يكونَ قاتلاً.

وذلك أنه رَوَى "مالك" عن "يحيى بن سعيد عن عمرو بن شُعَيْبٍ" ، أنَّ رسول الله قال: "ليس لقاتل شيء" (2) .

- [172] - فلم نُوَرِّثْ قاتِلاً ممن قتل، وكان أخفُّ حالِ القاتل عَمْداً أنْ يُمْنَعَ الميراثَ عُقُوبةً، مع تَعَرُّضِ سَخَط اللهِ، أنْ يُمْنَعَ ميراثُ مَنْ عَصَى اللهَ بالقتل.

(1) مسلم: كتاب البيوع/2854؛ الترمذي: كتاب البيوع/1165؛ النسائي: كتاب البيوع/4557؛ أبو داود: كتاب البيوع/2977؛ أحمد: مسند المكثرين من الصحابة/4324؛ مالك: كتاب البيوع/1119.

(2) أبو داود: كتاب الديات/3955؛ أحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة/329؛ مالك: كتاب العقول/1365.

وما وصفتُ، مِنْ ألا يَرِثَ المُسلمَ إلا مسلمُ حرٌّ غيرُ قاتلٌ عَمْداً، مَا لاَ اختلافَ فيه بَيْنَ أحدٍ مِن أهل العلم حفظتُ عنه بِبَلدنا ولا غَيْرِهِ.

وفي اجتماعهم على ما وَصَفْنَا مِنْ هذا حجةٌ تَلْزمهم - [173] - ألا يَتَفَرَّقوا في شيء مِنْ سُنَنِ رسولِ الله، بأنَّ سننَ رسول الله إذا قامتْ هذا المَقام فيما لِلَّهِ فيه فرضٌ منصوص، فدلتْ على أنه على بعضِ من لَزِمَهُ اسمُ ذلك الفرْضِ دون بعض: كانت فيما كان مِثْلَه مِن القُرَآن: هكذا، وكانت فيما سَنَّ النبيُّ فيما ليسَ فيه لله حُكْمٌ منصوص: هكذا.

وأوْلَى أنْ لا يَشُكَّ عالمٌ في لزومها، وأنْ يعْلم أنَّ أحكامَ اللهِ ثمَّ أحكامَ رسولِه لا تختلف، وأنها تجري على مثال واحد.

قال الله - تبارك وتعالى: "لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (29) " [النساء] .

وقال: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) " [البقرة] .

ونَهَى رسولُ الله عَن بُيُوعٍ تَرَاضَى بِها المُتَبَايِعان، - [174] - فحُرِّمتْ، مثلُِ الذَّهَبِ بِالذهبِ إلا مِثْلاً بِمِثلٍ، ومثلُِ الذهب بالوَرِق وأحدُهُما نَقْدٌ والآخر نَسِيَّةٌ (1) ، وما كان في معنى هذا، مما ليس في التَّبَايعِ به مُخَاطَرَة، ولا أمرٌ يَجْهَلُه البائِع ولا المُشْتَرِي.

فدلتْ السنةُ على أنَّ الله - جل ثناؤه - أرادَ بإحْلالِ البَيْعِ ما لم يُحَرِّمْ مِنْهُ، دون ما حَرَّمَ على لسان نَبِيِّه.

ثم كانت لرسول الله فِي بيوعٍ سِوَى هذا سُنَنًا (2) مِنْها: - [175] - العبدُ يُباعُ، وقد دلَّسَ البائعُ المُشْتَرِيَ بِعَيْبٍ، فَلِلْمُشترِي ردُّه، وله الخَراجُ بِضَمَانِهِ. ومنها: أنَّ مَن باع عبْداً وله مال، فمالُهُ للبائِعِ إلا أن يشترطه المبتاعُ. ومنها: من باع نَخْلًا قدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُها للبائعِ إلا أن يشترط المبتاع، لَزِمَ الناسَ الأخذُ بِها، بما ألْزَمَهم اللهُ مِن الانتهاءِ إلى أمره.

(1) أي نسيئة سُهِّلت وقرأ ورش وأبو جعفر (إنما النَّسِيُّ) [التوبة 37]

(2) تقدم توجيه هذا ونحوه من العربية.

جُمَلُ الفَرَائِضِ.

قال الله - تبارك وتعالى: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] .

وقال: "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (43) " [النساء] .

وقال لِنَبِيِّهِ: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (103) " [التوبة] .

وقال: "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97) " [آل عمران] .

قال "الشافعي" : أحكمَ اللهُ فرضَه في كتابِهِ - [177] - في الصَّلاةِ والزكاةِ والحجِّ، وَبَيَّنَ كيْف فَرَضَهُ على لسان نَبِيِّهِ.

فأخْبَرَ رسولُ اللهِ أنَّ عَدَدَ الصلواتِ المفروضاتِ: خَمْسٌ، وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء في الَحَضَرِ: أرْبَعٌ أرْبَعٌ، وعددَ المغرب: ثلاثٌ، وعددَ الصبْح: ركعتان.

وسَنَّ فيها كلِّها قِراءةً، وسنَّ أنَّ الَجْهَر مِنها بالقِراءة: في المغرب والعشاء والصبح، وأنَّ المخافتةَ بالقِراءة: في الظهر والعصر.

وسَنَّ أنَّ الفرْضَ في الدخول في كلِّ صلاة بِتَكْبِير، والخُروجَ مِنها بتَسْليمٍ، وأنه يُؤْتَى فيها بتكبير، ثم قِراءةٍ، ثم رُكُوعٍ، ثم سَجْدَتَيْن بعد الرُّكوع، وما سِوَى هذا مِنْ حُدُودِها.

وسَنَّ في صلاة السفر قَصْرًا، كلَّما كان أرْبَعًا من الصلواتِ، إنْ شاءَ المُسافِرُ، وإثباتَ المَغْرب والصبح على حالها في الحضر.

وأنها كلَّها إلى القِبْلَة، مسافراً كان أوْ مُقِيماً، إلا في حالٍ مِن الخَوْفِ واحدةٍ.

وسن أنَّ النَّوَافِلَ في مِثْل حالها، لا تَحِلُّ إلاَّ بِطُهُورٍ، ولا تجوز إلا بقِراءة، وما تجوز به المكتوباتُ من السجود والركوع واستقبال القبلة في الحَضر وفي الأرْض وفي السفر، وأنَّ للرَّاكِب أنْ يصلِيَ في النَّافِلة حيث توجَّهَتْ بِه دابَّتُهُ.

أخْبَرَنا "ابن أبي فُدَيْكٍ" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "عثمان بن عبد الله بن سُراقَةَ" عن "جابر بن عبد الله" : "أنَّ رسولَ اللهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا قِبَلَ المَشْرِقِ" (1) .

أخبرنا "مسلم (2) " عن "ابن جُرَيْجٍ" عن "أبي الزبير" عن "جابر" عن النَّبِيِّ مِثْلَ مَعْناه، لا أدْرِي، أسَمَّى بَنِي أنْمَارٍ أو لا؟ أو قال: "صَلَّى فِي سَفَرٍ" .

(1) مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909.

(2) هو ابن خالد الزنجي.

وسنَّ رسولُ الله في صَلاة الأعْيَاد، والاسْتِسْقَاءِ سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود، وسنَّ في صلاة الكسوف، فزاد فيها ركعةً على ركوع الصلوات، فجَعَلَ في كل ركعة ركعتَيْنِ.

قال: أخبرنا "مالك" عن "يحيى بن سعيد بن عَمْرَةَ" عن "عائشة" عن النّبِيِّ.

وأخبرنا "مالك" عن "هشام" عن أبيه، عن "عائشة" عن النبي.

قال: "مالكٌ" عن "زيد بن أسْلَمَ" عن "عطاء بن يَسَار" عن "ابن عباس" عن النبي مِثْلَه.

قال: فَحُكِيَ عن "عائشة" ، و "ابن عباسٍ" في هذه الأحاديث، صلاةُ النبي بِلَفْظٍ مختلفٍ، واجتمع في حديثهما معاً على أنه صَلَّى صلاةَ الكُسُوفِ ركعتين، في كل ركعة ركعتين.

- [180] - وقال الله في الصلاة: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] .

فَبَيَّنَ رسولُ الله عَن الله تِلك المَوَاقيتَ، وصلى الصلوات لوقتها، فحُوصرَ يومَ الأحْزابِ، فلم يَقْدر على الصلاة في وقتها، فأخَّرَها للعُذْر، حتى صَلَّى الظهرَ والعصرَ والمغرِبَ والعشاءَ في مَقَامٍ واحِدٍ.

أخبرنا "محمد بن إسماعيلَ بن أبي فُدَيْكٍ" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "المَقْبُرِيِّ" عن "عبد الرحمن بن أبي سعيد" عن أبيه، قال: "حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتّى كَانَ بَعْدَ المَغْرِبِ بِهَوِيٍّ (1) مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ:" وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) " [الأحزاب] ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ بِلَالاً فَأَمَرَهُ، فَأَقَامَ الظُّهْرَ فَصَلَّاها، - [181] - فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ العَصْرَ فَصَلَّاهَا هَكَذَا، ثُمَّ أَقَامَ المَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ العِشَاءَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ فِي صَلَاةِ الخَوْفِ:" فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (239) " [البقرة] (2) ."

قال: فَبَيَّنَ "أبو سعيد" أنَّ ذلك قَبْل أنْ يُنَزِّلَ اللهُ على النبي الآيةُ التي ذُكرتْ فيها صلاةُ الخوْف.

والآيةُ التي ذُكِرَ فيها صَلَاةُ الخوف قوْلُ اللهِ: "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا - [182] - لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) " [النساء] ، وقال: "وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ، فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ (102) " [النساء] .

أخبرنا "مالك" عن "يزيد بن رُومَانَ" عن "صالح بن خَوَّاتٍ" عَنْ مَنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَاةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقاَعِ: "أنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وُجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَت الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكعَةَ التَّيِ بَقِيَتْ مِنْ َصَلاَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ" (3) .

- [183] - أخبرني مَنْ سَمِعَ "عبدَ الله بن عمر بن حَفْصٍ" يَذْكُرُ عن أخيه "عُبَيْدِ الله بن عمرَ" عن "القاسم بن محمد" عن "صالح بن خَوَّاتٍ" عن أبيه "خوَّات بن جُبَيْرٍ" عن النبي مِثْلَ حديثِ "يزيد بن رومان" .

(1) بفتح الهاء ويجوز ضمها.

(2) أحمد: باقي مسند المكثرين/10769؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1483؛ مسند الشافعي: 553.

(3) البخاري: كتاب المغازي/3817؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1390؛

النسائي: كتاب صلاة الخوف/1519؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1049؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/394.

وفي هذا دلالة على ما وصفتُ قبْلَ هذا في (هذا الكتاب) : مِنْ أن رسول الله إذا سَنَّ سنةً فأحدَثَ اللهُ إليه - [184] - في تلك السنَّةِ نَسْخَهَا أو مَخْرَجًا إلى سَعَةٍ منها: سنَّ رسولُ الله سنةً تقومُ الحجةُ على الناس بها، حتى يكونوا إنَّمَا صاروا من سُنَّتِهِ إلى سُنَّتِهِ التي بَعْدَهَا.

فنَسَخَ اللهُ تأخير الصلاة عَنْ وَقْتِها في الخوف إلى أنْ يُصَلُّوها - كما أنزل الله وسنَّ رسولُه - في وَقْتها، ونسخ رسول اللهُ سنتَه في تأخيرها بِفَرْض الله في كتابه ثم بِسُنته، صَلاها رسول الله في وقتها كما وصفتُ.

أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" ، أُرَاهُ عن النبي، - [185] - فَذَكَرَ صلاةَ الخوف، فقال: "إنْ كَانَ خَوْفٌ أشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلِةِ أوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا" (1) .

أخبرنا رجلٌ عن "ابن أبي ذِئْب" عن "الزهري" عن "سالم" ، عن أبيه، عن النبي مِثْلَ مَعْناه، ولم يَشُكَّ أنه عن أبيه، وأنه مَرْفوع إلى النبي.

- [186] - قال: فدلتْ سنةُ رسول الله على ما وصفتُ، مِن أن القِبلة في المكتوبة على فَرْضِها أبَداً، إلا في الموضع الذي لا يُمْكِن فيه الصلاةُ إليها، وذلك عند المُسَابقَةِ والهَرَب وما كان في المعنى الذي لا يُمْكن فيه الصلاة إليها.

وثبتت السنة في هذا، ألاَّ تُتْرَكَ الصلاةُ في وَقْتها، كيف ما أمْكَنَتْ المُصَلِّي.

(1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/396.

في الزكاة.

قال الله: "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (43) " [البقرة] ، - [187] - وقال: "وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (162) " [النساء] ، وقال: "فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) " [الماعون] .

فقال بعضُ أهل العلم: هي الزكاةُ المفْروضة.

قال الله: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ؛ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) " [التوبة] .

فكان مَخْرَجُ الآية عاماً على الأمْوال، وكان يحتمل أن تكون على بعض الأموال دون بعض، فدلتْ السنة على أن الزكاة في بعض الأموال دون بعض.

فلما كان المال أصنافاً، منه الماشِيَةُ، فأخَذَ رسولُ الله - [188] - مِن الإبل والغَنَم، وأمَر - فيما بَلَغنَا - بالأخْذ من البقر خاصة، دون الماشية سِواها، ثم أخَذ منها بِعَدَدٍ مُخْتلف، كما قَضَى اللهُ على لسان نبيه، وكان للناس ماشيةٌ مِن خَيْل وحُمُر وبِغَال وغيرها، فلَمَّا لم يأخذْ رسولُ الله مِنها شيئاً، وسَنَّ أنْ ليس في الخيل صدقةٌ: استدللنا على أن الصدقة فيما أَخَذَ مِنه وأمر بالأخذ منه، دون غيره.

وكان للناس زَرْع وغِراس، فأخَذَ رسولُ الله من النَّخْل والعِنَب الزكاةَ بِخَرْصٍ (1) غيرُ مختلفٍ ما أَخَذَ منهما، - [189] - وأخَذَ منهما مَعًا العُشْرَ إذا سُقِيَا بِسَماء أو عَيْنٍ، ونصْفَ العُشر إذا سُقِيَا بِغَرْبٍ (2) .

وقد أخَذَ بعضُ أهل العلم مِن الزيتون، قياساً على النخل والعنب.

ولم يَزَلْ للناس غِراسٌ غيرُ النخل والعنب والزيتون كثيرٌ، مِن الجَوْز واللَّوْز والتين وغيره، فلما لم يأخذ رسول الله منه شيئاً، ولم يأمر بالأخذ منه، استدللنا على أن فرْضَ الله الصدقةَ فيما كان مِن غِراس: في بعضِ الغِرَاس دون بعضٍ.

وَزَرَعَ الناسُ الحِنْطَةَ والشعير والذُّرةَ، وأصْنافاً سِواها، فَحَفِظْنا عَن رسول الله الأخْذَ مِن الحِنطة والشعير والذُّرة، وأَخَذَ مَن قَبْلَنَا مِن الدُّخْنِ والسُّلْت - [190] - والعَلَس والأُرْزِ (3) وكُلِّ ما نَبَّتَهُ (4) الناسُ وَجَعَلُوهُ قُوتًا، خُبْزًا وعَصِيدَةً وسَوِيقًا وأُدْمًا، مثل الحِمَّصِ والقَطَاني (5) ، - [191] - فهي تصلح خبزاً وسويقاً وأدماً، اتِّباعاً لِمَنْ مَضَى، وقياساً على ما ثَبَتَ أنَّ رسول الله أَخَذَ مِنه الصدقةَ، وكان في معنى ما أخذ النبيُّ، لأن الناس نَبَّتُوه لِيَقْتَاتُوه.

وكان للناس نَبَاتٌ غيرُه، فلم يأخذ منه رسولُ الله، ولا مَنْ بَعْدَ رسولِ الله عَلِمْناه، ولم يكن في معنى ما أَخَذَ منه، وذلك مثل الثُّفَّاءِ - [191] - والأَسْبيوش والكُسْبرة وحَبِّ العُصْفُر (6) ، وما أشبهه، فلم تكن فيه زكاة: فدلَّ ذلك على أن الزكاة في بعض الزَّرْعِ دون بعض.

(1) الخَرْصُ: حرز على النخل من الرطب تمراً [مختار الصحاح] .

(2) الغَرْبُ: الدَّلْوُ العظيمة [مختار الصحاح] .

(3) الدُّخْنُ: حَبُّ الجَاوَرْسِ [القاموس المحيط] ، والجَاوَرْسُ: حب يشبه الذُّرة [النهاية في غريب الحديث] . السُّلْتُ: الشعير، أو ضرب منه، أو الحامض منه [القاموس المحيط] .

العَلَسُ: ضرب من الحِنْطة، تكون حبتان في قشر، وهو طعام أهل صَنْعاء [مختار الصحاح] .

(4) نبَّته: غرسه وزرعه.

(5) القَطَانِيُّ: جمع قُطْنِيَّة مثلث القاف: حبوب الأرض، أو ما سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر، أوهي الحبوب التي تطبخ [القاموس المحيط] .

(6) الثُّفَّاءُ: الخردل [مختار الصحاح] . الأسبيوش كلمة أعجمية: بزر معروف. الكُسْبرة وفي نسخة الكزبرة.

وفرض رسول الله في الوَرِق (1) صدقةً، وأَخَذَ المُسْلمون في الذهب بعده صدقةً، إمَّا بخبر عن النبي لمْ يَبْلُغْنا، جص 193> وإما قياساً على أن الذهب والورِق نَقْدُ الناس الذي اكْتَنَزُوه وأجازوه - [194] - أثْمَاناً على ما تَبَايَعوا به في البلدان قَبْل الإسلام وبعده.

وللناس تِبْرٌ (2) غيرُه، مِن نحُاس وحَدِيد ورَصَاصٍ، فلما لم يأخذ منه رسولُ الله ولا أحدٌ بعده زكاةً، تركناه، اتِّباعاً بِتَرْكه، وأنه لا يجوز أن يقاس بالذهب والوَرِقِ، الَّذَيْنِ هما الثمن عاماً في البلدان على غيرهما، لأنه في غيرِ مَعْناهما، لا زكاةَ فيه، ويَصْلُح أن يُشْتَرَى بالذَّهَب والورِق غيرُهما من التِّبْر إلى أجَلٍ مَعْلوم وبِوَزْن مَعْلُوم.

(1) الوَرِقُ: الدراهم المضروبة [مختار الصحاح - الرازي] .

(2) التِّبْرُ: الذهب والفضة، أو فتاتهما قبل أن يُصاغا [القاموس المحيط - فيروزابادي] .

وكان الياقوتُ والزبرجدُ أكثرَ ثَمَنًا مِن الذهب والورِق، فلَمَّا لم يأخذ منهما رسول الله، ولم يأمُرْ بالأخذ ولا مَن بَعْدَه عَلِمْناه، وكانا مالَ الخاصَّةِ، وما لا يُقَوَّمُ به على أحد في شيء استهلكه الناسُ، لأنه غيرُ نَقْدٍ، لم يأخذ منهما.

ثم كان ما نَقَلَتْ العامَّةُ عَنْ رسولِ الله في زَكاة الماشية والنَّقْد، أنه أخذها في كلِّ سنةٍ مرةً.

وقال الله: "وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ (141) " [الأنعام] ، فسَنَّ رسولُ الله أن يُؤخَذَ مما فيه زكاةٌ مِن نَبَاتِ الأرض، الغِراسِ وغيْرِه، على حُكْمِ اللهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -، يومَ يُحْصَدُ، لا وَقْتَ له غيرُه.

وسنَّ في الرِّكَازِ الخُمُسَ، فدَلَّ على أنه يَوْمَ يُوجَدُ، لا في وَقْتٍ غيْرِه.

- [196] - أخبرنا "سفيان" عن "الزهري" عن "ابن المسيَّب" و "أبي سَلَمَةَ" عن "أبي هُرَيْرَة" ، أنَّ رسولَ الله قال: "وَفِي الرِّكّازِ الخُمُسُ" (1) .

ولولا دِلالةُ السُّنَّةِ كان ظاهرُ القُرَآن أنَّ الأمْوالَ كلَّها سَوَاءٌ، وأنَّ الزكاةَ في جَمِيعِهَا دون بعْضٍ.

(1) البخاري: كتاب الزكاة/1403؛ مسلم: كتاب الحدود/3226؛ الترمذي: كتاب الزكاة/581؛ النسائي: كتاب الزكاة/2428؛ أبو داود: كتاب اللقطة/1455؛ مالك: كتاب الزكاة/520.

[فِي الحَجِّ] .

وفَرَضَ اللهُ الحجَّ على من يَجد السبيلَ، فَذُكِر عن النبي: أن السبيلَ الزَّادُ والمَرْكَب، وأخْبَرَ رسولُ الله بمَواقيتِ الحج وكيف التَّلْبِيَةُ فيه، وما سَنَّ، وما يَتَّقِي المُحرمُ مِن لُبْسِ الثِّياب والطِّيب، وأعمالِ الحج سِواها، مِن عرفةَ والمزدلفةِ والرَّميِ والحِلاَقِ والطواف، وما سِوى ذلك.

فلو أن امْرَأً لم يعْلم لرسول الله سنةً مع كتاب الله إلا ما وصَفْنا، مما سن رسول الله فيه معنى ما أنْزله الله جُمْلةً، وأنه إنما - [198] - اسْتدرك ما وصفْتُ من فَرْض الله الأعمالَ، وما يُحَرِّم وما يُحِلُّ، ويُدْخَلُ به فيه ويُخْرَجُ منه، ومواقِيتِه، وما سَكَتَ عنه سِوى ذلك من أعماله: قامَتْ الحجَّة عليه بأن سنة رسول الله إذا قامت هذا المقام مع فرضِ الله في كتابه مرَّةً أو أكثرَ، قامتْ كذلك أبداً.

واستُدِلَّ أنه لا تُخالِف له سنة أبداً كتابَ الله، وأن سنَّتَه، وإنْ لم يكن فيها نصُّ كتاب: لازِمةٌ، بما وصفتُ من هذا، مع ما ذكرتُ سِواه، مما فَرَضَ اللهُ مِن طاعة رسولِهِ.

ووَجَبَ عليه أن يَعْلَمَ أن اللهَ لم يجْعل هذا لخلقٍ غيرِ رسولِه.

وأن يجعل قولَ كلِّ أحدٍ وفعْلَه أبَداً تَبعاً لِكِتاب الله ثم سنةِ رسوله.

وأن يَعْلمَ أنَّ عالِمًا إن رُوِيَ عنه قولٌ يُخالِف فيه شيْئًا - [199] - سنَّ فيه رسولُ الله سنةً، لوْ عَلِمَ سنةَ رسولِ الله لمْ يُخالِفْها، وانْتَقَلَ عَنْ قَوْلِهِ إلى سنَّةِ النبي - إنْ شاءَ الله - وإنْ لم يَفْعل كان غيْرَ مُوَسَّعٍ له.

فكيف والحُجَجُ في مثل هذا لِلَّهِ قائمَةٌ على خَلْقِه، بما افْتَرَضَ مِن طاعة النبي، وأبانَ مِنْ مَوْضِعِه الذي وَضَعَهُ به مِن وحْيِه ودِينِه وأهْلِ دِينِه.

[في العِدَدِ] .

قال الله: "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (234) " [البقرة] ، وقال: "وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ (228) " [البقرة] .

وقال: "وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ - [200] - إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (4) " [الطلاق] .

فقال بعضُ أهلِ العلم: قد أوْجَبَ اللهُ على المُتَوَفَّى عنْها زوْجُها أربعةَ أشهُرٍ وعشْرًا، وذَكَرَ أن أجَلَ الحامِلِ أن تَضَعَ، فإذا جَمَعَتْ أنْ تكون حامِلا مُتَوَفَّى عنها، أتَتْ بالعِدَّتَيْنِ مَعًا، كما أجدها في كلِّ فرضَيْن جُعِلا عليها أتَتْ بهما معاً.

قال: فلَمَّا قال رسولُ اللهِ "لِسُبَيْعَة بنْتِ الحرثِ" ، ووضَعَتْ بعْدَ وَفَاةِ زوْجِها بأيامٍ: "قَدْ حَلَلْتِ فَتَزَوَّجِي" (1) ، دلَّ هذا على أنَّ العِدة في الوفاة والعدةَ في الطلاق بالأقراءِ والشُّهور، إنما أرِيد بِهِ مَن لا حَمْلَ به من النساء، وأن الحمْلَ إذا كان فالعِدة سِواه ساقطةٌ.

(1) البخاري: كتاب المغازي/3770؛ مسلم: كتاب الطلاق/1484؛ النسائي: كتاب الطلاق/3451؛ أبو داود: كتاب الطلاق/2306؛ أحمد: مسند القبائل/26167.

[في محرمات النساء] .

قال الله: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) " [النساء] .

فاحتملت الآية مَعْنَيَيْن: أحدُهما: أنَّ ما سَمَّى اللهُ مِن النِّساء مَحْرَمًا مُحَرَّمٌ، وَما سَكَتَ عنه حَلالٌ بالصَّمْت عنه، وبقول الله: - [202] - "وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ" ، وكان هذا المعنى هو الظاهرَ مِن الآيَة.

وكان بَيِّناً في الآية تحريمُ الجمْع بمعنىً غيرِ تحريم الأمَّهات، فكان ما سَمَّى حَلالاً حَلالٌ، وما سمى حراماً حرامٌ، وما نهى عن الجمع بَيْنه مِن الأخْتَيْنِ كما نهى عنه.

وكان في نهيه عن الجمع بينهما دليلٌ على أنه إنما حرَّم الجمعَ، وأنَّ كلَّ واحدة منهما على الانفراد حلالٌ في الأصْلِ، - [203] - وما سِواهُنَّ مِن الأُمَّهاتِ والبَنَات والعَمَّات والخالاتِ: مُحَرَّمَاتٌ في الأصل.

وكان معنى قوله: "وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ" ، مَنْ سَمَّى تَحْريمَه في الأصْل، ومَنْ هو في مِثْلِ حالِه بالرَّضَاعِ: أنْ يَنْكِحوهنَّ بِالوَجْه الذي حَلّ به النِّكاحُ.

LihatTutupKomentar